BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringlengths
5
45
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringlengths
53
13.9k
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/8/
الاحتمال وألعاب الاحتمال
إذا عادت ابنتك الصغيرة من المدرسة تقول إن طفلَين في الفصل لهما يوم الميلاد نفسه، وتسأل «أليس هذا مُدهِشًا؟» فإن الإجابة الرياضية الصحيحة عن سؤالها هي: «نعم، ليس هذا مُدهِشًا، بل هو أمرٌ متوقَّع بين الحين والآخر.» وعلى الرغم من أن هذه ليست الإجابة التي يمكن أن يُنصَح بها الآباء، فسيكون من الطريف أن نعرف سبب صحة هذه الإجابة؛ لأن الإجابة الصحيحة مُدهِشة. لنفترض الآن أن لدينا ثلاثة أشخاص، ما احتمالات أن يكونوا مولودين في أيام مختلفة من الأسبوع؟ هذا النوع من المسائل يشبه مسألة اليانصيب الوطني التي تناولناها في الفصل السادس. بالمنطق نفسه الذي ذكرناه هناك، ستكون الإجابة كما يلي: صحيح أنني افترضت أن احتمالات أن تقع أعياد الميلاد في أي يومٍ من السنة متساوية. وأنا أتوقع أن هذه الفرضية سليمة إلى حدٍّ بعيد، رغم أن مستشفيات الولادة التي تحتفظ بأرقام تخصُّ أكثر الأوقات ازدحامًا بالمواليد قد تعرف أكثر مني. ومع ذلك فإلغاء فرضية التوزيع المنتظم للمواليد على أيام السنة لن يُضعِف الحُجة؛ لأن هذا سيؤدي إلى زيادة احتمال اتفاق أعياد الميلاد. لنأخذْ مثالًا خياليًّا جدًّا؛ لنفترضْ أننا سألنا السؤال نفسه في مجتمع حيث الرجال والنساء مضطرون إلى عيش حياة منفصلة تمامًا بعضهم عن بعض باستثناء شهر واحد من العام، فليكن يوليو مثلًا؛ ومن ثَم فإن حمل النساء في أطفال لن يتم إلا في هذا الشهر؛ ومن ثَم فإن جميع الأطفال سيُولَدون بعد تسعة أشهُر — أي في شهر أبريل. في هذه الحالة سيكون شِبه مؤكَّد أنه في مجموعة من ثلاثين فردًا سيتقاسم اثنان أو أكثر عيد الميلاد نفسه (في أبريل). كثيرًا ما نسمع عن قصص فيها شخصٌ ما محظوظ بدرجة لا تُصدَّق، واستبعاد وقوع حدث معيَّن بتأكيد أن نِسبته واحد في المليون. مع ملايين الفرص التي تُنتهز يوميًّا، فإن من الصحيح أن أحداثًا متطرِّفة وغير عاديةٍ أو محتمَلةٍ تحدُث بالصدفة. على الرغم من ذلك، ففي بعض الأحيان تكون هذه الأحداث، التي تبدو غير محتمَلة، غيرَ مستبعَدة بشكل خاص على الإطلاق. وربما يرجع هذا التناقض الواضح إلى عدم التمييز بين حدوث الحدث غير المحتمل لأي شخص وبين حدوثه لشخص بعينه. على سبيل المثال، ليس هناك ما يدهش بشأن فوز أحدهم باليانصيب، الأمر المدهِش حقيقةً هو أن يفوز شخص معيَّن محدَّد مسبَّقًا باليانصيب؛ أنت مثلًا. عدم إدراك هذه النقطة في حالات أكثر تعقيدًا يمكن أن يؤديَ إلى نتائج محيِّرة للغاية. ماذا عن حقيقة أنك لا تفوز أبدًا في هذا اليانصيب؟ بالطبع يمكن ألا تفوز؛ فهناك احتمال واحد في الألف فقط أن تفوز. لديَّ انطباع بأن نيوتن فكَّر في أن المسألة نوعًا ما أقلُّ من مستواه، لكنه مع ذلك أعطى بيبس إجابته. لعلك تشكُّ بوجود تماثُل كافٍ في اللعبة لتكون عادلة، بحيث لا يَملِك أيٌّ من اللاعبَين فرصةً أعلى في الفوز، ولكن خبرة بيبس قادته لأن يظن غير ذلك، وإذا كان الأمر كذلك فقد كان على حق. أحد اللاعبَين يتمتع بفرصةٍ أعلى في الفوز، وإن كانت فرصةً بسيطة، ولكنها مؤكدة. فلنعرف معًا؛ أيهما؟ على المستوى الأبسط، تنطوي أسئلة الاحتمال على عدد محدود من النتائج المحتملة المرجحة بالقدر نفسه، ونسأل ما احتمال حدوث حدث ملائم معيَّن. بصفة عامة، النسبة المطلوبة تساوي: وهي الإجابة السابقة نفسها. مسألتنا التالية تُشبِه، إلى حدٍّ ما، المسألة السابقة، ولكن الغريب أن الحل يرجع بنا إلى الأفكار التي طرحناها سابقًا في مسألة هيرون في الفصل السادس ومسألة النملة التي تسير حول الكوب. وقد يبدو هذا غريبًا نوعًا ما للوهلة الأولى نظرًا لطبيعة السؤال. مرةً أخرى معظم الحدود ستُحذف، ويبقى لدينا: تُعد أسئلة الاقتراع فئةً مهمة من المسائل، وتظهر في سياقات مختلفة مثل فيزياء الجُسيمات والجبر المجرد. ولا يفيد أن نحكم على الفكرة الرياضية في السياق الذي شُرحت فيه أولًا، والذي قد يكون أو لا يكون ذا أهمية خاصة. وأي فكرة جديدة تسمح بحل مسألة بطريقة جيدة تستحق الاحترام. الطُّرق السريعة المؤكَّدة للكسب في ألعاب الورق أو عجلة الروليت مطلوبة دائمًا، وتوجد طريقة واحدة تبدو للوهلة الأولى صالحة تمامًا. ويمكن تطبيق هذه الفكرة على أي لعبة مقامرة يُسمح فيها بالرهانات غير المحدودة، ولكن لنأخذ مثلًا لعبة الروليت. اللعبة ببساطةٍ أن تضع رهانًا على اللون الأحمر أو اللون الأسود، وإذا ظهر لونك فإنك تأخذ الرهان الذي وضعتَه بالإضافة إلى المبلغ الذي راهنتَ عليه. هل يحدث هذا حقًّا في الحياة العملية؟ الإجابة أنه يكاد يكون من المؤكَّد حدوثه. بعد هذا القول أُسارع إلى نصحك بألا تستخدم هذه الاستراتيجية أبدًا؛ لأنك ستكون مهدَّدًا بالإفلاس من أجل جنيه واحد. الوضع عكس ذلك في اليانصيب. في اليانصيب تُقدِم على مخاطرة مهولة (لأنك من شِبه المؤكَّد أنك ستخسر) برهانٍ صغيرٍ من أجل الحصول على فرصة ضئيلة جدًّا للفوز بمبلغ كبير جدًّا؛ أما في لعبة الروليت السابقة، فأنت تُقدِم على مخاطرة ضئيلة برهانٍ ضخمٍ جدًّا من أجل الحصول على فرصة شِبه مؤكَّدة للفوز بمبلغ هزيل جدًّا جدًّا. إذَن، فمن الأفضل بالنسبة لك أن تراهن على اليانصيب. وبالمثل يمكننا حساب: هذا النوع من المباريات يشارك فيه لاعبان عند حلقة كرة السلة، لكن يمكن تطبيقه على أي لعبة مهارية. يتناوب اللاعبان في محاولة تسجيل هدف بالطريقة التي تحلو لهما. فإذا نجح اللاعب الأول في التسجيل، فعلى اللاعب الثاني أن يحاول أداء اللعبة نفسها بالطريقة نفسها؛ فإذا فشل، يكون اللاعب الأول قد أحرز نقطة؛ السؤال المطروح هو: هل تحاول أداء حيل صعبة أم حيل سهلة؟ المنطق السليم يخبرنا أن اللاعب يُفضل أن يحاول أداء حيلة يجدها أسهل بالنسبة له، ولسببٍ ما ربما يجدها المنافس صعبة. أنا متأكد من أن هذا هو الحل، ولكن يبقى السؤال: بما أن كل الأشياء متساوية، فأي استراتيجية تمنحك أعظم احتمال لإحراز النقط؟ ليس هناك كثير منا — وخاصةً الأشخاص الذين يحبون العلم — ممَّن لم يشاهد مسلسل «ستار تريك» على مر السنين. فهذا المسلسل احتوى دائمًا على شخصية تتصرف بطريقة ميكانيكية. في الحلقات الأصلية كانت هذه الشخصية هي السيد سبوك، وهو رجل من كوكب فولكان تخلَّص من كل السلوكيات الانفعالية، وفي «نيو جنيريشن» لدينا مستر داتا، وهو إنسان آلي مهذَّب، لكنه في النهاية خالٍ من العاطفة. السيد سبوك يؤكد لنا دائمًا أنه يتصرف بطريقة منطقية. ولا أستطيع أن أتذكر قيام الشخصية بتفسير ما المقصود بذلك، ولكننا استنتجنا ضمنًا أنه يعيش وَفقًا لمجموعة من المبادئ والقيم، ويتصرف بطريقة تتوافق معها دائمًا. فهو لن يُقدِم على أي عمل غير عقلاني؛ بمعنى أنه لن يخالف بقصدٍ مبادئه، ولن يفعل شيئًا سخيفًا، وإن كان غير مؤذٍ، لأنه ليس لديه دافعٌ للتصرف بهذه الطريقة. أقرَّ البشريون في هذا المسلسل بأن هاتين الشخصيتين كانتا على العموم متفوقتين جسديًّا وعقليًّا عليهم. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانوا يصرون على امتلاكهم ميزة معينة طَوال الوقت. كان البشر دائمًا ما يصرون على أن قدرتهم على التصرف بلا منطق أحيانًا ما تكون في مصلحتهم. قد تكون هناك بعض الحقيقة في هذا، لكن معظم الأمثلة التي جاءت في المسلسل، هي في رأيي مغالطات. وتكمن المشكلة في افتراض أن القدرة على مخالفة التوقعات هي أقرب ما تكون إلى اللاعقلانية، وهذا بعيدٌ كل البعد عن الحقيقة في كثير من المواقف الواقعية. في بعض الألعاب، لا سيما البوكر، من المهم أن يكون لعبك بشكلٍ ما غير متوقَّع. وطبعًا هذا لا يعني أن تلعب بطريقة غير عقلانية. الإنسان الآلي داتا دائمًا ما يخسر في البوكر؛ ربما لأنه لا يستطيع التعامل مع خدع منافسه البشري «اللامنطقية». وهذا يعني أنه بُرمِج بطريقة سيئة. في لعبة مثل البوكر من المهم ألا تقدم معلومات عمَّا معك من أوراق إلى منافسك. لكنك مضطر لذلك إلى حدٍّ ما عند المراهنة؛ لأن اللاعب — عمومًا — سيكون مستعدًّا للمخاطرة بمبالغ أكبر عندما يكون معه مجموعة أوراق قوية (تطلق على مجموعة الأوراق التي في يد اللاعب كلمة يد)، مقارنةً بما إذا كانت معه مجموعة أوراق ضعيفة. فإذا كان أحد اللاعبين لا يخادع أبدًا، فسوف يلاحظ منافسه ذلك؛ ومن ثَم يستطيع قراءة قوة أوراقه من خلال حجم مراهنته؛ ومن ثَم يكون اللاعب «المنطقي» في وضعٍ غير ملائم. لا يوجد شيء غير منطقي ضمنيًّا في الخداع في لعبة البوكر؛ فالخداع جزء من طبيعة اللعبة، ويمثل جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجية الجيدة. لا يوجد سبب يمنع تصميم استراتيجية اللعبة على الكمبيوتر بحيث يدخل فيها الخداع كعنصر عقلاني. عندما يتكلم عالم رياضيات أو اقتصادي أو واضع الاستراتيجيات العسكري عن الاستراتيجية المُثلى للعبة، فأنا أعتقد أن كثيرين من المستمعين سوف يفترضون على الفور أن الاستراتيجية تحتوي في بنائها على أفضل استجابةٍ لأي سيناريو ممكن أن ينشأ خلال هذه اللعبة. في الألعاب الواقعية ونظرية الألعاب الواقعية نادرًا ما يحدث هذا بالتأكيد؛ إذ من المهم ألَّا يستطيع خصمك التنبؤ باستجابتك على نحوٍ يقيني. فعنصر المفاجأة في حد ذاته له قيمته، ولا ينبغي تسليمه لخصمك دون انتزاع الثمن. هذا واضح في الألعاب الأسهل جدًّا من البوكر، مثل لعبة «ورقة وحجر ومقص» التي يلعبها لاعبان. في هذه اللعبة يختار اللاعبان في الوقت نفسه أحد الاختيارات؛ ورقة أو حجرًا أو مقصًّا بإشارة من اليد. الورقة «تغطي» الحجر الذي «يقلل حدة» المقص الذي بدوره «يقص» الورقة، واللاعب يُحرز نقطة عندما تسيطر يده على يد خصمه. من الواضح أنك لا تستطيع تحمُّل اللعب على نحوٍ متوقَّع في هذه اللعبة؛ فعلى سبيل المثال إذا اتبعت ترتيبًا معينًا ثابتًا، مثل ورقة ثم حجر ثم مقص، في كل مرة، فسوف يلاحظ خصمك ذلك، ويتبع ترتيبًا مثل مقص ثم ورقة ثم حجر، ويفوز عليك في كل مرة. إذَن فمن الضروري أن تكون عشوائيًّا في أي استراتيجية جيدة لممارسة لعبة «ورقة وحجر ومقص». وليس هناك ما هو غير منطقي في هذا. وهكذا نرى أن مخالفة التوقعات يمكن أن تكون منطقية. على أي حال توجد حالات يكون الخصم غير المنطقي فيها هو خصمًا أقوى كثيرًا من الخصم المنطقي العقلاني. فلنأخذ أزمة الرهائن مثلًا. تخيل أنك رجل شرطة يفاوض في محاولة للقبض على السيد سبوك، الذي يهدِّد بقتل رهينة. يمكنك أن تقول: «سبوك، الاختيار الوحيد أمامك هو الاستسلام! إذا قتلتَ الرهينة فسيُقبض عليك في كل الحالات، وسوف تتعرض لعقوبة أشد. من ثَم، فتهديدك غير منطقي. أنت لن تنفِّذه لأنه ليس لديك سبب يحملك على تنفيذه.» شخصية سبوك المنطقية ستكون عاجزةً عن دحض هذه الحُجة؛ ومن ثَم سيمكنك إلقاء القبض عليه بكل سهولة. من ناحية أخرى إذا كنت تتعامل مع انتحاريٍّ معتوه، فسوف تواجه صعوبات حقيقية. يمكنك تقديم نفس الحُجة، ولكن سوف تقابل بالرد الآتي من الخصم: «آه حجتك مردود عليها. فأنا لست شخصًا منطقيًّا عاقلًا، لكنني معتوه لا أحتاج لأسباب! ولا يزال لديَّ القدرة على تنفيذ التهديد؛ وعلى النقيض من سبوك، أنا مُحصَّن ضد منطقك.» (أو عبارة بهذا المعنى.) حجة المعتوه مُحكَمة للغاية. إذا حاولت القبض عليه، فإنك ستخاطر حقيقةً بحياة الرهينة. تكمُن الصعوبة في أن المعتوه إنسان يمكن أن تكون لديه رغبات متناقِضة، وذلك على النقيض من سبوك. فمن ناحية قد لا يرغب في معاناة عقوبة أشد، مثله في ذلك مثل سبوك، لكنه من ناحية أخرى، ربما يحتاج للتنفيس عن شعوره القوي بالغضب والانتقام. ومن يدري؟ لا يستطيع أحدٌ التنبؤ بأي رغبة منهما سوف تسيطر عليه في اللحظة الحاسمة من الصراع؛ فتصرفاته يمكن أن تخالف جميع التوقعات حتى توقعاته هو شخصيًّا. وهذه الطبيعة المعقَّدة والمتقلِّبة تمثِّل صعوبةً خطيرة للمفاوض. ومن ثَم، فهو بالتأكيد خصمٌ صعب التعامل معه أكثر من السيد سبوك في لعبة الرهينة. أن تكون أقوى لاعب لا يعني بالضرورة أنك ستكون في مكانة أفضل لكسب المباراة. قد يبدو هذا تناقضًا، ولكن هذا النوع من التناقض ينشأ غالبًا في الألعاب التي يلعبها أكثر من لاعبَين، مثل الأوضاع الدبلوماسية التي تدخل فيها أممٌ عديدة. في مثل هذه المواقف من الجيد أن تكون قويًّا دون إظهار التهديد. لأنك إذا مثَّلتَ تهديدًا غير محتمل للاعبين الآخرين، فربما يشكِّلون حلفًا ضدك ويقضون عليك. مثال على هذا النوع من الألعاب هو اللعبة المتعددة اللاعبين لتبادُل إطلاق النار؛ فيها يكون لدى اللاعبين درجات مختلفة من مهارة التصويب معروفة لجميع اللاعبين. وقد يتبدَّى لنا أن اللاعبين الأقل مهارة في التصويب هم الأقوى؛ لأن اللاعبين الأكثر مهارةً لا يملكون إلا خيار تصويب بنادقهم بعضهم نحو بعض؛ مما يؤدي إلى إبادتهم جميعًا أو إبادة أكثرهم مخلِّفين وراءهم الرماة الأقل مهارةً ليفوزوا. في الواقع في لعبة إطلاق النار الثلاثية أضعف الرماة، وفقًا لنظام احتمالي معيَّن، قد يكون أفضل حالًا بإطلاق النار في الهواء. لعل أهم مثال على هذا النوع في نظرية الألعاب يحمل اسم «معضِلة السجينَين». وأحيانًا يُسمى «متناقضة السجينين» لأنه يوضِّح أنه يمكن لسياسة الأنانية أن تكون أسوأ من سياسة التعاون لكل فرد من أفراد المجتمع. عادةً ما ينطوي وصف اللعبة على سجينَين يواجهان عواقب معيَّنة عند الاعتراف بالجريمة أو عدم الاعتراف بها، والنتيجة لا تتوقف على قرار أحدهما فقط بل تتوقف أيضًا على قرار الآخر.
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/9/
النسبة الذهبية
من السطر الثاني نحصل على: وبالتعويض في المعادلة الأخيرة نحصل على: باستخدام السطر الثالث، نحصل على: وبالتعويض نحصل على: بالاستمرار بهذه الطريقة نحصل على: ومن ثم نصل إلى: أو في الصورة المختصرة التي سبق تقديمها: يعتبر المفكوك الكسري المستمر لعدد ما غنيًّا بالمعلومات. ولأننا رأينا في الفصل الثاني أنك تستطيع تحويل أي كسر عشري متكرر إلى كسر اعتيادي، فهذا يشجعنا أن نسأل هل يمكننا التحرك في الاتجاه العكسي في هذا السياق الجديد أم لا. على سبيل المثال، مؤكد أن العدد: بحل هذه المعادلة بالصيغة التربيعية نحصل على حلَّين؛ أحدهما موجب والآخر سالب، وبطبيعة الحال، نحن نريد الموجب: يطلق على مثل هذا المستطيل «المستطيل الذهبي». وقد كانت خصائصه المتميزة مصدرًا لافتتان اليونانيين، حتى إن عالم الرياضيات باتشولي قد ألَّف كتابًا في بدايات القرن السادس عشر عن هذا الموضوع. كثيرًا ما يقال إن المستطيل الذهبي هو ذلك المستطيل الذي يسرك النظر إلى نسب أطوال أضلاعه؛ ومن ثم فإنه مفضل في التصميم. لست متأكدًا من هذه النقطة: فمثلًا شكل بطاقة الائتمان القياسية لا ينطوي على أبعاد ذهبية، ولكنه يقترب منها بشدة. ومع ذلك فأنا أتوقع أن القراء يمكنهم العثور على أمثلة من المستطيل الذهبي مطبقة في أنماط ورق الحائط وفي الهندسة المعمارية وما شابه. والعبارة: الخلاصة، أن طول كل قطر في الشكل الخماسي المنتظم هو نسبة ذهبية في حين تتقاطع الأقطار أحدها مع الآخر في القطعة الذهبية. ترجع مسألة أرانب فيبوناتشي لبداية القرن الثالث عشر. وقد قدمت متتابعة من الأعداد التي تُنتَج بطريقة بسيطة وطبيعية للغاية، تجعل من السهل أن تظهر مرة أخرى. ومع ذلك، فظهورها المتكرر في الظواهر الطبيعية وبخاصة المواقف التي تنطوي على النمو، ظهور لافت للنظر. وفي الواقع، يعتبر الموقف الأصلي الذي ظهرت فيه هذه المتتابعة هو مسألة التعداد التالية. فلنبدأ بقاعدة. كل زوج من الأرانب يلد زوجًا آخر في الجيل الثاني وزوجًا ثانيًا في الجيل الثالث، وبعد ذلك يصبح عجوزًا فيتوقف عن التناسل. الجيل الأول يتكون من زوج واحد؛ والجيل الثاني يتكون أيضًا من زوج واحد (جديد)، ولكن في الجيل الثالث، سيولد زوجان لأن زوجَي الأرانب من الجيل الأول والثاني كليهما يلدان. أما الجيل الرابع، فسيولد به ثلاثة أزواج: زوجان منهما من نسل أبناء الجيل الثالث والزوج الثالث من نسل الجيل الثاني. ويكون الاثنا عشر عددًا الأولى لفيبوناتشي، أي عدد الأزواج في كل جيل، على النحو التالي: ومن ثم: سنختتم حديثنا بمثال من العصور القديمة، على الرغم من أن الربط بالنسبة الذهبية كان نتاج رياضيات عصر النهضة. ثلاثي الأبعاد المناظر للمضلع المنتظم هو متعدد السطوح المنتظم، وهو شكل محدود بمضلعات منتظمة متطابقة حيث عدد السطوح متساوٍ عند أي ركن. على سبيل المثال، المكعب هو متعدد سطوح منتظم له وجوه مربعة الشكل. بالطبع يمكن أن توجد مضلعات منتظمة لها أي عدد من الأضلاع، ولكن متعددات السطوح أكثر ندرة. ففي الحقيقة يوجد خمسة أشكال منتظمة متعددة السطوح فقط. باستخدام المربعات، رأينا بالفعل أنه يمكن أن يوجد ثلاثة مربعات تلتقي عند كل ركن وهذا يعطي مكعبًا، ولكن مرة أخرى، سوف يؤدي وجود أربعة مربعات إلى أن يكون هذا الركن مستويًا، ومن المستحيل أن يوجد أكثر من أربعة. ولهذا نحصل على: وباستخدام نظرية فيثاغورث مرة ثانية، نصل إلى: ولذلك نرى أنه يوجد خمسة مجسمات منتظمة، مع أنه لا يزال من المتصور أنه قد يوجد أكثر من ذلك؛ على سبيل المثال، كيف نعلم أنه لا يوجد مجسم منتظم آخر له خمسة أوجه مثلثية تلتقي عند كل رأس وعدد من الأحرف والأوجه مختلف عن المجسم العشريني الأسطح؟ سنعرف السبب في عدم وجود مثل هذا الكائن في الفصل الأخير من الكتاب.
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/10/
الشبكات
في المسألة التاسعة الواردة في الفصل السادس رأينا أن شبكة جسور كونيجزبرج لا يمكن عبورها مرة واحدة فقط لأن هذه الشبكة بها الكثير جدًّا من النقاط الفردية، أي العُقد المتصلة بعدد فردي من الأضلاع. وسندرس الآن هذا النوع من المسائل بشكل عام. سوف نبحث الآن في سؤال عبور شبكة كونيجزبرج؛ أي مسألة إيجاد مسار عبر الشبكة نمرُّ فيه بكل ضلع مرة واحدة فقط. ابدأ عند أي عُقدة للمرور عبر الشبكة بالطريقة التي تحلو لك، ولكن: ارسم صورة للشبكة واحذف أي ضلع استخدمته وأي عُقدة مررت بكل الأضلاع المتصلة بها. في كل خطوةٍ لا تستخدم ممرًّا، أي ضلعًا يصل بين جزأين لم يكونا ليتصلا من غيره، إلا إذا كان لا يوجد أي اختيار آخر. يمكنك العثور على البرهان أن الخوارزمية السابقة صالحة دائمًا في أي كتاب جاد عن الشبكات ونظرية المخططات، وهو الاسم الذي يطلق غالبًا على دراسة الشبكات. وستجد أن البرهان ليس صعبًا ولا طويلًا ولكنه مزعج قليلًا إذا أصررت على تبرير كل التفاصيل، وهو ما لا تفضل الكثير من الكتب الخوض فيه حتى لا تفسد بساطة الفكرة. بإمكانك أن تصمم شبكة بالجودة نفسها، ولكن ليس بجودة أعلى. فكيف يمكنك إثبات أن هذا مستحيل؟ كيف يمكننا التأكد من أنه لا توجد طريقة ماهرة لفعل ذلك ولكننا لم نتمكن من اكتشافها؟ الصعوبة لا تكمن كثيرًا في كون المسألة معقدة في الأساس، ولكنها تكمن في أن المرء، بصرف النظر عن المبرر، سيحتاج إلى التأكيد على أنه من الواضح أن أحد الأضلاع لا بدَّ أن يمرَّ فوق ضلع آخر لأنه يجب أن يمر من داخل تكوين معين قامت الأضلاع الأخرى بإنشائه إلى خارجه. ولا حرج في ذلك، إلا أنه من الصعب جدًّا تبرير ذلك بشكل دقيق نظرًا لصعوبة التعامل مع المنحنيات المغلقة حتى البسيط منها في التصميم الكامل للشكل. سبق أن قمنا بحل مسألة حول الشبكات البسيطة في الفصل السادس، حيث رأينا أنه في أي حفل يوجد على الأقل اثنان من الأفراد لهما نفس عدد الأصدقاء في الحفل. يمكننا إعادة صياغة هذا السؤال ليصبح عن الشبكات البسيطة: ارسم شبكة تحتوي على عُقدة واحدة لكل شخص واربط بين أي عُقدتين بضلع إذا كان ثمة علاقة صداقة بين الشخصين اللذين تمثلهما العقدتان. ما برهنته الحجة التي سقناها في الفصل السادس هو أنه في أي شبكة بسيطة يجب أن يكون هناك عُقدتان على الأقل لهما نفس الدرجة. وأترك للقارئ التحقق من أن أي عقدتين ستكونان متجاورتين في الشبكة الأولى إذا — وفقط إذا — كانت نظيرتاهما متجاورتين في الشبكة الثانية. بجمع الحقيقتين السابقتين نحصل على: لنفترض إذن أن شبكتنا هذه (أو الحفل إذا شئت) تحتوي على الأقل على:
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.1/
شكر وتقدير
إننا في غاية الامتنانِ لزميلنا دكتور جاك جي جولد سميث؛ لمراجعته الشاملة واقتراحاته الرائعة. نشكرك بشدة يا جاك لجُودك علينا بوقتك، ولمساعدتك إيانا كثيرًا. نُوجِّه شكرنا أيضًا لفرانشيسكا باتارو لقراءتها الجمل الطويلة، وإسدائها النصائحَ لنا برفق حول كيفية اختصارها، ومساعدتها لأولادنا بينما كان آباؤهم منهمكين في العمل. ونتقدم بخالص الشكر إلى دكتور كوب وزوجته لتحلِّيهما بالصبر على قراءة عدد كبير من الأوراق، ولتقديمهما — كما اعتدنا منهما — الملاحظاتِ والاقتراحات التي اتسمت بالمعرفة المستبصِرة. ونشكر جودي ديلي على تعليقاتها الممتازة والمتبصرة، كما نشكر ليندا ريجن التي منحَتنا كالمعتاد إرشاداتها التي لولاها ما كان هذا الكتاب ليرى النور. نشكر هيثر أمرمولر، وكريس كرامر وكل فريق الإنتاج بدار نشر بروميثيوس، ونقول لهم إن مساعدتهم الكريمة والودودة ونصائحهم قد صنعَت الفارق بحق. ونود أن نتقدم بشكر خاص إلى أولادنا ماثيو، وبنجامين، ودانيل فيتيرولف لاستعدادهم أن يعيشوا في منزل يمتلئ أحيانًا بالروائح المنبعثة من التجارِب، وآباء مضطرِبين ومهتاجين كثيرًا، وأكوام من الأوراق في مكان من المفترض أنه غرفة معيشة، ونقول لهم إنهم قد ساعدوا في إجراء التجارِب وتقديم الأفكار والرسومات، والتدخل لحل المعضلات إلى جانب صبرهم الواضح، ونحن نحبكم من أجل كل هذا ومن أجل أشياء أخرى كثيرة. ونود أن نُوجه الشكر لأصدقائنا وزملائنا في مدرسة أيكن الإعدادية، وجامعة ساوث كارولينا أيكن؛ لتعضيدهم وتشجيعهم، ونُعبر عن خالص امتناننا للورا باكون من مدرسة كيندي ميدل سكول؛ لتعريفها إيانا بالأوبليك، ونشكر أيضًا العاملين في متجر ترو فاليو هاردوير الموجود في مدينة أيكن الذين وإن لم تَتسنَّ لهم معرفة كيفية تقديم المساعدة في إنجاز كتاب في الكيمياء، فإننا لم نكن لنستطيع إنجازه لولا العددُ الوفير من السلع المتوفرة لديهم، إلى جانب استعدادهم الكريم لتلبية مطالبنا الغريبة كافَّة. نود أن نشكر طلابنا الذين كانوا متفتحين لمناقشة الكثير من المسائل، ونشكر جوان مورتون وليندا ميوز؛ لكونهما أفضل الشركاء والأصدقاء. ونحن نُهْدي هذا العمل — مع خالص حبنا — إلى نيدا جو فيتيرولف، نموذج القوة والمرح والشجاعة.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.3/
لماذا هذا الكتاب؟
null
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.4/
تصدير
إنني في مستهل خطواتي لدراسة الكيمياء وهي دراسة غاية في التفرد، لم أرَ في حياتي شيئًا مثلها من قبل قطُّ، والمواد المستخدَمة فيها هي الجُزَيئات والذرات، وسوف أُناقشها بصورة أكثرَ تحديدًا الشهرَ القادم. قد يصعب عند تناول الوضع الحاليِّ للمجتمع الغربي أن نُصدِّق أن الجنس والطهي كانا يومًا ما من المواضيع التي يجري تناولها بحذر بالغ، لكن عندما كتبَت إيرما رومبور كتابها «روعة الطهي» عام ١٩٣١، وكذا أليكس كومفورت كتابه «روعة الجنس» عام ١٩٧٢، فإنهما بذلك كانا يتناولان شواغلَ مجتمعية غاية في الواقعية. ويوضح كتاب إيرما ما يدور في المطبخ، أما كتاب كومفورت فهو يُزيل الالتباسَ بشأنِ ما يحدثُ في المَخادع، وبالمِثل ينظر البعض للكيمياء على أنها أمرٌ مزعج؛ ومن ثَم ربما يكون قد حان الوقت الآن لاكتشافِ روعة الكيمياء. سوف نكتشف عبر هذه الصفحات السحرَ المتأصِّل في الكيمياء؛ من الافتتان بسقوط أوراق الأشجار والألعاب النارية، إلى أداء كاشف الدُّخان وأداء أجهزة الحاسوب، وكذا أساسيات الهضم والاحتراق. ولسوف نُوضح هذه المبادئَ عن طريق التجارِب العِلمية بأنفُسنا باستخدام مواد في متناول الأيدي، ولا يتطلَّب الأمر ضرورة توافر المختبرات والآلات الحاسبة؛ للتمتع بجمال الكيمياء، فالمفاهيم يمكن شرحها في ضوء خبرات الحياة اليومية وباستخدام المواد التي في متناول يدَيك. وغالبًا ما يُطلَق على الكيمياء العلمُ المركزي؛ لأنها تقَع في لب فَهمنا للعالم المادي والحيوي وفي مركز مخاوفنا العامة في كل المجالات، بدءًا من الطِّب ومرورًا بالسياسة ووصولًا إلى الاقتصاد؛ ومن ثَم ينبغي أن ترنَّ أصداءُ مبادئ الكيمياء في مفاهيمنا وخبراتنا. ومن المُمكن أن تكون الكيمياءُ علمًا غاية في الأُلفة يُناجي حَدْسَنا وعقولنا وحسَّنا بالمتعة أيضًا، إذا كنا مستعدين أن نترك أنفسَنا له بلا قيود، وغرضُنا هنا هو أن نتناول ملذَّات الكيمياء ونكشف القليل عن السيارات والكون، وحتى عن الجرائم.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.5/
كلمات قليلة وضرورية بشأن الأمان والسلامة
فيما كنتُ أقرأ كتابًا عن الكيمياء استوقفتني عبارة: «تأثيرات حامض النيتريك على النُّحاس» … لقد رأيت زجاجة على الطاولة مكتوبًا عليها حامض النيتريك … كنت أرغب في أن أُضحِّي بأحد السِّنتات النُّحاسية القليلة التي كانت في جَعْبتي حينذاك … تكوَّنت بعض الرَّغاوَى والدخان الأزرق المُخضَر فوق السنت والطاولة، وقد تلوَّن الهواء القريب مني وقتها باللون الأحمر الداكن، ثم تصاعدَت سحابة ملونة كبيرة. ثم التقطتُ عُملتي متعلمًا حقيقةً أخرى؛ هي أن حامض النيتريك لا يُؤثر فحسب على النحاس، ولكن على أصابعي أيضًا، ثم مسحت أصابعي في سراويلي مكتشفًا حقيقةً أخرى هي أن حامض النيتريك يُؤثر أيضًا على سراويلي. إذا لم يكن لديك نظارة من نظارات الأمان الواقية، اذهب إلى متجر بيع النظارات الآن واشترِ واحدة وارتدِها وأنت تُؤدي التجارِب الموجودة في هذا الكتاب. اقرأ تحذيرات الأمان المتضمنة في التجارِب، واتبعها بحذافيرها. قاوم الإلحاح الذي يحضُّك على أن تكون مبدعًا؛ فقد يُسبِّب الخلطُ العشوائي للكيماويات المنزلية بعضَ الخمائر ذات الروائح الكريهة جدًّا، فلا تخلط أبدًا النشادر مع مواد التبييض! ابتعد تمامَ الابتعادِ عن المصادر التي يُمكِن أن تُسبب الاشتعال، وقد تتعجَّب عندما تعلم أن الهواتف الخلوية وغيرَها من الأجهزة الكهربائية من هذه المصادر. صُبَّ المخلفات في المرحاض، وليس في حوض المطبخ أو حوض الحمام. استخدم الحدَّ الأدنى من المقادير؛ فالفرق بين الضجة المدوية والفرقعة البسيطة هو فرقٌ في المقدار. اعرِف المكان الذي يوجد به أقربُ صنبور ومِطْفأة حريق وهاتف، وهي أشياء ينبغي أن تكون مُلمًّا بها على أية حال، فالأغراض المنزلية المستخدمة المعتادة لها كمٌّ من المخاطر يدعو إلى الوعي بهذه التحذيرات. احفظ كل شيء بعيدًا عن متناول الأطفال؛ فهذه الكيمياء موضوعةٌ من أجل البالغين، وأيضًا بعيدًا عن الحيوانات الأليفة بمنزلك. سوف نُوجِّهك لاستخدام بعض أدوات المطبخ في الكثير من التجارِب، لكن هذا لا يعني أن الكيماويات غيرُ سامة. استخدم أدواتٍ بلاستيكيةً وأطباقًا ورقية بقدر الإمكان (سوف يُقال لك متى تُستخدَم الأدوات الزجاجية فقط)، وتخلَّصْ من الأدوات الورقية والبلاستيكية بعد الاستخدام. حتى الأطباق الورقية الرخيصة الثمن يمكن استخدامها في أكثرَ من تجرِبة إذا كانت تُغطيها طبقة بلاستيكية رقيقة. وإذا كان عليك أن تستخدم أدواتِ مطبخ زجاجيةً أو خزفية، اغسلها جيدًا بمَعزِل عن باقي أدوات المطبخ الأخرى، قبل أن تعزم على أن تستخدمها مرةً أخرى لأغراض الطعام، أو يُحبَّذ أن تحتفظ بمجموعةٍ منفصلةٍ مخصصة للتجارِب الكيميائية. وغالبًا سوف تقوم بمعظم التجارِب في القَبْو أو المطبخ أو الحمام، لكن عليك أن تحفظ المواد الكيميائية بمَنأًى عن فرش الأسنان وأدوات الطعام، أو الأوعية التي تتصل بالطعام أو فرش الأسنان، يُمكنك أن تُغطي أوعيتك بأوراق الجرائد لمزيد من الحماية. وتختلف أفران الميكروويف عن الأفران العادية؛ لذا عليك أن تتعامل مع أوقات الميكروويف المُعْطاة لك في التجرِبة بالتقريب. حاول أن تعرف جيدًا الميكروويف الخاص بك، واستخدم القفاز لإزالة الأشياء الساخنة. ويُمكن أيضًا للميكروويف أن يُسخن الأشياء على نحو غير منتظم؛ لذلك كن مُدركًا أن المحلول الذي يجري تسخينه قد يكون عند درجة الغليان دون أن ترى فقاقيع؛ لذا عندما تكون غير متأكد، انتظر دقيقة بعد فتح الباب واستخدم القفاز، وكالمعتاد كن واثقًا من عدم إدخال أي معادن في الميكروويف مثل الملاعق مع المواد المفترض دخولها فيه. هذه كيمياء وليست طبخًا، لكن هذا لا يُغير طبيعة الميكروويف. وأي شرارة ناتجة قد تكون مثيرة، ولكنها خطيرة، ويُمكن أن تُدمر الميكروويف بسهولة. وقد اختِيرَت الإجراءات الكيميائية المقدمة هنا بعناية لتمنحك أكبر قدر من المتعة، وتُجنبك أية مخاطر، لكن من فضلك لا تفترض أن هذا واقعُ كل التفاعلات أو كل التجارِب الكيميائية. مرة أخرى أود أن أُؤكد على أنه من الأفضل ترك التجريب للكيميائيين المحترفين، والتجارب الأكثر تعقيدًا لهؤلاء المتدربين على التجارِب الكيميائية. ولا تستخدم أيًّا من المواد الكيميائية التي نحن بصددها في عمل لبخة أو لبوس، أو في أي شيء آخر اعتاد الناس أن يفعلوه في الماضي أو في الحاضر. ولا تأكل أيًّا من المواد الكيميائية المستخدَمة في هذه التجارِب أو تشربها أو تستحمَّ بها أو تضعها على عينَيك تحت أي ظرف من الظروف. ولا تُعرضها للهب أو لأي شرر (إلا إذا كان هذا جزءًا من التجرِبة). احمِ ملابسك أو ارتدِ ملابس قديمة. احمِ يدَيك عن طريق ارتداء قفازَيْن من المطاط عند الإمساك بالمواد الكيميائية وارتداء القفازات التي تُستعمَل في الحدائق عند الإمساك بالصوف الفولاذي. عامِلْ جميع الكيماويات المذكورة في هذا الكتاب كما تُعامل مبيِّضات الغسيل والبنزين والمبيدات الحشرية والأشياء الأخرى التي تعرف أنها خطيرة. بعبارة أخرى، اتبع نفس التحذيرات المذكورة في أية مجموعة كيمياء موضوعة خِصِّيصَى للأطفال. يجب عليك أن تَشتريَ مثل هذه المجموعة الكيميائية، وقد تقول إنها من أجل أولادك، أو يُمكنك شراؤها عبر البريد الإلكتروني. وتحوي العُبُوَّة الكيميائية نظاراتِ الأمانِ الواقيةَ التي تحتاجها، والقليلَ من المواد الكيميائية، مع شرح للقليل من التجارِب. وهي لا تخوض في شرح عميق، وهو ما نُقدمه نحن هنا، ولكنها قد تكون مسلية وقد تُوفِّر عليك بعض الرحلات إلى متجرِ بيع الأدوات.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.6/
قائمة المشتريات والمحاليل
شريط لاصق. حجر الشبة (يتوافر بقسم التوابل في السوبر ماركت). رقائق الألمنيوم. سلك الألمنيوم (يتوافر في متجر بيع الأدوات المعدنية). النشادر (يتوافر في قسم الأدوات المنزلية أو المنظفات). أقراص مُسكِّنة لآلام المعدة، ومجموعة من الفوارات. محلول مُخفِّض لقلوية ماء حوض السمك يحوي حامض الكبريتيك، وقد يحوي الماء أيضًا باعتبارهما مُكونَيه الأساسيَّين (على الأقل ثلاث زجاجات سعة كلٍّ منها سبعة وثلاثون مليلترًا). عبوة اختبار قلوية ماء حوض السمك (ويُذكَر الماء العذب في قائمة المشتريات باسم بروموثيمول الأزرق). أسبرين. بيكربونات الصودا (وليس بيكينج بودر). بالونات. قضيب مغناطيسي (صغير). حقنة شرجية. مصباح ضوء أسود (ضوء غير مرئي) ومثبَّت. مادة تبييض (في قسم الأدوات المنزلية). شموع. زيت الكانولا. طباشير. حامض الستريك (ويُباع كملح حامض في محل تذوُّق الأطعمة أو يُمكن شراؤه عبر الإنترنت). كربونات الصودا النقية (غالبًا ما تفي صودا الليمون بالغرض). مشابك غسيل (من البلاستيك أو الخشب). علَّاقة ملابس (من المعدن أو البلاستيك). مغسلة غاز نُحاسيَّة وهي شبكة من النُّحاس (ويمكن أن تتوافر في متجر الأدوات المعدنية أو السوبر ماركت). سلك نُحاسي يبلغ طوله قدَمَين على الأقل (٦٠سم)، ويُفضَّل أن يكون غير معزول، ولكن يمكن استخدام المعزول أيضًا. فلين مطاط أو طبيعي، يُستخدم كسدادة زجاجة صودا بلاستيكية سَعَتها عشرون أوقية (٥٩٠ملي). دقيق ذرة. ضرب من الجبن الأبيض (يُشترى حسب الحاجة). زبدة الطِّرْطير (تتوافر عادةً في قسم المخبوزات أو مع التوابل في السوبر ماركت). قطارة ذات انتفاخ انضغاطي. مزيل لطلاء الأظافر (نوع يحوي مادة الأسيتون). قفَّازات مرنة (النوع المستخدم لحماية الأيدي أثناء غسل الأواني أو عند استخدام المنظفات المنزلية؛ مقبول لكنه لا يتناسب مع الأيدي؛ فعادة لا يأخذ شكل اليد؛ لذا يُفضَّل القفازات الطبية، وهي تتوافر في الصيدليات). ألوان طعام (يُفضَّل القطرات السائلة وليس الجل القابل للعصر). مساميرُ مطلية بالخارصين (تتوافر في متجر الأدوات). القفازات التي تُستخدَم في الحديقة (المصنوعة من الأقمشة السميكة أو الجلد). وسيلة هضم مقللة للغازات (النوع الذي يُتناوَل قبل الوجبات لتقليل غازات الأمعاء). جلسرين (ويُسمَّى أيضًا جليسرول من الصيدلية). فوق أكسيد الهيدروجين. أعواد ثقاب. ليمون. زهرة سائلة. اللي وهو محلول يُستخدَم في صناعة الصابون (عادة ما يُباع كمنظف مُجفف لكن لا تشترِ النوع الذي يحوي فِلزَّ الألمنيوم). شريط لاصق عريض، وقلم تمييز ثابت. ملعقتان معدنيتان (يمكن الاستغناء عنهما بعد الاستعمال). لبن كامل الدسم (غير مقشود أو بنسبة ٢٪، والشراء حسب الحاجة). زيت معدني. موتزريلا (أصلية ومقلدة، والشراء حسب الحاجة). مشبك ورق معدني. أطباق ورقية مطلية. ورق حمام. المزيد من ورق الحمام. أكياس بلاستيكية (ذات أطراف لاصقة، أحجام كبيرة وصغيرة). أكواب بلاستيكية (شفافة ويمكن الاستغناء عنها بعد الاستعمال). قمع بلاستيكي. زجاجات صودا بلاستيكية (شفافة وسَعتها عشرون أوقيَّة سائلة (٥٩٠ مليلترًا)، أحضر على الأقل عشر زجاجات). زجاجات صودا بلاستيكية (سعتها ٦٧٫٦ أونسًا (٢ لتر)). ملاعق بلاستيكية. رقائق لف بلاستيكية. كرنب أحمر (يمكن تقطيعه وتجميده إلى الدرجة المراد الوصول إليها). كحول الأيزوبروبيل. نظارة أمان (ويُمكن شراؤها من مركز علمي أو تعليمي، أو من متجر الخردوات). ملح صخري ويُسمَّى أيضًا نترات الصوديوم (يمكن شراؤه من السوبر ماركت أو من محل متخصص). برطمانات بلاستيكية بأغطيتها (ويمكن أن يُغني عنها زجاجات المياه التي سعتها نصف باينت (يُعادل نصف لتر تقريبًا)). أوعية بلاستيكية شفافة صغيرة لاستخدامها كأنابيب اختبار أو استخدام أنابيب اختبار فعلية (يمكن شراؤها من مركز علمي أو تعليمي). أكواب عصير صغيرة (ثلاثة أو أربعة). قطعة إسفنج (طبيعية أو صناعية). مسامير صلب. صوف فولاذي (درجة ناعمة). ماصات. غراء ممتاز (النوع الذي يحوي سيانواكريلات). عبوة اختبار قلوية ماء حمام السباحة (وينبغي أن تقول في قائمة المكونات «فينول أحمر»). ملح طعام. سكر. أكواب شرب طويلة (ثلاثة أو أربعة). أكياس شاي داكن. ترمومتر يتدرج حتى ٢٢٠ فِهْرنهايت على الأقل (١٠٥ درجات سيليزية) (يُمكن استخدام ترمومترات اللحوم). نسبة ضئيلة من صبغة اليود. خل. فولتميتر (قادر على قياس جهد التيار المستمر في المجال من ١ إلى ٣ فولت). لبن كامل الدسم. أعواد ثقاب خشبية. كبريتات النحاس. «تحذير: يتصاعد بعض الدخان أثناء إعداد هذا المحلول؛ لذا يُمكِنك أن تعمل في مكان مفتوح كما لو كنت تُعِد مادة مذيبة أو ورنيشًا أو مادة مُخفِّفة للدهان، والدخان الذي يتصاعد هو لمركبات النيتروجين والأوكسجين مثل تلك الموجودة في الضباب الدخاني.» ارتدِ نظارة الأمان الواقية. إذا كان لديك شبكة سلك نُحاسيَّة من تلك التي تُستخدَم في تنظيف الأوعية المنزلية، فاستخدمها بدلًا من سلك النحاس، أما إذا لم يكن لديك، فأزِلِ الطبقة العازلة من على عشر بوصات (٣٠سم) من سلك النُّحاس إذا كان معزولًا (أما إذا كان غيرَ معزول فاستعمِله كما هو)، ولُفَّه بحيث يكون مسطحًا في قاع الكوب البلاستيك الذي يُمكن أن يسَع على الأقل كوبَين (سَعة كلٍّ منهما ٥٠٠ مليلتر) من السائل. إذا كنت ستقطع السلك النُّحاسي لكي تُزيل العزل منه، فإن الأمر سيكون مناسبًا فالسلك يُمكن أن يكون في شكل قطع صغيرة بحيث يكون مجموع أطوالها يقترب من العشر بوصات (٣٠سم). إذا استخدمتَ شبكة سلك نُحاسية من تلك التي تُستخدَم في تنظيف الأوعية المنزلية، فضَع شبكة السلك في قاع الكوب الذي يُمكن أن يكون مصنوعًا من البلاستيك الشفاف أو من الزجاج الشفاف، ولكن مهما كانت المادة التي صُنِع منها الكوب فإنه لا يجب أن يُعاد استخدامه للشرب. أضف نحو أربعِ ملاعق شاي بلاستيكية (ما يقرب من ٨ جرامات) من بِلَّورات المِلح الصخري (نترات الصوديوم)، ثم قلِّبه ليذوب. غطِّ الكوب بغِطاء بلاستيك غير مُحكَم وضعه جانبًا. ينبغي أن يكون المحلولُ جاهزًا في خلال ما يَقرُب من اثنتَي عشْرةَ ساعة. سيكون التفاعل بطيئًا، ومع ذلك يُمكنك أن تَلْحظ حدوثه في انسياب الفقاقيع الصغيرة المتدفقة من سطح النُّحاس. إذا سارت الأمور على ما يُرام، يكون لون المحلول شديدَ الزرقة، ويترسَّب النُّحاس وبِلَّورات من نترات الصوديوم في قاع الكوب. صُبَّ السائل الأزرق عبر القمع البلاستيكي في زجاجة بلاستيكية لها غِطاء، وراعِ ألَّا تصبَّ معها المترسِّبَ من البِلَّورات والنُّحاس. اترك المترسب من البِلَّورات والنُّحاس في الكوب. قد تكون في حاجةٍ إلى استخدام القفاز؛ لأن المحلول لا يَزال حامضيًّا وأنت تُريد أن تتجنب وصوله إلى يدك، وإذا جاء على يدك، فاغسلها جيدًا بالماء. غطِّ الزجاجة وضَع عليها بطاقة لتكتب التاريخ واسمك وعبارة «كبريتات النحاس في حامض الكبريتيك»، ثم أضف هذا التحذير على الزجاجة: «احذر: مادة مسبِّبة للتآكل!» احفظ المحلولَ في درجة حرارة الغرفة في مكان آمن، بعيدًا عن متناول الأطفال والحيوانات الأليفة. لا تتخلَّص من أي نُحاس أو بِلَّورات غير ذائبة في قاع الكوب، ومن ثم عندما تحتاج إلى مزيد من محلول النحاس، يُمكنك ببساطةٍ أن تُعيد ملء الكأس بالمكونات من جديد. غطِّ الكأس بغلاف بلاستيكي، وضَع عليه بطاقةَ تسمية ثم غلِّفْها، وضعها في مكانٍ آمن، بعيدًا عن متناول الأطفال والحيوانات الألفية. خلات الحديد. ارتدِ نظارة الأمان الواقية. صبَّ كوبَين من الخل في كوب شفاف (يمكن أن يكون كوبًا بلاستيكيًّا لكن ليس بالضرورة). ارتدِ القفازات المستخدمة في أعمال الحدائق (لا بد من ارتدائها). انزع نحو بوصة مكعبة من الصوف الفولاذي الناعم، (وهو ما يُعادل تقريبًا ٢٠ مليلترًا)، ضع الصوف في الخل ثم غطِّ الكوب بغطاء بلاستيكي. اكتب على الكوب خلات الحديد، واسمك، وتاريخ اليوم. يكون المحلول قيد الاستخدام في اليوم التالي. احفظ المحلول والصوف بداخله؛ لأنه سوف يُستخدَم في تجرِبتَين. احفظه في درجة حرارة الغرفة في مكان آمن، بعيدًا عن متناول الأطفال والحيوانات الأليفة. دليل الكرنب الأحمر. ابشُرْ ما يقرب من نصف كوب من الكرنب الأحمر (١٢٠ مليلترًا)، ثم ضعه في علبة السندوتشات مع نصف كوب من الماء (١٢٠ مليلترًا). سخنهما في الميكروويف لما يقرب من ٣٠ ثانية. ينبغي أن تكون العلبة ومحتوياتها ساخنة للغاية، لكن ليست إلى درجة الغليان أو بالقرب منها. بعد التسخين ينبغي أن يأخذ الماء اللون الأرجواني الخفيف بسبب الكرنب، ومع العصر اليدوي الخفيف يمكن أن تزداد حُمرته. تشتد الرائحة المنبعثة من المحلول الناتج وتستمر في التأجج. ولتجنُّبِ الروائح الكريهة الزائدة يُمكِن عمل القليل منه عند الحاجة فقط، أو تجميده إذا كان هناك مُتسَعٌ من الوقت، أو يُمكن عمله من البرقوق الأحمر الداكن إن وُجِد. لكن الكيمياء يمكن أن تكون عملًا ذا رائحة كريهة!
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.7/
نظرة على وحدات القياس
يُفضَّل في القياس العلمي استخدامُ الوحدات المترية (الجرام والسنتيمتر والمليلتر)، المقابِلة للوحدات التقليدية (الأوقية والبوصة والكوب) المستخدَمةِ في الولايات المتحدة. ومع الجهود المحمومة التي تجري في الولايات المتحدة للاتجاه نحو استخدام الوحدات المترية في المعاملات اليومية فإن معظم الناس في الولايات المتحدة لا يزالون يستخدمون الوحدات التقليدية في الأغراض العامة. وسوف نستخدم على طول رحلتنا في هذا الكتاب الوحدات التقليدية يعقبها المقابل لها من الوحدات المترية بالتقريب بين قوسَين. ولا شك أن الوحدات المترية مألوفة للكثيرين، إلا أنها في الوقت عينِه مجهولة للكثيرين أيضًا؛ لذا سنُقدِّم هنا مجموعة من المقارنات: خذ بعين الاعتبار أن السنتيمتر يعادل تقريبًا عرض مشبك أوراق صغير، والبنس يزن نحو جرامَين، والمتر أطول قليلًا من الياردة، والمليلتر (مقارب تمامًا) ربع ملعقة شاي. وضع أيضًا في اعتبارك أن الأوقية تُستخدم لقياس الكتلة، في حين تُستخدَم الأوقية السائلة لقياس الحجم، مما يُذكِّرنا بتعقيد وحدات القياس الأمريكية، من ثَم إذا كانت الوحدات المترية لا تزال غير مألوفة لديك، فلا تقلق؛ فأي شخص تَمكَّن من وحدات القياس الأمريكية بصعوبتها لن يكون لديه أيةُ مشكلة مع الوحدات المترية. لذلك نُقدِّم فيما يلي بعض التحويلات المهمة التقريبية لوحدات القياس التقليدية الأمريكية والقياس المتري، وسنُقدِّم أيضًا في غضون التجارب وحدات القياس المترية التقريبية المقابلة لتلك الأمريكية. البوصة = ٢٫٥سم. الكوارت = ٠٫٩ لتر. الملعقة الكبيرة = ١٥ مليلترًا. الكوب = ٢٣٦٫٧ مليلترًا. الرِّطل = ٠٫٥ كيلوجرام. الأوقية = ٢٨٫٤ جرامًا. الملعقة الصغيرة = ٥ مليلترات. الأوقية السائلة = ٢٩٫٥ مليلترًا. وسنتجنَّب الاختصاراتِ من أجل الإيضاح. كوب (ك). متر (م). رطل (رط). جرام (جم). مليلتر (مل). ملعقة الطعام (ملعقة ط). لتر (ل). أوقية (أق). ملعقة الشاي (ملعقة ش). وعادة ما يستخدم العلماء مقياس درجة الحرارة المئوية، لكننا سنُورِد درجة الحرارة بكلا المِقياسَين؛ المئوي والفهرنهايتي التقليدي المستخدم في الولايات المتحدة، وسنُورد مقارنة لبعض مقاييس درجات الحرارة الشائعة:
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.8/
تَجرِبة تمهيدية: صاروخ الزجاجة والأوبليك
كانت وَجْنتهم تميل إلى الحُمرة كما لو كانوا تعرَّضوا للَهبِ موقدٍ شديد، وكانت أصواتهم تُدوِّي بنبرات مرتفعة، وكانت كلماتهم تتطاير مثل سدادة الشمبانيا المندفعة بحامض الكربونيك. لنبدأ بفرقعة صاروخ الزجاجة: ارتدِ نظارتك. اقطع من ورق الحمام قطعة عرضها نحو أربع بوصات وطولها من سبع إلى ثماني بوصات. خذ ملء ملعقة مستديرة من بيكربونات الصودا (ما يُعادل ملعقتَي شاي أو ١٠ مليلترات) ثم انثرها بطول الورقة من المنتصف، واترك نحو بوصة أو اثنتَين من طرَف الورقة خاليتَين من الصودا. لفَّ بالطول كما لو كنت تلفُّ سيجارة. تأكد أن الصودا لا تلمس أطراف الورقة، وينبغي أن تكون اللفافة رفيعة بالقدر الذي يسمح بدخولها حتى آخر زجاجة الصودا البلاستيكية، وبعد أن تلفها مباشرة اثنِ أطرافها حتى لا ينفلتَ المسحوق من داخلها. وعندما تنتهي ينبغي أن يبدو شكل الورقة كسيجارةٍ أطرافها مثنية. انزع البطاقة الخارجية لزجاجة صودا بلاستيكية سعتها عشرون أوقية سائلة (٥٩٠ مليلترًا) واغسلها من الخارج وأزل أي ماء زائد. أحضر سدادة محكمة تُناسب فتحة الزجاجة، وتأكد من أنها تسد الزجاجة دون الحاجة إلى ضغطها بقوة داخل الزجاجة. لمزيد من التأكد ضع بالونًا حول السدادة (من الأفضل أن تضع السدادة بداخل البالون). من ثَم يكون لديك سدادة مغطاة بطبقة من المطاط، وفوهة الزجاجة قد سُدَّت بإحكام شديد. صب نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) من الخل ونصف كوب من الماء (١٢٠ مليلترًا) في زجاجة ثم رجها جيدًا لتخلطها معًا. يمكنك استخدام زجاجة صودا سعتها لتران إذا ضاعفت كمية الماء والخل. أضف دليل الكرنب الأحمر؛ لذا سيكون المحلول الناتج لونه وردي فاتح. لا تُضِف أكثر من ملعقة كبيرة. اذهب إلى مكان يُفضَّل أن يكون مفتوحًا؛ بحيث لا تحدث مشكلة إذا اندفعت السدادة بقوة هائلة. ضع زجاجة الصودا التي تحوي الخل في المكان الذي اخترته، واسكب منها في الأنبوبة التي تحوي لفة بيكربونات الصودا المثنية ثم أغلق الزجاجة بسرعة وبإحكام. اجعل الزجاجة منتصبة فتندفع السدادة لأعلى في وضع عمودي في الهواء، وبعيدًا عن الأطفال والحيوانات والجيران، ثم ابتعد أنت. لا بد أن يتأخر ذلك لبضع ثوانٍ إلى أن يخترق محلول الخل الورقة، حينها سيكون هناك رَغاوى كثيرة وفرقعة كبيرة حيث ستندفع السدادة خارجًا. وعندئذٍ سيتغير لون المحلول في الزجاجة من الوردي إلى الأزرق أو البنفسجي (على حسب كمية بيكربونات الصودا المستخدَمة). وإذا بدا لك أن التفاعل أخذ في الخمول بعد دقيقة بدلًا من دفع السدادة لأعلى، يمكنك عندئذٍ أن ترج الزجاجة أو أن تضغط على السدادة من أسفل لتُزحزحها قليلًا، فربما تكون قد انحشرت عند الفتحة، وقد يتطلب الأمر منك عدة محاولات لتُجرِيَه بطريقة صحيحة، لكن الأمر يستحق ذلك العناء. ولأن ثاني أكسيد الكربون غاز، فهو يميل إلى أن يشغل حيزًا أكبر من المحلول. ويمتلك الغاز المتمدد القوة الكافية لدفع السدادة من فوهة الزجاجة. ويُعد تصاعد الغاز مؤشرًا جيدًا لحدوث تفاعل كيميائي، وكذا تغيُّر اللون الذي يُعتبر أيضًا مؤشرًا على حدوث التفاعل الكيميائي، إلا أنه في هذه الحالة، حدث التفاعل الكيميائي بدون دليل الكرنب الأحمر وبدون حدوث تغيير في اللون. وقد أُضيفَ دليل الكرنب الأحمر ليُوضِّح أن التفاعل هو تفاعل حامضي قاعدي، وهو أمر سوف نُناقشه فيما بعد. ويُعتبر الملمح الأساسي في أي تفاعل كيميائي هو أنك تبدأ التفاعل باستخدام مادة واحدة أو عدة موادَّ (سائل لاذع وردي اللون ومادة صُلبة مِلحية في حالتنا هذه) وتنتهي بنوع آخر من المواد (سائل مائي بنفسجي اللون وغاز). وثَم دلائلُ أخرى على حدوث التفاعل الكيميائي مثل تغيُّر درجة الحرارة، وانبعاث ضوء أو تَكوُّن مادة صُلبة تترسب من المحلول، وفي التجارِب التالية سوف نُشاهد كل هذا وأكثر، ولكن كي نفهم الطريقة التي تسير بها الأمور نحتاج إلى معرفة بعض الأسس التي تتعلَّق بالتركيب الأساسي للمادة، وهذا ما سنبدأ به. لكن لنشرح هذا بعد تجرِبة واحدة أخرى، وهي تجربة «الضجيج من الأوبليك»: حاول أن تضرب الأوبليك بقوة بالملعقة، ثم حاول أن تلتقطه بيدَيك. ستجد أنه يبدو صُلبًا عندما تلتقطه وتضغط عليه، ولكن إذا وضعته في كفك فسيبدو ذائبًا مثل الطين، ويُمكن أن ينصهر من بين أصابعك. وهذا هو قوام الأوبليك، فهو ليس صلبًا تمامًا أو سائلًا تمامًا؛ لأن دقيق الذرة يحبس الماء، مثل الإسفنج، لكن تركيب النشا أقلُّ صلابة؛ لذا يُمكنه أن يتدفق مع الماء المخلوط معه. حاول أن تُكوِّر بيدَيك قطعة صغيرة من الأوبليك وتقذفها على الأرض. ينبغي أن ترتدَّ قليلًا ثم تضرب الأرض مُحدِثة ضجيجًا وبقعة مثل الطين. حاول أن تقطع الأوبليك بسكِّينة، فستجد أنه مثل الجبن شيئًا ما؛ إذ يميل إلى الصلابة عنه إلى السيولة. حاول أن تشد الأوبليك بسرعة ثم ببطء. عندما ينفصل الأوبليك بسرعة فإنه يكون أشبهَ بالقوام الصلب، وعندما يُشَد ببطءٍ يكون أشبه بالقوام السائل. ومع أن خواصَّ الأوبليك تبدو مختلفة عن خواصِّ دقيق الذرة النشوي والماء الذي يتكون منهما، فإن تكوين مركب الأوبليك لا يُعتبَر تفاعلًا كيميائيًّا، فهو مجرد تغيير فيزيائي، فقد احتجز دقيق الذرة الماء، ويُمكن لك إزالة الماء منه بواسطة عملية بسيطة وهي أن تدَعَه يجف (وقد يستغرق هذا بضع ساعات). لقد تغيرَت الخواصُّ الفيزيائية لكلٍّ من دقيق الذرة والماء، لكن الخواص الكيميائية لا تزال كما هي دون تغيير. ويُشبِه تغيير الخواص الفيزيائية تغييرَ المظهر الخارجي للإنسان، فتستطيع أن تحلق شعرك أو تُغير ملابسك لكنك في الأساس الشخص عينُه الذي كان موجودًا من البداية. ويمكن لك أن تُبطِل هذا التغيير بأن تدع شعرك ينمو مرة أخرى أو ترتديَ ملابسك السابقة مرة ثانية. وبالمثل يحدث التغيير الفيزيائي لمادة مثل الماء عن طريق غليها أو تجميدها أو تقسيمها إلى أكواب منفصلة. في حين أن التغيير الكيميائي هو تغيير جوهري؛ فالمادة تتحول إلى مادة أخرى، ويُفضي التغيير الكيميائي إلى مادة جديدة لها خواصُّ فيزيائية وكيميائية جديدة. تُمثِّل تَجرِبة صاروخ الزجاجة عملية تغيير كيميائي؛ لأن الخل وبيكربونات الصودا قد تحوَّلا إلى موادَّ جديدة وهي ثاني أكسيد الكربون والماء، ولن تُعيد أي درجة من التجفيف بيكربونات الصودا. ولأن معظم التغيرات الكيميائية يُصاحبها أيضًا تغيرات فيزيائية؛ سوف نناقش كِلتَيهما، لكن تركيزنا سينصبُّ على التغيرات الكيميائية، فكوننا كيميائيين يجعلنا بالطبع نُحب حدوث ضجيج، ولكن ما من شيء يُضاهي حدوث الفرقعة!
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.9/
مقدمة
إنها الكيمياء يا أخي، الكيمياء! ما من شيء يُمكن أن نفعله حيالها، عليك أن تُفسح الطريق للكيمياء. عليَّ أن أذهب إلى المختبر وأُمعِن النظر في بعض المواد من أحماض وأملاح وقلويات. لقد أحدث حامض الهيدروكلوريك ثقبًا كبيرًا بحجم الطبق في معطف المختبر من الأمام. إذا نجحت هذه النظرية فسأكون قادرًا على معالجة هذا الثقب بالنشادر القوي، أليس كذلك؟ بدأنا بهذَين الاقتباسَين لأنهما يعرضان مُلاحظتَين في غاية الأهمية؛ أولهما أنه إذا حكمنا على الأمور بعدد مراجع الكيمياء في الأدب الغربي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، يتضح أن الثقافة الكيميائية كانت شائعة؛ فقد أظهر الكثيرون من المؤلفين الأوائل في الفترة من آرثر كونان دويل، وحتى إميلي ديكنسون؛ معرفةً وثيقة بمبادئ الكيمياء، وافترضوا وجود هذه المعرفة لدى قرائهم أيضًا. وللأسف، يتضاءل تَكرار مثل هذه التلميحات للكيمياء في الأدب المعاصر، الذي ربما يُعزَى إلى نقص الثقافة الكيميائية؛ سواءٌ من جانب المؤلفين أو من جانب القراء، ونحن نرى أن هذا الوضع يمكن تحسينه عن طريق إتاحة المزيد من الكيمياء حتى يتسنَّى للجميع الوصولُ إلى المعلومات الكيميائية، وهو الهدف من وراء هذا الكتاب. ويوضح هذان الاقتباسان أيضًا انجذاب بعض الناس — في الماضي والحاضر — دون غيرهم إلى الكيمياء. لماذا هذا الاختلاف؟ أثَمة تنوُّع في خلايا المخ؟ أثمة جين كيميائي غير مكتشَفٍ بعد؟ ربما، لكن في الغالب لا وجود لمثل هذه الأمور، ولعلنا نجد تعليلًا أوضح في السِّيَر الذاتية المختصرة الآتية للفائزين بجائزة نوبل في الكيمياء التي شُغِفوا بها أشدَّ الشغف: وليس هناك جينات مشتركة بين هؤلاء، لكن ربما يكون هناك بعض الخصال الأخرى المشتركة بينهم. وقد يبدو للمرء أن هؤلاء الكيميائيين (كالكثيرين غيرهم) قد اتخذوا الكيمياء وسيلة للتسلية في المقام الأول. أيعني هذا أنه لكي تقدِّر الكيمياء حقَّ قدرها وأنت بالغ، كان يجب عليك أن تختار والِدَين يُهدِيانك مجموعة كيمياء وأنت صغير؟ لا. لم يَفُت الأوان بعد لتتمتع بروعة الكيمياء. لقد اتسم كل من ذكَرناهم من الحاصلين على جائزة نوبل في الكيمياء وهم صغار بفضول عظيم، وإذا التقطت هذا الكتاب ستتمتع أنت أيضًا بهذا الفضول، وأملنا هو أن تُشبِع هذا الفضول. ونحن نفخر أن نُقدِّم لك في هذا الكتاب مجموعة كيميائية متكاملة واقعية للكبار مع التجارِب، لكن الفارق الكبير بين منهجنا ومنهج معظم الكتابات الكيميائية الأخرى هو أن النتائج مشروحة والتجارِب متكاملة من أجل توضيح وتفسير علم الكيمياء. وسنُقدِّم وصفًا للنتائج المتوقعة مع كل تجرِبة، بالإضافة إلى شرح المبادئ الموضحة؛ ومن ثَم يتسنَّى للقارئ أن يختار أن يتمتع بالكتاب دون أن يُجري كلَّ الإجراءات المعطاة أو أيها في التجارب، لكنه قد يصعب مقاومة إغراء المشاركة في المرح حيث تُسمع أصوات الفرقعة والأصوات المدوية الأخرى. وقد يُفهَم ضمنيًّا أيضًا من السير الذاتية المختصرة السابقة أن الكيميائي الناجح ينبغي أن يكون لديه، وهو طفل، مرشد أو رفيق يُناقش معه فنون الكيمياء. أيعني هذا أنه ينبغي أن يكون لديك مجموعة حوار لتُقدِّر مبادئ الكيمياء؟ ليست بالضرورة؛ فقد قدَّمنا ضربًا من الصحبة الافتراضية في قسمٍ «على سبيل المثال» يُقدم مقالات لمواضيع وثيقة الصلة للنظرية الكيميائية التي تُناقَش، وقد ألحقنا هذا الجزء لنُساعد القارئ على القيام بعمليات ربط بديهية مع مفاهيم الكيمياء، وأن يمحو الفكرة القائلة بأن الكيمياء غيرُ موجودة بدرجةٍ ما في خبرات الحياة اليومية. خُذ على سبيل المثال، خبراتنا البسيطة مع قيادة السيارات؛ ما علاقة الكيمياء بالسيارات؟ كما هو جلي، ثَم الكثير بين الكيمياء والسيارات. سنُقدم طوال هذا الكتاب الكيمياء في مواقف متنوِّعة من أساليب الطهي وحتى طرق الكشف عن الجرائم، وسيصحبنا أول مثال في قسم الأمثلة، على سبيل المثال، في جولة سريعة حول موضوعات عدة سيجري تناولها في هذه الصفحات وتوضيحها باستخدام صورة للتكنولوجيا الحديثة، وهذه الصورة هي السيارة! يتكون كتاب «روعة الكيمياء» من جزأَين: يعرض أولهما المبادئ الأساسية للكيمياء، في حين يدرس ثانيهما بعض المجالات المتخصصة في الكيمياء التي تُطبَّق فيها هذه المبادئ. ويُقدم الفصل الأول والثاني من الجزء الأول التركيبَ الذري، بصحبة أفضل صديق للكيميائي وهو الجدول الدوري. ويُحدد التركيبُ الذري كما يعكسه الجدول الدوري تركيبَ المركبات الكيميائية، مثل تلك التي تشترك في تكوين هيكل وطاقة مُحرِّك الاحتراق الداخلي الذي يعتمد على البنزين. ويتماثل نوع التفاعل المسئول عن تشغيل هذا المحرك مع نوع التفاعل الذي يوفر المعدن الذي يدخل في تركيبه تفاعلات الأكسدة والاختزال — التي سوف نتناولها في الفصل الثالث. وسنشرح الارتباط بين الكيمياء وعوادم السيارات في الفصل الرابع الذي يُمعِن النظر في كيمياء الأحماض والقواعد. وسنختبر الكيمياء التي تسدُّ مُبرد (رادياتير) السيارة في الفصل الخامس لدى شرح تفاعلات الإزاحة. أما خواصُّ العديد من المواد التي تتكون منها السيارة فما هي إلا نتيجةٌ للروابط الكيميائية التي سوف نُناقشها في الفصل السادس. ويدور الفصل السابع حول التحكم في التفاعلات الكيميائية المختلفة التي تحدث داخل السيارة، والتي تَحكمها مبادئُ التفاعلات الكيميائية، وكذلك التنبؤ بنتائج هذه التفاعلات. وفي الفصل الثامن سنشرح خواصَّ شحوم التزييت المستخدمة في السيارات في ضوء القوى البينَجزيئية. ويدور الفصل التاسع حول تركيز المخاليط التي تُعنى بأنظمة مثل المخنقة والمبرد وحتى البطارية. أما في الفصلَين العاشر والحادي عشر فنتناول التفاعل الاحتراقي الذي يُحول الجازولين إلى غاز، وخواص الغاز التي تدفع المكبس حيث نِصفُ مرحلة الحالة الغازية للمادة والتفاعلات الخاصة بهذه المرحلة. ويتناول الفصل الثاني عشرَ وصف الحالة الصلبة للمادة وكيمياء السطح، ويدخل في نطاقه الصابون والمركبات الخافضة للتوتر السطحي والمستخدمة في عمليات غسيل وتشميع السيارات. ويغوص الفصل الثالث عشر، الذي يدور حول موضوع الديناميكا الحرارية، في المبرِّدات التي تُديرها السيارات. ويتركز موضوع الفصل الرابعَ عشر حول كل المعادن؛ إذ يبحث في التغييرات المرحلية للمواد النقية وللمخاليط. وبعد قراءة الفصل الخامس عشر حيث يُناقَش التوازن الكيميائي، سيكون القارئ أكثرَ قدرةً على استيعاب سبب تحول كل الجازولين إلى غاز. ويُمكن تطبيق الخواص المترابطة للمحاليل الموضحة في الفصل السادس عشر على إذابة الجليد المتراكم على الطرق، واستخدام موانع التجمد في مبردات السيارات. ويرتبط علم الحركة الكيميائي بطقطقة المحرك والمحولات التحفيزية، وهذا ما سنتناوله في الفصل السابع عشر. وتُلقي مناقشة الكيمياء الضوئية والكيمياء الكهربية الضوءَ في الفصل الثامنَ عشر على طلاء السيارات، ثم الطِّلاء بالكروم في المرحلة الأخيرة من الطلاء. وسوف نُلقي نظرة في الجزء الثاني من الكتاب على المجالات المتخصصة في الكيمياء، وسوف نرى أيضًا أن هذا المجال وثيق الصلة بالحياة اليومية، وبالقيادة اليومية للسيارات. ويتحدث الفصل الأول من الجزء الثاني عن الكيمياء العضويَّة التي عن طريقها يجري تحويل المزيج الغني بالبترول إلى بلاستيك وبوليمرات؛ بحيث يُمكن أن تُستخدَم في التجهيزات الداخلية للسيارات، إلى جانب صناعة العدد والخراطيم والإطارات. وتُواجه الكيمياء العضوية اليوم تحديًا من نوع جديد، يتمثَّل في تطوير المواد المتماثلة من موادَّ خام جديدة؛ سواءٌ كانت هذه المواد كُتلًا حيوية، أو موادَّ أُعيدَ معالجتها؛ مما يُعَد تحديًا مثيرًا وشيقًا لعلماء الكيمياء المبدعين. وكما سنرى في الفصل الثاني من الجزء الثاني فإن علماء الكيمياء غيرِ العضوية لديهم عدد كبير من المواد في الجدول الدوري ليختاروا من بينها، وهم في ذلك يُواجهون تحدياتٍ عظيمةً. وسيُفضي أخذ أعمالهم بعين الاعتبار بنا إلى مناقشةٍ عن الفوائد التي يُمكن أن نجنيَها من خلايا الوقود في المستقبل، وكيفية عمل منظفات مبرد السيارة في الوقت الحالي. وتتناول اهتمامات علماء الكيمياء الحيوية، كما هو مُسطَّر في الفصل الثالث من الجزء الثاني، أكثر العناصر خطورةً فيما يتصل بالسيارة وهو من يجلس أمام عجلة القيادة مباشرة ونعني به الإنسان، لكن المخاوف تنتابهم أيضًا بشأن مصادر المواد البديلة التي تُجنى من المحيط الحيوي والتحكم فيها. وندرس في الفصل الرابع من الجزء الثاني جهود الكيميائيين التحليليين، ونجد أن هذه النفوس الجسورة قد استمدَّت بعض الملامح من كل الأنظمة السابقِ وصفُها، وهذه هي وظيفة الكيميائيين التحليليين؛ أن تشهد بثبات وجودة الكثير من المواد بما فيها المواد المستخدمة في السيارات، وفي بعض المراحل تشهد بثبات وجودة الحياة البشرية، كما سنرى عندما ندرس إسهامات هذا المجال في كشف الجرائم تمامًا كإسهاماته في مجال السيارات. أما في الفصل الخامس فسنُحدِّق في كرتنا السحرية لنرى مستقبل الكيمياء، لنرى عالمًا مليئًا بالمصادر والمواد الجديدة، وبلا أدنى شك ستقود هذه الموادُّ الجديدة إلى اختراعات جديرة بالاعتبار، وبالطبع إلى سيارات جديدة! أمستعدون؟ لنُزِح الستار ونرَ …
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.10/
مقدمة
تُوصَف الكيمياء، شأنها في ذلك شأن الموسيقى والأدب، في ضوء عناصرها، وتحظى الكيمياء بنظرية تقوم على مبادئ أساسية. ومثل الموسيقى والأدب، ثَمة الكثيرُ من الكيمياء مما يُمكن النظر إليه باعتباره فنًّا أيضًا، ويُشبه النظرُ في الطبيعة النظرَ في المِرآة، ونحن نُفسر ما نراه في ضوء خبراتنا ومن منظورنا الخاص، وتُمثل مبادئ الكيمياء محاولة لرسم نظام معتمِد على الطبيعة، ويُمكن أن يُوسَم هذا النظام ببعض الغموض، وأن يكون قادرًا على ضم الشواذ للقاعدة. ولقد تغيرت عبر السنين الذخيرة الأساسية من النماذج والطرق الفيزيائية التي تسمح لنا أن نصف سلوك مجموعة كبيرة من المواد ذات المدى الكبير من الخواص ونفهمه ونتوقعه؛ لذا سوف نبدأ بأساسيات هذه النظرية، فعلى سبيل المثال، جميعنا يعرف أن الكيميائيين يستخدمون المقاييس، لكن أتعلم أنهم يُفكرون في الثمانيات الموسيقية أيضًا؟ سوف نعلم السبب، في الجزء الأول من هذا الكتاب.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.11/
تجربة ١: الساحرة والماء
لقد كان يُجري بعض الحسابات بلا توقف طيلة أيام، لكنها كانت جميعها بلا جدوى … وقد خلص أخيرًا إلى أن الطريق الوحيد لإثبات ذاته هو أن يخوض اللهب … وأن يُراقب خطواته ليكتشف فضائلها وزلاتها … ولكي يحصل على إجابة للسؤال الذي يُحيره ينبغي أن يكون لديه اللهب والخطر والدِّماء، حتى إنه ككيميائي يتطلب الأمر منه هذا وذاك وتلك. ولكي تستوعب فكرة الإلكترونات الساحرة؛ استمر في القراءة.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.1/
الإلكترونات والذرات، أو الفيلة والبراغيث
إنَّ عِلمنا لهو علمٌ حسِّي … لا يُلمح إيمرسون في الاستشهاد السابق إلى أن العلم مُتعلق بالحسِّ الجسدي، وإنما يعني أننا نبني نظريتنا العِلمية على مُدْخَلاتِ حواسِّنا الخمس؛ اللمس والتذوُّق والسمع والإبصار والشم، لكن عندما يتعلق الأمر بالنظريات التي تدور حول الذَّرة، تُخفِق حواسُّنا؛ فنحن لا يُمكننا أن نرى ذرة واحدة، أو نتذوقها أو نشعر بها أو نسمعها أو نشَمَّها، وإذا قام أحدهم بضربنا على رأسنا بذرَّة واحدة من التنجستين (وهي ذرة غاية في الضخامة بالنسبة إلى باقي الذرات)، فإننا لن نشعر مطلقًا. وما يجعلنا غيرَ مُدرِكين لوجود ذرة واحدة هو أن الذرة الواحدة غايةٌ في الصغر؛ فقد تصطفُّ نحوُ عشرة ملايين ذرةٍ مفردة لتصل إلى طول حبة الأرز، والأجزاء التي تتكون منها الذرَّة في منتهى الصِّغر. وتتكوَّن النواة أو مركز الذرَّة من البروتونات والنيترونات، ويُساوي نصف قُطر البروتون تقريبًا فيمتومتر الذي يُعادل واحدًا على كدريليون من المتر، أو لتبسيطها يُساوي نصفُ قطر البروتون واحدًا على مليون من واحد على مليار من المتر، يا له من حجم شديد الصغر! وتبلغ كتلة كلٍّ من البروتون والنيترون نحوَ واحدٍ على سبتليون من الجرام (واحد على تريليون من واحد على تريليون من الجرام)، وهذا حجمٌ شديد الصغر بأية معايير. وتقلُّ كتلة الإلكترون نحو ألفَيْ مرة عن كتلة البروتون والنيترون؛ فحجم الإلكترون بالنسبة إلى حجم البروتون كالبرغوث بالنسبة إلى الفيل، وبالطبع البروتون هو الفيل، وعندما تحسب كتلة الفيل، احذر من أن تُضيف كتلة البراغيث الموجودة على جسم الفيل، وكذلك الحال عندما نحسب كتلة الذرَّة، لا نُضيف إليها كتلة الإلكترونات. ويُسبِّب هذا التفاعلُ الذي يحدث بين الإلكترونات والمجال المغناطيسي تشويشَ صورة التليفزيون في حالة وجود مغناطيس، إذ ينحرف شعاع الإلكترونات الموجودُ في أنبوبة أشعة الكاثود، التي تُسبِّب حدوث التفسفُر (الوميض الفسفوري) على الشاشة، في وجود مجال مغناطيسي قريبًا منها، وبالطبع لا ينبغي للفرد أن يُقرِّب مغناطيسًا من شاشة التليفزيون، إلا إذا كان يستطيع الاستغناءَ عنه، فهذا التفاعلُ يُمكِنه أن يُسبب تلفًا دائمًا لمُكوِّنات الجهاز، أما إذا كان لدى الفرد جهازٌ يمكن الاستغناء عنه، فإنه سوف يستمتع أيما استمتاع بمشاهدة تأثيرات مثيرة. وقد استغرق الأمرُ وقتًا استمر حتى ثلاثينيَّات القرنِ الماضي لاكتشاف كلِّ أجزاء الذرَّة وهو ما يُبيِّن كيف كان الأمر عسيرًا، وحتى ظهور كل الأجزاء لا يزال لم يحلَّ اللغز بعد، فثمَّة سماتٌ أخرى للذرَّة — فضلًا عن حجمها — تُثير الحيرة، وإحدى هذه السمات كثافةُ النواة، وتُساوي كثافة المادة كتلة الحجم المُعطَى، فعلى سبيل المثال، يكون لمكيالٍ من الريش ولآخرَ من الحَصاة الحجمُ نفسُه، ولكن الكتل تختلف حتمًا. فمِكيال الحصاة أثقلُ من مكيال الريش؛ ومِن ثَم كثافته أكبر، وقد ذكرنا أن راذرفورد وجد أن الذرةَ محتشِدة بكثافة، لكننا لم نُصرِّح بمقدار هذه الكثافة، لقد اتضح أن النواة، مع أبعادها المتناهية الصغر، تحتوي على مليون تريليون جرام في السنتيمتر المكعب الواحد، وبمقارنة هذا بكثافةِ الرَّصاص على سبيل المثال — التي تقترب من أحدَ عشر جرامًا في السنتيمتر المكعب — نجد أن الفرق يَكمُن في أن النواة تتكون من جزيئات محتشدة قريبة بعضُها من بعض، في حين أن الذرة تكاد تكونُ فارغة. ويُمكِن تطبيقُ هذه المقارنة على الأرض والشمس، فإذا كانت نواةُ ذرَّة الرَّصاص هي الأرض، تُعادل المسافةُ إلى أقرب إلكترون تقريبًا المسافةَ التي بين الأرض والشمس، فسيكون الأمر كما لو وضَعت قطعًا صُلبة من الرخام، وحينما تضَع ذرَّاتِ الرصاص في وعاء، فإنك في الحقيقة تكون كمن يَصنع فقاعات من الفضاء الفارغ. والسؤال الذي قد يطرأ على الذهن على الفور هو: إذا كانت المادة تتكوَّن من فقاعات دقيقة، فلماذا إذن لا نسقط في بِرَك من الوحل؟ توجد إجابة غيرُ مُرضِية وهي أن الإلكترونات تبقى حيثما تكون؛ لأنها توجد في مَدارات حول النواة، لكن قد يعترض أحدُهم قائلًا: «إذا كان للإلكترونات شحنةٌ سالبة وللبروتونات شحنة موجبة، لماذا لا تتجاذب هذه الشحنات المختلفة ولماذا لا تَصطدم الإلكتروناتُ بالبروتونات؟» وكما هو واضح، هذا السؤال ليس سؤالًا تافهًا وإنما هو سؤالٌ يستحق الاهتمام. في أوائل القرن العشرين، أسهَم العالِمُ الشهير نيلز بور في الإجابة عن هذا السؤال عن طريق توضيح أن الإلكترون ما دام يتحرك يُمكن له أن يظل بعيدًا عن البروتون. ونستطيع أن نُجري تشبيهًا آخر بالأرض والشمس؛ تربط الجاذبيةُ هذَين الجسمَين معًا، إلا أن الأرض عن طريق التحرك في مدار خاص بها، يُمكِنها أن تستمرَّ في الانحدار نحو الشمس، لكنها لا تسقط فيها على الإطلاق. وبالمثل يُمكن تطبيق الصورة نفسِها على الإلكترون، فيُمكن أن نعتبر أن الإلكترون يدور حول النواة ومن ثَم ينجذب نحوها وليس فيها. ومما لا شك فيه، أن القارئ لاحظَ في الفِقرة السابقة بعضَ العبارات التقييدية، مثل «ساعد نيلز بور في الإجابة» ولم نقل: أجاب نيلز بور، و«يُمكن أن نعتبرَ أن الإلكترون يدور» وليس «يدور الإلكترون …»، وهذا المبدأ ضروري للغاية لأن التشابُه ليس سوى مجردِ تشابه، وهذا التشابُه يعمل فقط عند المستوى الأولي النظري، ويتراجع التشابهُ سريعًا عندما يتطلب الأمر أيَّ قدر من الدقة، ولن يكون لدينا أيُّ تشبيه غايةٍ في الدقة؛ لأن علم الفيزياء عند المستوى الذرِّي يختلف تمامًا عن علم الفيزياء الذي نُلاقيه في عالمنا اليومي الهائل. وهكذا، ومع هذا الرأي السابق فسوف نعرض بِنْية الذرَّة تمامًا كما هي مفهومة في الوقت الحالي، ولنُلاحظ أولًا الملامحَ الرئيسية التي تشيع معرفتها: تتكون النواة التي هي مركزُ الذَّرة من جسيمات مشحونة بشحنة موجبة تُسمَّى البروتونات وجسيمات منعدمة الشحنة متعادلة تُسمَّى النيترونات، أما الإلكترونات، كما هو معروفٌ للكافة، فهي جسيمات ذات شحنة سالبة تدور في مدارات حول النواة. وتَسوء المشكلةُ عندما يتعلَّق النقاش بأكثرَ من إلكترون، وهو ما يَحدث مع كلِّ عنصر يلي الهيدروجين، والإلكترونات هي جُسيمات لها شحنة، والجسيمات التي لها شحنة تَميل إلى أن ينجذب بعضُها إلى بعض إذا كان لها شحنات مختلفة، ويتنافر بعضها عن بعض إذا كان لها الشحنة نفسُها، وخيرُ مثال على هذا هو المجال المغناطيسي؛ فالأقطاب المختلفة للمغناطيس تتجاذب، والمتشابهة تتنافر. ويُصبِح الموقف أكثرَ غموضًا مع الذرة حيث لا تُوجَد تفاعلات شبه مِغناطيسية بين إلكترون وإلكترون، أو بين إلكترون وبروتون، لكنْ هناك كمٌّ هائل من الشحنات السالبة والموجبة التي يتفاعل بعضُها مع بعض. وقد شبَّه الفيزيائيُّ إنريكو فيرمي الحاصلُ على جائزة نوبل الموقفَ في إحدى المرات بقواربَ تتمايل في الميناء، فنحن نعلم بالبديهة أن حركة أحد القوارب تُؤثِّر على باقي القوارب الأخرى والعكس، لكن بطرقٍ غايةٍ في التداخل والتعقيد، لدرجة أنه لا يُمكن التنبؤ بالحركة الأخيرة لأي قارب من القوارب في أي وقت. ويُطلِق مَن يدرسون مثل هذه الأمور (علماء ميكانيكا الكَمِّ النظريون) على هذه المسألة اسم «مشكلة الجسيمات الثلاثة»، فحينما يكون لديك جُسيمان في وضع متحرك وينجذب أحدُهما نحو الآخر، يُمكنك أن تصف الموقف في معادلة، لكن حينما يكون لديك ثلاثةُ جسيمات بينها انجذاب وتنافر، وجميعُها في وضع متحرك يحدث الكثير جدًّا من الأشياء في معادلة واحدةٍ دقيقة، وتكمن المشكلةُ في أنه مع وجود إحدى السحب الإلكترونية واستطاعتنا الإشارة إليها وقياسها، فإننا لا نستطيع أن نتنبَّأ سلفًا بالمكان الذي سوف تستقرُّ فيه أو بالشكلِ الذي ستأخذه؛ فثَمة عواملُ كثيرة ومتغيرات عديدة، بعضها غير معروف أو لا يمكن التعرف عليه، فالمشكلة تكمن في لبِّ منهاج الاحتمالية المتعلق بالتركيب الذري. أعرف أن البعض سيراها مغالاة أن نصِفَ آلة التصوير بالمعجزة، أما الذين تعاملوا مع آلة نَسْخ الرسائل (الميموغراف)، فيكون مصطلح معجزة غيرَ مُعبِّر على الإطلاق. وتنتمي آلات التصوير إلى عصر المعلومات تمامًا مثل الحاسوب والهواتف الخلوية التي تعمل عن طريق الأقمار الصناعية، فمع التقدم في وسائل الرفاهية، والبرمجة الخاصة بآلات تصوير العصر الحديث، وأيضًا المزايا التي تُتيح للمرء نَسْخ وترتيب النسخ المصورة وتكديسَها، وتجليدَ الورق بسلك وتدبيسه بالدبابيس المعدنية وتخريمه؛ فإن التكنولوجيا التي تكمن وراء ذلك لهي غاية في الدقة. والمبدأ الرئيسي الذي تقوم عليه عملية التصوير هو التجاذب الإستاتيكي للشحنات. وتُعتبَر أجزاء ماكينة التصوير مألوفةً لكلِّ مَن استخدم هذه الآلة بأي قدر؛ لأن كلَّ من استخدم هذه الماكينة تعرَّض يومًا ما لمشكلة انحشار الأوراق، وتعيَّن عليه أن يَفتح الماكينة من أجل إزالة الورق المحشور، وإذا كنت بطريقة ما لم تتعرَّض لهذه الخبرة، فاذهَب ببساطة إلى إحدى الماكينات، وافتحها لتتعايش مع أجزاءِ عملها الداخلية: نجد داخل آلة التصوير أسطوانة تُسمَّى الدرام تلفُّ حول محور ثابت، ومصدرًا ضوئيًّا متحركًا، وحبيبات دقيقة من بودرة سوداء هي حبر مجفَّف، ومصدر تسخين، ونظامًا محكمًا للبكرات. أول خطوة في عملية النسخ هي اكتساب الأسطوانة لشحنة إلكتروستاتيكية متساوية وموزَّعة، وتَزيد الطريقة المستخدَمة في ذلك في براعتها قليلًا عن الطريقة التي تكتسب بها الملعقة شحنتها الكهربية الإستاتيكية في تجرِبة الساحرة والماء، لكن الفارق في الروعة بين الطريقتَين هو فارق طفيف، فعن طريق هذه الشحنات الإستاتيكية، تستطيع الأسطوانة أن تجذب مسحوق الحبر، تمامًا مثلما جذبت الملعقة الماء في تَجرِبة الساحرة والماء، لكن إذا كانت هذه هي آخرَ خطوة، عندئذٍ ستكونُ الورقة الناتجة ورقة سوداء تمامًا، وهو ما لا نَرْغب فيه بالطبع، ولإتمام عمليَّة التصوير يمرُّ ضوء ساطع جدًّا وقويٌّ تحت الورقة لكي تُصوَّر. ويُستخدَم الضوء لأنه يتفاعل مع المادة بطريقة مستمرَّة كما سنرى، ففيلم الكاميرا يتفاعل مع الضوء ليُكَوِّن الصورة، وتُسجل أجهزة الاستشعار الرقمية مستوياتِ الضوء في الكاميرا الرقمية، ويكتشف المجسُّ الضوئي وجودَ شخص في شعاع الضوء، فيسمح للباب بأن ينفتح، ويُمتصُّ الضوء عندما يَصطدِم بجزء مُظلِم من الورقة، لكن عندما يَصطدم بجزء أبيض من الورقة ينعكس الضوء على الأسطوانة، والمادة المبطَّنة للأسطوانة مادة موصلة للضوء بمعنى أن الضوء سيجعل المادة الداخلية تطرد إلكترونًا، وكلما طُرِدَ إلكترون من داخل الأسطوانة تعادل مع الشحنة الإستاتيكية الموجودة على سطح الأسطوانة في هذه البقعة فحَسْب، ويتزامن دَوران الأسطوانة مع حركة الضَّوء تحت الورقة؛ ومن ثَم تنتقل الصورة المسطحة إلى السطح المنحني للأسطوانة. وتقذف الأسطوانة المعرَّضة للضوء بالحبر بعد ذلك، فينجذب إلى أجزاء الأسطوانة التي لا تَزال مشحونة، عندئذٍ تُمرَّر قطعة من الورق ذات شحنة إستاتيكية فوق سطح الأسطوانة، فتجذب الحبر بعيدًا عن الأسطوانة، وتُسخَّن الورقة لِيثبت الحبر عليها، فنحصل على صورة من الورقة. وإذا كان المبدأ وراء فكرة آلة تصوير الورق — وهو انجذاب المواد إلى الشحنات الإستاتيكية — مبدأً أساسيًّا ومفهومًا جيدًا، فلماذا إذن استغرَق كل هذا الوقت لإنتاج آلة تصوير مستندات عملية؟ الإجابة هي الإجابة نفسُها التي تُصاحب مثل تلك النوعية من المخترعات، والتي تتمثَّل في أن المفهوم الأساسي موجود منذ وقت طويل قبل وجود المواد اللازمة لتنفيذ الفكرة. فعلم المواد هو فرع من فروع المعرفة قائمٌ بذاته، ويَرجع ذلك إلى الوجود الفعلي إلى عدد لا نهائي من الخواص المتنوعة للعناصر وللمواد المشتقة من هذه العناصر. فعلى سبيل المثال، فكِّر في التنوُّع الذي يُظهره سلوك عُنصرَي الألمنيوم والنُّحاس (كلاهما يستخدم في الأسلاك الكهربائية)، ومسامير الصلب والمسامير المطليَّة بالخارصين (كِلاهما يُطرَق من على الرأس). وسنعرض في الفصل التالي الاختلافات على الجدول، ونقصد بالطبع الجدولَ الدوريَّ للعناصر.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.12/
تجربة ٢: النحاس واللصوص
أنت القادر على كل شيء، أنت وإزموندو. أنا لا أعني إزموندو وحده ولا أعنيك أنت وحدك. إنما أعنيكما معًا … مثل بعض المخاليط الكيميائية. كن حذرًا في هذه التجرِبة؛ فالمحلول الذي سوف تُحضره محلولٌ كاوٍ، ويُمكن أن يُلحق ضررًا بالملابس والأسطح والعين والبشَرة، وإذا سقط بعضٌ من المحلول فيجب عليك أن تغسل المنطقة التي سقط فيها السائل على الفور بمياهٍ كثيرة، أما إذا دخَلَت قطرات من المحلول في عينَيك فاغسل عينَيك جيدًا بمياه غزيرة، وحاول الحصول على الرعاية الطبية. في هذه التجرِبة يتحتَّم عليك أن تُوفِّر الحماية المناسبة لعينَيك. ارتدِ نظارة الأمان الواقية، وقفَّازات الحماية. في الجزء الأول من التجرِبة، خذ كوبَين بلاستيكيَّين واملَأْهما بالماء حتى ارتفاعِ بوصة واحدة (٢٫٥سم). اقطع بوصة (٢٫٥سم) من سلك ألمنيوم وبوصةً من سلك نُحاس، وأزِل السلك العازل من عليهما إن وُجد. ضع سلك الألمنيوم في أحد الكوبَين وسلكَ النُّحاس في الثاني. أضف نصف ملعقة شاي (٢ مليلتر) من اللي (محلول قلوي لصنع الصابون) — المذكور في قائمة المشتريات والمحاليل، التي نُصِح فيها بشراء بِلَّورات التنظيف الجافة التي لا تحوي فلزَّ الألمنيوم — ثم قلِّب الكوب برفق حتى يمتزج، تظهر بعض الفقاعات الصغيرة الناتجة عن انحلال اللي. بعد مضيِّ مدة زمنية قصيرة تتراوح من خمسَ عشرة إلى عشرين ثانية، ينبغي أن يظهَر سيلٌ من الفقاقيع الصغيرة جدًّا من سلك الألمنيوم، وليس من سلك النحاس. ومن الواضح أن أسلاك النحاس والألمنيوم متشابهة؛ فكلاهما يُستخدَم في الأسلاك الكهربية، لكننا نرى الألمنيوم يذوب في هذا المحلول القلوي، ولا يذوب النحاس. والفقاعات التي لاحظتَ تصاعُدها في عملية انحلال الألمنيوم هي الهيدروجين، مما يُفسِّر لماذا نُضيف رقائقَ الألمنيوم الدقيقة إلى بعض مواد التنظيف الجاف التي يكون اللي هو المادة الأساسية فيها، إذ تُوَفِّر رقائق الألمنيوم المحفزاتِ التي تُساعد على إزالة الانسدادات. استمرَّ في ارتداء النظارة في الجزء الثاني من هذه التجرِبة. خذ محلول كبريتات النُّحاس المعدِّ كما هو مشار إليه في «قائمة المشتريات والمحاليل»، وصُبَّ نحو ربع بوصة (٠٫٥سم) أو أقلَّ في كوب بلاستيكي. ضع مسمارًا من الصلب وآخرَ مطليًّا بالخارصين، وراعِ ألَّا يتلامسَ أحدهما مع الآخر. تعلو المسمارَين طبقةٌ نُحاسية من محلول النحاس، لكن التفاعل يحدث أسرعَ مع مسمار الصلب، بل يبدو شكلُ الطبقة النحاسية التي عليه مماثلًا للنحاس أكثر من تلك التي على المسمار المطلي بالخارصين. وغالبًا ما تكون مسامير الصلب من الحديد، أما المسامير المطلية بالخارصين فهي مساميرُ من الصلب مطليةٌ بطبقة من الخارصين المقاوم للأكسدة، وكلتا المادتَين تُؤدي الوظيفة الفيزيائية للأسطح المقاومة للأكسدة، لكن تركيبهما الكيميائي، كما هو محدد بموقع الحديد والخارصين في الجدول الدوري، يعتمد على اختلاف السلوك الكيميائي كما هو مبيَّن هنا.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.2/
تحدث دوريًّا
لا يستطيع ذلك الجيش أن يتعافى في أي مكان؛ فمنذ معركة بورودينو وخراب موسكو وهو يحمل في نفسه ما يُشبِه عناصر الانحلال الكيميائي. عند التقاط صورة للعائلة عندما يلتئم شملها، قد يطلب المصور أن يقف أفراد الأسر المباشرة بعضهم مع بعض أو يُرتِّبهم حسَب أطوالهم أو أعمارهم، وربما يطلب المصور المبالغ في الاهتمام بالتفاصيل أن يقف أولئك المقيمون في الساحل الغربي في جانب، وأولئك المقيمون في الساحل الشرقي في الجانب الآخر، ويجعل أولئك القاطنين في الشمال يقفون قليلًا إلى الخلف، والقاطنين في الجنوب إلى الأمام. قد تأخذ مثل هذه الترتيبات بعضًا من الوقت والجهد، لكنها ستضمن أن الأجيال القادمة سوف يتبيَّنون قدرًا لا بأس به من المعلومات عن فرد معين بإيجاد موقعه أو موقعها في الصورة. وهكذا، يشبه الجدول الدوري الصورة الملتقطة لاجتماع العائلة؛ فبمجرَّد فَهْم مبدأ الترتيب، يمكن الحصول على معلومات معينة عن عنصر معين بمجرد معرفة موقعه في الجدول. ولكي يتمكَّن من تنظيم العناصر كتب مندليف كلَّ سلوك العناصر التي يُلاحظها في بطاقات، ثم صنف هذه البطاقات إلى مجموعات؛ تبعًا للسلوك المتشابه، وبعدئذٍ أضاف مندليف مستوًى آخرَ من التصنيف، وأخذ يُصنِّف العناصر تبعًا للكتلة المميزة للعناصر. غالبًا ما يُسْتَخدم مصطلح الكتلة والوزن بمعنًى واحد، لكنَّ ثمَّة فرقًا خفيًّا ومهمًّا في الوقت ذاته؛ فوزنُ الشيء هو قياسُ مقدار القوة التي تجذبه بها الجاذبيةُ الأرضية نحو الأرض، ولأن جاذبية القمر أقلُّ من جاذبية الأرض، نجد أن الأشياء تَزِن أقلَّ على سطح القمر. وتُقاس الكتلة وفقًا لميزانٍ يرتبط ببعض المعايير، وبالنظر إلى «تمثال العدالة العمياء» الذي يرمز إلى سيادة القانون، نجده امرأةً معصوبة العينَين تحمل مثل هذا الميزان. ولقياس كتلة المادة، نضع المادة في إحدى كِفَّتَي الميزان ونضع معيارًا لكتلة معروفة في الكفَّة الأخرى إلى أن تتساوى الكفَّتان، ولأن الجاذبية تُؤثِّر على المعايير بنفس الطريقة التي تُؤثر بها على الشيء المراد قياسُه؛ ومن ثَم تكون الكتلة المقيسة على الأرض مُساويةً تمامًا لتلك المقيسة على سطح القمر. وكان يُعرَف في وقت مندليف أن العناصر يتَّحد بعضُها مع بعض بنِسَب محدَّدة مثلما تتَّحد المكونات في أثناء الطهي، فمثلما قد تتطلَّب طريقة صنع الكعك بيضة وكوب لبن، فإن طريقة صُنع مِلح الطعام تتطلَّب جزءًا من الصوديوم وجزءًا من الكلور. وكانت كتلة الجزء الواحد من الصوديوم تُؤخَذ باعتبارها الكتلةَ المميزة للصوديوم، وهي الكتلة المميزة لكلِّ عنصرٍ استخدمه مندليف في المرحلة الثانية من الترتيب. وقد رتَّب باحثون آخَرون العناصرَ في مجموعاتٍ طبقًا لكُتَلها المميزة، لكن كانت لمندليف جَسارةٌ في الاحتفاظ بمجموعاتٍ لها نفسُ السلوك الكيميائيِّ بعضها مع بعض، حتى وإن كان نتيجة ذلك تَرْك بعض الفراغات في الجدول، وما لبثت البصيرةُ النافذة لمندليف أن كشفَت عن نفسها عندما وجَد آخرون العناصرَ المفقودة ووجَدوا أنها تتناسبُ وفراغاتِ جدول مندليف. وبعد مُضيِّ عدة عقود — بعدما كشَف باحثون آخرون عن لُغز تركيب الذَّرة — وجدوا أن اتجاهات تركيب الذرة تتبع ترتيب الجدول الدوري، مُعلِنين بذلك الارتباطَ بين التركيب الذري والسلوكِ الكيميائي. ويبدو أن المفهوم قد أصبح واضحًا بعد الإدراك المتأخِّر له؛ فسلوكُ كلِّ الأشياء، من السمكة إلى وَميض الضوء، تُحدِّده الطريقة التي وُضِعَت بها هذه الأشياءُ معًا، لكن التركيب الأساسي للذرات — الإلكترونات والبروتونات والنيترونات — لم يكن معروفًا حينما رتَّب مندليف جدوله. وأيًّا كان الشكل الذي تختار أن تستعين به، فالسِّمة اللافتة للنظر في الجدول الدوري هي نظامُ ترتيبه؛ ففي عالَمٍ مثل عالمنا هذا حيث السحُب المتغيرةُ الأشكال، والأشجارُ التي تنمو أفرعها على نحوٍ عشوائي، والخلايا التي لا يوجد اثنتان منها مُتشابهَتَين، أو تتماثل فيه كُتلتان جليديَّتان، قد يبدو ترتيبُ الجدول الدوري الحاذق أمرًا خارقًا للطبيعة مثل الطقوس الدينية الشديدةِ الصرامة. إلا أن هذا النظام البُدائي الذي يُمكنه أن يُحيل الأمور المعقَّدة إلى أمور فوضوية (أرجأنا النقاش في مثل هذا الأمر إلى الفصل الذي يتحدث عن الديناميكا الحرارية)، يُشكِّل القواعد الأساسية لعالمنا المتغير. وعليك أن تبدأ من مكانٍ ما، وعندما تعلَّق الأمر بالكتلة بدأ العلماء بالبروتون، وقد عرَّف العلماء البروتون بأنه كُتلة وحدة واحدة للكتلة الذرِّية أو: و ك ذ ويُفترَض أن كتلة النيترون وحدةٌ واحدة للكتلة الذرية أيضًا؛ وذلك للاقتراب الشديد بين البروتون والنيترون في الكتلة، ودائمًا يكون عدد البروتونات في ذرَّة العنصر هو عددَها الذري نفسَه ومُساويًا له؛ فإذا كان للذرة سبعةَ عشَر بروتونًا، فإنَّ عددها الذري يكون ١٧، وهو عنصر الكلور. وإذا كانت الذَّرة هي ذرةَ كلور، فهي تحوي إذن ١٧ بروتونًا، ولكن يُمكن أن تتنوَّع كتلة الذرة المعطاة لعنصر ما؛ وذلك لأن عدد البروتونات وعدد النيترونات يحددان كتلة الذرة، ومن الممكن أن يتغير عدد النيترونات؛ فعلى سبيل المثال، تحوي كلُّ ذرة كلور ١٧ بروتونًا، لكن بعض الذرات تحوي ١٨ نيترونًا، والبعض الآخر يحوي ٢٠ نيترونًا، فيكون مُجمل كتلة ذرة الكلور التي تحوي ١٨ نيترونًا هو ١٧ و ك ذ بالإضافة إلى ١٨ و ك ذ أي ٣٥ و ك ذ بالإضافة إلى ٢٠ و ك ذ أي ٣٧ و ك ذ وعندما تكون لذراتِ عنصر ما كتلٌ مختلفة، يُطلَق عليها اسم «النظائر». وتكون الكتلة الذرية للعنصر المعطى هو متوسط كتلة نظائره. ويُمكن تشبيهُ عدد البروتونات في الذرة بنوعٍ من الخصائص التي تُميز الإنسان بكونه ذكرًا، فإذا كان لأحدهم هذه الخصائصُ يكون ذكرًا، كذلك إذا كان لذرَّةٍ عددٌ معين من البروتونات، فإن ذلك العدد هو الذي يُحدد هُويةَ ذلك العنصر، لكن الذكور المختلفة لها كتلٌ مختلفة، لكننا نستطيع بسهولة ويُسر أن نُوجِد متوسطَ كتلة مجموعة من الرجال بواسطة جمعِ كلِّ كُتلِهم الفردية معًا، ثم نَقسم الإجمالي على عدد الرجال في هذه المجموعة، وبالمثل، يمكن اتباعُ نفس الإجراء مع عناصر الجدول الدوري. وكما نرى في الملحَق، كتلة الكلور المعطاة هي ٣٥٫٤٥ و ك ذ التي لا تُمثِّل حتى كتلة أي نظير، وهي تُمثِّل متوسطًا أعلى من الكتلة المعتادة للنظائر، غير أن عدد البروتونات هو الذي يُحدِّد نوع العنصر، وعليه، مع أن النظائر قد يكون لها أعدادٌ مختلفة من النيترونات وكتلٌ مختلفة، فإن العدد الذري هو الذي يُخبِرنا بعدد البروتونات، وعدد البروتونات هو الذي يُحدِّد نوع العنصر، والعدد الذي تلحظ زيادته وأنت تطَّلِع على الجدول الدوري هو العدد الذري وهو عدد البروتونات نفسُه. لكن إذا كان لا يُوجَد مبدأٌ يقوم عليه التصنيفُ غير عدد البروتونات في النَّواة، لماذا إذن ذلك الشكل المثير للفضول في الجدول الدوري؟ يُعزَى ذلك إلى أن ترتيب الجدول يهتمُّ بما هو أكثرُ من عدد البروتونات. وتُصنَّف الكائنات الحية في علم الأحياء إلى ممالكَ وشُعَب وطوائفَ ورُتَب وعائلاتٍ وأجناس وأنواع، وتُصنَّف العناصر في الكيمياء أيضًا — وإن كان إلى عددِ فئاتٍ أقلَّ — وما يَعْنينا هنا هو تصنيف العناصر إلى ما يُطلَق عليه «أنواع» مختلفة، وعدد البروتونات هو ما يُحدد نوع العنصر؛ ومن ثَم يُمكن النظر إلى العدد الذري على أنه «النوع»، فإذا كانت الذرة تحتوي على بروتونَيْن فهذا يعني أنها لعنصرِ الهليوم، وإذا كانت الذرة هي ذرَّة هليوم إذن هي تحوي بروتونَين. فهذا أمرٌ ثابت لا يتغير، غير أن عدد الإلكترونات في ذرة العنصر يُمكن أن يتبايَن ويُمكن اعتبارُ أيِّ تبايُن «نوعًا»، ويكون عددُ البروتونات هو عددَ الإلكترونات نفسَه في الأنواع المتعادلة من الذرات. ويحمل البروتون وَحدةً واحدة من الشحنات الموجبة؛ لذا لكي تُصبح الذرة متعادلة، ويجب أن يُعادل هذه الشحنةَ الموجبة إلكترونٌ له شحنة سالبة؛ لذلك، يُخبرنا الجدول الدوري أيضًا بعدد الإلكترونات الموجودة في ذرة العنصر؛ فعلى سبيل المثال، يحتوي الهيدروجين على بروتون؛ لذا تحتوي ذرة الهيدروجين المتعادلة على إلكترون أيضًا، وتوجد في نواة الكربون ستةُ بروتونات؛ لذا تُوجَد في ذرته المتعادلة كهربيًّا ستةُ إلكترونات. ومن ثَم تُحدد الطبقاتُ شكل الجدول الدوري، لكن ليس هذا كل شيء فلا يزال هنالك المزيدُ لِنَسرده؛ فهناك أثرٌ آخر ذو مغزًى من وجود الطبقات، ألَا وهو أن الانشغال أو الانشغال الجزئيَّ للطبقات هو الذي يُحدِّد السلوك الكيميائي أو «النشاط الكيميائي» للعناصر المتنوِّعة. والأعمدة الرأسية في الجدول الدوري هي لمجموعةٍ من العناصر التي لها حالاتٌ متشابهة من حيث انشغالُ طبقاتها الخارجية، فهي أعضاءٌ في نفس العائلة، ولكن العائلات التي تتشارك الكيمياء، وليست تلك التي تتشارك الأسلاف! فعلى سبيل المثال، يكون لكلٍّ من الهليوم والنيون والأرجون طبقاتٌ ممتلئة، وتُعرَف هذه العناصر التي تُوجَد في صف عمودي بالغازات النبيلة؛ لأن لها طبيعةً رصينة وهامدةً وخاملة، ويُجسِّد الهليوم فَقْرها إلى النشاط الكيميائي، وهو عنصرٌ غاية في الخمول، حتى إننا نَستخدم بالونات الهليوم في تزيين الحفلات، ومن ناحية أخرى، يتَّسِم الهيدروجين بشدةِ نشاطه؛ لذا قد تجلب بالونات الهيدروجين في الحفلات تسليةً تُصاحبها أصواتٌ مدوية أكثر من تلك التي نكترث لها. وتتشابه تفاعلاتُ النيتروجين والفسفور؛ لأن لهما العددَ نفسَه من الإلكترونات في طبقتَيهما الخارجيَّتَين (خمسة إلكترونات). وتُشبه تفاعلات الأوكسجين تفاعلات الكبريت لتشاركهما في نفس عدد انشغالِ طبقاتهما الخارجيتَين (ستة إلكترونات). ويُسمَّى هذا الانشغال للطبقة الخارجية للذرة «تكافُؤَ الذرة». فتكافؤ الكربون هو ٤ (بسبب وجود أربعة إلكترونات في طبقته الخارجية)، وهو يتَشابه في بعض الخواصِّ الكيميائية مع السليكون الذي يكون تكافؤه ٤ أيضًا. وتُستخدَم عناصر السليكون والجرمانيوم والقصدير والرَّصاص التي لها التكافؤ نفسُه وهو ٤، ولكن بنسبةٍ مختلفة في تكوين أشباه الموصلات، وفي تكوين موادَّ مثيرةٍ وهامة، وسنتعرَّض لذلك فيما بعدُ عند مناقشة الروابط الكيميائية. ويتفاعل الأوكسجين مع الهيدروجين بنسبة واحد إلى اثنين، وكذلك الكبريت والسيلنيوم والتيلوريوم، ويَضْطلعُ النشاط الكيميائي — الذي هو قدرة العناصر على الترابط كيميائيًّا في مركَّبات — بمُهمة تحويل عناصر الكون إلى موادِّ الأرض التي هي في النهاية موادُّ الحياة. ومع أنه علينا أن نُقلِع عن الإسهاب في مناقشتنا حولَ جزيئات الحياة المعقَّدة حتى تتوافرَ أسُس أكثرُ متانةً، فإن لدينا بالفعل معلوماتٍ كافيةً لمناقشة اثنتَين من أهم المواد الكيميائية في الحياة، وهما يُعَدان بلا أدنى شك من المواد الأساسية في الحياة التي تتكون منهما الموادُّ الأخرى، وهما الملح والماء؛ فالحياة الأولى تكوَّنَت في المحيطات المالحة كما هو موضح في المحاليل الملحية في خلايانا، وكما هو دائمًا جليٌّ في الطبيعة الملحية لأجسامنا. والملحُ مركَّب يتكوَّن من فلزٍّ ولا فلز؛ ومن ثَم يتفاعل الصوديوم وهو عنصرٌ فلزي مع الكلور، وهو عنصر لا فلزي؛ ليُكَوِّنا كلوريد الصوديوم المعروف لدينا بملح الطعام. وتتركَّب الوصفة الثابتة لكلوريد الصوديوم من ذرة صوديوم وذرة كلور، والأساس في هذه النِّسب الدقيقة هو الطبقات أيضًا وهو ما سنخوض في شرحه الآن. وتتحدَّد كتلة الذرة وفقًا لعدد البروتونات والنيترونات في نواتها، كما ذكَرنا من قبل، ولا تُضيف الإلكترونات، كما ذكرنا أيضًا، فعليًّا شيئًا إلى الكتلة، كما لا تُضيف البراغيث شيئًا في الواقع إلى كتلة الفيل، لكنها تُؤثر على سلوك الفيل مع أنها صغيرة الحجم؛ لأنها براغيث، كذلك الإلكترونات تُحدد السلوك الكيميائي للعنصر مع أنها صغيرة، فعندما تكتسب الذرَّة إلكترونًا أو تفقد آخر، فإنها تُصبِح في حالةٍ من عدم اتزان الشحنة وتصبح «أيونًا»، فيُعَد هذا الأَيُون نوعًا جديدًا لهذا العنصر؛ فذرَّة العنصر التي تحتوي على عددٍ من الإلكترونات أكثرَ من عدد البروتونات هي نوع مشحون بشحنة سالبة أي أيون سالب، وتُعتبَر ذرَّة العنصر التي بها عددُ إلكترونات أقلُّ من البروتونات نوعًا مشحونًا بشحنة موجبة، أي أيون موجب، والأيون هو نوعٌ تفاعلي كما لو كان في حالةِ بحث عن شيء في الشحنة المضادة ليتَّحد معه. وقد يبدو للوهلة الأولى أن أية كمية من الشحنات يمكن أن تُكتسَب أو تُفقَد وأن أي أيون يمكن أن يتكون، لكنه قد اتضح أن كلَّ عنصر يُفضل أن يتعامل مع كمية معيَّنة من الشحنات يمكن التنبُّؤ بها، أو يُمكِنك القول إنه نوعٌ من مستوى التأيُّن الذي يمنح العنصر الراحة عند التعامل معه، وهو المستوى الذي يُمكِن التنبُّؤ به عن طريق الجدول الدوري. وتمتلئ الطبقة الأولى (الصف الأول) بإلكترونَين، وتحتاج الطبقة الثانية إلى ثمانية إلكترونات، وتسَع الطبقة الثالثة ثمانية عشر إلكترونًا، وهكذا. ولقد ذكَرنا من قبلُ أن الغازات النبيلة غيرُ متفاعلة/غير نشطة، ومع ذلك، فقد اتضح أن طبقاتها ممتلئةٌ أيضًا، ويُعتبَر أول مبادئ «نظرية طبقات الذرة» — النظرية القائلة إن السلوك الكيميائي يعتمد على عدد الإلكترونات في الطبقات — وأكثرُها جوهريةً هو المبدأ القائل إن الذرة تَميل إلى أن تكتمل طبقاتها امتلاءً، وثمَّة حافز مُلِح للتفاعلات الكيميائية هو أن الذرة تَميل إلى أن تمتلئ بالحمل الإلكتروني أو تُفرِّغه بأيٍّ من الوسائل المتاحة إلى أن تصل إلى هذه الحالة السعيدة؛ ومن ثَم تميل ذرَّة الكلور ذات السبعة إلكترونات في طبقتها الخارجية إلى أن تكتسب إلكترونًا؛ ومن ثَم يُصبح لديها ثمانيةُ إلكترونات، وتمتلئ طبقتها الخارجية. ويفقد الصوديوم إلكترونَه الخارجي ومن ثَم يكون له طبقة ممتلئة بثمانية إلكترونات. في حقيقة الأمر، غالبًا يقع الاختيار على الرقم ثمانية للترتيب المستقرِّ للإلكترونات، ونحن نُشير إلى ترتيب الطبقة الخارجية المكتملة والمستقرَّة تلك بالثمانيات؛ ومن ثَم يكون للموسيقيِّين ثمانيتُهم وللكيميائيين أيضًا ثمانيتُهم، لكن المفهوم يَشوبه بعضُ الغموض لدى الكيميائيِّين؛ إذ تتكون الطبقة الخارجية المكتملة للهيدروجين على سبيل المثال من إلكترونَين؛ ومن ثَم تكون ثمانيته ثنائية، فهو فعليًّا ثنائيٌّ (لحن ثنائي)، وليس ثمانيًّا! هذه هي المعادلة على طبق من فِضة أو على طبقة ذرِّية إذا رغبت. ويُعزَى غِنى الهواء الشديد بالنيتروجين أكثرَ من الأوكسجين إلى سبب كيميائي، ألا وهو قلة النشاط الكيميائي للنيتروجين، مما يجعله يُشارك في أنواعٍ محدودة من التفاعلات الكيميائية أقلَّ من الأوكسجين، فضلًا عن أن غاز النيتروجين مستقرٌّ في الجو مما يُعرِّضه لأشعة الشمس وهو ما لا يحدث مع الأوكسجين، ولكن لا يعني القول إن غاز النيتروجين أقل نشاطًا من غاز الأوكسجين أن النيتروجين غير نشط، ففي حقيقة الأمر النيتروجين نشط جدًّا، ويستدل على ذلك من عدد المواد والمخاليط التي تحوي النيتروجين كمُكوِّن أساسي لها. فعلى سبيل المثال، النيتروجين مكون أساسي في البارود، علاوة على أنه يُعتبر مكونًا أساسيًّا في الأحماض الأمينية الضرورية للحياة كما نعلم. وتُعطي مركبات النيتروجين اللونَ البُني المحمَرَّ للدُّخان، ويوجد حامض النيتريك في الأمطار الحامضية، ويُستخدَم سائل النيتروجين في إزالة البثور، ونفس النيتريتات التي تُستخدم لحفظ الطعام تُسبب السرطان للفئران، وتقوم مركبات النيتروجين بمسئولية إيجاد تُربة خِصبة غنية بالنيتروجين، وأيضًا بمسئولية نمو البكتيريا التي توجد عند حدوث مرض طفح الحفاض عند الأطفال، وتدخل بعض مكونات النيتروجين في المنظفات القوية، في حين يُعتبر البعض الآخر مصدرَ روائح تُضاهي في كراهيتها روائح السمك السيئة. والغاز المضحك الذي يُستخدَم مُخدِّرًا لقلع الأسنان بلا ألم هو أحد أكاسيد النيتروجين، في حين أن مادة اﻟ «تي إن تي» وهو اختصار لثلاثي نترات التولوين هي مادة غيرُ بنَّاءة. وعلى الصعيد الفسيولوجي، شكَّلَت مركبات النيتروجين النشطة — مثل الكافيين والنيكوتين والموروفين والكوديين والكينين (مادة شبه قلوية شديدة المرارة تُعالج بها الملاريا) — تاريخ البشرية. ويُشارك النيتروجين في الكيمياء التي تُهدِّد الحياة بالمتفجرات المخصَّبة بالنيتروجين، وأيضًا في الكيمياء التي تحمي الحياة عن طريق الوسائد الهوائية الممتلئة بالنيتروجين؛ فالنيتروجين مادة تُسبب دمارًا شاملًا ونفعًا تامًّا في الوقت نفسِه، كيف يكون هذا؟! ولفهم براعة النيتروجين نحتاج إلى أن نُلقي نظرة أخرى على الجدول الدوري، وبالنظر على موقع النيتروجين نجد أن هناك طريقتَين يُمكن بهما الحصولُ على طبقة ممتلئة: إما باكتساب ثلاثة إلكترونات والوصولِ إلى طبقة مكتملة العدد، كما ذكرنا من قبل، وإما بفقد خمسة إلكترونات والوصول إلى طبقة مكتملة العدد أيضًا. وكما يتضح، ثمة بعض المواقف الوسطية مثل فقد ثلاثة إلكترونات فقط، فهذا مقبولٌ للنيتروجين أيضًا؛ ومن ثَم يُمثِّل النيتروجين شخصيات عديدة، ويُمكنه أن يخضع للعديد من التحولات. وسنُواصل التعلم عن تعدد براعة النيتروجين وما تبقى من الجدول الدوري في الصفحات القادمة. نحن نستخدم المقياس اللوغاريتمي لقياس وفرة العناصر؛ لوجود فرق شاسع بينها، فتُشبه محاولة مقارنة مدى انتشار العناصر، في غياب هذا المقياس، محاولة رسم جودزيلا (وحش عملاق) إلى جانب فأر في نفس الإطار (وقد يكون هذا سببَ عدم وجود فيلم يُمكن أن يحمل عنوان: «جودزيلا يتحدى الفأر الخارق»). فناطحة السحاب في الفيلم يُمكن أن تظهر بجانب جودزيلا وليس الفأر. ولن نَشْغل أنفسنا بدقة الأرقام هنا، نحن نريد فقط أن نشعر بالانتشار النسبي للعناصر، وهذا يُمكن تمثيله جيدًا بواسطة الدوائر. ثمة قفزة بعد الهيدروجين والهليوم إلى الكربون، ويُعزى ذلك إلى أن الأنوية المركزية تكون غيرَ ثابتة على نحوٍ لا يسمح لها أن تتكوَّن في غضون عملية الاندماج النووي، وتحوي ذرة الهليوم بروتونَين في نواتها، والكربون لديه ستة بروتونات في نواته؛ لذا يمكن أن تتكوَّن ذرة كربون من اندماج ثلاث ذرات هليوم، وهي عملية تتطلب حرارة وكثافة شديدتَين لنجوم ضخمة. يعقب هذا تفضيلٌ مميز للنواة التي بها عددٌ زوجي من البروتونات في نواتها، فالأوكسجين به ثمانية بروتونات في نواته والنيون به عشرة بروتونات والماغنسيوم به اثنا عشرَ بروتونًا … وهكذا. ويمكن شرح هذا التفضيل في ضوء نظريات الفيزياء الذرية، لكنه ليس موضوعنا الآن. وقد لاحظنا أن العناصر الضرورية للحياة مثل الهيدروجين والكربون والنيتروجين والأوكسجين والصوديوم والماغنسيوم والفوسفور والكالسيوم والحديد، وهلم جرًّا، توجد جميعها في الشمس أيضًا. ويُوضِّح الثراء النسبي لعناصر الألمنيوم والسليكون مقارنة بالحديد والنيكل حدوثَ تغير في الاتجاه لمصلحة العناصر الأخف؛ لأننا ننظر إلى قشرة الأرض فيتضح لنا أن العناصر الثقيلة، نتيجةً للتغيرات المناخية الشديدة على مر العصور، قد اتجهت نحو باطن الأرض، أما العناصر الأخف فقد ارتفعت إلى القمة.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.13/
تجربة ٣: كيمياء منضبطة
تلتهم النيران الأرضية الأشياء أيضًا بدرجة سريعة إلى حدٍّ ما، تتوقف على مدى قابلية الشيء نفسِه الذي تُداهمه النيران للاحتراق؛ ومن ثَم نجحَت العبقرية البشرية في اختراع مستحضَرات كيميائية لكبحِ نشاط النيران أو تثبيطه. ارتدِ نظارة الأمان الواقية. اغرف ملعقتَي طعام (٣٠ مليلترًا) من محلول خلات الحديد (محلول الخل مضاف إليه الصوف الفولاذي المُنحل المُدرَج في «قائمة المشتريات والمحاليل») في طبق بلاستيكي رقيق. أضف ملعقة شاي (٥ مليلترات) من النشادر. ينبغي أن يتحوَّل لون المحلول الناتجُ من اللون البرتقالي المائلِ للبني إلى الأخضر الداكن. الآن صُبَّ مِلعقة شاي (٥ مليلترات) من فوق أكسيد الهيدروجين. يتلوَّن المحلول الناتجُ بلونٍ أحمرَ قانٍ مثل لون الجلطة الدموية الشديدة الحُمرة. تغير الحديد من أيون الحديدوز إلى أيون الحديديك؛ لأن فوق الأكسيد يجذب الإلكترونات بعيدًا عن الحديد. ويستخدم فوق أكسيد الهيدروجين الإلكترونات الزائدة ليتحول إلى ماء وغاز الأوكسجين الذي يخرج في شكل فقاقيع من المحلول أثناء التفاعل. ويأخذ المركب الذي يتكوَّن من الحديدوز والنشادر اللون الأخضر. وعندما يُغير فوق الأكسيد أيون الحديدوز إلى حديديك، يقوم النشادر الذي لا يزال في المحلول ولم يتغير بعد، بتكوين مركب أحمرَ مع الحديديك. ويُطلَق على تفاعلات مثل هذه عندما تكتسب العناصر إلكترونات أو تفقد بعضًا منها «تفاعلات الاختزال» (إذا اكتسبت إلكترونات) و«تفاعلات الأكسدة» (إذا فقدت إلكترونات). ولأن هذه النوعية من التفاعلات يجب أن تحدث في الوقت نفسِه؛ تُسمَّى النتيجة المشتركة بتفاعلات الأكسدة والاختزال، وهي فئة من التفاعلات ذاتُ أهمية في الماضي وفي الحاضر.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.3/
الأسباب، والتفاعلات، والأكسدة والاختزال
لقد كسَروا أولًا المادة الخام إلى قطع صغيرة ونظَّفوها بأيديهم … ثم رُتِّب الفحم والمادة الخام في كومات صغيرة وفي طبقات متتالية … وبهذه الطريقة … يتحول الفحم إلى حامض الكربونيك، ثم إلى أكسيد الكربون، فالغرض من استخدامه هو اختزال أكسيد الحديد، أو بكلمات أخرى التخلص من الأوكسجين. من دون شك، ثَمة خطأ قويٌّ حدث بدرجة قوية وفعالة، مما جعل أجنَّة الحقيقة تنقطع أنفاسها؛ فالتنقيب عن الذهب أصبح في الوقت نفسه قضيةَ مواد، وها هو جسد الكيمياء يستعد كي تعود إليه روحه من جديد، فقد وُلد لافوازيه. يُغازل الإلكترون، تمامًا مثل العاشق المتقلب، أية نواة يجدها أكثرَ جاذبية، بل قد يطير إليها بسرعة فائقة. وقد شاهدنا في التجربة الأخيرة، «الكيمياء المنضبطة»، الإلكترونات وهي تترك الحديد مختالة بنفسها لتنضم إلى فوق أكسيد الهيدروجين. وصحيحٌ أن الإلكترونات كانت راضيةً بأن تظل مع الحديد ما دام لا يوجد ما هو أفضلُ منه على مقربة منها، لكنها فضلَت الذهاب بعيدًا في حال وجود فوق أكسيد الهيدروجين، وبكلمات أخرى تتوقف درجة ارتباط الحبيب بمحبوبته، أي الإلكترون بالنواة على البيئة المحيطة؛ فأيون الحديدوز هو حديدٌ فقد إلكترونَين، وأيون الحديديك هو حديد فقد ثلاثة إلكترونات. وقد تحول مركب أمونيا الحديدوز الأخضر إلى أمونيا الحديديك الأحمر؛ لأن فوق أكسيد الهيدروجين يتصرَّف مثل إسفنجة تمتصُّ الإلكترونات. وعندما يفقد العنصر إلكترونات، يُقال إنه تأكسَد، وفي حالة التفاعل موضعِ نقاشنا، يكون للقبِ تأثيرٌ ذو مغزًى، فالأوكسجين يُركز جهوده على الحديد ليأخذ إلكتروناته، لكن اسم «الأكسدة» يُعتبَر تسمية خاطئة في تفاعلات أخرى، فلا يُشترَط وجود الأوكسجين لحدوث عملية الأكسدة، فعلى سبيل المثال: ارتدِ نظارتك الواقية، وخذ مشبك الأوراق المعدني (وليس البلاستيكي)، فُكَّ ثَنْية المشبك، وضع طرفَه المفكوك في محلول كبريتات النحاس، يكتسب المشبك طبقة نحاسية لامعة في غضون خمس دقائق. في هذه الحالة الخاصة تكتسب أيونات النحاس في المحلول الإلكترونات المفقودة من معدن المشبك، وتتحول إلى معدن النحاس، وهو تبادل للإلكترونات يحدث دون حاجة إلى الأوكسجين. وعندما يكتسب عنصرٌ إلكترونًا يُقال إنه اخْتُزِلَ. ويصف أول اقتباس عن جول فيرن في بداية هذا الفصل مثلَ هذه العملية: استخلاص الحديد من خام الحديد. ويُعَد انصهار المعادن من أُولى التفاعلات الكيميائية المنظمة التي يُمكن التحكمُ فيها (ربما بعد الطبخ وصناعة الفخار والرسم والتخمُّر)، وعملية انصهار المعادن هي العملية التي أُطْلِقَ من أجلها مصطلح الاختزال على عملية اكتساب الإلكترونات؛ وذلك لأن المعدن المنصهر عن المادة الخام يزن أقلَّ من وزنه قبل الاستخدام، بمعنى أن وزنه قد اخْتُزِلَ. وتُوجَد معظم الفلزات الموجودة في الطبيعة في حالة امتزاج مع لافلز أو الأوكسجين أو الكبريت أو الكلور، وهذه المعادن مركبات في حالتها الخام وليست معادنَ نقية، ويُفصَل الفلز عن اللافلز أثناء عملية الانصهار عن طريق تسخين المعدن مع مادة تتمتع بقدرة على جذب اللافلز أكبر من قدرته على جذب الفلز، وفي حالة العملية التي وصَفها جول فيرن يكون اللافلز هو الأوكسجين والمادة الثانية التي لها قدرة عالية على جذب الأوكسجين هي الكربون، الذي يدخل في تشكيل الفحم النباتي، وغالبًا تكون الأوكسيدات مثل ثاني أكسيد الكربون في الحالة الغازية التي تتصاعد تاركةً وراءها الفلز النقي، وبفَهْم التركيب الذريِّ نُدرِك أن الفلز اكتسبَ إلكترونات أثناء عملية الاختزال من خام إلى فلز؛ ومن ثَم أصبح الاختزال هو الاسمَ الذي يُطلَق على عملية اكتساب الإلكترونات. ويُدعى اختبار الفحم «أكسدة» لأنَّ الكربون يختلط مع لافلز لينقله بعيدًا، وفي معظم الأوقات يكون هذا اللافلز هو الأوكسجين. ويَفقد الكربون إلكتروناتٍ على المستوى الذري؛ لذا أصبح فقْدُ الإلكترونات معروفًا «بالأكسدة». وأصبحت الخصائص المميزة لتفاعلات الاختزال والأكسدة هي أن العنصر المُختَزَل هو الذي يكتسب إلكتروناتٍ والعنصر المؤكسَد هو الذي يفقد إلكترونات، وهذا اصطلاح يُمكِن تضمينه بإيجازٍ في العبارة الآتية: «الأكسدة هي فقدُ إلكترونات، والاختزال هو اكتساب إلكترونات.» وحينما يكون هناك أكسدة لا بد أن يُصاحبها اختزال، بمعنى أنه يجب أن يُوجَد زوجَا التفاعل معًا، فلا يُمكِن أن تُفقَد إلكترونات دون أن تذهب هذه الإلكترونات إلى مكانٍ ما. ويُمكن إجراءُ إثباتٍ مُقنِع لحقيقة أن معظم الفلزات التي تُوجَد في الطبيعة تُوجَد في شكلِ مَخاليط (مع لا فلزات) عن طريق جولة على شاطئ أو في منطقة صخرية؛ حيث يجد المرءُ الرمالَ والصخور بكافة الأشكال والألوان، لكن إذا كان المرء محظوظًا بما يكفي فإنه يجد قطعًا من الفلزات النقيَّة. هذا ليس معناه أنه لا توجد فلزَّات نقية. فمِن الممكِن العثورُ على كتل ذهبية نقية كما حدَث في فترة التهافت على ولاية كاليفورنيا التي حدثَت بعد اكتشاف الذهب فيها، ولكن مثل هذه الاكتشافات يَندُر حدوثها وهو الأمر الذي يُعطي للذهب قيمتَه المادية الثمينة. وقد كانت الرغبة في تحويل أكثر الفلزات شيوعًا إلى ذهبٍ هي أحدَ أهداف الخيمياء (وهي ممارسة قديمة غير نظامية للكيمياء بزَغَت في الإسكندرية بمصر، ثم في أوروبا في العصور الوسطى). وقد اعتقد الخيميائيون أنه إن كان بمقدورهم اكتشافُ وصفة كيميائية صحيحة، فسوف يتمكَّنون من تحويل الفلزات الأخرى إلى ذهب؛ استنادًا إلى التحويل الغنيِّ بالألوان مثل الذي شاهدناه في تجرِبتنا «الكيمياء المنضبطة». وقد أشار جورج إليوت إلى «التنقيب» في الاقتباس ببداية هذا الفصل من كتاب «ميدل مارش»، وأشار إلى أن الخيميائيِّين قد فشلوا في العثور على طريقة لصُنع الذهب، ولكنَّ جهودهم قادت إلى الكثير من الاكتشافات الجوهرية، مثل اكتشاف الأوكسجين باعتباره عنصرًا نقيًّا، وقد قام بهذا الاكتشاف العديدُ من العلماء في الوقت ذاتِه تقريبًا، وكان من بينهم أنطوان لافوازيه، الكيميائيُّ الفرنسي الذي أشار إليه جورج إليوت على أنه روح الكيمياء. وفي حين وُلد لافوازيه ليكون روح الكيمياء، فإنه أُعدِم على المقصلة في الثورة الفرنسية! قد تكون هناك متعة للكيمياء لكن لا يمكن أن تنطبق هذه الكلمات دائمًا على السياسة! وكما تُوضح جولتنا السريعة منذ كيمياء ما قبل التاريخ إلى الثورة الفرنسية، فقد لعبت تفاعلات الأكسدة والاختزال المتزاوجة دورًا مستمرًّا في تاريخ البشرية، وفي دراستنا عن كيمياء ما قبل التاريخ، التي استغرقت جملة واحدة (وهي الجملة السابقة) لم نذكر تفاعل الأكسدة والاختزال الخاص بإشعال النيران ذا الأهمية القصوى، ولكننا سنُضمِّنه الآن؛ لأنه قد اتضح أن الاحتراق هو أكثر تفاعلات الأكسدة والاختزال شهرةً، وفي الوقت نفسِه أكثرها تمتعًا بسمعة سيئة! وفي هذا التفاعل يتأكسَد الكربون (يكتسب الكربون أوكسجين هذه المرة حرفيًّا)، ويكتسب غازُ الأوكسجين ما يكفي من إلكترونات لجذب الهيدروجين وتكوينِ الماء؛ ومن ثَم فهو يُختزَل. الجازولين هو أحدُ الهيدروكربونات، والتفاعلات التي تَحدث في أسطوانات السيارات هي تفاعلات احتراق، يمتزج فيها الهيدروكربون والأوكسجين معًا كما في المعادلة السابقة؛ لذلك يتكون عادم السيارة، الذي هو ناتج التفاعل، في الأساس من ثاني أكسيد الكربون والماء. والسكر والنشا من الهيدروكربونات أيضًا، ولما كان الأوكسجين هو الغازَ الذي نتنفَّسه، وعليه تكون الحرارة الناتجةُ عن عملية الهضم تفاعُلَ احتراق بالمثل. وهذا الهضم هو نوعٌ من الاحتراق يُمكِن برهنتُه بإطفاء شمعة؛ فاندفاع الهواء الذي به قليلٌ من الأوكسجين والغنيُّ بثاني أكسيد الكربون يُطفِئ اللهب ويمنع عنه الأوكسجين. والخشب والورق والعُشب الجاف هيدروكربونات في الأساس؛ فهي تقوم بدور الوقود الممتاز، وتُسَعِّر نيرانًا مدمِّرة. ويُسبِّب استهلاك النار للأوكسجين، وتكوُّنُ ثاني أكسيد الكربون الاختناقَ لرجل الإطفاء الذي تُعَد مَخاطره جسيمة تمامًا مثل مخاطر الجرح الحراري. ويُمكن توضيح ضرورة الأوكسجين للاحتراق عن طريق تنكيس كوبٍ شفاف غير بلاستيكي على شمعة، وبعد أن يُستنفَد كل الأوكسجين الموجود في الكوب تنطفئ الشمعة. وقد يصعب قليلًا إثباتُ أن ثانيَ أكسيد الكربون هو ناتجُ الاحتراق، لكنه ليس مستحيلًا: ارتدِ نظارة الأمان الواقية والقفازات. خذ كوبَين متشابهَين غير بلاستيكيَّين (مصنوعَين من الزجاج الخالص). ضع في أحدهما أربع ملاعق شاي (٢٠ مليلترًا) ماء. أضف نقطتَين من دليل قلوية ماء حوض السمك المطلوب شراؤه في «قائمة المشتريات والمحاليل». ضع كلا الكوبَين على فرخ ورق أبيض لتوضيح الرؤية، ينبغي أن تُلاحظ أن الكوب الذي يحوي الماء قد تلوَّن بلون أزرق مخضرٍّ باهت. أشعل الشمعة تَحصل على لهب قويٍّ مستمر. نكِّس الكوب الفارغ فوق الشمعة. اترك اللهب مشتعلًا لفترة. انزع الكوب عن الشمعة ثم صُبَّ فيه على الفور محلولَ دليل القلوية من الكوب الآخر، سُدَّ فوهة الكوب بسرعة بكفِّ يدك، ثم رُجَّ المحلول قليلًا حتى يمتزجَ بالغازات المتصاعدة من لهب الشمعة. ضع الكوب مرة أخرى على الورقة البيضاء، ولاحِظ تغييرَ اللون؛ يُغير ثاني أكسيد الكربون الموجودُ في الغازات المتصاعدة من لهب الشمعة دليل الماء من الأزرق المخضر إلى الأصفر. كيف لنا أن نَعرف أن ثانيَ أكسيد الكربون هو الذي أحدث هذا التغيير؟ خذ كأسًا نظيفًا وجهز محلولًا آخر مكوَّنًا من: أربع ملاعق ماء صغيرة (٢٠ مليلترًا) مع نقطتَين من دليل قلوية حوض السمك، وانفخ بالونًا ثم اضغط على فوهته لتُبقيَه مغلقًا، ثم ضع فوهته في طرَف ماصَّة، ثم ضع الطرف الآخر للماصة في محلول دليل القلوية. عندما تُخفِّف من ضغطتك على فوهة البالون يصنع ثاني أكسيد الكربون المنطلق مباشرة من رئتَيك، عند نفخ البالون، فقاعاتٍ في المحلول، وتُشاهد الدليل يتحول مرة أخرى من الأزرق المخضر إلى الأصفر. ويُمكِن إثبات وجود الماء الناتج من الاحتراق باستخدام مكعَّب ثلج وكوب غير بلاستيكي أو طبق فنجان غير بلاستيكي. نكِّس الكوب على لهب شمعة لمدة دقيقة مع مكعَّب الثلج بحيث يُوضَع في وضعٍ متوازنٍ فوق الكوب من الخارج. تتكثَّف الرطوبة الخارجة من اللهب في جوانب الكوب. ضع مكعبَ الثلج بالتبادل على الطبق، ثم عرِّض الطبق للَّهب دون أن يلمس اللهب. تتكثَّف الرطوبة في قاع الطبق. يُمكِن أحيانًا ملاحظةُ الرطوبة على ملعقة معدنية معرَّضة للهب، ولا يكون الماء وحدَه هو المادةَ التي نَلْحظها على الملعقة؛ إذ يتكون السُّخام أيضًا. ولا تكون عملية الاحتراق دائمًا تفاعلًا نظيفًا وبسيطًا كما هو موضَّح سابقًا، لكنها خليطٌ معقَّد للعديد من التفاعلات التي ينتج عنها بعضُ الهيدروكربونات أو السُّخام، وينشأ أكثرُ آثار الاحتراق إثارةً عن عدم اكتمال الاحتراق وأكثر التفاعلات تعقيدًا. ولا تنتشر النيران عن طريق القفز عبرَ الهواء أو الانتقالِ عن طريق الحُطام المتطايِر فحَسْب؛ فالتبايُن في ضغطِ الهواء يرتبط أيضًا بالنيران؛ لأنها تستهلك الأوكسجين وتُنتِج حرارة، ويُسبب استهلاكُ الأوكسجين خَواءً جزئيًّا في مصدر اللهب المملوء بالهواء القادم من الجوانب. ويُسبب التيار الهوائي الساخن فوق اللهب حدوثَ تيار هوائي صاعد. وتتحد جميع القوى معًا لخلق قدر لا بأس به من تيارات حمل حراري وتباينٍ في الضغط. وكما أن تباين الضغط الجوي في الغلاف الجوي يُفضي إلى حدوث الأعاصير، كذلك يُفضي تباينُ الضغط حول النيران إلى حدوث ما يُعرَف «بالانفجار»، وهو دوامة نارية تتنقل بسرعة تُعادل تقريبًا سرعةَ الرياح. ومع أن تفاعلات الأكسدة والاختزال منتشرةٌ للغاية، فإنها بالطبع لا تُمثِّل كل جوانب الكيمياء؛ فثمة نوعٌ آخر شائعٌ جدًّا وغاية في الأهمية من التفاعلات موجود في التفاعلات الحمضية-القاعدية التي تَحدث في الهواء وفي البشَرة والمعدة والبالوعة، وحتى في حمامات السباحة وأحواض الأسماك؛ فدليل قلوية حوض السمك الذي استخدمناه في الكشف عن ثاني أكسيد الكربون هو دليلٌ للأحماض والقواعد؛ فهو يعمل على الكشف عن ثاني أكسيد الكربون لأن ثانيَ أكسيد الكربون المذاب في الماء يجعل الماء مَشوبًا قليلًا ببعض الخواص الحامضية. أيبدو الأمر مثيرًا؟ واصل القراءة.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.14/
تجربة ٤: دليل الكرنب الأحمر
تُشبِه التراجيديا الحامض اللاذع؛ فهي تُبدِّد كل شيء ما عدا الحقَّ النفيس. لقد كان معروفًا منذ أوائل القرن السابع عشر على الأقل، وربما قبل ذلك بكثير، أن بعض النباتات والأزهار التي تتمتَّع بألوان كثيفة مثل الكرنب الأحمر، تحوي صِبْغة تتخذ ألوانًا متعددة في البيئات الكيميائية المختلفة، وتُسمَّى مثلُ هذه الصبغة بالدليل؛ لأن لونها يدل على بيئتها، ويُستخدَم دليل الكرنب الأحمر للاستدلال على ما إذا كان المحلول حامضيًّا أو قاعديًّا، وباختصارٍ المحاليل الحامضية هي محاليلُ لاذعةٌ مثل عصير الليمون والخل، والمحاليل القاعدية هي محاليلُ كاوية ومُرَّة مثل الصابون السائل والنشادر المنزلي. ولكي نرى كيف يعمل هذا؛ ارتدِ نظارتك الواقية ثم أضِفْ نحو ملعقة كبيرة (١٥ مليلترًا) من دليل الكرنب الأحمر (مُعَد كما هو مذكور في قائمة المشتريات والمحاليل) إلى كوب (٢٤٠ مليلترًا) ماء، ولاحِظ اللون، ينبغي أن يكون أرجوانيًّا باهتًا. الآن قُم بإعداد محلول مُشبَع من بيكربونات الصودا المذابة في الماء، والمحلول المشبع محلول لا يقبل المزيد من المادة الصُّلبة لكي تذوبَ فيه، وبيكربونات الصودا غير قابلة للذوبان التامِّ في الماء؛ من ثَم لا يتطلَّب الأمر أكثر من مِلعقتَين كبيرتَين (٣٠ مليلترًا) من بيكربونات الصودا لكوب الماء الواحد (٢٤٠ مليلترًا). ويُصبح المحلول مشبعًا عندما تبدأ بيكربونات الصودا في الترسُّب في قاع الكوب ولا يذوب المزيدُ منها. أضف دليل الكرنب الأحمر إلى هذا الخليط، وسيتحول إلى اللون الأزرق. تذوب بيكربونات الصودا إلى أيونَين في الماء، وهما أيون الصوديوم وأيون كربونات الهيدروجين، المعروف بالبيكربونات. ويكون أيون الصوديوم متعادلًا وأيون البيكربونات قاعديًّا. يتحول دليل الكرنب الأحمر إلى اللون الأزرق في محلول بيكربونات الصودا؛ ومن ثَم يُشير اللون الأزرق إلى أن المحلول قاعدي عند استخدام دليل الكرنب الأحمر. دليل الفينول الأحمر المستخدم لاختبار قلوية مياه حمام السباحة الماء برتقالي محمر، الخل أصفر، النشادر بنفسجي محمر، بيكربونات الصودا وردي، دليل البروموثيمول الأزرق المستخدم في اختبار قلوية ماء حوض السمك الماء أزرق مخضر، الخل أصفر باهت، النشادر أزرق باهت، بيكربونات الصودا أزرق، دليل الكرنب الأحمر الماء بنفسجي، الخل وردي فاقع، النشادر أخضر، بيكربونات الصودا أزرق مخضر. أضف بعضًا من دليل الكرنب الأحمر إلى عيِّنة من الخل، وطبعًا يُعرَف الخل بأنه حامضي، يُغير الخل لونَ دليل الكرنب الأحمر إلى اللون الوردي اللامع؛ ومن ثَم يُشير اللون الوردي إلى أن المحلولَ حامضي عند استخدام دليل الكرنب الأحمر. وباستخدام كوب (٢٤٠ مليلترًا) من عيِّنات من محاليل بيكربونات الصودا المشبعة والخل والنشادر والماء؛ يُمكِنك أن تُنشِئ تلك المحاليل، ولاحِظ الألوان التي تنتج عندما تُضيف دليل الكرنب الأحمر ودليل حمام السباحة ودليل حوض السمك. والآن خُذ بعضًا من بيكربونات الصودا الصافية المطلوبِ شراؤها في قائمة المشتريات والمحاليل، ثم أضِف دليل الكرنب الأحمر. ينبغي أن تَلْحظ محلولًا لونه وردي باهت. تُعتبر بيكربونات الصودا حامضيةً قليلًا؛ لأن ثانيَ أكسيد الكربون يذوب في الماء ليُكوِّن حامضَ الكربونيك. الآن خُذ محلول بيكربونات الصودا ودليلَ الكرنب الأحمر ثم صبَّ ببطءٍ وحذرٍ السائلَ الأزرق الذي يعلو بيكربونات الصودا غيرِ المذابة (عملية تُعرَف «بالتصفية» لدى خبراء الكيمياء والخمورِ على حدٍّ سواء) على محلول بيكربونات الصودا ودليل الكرنب الأحمر. في نهاية المطاف ينبغي أن يتلوَّنَ السائلُ بلون قريبٍ جدًّا من لونِ الدليل في الماء الصافي، لماذا؟ لأن الحامض يُعادل القاعدةَ والعكس صحيح، وما هو المحلول المتعادل؟ الماء هو المحلول المتعادل، وماذا كان يُستخدَم قديمًا لعلاج حموضة المعدة؟ إنها بيكربونات الصودا. هنيئًا مريئًا!
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.4/
المواد القاعدية
اطلب من آسيا كوبًا من الكريمة اللاذعة؛ فستكون كعكتُك خفيفة وبدون الكثير من الصودا، وهو ما لا أُحبِّذه.» كان هذا هو الطلبَ الأول. لقد اندفع ديمي إلى الطابق السفلي، ثم عاد بالكريمة بوجه عابث؛ لأنه تذوَّقها وهو في الطريق ووجدَها لاذعة جدًّا، حتى إنه توقع أن الكعكة ستكون غيرَ صالحة للأكل. اقتبسَت السيدة جو هذه الواقعة لتُلقي محاضرة قصيرة وهي على السُّلم عن الخواص الكيميائية للصودا، ولم تُنصِت إليها ديزي، لكن ديمي أصغى إليها وفَهِمها كما يتضح من ردِّه الذي كان مختصرًا لكنه شامل؛ إذ قال: «نعم، أنا أفهم؛ فالصودا تُحوِّل الأشياء اللاذعة إلى أشياءَ مذاقُها حلو، وإذا أخفقت في عملها فستكون خفيفة، فلنُشاهِدك وأنت تقومين بإعدادها يا ديزي. يُعَد تفاعل ديمي اللاذعُ — الحلو في الاقتباس السابق تفاعل حامضي — قاعديًّا؛ فبيكربونات الصودا قاعدية (كما وجدنا في تَجرِبة دليل الكرنب الأحمر)، والكريمة اللاذعة هي خليط حامضي؛ فالكريمة اللاذعة تكون لاذعة بسبب النواتج الحامضية الناجمة عن فعل البكتيريا. وقد شاهدنا في تجرِبة صاروخ الزجاجة محلولًا حامضيًّا آخرَ وهو الخل الذي يلتقي ببيكربونات الصودا، ويُؤدِّي إلى تفاعل انفجاري، وما جعل كعكة ديزي خفيفة هو ذلك النوع من التفاعل نفسِه، لكن بمستوًى أبسط: يتفاعل الحامض مع بيكربونات الصودا، وينتج حامض الكربونيك الذي يتحول سريعًا إلى ثاني أكسيد الكربون وماء. وثاني أكسيد الكربون هو الغاز الذي تسبب في دفع السدادة في تجربة صاروخ الزجاجة، وهو الذي أحدث الفقاقيع في كعكتنا الصغيرة الرقيقة. والسبب الذي جعلنا نُنبهك لشراء بيكربونات الصودا في «قائمة المشتريات والمحاليل» بدلًا من البكينج بودر هو أن البيكينج بودر يَحوي مركبًا حامضيًّا مثل كريمة الطرطير. وتعمل كريمة الطرطير كعاملٍ للتخمير بمعنى أنها عندما تذوب في الماء مع بيكربونات الصودا فإنهما يتفاعلان ويُكوِّنان فقاقيع. ولا تُنتج كل التفاعلات الحامضية القاعدية مثل هذه النواتج المتطايرة، ويُعَد الخل حامضًا يدل على ذلك تغير لونه إلى اللون الوردي عند إضافة دليل الكرنب الأحمر. أما النشادر فهو قاعدي بسبب تغير لونه إلى اللون الأزرق عند إضافة دليل الكرنب الأحمر، لكن عند إضافة الخل والنشادر معًا بدون إضافة الدليل، لا تظهر أمارات التفاعل الكيميائي المعتادةُ، فلا يكون هناك أدخنةٌ جديدة ولا رَغاوى ولا انبعاثٌ للحرارة أو للضوء، ولا تغيير في اللون ولا تكوين مواد صلبة، ولولا الرائحةُ النفاذة للخل والرائحة النفاذة للنشادر، لَبدا الأمر كأنه مجرد إضافة سائلَين مائيَّين شفافَين معًا، لكن إذا أُضيفَت ملعقة صغيرة (٥ مليلترات) من دليل الكرنب الأحمر إلى كوب (٢٤٠ مليلترًا) يحوي واحدًا منهما فقط قبل إضافتهما معًا، تكون النتيجة تغيُّر لون المحلول، ويُستخدَم الدليل ليُبين حدوث التفاعل الكيميائي عندما لا توجد علامات أخرى واضحة. ما هي الأحماض وما هي القواعد إذن؟ الخل فعليًّا هو محلولٌ مُخفَّف لحامض الخليك في الماء، ما يقرب من ٥٪ محلول، لكنه يستطيع أن يُبرِز بدقةٍ الخواصَّ المميزة للحامض؛ فهو لاذع ويُحول دليل الكرنب الأحمر إلى اللون الأحمر أو الوردي، ويتفاعل مع القاعدة ليُكوِّن الماء. ويُبرز محلول بيكربونات الصوديوم بشدة العديدَ من الخواص المميزة للقاعدة؛ فهو مُر المذاق، ويُحول دليل الكرنب الأحمر إلى اللون الأزرق، ويتفاعل مع الحامض ليُكوِّن الماء. وتُعتبَر آخر خاصية مذكورة لكلٍّ منهما فيما يخص تفاعلهما معًا هي بالفعل الخاصية المحددة لكلٍّ منهما؛ لأن التفاعلات الحامضية القاعدية تحدث في الوقت نفسِه، شأنها في ذلك شأن تفاعلات الأكسدة والاختزال؛ فمادةٌ واحدة تتفاعل كحامض، ومادة واحدة تتفاعل كقاعدة، والحامض يُعادل القاعدةَ، والقاعدةُ تُعادل الحامض. ويُمكن أن نجد كثيرًا من أمثلة التفاعلات الحامضية القلوية في الطهي، مثل تفاعل كريمة الصودا اللاذعة المذكور في «رجال صغار»، علاوة على أنه من النتائج المؤسِفة للأمطار الحامضية (التي سوف نُناقش تركيبها فيما بعد) أن الحامضَ في المطر يتفاعل مع الكربونات الموجودة في الحجر الجيري والرخام، وهو الأمر الذي يُسبِّب تآكل التماثيل التي تمكَّنَت من النجاة بدون صدأ أو تحلُّل لآلاف السنين قبل مجيء عصر الصناعة. (وقبل أن نُلقِيَ باللوم التام على عصر الصناعة ينبغي أن نتذكر أيضًا أن بكتيريا الطاعون الأسود، والجدري، والزهري قد تمكنَت من أن تنجوَ لعدة سنوات قبل أن تتمكن التكنولوجيا الحديثة من أن تُطيح بها.) وتبرز قدرة الأمطار الحامضية على إذابة الرخام خاصية أخرى مشتركة بين الأحماض والقلويات، ألا وهي أنها موادُّ مُسبِّبة للتآكل. ويتناولُ اقتباس قصة «صاحب الظل الطويل» لجين ويبستر الذي ذكَرناه في المقدمة خاصيةَ التآكل، ونُكرره هنا نظرًا إلى ملاءمته للسياق. عليَّ أن أذهب إلى المختبر وأُمعِن النظر في بعض المواد من أحماض وأملاح وقلويات، لقد أحدث حامض الهيدروكلوريك ثقبًا كبيرًا بحجم الطبق في معطف المختبر من الأمام. إذا نجحت هذه النظرية فسأكون قادرًا على معالجة هذا الثقب بالنشادر القوي، أليس كذلك؟ والطريف في الأمر أن القاعدة تُعادل الحامض؛ لذا يفترض طلاب الكيمياء أن استعمال القاعدة سيُبطِل تأثير الحامض ويُعيد المادة المتلاشية من المعطف، ومن المثير أن تَلْحظ أن قراء أوائل القرن العشرين كان يُفترَض أنهم يفهمون المزحة دون الحاجة إلى شرحها، وأن طلاب الكيمياء في سنتهم الأولى في أوائل القرن العشرين كانوا يُشجعون على استخدام مواد كيميائية نشطة بدرجة كافية تجعلها تُؤدِّي إلى تآكُل المعطف، لكن مفهوم الحامضية أصبح مألوفًا تمامًا في القرن الحادي والعشرين، فنحن نتحدث عن اللسان اللاذع والنقد اللاذع. وتُمثِّل المحاليلُ الحامضية جزءًا من مطابخنا، فالخل هو محلول حامض الخلِّيك، والليمون هو محلول حامض السِّتريك، كما تحوي بيكربونات الصودا حامض الكربونيك. وتُعتبر المواد والمحاليل القاعدية أيضًا جزءًا من خبرتنا العامة؛ فالنشادر محلول قاعدي، ويُستخدَم اللي في إزالة الانسدادات من المصارف الصحية، وكثيرًا ما نستخدم المصطلحات الأقدم كالقلوي للإشارة إلى المواد القلوية مثل «البطاريات القلوية»، أو ضبط قلوية مياه حمامات السباحة. ومرض القلاء وهو حالة خطيرة تَزيد فيها نسبة القلوية في الدم؛ بسبب نقص ثاني أكسيد الكربون، يُمكن أن تُسبِّبه زيادة التهوية الرئوية. وفي حقيقة الأمر لا يُمكن للجسم البشري ككلٍّ أن يُؤدِّيَ وظائفه بشكل جيد إلا ضمن نطاقٍ محدود جدًّا للقلوية والحامضية، لكن قبل أن تتخلص من الصلصة الساخنة، حرصًا على صحتك، عليك أن تطمئنَّ أن الجسم البشري قد ابتكر طريقةً لحفظ الدم عند مستوى القلوية الضروري المناسب للوظائف حتى إذا اسْتُخْدِمَ الخل في صلصة السلطة أو حتى إذا استنفدت المياه الغازية. فالدم سائلٌ مُنظِّم للقلوية، وهو محلول ذو نِسَب في غاية الدقة مكوَّن من أحماض ضعيفة وقواعدَ ضعيفة؛ ومن ثَم لن تُسبِّب إضافةُ النسب الضئيلة من الحامض أو القاعدة حدوثَ تغيير ملحوظ في درجة القلوية، وقد تكون أكياس الملاكمة تشبيهًا جيدًا للسوائل المنظمة؛ فقد يترنَّح الخَصم غيرُ المتزن إثر لكمةٍ واحدة في مكان مؤثِّر، في حين أن كيس الملاكمة المتزنَ يُمكِنه أن يمتص لكمات عديدة ويرجع إلى وضعه مرة أخرى لاستقبال المزيد. وكذلك يكون الحال مع المحلول المنظِّم الذي يُمكِنه أن يمتصَّ صدماتِ هجوم المزيد من الأحماض والقواعد، ثم يرتد مرةً أخرى إلى وضعه الأصلي تقريبًا، ويُمكن شرحُ هذا الموقف بسائل منظم آخر وهو اللبن. خذ وعاءَين شفافَين صغيرَين مما هو مطلوبٌ في «قائمة المشتريات والمحاليل»، ثم أضف إلى كل منهما نصفَ كوب (١٢٠ مليلترًا) من اللبن الكامل الدسم، ويجب استخدام لبن كامل الدسم؛ لأن البقر لا يهتمُّ كثيرًا بشأن السعرات الحرارية، ويُوفِّر المحاليل المنظمة التي تُكوِّن اللبن الكامل الدسم وغير المقشود. خُذ وعاءَين شفافَين صغيرَين آخَرَين، ثم أضف إلى كلٍّ منهما نصفَ كوب (١٢٠ مليلترًا) ماء. أضف إلى كلٍّ من الأوعية الأربعة عيناتٍ من دليل الفينول الأحمر من عُبُوَّةِ اختبار قلوية ماء حمامات السباحة المطلوبة في «قائمة المشتريات والمحاليل»، ولا يصلح دليل الكرنب الأحمر لهذه التجربة؛ لأنك ستُضطَر أن تُضيف كمياتٍ كبيرةً منه حتى يُصبح اللون واضحًا، ويُؤدي المزيد من السائل إلى تخفيف اللبن؛ ومن ثم يحدث خلل في فاعلية السائل المنظم، أما عن دليل قلوية حمام السباحة، فإن إضافة المزيد منه تُؤدي إلى إكساب اللبن والماء لونًا أصفر باهتًا. والآن أضِف قطرةً من محلول بيكربونات الصودا السائل الذي يعلو المادةَ الصُّلبة غير المذابة إلى إحدى عينات الماء وإحدى عينات اللبن، وإذا كانت القطَّارة المستخدمة للعين مُتاحة فذلك أيسرُ لك، وإلا يُمكنك أن تضع ماصَّة في المحلول وتُغطيَ طرف الماصة بإصبعك حتى يُمكِنك أن تجذب قطرة، ثم قَلِّب المحاليل. ينبغي أن يتحوَّل لون المحلول الذي يحوي الماء المضاف إليه بيكربونات الصودا إلى اللون الوردي الفاقع، في حين يظل لون المحلول الذي يحوي اللبنَ المضاف إليه بيكربونات الصودا كما هو؛ أصفرَ باهتًا دون أن يتغير. وأفضل طريقة للمقارنة هي وضع الوعاءَين على فرخ ورق أبيضَ، والنظرُ مباشرة إلى الوعاء من أسفل، فثَمة اختلاف جليٌّ في لون المحلول الذي يحوي الماء والدليل قبل وبعد إضافة بيكربونات الصودا، في حين لا يتغيَّر لون المحلول الذي يحتوي على اللبن والدليل قبل وبعد إضافة بيكربونات الصودا؛ فاللبن نَظَّم تأثير بيكربونات الصوديوم أو عادَلَه. وثاني أكسيد الكربون هو الذي يقوم بعملية التنظيم هذه في الدم، وتُعَد بيكربونات الصودا أحدَ محاليل حامض الكربونيك المتكون عندما يصبح الماء مُشبعًا بثاني أكسيد الكربون، ولقد شاهدنا في تجربة الكرنب الأحمر أن بيكربونات الصودا هي حامضية بمعدل ضئيل. ويتشبَّع دم الإنسان بثاني أكسيد الكربون؛ فهو الناتج النهائي لعملية الهضم، ويُكَوِّن ثاني أكسيد الكربون حامض الكربونيك في الدم. وبيكربونات الصوديوم أو صودا الخبيز قاعدية كما رأينا في تجربة الكرنب الأحمر. والبيكربونات المكونة عن طريق إزالة ذرة هيدروجين واحدة من حمض الكربونيك تنتجها الكُلْيتان لتعمل كمادةٍ قاعدية في الدم، ويستخدم ثاني أكسيد الكربون ليُكوِّن المواد الحامضية والقلوية في الدم، وعندما تزداد نسبة الحموضة في الدم ترتفع نسبة البيكربونات لتُعادل الزائدَ من الحامض. وعندما تزداد نسبة القلوية في الدم، يُعادل حامض الكربونيك الزيادة من القلوية، ولكن كما يتضح من إضافة محلول بيكربونات الصودا مباشرة إلى المحلول المكوَّن من اللبن والدليل، فإن لدى السوائل المنظمةِ قدرةً محدودةً لامتصاص الحامض أو القاعدة؛ فاللبنُ سيأخذ سريعًا ظلًّا ورديًّا من ذاته. وإذا كانت أطرافُ التوازن في الدم بعيدةً جدًّا بطريقة ما، فإنه من الممكن حدوثُ القلاء أو الحموضة، وهما حالتان طبِّيتان في غاية الخطورة. ولا يُعتبَر الدم هو النظامَ الوحيد في الجسم الذي يستلزم وجود بيئة حمضية قلوية ثابتة بدرجة معقولة، فمادة الأسبرين المنظِّمة لسيولة الدم هي أسبرين عُدِّل كي لا يُصبِح شديدَ الحامضية فيُهيج المعدة. ويُخلَط الكثير من الشامبوهات والصابون على نحوٍ خاص، بحيث لا تختلف حموضتها كثيرًا عن حموضة البشرة أو الشعر. وإذا كان هناك اختلاف في خاصية الحموضة فإنها ستُسبب تفاعلًا حامضيًّا-قاعديًّا عند استخدامها، وقد يُسبِّب التفاعل الحامضي-القاعدي تلفًا للخلايا الحساسة للجلد أو العين، وهذا هو ما يجعلك تَحرص على استخدام القفاز ونظارةٍ واقية للعين عند إجراء هذه التجارِب. أو برموز أكثر اختصارًا: والقشرة هي طبقة صُلبة صخرية، يُمكن أن تتكون داخل الأنابيب والأوعية التي تُستخدَم مع الماء العَسِر، وقبل توافر عوامل تحويل الماء العسر إلى ماء يسر، كانت القشرة شيئًا معتادًا ومألوفًا. تتكون القشرة غيرُ القابلة للذوبان من أيونات الكالسيوم عند توافر أيون الكربونات. وتُبرِز هذه الحقيقةُ مرة أخرى تعددَ استعمالات الكربونات. ولقد رأينا أن ثانيَ أكسيد الكربون يُكوِّن الكربونات؛ ومِن ثَم حامضَ الكربونيك في الماء، واستخدمنا بيكربونات الصوديوم (بيكربونات الصودا) كمادةٍ قلوية، وأخيرًا أشرنا إلى أن البيكربونات يُمكِنها أن تكون موادَّ صلبة غير قابلة للذوبان إلى حد ما، وهذه المواهب المتعددة لأيون البيكربونات تجعل بيكربونات الصودا مفيدةً في أوجُه أخرى عديدة بخلاف الطهي؛ فبيكربونات الصودا يُمكن أن تكون مزيلًا جيدًا للروائح؛ لأنه في إمكانها أن تتفاعل مع كلٍّ من المركبات الحامضية والقاعدية ذات الرائحة الكريهة، وتكون مركبات غير متطايرة، عديمة الرائحة. ثمة الكثير من الكيمياء في صندوق صغير! ويوجد بعض الكالسيوم والمعادن الأخرى في أي مياه تتخلل الأرض؛ لذا إذا تُرِكَت مياه حمام السباحة بنسَبٍ كبيرة من المادة القلوية، فإنها ستكون عكرة أكثر فأكثر، وفي أفضل حالاتها ستحوي جزيئاتٍ عالقةً من الأملاح غير القابلة للذوبان، أما في أسوأ الأحوال فستُكوِّن المزيد من القشرة. ويُسمَّى ظهور المادة الصلبة في المحلول السائل «بالترسيب» تمامًا مثلما تُسمَّى الأمطار بالترسيب أو الهطول؛ بسبب ميل المواد الصلبة إلى أن تبزغ من المحلول، تمامًا كما تبزغ الأمطار من السماء. وسنرى في الفصل القادم بعض المحاليل الأخرى التي تتكون من الموادِّ الصلبة، بالإضافة إلى بعض الأسباب والتعليلات والاستخدامات المفيدة لتفاعلات الترسيب القشرية هذه.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.15/
تجربة ٥: النقطة الزرقاء والحبر الأسود
لقد أمعن دكتور أركي النظر فيها، كما لو كانت كأسًا مليئةً بالتفاعلات الكيميائية. ارتدِ نظارة الأمان الواقية، ثم أضف ملعقة كبيرة (١٥ مليلترًا) من بيكربونات الصودا إلى نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) ماء، اترك المادة غيرَ المذابة لتستقرَّ في قاع الكوب (يستغرق هذا الأمر نحو دقيقة واحدة). اسكب بحذرٍ السائلَ الشفاف في كوب آخر تاركًا المادة الصلبة. اسكب ملعقة كبيرة (١٥ مليلترًا) من محلول كبريتات النُّحاس المذكور في «قائمة المشتريات والمحاليل» إلى محلول بيكربونات الصودا المصفَّى، يتكوَّن في الحال رقائقُ زرقاء جميلة تترسَّب في المحلول، وينبغي أن ترى بعض الفقاعات، ويتلوَّن السائل العالق فوق النقطة الزرقاء المترسبة باللون الأزرق الفاتح. وتنتج الفقاعات عن تفاعل الحامض الزائد في محلول النحاس مع أيون البيكربونات. ويرجع حدوث تفاعل النقطة الزرقاء إلى أن الماء المُصفَّى من بيكربونات الصودا يحوي صوديوم وبيكربونات مذابَين؛ فكَميةٌ صغيرة من البيكربونات تفقد أيون هيدروجين، وتُعطيه إلى الماء، وتصبح أيون كربونات، ويحتوي محلول النحاس على أيونات نحاس وأيونات كبريتات. وما إن يلتقي أيونُ النحاس أيونَ الكربونات حتى يحدث الحب من أول نظرة، ويتحد هذان الأيونان ويتشبَّثان معًا بشدة، في حقيقة الأمر يتشبث أحدهما بالآخر، فيكونان مادة صلبة وينعزلان عن المحلول؛ فهما يترسبان. ارتدِ نظارة الأمان الواقية، أضف ملعقة صغيرة (٥ مليلترات) من فوق أكسيد الهيدروجين إلى ربع كوب (٦٠ مليلترًا) من محلول خلات الحديد (انظر قائمة المشتريات والمحاليل). ينبغي أن يتغير لون المحلول إلى بُني محمر مبهج؛ نظرًا إلى تحوُّل أيون الحديدوز إلى أيون حديديك. أضف برفق نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) من الشاي البني البارد المختمر. ينبغي أن تحصل على راسب أسود طري يترسب في نهاية المطاف في القاع. اسْتُخْدِمَت هذه المادة فيما مضى كحبر أسود، وقد استُخدِم هذا التفاعل الترسيبي لإنتاجه.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.5/
شركاء الكيمياء: من يقوم بماذا لمصلحة من؟
ما أعنفَ أثرَ هذا الفعل الشنيع عليه! لقد اندفع عبر غياهب عقله وبدَّدها، لقد سلط الضوء على أحد جوانبه وألقى بالغمام على الآخر، لقد تفاعل مع روحه … مثلما تُؤثِّر كواشفُ كيميائية معينة على أحد المخاليط العكرة عن طريق ترسيب أحد العناصر، وإنتاج محلول رائقٍ من العنصر الآخر. لا يعني المحلول «الرائق» للكيميائي ذلك المحلولَ الذي لا لون له، لكنه يعني المحلول الذي لا يحوي موادَّ صُلبة عالقة به، فتفاعُل الترسيب هو التفاعل الذي يختلط فيه محلولان شفافان مكوِّنَين مادةً صلبة في المحلول. تُرى لماذا يُقرِّر محلولان شفافان أن يُكوِّنا مادة صلبة؟ تأمل معي الموقف الاجتماعي التشبيهي الآن: أتى إلى حفل اثنان من المدعوِّين معًا؛ لأنه من الملائم أن يستقل الأشخاص السيارة نفسَها ما دام الطريق واحدًا، إلا أنهما ينفصلان في أثناء السهرة، ويتواصل كلٌّ منهما مع أناس آخرين، وإذا وجد كل واحد منهما، في الغرفة التي تعج بالناس، شخصًا ما وأقام معه صلة وثيقة خاصة، فقد يترك الحفل مع ذلك الشخص وقد يرتبطان معًا بكل توفيق. كذلك الحال في الكأس التي تعج بالأيونات، إذا وجد أيون أيونًا آخر وكوَّن معه رابطة قوية سيَنتج عن ذلك مادةٌ صلبة، وعندما يرتبط أيونان ليُكوِّنا مادة صلبة، هذه المادة الصلبة تُسمَّى «ملحًا». ويمكن أن يتطور التشبيه الاجتماعي مرة أخرى. يُعتبَر الذوبان عكس الترسيب، وفي حالة الغياب التام للماء تُعتبَر كل وحدات الملح صُلبة، إلا أن الماء من الممكن أن يكون مدمرًا للأسرة؛ فيُمكن لجزيئات الماء أن تندس بين الأيونات. وملح الطعام، كلوريد الصوديوم، صلب بشكل كافٍ في عبوته قبل استخدامه في الطعام، لكن عندما يكون مبللًا تَشقُّ جزيئات الماء طريقها بين أيونات الكلوريد وأيونات الصوديوم وتفصلهما عن بعضهما البعض. لماذا إذن لا يندس الماء بنفسه بين أيونات الكربونات وأيونات النحاس في كربونات النحاس غير المذابة في التجربة السابقة؟ الأمر يقتصر على مجرد اعتبارها صفقة: بمعنى أنه إذا كان الانفصال أكثر كلفة من الفوائد المحتملة، فيظل الاتحاد قائمًا، إذا لم يكن كذلك، فلنرَ ماذا سيحدث. لفهم العوامل المتضمَّنة في تحليل الكلفة والفائدة في ذوبان الملح، نحتاج أن نسترجع مرة أخرى فكرة قدمناها من قبل: لقد ذكرنا أن الذرات تميل إلى أن تكتسب أو تفقد إلكترونات، وإذا قامت بهذا الصنيع، اقتربت من الحالة المثلى لطبقات مشبعة، كما ذكرنا أيضًا أنه عندما تقوم اللافلزات بعملية الاتحاد، فإنها تميل إلى أن تُشارك بالإلكترونات على غير المعتاد لتُشبع حاجاتها. وكما يتضح، فإن بعض العناصر لديها القدرة على جذب الإلكترونات بطريقة أقوى من غيرها، ويُطلَق على القدرة على جذب الإلكترونات «السالبية الكهربائية» وتعتمد السالبية الكهربائية على موقع العناصر في الجدول الدوري. أليس هذا أمرًا جيدًا؟ فالجدول الدوري لا يُخبرنا عن عدد البروتونات في النواة وعدد الإلكترونات في الذرة المتعادلة للعنصر، وبعض الشيء عن تفاعلية/نشاط العنصر من خلال العائلة التي ينتمي إليها فحسب، بل يُمكن أن يعمل الجدول الدوري أيضًا كوسيلة للتنبُّؤ بالسالبية الكهربائية النسبية، ويُمكننا الحصول على تفسير لهذه المطابقة عن طريق فهم التركيب الذري: فلا تحوز العناصر الواقعة كلما اتجهنا نحو قمة الجدول الكثير من الأغلفة التامَّة الامتلاء، فيُمكِن للإلكترون الجديد الشعورُ بالمزيد من الانجذاب نحو الأنوية الموجَبة الشحنة دون وجود إلكترونات أخرى تعوق طريقه. يستمتع الفلور بحاله كأكثرِ العناصر سالبيةً كهربائية في الجدول الدوري ومرجع ذلك سببان على الأقل؛ الأول: أن الفلور ليس لديه سوى طبقةٍ واحدة مملوءة بالإلكترونات، وثانيًا: أنه العنصر الوحيد — دون كل عناصر الصف الثاني التي ليس بها غِلاف مملوء — الذي يتمتع بأكبر شحنة نووية؛ فهو يَحوي تسعة بروتونات. والعنصر الوحيد في الصف الثاني الذي له شحنة نووية أكبر هو النيون وهو يحوي كلَّ الإلكترونات التي يحتاجها. ماذا عن الهيدروجين إذن؟ لا يمتلك الهيدروجين طبقة مشبعة، وبإضافة إلكترون واحد للهيدروجين سيُصبح معرضًا تمامًا للأنوية المشحونة بشحنات موجبة. لماذا لا يتمتع الهيدروجين بسالبية إلكترونية عالية؟ لأن الأمر يتوقف على الحجم حتى في المستوى الذرِّي. إذن ما هي نتيجة كل هذه الانجذابات ومقايضات الإلكترونات بين العناصر في المركَّب؟ النتيجة هي شيء يُطلَق عليه «الاستقطاب الجزيئي». ويُعتبَر مفهوم الاستقطاب مفهومًا شائعًا؛ فالبطاريات لها أقطاب موجبة وأخرى سالبة، وللمغناطيس قطب شمالي وقطب جنوبي، وعندما تُفضِّل الإلكترونات أن تقترن بأحد أطراف الجزيء حيث تُوجَد العناصر ذات السالبية الإلكترونية الأكبر، يكون للجزيء قطبٌ موجب وقطب سالب؛ ومِن ثَم فهو له قطبية. ويُطلَق على الجزيء الذي له قطب موجب آخر وقطب سالب آخر «ثنائي الأقطاب»؛ لأن له «قُطبَين». تَميل جزيئات الماء إلى أن تَبنيَ أقفاصًا حول الأيونات؛ لأن هذا يُمثل موقفًا أكثر استرخاء لها. ومثلما تتطلب بعض الطاقة لتعزل قوى المغناطيس التي ينجذب بعضها إلى بعض، فإننا نحتاج إلى الطاقة لنَفصل الجزيئات التي ينجذب بعضها إلى بعض أو إلى أيون واحد. وإتاحة الفرصة لجزيئات الماء أن تُكوِّن أقفاصًا حول الأيونات، يسمح لها بالاسترخاء وإطلاق طاقة. إلا أن هناك حاجةً إلى الطاقة لتفتيت الملح أيضًا؛ ومن ثم تحدث المقايضة. فإذا كانت تكلفةُ تفتيت الملح أكبرَ من الفوائد المحقَّقة من خلال السماح لجزيئات الماء بالاسترخاء في أقفاص، عندئذٍ يترسَّب الملح في المحلول أو لا يَذوب أصلًا. وإذا كانت تكلفة تفتيت الملح أقلَّ من الفوائد المحقَّقة عن طريق السماح لجزيئات الماء بالاسترخاء في شكلِ أقفاص، فإن الملح يبقى في المحلول أو يَذوب. وثَمة تجرِبة مقنعة على مدى أهمية طبيعة المحلول، وهي أن تُحاول أن تُذيب ملء ملعقة صغيرة (٥ مليلترات) من ملح الطعام في كوب (٢٤٠ مليلترًا) ماء، وحاول أن تُذيب الكميةَ نفسَها من الملح في كوب من الزيت النباتي أو الزيت المعدِني؛ يذوب مِلح الطعام في الماء بسهولة، لكنه يترسَّب في الزيت كما هو دون أن يذوب. حاول أن تُقلِّب ملح الطعام في كلٍّ منهما قبل الحكم النهائي فالتقليبُ يُساعد الأملاح على الذوبان؛ لأن عملية الذوبان تبدأ من سطح المادة الصلبة ويُساعد التقليب على تعريض المزيد من الأسطح للمحلول، لكن مهما بذَلت في عملية التقليب فلن تستطيع أن تُجبر كلَّ ملح الطعام على الذوبان في محلول الزيت. ويُمكِن إثبات مدى توقف الذوبان على الكمية باستخدام بيكربونات الصودا والماء. فإذا أُضيفَ مقدار ضئيل من بيكربونات الصودا إلى كوب زجاجي كبير (ليس من البلاستيك) شفَّاف يسَع نحوَ كوبَين صغيرَين من الماء، ينبغي أن يذوب هذا المقدار الضئيل. في حقيقة الأمر، ينبغي أن يذوب ما يقرب من عشَرة أو خمسةَ عشر مقدارًا ضئيلًا كاملًا من بيكربونات الصودا، لكن عند نقطة محدَّدة تبدأ المقادير المضافة في جعل المحلول غائمًا، وفي نهاية الأمر تترسَّب المقادير المضافة في القاع حتى مع التقليب. ولإثبات تأثير درجة الحرارة على عملية الذوبان نضَع المحلول في الميكروويف لمدَّة ثلاثين ثانية، ما يكفي فقط لجعل المحلول يصل إلى درجة حرارة حِساء ساخن لكن يُمكِن تناوله. ينبغي أن يكون المحلول الدافئ الناتج صافيًا مرة أخرى، وينبغي أن تذوب كل بيكربونات الصودا الموجودة في قاع الزجاجة مع التقليب. ومن الممكن مشاهدةُ أثر المواد الأخرى على المحلول عن طريق الطباشير، قارن الطباشير الذي هو كربونات الكالسيوم مع بيكربونات الصودا، التي هي المركَّب المكوَّن من الصوديوم والهيدروجين والكربونات. فعندما نُضيف ملعقة صغيرة (٥ مليلترات) من بيكربونات الصودا إلى كوب (٢٤٠ مليلترًا) من الماء الدافئ فإنها تذوب، وبوضع نفس الكمية من مسحوق الطباشير فإنها ستغوص إلى العمق مثل الصخرة، في حين أن الطباشير يذوب عندما يُوضَع في الخل؛ ذلك لأن الخل حامض والطباشير يتفاعل مع الحامض، وعند تعريف الطباشير نجد أنه قاعدة، لكنه القاعدة التي لا تذوب في المحاليل المتعادلة مثل المياه غير المرشَّحة. وفي الخل أي في الحامض تتعادل قاعدة الكربونات، ويذهب الكالسيوم إلى المحلول. لذلك يبدو مع كل هذه التغيرات — طبيعة الملح، وطبيعة المحلول، وكمية الملح، ودرجة حرارة المحلول — أن كلًّا من عمليتَيِ الترسيب والذوبان معقَّدتان إلى حد ما؛ فهما لا يحدثان على الفور. ومع ذلك فسنخوض في هذه المفاهيم مرة أخرى في مواقف مختلفة عبر مسيرتنا؛ لأن الترسيب والذوبان يدخلان في الكثير من التفاعلات الكيميائية. فعلى سبيل المثال يتكون الصدف عندما ينبعث الكالسيوم من مخلوق بحري، فيختلط مع الكربونات الموجودة في الماء مُكونًا كربونات الكالسيوم. وتُعلِّل الأصداف المتراكمة على مر العصور في قاع المحيط تكوين الطباشير أو الحجر الجيري الذي يجد طريقه إلى سبُّوراتنا وأرصفة شوارعنا. وتُعتبَر عملية الترسيب نافعةً في عملية معالجة النفايات الخطرة، فإذا كان من الممكن ترسيبُ المعادن الضارَّة في المحاليل، فمن المُمكن فصلُها من المحاليل باعتبارها موادَّ صلبةً تَشغل حيزًا من الفراغ أقلَّ من الفضلات السائلة؛ ومن ثَم يسهل نقلُها وتخزينها. وثمة نوعٌ آخرُ من الترسيب لكنه مزعج، وهو تفاعلات الترسيب التي تحدث في مكان غير متوقع وهو جسم الإنسان؛ فالنقرس يحدث بسبب ترسيبات حامض البوليك المتجمعة في المفاصل. وحصوات المرارة والكُلى ما هي إلا رواسب، إلا أن هذه الرواسبَ المرَضية ليست بالأمر الطبيعي. فجسم الإنسان خليطٌ قِوامُه سائل إلى حد ما؛ حيث إن جوهر الحياة هو القدرة على التغيُّر استجابة للبيئة المحيطة؛ ومن ثَم يجب أن تكون معظم مواد الجسم قادرةً على الحركة وجاهزة لذلك، ويُمكن اكتمالُ هذه القدرة على الحركة عن طريق الماء، نظرًا إلى قدرة الماء العالية جدًّا على حفظ المواد في المحلول. يستطيع جسم الإنسان أن يتحمل فترة طويلة بدون غذاء أكثرَ من تحمله لغياب الماء، وبدون الماء يُصبح كلٌّ من الجسم والمخ في حالةِ كسل وتَراخٍ. وتتأثر الكثير من الحالات وكذلك الأمزجة بشكل فعلي إذا لم يُعدَّل أمر الماء بزيادة المقدار اليومي من الماء. في كثير من الأحيان عندما يتعلق الأمر بالصحة يكون الماءُ هو الحل. ويُعتبَر زبد الصابون نوعًا آخر من الترسيب الشائع. ويطفو زبد الصابون عادةً على الماء بدلًا من أن يترسب؛ ومن ثَم لا يُنظَر إليه عادة على أنه راسب، لكن هذه مسألة دلالات لفظية. يتكون زبد الصابون في البانيو عندما يختلط الصابون بالماء العسر، وهو الماء الذي يحوي أيونات كالسيوم وماغنسيوم. يُطلَق على الماء الذي يحوي أيونات كالسيوم وماغنسيوم «عسر»؛ لأن هذه الأيونات تميل إلى أن تكون رواسب (التي هي صخور صغيرة) غير قابلة للذوبان في الماء. الشيء الجيد عن الماء هو أن الكثير جدًّا من الأشياء تذوب فيه، والشيء السيئ عن الماء هو أن الكثير جدًّا من الأشياء تذوب فيه. ويُعتبَر الماء النقي موصِّلًا ضعيفًا للكهرباء، ولا يعني هذا أن تقف في بانيو مليءٍ بالماء لتُغيِّر مصباحًا؛ لأنه من الصعب جدًّا الحصول على ماء نقي؛ فالماء الذي يحتوي على أملاح مذابة فيه هو موصل جيد للكهرباء. وقدرة الماء على إذابة المواد تُفسِّر حقيقة أن كل المياه الجوفية تحتوي على أيونات ذائبة بما فيها أملاح الكالسيوم والماغنسيوم. وكما أن وضع قطعة طباشير في الماء يُؤكِّد أن ملح الكالسيوم غيرُ قابل للذوبان تمامًا — وتكوين أملاح الكالسيوم في غلاية الشاي يكون أمرًا مزعجًا والزبد محبطًا — فإن تكوين الرواسب القشرية داخل أنابيب المياه وفي حمامات السباحة يُعجِّل من حدوث مشكلات خطيرة. وفي وقتٍ ما كانت تُضاف أيونات الفوسفات المشحونة بشحنة سالبة إلى المنظِّفات؛ ومن ثَم يُكوِّن الكالسيوم بشكل تفضيلي الأملاح مع الفوسفات، بدلًا من تكوين الزبد، مما يُحرِّر المنظفات؛ ومن ثَم يتسنى لها أداء وظيفتها، لكن الفوسفات مخصِّبات غاية في الكفاءة. ومن ثم تُسبِّب تدفقات النُّفايات من الغسالات حدوثَ انسداد في أنابيب الصرف؛ لهذا يستدعي الأمر الحدَّ من استخدام الفوسفات، لكن في هذه الأيام، لا يُعتبَر تكوُّن زبد الصابون مشكلة خطيرة بسبب انتشار المذيبات المائية؛ فمُذيبات الماء تقوم بإزالة الكالسيوم والأيونات الأخرى المكوِّنة للرواسب من الماء قُبَيل جريانها في أنابيب الماء في المنازل. وتُعتبَر المبادئ المطبَّقة في مُذيبات المياه هي المبادئ نفسَها الموجودةَ في تفاعلات الترسيب، حيث يتدفق الماء عبر مادة كثيفة مشبعة بأيونات الصوديوم تُشبِه شبكة عملاقة من الأملاح، وتُعتبَر أملاح الصوديوم قابلة للذوبان، في حين لا يكون الكالسيوم في نظيراتها من نفس الأملاح قابلًا للذوبان؛ ومن ثَم يحل الكالسيوم محل الصوديوم ويُحتجَز على المادة الصلبة أو يُحبَس بداخلها. ويمكن استخدام الماء المشبع حاليًّا بالصوديوم بدلًا من الكالسيوم بدون أي قلق من أنه قد يُرسب الصابون أو يُكون رواسب قشرية جافة. في دورة إعادة الإنتاج لمذيبات المياه تُغسَل المادة الصلبة بالماء المشبع بالمزيد من ملح الصوديوم حيث يحل الصوديوم في نهاية الأمر محل الكالسيوم في المادة الصلبة، ويكون العامل المستخدم في تحويل الماء من عسر إلى يسر جاهزًا للبدء في أداء وظيفته مرة أخرى. لكن لا يتحتَّم على المادة أن تكون مِلحًا كي تذوبَ في الماء؛ فالسكَّر يذوب في الماء أيضًا، وبلا جدال لا يُعتبَر ملحًا، مما يُثير التساؤل: ما الذي يجعل السكر مختلفًا تمامًا عن الملح؟ فكلٌّ منهما مُركَّبات بِلَّورية بيضاء تذوب في الماء ويصعب التمييز بينَهما إلا بتذوُّقهما، لكنه يُمكنك أن تحيا لفترة قصيرة على ماء به سكر، ولا يُمكنك أن تعيش على ماء به ملح، ما الفارق؟ يكمن الأمر كلُّه في الرابطة؛ الرابطة الكيميائية!
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.16/
تجربة ٦: الرابطة. الرابطة الكيميائية
إنني أخشى … الفعل الكيميائي الذي سيترسَّب في نفسي من جرَّاء التبجيل الزائف لرمز ما. خذ زجاجة من البلاستيك الشفاف من تلك المطلوب شراؤها في «قائمة المشترَيات والمحاليل». ارتدِ نظارة الأمان الواقية، وصُبَّ نحو بوصتَين (٥سم) من الزيت المعدني. أضف نحو بوصتَين (٥سم) من محلول كبريتات النحاس. ضع الغطاء على الزجاج ثم رُجَّها. ينفصل المحلول إلى طبقتَين حيث يظل لون طبقة محلول النحاس أزرقَ لامعًا، ويظل لون طبقة الزيت المعدني شفافًا كما هو. أضف ربع ملعقة صغيرة (١ مليلتر) من صبغة اليود. ضع الغطاء ورجَّها.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.6/
الرابط الذي يربط الكيماويات التي تترابط
إن العلاقات الحميمة في مكان مثل لندن لهي أسطورة شخصية؛ فهي عميقة عمق الصلة الكيميائية. يمر آلاف من الناس وينعزل أحدهم عن هذه الجموع الغفيرة ليُلصِق نفسَه بآخر، وهكذا رويدًا رويدًا تتكوَّن الجماعة. نحن نُقابل القطبية أو الفعل ورد الفعل في كل جزء من الطبيعة، نُقابلها في الظلام والضوء، في الحرارة والبرودة، في المد والجزر، في الذكورة والأنوثة، في شهيق وزفير النباتات والحيوانات، في انقباض وانبساط القلب، وفي موجات السوائل والأصوات، وفي الطَّرد المركزي والجذب المركزي، وفي الكهرباء، والجلفانية، وفي الأُلفة الكيميائية. لقد كان المثال الذي استخدمناه لهذه التجرِبة، الذي استهللنا به هذه المناقشةَ هو كأس من شراب المارتيني مع زيتونتين، لكن على عكس خلة الأسنان التي تربط الزيتونتين معًا، فإن الرابطة ليست كيانًا ماديًّا. وينبغي أن نُدرِك أن الرابطة قوة بنفس إدراكنا أن المغناطيسية والجاذبية هما قوة. ومنشأ القوة في الرابطة الكيميائية هو منشأ كهربائي، ولكنها تلك القوة التي يَشوبها تعقيدات التجاذب والتنافر، ويُوجَد فيها الكثير من الإلكترونات والبروتونات والشحنات التي تتحرك بأنماطٍ معقَّدة. تُشبه محاولة تصنيف المواد طبقًا لنوع الرابطة، محاولة طبيب التجميل تصنيف الناس طبقًا لدرجة لون البشرة. بالطبع فإن هناك أناسًا ذَوي بشَرة سوداء وآخرين ذوي بشرة بيضاء، لكن هناك الكثير جدًّا من التنويعات ضمن نطاق بشرة الإنسان. وعلى نفس المنوال يُمكننا القول إنه ثمة ثلاثة تصنيفات أساسية للرابطة الكيميائية؛ الأيونية، والتساهمية، والفلزية، لكن هذه جميعها مجرد متغيرات داخل موضوع واحد وهو أن الأنوية ترتبط معًا عندما يكون هناك انجذابٌ متبادَل، وأن أساس هذا الانجذاب المتبادل كهربي. ولدى كل رابطة القليل من خصائص الروابط الأخرى — التساهمية والأيونية والفلزية — لكن بدرجات أكبر أو أقل، ولا يُعتبَر هذا الغموض مفيدًا بصورة مباشرة، إلا أننا سوف نستمرُّ في هذه الدراسة كما لو كان من الممكن أن نضع كل جزيء بشكل قاطع في فئة أو أخرى، ثم نستخدم التصنيف كي ننسب خواصَّ للمواد المختلفة. أولًا: نحن نملك أداة رائعة للتنبُّؤ بالضبط من أن أي نوع أيون لعنصر ما يميل غالبًا إلى الدخول في التفاعل، وهاك أقرَب صديق للكيميائي، الجدول الدوري، الذي نعرضه هنا مرة أخرى للتيسير. وتميل عادةً اللافلزات التي تقع عن يمين السلم إلى أن تُكوِّن أيوناتٍ سالبةً عندما تُكوِّن أيونات. أما الفلزات التي تقع عن يسار السلم فتميل عادة إلى تكوين أيونات موجبة عند تكوين الأيونات. والشحنات المختلفة تتجاذب؛ فعندما تكون هناك أيونات ذات شحنات مختلفة على مَقرُبة من بعضها البعض، فإنه ينجذب بعضها إلى بعض. وإذا تكونَت رابطةٌ بِناءً على هذا الانجذاب بين الأيونات، تُوصَف الرابطة بأنها أيونية. فعلى سبيل المثال تُعتبَر الرابطة بين الصوديوم والكلور في ملح الطعام، كلوريد الصوديوم، خيرَ مثال على ما يُعتبَر رابطة أيونية؛ تنشأ الرابطة الأيونية عن الانجذاب بين الأيونات الموجبة والسالبة، كما هو مُتضمَّن في الاسم، وفي الرابطة الأيونية يمكن التنبؤ بما سيحدث بشكل دقيق وقابل للتعليل، لدرجة أن الفرد غالبًا ما يرغب في أن تكون جميع الروابط روابطَ أيونية سهلة، لكن في ذلك الحين لن يكون لدينا تلك التشكيلةُ الفعلية التي لا حصر لها من المواد والتي تكون ضرورية لعالمنا؛ فدائمًا ما يكون التنوع عاملًا شيقًا لكن معقدًا. وكما أشرنا من قبل، تتكوَّن الأيونات لأن الذرات تميل إلى أن تكتسب أو تفقد إلكترونات إلى أن تحصل على غلاف مشبع التكافؤ. ولأسباب في الماضي سُمِّيَت الأغلفة التامة الامتلاء ثُمانيات، مع حقيقة أنه ليست كل الأغلفة الممتلئة تَحوي ثمانية إلكترونات. ونحن نتحدث عن أيونات تتكوَّن عندما تكتسب الذرة إلكتروناتٍ أو تفقدها لتُشبع ثمانيتها، لكن ثمَّة بعض الطرق التي يُمكن أن تملأ الذرة بها ثُمانياتها دون أن تتخلى عن إلكترونات أو تَسرقها، فمن الممكن أن تكتمل الثمانيات عن طريق مشاركة الإلكترونات أيضًا. تُؤدِّي مشاركة الإلكترون إلى نوع من الروابط عادةً ما يحدث بين فلزَّين (أي عُنصرَين يقع كلٌّ منهما في اليمين الأقصى من الجدول الدوري. ويُطلَق على هذا النوع من الروابط «الروابط التساهمية». وكما شاهدنا، إلكترونات التكافؤ هي تلك الإلكترونات التي تقع في الطبقة الخارجية من الذرة، فعلى سبيل المثال، كل ما يحويه الكربون، الذي يقع في الدورة الرابعة من الصف الثاني، هو ستة إلكترونات (لكونه سادسَ عنصر مدرَجٍ في الجدول الدوري))، لكن أربعة فقط من هذه الإلكترونات هي إلكترونات تكافؤ، أي إلكترونات الغلاف الخارجي. وتعني تَساهمية أنه تشارك الإلكترونات على نحوٍ تعاوني وتتصرف الإلكترونات كأنها إلكترونات تكافؤ العنصرَين في الرابطة. ويُعتبَر المنطق النظري لمشاركة الإلكترونات هو أن كِلا العنصرَين في الرابطة التساهمية يملك تقريبًا نفس مقدار الجاذبية للإلكترونات. وما من طريقة لتحديد أي العنصرَين سيأخذ الإلكترونات وأيهما سيتخلى عنها؛ نظرًا إلى أن العنصرَين يقعان في الجانب نفسِه من الجدول الدوري، ويتشابهان في السالبية الكهربية. ويقع الأوكسجين في الجانب الأيمن من الجدول الدوري، وكما ذكرنا من قبلُ يحوي الهيدروجين سالبية كهربية مشابهة لعناصر الجانب الأيمن من الجدول؛ من ثَم تكون الرابطة بين الأوكسجين والهيدروجين في الماء رابطة تساهمية. وعندما تنتهي إلكترونات تكافؤ كل من الأوكسجين والهيدروجين من تنظيم نفسها حول الأنوية، يصبح لكل عنصر ثمانيةٌ مكتملة. (تذكر أن ثمانية الهيدروجين مشبعة بإلكترونَين). تمتلئ ثمانية كل ذرة هيدروجين بإلكترونَين، أما ثمانية الأوكسجين فتمتلئ بثمانية إلكترونات؛ أربعة منها مُشاركة مع أنوية الهيدروجين. إلا أن ثمة تناقضًا جوهريًّا؛ فقد ذكرنا أن الشحنات المختلفةَ تتجاذب والمتشابهة تتنافر، وأن للإلكترونات كافةً شحنةً سالبة. إذا كان هذا صحيحًا، فلماذا لا تنفجر إذن مجموعات إلكترونات التكافؤ في وبائل متطايرة من الإلكترونات بدلًا من الاستقرار في روابط كيميائية قوية؟ هذا سؤال جيد جدًّا، ونحن مسرورون أنك سألته، وقد اتضح أن هذا السؤال لطالما حير علماء الكيمياء النظريين أيضًا، وقد أطلَقوا على التجاذب المُلاحَظ بين العناصر «الصلة الكيميائية» لإعطائه اسمًا فقط، لكنهم لم يفهموا طبيعة هذا التجاذب، لكن بفهم التركيب الذري وُجِدَ مبررٌ لمثل هذا التجاذب؛ فيمكن النظر إلى طبيعة التجاذب على أنها إلكترونات سالبة تعمل وسيطًا بين الأنوية المشحونة بشحنات موجبة. وبالرغم أن الصورة الكاملة أكثر تعقيدًا بكثير، فيُمكننا أن نجد تشبيهًا منطقيًّا في المغناطيس؛ إذا قرَّبنا مِغناطيسَين معًا بحيث يتقارب قُطباهما المتشابهان، فإنهما سيَتنافران. يُشبِه هذا الموقف إحضار نواتَين عاريتَين مشحونتَين بشحنات موجبة معًا، حيث نجد أنهما لا يرتبطان بسبب التنافر بينهما، لكن بالرجوع إلى المغناطيس نجد أنه إذا وُضع قضيب مغناطيسي ثالث بين المغناطيسَين اللذَين أحضرناهما أولًا بحيث يكون القطب الجنوبي موضوعًا إلى جانب القطبَين الشماليَّين، عندئذٍ يجذب المغناطيس الواقع في الوسط بينهما المغناطيسَين الآخَرَين ويبقى الثلاثة معًا. وفي الرابطة تقوم الإلكترونات السالبة الموجودة بين الأنوية المشحونة بشحنات موجبة بجذب الأنوية الموجبة وتتصرَّف كأنها غِراء تُلصِق الأنوية معًا. وعادة ما تكون طاقة المدارات غير الرابطة أكبر كثيرًا من طاقة مدارات الترابط، لكن إذا اصطدمت الكمية المضبوطة من الطاقة بمدارات الترابط، ربما في شكل طاقة ضوئية، تُثار الإلكترونات من أحد المدارات إلى آخر. وإذا أُثيرَت الإلكترونات فانتقلت من أحد مدارات الترابط إلى أحد المدارات غير الرابطة، فقد تنكسر الرابطة. وتُخزن الكثير من المواد مثل بعض الجِعَة (البيرة) في زجاجات بنية اللون حتى تمنع الضوء من أن يُفتِّت المادة التي بالداخل بنفس هذه الآلية. ويُمكن أن يُوجَد في المواد الصلبة إلكترونات في نظام الترابط بين أزواج الأنوية تُسمَّى «حُزمة التكافؤ»، كما يُوجد أيضًا مدارات عملاقة تمتد حول كل النواة تُسمَّى «حُزمة التوصيل»، ويُمكن تخيُّل حُزمة التوصيل على أنها مدار إلكتروني هائل، وفي حُزمة التكافؤ تظل الإلكترونات مرتبطة بنواتها. أما في حُزمة التوصيل فتحظى الإلكترونات بحرية التحرك من نواة إلى أخرى، والتنقُّل من أحد طرَفَي الفلز إلى الطرف الآخر. ويُمكننا تشبيه الأمر بشبكة بنكية. يُوجَد على المستوى المحلي بنوك داخل المدينة يعمل بها صيارفة محليون يعيشون ويعملون في المكان نفسِه، وهؤلاء الصيارفة هم إلكترونات حُزمة التكافؤ، وظيفتهم الحفاظ على أسس البنك معًا. أما المديرون الأعلى فهم إلكترونات حزمة التوصيل، ووظيفتهم تجعلهم يتنقلون من بنك إلى آخر عبر كل الشبكة. والمواد التي لديها وفرة من الإلكترونات في حزمة التوصيل تُسمَّى بشكل منطقي جدًّا «الموصِّلات»، والطاقة التي تُزوِّدها البطاريات تجعل هذه الإلكترونات تنتقل فيما يُعرَف عامة «بالتيار الكهربي». بعض المواد الصلبة الأخرى لا تملك إلكترونات في حزمة التوصيل ولا توصل الكهرباء، وتُسمَّى بالمواد العازلة، والمواد التي تتوسط الموصلات والعوازل تُسمَّى «أشباه الموصِّلات»، وهو اسم له صدًى رنان باعتباره مادة ثورية. لقد غيَّر ابتكار الترانزستور الذي يقوم على أشباه الموصلات العالمَ بأثره. ما أشباهُ الموصلات إذن؟ كما يتضمن الاسم، موادُّ لها خواصُّ كهربية تتوسط تلك التي للموصلات والعوازل، وأشباهُ الموصلات هي المواد التي تُوصل التيار أحيانًا. وعادةً يكون في أشباه الموصلات القليلُ جدًّا من الإلكترونات في رابطة التوصيل لنقل التيار، إلا أن الفجوة في الطاقة بين حُزمة التوصيل وحزمة التكافؤ صغيرة بما يكفي حتى إن الإلكترونات تستطيع، بالقليل من الإثارة، أن تعبر الفجوة، وتجعل المادة موصلة، وتكون هذه الإثارة في شكل الجُهد الكهربي المستخدَم أو الحرارة أو الضوء. وتُعتبَر بعض المواد الصلبة أشباهَ موصلات طبيعية. إلا أنه من الممكن جعلُ البعض الآخر قادرًا على عبور الفجوة عن طريق عملية تُسمَّى «الحقن» مع أن الأمر ليس له أية علاقة بالرِّياضيين أو المنشطات. عادةً ما يكون السليكون أول مادة تأتي بأذهاننا عندما نتحدث عن أشباه الموصلات، لكن في حقيقة الأمر لا يُعتبَر السليكون مادةً شبهَ موصِّلة بالطبيعة، فالسليكون الصلب يجب أن يُحقَن ليُصبح مادة شبه موصلة، والحقن هو عملية إضافة كمية قليلة جدًّا من الشوائب للمادة الصلبة مثل السليكون. وهناك اثنان من الشوائب المفضلة للسليكون في الجدول الدوري. فهما لديهما تقريبًا نفس الحجم والسالبية الكهربية؛ ومن ثَم يسهل أن يتناسبا مع السليكون في الحالة الصلبة، فهما يُغيِّران خصائص التوصيل للسليكون حيث إن لديهما إلكترونًا مزيدًا وإلكترونًا منقوصًا على التوالي عن السليكون. إذن ما هو الهدف الذي يُمكن الوصولُ إليه من وراءِ هذا؟ يستطيع الآن تيارٌ صغير أن يتحكم في تيار كبير، وأن يُطفئه ويُشغله بالقليل من الإلكترونات المتدفقة، ولكي تَعِيَ أهمية الموقف، هيا نُلقِي نظرة على الماضي لبرهة. كان الأوروبيون في أوائل العصور الوسطى مُعوِزين على الصعيد التكنولوجي، ومعتمدين على العمالة اليدوية، وكانوا إذا احتاجوا إلى دقيق مطحون، قاموا بربط العديد من عبيد الأرض في طاحونة، ثم جعلوهم يبدءُون الدفع، إلا أن الطاعون الأسود قضى على طبقات العمال، ووجد الناس الباقون أنفسَهم أكثر إبداعًا عند استخدام العتلة والتروس والماكينات البسيطة الأخرى. واكتشفوا أن عاملًا واحدًا برافعة ونظام من التروس يستطيع أن يرفع السد مما يسمح للمياه بالتدفق عبر ساقية، وهذه الساقية تُدير الطاحونة وتقوم بالعمل الذي يقوم به الكثير من العبيد. وقد حدث التغيير في العصور الوسطى في أوروبا تدريجيًّا بصورة أكثرَ من التغيير الذي شهدناه نحن، ويرجع ذلك إلى أشباه الموصلات، إلا أن الأثر الاجتماعي مُشابِه؛ فبدلًا من عامل يعمل على عتلة تُشغل السد، لدينا الآن بطارية بداخل لوحة تشغيل تُشغل التيار وتفصله. وتُسمَّى مفاتيح أشباه الموصلات «ترانزستور» التي تُستخدَم للتشغيل والفصل، أو النظام الثنائي الذي يُشكل أساس الحاسوب. كيف يتسنَّى للمحوِّلات أن تُستخدَم للقيام بكافة الوظائف المعقدة في الحواسيب؟ أولًا عن طريق العد أو الإحصاء. يُمكن للحواسيب أن تُحصي باستخدام الأصفار ورقم ١ الذي يُقابل التشغيل والفصل، ومع أننا اعتدنا العد باستخدام النظام العشري، ربما لأننا خُلِقنا بعشَرة أصابع، فإن الأنظمة الأخرى للعد مُمكنة. فالساعات تُحسَب بمجموعات ستينيَّة (٦٠ ثانية تكون دقيقة، و٦٠ دقيقة تكون ساعة) ويوضع البيض في مجموعات عددُ كلٍّ منها اثنتا عشْرةَ بيضة، أي بالدستة. وتحسب الحواسيب بمجموعات ثنائية وتستخدم الصفر ورقم ١ (تشغيل وفصل) للأرقام العشرية. وتستخدم الحواسيب أيضًا «و، لا، أو» وهي عين الكلمات المستخدمة للربط بين الكلمات الرئيسية في البحث على الإنترنت (نظام يُسمَّى قواعد المنطق البوليني) وأيضًا منطق السبب والنتيجة. فعلى سبيل المثال إذا كان المفتاح مُشغلًا على الحرف أ، وكان الحرف و على الطابعة تُنتج الطابعة في هذه الحالة الحرف أ. لكن إذا كانت المفاتيح هي كلَّ ما يحتاج إليه الحاسوب، لماذا إذن لا يُمكنك أن تعمل بدون محولات؟ الإجابة هي أن هذا ممكن وقد كان بالفعل، فلا تُعتبَر المفاتيح شيئًا جديدًا ولا حتى المفاتيح الكهربية. لقد كانت الصمامات المفرغة تُستخدَم في القديم لمفاتيح التشغيل والفصل (صفر و١) بدلًا من الترانزستور، ومع المزايا الأخرى التي تتمتع بها صمامات التشغيل ومع استخدامها في الكثير من التطبيقات، فإن المشكلة في استخدامها هي أن لها حجمًا كبيرًا، وتُولِّد الكثير من الحرارة، وعليه كانت تتطلب الحواسيب القديمة الكثير من الفراغ والتبريد، وكان الأمر يحتاج إلى عدد هائل من المفاتيح لأي مهمة متوسطة التعقيد، لكن بوجود المحولات يُمكن وضع عدد كبير من المفاتيح في منطقة صغيرة جدًّا دون توليد كمٍّ هائل من الحرارة. وبمجرد استنباط المبادئ الرئيسية لأشباه الموصلات، وجَّه العلماء جهودهم نحو ابتكار أنواع مختلفة من أشباه الموصلات، وفي هذه الأيام ثمة أشباه موصلات تستشعر الحرارة أو الألوان الضوئية المختلفة؛ فثمة أجهزة تقوم على المنطق الذي تقوم عليه أشباه الموصلات التي تقوم بكل شيء؛ ابتداءً من ضبط المصباح إلى قيادة المركبات الفضائية. ولتكوين العديد من المواد يتطلَّب الأمر فهمًا كاملًا لمبادئ الروابط الكيميائية والمبادئ الرئيسية للتفاعلات الكيميائية، حيث إن اثنَين من هذه المفاهيم الأساسية — حفظ الكتلة وقانون النسب الثابتة — سيُناقَش فيما يلي.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.17/
تجربة ٧: كيمياء الأحجار الكريمة
لقد قالت: «لكن القوانين الكيميائية موجودة» فلكونها امرأة، كانت بحاجة إلى إيمان. أحضِرْ كيسَين من البلاستيك ذاتيَّيِ الإغلاق في حجم الشطيرة، وكيسَين من البلاستيك ذاتِيَّي الإغلاق في حجم الجالون، ثم ارتدِ نظارتك الواقية. أحضر علَّاقة ملابس (شماعة)، ثم علِّقها بحيث تعمل كالميزان، ربما يكون أفضل وضع لتعليق العلَّاقة هو استخدام عصا مكنسة مُثبتة على كرسيَّين. ضع بداخل كل كيس كبير بالتساوي مِلءَ ملعقة شاي بلاستيكية (٥ مليلترات) من زبد الطرطير مع نصف كوب من فوق أكسيد الهيدروجين (٦٠ مليلترًا). اخلط هذه المكونات جيدًا بفرك كل كيس من الخارج بأصابعك. لا تغلق الأكياس الآن. صبَّ داخل كل كيس صغير من الأكياس التي بحجم الشطيرة ملعقةً صغيرة (٥ مليلترات) من محلول كبريتات النحاس (مجهَّز كما هو موصوف في قائمة المشتريات والمحاليل). أحكِم غلق هذَين الكيسَين تمامًا وضع واحدًا داخل كل كيس من الكيسَين الكبيرَين. الآن أحكم غلق الكيسَين الكبيرَين وعلقهما بمشابك غسيل على علَّاقة الملابس، واحدًا عند كل طرف. عدِّل وضْعَ الكيسَين على علَّاقة الملابس بتحريك مشابك الغسيل جيئة وذهابًا حتى يحدث توازن بين كلٍّ من الكيسَين، وتستوي علَّاقة الملابس. يعمل هذا الميزان اليدوي جيدًا إذا كانت علَّاقة الملابس معلقة حول شيء مستدير؛ من ثَم يمكن لكُلَّاب العلَّاقة أن يتحرك جيئة وذهابًا بطريقة غير مقيدة. بمجرد أن يتوازن الكيسان ثبت مشبكَي الغسيل في مكانَيهما بشريط لاصق. تحقَّقْ مرة أخرى من أن الكيسَين لا يزالان متوازنَين. نأتي الآن إلى الجزء الذي يتطلب الحذر. افتح أحد الكيسَين الصغيرَين اللذَين داخل الكيسَين الكبيرَين من الخارج دون أن تفتح الكيس الكبير. صب محلول كبريتات النحاس من الكيس الصغير على خليط زبدة الطرطير وفوق أكسيد الهيدروجين الذي بداخل الكيس الكبير. يبدأ التفاعل ببطء، لكن يحدث فوران في خلال عشر ثوانٍ. أخيرًا تفسح طرطرات النحاس ذات اللون الأزرق السماوي المثير المجال للخليط الآخر الجيري من مركب الطرطرات مع أكسيد النحاس البرتقالي اللون. يُولِّد التفاعل حرارة كافية حتى إنه يمكنك ملاحظة تكثف داخل الكيس الكبير وتشعر بالدفء من الخارج. وتُذكرنا الألوان المبهرة الناتجة عن التفاعل بألوان الأحجار الكريمة لسبب جيد جدًّا؛ ألا وهو أن ألوان الأحجار الكريمة، مثل اللازَوَرْد والفيروز، تنشأ من أملاح النحاس، ويبدو العديد من أملاح النحاس بمقادير ضئيلة في شكل خطوط وعروق ملونة في الأحجار اللامعة. ويُعتبَر كلٌّ من خروج الحرارة والفقاعات وتغير اللون من مؤشرات حدوث التفاعل. ولم تَعُد المادة الآن التي في كيس التفاعل هي نفس المادة الأصلية، لكن إذا كنت حذرًا أثناء فتح الكيس الداخلي، ينبغي أن تظل علَّاقة الملابس متوازنة. ويُعتبَر فعل الاتزان هذا مثالًا على «حفظ الكتلة» وهي فكرة أن الكتلة لا تنشأ ولا تتلاشى بفعل الوسائل الكيميائية؛ فكتلة المتفاعلات، أي المواد التي في الكيس الذي تُرِك كما هو ولم يحدث فيه تفاعل، لا تزال هي كتلةَ النواتج نفسَها، أي الموادَّ الزرقاء والخضراء في الكيس التي سُمِح لها بالتفاعل فيه. ولا يُهِم كيف تتغير الأشياء، لكن يكفي أن بعض الأشياء تظل كما هي.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.7/
الالتزام بالمبادئ
يُشبه اجتماع فردَين الاتصال الكيميائي لمادتَين: إذا حدث أي تفاعل بينهما، فإن كِلَيهما يتحول. وسوف نستهلُّ مناقشتنا عن الوصفات هذه عن طريق فحص اثنَين من المبادئ الرئيسية تُبنى عليهما الوصفات؛ وهما حفظ الكتلة وقانون النِّسب الثابتة. يُعرِّفنا قانون النسب الثابتة بقائمة المكونات، ويُخبرنا قانون حفظ الكتلة عن حجم الكعكة التي سوف نخبزها. ويذكر قانون النسب الثابتة ببساطة أن الصيغة الكيميائية لأي مركب واحد تكون ثابتة ولا تتغير، وأن أي تغيير في الصيغة الكيميائية يُفضي إلى مادة جديدة ذات خواصَّ جديدة (تمامًا مثلما يُؤدي تبديل المكونات في الزبد إلى الفرق بين كعكة الطبقات والكعكة المحلاة). وعندما يكون هناك تفاعلٌ يُؤدي إلى تغيير الصيغة، تُعطَى الوصف عن طريق معادلة كيميائية. وبالاتفاق معًا قرر الكيميائيون وضع المواد الأصلية، التي هي المتفاعلات، عن اليسار يعقبها سهم، ثم المواد التي انتهينا إليها أي النواتج عن اليمين؛ فعلى سبيل المثال: التي تعني أن الكربون بالإضافة إلى الأوكسجين سوف يُكونان ثانيَ أكسيد الكربون. إلا أن ثمة اختلافًا بين وصفات كتاب الطهو والتفاعلات الكيميائية؛ فليست كلُّ التفاعلات الكيميائية تنتهي إلى الاكتمال. ففي الكثير من التفاعلات الكيميائية، تظل كمية معينة من موادِّ التفاعل كما هي على طبيعتها الأصلية دون أن تشترك في التفاعل الكيميائي، مثل البودنج (حلوى تعد من دقيق أو أرز ولبن وبيض وفاكهة وسكر) غير المكتمل التسوية، فالبودنج الذي لم يُطبَخ تمامًا يكون بعضه بودنج وبعضه سائلًا. تُشبِه معظم التفاعلات الكيميائية البودنج غير المكتمل التسوية، فبعض نِسَب المواد المتفاعلة تتحول إلى نواتجَ والبعض الآخر لا يتحول. ويظل بقاء الكتلة كما هو بالنسبة إلى تفاعلات البودنج غير المكتملة، إلا أننا سنفترض مبدئيًّا أن كل التفاعلات تكتمل، أو بكلمات أخرى سنفترض أن كل المتفاعلات تتحول إلى نواتج وأن البودنج طُبِخ تمامًا، كل هذا من أجل التوضيح. عندما يكتمل التفاعل الكيميائي، يمكن التنبُّؤ التام بكمية النواتج عن طريق بقاء الكتلة: فإذا تضمَّنَت الوصفة الكيميائية رِطلَين من المتفاعلات فستكون كتلة النواتج رطلَين أيضًا. قد يبدو مبدأ بقاء الكتلة أمرًا بديهيًّا. إذا حدث التفاعل الكيميائي، مثل ذلك التفاعل الذي في التجرِبة السابقة، فنحن نشعر بديهيًّا أن الكتلة قبل التفاعل ينبغي أن تظل كما هي دون تغيير بعد التفاعل. إلا أن الدليل على ذلك لا يتَّسم بالوضوح دائمًا. إذا قام أحد الطهاة المعاصرين بوزن كل مكونات عمل الفطيرة المحلاة قبل طهيها ثم قام بوزن الفطيرة بعد الطهي مباشرة، فإنه لن يندهش إذا ما وجد أن الكتلة أقل، فيُمكن مشاهدة الفقاعات أثناء طهي الفطير كعلامة على تصاعد الغاز من الناتج، وعلى أن الكعكة أصبحَت بعد طهيها ذاتَ قوام أكثر جفافًا، دليلًا على فقدان الماء، ولو كان هذا الطاهي قد وُلِد في وقتٍ ما قُبيل هذا الإدراك الواضح لتركيب الهواء وبخار الماء، لما استطاع هذا الطاهي أن يعرف سوى أن الفطيرة فقدت جزءًا من وزنها ولما خلص بالضرورة إلى أن الكتلة بقيت. وأحد الطهاة الذين لم يُخدَعوا في هذا الأمر هو الكيميائي لافوازيه. لقد التقينا بلافوازيه من قبل في خضم مناقشتنا عن الأكسدة والاختزال، وسنُضيف الآن أن لافوازيه كان أيضًا ذا أثر في ترسيخ صلاحية مبدأ بقاء الكتلة، وقد استخدم التفاعل: لكن على غرار نمط برجوازي لا غش فيه، استخدم لافوازيه الماس من مصدره الكيميائي وهو الكربون، واستخدم أشعة الشمس المُجَمعَة عبر عدسة ضخمة، وقام بإجراء التجرِبة في وعاء محكم الغلق، وبيَّن بواسطة اندفاع الهواء بعد التفاعل أن جزءًا من الهواء استُهلِك. إلا أنه قام بوزن الوعاء قبل كسره وفتحه، وأثبت أنه يزن بعد تفاعل احتراق الماس تمامًا مثل قبل التفاعل، أي إن الكتلة بقيت. لكن ثمة بعض التحسينات الهامة التي كان يجب إدخالها قبل ترجمة عمل لافوازيه إلى تفاعلات كيميائية حديثة، ومن أبرزها وصف جون دالتون للذرات. ومع أن هذه الفكرة تحوم في الأجواء على الأقل منذ عصر الفلاسفة اليونانيين القدامى، أخذ دالتون الحظوة في طرح فكرة اختلاف ذرات العناصر المختلفة، وإحدى الخصائص التي تجعلها مختلفة هي الكتلة، فكل عنصر لديه ذراتٌ ذاتُ خصائصِ كتلة مختلفة. وقد أنارت هذه الفكرة الطريق لتحديد الكتلة — الكتلة الذرية — لكلٍّ من العناصر. وفي التفاعل السابق بين الماس والأوكسجين، تتضمَّن الصيغة الكيميائية تَكوُّن جزيء ثاني أكسيد الكربون عند اتحاد ذرَّتَي أوكسجين مع ذرة كربون. وتُؤكِّد لنا ذرات دالتون أيضًا بقاء الكتلة؛ حيث إنه يوجد ذرة كربون وذرتان أوكسجين عن اليسار، وكذلك ذرة كربون وذرتان أوكسجين عن اليمين، أي نفس عدد الذرات، بنفس الكتلة، مع اختلاف الترتيب فحسب. وإذا كان عدد الذرات ونوعها هما نفسهما في اليمين كما في اليسار، يُقال إن التفاعل متوازن. ويُمكِن مضاهاة التفاعل ببائع الزهور؛ إذا قام بائع الزهور بوضع الزهرية على الميزان وإلى جانبها باقةٌ من الزهور، فإننا لن نتوقع أن تتغير قراءة الميزان بعد أن يلتقط بائع الأزهار كل الزهور ويُنسقها بداخل الزهرية. تُشبه التفاعلات الكيميائية التنسيق الجديد للزهور — ليست الزهور جديدة، ولكن التنسيق هو الذي يكون جديدًا — ومن ثَم تَكون الكتلة هي نفسها قبل وبعد تنسيق التفاعلات الكيميائية. وتَنقل لنا التفاعلات الكيميائية المتوازنة معلوماتٍ جوهريةً بشأن كمية المتفاعلات التي سنحتاج إليها للحصول على كمية معينة من النواتج، أو بطريقة أخرى كمية النواتج الناجمة عن كمية معينة من المتفاعلات، ويُعتبَر هذا النوع من المعلومات مهمًّا عند التعامل مع تفاعلات تحدث في كئوس موضوعة على مائدة، لكن عند التعامل مع حمولات صهاريجَ من المواد الكيميائية في مُفاعِلات في حجم الصوامع، يكون هذا النوع من المعلومات في غاية الحساسية والخطورة، ومن حسن حظ الصناعات الكيميائية وجود كيميائيين مكرَّسين لدراسة أفضل الطرق للتعامل مع كافة أنواع المواقف الكيميائية الدقيقة والمتطلبة الحذر والبراعة من كميات الحرارة الهائلة إلى كميات المواد الهائلة إلى الحامض والقاعدة وتفاعلات الحالة الغازية؛ فهم مهندسون كيميائيون بارعون. عندما يُفكِّر الناس في الصناعات الكيميائية، قد يأتي على أذهانهم صناعةُ المبيدات الحشرية أو الأدوية أو المذيبات أو مواد التشحيم أو عمليات معقَّدة نسبيًّا، ويندهش الكثير من الناس عندما يعلمون أن معظم صناعة الكيمياء ترتكز حول صناعة أربع موادَّ كيميائية بسيطة نسبيًّا، وهي: حامض الكبريتيك وحامض الفوسفوريك وهيدروكسيد الصوديوم وصديقنا القديم كلوريد الصوديوم. لكن استخدام حامض الكبريتيك في بطاريات السيارات لا يُعلِّل إنتاجه بهذه الكميات المهولة، وأكبر استخدام فريد لحامض الكبريتيك هو في المخصِّبات؛ لا سيما في الخليط الذي يحوي حامض الكبريتيك وصخر الفوسفات والذي يُسمَّى بالسوبرفوسفات؛ لأن الفوسفات معدِن أساسي تحتاج إليه النباتات، ولأنه مكوِّن أساسي في العظام، فإن مسحوق العظام كان يشيع استخدامه في وقت ما كمُخصِّب، يُمكن في هذه الأيام استخدام الفوسفات الصخري المُعالَج بحامض الكبريتيك ليُصبِح أكثر قابلية للذوبان أيضًا. لكن مثلما يُؤدي الاستخفاف بمثل هذه المشكلات إلى تداعي مهنة المهندسين الكيميائيين، وتُؤدي المغالاة في هذا الأمر إلى نفقات غير ضرورية أيضًا، يجب أن يكون المهندس الكيميائي أيضًا على دراية بأن عملية التقدير تقوم على افتراض أن كل جزيء من الغاز يشغل حيزًا من الفراغ كما لو كان الشيء الوحيد الموجود في العالم. في واقع الأمر، ثمة انجذابات وتنافرات بين الجزيئات. ويُؤدي الانجذاب بين الجزيئات إلى تكثف الغازات إلى سوائل. ويزيد التنافر بين الجزيئات من صعوبة ضغطها حيث يتضاءل الحجم أكثر وأكثر، ويجب أن يأخذ المهندسون الكيميائيون هذا الانجذاب والتنافر اللذَين يُطلَق عليهما معًا «القوى البينجزيئية»، بعين الاعتبار، فتُعتبَر أيضًا هذه القوى البينجزيئية الأساس لخصائص عديدة مثيرة نلحظها للمواد، وهو ما سنتعرض له الآن.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.18/
تجربة ٨: طبقة فوق طبقة
واليوم إذا ما التقت برجل، هب أنه بطَلنا، ستتصارع معه كيمياؤها لكنها ستمتزج معه، كأنها بورجيا وكأنه نيرون، كأن الأمر خدعة شيطانية صغيرة. بعد ارتداء نظارتك الواقية، خذ كوبًا شفافًا صغيرًا وصُبَّ فيه نحو بوصة كاملة (٢٫٥سم) جلسرين (المقترح في «قائمة المشتريات والمحاليل»). خذ بعض الماء المصبوغ بألوان طعام وصُبَّ على الجلسرين وبنفس ارتفاع الجلسرين. ينبغي أن تلحظ طبقتَين مُتمايِزتَين في الكوب. أضف عليهما طبقة من زيت الكانولا تلحظ ثلاث طبقات مختلفة. قلِّب الخليط. يختلط الماء الملون بالجلسرين، ويظل زيت الكانولا مستقرًّا في طبقة منفصلة عند التوقف عن التقليب، وقد يأخذ الأمر بضع دقائق حتى تنفصل الطبقات. أضف طبقة من الصابون السائل إلى المحلول، ثم شاهده وهو يترسَّب بين طبقة خليط الجلسرين والماء وطبقة زيت الكانولا. الآن عندما تختلط الطبقات (قلب برفق كي لا تُحدِث فقاعات) يجعل الصابون زيت الكانولا يمتزج بالجلسرين. وينتج عن ذلك خليطٌ متجانس، وقد ينفصل الخليط مرة أخرى في نهاية الأمر، ولكن هذا قد يستغرق وقتًا أطول مما لو كان المنظف غير موجود. انفصل المحلول في أول الأمر بسبب التفاوت في قوى الجذب البينجزيئية، وهي نوع من أنواع القوى البينجزيئية، وتحدث هذه الانجذابات بين الجزيئات على عكس القوى البينجزيئية — الروابط الكيميائية — التي تربط الأنوية داخل الجزيء. وهذا الاختلاف مثل اختلاف كتاب مجلد إزاء الأوراق الملصقة معًا، فالغرض من جلدة الكتاب أن تظل ثابتة، ولا يتيسَّر فصل الغِراء الذي يُمسك الأوراق معًا بسهولة، وعند عزل جلدة الكتاب، يكون لديك رزمة من الورق ولم يعد لديك كتاب. في حين تُشبه الأوراق المُلصقة قوى الجذب البينجزيئية، ويُعنى بالأوراق الملصقة أنها ملصقة بشكل مؤقَّت من فوق السطح، ويُمكن بسهولة فكُّها ونقلها. إذا قمت بلصق مجموعة من الأوراق اللزجة في كتاب ثم أزلتها مرة أخرى، فإنك لا تزال تملك كتابًا سليمًا وأوراقًا لزجة، الأوراق اللزجة تلتصق بسبب قوى الجذب البينجزيئية. وقد تعرضنا بالفعل لتأثيرات القوى البينجزيئية في مناقشتنا حول الترسيب والذوبان، وهنا يكون لقوى الجذب البينجزيئية بين جزيئات الماء الأثرُ في تكوين قفص الأيونات الذي يسمح لبعض الأملاح بالذوبان في المحاليل المائية. تشترك جزيئات الجلسرين في بعض التشابهات مع الماء، إلا أن جزيئات الجلسرين على حدةٍ لا تزال ينجذب بعضها لبعض بقوة ولا تقبل الماء بين طبقاتها إلا في وجود إثارة قوية، وحدثت الإثارة في هذه التجرِبة في صورة التقليب، لكن ما من قوة للتقليب استطاعت أن تُذيب زيت الكانولا في الجلسرين حتى أُضيف الصابون. يلعب الصابون دور الدبلوماسي الأعظم في القوى البينجزيئية؛ ينسجم الصابون مع الانجذابات لكلٍّ من الماء والزيت ويختبرها جيدًا، وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه كفاءته كعنصر منظف، يتحد الصابون بالشحم والزيت والقاذورات، ثم يتحد بالماء مما يسمح للقاذورات أن تذهب بعيدًا بالماء. لكن تزيد أهمية الدور الذي تلعبه جزيئات أشباهِ الصابون، وهي الجزيئات التي تنجذب إلى كلٍّ من المواد شبه المائية والمواد شبه الزيتية، عن مجرد تنظيف البشَرة؛ فهي المكون الرئيسي لجدران الخلايا الحية في جلد الإنسان. فقد يبدو أن القوى البينجزيئية ليست ذات أهمية نسبيًّا في بادئ الأمر عند مقارنتها بالروابط الكيميائية، لكن في حين تحدد الروابط الكيميائية تركيب جزيء واحد، فإن قوى التجاذب البينجزيئية هي التي تُحدد كيفية تصرف هذا الجزيء تجاه الجزيئات الأخرى؛ فكل الحياة تدور حول تصرف الجزيئات كما لاحظنا في خصائص المواد الجزيئية والمخاليط.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.8/
التزلق والانزلاق من منظور القوى البينجزيئية
في بادئ الأمر وجد نفسه يُحدِّق في اللوحة حين اجتاحه شعور بالاهتمام العلمي. مثل هذا التغير الذي كان ينبغي أن يحدث كان أمرًا لا يُصدَّق من وجهة نظره. على أن هذا التغيير كان حقيقة لا خيالًا. ترى هل هناك ألفة وثيقة بين الذرات الكيميائية التي شكلت نفسها على هيئة صورة ولون على هذه اللوحة وبين الروح الساكنة داخله؟ تلعب القوى البينجزيئية دورًا هامًّا في الكيمياء؛ فالقوى البينجزيئية هي قوة الانجذاب والتنافر التي تحدث بين الذرات والجزيئات وتختلف عن الروابط الكيميائية. ويُسبِّب كسر الرابطة الكيميائية نشوء مادة جديدة تتفاعل على نحوٍ مختلف مع المواد الكيميائية الأخرى، في حين لا يُغير كسر قوى الجذب البينجزيئية الصيغة الكيميائية أو النشاط الكيميائي، إلا أن القوى البينجزيئية تُحدد مدى سرعة حدوث التفاعل، أو إذا كان من الممكن حدوثه في أي وقت، وتُحدد القوى البينجزيئية أيضًا طبيعة المادة؛ سواءٌ كانت مادة سائلة أو صُلبة أو غازية في درجة حرارة معينة – وهو ما يُعَد أمرًا هامًّا للراغبين منا في الشرب أو الأكل أو التنفس! وكان العلماء في أواخر القرن التاسعَ عشر وأوائل القرن العشرين لا يزالون يُجاهدون للوصول إلى فهم القوى البينجزيئية؛ لذا فمما لا شك فيه أن أوسكار وايلد لم تكن لديه صورة واضحة عن القوى البينجزيئية في عقله عندما كتب عن «الألفة الوثيقة» بين الذرات الكيميائية في روايته «صورة دوريان جراي»، إلا أن وصفه للذرات الكيميائية بأنها «وثيقة الألفة» كان مناسبًا. وتتسم القوى البينجزيئية بالتعقيد وتتكون من انجذابات وتنافرات. وتتمثل قوى الجذب في تلك القوى التي بين جزيئات الماء والتي تسمح للماء بأن يتكثَّف عندما يصل إلى درجة كافية من البرودة، وقوى التنافر البينجزيئية لجزيئات الماء هي ما تجعل الماء يبدو مثل الكتل الصلبة عندما يتصادم بعضها مع بعض بقوة (هل سبق لك أن صُدِمت بعنف بموجة عارمة في البحر؟) إذا لم يكن هناك انجذابات بينجزيئية، لتبخَّرت أجسادنا إلى غازات، وإذا لم يكن هناك تنافرات بينجزيئية، لهوينا في الوحل. سوف نبدأ بقوى التنافر بين الجزيئات؛ فقد شاهدنا في تجربة «الساحرة والماء» التي قدمناها من قبل، سيلًا رفيعًا من الماء ينجذب إلى الملعقة البلاستيكية ذات الشحنة الإلكتروستاتيكية المكتسبة. بالمثل، إذا نُزعت قطعة من شريط لاصق بسرعة من بكرة الشريط، فإنها ستجذب إليها أيضًا سيلًا رفيعًا من الماء. لكن إذا نُزعت قطعتان من البكرة وتدلَّيَتا من بين الأصابع، فإن هاتَين القطعتَين ستُحاولان التنافر بعيدًا إحداهما عن الأخرى، حيث إنهما اكتسبتا الشحنة نفسَها عند إزالتهما من بكرة الشريط، وتنافرتا لأن الشحنات المتشابهة تتنافر. وعندما تنجذب ذرتان أو جزيئان بعضهما لبعض، فإنهما يقتربان بعضهما من بعض جدًّا، لكن ليس أكثرَ من حدٍّ معين. فالإلكترونات لديها بعضُ الاضطرابات فيما يخص الاقتراب، فعندما تقترب ذرتان أو جزيئان مختلفان أحدهما من الآخر بشدة، فإن التنافر بين سحب الإلكترونات سيَفصلهما. وتُعتبَر قوى الجذب بين الجزيئات أيضًا ذات طبيعة كهربائية، لكن الموقف هنا يُمكن أن يكون أكثر صعوبة؛ لأنه من الممكن أن تعتمد قوى الجذب بين الجزيئات أكثر على شكل الجزيء، وهو الشكل الذي يخضع باستمرار إلى تغيُّرات طفيفة، وتكون الجزيئات في وضع حركة مستمرة؛ تهتز وتدور وتتطاير في كل الاتجاهات. علاوة على أن الجزيئات لا تتحرك بنفس السرعة، لكنها تتحرك في مدًى معين من السرعات، فليست جميعها تدور أو تهتز بنفس التردد، بل في مدًى معين من الترددات. وتجعل هذه المتغيرات حساب مقدار حجم قوى التجاذب بين الجزيئات في أي موقف مستحيلًا ظاهريًّا، لكن بالرغم من فرديتها، فإنها تلتصق بعضها ببعض. ويُعتبَر فَهم هذا الالتصاق أمرًا في غاية الضرورة فيما يتعلق بفهم تصرُّف المواد. وكبداية لحل هذا الالتصاق الصعب سنعرف ثلاث طرق تنجذب بها الجزيئات بعضها إلى بعض: وهي انجذاب أيون موجب إلى أيون سالب، وانجذاب جزيء ثنائيِّ الاستقطاب إلى جزيء ثنائي الاستقطاب، ثم الفكرة الجديدة التي سنُناقشها وهي قوى التشتيت. يُعتبَر انجذاب أيون موجب إلى أيون سالب تفاعلًا مباشرًا وقويًّا، وهو في حقيقة الأمر تفاعلٌ قوي جدًّا حتى إنه يميل إلى الهيمنة عند وجود الأيونات الموجبة والسالبة. وكما أشرنا في مناقشتنا عن الترسب، عندما تجد الأيونات المتضادة بعضها بعضًا، فإنها تُكوِّن رابطة أيونية وتخرج من المحلول، لكن الانجذابات الأيونية لا تسود دائمًا؛ فجزيئات الماء تعزل الأيونات بتكوين الأقفاص حول الأيونات، وتحدث أقفاص الماء هذه نتيجة لانجذابات الجزيئات ثنائية الاستقطاب بعضها إلى بعض، ولانجذابات الجزيئات ثنائية الاستقطاب إلى الأيون المفرد أيضًا. وكما رأينا، تتفاعل الجزيئات القطبية بعضُها مع بعض مثلما يتفاعل القضيبُ المغناطيسي، ويُطلَق على التفاعل مصطلَح تفاعل «ثنائي الاستقطاب». وفي التفاعل ثنائي الاستقطاب يصطفُّ الطرَف الموجب لأحد الجزيئات القطبية مع الطرف السالب لجزيء آخر مثلما ينجذب القطب الشمالي لمغناطيس إلى القطب الجنوبي لمغناطيسٍ آخر، لكنَّ هذه القضبان المغناطيسية تدور وتهتزُّ وتتطاير في جميع الاتجاهات. وقد كنا شَغوفين من قبلُ لمعرفة الكيفية التي يُساعد بها هذا التفاعل على بِناء الأقفاص حول الأيونات لحفظها في المحلول، لكنه يُعتبَر مهمًّا حتى في غياب الأيونات أيضًا. وتَعمل التفاعلات ثنائية الاستقطاب على حفظ جزيئات الماء معًا في الحالة المكثَّفة. ويُعتبَر الماء ماهرًا بصورة خاصة في أدائه كمُذيب وكمُكثف، ويرجع ذلك إلى أن جزيئات الماء صغيرة وقادرة حتى على اجتياز نوع آخر من الانجذاب، وهو انجذاب ثنائي الاستقطاب ويُسمَّى «الرابطة الهيدروجينية». ويعتبر الماء بارعًا جدًّا في تكوين الأقفاص وفي إذابة الأيونات، ويُعزى ذلك إلى مقدرته على تكوين الروابط الهيدروجينية، وبسبب هذه القدرة الفائقة للماء كمُذيب؛ يُعتبَر الماء هو العاملَ الأساسي للكثير من التفاعلات الكيميائية الرئيسية بما فيها تلك التفاعلات المسئولة عن الحياة، فالكثير من المحاليل التي نتعامل معها بصفة يومية هي إما ماء وإما محاليل مائية. ومن السوائل الأخرى الشائعة سائلُ الزيت، سواءٌ كان في شكل زيت الطهي أو في شكل البنزين أو غيرهما من المنتجات البترولية، وهذه المواد لا تُعتبَر ماء بشكل جذري فحسب، بل إنها أيضًا لا تمتزج مع الماء جيدًا. وتُعرَف الزيوت والمنتجات البترولية بمصطلح «الهيدروكربونات»؛ لأنها تتألَّف في المقام الأول من هيدروجين منتظم في سلاسل مع الكربون، وتختلف قوى الجذب البينجزيئية الخاصة بهما عن تلك التي للماء. وقد يُعتقَد للوهلة الأولى أن الروابط التي بين الهيدروكربونات هي روابطُ قطبية أيضًا. الهيدروجين والكربون ليسا قريبَين للغاية أحدهما من الآخر في الجدول الدوري، وعليه ثَمة فرق كبير جدًّا بينهما في السالبية الكهربية، لكن كما ستتذكَّر، لا يتبع الهيدروجين الاتجاهات العامة — فهو صغير للغاية عن أن يحمل الكثير من الشحنات السالبة — ومن ثَم يُعتبَر الهيدروجين بالفعل قريبًا جدًّا من الكربون في السالبية الكهربية. بالإضافة إلى أنه يمكن أن تتوزَّع ذرات الهيدروجين بالتساوي حول ذرة الكربون في الهيدروكربونات؛ لذا تميل القطبية الضئيلة التي تتمتع بها رابطة الكربون والهيدروجين إلى أن تتعادل، لكن الهيدروكربونات تُكوِّن بشكل بديهي سوائل، وحتى المواد الصلبة منها تُسمَّى موادَّ شمعية؛ ومِن ثَم ينبغي أن يكون هناك شكلٌ من أشكال الانجذابات البينجزيئية. ويمكن فَهم تكثُّف الهيدروكربونات على نحوٍ أفضل عند إدراك أن الهيدروكربونات الكبرى هي التي تتكثف عادةً بسهولة أكثر. فيكون الميثان المكون من ذرة كربون واحدة وأربع ذرات هيدروجين غازًا (غاز المستنقعات على وجه الدقة) في درجة الحرارة والضغط العاديَّين. أما الأوكتان المكون من ثماني ذرات كربون في سلسلة وثماني عشرة ذرة هيدروجين فيكون سائلًا في الظروف العادية، وتميل الهيدروكربونات الأطول إلى أن تكون سوائلَ في درجة حرارة وضغط الغرفة، حيث تنجدل السلاسل الطويلة بعضها حول بعض. ونتيجة هذا التشابك تكون السلاسل قريبةً بعضُها من بعض، ويؤدي هذا القرب إلى زيادة تأثير قوى التجاذب الضعيفة للروابط القطبية على عملية الالتصاق أيضًا. ومثلما تسبَّبت الملعقة البلاستيكية المشحونة مؤقتًا في تجرِبة «الساحرة والماء» في جعل الماء ينجذب نحوها، فإن القطبية الثنائية المستحَثة في أحد الأنواع تستحث القطبية الثنائية في نوع آخر، ولا تُعتبَر قوى التشتيت مؤثِّرة عبر رقعة ما بالقدر نفسه من الانجذابات القطبية الثنائية، إلا أنها كافية لتعليل وجود سائل الهليوم، وكذلك سائل النيتروجين وسائل الأوكسجين. لكن لا يتكثف الهليوم تقريبًا بنفس سهولة تكثف الماء؛ لأن الهليوم لديه نوعٌ واحد من الانجذاب. أما الماء فلديه تراكمات من الانجذابات البينجزيئية. ويوجد في الماء المالح تباديل التفاعلات كافة؛ فثمة انجذابات قطبية، وانجذابات نتيجة قوى التشتيت، وانجذابات أيون مع أيون وانجذابات قطبية مع قوى تشتيت، وأيون مع قوى تشتيت؛ ومن ثَم يتسم الموقف كما لاحظنا بغاية التعقيد، أضف إلى هذا التعقيد حقيقة أن تأثير الانجذابات تقل مع المسافة التي تتغير دائمًا بسبب الأوضاع المتعددة لحركة الجزيء، ويُصبح الموقف ميئوسًا منه جدًّا. من حسن الحظ أنه ليس علينا أن نُحلِّل بشدة كل تفاعل على حدةٍ كي نفهم الأثر النهائي — الأثر الذي يُوضِّح نفسه في العديد من الظواهر المعروفة مثل الاحتكاك والتماسك والالتصاق والفعل الشعري (متعلق بالخاصية الشعرية) والذوبان وفعل الصابون. قد تكون قوى الاحتكاك أكثرَ القوى، التي يجب أن نتعامل معها بصفة يومية، تعقيدًا وسحرًا، تنشأ قوى الاحتكاك من مصدرَين — هما العوائق المادية للحركة والقوى البينجزيئية — لهذا السبب لا يُمكن إبطالُها تمامًا، وتتمثل العوائق المادية للحركة في الحواف البالِغةِ الصغر والمناطق الخشنة التي يُمكنك أن تجدها دائمًا إذا أمعنت النظر جيدًا. عند القيام بمحاولةٍ لجر إحدى المواد على مادة أخرى، فإن المناطق الخشنة لأحد الجوانب تُمسِك بالجوانب الخشنة لأحد جوانب المادة الأخرى، وتُسبب الاحتكاك أو مقاومة الحركة. بإزالة المناطق الخشنة يُمكن التغلبُ على هذا الأمر لكن إلى حدٍّ معين فقط، وعندما تُصبح المادة ملساءَ جدًّا تزداد إمكانية حدوث انجذابات بينجزيئية. يُساعد الشحم أحيانًا على تقليل الاحتكاك؛ لأن الشحم يُكوِّن طبقة تعمل على عزل المواد المتحركة، ويُسبِّب الاحتكاك داخل الشحم، عندما يشد في اتجاهٍ واحد أو في الاتجاه المعاكس، في نهاية الأمر، تحلل الشحم، ولهذا السبب يجب تغيير الشحم الذي يُوجَد في الماكينات بصفة دورية، وكذلك الزيوت ومواد التشحيم في السيارات. ويُمثِّل التماسك ميل الجزيئات المتشابهة لأن يلتصق بعضها ببعض، فعلى سبيل المثال، يُفضل الزيت أن يظل مع الزيت، والماء مع الماء، لهذا السبب يُمكِنهما الانعزال عند السماح لهما بالوجود بدون تأثير عليهما، وينتج التوتر السطحي، الذي يتَّضح في ارتفاع الماء الذي يأخذ الشكل المنحنيَ على قمة الكوب أو الملعقة، عن قوى التماسك. ويُظهر الماء قدرًا لا بأس به من التماسك بسبب نزوعه الشديد إلى تكوين روابط هيدروجينية؛ ومن ثَم قدر لا بأس به من التوتر السطحي. ويُعَد التوتر السطحي للبرك قويًّا بقدرٍ كافٍ يسمح بإيواء عالم من المخلوقات تمشي على الماء. أما الالتصاق، كما نرى في الشريط اللاصق، فهو ميل الموادِّ المختلفة إلى الالتصاق معًا، ويُعَد الالتصاق أحدَ العوامل الرئيسة المضطَلِعة بمسئولية موجات السطح في المسطَّحات المائية. ومع أن الفيزياء تنمُّ عن عملية مُقايَضة غاية في التعقيد، تتضمن العديد من القوى؛ فإن الموجات تبدأ عن طريق التصاق الماء بالرياح التي تهب فوق المياه. وفكرة صب الزيت على المياه المضطربة، التي تُستخدَم غالبًا كمجاز عن التأثير المهدِّئ، تُبنَى على أسس فيزيائية، وكانت تُستخدَم بالفعل عن طريق مركبات صيد الحيتان في الماضي، وقد نجحت نجاحًا محدودًا. يعوق الزيت التصاق الماء بالرياح؛ ومن ثَم يُمكنه أن يُسكِّن بعض الأمواج التي تُسببها الرياح، وبالطبع لا تتأثر بذلك الموجاتُ الكبيرة التي قد تكوَّنَت بالفعل وتحركَت بقوتها الدافعة؛ لذا لا تستغرق الكثير من الوقت في البحث عن زجاجة زيت السلطة عندما يأتي الإعصار، كل ما عليك فعله هو أن تلوذ بالفرار. والقابلية المتبادلة للذوبان هي ما تجعل الماء والكحول لا ينفصلان عادةً في طبقات في كأس الكوكتيل. وقد يأخذ بعض الشراب مثل عصير الرُّمان وقتًا أطولَ حتى يمتزج بسبب قوى الانجذاب البينجزيئية داخل الشراب ذاتِه، لكن إذا ترَكناه وقتًا كافيًا، فإنه يتوزع في نهاية الأمر في طبقات رائعة في كل المشروب، لكن كل ما يُهِمنا عادةً هو الشرب وليس الانتظار؛ لذا لا نلحظ ذلك الأثر. ويُعتبَر الالتصاقُ هو أساسَ الفعل الشعري أو ميل السوائل إلى أن تسلك الاتجاه المعاكس للجاذبية. يكون لجزيئات المادة المتجهة لأعلى جاذبية أكبر نحو السطح فتتحرك إليه لأعلى، ويظل باقي السائل منجذبًا لأسفل بفعل الجاذبية. تعمل أوراق الحمام بِناء على فكرة الفعل الشعري؛ لهذا تصلح أوراق الحمام في امتصاص بعض السوائل عن غيرها. حاول أن تصبَّ كمية من الماء وأخرى من الجلسرين أو زيت الطهي على سطح ما ثم اغمس في كلٍّ منهما طرفَ ورقة من ورق الحمام. تتشرب قطعة الورق الماء أسرع من الزيت. ينجذب الماء بشكل أكبر إلى جزيئات ورق الحمام. تنجذب جزيئات الزيت بشكل أكبر بعضها إلى بعض. ويُعتبَر الالتصاق أيضًا هو أساس القول المأثور «الأشباه تُذيب الأشباه» بمعنى السوائل شبه الزيتية تُذيب السوائل شبه الزيتية والسوائل شبه المائية تُذيب السوائل شبه المائية. ويُوضح القولُ «الأشباه تُذيب الأشباه» السببَ في أن إضافة فرخ تجفيف مانع لتكوُّن الشحنات الساكنة إلى الماء عندما يُنقَع إناء متسخ بمخلَّفات زيوت الطعام تُساعد على إزالة المادة الزيتية. هذه الأفراخ تُضيف طبقة رفيعة جدًّا من الزيت إلى الملابس التي يجري تجفيفها مما يمنع الاحتكاك من انتزاع إلكترونات؛ ومن ثَم توليد شحنة كهربية. ويمتزج هذا الزيتُ غير القطبي نفسُه مع الشحم المجفف غير القطبي ويعمل على إزالته عن الوعاء. وعلى المنوال نفسِه، يُساعد زيت الطعام على إزالة الضمادة من على الجلد دون الحاجة إلى تقشير الجلد. ويختلط الزيت مع المواد شبه الزيتية التي توجد في الغراء. ويشرح القولُ المأثور «الأشباه تُذيب الأشباه» فعلَ الصابون أيضًا. يتكون الصابون من سلسلة طويلة من الهيدروكربون مُلحِقًا أحدَ طرَفَيها بمجموعة تحوي الأوكسجين، والطرف الملحق به المجموعة التي تحوي الأوكسجين قابل للذوبان في الماء؛ وذلك لأن هذا الطرف قطبي وقادر على تكوين الروابط الهيدروجينية. أما الهيدروكربونات الأخرى مثل الشحم على سبيل المثال فهي قابلة للذوبان في الأطراف الهيدروكربونية للصابون، وتُحمَل إلى محلول الماء من الطرف القابل للذوبان في الماء. ويُعتبَر هذا النوع نفسُه من الجزيئات، الذي يكون أحد طرفَيه قابلًا للذوبان في الماء والطرف الآخر قابلًا للذوبان في الشحم، حيويًّا لتركيب الخلايا والأنواع الأخرى من الكيمياء المانحة للحياة. فعلى سبيل المثال يحتاج الجسم إلى موادَّ عديدة غير قطبية حتى تُنقَل عن طريق الدم المعتمِد على الماء، وتُساعد الجزيئات التي تُؤيِّد كلا العالمَيْن — العالم القطبي والعالم غير القطبي — في عملية النقل هذه. هل لا تزال غير مُتأثر بأهمية القوى البينجزيئية؟ إذن، ضع في اعتبارك الأمر الآتي: لولا القوى البينجزيئية، لما كان هناك سيفون! ويدفع الفرق في الضغط بين الوعاء الممتلئ والأنبوبة الفارغة الماء من على القمة، لكن الجذب بين جزيئات الماء هو الذي يحفظ التدفق متحركًا باستمرار عبر الفعل الطردي لتفريغ الوعاء. ويمكن تأكيد تلك الانجذابات البينجزيئية المتضمَّنة في صندوق الطرد بتجرِبة صغيرة: هل يُمكنك أن تتخيل سيفونًا يعمل بالرمل بدلًا من الماء؟ قد تكون هذه الرمال المستخدمة هي حلمَ القطة الصغيرة لتنام عليها، لكنها لن تُفلح مع السيفون! فعمله يعتمد على جزيء يسحب وراءه جزيئًا آخر، عندما تأتي على قمة شيء منحدر. يعمل الماء جيدًا على إزالة الفضلات أيضًا؛ نظرًا إلى أن العديد من المواد تذوب في الماء، لكن كما نعلم جميعًا أن ثَمة فرقًا بين ماء الحمام وماء الكولونيا. تعتمد خصائصُ المحلول على المذيب والمذاب وكمِّ المذاب الذي تحويه، وسنتَّجه الآن لمناقشة هذه المعالم المهمة.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.19/
تجربة ٩: التركيز على اللون – الكوكتيل المالح
لقد اعتبر نابليون، مثلَ كيميائي، أن كل أوروبا هي مادة لتجارِبه، لكن في الوقت المعين تفاعلت هذه المادة ضده. ارتدِ نظارة الأمان الواقية. صبَّ نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) في كوبَين من البلاستيك الشفاف، أضف ملعقة صغيرة بلاستيكية (٥ مليلترات) من محلول كبريتات النحاس (المعدَّة كما هو مذكور في «قائمة المشتريات والمحاليل») إلى أحد الكوبَين ثم أضف ملعقتَين صغيرتَين (١٠ مليلترات) من محلول كبريتات النحاس أيضًا إلى الكوب الآخر. قلِّب الكوبَين، ثم قارن الفرق بينهما في كثافة اللون بالنظر إلى أسفل من فوق قمة الكوب وهما موضوعان على ورقة بيضاء. نجد أن المحلول الذي يحوي ملعقة واحدة من محلول كبريتات النحاس (المحلول الأقل تركيزًا) يُظهِر درجات ألوان مختلفة أفتحَ من تلك الألوان التي تظهر في الكوب الذي يحوي ملعقتَين من محلول كبريتات النحاس. نستنتج من هذا أن اللون خاصية تتأثر بالتركيز. تتأثر القابلية للذوبان أيضًا بالتركيز كما وجدنا في مناقشتنا لعملية الترسيب، حيث وجدنا أن مقدارًا ضئيلًا من بيكربونات الصودا يذوب في المحلول بسهولة، لكن ليس أكثر من هذا المقدار يُمكنه أن يذوب. الآن جرِّب الآتيَ: أعدَّ محلول بيكربونات الصودا مشبعًا بإضافة أربع ملاعق كبيرة (٦٠ مليلترًا) من بيكربونات الصودا إلى كوبَين (٤٨٠ مليلترًا) ماء. قلب المحلول ثم اتركه يستقر أربع دقائق على الأقل. صب برفق المحلول الذي يعلو بيكربونات الصودا غير المذابة في كوب نظيف، تأكد من أنك لم تنقل بيكربونات صودا صلبة مع المحلول. خذ كوبًا مماثلًا ونظيفًا واملأه بالماء حتى يصل إلى نفس ارتفاع الكوب الذي يحوي محلول بيكربونات الصودا المذابة في الماء. وحيث إنك تملك الآن كوبَين بهما نفس الكمية من السائل، أضف إلى كلٍّ منهما ربع ملعقة صغيرة (١ مليلتر) ملح طعام وقلِّب. أضف نفس الكمية من ملح الطعام مرة أخرى وأنت تُقلِّب لكن بكمية صغيرة (١ / ٨ ملعقة صغيرة: نصف مليلتر) إلى كل كوب حتى يُصبِح أحد المحلولَين غائمًا. وسيكون المحلول الغائم هو المحلولَ الذي يحوي بيكربونات الصودا، فهو يُصبح غائمًا حيث إن ملح الطعام يُزاحم بيكربونات الصودا في المحلول. أما المحلول الآخر الذي يحوي الماء والملح المضاف فقط، فينبغي أن يكون رائقًا تمامًا. وهذه التقنية التي تُسمَّى «فصل المذاب باستخدام الملح» تُستخدَم في الصناعة لنقل المواد من وإلى المحلول، وكانت تُستخدَم هذه التقنية أيضًا في الماضي في إعداد الصابون الصلب، فقد كان الصابون يَخرج عَنْوة من المحلول بإضافة كميات كبيرة من الملح. ويُمكن توضيح هذا الفعل عن طريق إضافة طبقة سُمكها من ثمن إلى ربع بوصة من الصابون السائل في كوب، ثم نثر ملح الطعام عليه، فتترسب في دقائق معدودة مادة صلبة لزجة هلامية.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.9/
التركيز على كونهما وحدهما معًا
لم أرَ عليه أي أثرٍ للرعب الذي انتابني أنا نفسي آنذاك … لكن كان يبدو على وجهه أمارات الهدوء ورباطة الجأش المتلهفة التي للكيميائي الذي يرى البلورات تتساقط من محلوله المشبع. الكيمياء هي التغير — فالمعدن يتحول إلى فلز ومخيض اللبن إلى خبز والحامض إلى ملح — والشيء الرائع في هذا التغير هو أن هذه الكيمياء تحدث في المحاليل: في البرك والخلايا والمحيطات والصلصة وحتى في الصهارة والمخاليط. وتُعتبَر المحاليل مخاليطَ متماثلة، مثل الخليط المتماثل المكوَّن من الملح والماء الذي نُسميه المحلول الملحي. تُساعد المحاليل على إحداث التفاعلات الكيميائية؛ لأنها تمنح الجزيئات الفرصة لكي تتقابل معًا وتُوفر الحركة للتفاعل كي يحدث. والأقراص التي تُوضَع في الماء كي تُقدَّم شرابًا فوارًا تستطيع عمل الفوران؛ لأنها تحتوي على حامض الستريك وبيكربونات الصودا، لكن مع أن هذه الأقراص تحتوي على حامض الستريك وبيكربونات الصودا قبل إلقائها في الماء، فإن الأقراص الجافة لا تُحدِث فورانًا. وهي لن تفور حتى تُوضَع مكوناتها في محلول. يحظى كلٌّ من الحامض والقاعدة بحرية الحركة في المحلول؛ ومن ثَم يُمكنه أن يدخل في التفاعل. تُقدم المحاليل ما يحتاج إليه التفاعل الكيميائي؛ الحركة، والفرصة. ولطالما أدرك القائمون على الصناعات التجارية والفكرية الناجحة الحاجة إلى الحركة والفرصة للحصول على تفاعل فعال بين المتخصصين، ففي المؤتمرات يكون هناك تركيز أعلى من الأشخاص ذوي الأذهان المتشابهة، لكن كما يعلم كل منظم ناجح للمؤتمرات فإن التفاعل الحقيقي بين الناس لا يحدث عندما يجلس كل فرد في مقعده منصتًا إلى ما يُقدِّمه الآخرون، لكنه يحدث عند تذوق الخمور والجبن، عندما تكون لديهم حرية الحركة والسعي بعضهم نحو بعض. والمحلول هو المقابل الكيميائي للمؤتمر؛ فهو يُمثِّل تركيز المتفاعلات مع منحها حريةَ الحركة التي تحتاج إليها للامتزاج. ويَعي الكيميائيُّ مثله مثل منظِّم المؤتمر أهميةَ التحكم في التركيز والتنسيق فيما بين المتفاعلات عند تصميم التفاعلات. ومع أن المحاليل المائية كما يعرفها الكيميائيون، هي تقريبًا أكثر المحاليل شيوعًا، فثمَّة أنواع محاليل عديدة أخرى. فثمة محاليلُ صُلبة مثل السبائك المعدنية، مع أنه ليست كل السبائك مكوَّنةً من أمزجة متجانسة تمامًا. فتتكون سبيكة البرونز من النحاس والقصدير، وسبيكة النحاس الأصفر من النحاس والخارصين وسبيكة الصلب من الحديد والكربون. وثمة محاليلُ في الحالة الغازية أيضًا، فالهواء الذي نتنفَّسه هو محلول مكون من غازات عديدة. يتوافر النيتروجين بأكبر نسبة فهو يبلغ نحو ٧٠٪، لكن يُوجَد الأوكسجين مختلطًا به أيضًا، وكذا الأرجون وثاني أكسيد الكربون والماء عادة. تتأرجح نسبة الماء في الهواء من لا شيء إلى ١٠٠٪ رطوبة، في حين تظل نسبة النيتروجين والأوكسجين والأرجون ثابتةً إلى حد كبير. وقد يُعتبَر وجود الأرجون في محلول الغازات التي نتنفَّسها للوهلة الأولى أمرًا مفاجئًا، لكن عند استرجاع مناقشتنا حول الجدول الدوري نجد أن العناصر الأخف هي تلك العناصر التي نتجت في الكون للوهلة الأولى في عصيدة الكون التي نشأ منها كوكبنا. وقد احتُجِزت العناصر المتفاعلة في مركبات، وتطايرت العناصر غير المتفاعلة. معظم الهليوم والنيون كانا خفيفَين على نحو كافٍ لدرجةٍ سمحت بفرارهما من الغلاف الجوي للأرض مما أدى إلى ترك الأرجون ليُمثل العناصر النبيلة. تشتمل بعض المحاليل الغازية الأخرى على بيكربونات الصودا، وهو محلولٌ لغاز (هو غاز ثاني أكسيد الكربون) في الماء، وماء البِرَك هو محلول يحوي الأوكسجين وهو الذي تتنفسه الأسماك. ويعتمد الجسم على قابلية ذوبان الغازات في الدم، التي بدورها تعتمد على ضغط هذا الغاز وليس غيره، حتى يتسنَّى له القيام بعمليات الأيض؛ ومن ثَم تعتمد قابلية الأوكسجين للذوبان في الدم على ضغط الأوكسجين في الهواء المُستنشَق، وتعتمد قابلية الأوكسجين على الذوبان في الخلايا على ضغط الأوكسجين داخل الخلايا. ولأن عملية الأيْض تحدث داخل الخلايا، فإن الأوكسجين يُستهلَك وثاني أكسيد الكربون يُنتَج. وعندما يصل الدم الغني بالأوكسجين إلى الخلية يعبر الأوكسجين من الدم — حيث الضغطُ المرتفع نسبيًّا — إلى الخلية، حيث الضغطُ المنخفض نسبيًّا. ويعبر ثاني أكسيد الكربون من الخلية حيث يرتفع ضغطه، إلى الدمِ حيث ينخفض ضغطه. ولأن النيتروجين دائمًا ما يُوجَد أيضًا في الهواء الذي نستنشقه، فثمَّة بعض الكميات من النيتروجين الذائب دائمًا في دمائنا. يحتاج الغواصون الذين يغوصون في أغوار المحيطات في أنابيبَ من الهواء المضغوط إلى تزويدهم بهواء التنفس لأن ضغط المحيط يضغط على الرئتَين. ويجب أن يكون الضغط داخل أنبوبة الأوكسجين أكبرَ من الضغط الخارجي إذا كان عليه أن يدخل إلى الرئتَين. وإذا مُلِئَت الأنابيب بالهواء الجوي العادي، فإن الدمَ المعاد تخزينه داخل الرئتَين سيكون عُرضة لنيتروجين ذي ضغط أعلى، وسيكون ثَمة الكثيرُ من النيتروجين الذائب في الدم. ولا يُسبب النيتروجين الزائد في الدم بالضرورة مشكلة ما لم يخرج الغواص بسرعة من الماء. أما إذا خرج الغواص من الماء بسرعة، فإن النيتروجين الزائد الذائب في الدم يبدأ في الخروج من المحلول ويُمكِنه أن يُكوِّن الفقاعات قبل أن يحظى الجسم بالفرصة لطرده. وتُسبب هذه الحالة ألمًا شديدًا جدًّا حتى إن المصابين به يتوقفون عن الحركة تمامًا من شدة الألم؛ لذا يُعرف هذا المرض بشلل الغواص. ويُعتبَر الإجراء الوقائي المُستخدَم غالبًا هو استبدال النيتروجين بالهليوم في خليط هواء التنفس. لا يقبل الهليوم الذوبان في الدم بنفس قدر النيتروجين؛ وعليه لا يُسبِّب نفس المشكلة. وفي ملاحظة مختلفة تمام الاختلاف، نجد أن الصوت الأشبهَ بصوت البطة «دونالد داك» الذي يُضيفه الهيليوم على الصوت الآدمي يكون نتيجة لتكثف الهليوم بدلًا من الهواء الذي يمر عبر الحنجرة. ولا ينتج أي تسمم عن الهليوم كما يُعتقَد أحيانًا، لكن الذي يمثل الخطر هو استنشاق هليوم نقي، فالفرد الذي يستنشق الهليوم النقي لا يستنشق أوكسجينًا؛ ومن ثَم يفقد الوعي بسبب نقص الأوكسجين. تتكوَّن المحاليل من شقَّين: المذيب والمذاب. والمذيب هو المكوِّن الذي يُوجَد بكثرة، ويُمثل المذابُ المكونَ الذي يكون أقل. تُعَد المادة الأساسية في المحلول الملحي هي الماء الذي يُمثل المذيب والملح هو المذاب، ويُمكن فهم أهمية التركيز كخاصية للمحاليل بالنظر في المحلول الملحي. يُمكن استخدام محلول ملحي مركَّز لغسل الفم، لكن عند شطف العين، لا يُستخدَم إلا المحلول المخفف، وأنت لا تُريد أن تخلط بين الأمرَين. الرطوبة من الوسائل الأخرى الشائعة لقياس التركيز. والرطوبة هي مقياس مقدار الماء الموجود في الهواء، أما الرطوبة النسبية فهي مقياس كمية الماء الموجود حاليًّا في الهواء مقارنة بالكمية العظمى من الماء التي يقدر أن يستوعبها الهواء في درجة الحرارة نفسِها وتحت الضغط نفسِه. عندما يتعلق الأمر بمحاليل المواد الصلبة في الماء مثل محلول الملح أو محلول السكر، يُقدَّر التركيز بالجرام لكل مليلتر، كما هو الحال مع معظم الأدوية الشائعة. ومع ذلك عندما يتعلق الأمر بالتفاعلات الكيميائية، فمن المنطقي أكثرَ أن يُقدَّر الأمر بالجزيئات بدلًا من الجرامات لكل مليلتر. وحتى تعرف السبب، انظر معي إلى الجملتَين الآتيتَين: أيهما أكثر فائدة عند حساب متطلبات الكلية مثلًا من أعضاء هيئة التدريس إذا كان يجب أن تبقى النسبة بين الطلاب والأساتذة عند عشرين إلى واحد؟ هناك ١١٧٥٦ كيلوجرامًا من الطلاب في الفرقة الأولى الجديدة. ١٩٠ طالبًا في الفرقة الأولى الجديدة؟ عادة يصف الكيميائيون تركيز المحاليل عن طريق قياس عدد الجزيئات لكل حجم معين بدلًا من عدد الجرامات لكل حجم معين؛ ذلك لأن التفاعلات تحدث عندما يتفاعل جزيءٌ واحد مع جزيء واحد وليس عندما يتفاعل جرام مع جرام. تكمن الصعوبة في أن الجزيئات غايةٌ في الصغر، ويحتاج الأمر إلى عدد كبير جدًّا منها لتكوين كمية قابلة للقياس. فعلى سبيل المثال، يحتاج الأمر نحو تريليون تريليون من جزيئات الماء في الحالة السائلة لملء وعاء سعته ٢٤٠ مليلترًا (كوب واحد). وعليه، من السهل جدًّا التحدث عن مجموعات من الجزيئات بدلًا من التحدث عن الجزيئات المفردة. والاسم الذي اتفق العلماء على إطلاقه على مجموعات الجزيئات هو المول، ويُشبه المول الدستة، مع الفارق. تدل الدستة على عدد من الأشياء، مثل اثنتَي عشْرة بيضة على سبيل المثال. يُشير الإجمالي إلى عدد الأشياء، فمثلًا نقول ١٤٤ شيئًا. كذلك يُشير المول إلى عدد من الأشياء؛ يُعادل المول ٦٫٠٢٣ مائة مليار تريليون من الأشياء، وهو غالبًا رقم ضخم يصعب تخيله. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك جزيئات كبيرة كبر الرخام، عندئذٍ يُغطي المول مساحة أرض الولايات المتحدة إلى عمق أربعة أمتار (ما يقرب من ارتفاع الطابق الأول من منزل). وتُعتبَر الخلايا التي تُوجَد في جسم الإنسان غايةً في الصغر على أن نراها بدون ميكروسكوب، وغاية في الصغر جدًّا حتى إن ما يقرب من مائة تريليون من الخلايا تحتشد في جسم إنسان واحد. لكن إن تجمع مول من الخلايا، فسوف تحتاج إلى ستة مليارات فرد، أي تعداد الكرة الأرضية بأكملها عام ١٩٩٥، إنه لعدد كبير جدًّا! ومن الضروري جدًّا أن نستخدم هذه الوسيلة الكبيرة عندما يتعلق الأمر بالجزيئات؛ لأن الجزيئات غاية في الصغر. يُعادل مول البيض ٦٫٠٢٣ مائة مليار تريليون بيضة، وهو ما يكفي لصنع عجة بيض ضخمة جدًّا، لكنه بالفعل كمية غاية في الصغر من الجزيئات. يُوازي مول من السكروز الكميةَ نفسَها تقريبًا من حصة من مشروب المياه الغازية المكربنة. ويُعادل مول من المادة الصلبة ما يملأ قبضة اليد، ويُقارب مول من الغاز ستَّة جالونات (٢٢ لترًا) تحت الظروف العادية من درجة الحرارة والضغط (أكثر قليلًا من ملء دلو وأقل قليلًا من البوشل؛ مكيال للحبوب يُعادل نحو ٣٢ جالونًا). وفي الملحق، تُفسَّر الكتلة المفترضة لكل عنصر على أنها وحدات الكتلة الذرية لكل ذرة (و ك ذ لكل ذرة) أو جرامات لكل مول. وهذا ليس مجرد مسألة مصادفة، فقد اختِيرَت وحدة الكتلة الذرية بحيث ترتبط وحدة الكتلة الذرية لكل جسيم مع الجرامات لكل مول. ثمة وسيلة قياس أخرى ترتبط بالتركيز؛ هي الكثافة، والكثافة مقياسُ إجماليِّ كتلة المادة في وحدة الأحجام. وفيما يتعلق بالمحاليل التي تكون فيها التفاعلات الكيميائية مستمرة، فيُمكن أن يُعتبَر قياس الكثافة طريقة لقياس سير التفاعل. ويجب أن تُحفَظ الكتلة في أثناء التفاعل، إلا أن الحجم الذي تشغله الكتلة من الممكن أن يتغير كثيرًا بسبب إعادة ترتيب الجزيئات والقوى البينجزيئية، وتتضح مثل هذه التغييرات الحادثة في الكثافة في قوام الماء، وفي الجسم البشري، وفي قوام أشياء أخرى مثل قوام الخمر. تتدخل الكيمياء في صنع الخمر على مستويات عديدة، على سبيل المثال، يعتمد صناع الخمور ومتذوقوها على تركيز الخواص في عمل ووصف ما يُطلَق عليه المنتج اللذيذ أو حتى الجريء والمُغري. يستخدم محترفو تذوُّق الخمور عددًا من المصطلحات المشوقة؛ مثل: فليني (فيه طعم الفلين أو رائحته)، مزبَّد (محتوٍ على زبدة)، علكي، طازَج، فاكهي (به طعم الفاكهة)، معسل، مختمر، ممتلئ القوام، مركَّب، لاذع، خفيف، منعش، بطعم المكسرات، متمتع، مليء بالنكهة؛ لوصف خواص الخمور التي تتضمن النكهة، والشذى، والرائحة، وكونها ذات رائحة نفاذة زامة للأنسجة، واللمسات الأخيرة، والقوام، وهذه الخاصية الأخيرة هي التي ترتبط بموضوع هذا الفصل؛ التركيز. يُمثِّل القِوام كثافة الخمر الذي نتذوقه في الفم والذي يعتمد في جانب كبير منه على كمية الكحول في الخمر. وتُمثل الكثافة المرتبطة بالتركيز جانبًا حيويًّا في عملية صنع الخمر أيضًا. ويُعتبَر «الخمر الفطير» (عصير العنب قبل التخمر وأثناءه) الخليط المبدئي، حيث يكون عصير العنب والفاكهة المعصورة جاهزًا لعملية التخمر، وعملية التخمر هي العملية التي تُستهلَك فيها خميرة معينة السكر وتُنتج الإيثانول (الكحول) وثانيَ أكسيد الكربون. يُؤدي القليل جدًّا من السكر إلى القليل جدًّا من الكحول، ويُغير الكثير جدًّا من السكر طبيعةَ الخمر. ويُمكن استخدام الكثافة المَقيسة للخمر الفطير لتقدير محتوى السكر. وعن طريق معرفة محتوى السكر المَقيس يُمكن التنبُّؤ بمحتوى الكحول في المنتج النهائي، وعلى هذا الأساس يُمكن تحديد إذا كان الخليط في حاجة إلى إضافة المزيد من السكر، حيث إن السكر يُعتبَر أحد المتفاعلات ويُستهلك، وتُقاس الكثافة أيضًا أثناء عملية التخمر من أجل تتبُّع مدى جودة عملية التخمر. وكما رأينا، القياس والتحكُّم في التركيز لهما أهمية بالغة في الكيمياء والخمر والمؤتمرات الجيدة، إلا أن الحالة السائلة لا تُعتبَر هي الحالةَ الوحيدة التي بُنِيت عليها الكيمياء. فالحالة الغازية تُعزز كيمياء مشوقة ومهمَّة أيضًا، ثمة فقاعات في الكيمياء، وثمة كيمياء في الفقاعات، في البالون وفي الهواء الذي نستنشقه.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.20/
تجربة ١٠: سحق زجاجة المياه الغازية
يخلق الكبير جوًّا يُؤثر تأثيرًا سلبيًّا على الصغير … فهو يُشبه الكاشف الكيميائي، فيوم واحد من أيام هذا الجو، مثل إحدى قطرات هذا الكاشف، سوف يُؤثر جدًّا على المناظر ويُزيل لونها … حتى إنها ستظل بعد ذلك باهتة إلى الأبد. يوم منه بالنسبة إلى عقل لم يُجربه من قبل مثل الأفيون بالنسبة إلى جسم لم يتناوله من قبل. ويتولد في النفس اشتهاء إذا أُشبِع يُفضي إلى أحلام أبدية … إلى أن يحين الموت ويُذيب الانحلال قوتها. نحن عامة لا نعي الأجواءَ التي تُحيط بنا، مثلما لا تعي السمكة البحر. إلا أننا نسبح في محيط من الهواء ونُذكِّر بذلك من وقت إلى آخر عندما تسقط شجرة من جرَّاء عاصفة، أو يُسوي إعصارٌ مدينة بالأرض. وهذه التجرِبة التي نحن بصددها هي تَذْكار فعال أيضًا على وجود قوة الضغط الجوي. أحضِر حوضًا مملوءًا بماء مُثلَّج إلى آخره. املأ زجاجة مياه غازية بلاستيكية بماء ساخن من الصنبور واترك الماء الساخن بها لبضع ثوانٍ. فرِّغها من الماء ثم بسرعة غطِّها. ضع الزجاجة المغطاة في الماء البارد وانتظر ثوانيَ قليلة، تجد أن زجاجة المياه الغازية تنفجر إلى الداخل وتتهشم على نحو مثير. يُسبب تسخين الغاز تمدُّده ويُقلل التبريد من ضغطه، ويعمل ماء الصنبور الساخن على تسخين جوانب الزجاجة التي بدورها تسخن الهواء بالداخل. وعندما يُحكَم غلق الزجاجة بعد تسخينها بالماء الساخن، فإن الهواء المحتجز بالداخل يكون هواءً دافئًا. وعندما تُغمَس الزجاجة في الماء البارد فإن الهواء بالغاز بالداخل يبرد باذلًا ضغطًا على الجوانب الداخلية أقلَّ من الضغط الذي يبذله الجو من الخارج على الجوانب الخارجية. عندئذٍ يضغط الجو على جوانب الزجاجة وتكون النتيجة زجاجة صودا مُحطَّمة. وللمزيد من الخصائص عن الحالة الغازية — وما يحدث في زجاجات الصودا — تابع معنا.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.10/
إنه غاز
الكيمياء يا مدام فرانسوا … تركيب الأسمدة، وتخمير السوائل، وتحليل الغازات، وتأثير الأبخرة العفنة التي تخرج من المستنقعات — أقول لك إن كل هذا ليس سوى كيمياء. هذا كل ما هنالك. وحتى يتسنَّى لنا أن نصف تصرف عينة من الغازات، نحتاج إلى أربع وصفات رئيسة: درجة حرارة الغاز، وضغط الغاز، والحيز الذي يشغله الغاز (الحجم)، وكم الغاز، وغالبًا يُعبَّر عنها بعدد المولات أيًّا كان الغاز الموجود. على سبيل المثال، إذا قلنا إن لدينا مولًا من غاز معين عند درجة حرارة ٢٥ درجة سيليزية (٧٧ فهرنهايت) وكان حجم الغاز ٢٢٫٤ لترًا (ما يقرب من ستة جالونات) تحت الضغط المحيط، فإنه سيكون لديك كلُّ المعلومات التي تحتاجها للتنبؤ بسلوك هذا الغاز في حال تغير الضغط أو درجة الحرارة. وتُعتبَر هذه المعلومات ضرورية للمهندسين الكيميائيين والغواصين الذين يتعمَّقون في أغوار البحار وحتى لصنَّاع الخمور، فأحد نواتج عملية التخمُّر هو غاز ثاني أكسيد الكربون وإذا لم يُتحكَّم في هذا الغاز على نحو جيد، فإن اندفاع السدادة يكون غير مقصود. يمتاز الغاز بضغطٍ لا بأس به، وقد حطَّم ضغط الغازات التي تُحيط بالأرض، أي الغلاف الجوي، زجاجة الصودا. لم يتسنَّ تحطيم زجاجة الصودا عندما كانت ممتلئة، لكنها تحطمَت بسهولة عندما خُفِّف ضغط الهواء في الداخل. إذن لماذا لا نتحطم نحن عندما نقوم بعملية الزفير؟ لماذا لدينا المقدرة على الوقوف مُنتصبي القامة؟ السبب هو أن ضغط الهواء يضغط علينا في كل الجوانب بالتساوي، فإذا كان الضغط على قمة رءوسنا فقط، فعندئذٍ تكون لدينا مشكلةٌ بالفعل. يُمكن تطبيق نفس المبدأ على أنبوبة معجون الأسنان، حيث لا يُمكنك الحصول على المعجون إلا عندما تضغط على منتصف الأنبوبة أو قاعِها، أما إذا ضغطت بالتساوي على فتحة الأنبوبة وقاعها، فإن معجون الأسنان يظلُّ داخل الأنبوبة. ويُمكن شرح منشأ الضغط الذي يُظهِره الغاز، وكذلك التفاعل بين المتغيرات التي هي الضغطُ ودرجة الحرارة والحجم وعدد المولات، عن طريق نظرية تُسمَّى «النظرية الحركية لجزيئات الغازات»، والافتراض الأساسي الذي تقوم عليه هذه النظرية هو أن الغازات تتألَّف من جُسيمات منفردة (ومن ثَم هي جزيئات)، ويكون لهذه الجسيمات حركةٌ ثابتة (مثل تلك التي في الفن الحركي). ومن الممكن أن نفهم جيدًا الكيفية التي تُشرَح بها هذه النظرية خواصُّ الغازات إذا جرى مقارنة خواصِّ الغازات بخواص مجموعة أخرى من الجسيمات في حالة حركة دائمة: سِرْب من البعوض. لم يكتشف روبرت بويل — فيلسوف الطبيعة الإنجليزي في القرن السابعَ عشر — العلاقة التي أصبحت معروفةً فيما بعدُ قانونًا يحمل اسمه فقط، بل إن أبحاثه كانت تُؤكِّد الملاحظات التي أوردها الآخرون، إلا أنه أدرك المغزى من هذه الحقائق ووضَعها بحماس أمام ناظِرَي زملائه العلماء، وكان حماسه مبرَّرًا تمامًا، فلقد زحزح بهذه العلاقة الكيمياء من عالم السحر، مؤسسًا إياها كعلم كمي؛ أي علم معادلات ومقاييسَ وقوانين راسخة مثل قوانين الرياضيات. وكان جاي لوساك قائدَ منطاد هواء ساخن أيضًا. وفي إحدى المرات، تخلص من كرسيٍّ وبعض المعدات ليُخفِّف من حمل البالون حتى يتمكَّن من التحليق إلى ارتفاعٍ أعلى، وقد اكتشف فيما بعد أن مُزارعين متحيِّرين بالأسفل شاهدوا الكرسيَّ يسقط من السماء، وبسبب عدم وجود أي تفسير، كان عليهم أن يُرجِعوا الأمر إلى فعل إلهي، بشيء من المزاح. وقد أثبت لوساك عن طريقِ تَجارِبَ عملية عددية أن حجم الغاز يتمدَّد بارتفاع درجات الحرارة وهو يتمدَّد بنِسَب طردية؛ بمعنى أنه إذا تضاعفت درجة الحرارة يتضاعف معها الحجم، وإذا قلَّت درجة الحرارة إلى المنتصف يقلُّ الحجم إلى منتصفه، وهو أمر معقول حيث إن قائد المنطاد الذي يعمل بالهواء الساخن هو الشخص الجدير بوصفِ هذه العلاقة؛ لأن هذا هو المبدأ الفعال في عمل المنطاد الذي يعمل بالهواء الساخن، يتمدَّد الهواء الساخن، بمعنى أن نفس الكتلة تشغل حيزًا أكبر من الفراغ الذي كانت تشغله، وعليه تقلُّ الكثافة، وترتفع الفقاعات الموجودة في الهواء الساخن الذي يُوجَد في المنطاد في الغلاف الجوي شأنها في ذلك شأن الفقاعات التي تُوجَد في الماء المغلي. ويصعب إثبات تمدد الغازات وانكماشها في مدًى مناسب من درجات الحرارة، أي في المدى من نقطة تجمُّد الماء إلى نقطة غليان الماء. إلا أن لوساك رأى أن العلاقة المصاحِبة يُمكِن قياسها؛ حقيقة أن الضغط يتزايد مع الحرارة. قِسْ ضغط إطار سيارتك في الصباح قبل القيادة إلى العمل، ثم بعد الوصول إلى العمل، ستجد أنَّ ارتفاع درجة حرارة الإطار (بسبب الاحتكاك بالطريق وبسبب الفرملة) قد سبَّب ارتفاعًا في الضغط. تعمل مُحرِّكات الديزل بنفس المبدأ، لكنها تستغلُّ الحجم لضبط درجات الحرارة. فالهواء مضغوط؛ لذا تُستخدَم حرارة الهواء المضغوط بشكل كبير في إشعال رذاذ الوقود. ويُمكن شرح الضغط المتزايد للغاز عند تسخينه في ضوء النظرية الحركيَّة للجزيئات أيضًا، حيث تجعل الطاقة المضافة إلى عيِّنة غاز الجزيئات تدور بطريقةٍ أسرع، والدوران بشكل أسرع يُسبِّب حدوث تصادمات متوالية بشكلٍ أكثرَ وأعنف مع جوانب الحاوية مما يُسبب ارتفاع الضغط. ويُعتبَر التشبيهُ الذي استخدمناه من قبل بخصوص البعوض أقلَّ دقةً هنا، لكن ما من تشبيهٍ كامل، يُمكنك أن تتخيل أن البعوض يلفُّ بشكل أسرعَ في مناخ دافئ، وإذا كان يلف في وعاء فإنه كثيرًا ما سيرتطم بالوعاء. لكننا نرغب في أن تلحظ أن العلاقات المذكورة قد تبدو إلى حدٍّ بعيدٍ غيرَ واقعية قليلًا حتى إن متغيرًا واحدًا فقط قد يتغيَّر في المرة الواحدة، حين يتغير الضغط أو درجة الحرارة أو عدد المولات أو الحجم. وبالتأكيد، يندر جدًّا أن يكون هذا هو الحالَ في الواقع، حيث يتغير الضغط والحجم ودرجة الحرارة في الوقت نفسِه، أو يزداد عدد المولات في حين يتغير كلٌّ من درجة الحرارة والضغط أيضًا. ولحسن الحظ يُمكِن دمج التأثيرات المتنوعة في معادلة واحدة مباشرة، تُحسَب فيها كافة المتغيرات التي هي درجة الحرارة والضغط والحجم وعدد المولات. والمعادلة التي تتمكَّن من عمل توازن للتأثيرات تُسمَّى «المعادلة المثالية للغاز»، وبهذه المعادلة يتسنَّى لنا بشكل طبيعي أن نُقدِّر جيدًا المتغير المفقود، مثل الحجم إذا كان لدينا درجة الحرارة والضغط وكمية الغاز. (الضغط × الحجم)/(درجة الحرارة × عدد المولات) = قيمة ثابتة‎ تنصُّ هذه المعادلة على أن نسبة حاصل ضرب الضغط × الحجم على حاصل ضرب درجة الحرارة في عدد المولات؛ تظل ثابتة، حتى إن معرفة ثلاثة متغيرات تُساعد على التنبؤ بالمتغير الرابع. فعلى سبيل المثال إذا كان كلٌّ من درجة الحرارة والحجم والضغط معروفًا لدينا، فإننا يُمكِننا أن نحسب كمية الغاز. ونقول إن معادلة الغاز المثاليةَ هي التي تُوفر نسبة تقديرية، لأن هذه المعادلة «مثالية»؛ بمعنى أن المثالية قد أُضفيت عليها، وليس بمعنى أنها أفضلُ معادلة ممكنة، والمثالية هي تجاهل القوى البينجزيئية. في حقيقة الأمر، ستأتي قوى الجذب البينجزيئية إلى المشهد في لقطة ما مُسببةً انحراف الغاز عن تصرفه المثالي. وقد يتكثف الغاز تحت الضغط، ويدفع الضغط الجزيئات إلى تقارب كافٍ حتى تقوم قُوى الانجذاب بممارسة تأثيرها. من ناحية أخرى، إذا كان الضغط كبيرًا جدًّا، فقد ينضغط الغاز أقلَّ من المتوقع حيث إن قوى التنافر تعزل الجزيئات، لكن هذا جيد؛ فالانحراف عن قانون الغاز المثالي يذكرنا بأن الغازات تتألف من نقاط ساكنة هندسية، بل من موادَّ حقيقية لها شكل وحجم، وقدرةٌ على الالتصاق … بل ورائحة أحيانًا. افترض أنك اشتريت أدوية مقللة لغازات البطن، فقد يكون من المثير للاهتمام أن تلحظ بعض خصائص وتصرفات غازات الهضم التي نُحاول أن نكبح جماحها. تنتج غازات البطن في الأمعاء عن طريق البكتيريا والفطريات التي تعيش هناك، وكما سنكتشف على نحو أكثرَ تفصيلًا في أثناء خوضنا في غمار الكيمياء الحيوية أن هذه البكتيريا والفطريات ضرورية؛ ذلك لأن أجسادنا البشرية لا تحوي المعدَّات الكيميائية الضرورية لكي تُحلل بعض السكَّر المركب الموجود في الطعام مثل الفول والبسلة. من ناحية أخرى تتمتع هذه البكتيريا والفطريات بالمقدرة على تحليل هذه الأطعمة، لكنها عندما تقوم بذلك، يكون من أعراضها الجانبية هذه الغازات التي تحوي ثانيَ أكسيد الكربون والهيدروجين والميثان. هذه الغازات هي بلا رائحة في حد ذاتها، لكنها تلتقط في رحلتها عبر الأمعاء القليلَ من الشوائب، بما فيها بعض المركبات المحتوية على الكبريت ذي الرائحة الكريهة. ويُعتبَر الميثان مادة قابلة للاشتعال؛ لذا بالفعل تُعتبَر بعض غازات البطن قابلةً للاحتراق، لكن الأسطورة الأخرى القائلة إن الغازاتِ القابلةَ للاحتراق يُمكنها أن تبعث إشعاعاتٍ ضوئيةً داخل الأمعاء؛ غير صحيحة. وكما لاحظنا، يتطلب الاحتراق وجودَ الأوكسجين، أما الغازات التي لا تزال داخل البطن فهي ممنوعة نسبيًّا من الأوكسجين، ولكن حتى إذا أُزيلَت الومضات الضوئية من المعدة باعتبارها أمرًا خطيرًا، فالفكرة القائلة بمحاولة إشعال غازات المعدة فكرة سيئة، والعوائق واضحة. إلا أن الأمر الوثيق الصلة بمناقشتها الحاليَّة هو لماذا تخرج غازات المعدة على أي حال؟ تُفيدنا الخبرة الشائعة أن الحالة الغازية تكون أقلَّ كثافةً من الحالة السائلة وأن فقاعات الغاز تخرج خارج المواد شبه السائلة، وتُؤكد مرة أخرى مناقشتنا حول خواص الحالة الغازية هذه الفكرة، إلا أنه يبدو أن غازات الأمعاء تنتقل في الاتجاه المعاكس. وسبب هذا السلوك المعاكس هو حدوث التمعُّج (الحركة الدودية للأمعاء) هو فعل التقلُّص الذي تقوم به الأمعاء وهي تدفع ما بداخلها نحو الخارج. يُثار فعل التمعُّج بالأكل أو الشرب مما يُسبب خروج الغازات مباشرة بعد الأكل حتى إذا كانت الوجبة الحالية لا تزال داخل المعدة في مراحل هضمها الأولى، وإذا تمكَّن أحد الغازات من التسلل في عكس اتجاه عمل التمعج، فإن الانحناءات والالتفافات الكثيرة داخل الأمعاء تعمل على الحيلولة دون تقدم سيره، ولكن عندما يستلقي الفرد على ظهره، تبطل قضية الاتجاهات مما قد يُسبب خروج الغازات مباشرة بعد الاستيقاظ. ومن الممكن إيجاد وسائل مساعدة على الهضم يُمكنها أن تُقلِّل من كمِّ الغازات المنتَجة (سوف نرى كيف تعمل هذه الوسائل لدى تناولنا لهذا الموضوع مرة أخرى في أثناء مناقشتنا للكيمياء الحيوية). ومن الممكن أيضًا تجنُّب الغازات الزائدة عن طريق الابتعاد عن الأطعمة المسببة لها، مثل الأرز والمكرونة والبطاطس والفول والبازلاء. كل هذا التجنب ليس من أجل الصحة، لكن من أجل السلوك الاجتماعي اللائق؛ حيث تُعتبَر رائحة الغازات التي تتنوع بتنوع الأكل المهضوم شيئًا مُحرجًا في ثقافات عديدة، ويُعتبَر الصوت الذي يتحرك على حد سواء مثل الغاز عبر الأمعاء ثم عبر المخرج، شيئًا بذيئًا، لكن ليس هناك مجال للربط بين الحالات المرَضية والغازات الزائدة، في حقيقة الأمر قد يكون العكس صحيحًا؛ لذا فمن المحتمل ألَّا يكون صحيًّا أن تُحاول أن تكتم الغازات المعوية. عمومًا، يُعتبَر خروج الغازات علامة على أن الأمعاء تعمل جيدًا، وهو أمر جيد أن تعرفه.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.21/
تجربة ١١: إنه في الهواء
لقد لاحظنا في مناقشتنا عن تركيز المحاليل أن تفاعلاتٍ عديدةً مهمة تحدث في المحاليل؛ حيث إن المحاليل تُوفِّر الحركة ووسيلة الاحتكاك، إلا أن ثمة تفاعلاتٍ أخرى تحدث في الحالة الغازية وفي المرحلة التي تتوسط الغاز والمادةَ الصلبة أو السائلة، فجزيئات الغاز تتمتع أيضًا بالقدرة على الحركة. ينتج الانتشار عن حقيقةِ أن الجزيئات تكون في الحالة الغازية في حالة حركة دائمة، ومع ذلك فمتوسِّط معدل الحركة يتنوَّع بِناءً على درجة الحرارة وكتلة الجزيء. والأسباب بديهية، حيث تشير درجاتُ الحرارةِ العاليةُ إلى أن مزيدًا من الطاقة موجود في النظام؛ ومِن ثَم تنتقل الجزيئات على نحوٍ أسرع، تمامًا مثلما تنتقل رمية كرة السلة المقذوفة بمزيدٍ من الطاقة بسرعة أعلى، وتنتقل الجزيئات التي لها كتلة أكبر على نحوٍ أبطأ من الجزيئات التي لها كتلة أقل، تمامًا مثلما تنتقل كرة البولنج على نحوٍ أبطأ من كرة السلة إذا قذفنا الاثنتَين بنفس الطاقة، ويُمكِن إثبات توقف الانتشار على الكتلة على النحو التالي. ارتدِ نظارتك الواقية، خذ كوبَين طويلَين بنفس الارتفاع، واملأ أحدَهما بنحو بوصتَين من الخل، واملأ الآخرَ بنفس المقدار من محلول النشادر المنزلي. تأكد من أن الارتفاع متساوٍ في الكوبَين. بلل مِنشفة ورقية، ثم أضِف قطراتٍ قليلةً من دليل الفينول الأحمر، الذي يُوجَد في عبوة اختبار قلوية محلول حمام السباحة المقترح في «قائمة المشتريات والمحاليل»، على المنشفة الورقية. ضع المنشفة الورقية والمبللة ببقعة الفينول على فوهة كوب الخل. بعد مضي ثلاث دقائق نجد أن لون المنشفة الورقية يتحول إلى اللون الأصفر. يحدث هذا التغيير في اللون بسبب هروب جزيئات حامض الخليك من الخل، وانتشارها وهي في الحالة الغازيَّة حيث تصطدم بدليل الفينول الأحمر الموجود في المِنشَفة الورقية. وعندما يتغير لون المنشفة إلى اللون الأصفر؛ التقِطْها وضعها على فوهة الكوب الذي يحوي النشادر. ينبغي أن يتحوَّل لون المنشفة الآن إلى اللون الأحمر لكن بشكلٍ أسرع من ذي قبل. يتغير لون المنشفة إلى اللون الأحمر؛ لأن النشادر قلوي، وتتحوَّل إلى اللون الأحمر بسرعة لأن جزيئاتها أخفُّ بمعدل ثلاث مرات ونصف من جزيئات حامض الخليك؛ فتتحرَّك على نحوٍ أسرع في الهواء. بمجرد تحوُّل لون المنشفة إلى اللون الأحمر، يُمكن وضعها مرةً أخرى على محلول حامض الخليك نجد أنها تتحول إلى اللون الأصفر مرة أخرى، لكن التفاعل يكون بطيئًا مرة أخرى. لنستعرض الآن بمزيدٍ من التفصيل الانتشارَ والفوارق الدقيقة الأخرى في تفاعلات الحالة الغازية.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.11/
عندما تُوضَع الغازات في الأجواء
••• تتميز التفاعلات الكيميائية في الحالة الغازية بأنها واسعة الانتشار جدًّا ومهمة جدًّا وغريبة الأطوار جدًّا. وسنُوضِّح هنا بعض ميول التفاعلات المتضمنة لحالة الغاز عن طريق أمثلة قد تبدو مألوفة جدًّا. تنبع معظم الأشياء المميزة في تفاعلات الحالة الغازية من حقيقة أن جزيئات الحالة الغازية، في المتوسط، متباعدة جدًّا نسبيًّا — ونقول نسبيًّا، مقارنة بمجموعات جزيئات الحالة الصلبة أو الحالة السائلة. فهي أيضًا تتطاير بسرعاتٍ عاليةٍ عمَّا يجب أن تكون عليه في الحالة السائلة أو الصلبة، وكنتيجةٍ لذلك تكون قُوى الجذب البينجزيئية غيرَ مهمة نسبيًّا، وبسبب أقفاص المذيب واللزوجة الناتجة عن التفاعلات البينجزيئية، قد تستغرق المتفاعلات في الحالة السائلة المزيدَ من الوقت حتى يذوب بعضها في بعض، ولكنها تستغرق المزيد من الوقت أيضًا حتى ينعزل بعضها عن بعض، مما يُسهل التفاعل. تجد المتفاعلات نفسها في السائل على البعد نفسِه لمدة طويلة من الوقت، وقد تتحرك في المزيد من التصادمات بعضها مع بعض. وكلما كان هناك مزيدٌ من التصادمات، زادت إمكانية حدوث التفاعل. وإذا حدثت وارتطمت جزيئات الحالة الغازية بعضها ببعض، فإنها غالبًا تميل إلى التباعد بالقدر نفسه الذي تميل به إلى التفاعل. من ثَم هناك عددٌ من العوامل التي تعمل ضدَّ نجاح تفاعلات الحالة الغازية، حتى إن العديد من تفاعلات الحالة الغازية تشتهر بأنها لا تتفاعل فحسب، بل إنها تتفاعل مُحدِثة انفجاراتٍ أيضًا، مثل تفاعل غازات أدخنة البنزين والأوكسجين، إلا أن الفحص من كَثَب يُبين أن عددًا من هذه التفاعلات يجب أن تُستهَل أو يُشعَل بها شرار قبل أن تنطلق. قد يُسبب الشرارُ حدوث التفاعل، وإلا فلن يحدث أي شيء، حيث إن الشرار يُفضي إلى تكوين ما يُعرَف ﺑ «الراديكال» أو الجذر، وهو نوع كيميائي ذو إلكترون مفرد. وقد يكون مصطلح الراديكال مألوفًا لمشاهدي أخبار المساء؛ فالسياسي الراديكالي يُسبب الشغْب بأفعاله المتطرِّفة، كذلك يُسبب النوع الكيميائي الراديكالي الشغْب في الجسم؛ فالزيادة المفرِطة في النوع الراديكالي أكثرَ من اللازم يُعزى إليها كلٌّ من الشيخوخة ومرض السرطان. وقد شرحنا من قبل كيف أن الذرات تميل إلى أن تجمع إليها الإلكترونات أو تلفظها بعيدًا عنها حتى تصل إلى حالةٍ من الامتلاء في أغلفتها الخارجية. الآن يُمكننا أن نُشير إلى أن هذه الأغلفة الممتلئة تمامًا غالبًا تنتهي بعدد زوجي من الإلكترونات، وكما اتضح، تميل كلٌّ من الذرات والجزيئات إلى أن يكون لديها عدد زوجي من الإلكترونات؛ لأن الإلكترونات تدخل في أزواج. مثل زوجَيِ الحذاء داخل العلبة التي يُوضع فيها حيث يُطابِق كلٌّ منهما الآخرَ كزوج، وأحدهما بجانب الآخر. وعندما يحدث شيء ما يجعل الإلكترون غير متزاوج، أي راديكالي، يميل هذا النوع إلى أن يُصبح ذا نشاط عالٍ؛ بمعنى أنه يبحث عن إلكترون آخر. يزيد وجود الجذور الحرة في الحالة الغازية من عدد فرص التلاقي الناجحة على نحو ملحوظ. وكما رأينا في مناقشتنا لتفاعلات الأكسدة والاختزال، يُمكن لتفاعلات الاحتراق الانتقالُ عبر الحالة الغازية بسرعة عالية. وتُعتبَر المذيبات الغازية بالمثل ذات قابلية عالية للاشتعال؛ ولهذا ينبغي أن تُستعمَل بعيدًا عن أية شرارة أو مصدر للهب وفي مكان جيد التهوية. ولا ينبغي أن يتصل المذيب السائل باللهب؛ لأنه سيُحدِث مشكلة. وإذا اختلطت المذيبات الغازية مع الأوكسجين في الهواء، عندئذٍ قد يكون الشرار هو كل ما نحتاج إليه لحدوث التفاعل. ويُطلِق الهيدروجين المختلط بالأوكسجين أحدَ تفاعلات الحالة الغازية الانفجارية الأخرى المعروفة، الذي يُحتمل غالبًا أنه كان له يدٌ في انفجار مكوك كولومبيا الفضائي، وكذلك في كارثة هيندينبورج. وعادة ما تتفاعل انفجارات الحالة الغازية عبر سلسلة من التفاعلات؛ فالإلكترون في الجذر أو الراديكال يجد رفيقه، لكنه يسرق إلكترونًا من زوج آخر في أثناء العملية، مما يُؤدي إلى نشوء جذر آخر، وغالبًا أكثر من جذر إذا تمزقت الرابطة. وبسبب هذه السلسلة من الأحداث، يتباين تفاعل الحالة الغازية في سِماته الانفجارية بناءً على إجمالي الضغط، بمعنى عدد الجزيئات الممكنة المستهدفة الموجودة، ففي الضغط المنخفض يُخفق تفاعل الهيدروجين والأوكسجين حيث إن تركيز المتفاعلات لا يكون كافيًا لحدوث التفاعل، ويكون التفاعل انفجاريًّا تحت الضغط المعتدل، لكن من المثير أن الخليط يُصبح أقل انفجارية مرة أخرى تحت الضغط المرتفع جدًّا، والسبب في هذا التغيير هو إخماد تكوُّن الجذور، وفي ظل الضغوط الهائلة، فإن الجذور يُمكِن أن تفقد الطاقة عن طريق التصادمات بينها وبين جدران الأوعية التي تحتويها فتُكوِّن نظائرَ سالبة بدلًا من حدوث سلاسل تفاعلات انفجارية. وفي ظل هذه الضغوط الهائلة نفسِها، ثمَّة جزيئاتٌ متفاعلة كثيرة؛ إذ إن جدران الأوعية تعجز عن إبطال مفعول الجذور بالسرعة الكافية التي تُمكنها من إيقاف تفاعل انفجاري، ثم يتولى الانفجار مسألة الجدار على نحو مستمر. ويبرز الأوكسجين في تفاعلات انفجارية عديدة، ويرجع ذلك إلى أن الأوكسجين يُوجَد طبيعيًّا كجذر ثنائي؛ فإلكترونان حول جزيء الأوكسجين مفرَدان، وكل إلكترون فردي يكون أكثر نشاطًا. وتفاعلات الحالة السائلة التي تُنتج غازات تتضمَّن بعض التفاعلات التي نريد أن نتجنَّبها، وقد تتذكَّر أن أحد التحذيرات التي قدمناها في «كلمات قليلة وضرورية بشأن الأمان والسلامة» ألَّا تكون مبدعًا مع مخاليط المواد الكيميائية، ومن أهم الأسباب منتجات الحالة الغازية، فيُمكن أن تُنتِج المنظفاتُ المنزلية غازاتٍ ضارةً يُمكنها أن تُسبب صعوبة في التنفس أو أكثرَ من ذلك، وتُعَد نواتج الحالة الغازية نواتجَ غادرة ولا سيما في هذا الشأن؛ لأنها تنتشر في جميع أرجاء الحجرة، حتى الغازات التي يبدو أنها غير مؤذية يُمكنها أن تُسبب اختناقًا إذا كانت مركزة بشكل كافٍ حتى تحل محل الأوكسجين اللازم للتنفس. في وقت ما في تاريخ أوروبا كان ثاني أكسيد الكربون يُسمَّى «غاز سلفستر»، تأتي كلمة سلفستر عن الكلمة اللاتينية التي تعني «غابة»، حيث كان يُوجَد الغاز في كهوف تحوي خشبًا فاسدًا فتحلَّلت مركبات الكربون في الخشب إلى ثاني أكسيد الكربون، وغاز ثاني أكسيد الكربون هو غاز أثقل من الهواء؛ لذا استقر في أرضية كهوف غير جيدة التهوية، وكانت الكلاب التي تأتي إلى الكهف تختنق في حين ينجو الإنسان لأنه يتنفس في مستوى أعلى من الأرض. وبالطبع كل هذه الأمور لا تُرى، وفي هذا الوقت من تاريخ أوروبا، كان يصعب على العالم الأوروبي إدراكُ هذه الأمور غير المرئية، فكانت غامضة جدًّا بالنسبة إليهم. لهذا السبب وغيره من الأسباب العديدة، يُمكن أن نغفر للأوروبيين الأوائل اعتقادَهم الذي يبدو غيرَ عقلانيٍّ في السحر والخرافات؛ فعندما ترى كلبك يسقط ميتًا أمام عينَيك بقوًى غير مرئية ليس لها تأثير عليك، قد يقنع هذا أيَّ أحد بالقوى الخارقة للطبيعة! ويصعب أيضًا أن نتعامل ببساطةٍ دائمًا مع التفاعلات التي تتضمَّن متفاعلات غازية؛ لأن هذه المتفاعلات ينبغي تركيزها أو تجميعها قبل حدوث تفاعل هام. ويعني تجميع متفاعلات الحالة الغازية عامة زيادة ضغط غازات محددة. في أحد تفاعلات الغاز المشهورة التي يتفاعل فيها النيتروجين والهيدروجين ليُكوِّنا النشادر، يكون ضغط الغازات مرتفعًا، ويُسخَّن خليط التفاعل، ويُستخدَم مُيسِّر أي عامل حفَّاز. وتُسمَّى هذه العملية «عملية هابر» ويُنتج فيها النشادر الذي يُمكن تحويله إلى نترات، وهو مكون لا يُمكن الاستغناء عنه في البارود. وقبل أن تُعرَف هذه العملية كانت الطبيعة تُوفِّر النترات، فبعض النباتات مثل البازلاء والفول تحتفظ بالبكتريا في جذورها، التي يُمكنها أن تأخذ النيتروجين من الهواء، بمعنى أنها تُحوِّل النيتروجين في الحالة الغازية إلى مركَّبات يُمكِن أن يستخدمها النبات. والحيوانات تأكل النباتات ويتكون النيتروجين في سمادها الغنيِّ بالنيتروجين، والكميات الكبيرة من السماد مثل تلك التي تُوجَد في المناطق التي تتوافد عليها أسراب ضخمة من الطيور موسميًّا، تُستخدَم كمصدر للنترات. وفي أوروبا قُبيل الحرب العالمية الأولى، كان يتعيَّن استيراد مثل هذه النترات، مما يعني أن الدول المستوردة كانت عرضة للحصار؛ ومن ثَم كان التركيز منصبًّا على أكثر الطرق الداخلية لتصنيع النشادر من غاز النيتروجين الموجود في الجو. من التفاعلات الأخرى التي تتضمن الغازات والعوامل الحفازة تلك التفاعلات التي تكون فيها المتفاعلات في الحالة الغازية والنواتج في الحالة الصلبة أو السائلة، وتُعتبَر عملية «فيشر-تروبش» مثالًا على هذا التفاعل. في عملية «فيشر-تروبش»، يتولد أول أكسيد الكربون عن طريق تعريض الفحم للبخار، وتُسمَّى هذه الطريقة «تحويل الفحم إلى غاز». ويُسمَّى خليط الغازات الناتجة «الغازات التخليقية» ويُمكِن تخصيبه بالهيدروجين من خلال التفاعل المحول للماء. وإذا تم هذا عدد مرات كافية، يتولد هيدروجين نقي تمامًا ليُستخدَم في تخليق النشادر على طريقة هابر، ويُمكن أيضًا تحويل أول أكسيد الكربون والهيدروجين إلى الميثانول والكحول اللذَين يُمكن استخدامهما كوقود، أو إذا كُرِّرَت عملية التحويل هذه لعدة مرات مع استخدام العامل الحفاز يتحول إلى سلسلة طويلة من مركبات الكربون التي تُكون الشمع والزيت. رأينا الآن أن التفاعلات بين المواد الصلبة والسائلة والغازية تُعتبَر ضرورية لتفاعلات هامة عديدة تدخل في الصناعات، علاوةً على أن التفاعلات الأخرى التي تشتمل على تفاعلات المواد الغازية والمواد السائلة والمواد الصلبة هي تفاعلات حيوية لنا على مستوى الحياة غير الصناعية، مثل التفاعلات بيننا وبين الهواء الذي نتنفسه على سبيل المثال. لعل أكثر الأمثلة الأخاذة للتفاعلات المشتملة على الحالة الغازية هو التنفس، والتنفس هو العملية التي تتبادل الكائنات الحية عن طريقها الغازات مع بيئتها، وبعملية التكافل العظيم في كوكب الأرض، تستهلك النباتات ثانيَ أكسيد الكربون وتُطلق الأوكسجين، في حين أن حلفاءها الحيوانات تستهلك الأوكسجين وتُطلِق ثانيَ أكسيد الكربون، إلا أن النباتات تحتاج أيضًا إلى الأوكسجين، والأمر الذي قد يُثير الذهول هو أن تفسير ذلك الأمر يتضمن فكرة عمل البطاريات. تُدير البطارياتُ الأجهزة الكهربية عن طريق مدها بفيضٍ من الإلكترونات، ويُضاهي مجرى الإلكترونات تدفق النهر (في حقيقة الأمر كل منهما يُسمَّى تيارًا)، وتُعتبَر هذه المضاهاة جيدة، وتمامًا مثلما يعمل تيار الماء من خلال دوران الساقية، يُمكن أن يعمل تيار الإلكترونات أيضًا. تُنتج البطارية تيار إلكترونات بتفاعلَين؛ أحدهما يُنتج الإلكترونات والآخر يستهلكها، وهذان التفاعلان منعزلان فيزيائيًّا أحدهما عن الآخر، لكن يُمكن توصيلهما بسلك. تحتاج البطارية إلى تفاعلَين لأن تيار الإلكترونات لا يتدفق إلا إذا كان لديه مصدرٌ ومقصد يتجه نحوه، ويُعتبَر الاحتياج الثاني — المقصد الذي يتجه نحوه — في غاية الأهمية، وإذا أُعيق التيار، فإن الماء لا يتدفَّق. في هذه الحالة لا يكون لديك تيارُ ماء متدفق، وإنما بِركة. بالمثل، كي تتدفق الإلكترونات في تيار كهربائي ينبغي أن يكون لديها مقصد، وتُخزِّن البطاريات المختزنة الشحنة؛ لأن الإلكترونات لا يُمكنها أن تغادر إذا لم يُوجَد مكان تذهب إليه، ولكي تُنتج تيارًا من الإلكترونات ينبغي أن تُوصَّل أطراف البطاريات المختزنة بسلك لكي تُنشئ قاعًا للتيار المتدفق. ويُمكن أن تُدار أيضًا عمليات النباتات عن طريق تيارات الإلكترونات من تفاعلات ثنائية — أحدهما يجلب الإلكترونات والآخر يستهلكها — وهذه التفاعلات يُمكنك فصلها أيضًا، وينبغي أن تُوصل تفاعلات النباتات أيضًا لكي يُسمَح بتدفق الإلكترونات، لكن بدلًا من استخدام الأسلاك، تملك النباتات شيئًا يُسمَّى «سلسلة نقل الإلكترونات»، وسنسرد هنا طريقة عملها. في المرحلة الأولى من عملية البناء الضوئي، التي تُسمَّى المرحلة الضوئية، فإن التفاعل الآتي: يُمِد الكلوروفيل، وهو جزيء الصبغة الخضراء في النبات، بالإلكترونات. وتهيج أشعة الشمس الإلكترونات كي تتدفَّق في الكلوروفيل إلى سلسلة نقل الإلكترونات، التي تعمل كشبكة أسلاك في أوراق النبات، وقد أصبح استخدام الضوء لإثارة الإلكترونات حدثًا يوميًّا مع انتشار الأجهزة التي تعمل من على بُعد بالريموت كنترول. يُثير الضوء عن طريق التحكم من بُعد الإلكتروناتِ الموجودةَ في أجهزة الاستقبال المصنوعة من أشباه الموصلات والموجودة — ولنَقُل — في جهاز التلفاز، ويعمل التيار الناتج بدوره بتشغيل الدوائر الإلكترونية أو فصلها في جهاز التلفاز. وفي أوراق النبات، يُثير الضوء الإلكترونات الموجودة في الكلوروفيل والتيار الناتج يجري عن طريق السلسلة الناقلة للإلكترونات، والسلسلة الناقلة للإلكترونات هي سلسلة من الجزيئات يُمكنها أن تُمرِّر الإلكترونات، وتقع في تركيب نباتي يُسمَّى غشاء الثيلاكويد. في هذه النقطة، يجب علينا أن نُقحِم شيئًا ما غير متعلق بالموضوع: الهيدروجين كما قد تتذكرون، يتكون من بروتون واحد وإلكترون واحد عندما تكون ذرته متعادلة، وعندما تُجرَّد ذرة الهيدروجين من الإلكترون، فإنها تُكوِّن أيون الهيدروجين، ويُشار غالبًا إلى أيون الهيدروجين الناتج على أنه مجرد بروتون؛ لأن هذا هو الحال بالفعل عندئذٍ، إذ يُصبح بروتون ليس إلا. ويكون «للميل» نفس الدلالة في العلوم مثل ميل جبل أو ميل طريق، أي إنه الاختلاف في الحجم بين كميتَين، مثل الارتفاع، أو كما في هذه الحالة عدد البروتونات التي تفصلها مسافة ما، وعليه يُشار إلى حركة أيونات الهيدروجين من أحد جوانب غشاء الثيلاكويد إلى الجانب الآخر على أنها إعادة ضبط لميل البروتون. والمرحلة المظلمة هي مرحلة «ظلام» لأنها لا تحتاج إلى ضوء لإتمامها، وتُسمَّى المرحلة المظلمة أيضًا «دورة كالفين»، حيث إن أول كيميائي وصفها هو ملفين كالفين. وفي مرحلة الظلام، يُثبَّت الكربون الموجود في ثاني أكسيد الكربون، بمعنى أنه يتحول إلى شكل أقل تطايرًا، وهو السكر، الذي يُمكِن أن تستخدمه النباتات والحيوانات مصدرًا للطاقة، وينتج غاز الأوكسجين في هذه الخطوة، لكنه يخرج إلى الهواء كأحد المنتجات الثانوية: مما يُعلِّل احتياج النباتات إلى الأوكسجين أيضًا. إلا أنه ما زالت هناك إمكانية لبعض الخلايا أن تُنتج الطاقة أحيانًا دون الحاجة إلى الأوكسجين، وتُسمَّى عملية إنتاج الطاقة الخالية من الأوكسجين «عملية التخمر»، ومع أنه غالبًا يُؤخَذ مصطلح التخمُّر على أنه العملية المنتِجة للكحول، فإنه واقعيًّا يشمل عملياتٍ عديدةً تعمل بدون الأوكسجين؛ فعلى سبيل المثال، عندما يحدث نقص في الأوكسجين في خلايانا العضلية، كما هو الحال عندما نُمارس الرياضة بعنف، ولا يستطيع تنفسُنا أن يتواكب وحاجتَنا من الأوكسجين، فإن عضلاتنا يجب أن تعتمد على وسائل أخرى لإنتاج الطاقة، لا تتطلب وجود الأوكسجين، والمنتج النهائي لإحدى هذه الوسائل البديلة التي لا تعتمد على الأوكسجين هو نوع من الأحماض المعروف بحامض اللاكتيك. وفي حينِ يدخل حامض اللاكتيك في بِنية الخلايا العضلية المحرومة من الأوكسجين، فإن الخلايا لا تزال أقلَّ قدرة على القيام بوظيفتها، والنتيجة هي كلل وألم وإعياء. تعتمد الخميرة على نوع آخر من توليد الطاقة الخالية من الأوكسجين الذي يكون الإيثانول الناتجَ النهائي عنه، ونحن نستفيد من هذا التخمر عند صنع الخمور وغيرها من المشروبات الكحولية. ستستمر الحياة، لكن المخلوقات الموجودة ستُشبهنا أقلَّ من الحد الذي نُشبِه به نحن الديناصورات، وأقلَّ مما تُشبه الديناصورات الكائنات أحادية الخلايا من حيث أتت، إلا أن هذه الكائنات أحاديةَ الخلايا تضطلع بمسئولية إنتاج الأوكسجين في الأجواء، الذي تراكم في آخر الأمر إلى الحد الذي سمح بالحياة المتعددةِ الخلايا؛ ومِن ثَم قد تكون هذه الدورة تكرَّرت أخيرًا، وقد اعتدنا أن نُفكر بطريقة خطية في ضوء البداية والنهاية؛ لأننا لا نقتنع إلا بهذه الطريقة، إلا أن الحياة غيرُ مقيدة بمثل هذا، فالحياة تميل إلى تقدير الدوائر، والحياة تتعاقب في الارتفاع والانخفاض.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.22/
تجربة ١٢: كيف تنمو حديقتك؟
أشعر أنني كتلة محببة من بِلَّورات لا شكل لها. لا تُعَد كلٌّ من الحالتَين الغازية والسائلة الشكلين الوحيدين للمادة اللذين يُصاحبهما تفاعلات مثيرة للكيميائي؛ فالحالة الصلبة للمواد مع أنها تبدو بلا حَراك أو حياة تمامًا، فإنها تحظى بجانب حيوي أيضًا. ارتدِ نظارة الأمان الواقية. انتقِ وعاءً صغيرًا من البلاستيك أو الزجاج مُشابهًا لوعاء الحبوب ليكونَ كالحديقة الخاصة بك، وتأكَّد من أنك لست في حاجة إليه، ويُمكنك إلقاؤه بعد الانتهاء من التجرِبة. ضع هذا الوعاء داخل وعاءٍ أكبر أو صندوق أو حاوية أو على فرخ كبير من ورق الصحف أو رقائق الألمنيوم؛ ومن ثَم أي بلَّورات تتساقط من حديقتك ستظل في الداخل مما يُسهل عليك عملية التنظيف. اختر مكانًا لحديقتك يُمكن لها فيه أن تقع بلا إزعاج أو عائق، وحيث لا تُزعج رائحةُ النشادر أي أحد. خذ إسفنجة مطبخ صغيرة، بلِّلها ثم اعصرها بحيث تكون رطبة فقط. قطع الإسفنجة الرطبة على شكل مكعبات صغيرة وضَعْها في الحديقة، وانثرها بالتساوي في القاع، بحيث يكون هناك ما يقرب من نصف بوصة (١سم) مسافة تفصل بين كلٍّ منها وبين جوانب الوعاء، ويتوقف عدد المكعبات على حجم الوعاء؛ فغالبًا سيأخذ الوعاء ثلاثةً إلى خمسة مكعبات. أنت الآن مستعد لتُضيف المواد التي ستُشكل حديقتك. خذ زهرةَ غسيل، والنشادر المستخدم في المنازل، ومِلح الطعام، وماءً مقطرًا وهو مقترح شراؤه ضمن «قائمة المشتريات والمحاليل»، ثم أحضر ملعقة بلاستيكية. أضف مِلعقتَين صغيرتَين من زهرة الغسيل، وماءً مقطرًا، والنشادر إلى الوعاء، وإذا شئت يُمكنك أن تُضيف لونًا بإضافة قليل من قطرات ألوان الطعام مباشرة على مكعبات الإسفنج، ولا تُعتبَر المقادير الدقيقة أمرًا حيويًّا للناتج هنا. رجَّ الوعاء بخفة. انثر ملعقتَين صغيرتَين من ملح الطعام فوق المكعبات، ولا تنزعج إذا وقع بعض الملح على المحلول الذي في قاع الوعاء. اترك الوعاء ساكنًا طيلة الليل. انثر في اليوم التالي ملعقتَين من مِلح الطعام أيضًا على المكعبات واترك الوعاء لليلةٍ أخرى. في اليوم الثالث يجب عليك أن تُكرر إضافة المكونات كافةً التي استعملتها في اليوم الأول، مراعيًا ألَّا تُزعج نموَّ أي بِلورات تكونَت. نجد أن الملح قد تحوَّل إلى الكثير من البلورات الرقيقة في هيئة أصابع اليد، ويُمكنك أن تُعزز جولتك عبر الحديقة باستخدام عدسة مكبرة للنظر إلى البلورات.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.12/
كيمياء البلورات النقية
لقد كان الطريق شاسعًا ومستقيمًا وبراقًا مثل البلورة، وينتهي بالشمس. يُمكن أن تستحضر كلمةُ كيمياء إلى الذهن صورًا لموادَّ لزجةٍ، وأشكالًا كرويةً وسوائلَ هُلامية، وليست صورًا لتركيباتٍ بارعة ومتقَنة ومنظمة، لكن المواد الكيميائية في الحالة الصلبة يُمكن أن تكون ذات تماثل رائع وتركيبات شديدة الكياسة، ويتضح التماثل الجميل والرياضي في تجرِبة بلورات الحديقة، وتظهر حتى في حُبيبات الملح المتماثلة، وهنا سوف نفحص القُوى التي تُحدث مثل هذا التركيب، والظواهرَ الأخرى المرتبطة بالحالة الصلبة للمادة. وحتى هذه اللحظة، لم نَخُض بعد في الطبيعة ثلاثية الأبعاد للجزيئات؛ لأننا لم نكن في حاجةٍ إلى هذه الدرجة المزيدة من التعقيد، ومن الناحية التاريخية، كان هذا التدرج الطبيعي للأحداث أيضًا، ليس إلا. ولم يكن حتى منتصفِ القرن التاسعَ عشر، أي ما يقرب من نحو نصف قرن بعد أن أصبحت نظرية دالتون للذرات مقبولةً بشكل عام، لم يكن عددٌ كبير من العلماء الأوروبيين قد بدَءوا التعاطيَ مع احتمالية الترتيب ثلاثيِّ الأبعاد لذرات الجزيئات وعواقِبه. إلا أن هذا التفسير المنطقي لم يلقَ الاستحسان العالمي الفوري عندما طُرح لأول مرة، وقد نُعِت المؤيدون للفكرة بالحماقة، أو بما هو أكثر من ذلك، وكان عليهم تحملُ هذا النقد، وبمرور الوقت، اتضَحت صحة أقوالهم. ولتفسير تركيب البلورات التي لُوحظت في الملح والسكر وبلورات الحديقة سنتعرض الآن لطبيعة الذرات والجزيئات والأيونات ثلاثية الأبعاد في عالمنا ثلاثي الأبعاد. ولكي نفهم القوى الكامنة وراء تركيب الجزيئات ثلاثية الأبعاد، نحتاج إلى أن نرجع إلى الوراء لتشبيهٍ استخدمناه من قبل؛ قلنا إن نواة الذرة، لكونها مؤلَّفة من بروتونات ونيترونات، فإن كتلتها تُعادل كتلة الإلكترونات المحيطةِ بها آلاف المرات، وقد تابعنا القول بأن الإلكترونات تُشبه البرغوث الذي يقف على الفيل، لكن مع أن البراغيث صغيرة جدًّا فإنها تُؤثر بالطبع على سلوك الفيل. ويُعتبَر التركيب ثلاثي الأبعاد للجزيء أحد الأماكن التي فيها تشعر بهذا التأثير، ويرجع التركيب ثلاثي الأبعاد للبلورات إلى حقيقة واحدة أساسية، ألا وهي: أن الإلكترونات تميل إلى أن تُوجَد في أزواج، وهي تزاوج أحادي على نحوٍ صارم، وما إن تتزاوج الإلكترونات حتى تحتفظ بمسافة لائقة بينها وبين الأزواج الأخرى، ويُسمَّى هذا بلغة الكيميائيين «تنافر أزواج الإلكترونات». ولكي ترى كيف يحدث هذا في الجزيئات، تأمل معي الماء. في تركيب لويس النقطي هذا، يأخذ الهيدروجين نقطة واحدة لتُعبر عن إلكترونه الوحيد، ويأخذ الأوكسجين ست نقاط لتُعبر عن تكافُئِه بستة إلكترونات. ويُسهل العرض بهذه الطريقة رؤية الكيفية التي تتحد بها ذرتا هيدروجين وذرة أوكسجين، فهما يشتركان في الإلكترونات؛ ومن ثَم تملك كل ذرة هيدروجين غلافًا ممتلئًا بإلكترونَين، ويملك الأوكسجين غلافًا ممتلئًا بثمانية إلكترونات. أزواج وحيدة (أزواج غير مترابطة) يتنافر بعضُها مع بعض. أزواج وحيدة (أزواج غير مترابطة) تتنافر مع الأزواج المترابطة، وهي أقلُّ تنافرًا من السابقة. تنافر الأزواج المترابطة مع الأزواج المترابطة، وهي أقل تنافرًا من السابقة أيضًا. ويُمكِننا فهمُ هذه المبادئ من تحليل شكل جزيء الماء كالآتي: الآن انفخ أربعة بالونات أخرى (لكن اجعل كل البالونات الحمراء بالحجمِ نفسِه وأكبر من البالونات الخضراء). وعندما تربطها معًا مثل المرة الأولى تحصل على الشكل الأكثر تمثيلًا لجزيء الماء: فالبالونات الأكبر حجمًا سوف تُقصي نفسها بعيدًا بأقصى درجة عن الأخرى وتعصر البالونات الأصغر معًا. والشكل ثلاثي الأبعاد للجزيئات كما هو محدَّد من نظرية «تنافر زوج الإلكترونات في طبقة التكافؤ»، والمقايضة بين الانجذابات الأيونية والروابط التساهمية وقوى الجذب البينجزيئية، كلها تُفسِّر مجتمعةً التركيبَ ثلاثي الأبعاد للبلورات. وتُعتبَر بعض البلورات أيونية، بمعنى أن الشبكات الأيونية الطويلة تتماسك معًا بانجذابات أيونية. ويُعتبَر كلوريد الصوديوم أو ملح الطعام ملحًا أيونيًّا. وفي بلورات كلوريد الصوديوم، يُحاط أيون الصوديوم بستة أيونات كلور — أيون من أعلى وأيون من أسفل وأيون في كل اتجاه من اتجاهات البوصلة — ويُحاط كلُّ أيون كلور بستة أيونات صوديوم بالطريقة نفسِها. ومن ناحية أخرى، تتماسك بلورات السكر معًا عن طريق قوى الجذب البينجزيئية. وهي تنسجم بعضها مع بعض لتحقيق الدرجة القصوى من التوازن بين قوى التجاذب والتنافر، مما يُفضي إلى تركيب من البلورات منظَّمٍ إلى حد ما. والفلزات النقية هي مجموعات كبيرة من الذرات المتطابقة؛ ومِن ثَم لا يُمكن أن يشوب الترابطَ بين أي زوج أيُّ اختلاف عن الترابط بين الزوج الذي يليه. وعليه، يستحيل أن نقول إن إلكترونات الترابط الخارجية تنتمي إلى أية ذرة بعينها، وينعكس هذا الاستقلال على التوصيل الكهربي الرائع للفلزات، فعند توصيلها بأي مصدر كهربائي مثل بطارية، فإن الإلكترونات تنتقل بحرية من إحدى الذرات إلى الأخرى في تيار. وتُشكِّل المواد الصلبة التي ترتبط بروابط تساهمية مثل الكوارتز والماس والجرافيت، فئةً أخرى من البلورات، والكوارتز هو سلسلة متواصلة من ثاني أكسيد السليكون المرتبط في ترتيب بلوري منتظم، والرمل هو خليط من الكوارتز والصخور الأخرى. والزجاج هو كوارتز صلب كُسِي بمادة معدنية وأُعيدَ تقسيتُه، لكن دون أن يأخذ الشكلَ البلَّوري المنتظمَ نفسَه قبل عملية الإذابة، بنفس الطريقة التي تحدث مع الزبدة عند إذابتها حيث تأخذ شكلها نفسَه قبل الذوبان بعد أن تبرد وتتجمد مرة أخرى، ومن المعروف أن الزجاج يتكون بشكل طبيعي عندما يضرب البرق الرمال. من الواضح أن السؤال غايةٌ في الصعوبة، لكن لطالما كان سؤالًا غايةً في الأهمية أيضًا، وتنبع أهمية هذا السؤال من حقيقة أن الذرات تتفاعل بمعدل ذرةٍ واحدة إلى ذرة واحدة، فإذا أردت أن تُفسر أفعالها فأنت على مقربة من أن تحسب وزنها، لكنها غايةٌ في الصغر حتى إنك لن تستطيع. كل ما يُمكنك فعله هو أن تقيس مجموعة كبيرة من الذرات معًا مثل ملء ملعقة كبيرة أو ملء كوب، ثم احسب كم عدد الذرات الموجودة في ملء الملعقة أو ملء الكوب، لكن لكي يتسنَّى لك معرفة عدد الذرات التي في الملعقة أو في الكوب، يجب عليك أن تعرف كتلة إحدى الذرات. بدأ العلماء يعملون بالطريقة المطلوبة في هذا الأمر عندما أدركوا أن ثمة معادنَ مختلفة تُكوِّن أملاح الكبريتات وأن جميعها تتبلور بنفس الطريقة تقريبًا. وكيف يُمكن أن يُفيد هذا في موضوعنا؟ إن هذا الأمر يرتبط بالكثافة. والكثافة كما قد ذكرنا من قبل، هي مقدار كتلة المادة لكل وحدة من الحجم، وتتنوع الكثافة من مادة إلى أخرى؛ فعلى سبيل المثال، تختلف كثافة حقيبة مملوءة بالريش بشكلٍ ملحوظٍ عن كثافة الحقيبة ذاتها عندما تكون مملوءةً بالطوب. ومن إحدى ميزات الكثافة التي تجعلها مفيدة للغاية أنها لا تحتاج إلى كمية معينة كي يتسنَّى لك قياسها، فكثافة الطوب لا تتغير إذا نظرت إلى قالب طوب واحد أو إلى حائط طوب بأكمله، وكثافة ملء ملعقة من ملح الطعام هي نفس كثافة ملء كوب من ملح الطعام؛ لأن الكثافة لا تعتمد على حجم عينة المادة، ولقياس الكثافة لا تحتاج سوى قياس كتلة حجم معين. وبالطبع، ليس كل ما يلمع ذهبًا، وليس كل ما هو صلب بِلَّورًا. ويُشار عامة إلى المواد الصلبة التي ليست بِلورية إلى أنها غير متبلورة (أي لا شكل لها). وتتضمَّن هذه الموادُّ الصلبة المطاطَ والبلاستيك والشمع والزجاج، مع بعض الجدل حول التحديد الفعلي لسِمات هذه الفئة. ويُعتبَر المسمَّى «موادُّ صلبة غير متبلورة» محاولةً بشرية لتصنيف طبيعة المواد غير الطيِّعة، وتتميز المواد الصلبة غير المتبلورة عن المواد الصلبة البلورية بأن الأولى ليست لديها نقطةُ ذوبانٍ واضحةٌ مميزة، في حين تحظى الثانية بنقطة ذوبان محددةٍ تمامًا إذا كانت نقية، وعليه يُعتبَر حدوث عملية الذوبان عند النقطة المحددة الدقيقة مؤشرًا على نقاوة المادة. يتمدد الماء عندما يتجمَّد بسبب الفجوات، ويُسبب تمددُ الماء عند تجمده تحطيمَ الأرصفة في فصل الشتاء، وهو ما يُعَد جزءًا من خطة الطبيعة لتفتيت الصخور إلى تربة. ويكون الماء مخادعًا إلى درجة أنه يستطيع أن يستوفيَ احتياجات الرابطة الهيدروجينية بأشكال بلورية مختلفة عديدة، وأحد أشهر هذه الأشكال هو التركيب السداسي الذي يُعطي القشرة الثلجية تَماثُلَ الأضلاع الستة. وتتكون القشرة الثلجية عندما تضرب جزيئاتُ ماءٍ سطحَ البلورات الصغيرة، التي تنمو إلى تركيب سداسي الأذرع؛ حيث إن الجزيئات التي تضرب أطراف البلورة تُفضل أن تلتصق بها، فتبرز الحافة إلى الخارج وتجعل الجزيئات الطليقة تعلق بها بالطريقةِ نفسِها التي يعلق بها الركام المتطاير في غُصن ناتئٍ نحو نبع مياه. وتُعتبَر الأسطح كائناتٍ مختلفةً عن الأجسام التي تحوي هذه الأسطح، فعلى سبيل المثال، تتخذ قطرة الماء نفسها شكل كرة؛ وذلك لأن جزيئات الماء الموجودة بداخل قطرة الماء تحظى بجميع فرصها في تكوين رابطة هيدروجينية، وتكون في حالةِ امتلاء، في حين أن جزيئات الماء التي تُوجَد على السطح تملك بعض الأطراف الهيدروجينية غير الممتلئة؛ حيث ينقصها الرفيقُ الأوكسجيني من الجزيء المتاخِم، والعكس صحيح. ويُحدِث هذا الموقف توترًا يُسمَّى «التوتر السطحي»، ويكون ردُّ فعل النظام الطبيعي لتقليل هذا التوتر هو أن تتخذ القطرة نفسها شكل كرة، ويعمل شكل الكرة على تقليل مساحة السطح إلى أقصى درجة، وبذلك يُقلل عدد الجزيئات المعرضة للهواء، ومن ثَم للتوتر السطحي. لا تملك الموادُّ الصلبة القدرةَ على أن تلف نفسها في شكل كرة؛ ومِن ثَم لا يُعبَّر دائمًا عن الموقف المتفرد لأسطح المواد على نحوٍ دراماتيكي، لكن مع ذلك تختلف أسطح المواد الصلبة أيضًا عن جسم المادة، ولها تفاعلٌ خاص أيضًا. وأكثر الأمور الشائعة التي تُهِمنا فيما يتعلق بالأسطح التي نتعرض لها في حياتنا اليومية هو جعل الأشياء تلتصق بالأسطح عندما تريد ذلك، وجعل أشياء لا تلتصق بالسطح عندما لا تريد ذلك، وغالبًا تُستخدَم المواد اللاصقة أو الغِراء لجعل المواد تلتصق بالأسطح، ولولا هذه الموادُّ الرائعة لما حَظِينا ببعض الأشياء الضرورية بكل هذا التنوع، مثل الخشب الرقائقي (خشب مصنوع من طبقات رقيقة مُغرَّاة) أو لما استطعنا لصق الكتب والمذكرات، ولا كان لدينا الكيمياء القديمة قِدمَ الزمن. يُصنَع الغِراء في الأصل من بروتين الحيوانات، مما يعني أنهم كانوا فعلًا يُرسلون الأحصنة الكبيرة في السن إلى مصانع الغراء. وثمة ارتباط بين كلمة غراء وكلمة الجلوتين، وهي مادة لزجة تُستخرَج من القمح والدقيق يُصنَع منها عجينة لزجة كافية لتشكيل كرات، وعضلات الألوية وهي كرات عضلية تُشكِّل الأرداف التي نجلس عليها. وقد ترجع قدرة نوع معين من الغِراء على اللصق إلى الرابطة الكيميائية أو قوى الجذب البينجزيئية، أو كِلَيهما معًا. ويعمل بعض الغراء أفضل من الآخر بِناءً على أصل المادة — هل هي مادة حيوانية أو معدنية أو نباتية — حيث إنه يُستغَل نوع الرابطة أو الانجذاب، ويُرغَب أحيانًا في إلغاء تأثير الغراء أو إزالة الغراء، وفي هذه الحالة من الجيد أن نستخدم مادة تُقحِم نفسها بين الغراء والمادة المُلصقة بها لكسر روابط السطح، وغالبًا تُفيد الزيوت، مثل زيت الطعام، في مثل هذا الأمر، يُستخدَم الزيت لإزالة العلكة من معظم الأسطح؛ وذلك لأن الزيت يُمكنه أن يُكوِّن غشاءً على الأسطح، وفي الواقع يُغير الزيت خصائص روابط السطح، ويُصنَّف الزيت من ضمن مجموعة من المواد تُسمَّى «مخفضات التوتر السطحي»؛ وذلك بسبب تفاعلات السطح هذه التي يقوم بها الزيت. ومن أشهَر هذه المواد الصابون؛ فهو يحتوي على سلسلة طويلة من الكربون تنجذب إلى المواد العضوية مثل القاذورات والدهون والأطراف الأيونية التي تنجذب إلى الماء. فالصابون يُمكنه أن يتدخل في انجذاب السطح، كما يُفيد في إزالة الأشياء اللاصقة مثل الأشياء العالقة على خاتم الزواج أو السدادات اللاصقة في الزجاجات. تُعَد مواد التشحيم أيضًا المستخدَمة لتشحيم الماكينات من المواد الخافضة للتوتر السطحي؛ لأن موادَّ التشحيم تتدخل في الانجذاب الحادث بين الأجزاء المعدنية العارية. وتطرح الأسطح المسامية مشكلة مختلفة؛ لأن مساحة السطح الفعليةَ، بما فيها الجزء الداخلي من المسام، تكون ضِعفَ مساحة السطح الظاهرة عدة مرات. وعليه يُعتبَر السطح المساميُّ أصعبَ كثيرًا في تنظيفه، وقد يُقاوم المحاولات المضنية التي تبذلها المنظفات لتنظيفه، وهذا العناد الذي تتسم به الأسطح المسامية هو الذي يجعل المواد الطبيعية، مثل الخشب والعظم والأسنان، ميالة إلى أن تجذب البقع إليها، وتتضمَّن الطرق الحديثة لإزالة البقع من الأسنان استخدام المواد الخافضة للتوتر السطحي؛ كي تحتفظ بمادة مطهرة لطيفة لحماية الأسنان. ولأن كلًّا من العظام والأسنان والعاج تتشابهُ في تركيبها، فتُستخدَم نفس المنتجات المبيضة للأسنان في تنظيف مفاتيح البيانو القديمة المصنوعة من العاج الطبيعي المبقعة (وغير القابلة للاستبدال). وتُعلل الخصائص المميزة للسطح أيضًا أداءَ العوامل الحفازة الصلبة، فغالبًا يعتمد أداء العامل الحفاز على قدرته في أن يُوجِّه الجزيئات في الاتجاه الذي سيُسهل التفاعل، أما العوامل الفعالة في الحالة الصلبة أو السائلة فتكون الإصابة في الاتجاه الصحيح هي مسألة حظ، فإذا جرى توجيهُ الجزيء، الذي نهدف إلى توجيهه، في الاتجاه الذي نصبو إليه على السطح، فإن فرص حدوث مواجهة فعالة تتزايد. والركيزة في حالتها الصلبة هي نوعٌ من العوامل الحفازة التي تسمح للكثير من التفاعلات أو طبقات الناتج بالنمو على سطحها، وقد ذكَرنا في مناقشتنا للحالة الغازية أنه يُمكن استخدام الركيزة في إنماء المواد العضوية الطويلة السلسلة للشمع والزيت. تستخدم الركيزة أيضًا في إنماء المنتجات البلورية مثل الماس. استُخدِمَت العديد من المواد على مدى عصور من المحار إلى تلك الأنواع التي استُخدِمت كوسيلة للتبادل، إلا أن أكثر المواد الشائعة هي تلك المواد القابلة للتحمل التي يتوقف غلوُّ قيمتها على مدى نُدرتها، وكذلك مدى الانتفاع بها، ويُعتبَر الذهب خير مثال على ذلك، وكذلك الأحجار الكريمة، ولا سيما الماس، وقد أسهمت قدرة الذهب على التحمل ومقاومته للصدأ في نفعه في الاستخدامات مثل استخدامه في عمل الأسنان وفي الوصلات الكهربية، وبالمثل، أسهمت قوة تحمل الماس في الانتفاع بهذا المعدن الخاص في قطع الأدوات، مثل مِثْقاب الحفَّار والسحَّاجات. وأفضى الطلب المتزايد على الذهب في أوروبا في العصور الوسطى، إلى محاولات فُضولية ومبدعة عديدة لتصنيعه من معادن أكثر توفُّرًا مثل الرَّصاص والنُّحاس، وكما ذكرنا من قبل فإن هذه الصناعة التي تُسمَّى الخيمياء لم تنجح، إلا أنها عزَّزَت الكثير من المعرفة الجديدة الكافية عن التفاعلات الكيميائية حتى يتسنَّى لها الصمود كمرحلة هامة في تاريخ الكيمياء، وثمة طريقة وحيدة لتخليق الذهب صناعيًّا عن طريق تفاعل نووي، إلا أن تكلفة هذه العملية تُعتبَر أضعافَ أضعافِ ثمن الذهب الذي تُنتجه، إلا أن ثمة طرقًا عديدة لإنتاج الماس المُخلَّق المُجدي اقتصاديًّا منذ منتصف القرن العشرين. تصنيع الماس — بدلًا من استخراجه من المناجم — هل سيُبهت بريقه في عيون محبيه؟ على الأرجح، سيُقلل هذا من بريقه بعض الشيء! لكننا نَأمُل يومًا ما أنه يُمكن أن تُصنَع الموادُّ أشباه الموصلات ذات الخصائص الهامة على نفس الوتيرة من الماس المُخلَّق الأقلِّ ثمنًا والأكثرِ نقاوة، وإذا وُجدت فائدة للماس في أدوات أشباه الموصلات، فإن هذا سيُعطي معنًى جديدًا تمامًا لرقائق الماس. ويُعزى الاهتمام بالماس، سواءٌ كان طبيعيًّا أو صناعيًّا، إلى خصائصه المتفردة، التي مِن بينها متانتُه، لكن هل الماس غير قابل للتلف؟ ليس تمامًا، فكما ذكرنا في مناقشتنا حول برهان لافوازيه لبقاء الكتلة، أن الماس يحترق في وجود الأوكسجين عند تسخينه بما يكفي، وكما سنرى لاحقًا، أنه في العلوم كما في المواقف الاجتماعية ثمة أشياءُ غريبة تحدث عندما تتفاقم الأمور.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.23/
تجربة ١٣: الكمادات الساخنة والباردة
حقول الطبيعة تأخذ وقتًا طويلًا في إعدادها وحرثها — وهي تُشير إلى الكيمياء الدورية الساكنة؛ فالأطوار الزمنية الثابتة والبطيئة تتهادى خطواتها — والأسطح الخالية تنضج والمعادن النفيسة تتكون تحتها. يخوض حامض الستريك العديد من التفاعلات الكيميائية والكيميائية الحيوية، كما يتمتع بخاصية ذات نفع خاص لنا، فعندما يذوب حامض الستريك في الماء فإن المحلول يبرد. يتطلب حامض الستريك طاقة حرارية كي يذوب، وهو يسحب هذه الطاقة من البيئة المحيطة به، ويُطلَق على العملية التي تتطلب طاقة حرارية لحدوثها «عملية ماصة للحرارة». ولكي نُبيِّن هذا الأثر، ارتدِ نظارة الأمان الواقية ثم خذ علبة بلاستيكية لحفظ الشطائر، وضَعْ فيها نحو ملء ملعقتَين صغيرتَين (١٠ مليلترات) من حامض الستريك المقترح شراؤه في «قائمة المشتريات والمحاليل»، ثم ضع ملعقة كبيرة (١٥ مليلترًا) من الماء في العلبة وأحكِم غلقها. عند لمس العلبة ستشعر ببرودتها بسبب ذوبان حامض الستريك، وهذا الأثر يُمكن ملاحظته عند بداية الذوبان، وكي يتسنى لك إجراء مقارنة جيدة، خذ علبة أخرى ولا تضع بها إلا ملء ملعقة كبيرة من الماء، فإنك ستجد أن العلبة التي تحوي حامض الستريك أكثر برودة بوضوح من العلبة التي بها ماء فقط. وإذا وجدت صعوبة في الحصول على حامض الستريك، حاول أن تستخدم بيكربونات الصودا، لن تكون البرودة عالية جدًّا، لكن يُمكن ملاحظتها. يُستخدَم حامض الستريك في بعض مخاليط المشروبات الذاتية التبريد المستحدثة. ثمة عمليات عديدة أيضًا تنطلق فيها الطاقة الحرارية، تتضمن إحدى هذه التفاعلات ذوبان اللي في الماء. عليك توخي الحذر نظرًا لأن هذه العمليات تُطلق قدرًا كبيرًا من الحرارة؛ لذا ينبغي أن تستخدم كمًّا كبيرًا من الماء مع القليل فقط من بلورات اللي. تأكد أيضًا من ارتداء نظارة الأمان الواقية. املأ كوبًا كبيرًا سعته سعة كوبَين (٤٨٠ مليلترًا) بكوب واحد (٢٤٠ مليلترًا) ماء. لا تستخدم علبة الشطائر في هذه العملية حيث يُصاحبها انطلاق حرارة تتسبب، كما ذكرنا من قبل في مناقشتنا عن الحالة الغازية، في احتجاز الهواء في العلبة ما يُؤدِّي إلى تمدُّده. إذا حدث التفاعل في علبة مغلقة، فإن تراكمَ ضغط الهواء يسبب حدوث خرق في العلبة. ضع برفق نحو نصف ملعقة بلاستيكية من بلورات اللي في كوب الماء، ثم قلِّب برفق، ستجد أن كمية الطاقة الحرارية المنتقلة إلى الكوب بسبب هذه العملية تُسبب دفءَ الكوب، وهو ما نشعر به عند لمس الكوب من الخارج. مرة أخرى، يكون التأثير في أقوى حالاته في بداية العملية، يُطلَق على العملية التي تُولد طاقة حرارية «عملية طاردة للحرارة». وتُباع الكمادات الساخنة والباردة في العديد من متاجر بيع اللوازم الرياضية والصيدليات لعلاج ألم العضلات والإصابات أثناء اللعب، ومع أنها تُصَنَّع عادة باستخدام أملاح مختلفة، إلا أن المبادئ الرئيسية التي تقوم عليها هي نفس تلك المستخدمة في التجربة السابقة.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.13/
عندما تُسخَّن المواد
أنت تعي جيدًا أن المركبات الكيميائية موجودة … تلك المركبات التي بمساعدتها يُمكنك الكتابة على … ورق … ومن ثَم لا تُصبح الأحرف مرئية إلا عندما تخضع لتأثير النار. فالعملة المغموسة في الماء الملكي والمخففة بأربعة أضعاف وزنها ماء، تُستخدَم أحيانًا، وتُنتج لونًا أخضر خفيفًا. والكتل المعدنية المُشكلة تحت الخبَث عند صهر الكوبالت، التي تذوب في كحول النترات تُعطي اللون الأحمر. وتختفي هذه الألوان على فترات زمنية متباعدة أو متقاربة بعدما تبرد المادة المكتوب عليها، إلا أنها تظهر مرة أخرى عند إعادة التسخين … أنا أفحص الآن الجمجمة بعناية. إن حوافها الخارجية — حواف الرسم الأقرب من حواف الورق — مميزة أكثر من غيرها. لقد كان واضحًا أن فعل السيل الحراري ناقص أو غير متكافئ. لقد كان جانب التدريس العملي الذي اطلع عليه فيما بعد بفضول كبير للغاية، دورةً دراسية في الكيمياء التي تعلَّم منها عددًا من النظريات التي شوشت ذهنه مدى الحياة. لقد استعنَّا باقتباس من كتاب إدجار آلان بو؛ لأنه يُشير إلى «السيل الحراري» وهو الاسم الذي كان يُطلَق على الحرارة عندما كان لا يزال يُعتقَد بأن الحرارة مادة، ويُلمِّح الاستشهاد أيضًا إلى «تأثير النار». وقد ألحقنا الاقتباس الثاني؛ لأن «الديناميكا الحرارية» التي تختص بفَهم واستخدام تأثير النيران، يشوبها سمعة سيئة بأنها تُشوش الأذهان، لكن فهمها حقًّا يستحق العناء؛ فالديناميكا الحرارية تتضمن نظريةً غاية في القوة تُمكن الكيميائيين من أن يتنبَّئوا هل سيحدث التفاعل الكيميائي، وإلى أي مدًى سيحدث، وكمية الطاقة المنطلقة أو المستهلكة أثناء حدوث التفاعل، كل هذا قبل خلط مواد التفاعل معًا؛ ذلك لأن بعض التفاعلات تُطلِق طاقة كافية لصهر المعادن؛ لذا من الجيد أن نعرف كمَّ الطاقة لنتوقع ذلك قبل بدء التجريب العملي. ثمة تفاعلات أخرى تبدو جيدة من الناحية النظرية، لكنها لا تتفاعل سوى بقدر محدود في المختبر. وجيدٌ أن نعرف هذه المعلومة أيضًا قبل الخوض في بحث عميق في مشروع ما. وبسبب وجود قوة التنبُّؤ التي تمنحها الديناميكا الحرارية، تحظى نظرية الديناميكا الحرارية بمكانة بارزة في دراسة الكيمياء، ويُمكن تلخيصُ آلية الديناميكا الحرارية في ثلاثة مفاهيم: الطاقة، والأنتروبيا، والطاقة الحرة. وسوف نبدأ بالطاقة ونُكمل على ذلك. يقوم فهمنا لطاقة الجزيئات على النموذج الجزيئي للمادة الذي يَفترض أن جميع المواد في حالة حركة مستمرة. يبدو للوهلة الأولى أنه لا يُمكن تصديقُ هذه الفكرة؛ ذلك لأن ثمة ملاحظاتٍ عديدة في حياتنا اليومية تُخبرنا بأن بعض المواد هي موادُّ صلبة وثابتة وراسخة، فمن الصعب أن نُقرَّ أن رصيف الشارع المصنوع من الأسمنت، يكون على المستوى الجزيئي في حالة التواء مثل تلك التي تُصيب مجموعة من الديدان المتهيجة داخل علبة، لكنها تكون كذلك الفعل. يصلح نموذج الجزيئات التي تكون في حالة حركة جيدة لشرح لماذا تتصرف الغازات والسوائل بطريقتها هذه، ويسمح أيضًا للأسمنت بأن يسلك الطريقة التي يسلكها. فعليًّا، لا يصلح النموذج إلا عندما نُقر بثلاثة أنماط مختلفة للحركة على الأقل، هذه الأنماط: هي الحركة الدورانية، والاهتزاز، والحركة الانتقالية. والحركة الانتقالية هي حركة خط مستقيم مثل السير في خط مستقيم بعرض الغرفة، والحركة الاهتزازية هي المقابل الجزيئي للتلويح بذراعَيك لأعلى ولأسفل. والحركة الدورانية هي المقابل الجزيئي للدوران السريع في المكان حول محور، ربما مثلما يفعل المتزلج على الجليد. ولا تُتاح كلٌّ من الحركة الاهتزازية والحركة الدورانية إلا للجزيئات، فهي غير متاحة للذرات؛ ذلك لأن الحركة الدورانية والاهتزازية تتعلق بمركزٍ تُحدده العناصر المترابطة. وترجع أهمية أنماط الحركة هذه إلى أن الطاقة المُضافة إلى مجموعة من الجزيئات تُوزِّع نفسها بين الأنماط المتعددة للحركة، ويُمكِن استخدام قنديل البحر كتشبيه لذلك. عند وغز قنديل البحر، فإن قنديل البحر لن يرتجف محدثًا حركة اهتزازية عنيفة فقط، بل إنه يدور في مكانه كأنه يدور حول محور أيضًا. وفي عينة معينة، يُسمَّى مجموع متوسط الطاقة المعبَّر عنها في كل نمط «الطاقة الداخلية». كل جزء ضئيل من المادة له مقدار من الطاقة الداخلية، حتى إذا كان غاية في البرودة. تذكر أن مقياس كلفن للحرارة يُحدد نقطة طاقة الصفر المطلَق، التي تُسمى «الصفر المطلق»، لكن هذه النقطة ما هي إلا مجرد حد نظري يستحيل الوصولُ إليه عمليًّا. وتُعَد درجة الحرارة مقياسَ الطاقة الداخلية للشيء، إلا أن استخدام درجة الحرارة كمقياس للطاقة الداخلية يفترض أن الطاقة موزَّعة على نحو متساوٍ بين الأنماط المتعددة للحركة، ويُعَد هذا الافتراض غايةً في الضرورة؛ ذلك لأن درجة الحرارة هي بالفعل المقياس الوحيد لأحد أنماط الحركة، وهو نمط الحركة الانتقالية. يسجل الترمومتر الطاقة المنتقلة إليه من الجزيئات التي تضرب سطحه، وثمَّة مواقف لا تُوزَّع فيها الطاقة المضافة بالتساوي على كل أنماط الحركة. وفي هذه الحالات من الممكن أن تُضاف الطاقة دون إحداث تغيير في درجة الحرارة، ويُعتبَر غليان الماء مثالًا حيًّا على ذلك، حيث تُضاف الطاقة لكن الطاقة المضافة تتجه إلى تحرير الجزيئات من قوى التجاذب البينجزيئية؛ ومن ثَم يُمكنها أن تنتقل إلى الحالة الغازية، فنجد أن الترمومتر الذي يُوضَع في وعاء به ماء في درجة حرارة الغرفة يُسجل تغييرًا في درجة الحرارة؛ لأن الطاقة تُضاف من الموقد وحتى الوصول إلى نقطة الغليان، ثم تستمر الطاقة المضافة في غلي الماء، لكن تظل درجة الحرارة ثابتة عند ٢١٢ درجة فهرنهايت (١٠٠ درجة سيليزية). وعندما تُوضَع مادتان في وضع اتصال حراري، تتدفق الحرارة من المادة ذات الطاقة الأعلى إلى المادة ذات الطاقة الأقل، حتى يصل الاثنان إلى نفس المستوى من الطاقة. وتدفُّق الطاقة هو ما يُطلَق عليه من الناحية الفنية مصطلح «حرارة»، مع أنه في أي حديث عرَضي يُمكِن أن يُستخدَم المصطلح على نحو أوسع، فعلى سبيل المثال، عندما نشعر بالبرد، نطلب من أحدهم أن يرفع درجة الحرارة، في حين أننا ينبغي أن نطلب منه أن يرفع درجة الطاقة الحرارية؛ فالحرارة هي الطاقة التي يجري تبادلها، والتي تتدفق من إحدى المواد إلى الأخرى أو التي تنتقل إلى المادة عبر الأشعة مثل أشعة الموجات الميكروية القصيرة ومثل أشعة الشمس؛ ولهذا نحن لا نُخطئ القول عندما نقول إننا نشعر بالحرارة الآتية من الشمس أو نشعر بالحرارة عند لمس زجاجةٍ بها ماء ساخن؛ لأنها تُعتبَر طاقة منتقلة إلى بشرتنا. يُعتبَر العمل أيضًا نوعًا من انتقال الطاقة، فعندما تعمل في نظام فإنك تُعطي هذا النظام الطاقة على حساب طاقتك أنت الخاصة، ويُمكِن أن يأخذ العمل عدة أشكال؛ يُمكنك الضغط على النظام (فيُمكن أن يُسبِّب نفخ إطار عجلة في ارتفاع درجة حرارتها)، ويُمكنك أن تبثَّ تيارًا كهربائيًّا عبر النظام (ينبغي تبريد أجهزة الحاسب الآلي حتى لا ترتفع درجات حرارتها)، ويُمكنك أيضًا أن تستخدم الكيمياء للقيام بالأعمال، بعض الأمثلة على استخدام الكيمياء في القيام بالأعمال هي حرق البنزين لتشغيل السيارة أو هضم المواد الكيميائية التي نُسمِّيها الطعام؛ حتى يتسنى لأجسامنا القيام بالأعمال كافَّة. نحن نستخدم الكيمياء للقيام ببعض الأعمال أو نقل الطاقة، يا ترى، من أين تأتي الطاقة اللازمة للقيام بمثل هذه الأعمال؟ تأتي هذه الطاقة من كسر روابط كيميائية وبنائها. يبدأ تَكوُّن الرابطة عندما تتحد ذرتان معًا، وإذا كانت الظروف مواتيةً لحدوث الترابط — الظروف التي تتضمَّن رغبة كل ذرة في المزيد من الإلكترونات أو القدرة على منح إلكترونات — تُعيد الإلكترونات ترتيب نفسها في مدارات جزيئية بدلًا من مدارات ذرية منفصلة، وعندما يحدث هذا تنخفض طاقة النظام. وتُعتبَر الأقطاب المغناطيسية خيرَ تشبيه لذلك، فإذا اقترب قطبان مغناطيسيان مختلفان بعضهما من بعض، فإن الأمر يتطلب قدرًا من الطاقة حتى يحول دون ارتباطهما معًا، في حين أنه يقلُّ القدر المطلوب من الطاقة حتى نترك لهما العِنان في الانجذاب بعضهما إلى بعض، هكذا يكون الأمر مع الذرات التي ترغب في الارتباط. تكون الطاقة أقلَّ عند ارتباطها بعضها ببعض. يقلل الارتباط طاقة الذرتَين المرتبطتَين معًا، لكنه لا يمحوها تمامًا، ربما تنجذب كل نواةٍ إلى إلكترونات الذرة، في حين تتنافر النواتان معًا؛ لأن كل نواة تكون مشحونة بشحنة موجبة؛ ومن ثم يضعف تشبيه الأقطاب المختلفة في هذه النقطة، فقد تستقر النواتان في موقف ترابط، لكنهما يكونان في حالة توتر مستمر فيما بينهما. وعندما يظهر موقف أكثر ملاءمة، تنكسر الرابطة وتتكوَّن رابطة جديدة، وفي بعض الأحيان تنطلق الطاقة الصافية، وفي أحيانٍ أخرى تنقص الطاقة الصافية، ويُطلَق على التفاعل الذي تنطلق فيه الطاقة «تفاعل طارد للحرارة»، ويُطلَق على التفاعل الذي يحتاج إلى وجود حرارة «تفاعل ماص للحرارة». دعونا نُلخِّص الأمر في بضع كلمات، نحن نعني في جوهر حديثنا أن الطاقة الداخلية لمجموعة من الجزيئات أو الذرات هي مجموع (١) الطاقة الدورانية، و(٢) الانتقالية، و(٣) الاهتزازية، ويُمكن أن يتغيَّر مقدار الطاقة الداخلية التي يحويها نظام بالحرارة. يُمكن أن تُضاف الحرارة إلى نظام أو تُطرَح منه بطرق عديدة، لكن الطريقة التي تُهمنا هنا في المقام الأول هي طريقة التفاعلات الكيميائية. عندما يُطلِق تفاعل كيميائي حرارة، يُسمَّى «تفاعل طارد للحرارة»، وعندما يمتص تفاعل كيميائي الحرارة يُسمَّى «تفاعل ماص للحرارة». والآن نُضيف معلومةً جديدة وهي أن الجزيئات والذراتِ تتسم بالكسل، فتميل كلٌّ من الجزيئات والذرات إلى تقليل طاقتها متى سنحَت لها الفرصة، فكرة البولنج تنحدر إلى أسفل المنحدر، والقارب يعوم في اتجاه مجرى النهر، والجزيئات تستقر في أدنى ترتيب للطاقة يُمكنها أن تكون عليه. لكن لنا هنا وقفة؛ فالجزيئات تميل إلى أن تكون في أدنى توزيع للطاقة ممكن لها، لكن قد لا يكون هذا أدنى توزيع ممكن للطاقة. لقد شرحنا في التجربة التي في مطلع هذا الفصل نوعَين مختلفَين من التفاعلات، أحدهما يطرد الطاقة والآخر يمتصها، وعندما يصل نظام كيميائي إلى أدنى مستويات الطاقة، فهو يطرد حرارة، ولا يحتاج النظام إلى طاقة إلا عندما يصل إلى توزيع أعلى للطاقة ولا يمتص النظام الحرارة من البيئة المحيطة به إلا عندما يكون هناك احتياج للطاقة، لكن التفاعل الذي امتص الحرارة حدث بتلقائية، من ذاته دون تدخل أي عوامل حفازة غير مواد التفاعل. والآن لدينا سؤال نود أن نطرحه: لماذا حدث ما سبق؟ وهل تخضع الأنظمة الكيميائية إلى قوانين مختلفة غير تلك التي تخضع لها كرة البولنج والقارب؟ هل المواد الكيميائية حرة بالدرجة التي تُمكِّنها من أن تصعد الجبال وأن تسبح ضد التيار؟ هذا السؤال ليس بالسؤال اليسير، ولقد دار بالفعل قدر لا بأس به من المناقشات عن طبيعة الحرارة طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحتى مطلق القرن العشرين، وترتبط الإجابة بشيء يُدعى «الإنتروبيا». والإنتروبيا هي ميل الأنظمة إلى الوصول إلى الحالة القصوى من الفوضوية. المشروبات يختلط بعضها ببعض، والفوضى تعم المكاتب، وأوراق اللعب تُخلط بعشوائية بعضها في بعض، والإنتروبيا هي الميل الطبيعي للفوضوية. وتُعرف الإنتروبيا أيضًا بأنها الضريبة التي تدفعها البيئة، وأيضًا بأنها حكم الإعدام الصادر ضد الكون. في حين أن الإنتروبيا ما هي إلا تفسير فلسفي أو نظرة متشائمة، وهي دافع حقيقي يقود نحو العمليات الفيزيائية، ويكون له أهمية كبرى في تحديد مصير الكون. وبتساوي جميع الاعتبارات الأخرى، يتحرك النظام نحو الحالة القصوى من الفوضوية، ولا تتسم الجزيئات والذرات بالكسل فحسب، بل بالفوضوية أيضًا. لماذا تسعى النظم نحو الحالة القصوى من الفوضوية؟ والإجابة، مع أنها استغرقت وقتًا طويلًا وكفاحًا مريرًا لاكتشافها، هي أن الحالة الفوضوية هي الشيء المحتمل في كل مكان. وعادة يُمكِن تفسير الأمر بتشبيهه بمجموعة أوراق اللعب، ثمة طريقة واحدة لتوزيع أوراق اللعب بطريقة صحيحة ومنظمة في لعبة البريدج (لعبة من ألعاب الورق): وهي توزيع ثلاثَ عشْرة ورقة من النقش نفسِه، لكن ثمَّة ٦٤٠ مليار طريقة أخرى غير منظمة لتوزيع الورق. والمثير للدهشة أن احتمالية وجود الفوضوية أكبر بكثير من احتمالية النظام، وبطريقة ما يُمكِن النظر إلى هذه الحقيقة من منظور إيجابي، وهي أن كل شيء محتمل، لكن ليس محتملًا بنسبة كبيرة. وعلى مستوى الجزيئات نجد أنه من الممكن أن تتحرك جميع جزيئات كرسي في الاتجاه نفسِه وفي الوقت نفسِه، وقد يتحدى الكرسي الجاذبية ويقفز من فوق الأرض، لكن هذا مستبعَد تمامًا. من المحتمل تمامًا أن تظل حركة الجزيئات فوضوية، وكل حركة جزيء إلى أعلى تقابلها حركة جزيء إلى أسفل؛ لذا يظل الكرسي في مكانه. ويُعتبَر ميل الأنظمة إلى أن تُصبِح فوضوية وتظل فوضوية، قويًّا للغاية بدرجة تسمح له أن يُفسر — بالإضافة إلى اعتبارات الطاقة الأخرى — نتائجَ التفاعلات الكيميائية. ويكون تأثيرُ الإنتروبيا في العمليات الفيزيائية وفي العمليات الكيميائية أيضًا هو تحفيز التفاعلات، وحتى في التفاعلات التي قد تتطلَّب الطاقة ضمن مدخلاتها. ويُعتبَر البخار السائل مثل بخار الماء والكحول من الأمثلة التقليدية على ذلك، ويُعتبَر الملمس البارد للجلد عندما يتبخَّر الماء أو الكحول دليلًا على أن هذه العملية تحتاج إلى طاقة. فالماء والكحول يمتصان بعض الطاقة من الجسم، إلا أن العملية تحدث بشكل أسهل كثيرًا، باستخدام مصطلح أقرته العلوم وهو يتناسب مع معنًى خاص ومحدود، وهو أن التفاعل يحدث تلقائيًّا، وتكتسب التلقائية معنًى أكثر دقة في الديناميكا الحرارية؛ لأنه بوجود آلية الميكانيكا الحرارية يُمكِن حصر وتحديد ميل التفاعل للحدوث تلقائيًّا بالأرقام، ويُطلَق على الرقم الذي حُدِّد «الطاقة الحرة». ما هي الطاقة الحرة؟ الطاقة الحرة هي الطاقة الناجمة عن التفاوت بين الطاقة المكتسبة أو المفقودة في تفاعل كيميائي وبين الكمية المستعارة أو المستهلَكة بسبب الإنتروبيا. تُدوِّن الطبيعة، تمامًا مثل دفتر الشيكات أو بيان الميزانية، كمَّ الطاقة المفقودة أو المكتسبة وتخصم الضرائب المُستحَقة للإنتروبيا، وتُمثِّل الطاقة المتبقية رأس المال المتاح، أو كما نقول نحن في الديناميكا الحرارية الطاقة الحرة، وهي الطاقة الطليقة اللازمة لتنفيذ العمل. وقد ذكرنا أن إعادة تنظيم تلك للطاقة تحدث عند تكوُّن الروابط الكيميائية أو كسرها، لكن الأمر نفسَه يدخل في اللعبة عند حدوث انجذابات بينجزيئية أو كسرها. ويُعتبَر التبخير، وهو تحول السائل إلى الحالة الغازية، مثالًا على عملية تتطلَّب طاقة، لكنها لا تزال تحدث بطريقة تلقائية بسبب اكتساب الكثير جدًّا من الإنتروبيا. هل يُؤثِّر تمدُّد الغاز بالفعل؟ يُؤثر تمدد الغاز بالفعل في أسطوانة الاحتراق الداخلي للمحرك. يُمكن رؤية السائل على أنه مجموعة أسماك أو سِرْب طيور؛ فالكلُّ يتحرك، لكن في وحدة وانسجام، فجميعُها تنطلق في طريق واحد أولًا، ثم تنعطف في طريق آخرَ معًا، ويكون كلٌّ منها في موقع في المجموعة، وهذا الموقع محدَّد له من قبل، ولا يختلف كثيرًا بتحرُّك المجموعة بأكملها معًا، إلا أن الغاز يُشبه سربَ بعوضٍ يطير في الجوار بشكل فردي وفي اتجاهات عشوائية، فتطير المجموعة حيث تحملها الرياح دون أن تستهدف اتجاهًا بعينه. يسهل علينا جدًّا أن نتنبَّأ بحركة سمكة واحدة من أحد أسراب السمك على أن نعرف اتجاه بعوضة في سربِ بعوض، كذلك يكون السائل أكثر تنظيمًا من الغاز. يتبخر الكحول من الجلد مسببًا تعطيلًا لقوى الجذب البينجزيئية، مما يتطلَّب قدرًا من الطاقة؛ لأن الكحول قادرٌ على اكتساب إنتروبيا بالتحوُّل إلى غاز. ويُمكن أن تكون مثلُ هذه العملية التي تمتص الحرارة تلقائية إذا أحدثت قدرًا لا بأس به من الفوضى في نفس الوقت، ومن ناحية أخرى، إذا حدث استهلاك طاقة كافية، فإن التفاعلات التي تخلق التنظيم يُمكن أن تُدفَع للأمام، فالكعكة التي تكون صلبة ومنتظمة الشكل تُعَد من مخيض اللبن السائل غير منتظم الشكل بالإضافة إلى الحرارة. يحدث التبريد في الثلاجة عندما يمتص المبرد المضغوط الحرارة ويتمدَّد؛ مما يعوق قوى الجذب البينجزيئية. جميعنا يألف صوت المبرد المُنساب عبر شبكة الأنابيب المصطفة خلف الثلاجة، وكذا صوت مِضخَّة الضغط الدائرة، لكن كيف يتسنى لهم أن يمنعوا فعل المبردات في المكان المخصص لإشعال السجائر بالسيارة؟ هل من خلال سلاسل الأنابيب الصغيرة جدًّا ومضخات الضغط المصغرة؟ ليس تمامًا، لكن بعض المبادئ الأساسية تظل كما هي. قبل أن نتعرض لموضوع التبريد على الطريق؛ دعونا نتطرق إلى المبادئ التي يقوم عليها التبريد المنزلي المألوف لنا. عندما يُسمَح للسائل أن يتبخر على الجلد، يُصبح الجلد أبرد. جرب هذا باستخدام الأيزوبروبيل. والتعرق هو المحاولة التي يقوم بها الجسم لكي يُبرد نفسه من خلال إنتاج سائل يتكثف على الجلد ويُلطفه. يمتص العرقُ الحرارة من الجسم ويستخدمها في كسر قوى الجذب البينجزيئية التي تحمل المواد في الحالة السائلة. ووضع وعاء به ماء يغلي على موقدك، يخوض في التأثيرات نفسِها التي يمر بها المبرد الذي في ثلاجتك؛ إذ تظل درجة حرارة الماء المغلي ثابتة عند درجة ٢١٢ فهرنهايت (١٠٠ درجة سيليزية) (على افتراض أنك في مستوى البحر)؛ لأن الحرارة المُضافة من الموقد تكسر قوى الجذب البينجزيئية لجزيئات الماء، ولا تزيد الطاقة الانتقالية. في واقع الأمر، يتسبب وعاء الماء في تبريد الموقد نفسه عن طريق تبديد الحرارة، ويُمثل المضيُّ قدمًا في هذه العملية حاجةَ السائل المنظم إلى الفوضى بتحوله إلى بخار. وفي الواقع، يَستخدم سائل النيتروجين المبدأ نفسَه لإزالة الثآليل الصغيرة. وكما ذكرنا من قبل في مناقشتنا حول القوى البينجزيئية، يحدث الانجذاب بين الأقطاب الثنائية الاستقطاب المُستحثة، وقوى التشتت بسبب توزيعات الإلكترونات المؤقتة غير المتساوية في السحب الإلكترونية التي تنتج مناطق موجبة وسالبة سريعة الانقضاء. يتكون النيتروجين من نواتَي نيتروجين متحدتَين معًا — ولا تملك الإلكترونات مبررًا لتفضيلها نواة نيتروجين واحدة في الجزيء على الأخرى — ومن ثم لا تُعتبَر القطبية الثنائية — وهي الانفصال الدائم للشحنة الموجبة والسالبة — من سمات جزيئات النيتروجين. وعند تبريد النيتروجين وضغطه يتحول إلى الحالة السائلة بسبب جذب قوى التشتت وحدها، لكن لهؤلاء الذين شعروا ببرودة سائل النيتروجين، لا يُمكن أن يترك الألم أيَّ شك فيما يخص تأثير هذه القوى؛ فالطاقة التي تُمتَص من الجلد عندما يتبخر سائل النيتروجين تُسبب صقيعًا شديدًا يُصيب الجلد بما يكفي لقتل هذا الجزء من الجلد، وإذا كان هذا الجزء من الجلد هو الذي يحوي الثألول الصغير، فإن الثألول يتلاشى. والسائل الذي يتدفق عبر الملفات التي تُوجَد خلف الثلاجة يُزيل الحرارة من الداخل على المنوال نفسِه. في الواقع، يمتص المبرد المُستخدَم في الثلاجة قدرًا كبيرًا جدًّا من الحرارة حتى إنه يستطيع أن يُجَمِّد الجلد، ويُضغَط الغاز عن طريق آلة، ثم يُسمَح له بالتمدد عبر الملفات، تُدار عملية الضغط بمحرك كهربائي، وتكون عملية التمدد مدفوعة بالإنتروبيا؛ فالحالة الغازية تكون أكثر فوضوية من الحالة السائلة. ومع أن عملية التبخر تكون مدفوعة بالإنتروبيا، فإنها لا تزال في حاجة إلى طاقة كي تحدث؛ ومِن ثَم فهي تمتص طاقتها من الأشياء المحيطة بها؛ وبالتالي تبرد الأشياء المحيطة بها في هذه العملية، تُجمَع المادة المبردة ويُعاد ضغطها إلى سائل، ويَطرد السائل المعاد ضغطه الحرارةَ التي سحبها من الثلاجة، والتي تكون سبب الحرارة التي نشعر بها خلف الثلاجة، بعد حدوث عملية الضغط، تُعاد الكَرَّة من جديد. لكن لا يُوجَد ضجيج ناتج عن مكبس التبريد الموجود في السيارة، إذن لماذا؟ يُعزى ذلك إلى شيء يُسمَّى «تأثير بلتير للكهرباء الحرارية»، الذي يُمكِن شرحه أيضًا في ضوء الديناميكا الحرارية كالآتي: تسمح بعض أشباه الموصلات بمرور الإلكترونات بشكل أسهل من غيرها، وعليه عندما ترتبط أي مادتَين مختلفتَين من أشباه الموصلات في دائرة كهربية، فإن الإلكترونات تمر بحالة من تغيير الطاقة، وهي تعبر من أحد أشباه الموصلات إلى الآخر. عندما تقفز الإلكترونات من إحدى موادِّ أشباه الموصلات إلى مادة جديدة من أشباه الموصلات — ثم تعود مرة أخرى إلى المادة الأولى — فإن إحدى القفزات الإلكترونية هذه تكون مع التيار والأخرى تكون ضد التيار. تحتاج إحدى القفزات إلى طاقة، في حين تُطلق أخرى طاقة. من أين تأتي الإلكترونات بهذه الطاقة؟ ولماذا لا تُبتلَع في الطريق عبر الوصلة حيث تنطلق الطاقة؟ هذا هو ما يحدث في المقام الأول: فالطاقة تتدفق، وتسخن إحدى الوصلات وتبرد الأخرى، إذا كانت الوصلة الساخنة خارج الصندوق المعزول والباردة داخله، فهنيئًا مريئًا، أنت تملك ثلاجة. وتتعدد استخدامات الديناميكا الحرارية في الكيمياء، كما تتعدد الثلاجات، لكنها مفيدة على نحو فريد في فهم توازن الحالة، بالإضافة إلى مفهوم التوازن الكيميائي الهام؛ لأن التوازن الكيميائي يتضمَّن توازن الحالة، وسنُلقي نظرة على توازن الحالة أولًا، والحالة قبل التوازن.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.24/
تجربة ١٤: الثلج المعزول
ما اعتبره الشباب بلورات، أثبتت الأيام أنه قطرات ندًى. لقد ناقشنا للتو الحالة الصلبة للمادة والحالة الغازية والسائلة أيضًا، وصادفنا كيمياء شيقة في كلٍّ منها، لكن هذا ليس إلا قمة الجبل الثلجي. وسيكون موضوع مناقشتنا التالي هو التغيرَ من حالة إلى أخرى. مع أن طبيعة التغيرات التي تطرأ على الحالة التي اختبرناها من طريق المواد النقية — مثل الذوبان والتجمد والغليان — لها بريقها الخاص، فإن الأمر يُصبح أكثرَ إثارةً عند إضافة القليل من الكيمياء إلى الخلطة. ولتوضيح التغيرات التي تطرأ على الحالة مع القليل من الطابع الكيميائي، جرب التجرِبة الآتية: بعد ارتداء نظارة الأمان الواقية، التقِط زجاجة دليل اختبار قلوية مياه حوض السمك المقترح شراؤها في «قائمة المشتريات والمحاليل». أضف ثلاث نقاط من الدليل على نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) ماء موضوع في وعاء من الزجاج الشفاف أو البلاستيك، ملاحظًا كما تفعل دومًا لون النقاط وهي متساقطة من زجاجتها ولونها وهي تتخلل الماء. يكون لون النقاط برتقاليًّا ضاربًا إلى الصفرة قبل إضافتها إلى الماء، ويتغير لونها إلى اللون الأزرق المخضر عند إضافتها إلى الماء. يُعزى تغير اللون إلى أن الدليل حامضي نوعًا ما. يفقد الدليل أيون هيدروجين في الماء الذي بدوره يُغيِّر لون المحلول. رج المحلول قليلًا لكي تخلط الدليل ثم غطِّ الوعاء بغلاف بلاستيكي. تأكد من أن الغلاف في مكانه بتثبيته بشريط مطاط أو بشريط لاصق. نظف الوعاء من الخارج بمنديل ورقي، ثم ضعه في المجمد على منديل ورقي. قم بالاحتياطات اللازمة كي تحفظ الوعاء بعيدًا عن أي أطعمة، ثم اكتب عليه محذرًا، في بطاقة: ممنوع الاستخدام. دع الخليط يتجمد ويُصبح مادة صلبة. بعد أن يتجمد الخليط، خذه وانظر فيه عن كثب. ستُلاحظ أن مكعب الثلج المتكونَ رائقٌ من الخارج يتخلله الدليل متجمعًا كلُّه في المنتصف، ويتحول لون الدليل المنعزل في الوسط إلى اللون الأصفر. ثمة تقنية في الصناعة تُعرَف باسم «التنقية بالعزل» تُستخدَم لتنقية المعادن، وفي هذه التقنية تُبرَّد المعادن ببطء بداية من أحد طرَفَي قضيب معدني مصهور. وتُضغَط الشوائب إلى قاع المادة حيث يُمكن التخلص منها. في حالة مكعب الثلج، أخذ الماءُ في التجمُّد ببطء بداية من جوانب الوعاء، وكما رأينا، فإن الماء دفع الدليل إلى خارج الخليط إلى منتصف مكعب الثلج، وتحول الدليل إلى لونه الأصلي عندما كان مركزًا في زجاجته بسبب دفعه خارج المحلول إلى المركز. ويُمكن رؤية التنقية بالعزل في الثلج أيضًا في مكعبات الثلج المنتظمة الشكل، حيث يكون الجانب الخارجي للثلج شفافًا في حين يكون داخله صلبًا وكثيف البياض، وتتكون هذه المنطقة الكثيفة البياض في المنتصف عندما تُدفَع الغازات المذابة في صنبور الماء إلى وسط مكعب الثلج بالتجمد.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.14/
طور جديد تمامًا
في الأسابيع التي أمضيناها معًا، أضحى هوبر رمزًا للشاب الإنجليزي؛ لذا كلما قرأت بعض الأقوال العامة التي تُنادي بما يتعين على الشباب فعله في المستقبل وما يدين به العالم للشباب، اختبرت هذه الجمل العامة باستبدال هوبر ومعرفة هل لا يزال الأمر يبدو معقولًا؛ ومن ثَم في الساعات المتأخرة وقبل البدء في السهر والعربدة، كنت أحيانًا أفكر مليًّا في شجاعة وصمود هوبر، وفي نزل هوبر، وفي اتحاد هوبر الدولي، ودين هوبر. لقد كان هوبر الاختبار الحامضي لكل تلك السبائك. ولو كانت هذه هي كلَّ أحداث القصة، لكان هذا فصلًا قصيرًا ولكانت الكيمياء فقيرة، ولكن كما ذكرنا سابقًا، يلعب الضغط دورًا متمِّمًا في التصرفات الواسعة النطاق للمواد المختلفة، مما يُضيف بعدًا آخرَ على مناقشتنا، وفي عملية الخلط يجب أخذ التركيب أيضًا بعين الاعتبار، مما يُضيف عاملًا آخر. يُعلل الضغط لماذا يُعتبَر التزلُّج على الجليد ممتعًا في حين لا يُعَد التزلج على الجليد الجاف (ثاني أكسيد الكربون المجمد) ممتعًا، وتتناول دراسة التركيب سبب تعفُّن البيتزا الجيدة. سنبدأ بالتزلج على الجليد ثم نتجه إلى البيتزا بعدها. عندما يغلي الماء على الموقد، يحدث تغيير في حالته؛ إذ يتحول من سائل إلى بخار، والفقاعات هي جيوب من البخار تتكون في الماء وهو يتبخر، ويتساوى الضغط داخل الفقاعة مع الضغط الذي يضغط على الماء لأسفل، وإلا فما تمكنت هذه الفقاعات من الارتفاع فوق سطح الماء ولا تمكن الماء من الغليان. عندما يقل الضغط الواقع على سائل، يتمكن السائل من الغليان عند درجة حرارة أقل؛ لأنه لا يُشترَط أن يكون ضغط البخار داخل الفقاعة كبيرًا للغاية، ويُلاحَظ حدوث انخفاض ضئيل في نقطة غليان الماء في الارتفاعات الأعلى، مما يعني أن أقصى درجة حرارة للماء عند الغليان التام تكون أقل من ٢١٢ درجة فهرنهايت (١٠٠ درجة سيليزية)، وعند درجات الحرارة المنخفضة هذه، يستغرق الطعام وقتًا أطولَ لكي يُطهى جيدًا؛ لهذا السبب تُوصي بعض وصفات الطعام إتاحةَ وقت أطول لطهي الطعام، وفي درجات حرارة مرتفعة جدًّا. وتُبين الطريقة التي يُؤثر بها الضغط في تغير الحالة بالحقنة الشرجية الموصوفة في «قائمة المشتريات والمحاليل». سخِّن قطعة قماش صغيرةً في ماء ساخن، واعصرها. أزِل الإبرة من الحقنة واسحب مقدارًا قليلًا من كحول الأيزوبروبيل إلى داخل الحقنة، ثم غطِّ بأحد أصابعك مكان الفتحة التي تُوضَع فيها الإبرة. لف قطعة القماش حول قمة الجزء الأسطواني الذي في الحقنة، في ذلك الحين اترك الطرف المسدود بأصبعك بحيث يتسنَّى لك ملاحظةُ تغير الحالة. اسحب لأعلى برفق مكبس الحقنة، مما يُنشئ فراغًا فوق الكحول، ويُقلل الضغط. ينبغي عليك أن تلحظ الأيزوبروبيل وهو يبدأ في الغليان من جراء الحرارة المنبعثة من قطعة القماش الدافئة فحسب. نحن نُعايش كلَّ يوم مع الطقس عملياتِ تغير حالة المادة حتى لو لم تُمطر السماء أو لم يتساقط الجليد، فغالبًا يتساقط الندى في الصباح، وتتوقف النقطة التي يحدث عندها الندى، وهي درجة الحرارة التي تتكثَّف عندها الرطوبة من الهواء على الأرض، على الضغط المحيط، وعليه كان يُستخدَم الندى في الماضي كبارومتر بُدائي للتوقعات الجوية. وتعتمد أيضًا الدرجة التي يتجمد عندها الماء على الضغط؛ لذا عندما نقول إن نقطة تجمد الماء هي ٣٢ درجة فهرنهايت (٠ درجة سيليزية)، يجب علينا أن نُحدِّد بأن نقول إن هذه درجة تجمد الماء في ظل الظروف العادية للضغط الجوي، إلا أن التغيرات الطفيفة التي نمر بها في الضغط الجوي لا تكفي لأن تُغير نقطة التجمد على نحو كبير؛ لذا من الممكن أن نُبرر إهمالنا لهذا التحديد في حديثنا اليومي. وعندما نقول إن الدرجة ٣٢ درجة فهرنهايت (٠ درجة سيليزية) هي نقطة تجمد الماء، فإن هذا يُشير فعليًّا أيضًا إلى أن هذه هي النقطة التي يبدأ عندها الماء في التحول إلى الحالة الصلبة؛ لذا يُوجَد عند درجة الحرارة هذه بعض الماء الذي لم يتجمَّد بعد، وهو الذي يجعل التزلج على الجليد ممكنًا، فطبقة الماء الخفيفة على الجليد تسمح للزلاجات بأن تنزلق بسهولة. ومع أنه يُمكن التزلج على الجليد بسهولة باستخدام الحذاء الذي يُرتدى على الجليد بدون مِزْلاج، بسبب طبقة الماء الموجودة على الجليد في درجة الحرارة والضغط العاديَّين التي تُسهل التزلق، فإن التزلج على الجليد باستخدام المزلاج هو أكثر متعة؛ لأن إحدى الخصائص المميزة للماء تتمثل في أن زيادة الضغط تُقلل نقطة الذوبان. تُركز آلية تصميم المزلاج على وزن المتزلج على المزلاج الرفيع الذي بدوره يعمل على زيادة الضغط عندما يستخدم المزلاج عند مستويات أكثر انحدارًا. ولا يُعتبَر التزلج على الجليد الجاف ممتعًا؛ لأن الجليد الجاف، كما يُوحي وصفه، جافٌّ، بمعنى أنه لا يُوجَد عمليًّا طبقة سائلة في درجة الحرارة والضغط العاديَّين. ويُمكن تمثيل التغيرات المرحلية التي تحدث للمخاليط من مخطط الطور أيضًا، إلا أن هذه المخططات البيانية تكون أكثر تعقيدًا في الغالب. والطور هو أي مرحلة متسقة وثابتة للمادة، سواءٌ أكانت نقية أم مختلطة؛ ومِن ثَم تُعتبَر كل الحالات المختلفة، التي يُمكن أن يجد الخليط نفسه عليها، تُحدَّد على أنها طور منفصل في مخطط الطور. ومن الممكن أن تُوجَد مراحل عديدة معًا في توازن، ويجب إيضاح هذا أيضًا في المخطط، والسبيكة هي فئة من المخاليط التي يُمكنها أن تحظى بمراحل مميزة، ويُمكنها أن تُبين مدى التعقيد الذي يشوب تغيرات المرحلة. إذا كان لديك نحاس، يُمكن أن يكون هذا النحاس نُحاسًا سائلًا أو نحاسًا صلبًا، تبعًا لدرجة الحرارة، وإذا كان لديك خارصين فإما أن يكون هذا الخارصين سائلًا أو صلبًا، تبعًا لدرجة الحرارة، لكن إذا كان لديك سبيكةٌ من النحاس والخارصين، فمن الممكن أن تكون هذه السبيكة من سائل النحاس وسائل الخارصين، أو سائل النحاس مع الخارصين الصلب، أو سائل الخارصين مع النحاس الصلب، أو النحاس الصلب مختلطًا بالخارصين الصلب، وكل منها يُعتبَر مرحلة منفصلة، لكن أي حالة من هذه الحالات سيثبت، يتوقف هذا على درجة الحرارة والضغط والمقادير النسبية من الخارصين والنحاس في الخليط، هذا فقط عندما تتكون السبيكة من مادتَين فقط. إذا أحصينا عدد المكونات المُدرَجة على بطاقة زجاجة شامبو، من السهل أن نرى مدى الصعوبة التي يُمكِن أن يكون عليها مخطط الطور، وفي محاولة لتبسيط الموقف، عادة يُفترض أن الضغط ثابت، في الجو الواحد، ويكون المتغيران اللذان نُحاول أن نقتفيَ أثرهما درجة الحرارة والتركيب. وخذ مثلًا النظام البسيط لبيكربونات الصودا في الماء، فهي تُضاف إلى الماء، فتذوب المقادير الضئيلة المُضافة أولًا في المحلول، لكن بإضافة المزيد يُصبح الخليط مشبعًا، وتوجَد المادة الصلبة بالمثل مع المادة السائلة. بكلمات أخرى، تعتمد القابلية للذوبان على التركيب: فإذا كان لديك نظام يسود الماء في تركيبه مع القليل جدًّا من البيكربونات، تذوب البيكربونات في المحلول. وإذا كان لديك نظام يسود الماء على تركيبه لكن مع الكثير من البيكربونات هذه المرة، فإن الصودا تترسَّب في المحلول. أما إذا ثبت التركيب، بمعنى أن تستخدم كوب ماء مشبعًا ببيكربونات الصودا، عندئذٍ يُمكنك أن ترى كيف أن القابلية للذوبان تعتمد على درجة الحرارة، فإذا سخنت المحلول في درجة حرارة منخفضة في ميكروويف، تذوب بيكربونات الصودا في المحلول؛ لأن النظام يسخن ويظهر المحلول بوضوح، وإذا تركنا المحلول يبرد، تخرج بيكربونات الصودا من المحلول مرة أخرى. مثال آخر تتغير فيه القابلية للذوبان بتغير درجة الحرارة والتركيب هو في فن التقطير الجميل: يتميز التقطير بحقيقة أن البخار الموجود على المحلول يختلف عامة في تركيبه عن تركيب المحلول الذي أتى منه، وهذا الاختلاف في التركيب بين السائل والبخار يُمكن برهنته باستخدام كوب ماء به ألوان طعام. إذا قمنا بتغطية كوب به بوصة أو اثنتان ماء مع ألوان طعام بغلاف رقيق من البلاستيك وثبتنا الغلاف في مكانه بشريط من المطاط ثم قمنا بتدفئته في الميكروويف لفترة قصيرة (من خمسَ عشرة ثانية إلى عشرين ثانية)، نُلاحظ أن الجوانب الداخلية للكوب تتغطَّى بالتكاثف، إلا أن هذا التكاثف يكون شفافًا، ولا يتلوَّن بألوان الطعام، ويُعزى اختلاف الألوان إلى أن الحالة البخارية تختلف في تركيبها عن تركيب الحالة السائلة، والحالة البخارية هي ماء نقي، وليس خليطًا من ألوان الطعام والماء. يتمتع الماء بدرجة غليان منخفضة عن درجة غليان ألوان الطعام؛ ومِن ثَم يدخل الماء في حالة البخار بسهولة أكثر تاركًا لون الطعام خلفه، وقد يكون هناك بعض أنواع الطعام القادرة على التبخر مع الماء، لكن الأغلبية ليست لديها هذه القدرة وجيد أن نرى هذا التأثير. إذا لم تنجح التجرِبة مع لون الطعام الذي لديك، أحضر لون طعام آخرَ (يُرجَّح استخدام ألوان الطعام القديمة، حيث يبدو أنها تعمل أفضل) وحاوِلْ مرة أخرى. يُستخدَم التقطير لتنقية المياه عند الضرورة ويُستخدَم أيضًا لغرض شائن. يُفصَل الإيثانول من الماء بتسخين الخليط حتى يتحول الإيثانول إلى الحالة البخارية، مخلفًا وراءه الماء، إلا أنه لا يُمكن إزالة كلِّ الماء من الإيثانول بهذه الطريقة بسبب قُوى الجذب البينجزيئية الشديدة. يكون هناك دائمًا بعض الماء في الإيثانول، وأقصى ما يُمكن أن تناله يدك بالطرق العادية هو ٩٥٪ إيثانول (درجة الكحول١٩٠)، وهي نسبة أكثر من رائعة بالنسبة إلى أغلبية الاستخدامات العرضية. يُخبرنا هذا المخطط أنه إذا كان لدينا خليط، وثمة بعض السكر غيرُ الذائب فيه، ثم سُخِّن دون حدوث تغيرٍ في التركيب، فإن طور الخليط يتغيَّر من خليط سكر صلب وماء إلى محلول يتكون تمامًا من السكر والماء، أو بكلمات أخرى، سخِّن محلول السكر والماء، عندئذٍ تحصل على المزيد من السكر المذاب في المحلول. قد تبدو هذه الحقيقة غيرَ مهمة إلى حدٍّ ما؛ فهي ليست سرًّا، فطريقة دفع المزيد من السكر إلى الذوبان في المحلول معروفةٌ للطهاة والسُّقاة منذ الأزل، وقد يبدو أنها لا تستحق أن تُعامَل على حدة، وقد تبدو الصلصة الهولندية أيضًا موضوعًا تافهًا لأن تُذكر في كتاب كيمياء، لكننا سنُناقشها هنا أيضًا للسبب الآتي: ألا وهو أن الصلصة الهولندية تختلف عن الماء الذي به سكر! فهي تُظهِر تصرفاتٍ لها فحوى بعيدة الأثر؛ حيث يمتد أثرها من جسر لندن إلى لمبرجر ببلجيكا، ويأتي الاختلاف في هذه الصلصة عندما تُترَك لتبرد مرة أخرى. والصلصة الهولندية هي مُستعلَق لذيذ المذاق للزبد في البيض، وعندما تكون دافئة ومُعدَّة حديثًا، تنسكب الصلصة بانسيابية كخليط أحاديِّ الطَّور، ويكون محلول السكر والماء المحلَّى الساخن خليطًا متماثلًا من السكر والماء، وعندما يبرد الماء المُحلَّى، فإنه يظل خليطًا متجانسًا من السكر والماء، لكن عندما تبرد الصلصة الهولندية، يحدث شيء آخر، فهي تنفصل، لا تظل الصلصة الهولندية الباردة متماسكة؛ لأنها تكون في حالة شبه مستقرة، بمعنى أن هذا ليس أدنى وضع للطاقة لها، ولكنها تكون في مستوى استقرارٍ أعلى من الوضع الأدنى للطاقة. وقد تُعتبَر كرة البولنج التي تتوازن أعلى درجة السلم مثالًا على حالة شبه الاستقرار. حيث تكون كرة البولنج مستقرة، لكنها لا تكون في أدنى موضع من الطاقة لها الذي تكون عليه عندما تستقر على الأرض، فعند تعرُّض الكرة لأقل إثارة ستسعى نحو أدنى مستوًى للطاقة؛ ومن ثَم تنحدر من على درجة السلم، أما الوضع الذي تكون فيه الكرة في طريقها نحو الاستقرار، عندما تتحرك الكرة ببطء، فهذا يُعتبَر أيضًا وضعًا شبهَ مستقر وليس مستقرًّا. كذلك تكون الصلصة الهولندية في حالة شبه الاستقرار، إلا أن الزيوت التي تدخل ضمن مكوناتها تسعى نحو الارتباط ثانية بعضها ببعض إذا تمكنَت من إيجاد مسلك لذلك، مما يُسبب انفصالها. ولا تقتصر حالات شبه الاستقرار على الصلصة الهولندية فحسب، بل يُمكِنها أن تحدث في أنظمة متنوعة بنفس قدر تنوُّع الأدوية والسبائك، وتُعتبَر أدوية عديدة المستعلقات حيث تنتشر حالة عدم استقرار المواد الصلبة في السائل. والسبائك المعدنية هي مخاليط من المعادن التي ينبغي تسخينها عادة في درجات حرارة مرتفعة جدًّا كي تمتزج معًا، وإذا بُرِّدَ الخليط ببطءٍ تام، فإنه يُحتمَل حدوث انفصال مثلما يحدث في «التنقية بالعزل» المذكورة من قبل. أما إذا حدث تبريد سريع، ينتج خليط صُلب في حالة شبه استقرار، بالطبع تُشير حالة شبه الاستقرار ضِمنيًّا إلى وجود حالة أخرى، وهي الحالة المستقرة، يُمكِن أن ينتقل إليها الخليط مع الوقت؛ ومِن ثَم يُمكِن أن تتغير خصائص السبائك المعدنية وإن يكن الأمر يحدث ببطء مع الوقت. بكلمات أخرى، التراكيب التي تتألَّف من سبائك، مثل الجسور، يُمكِنها أن تتقادم، فلا يجب أن نأخذ الصدأ فحسبُ بعين الاعتبار عندما نُقرر إذا كان الجسر سليمًا وآمنًا، لكن أيضًا عمر المادة المصنوع منها الجسر وطبيعتها. لكن ما من مُبرر للقلق بشأن رحلة العودة إلى المنزل باستخدام المواصلات العامة. وليست الجسور وحدها هي التي تُرصَد بعناية من أجل تأثيرات الزمن، فملاحظة عودتها من حالات شبه الاستقرار إلى أقصى حالات الاستقرار يُمكن أن يكون في غاية البطء بحيث يتعذر رصده في غضون حياة بشر كثيرين، وقد بُنِيَت معظم الجسور لتدوم وتبقى. لكن لا يكون الحال كذلك مع مخاوفنا التالية: وهي الجبن. تُعتبَر موادُّ كثيرة نتعامل معها يوميًّا في حالة شبه استقرار، مثل المستحلبات والمستعلقات الدوائية والشامبو وصوص السلاطة والصلصة والبهارات التي تُضاف للطعام مثل الكاتشب والمايونيز والماستردة، لكن من بين كل مخاليط الحالة شبه المستقرة التي تُستخدَم كأطعمة، ربما يكون الجبن هو أقدمَها وأكثرها شهرة. وتكون المواد الصلبة هذه هي الخثارة. وشرش اللبن هو الجزء الأكثر سيولة. ويُمكن أن نعتبر الجبن مستعلَقًا شبهَ مستقر لخثارة اللبن في الشرش. ويُحدِّد قوام نوع معين من الجبن على أساس كيفية تقطيع وعزل الخثارة من شرش اللبن، أو على أساس الوقت المستغرَق في تخثر اللبن أو تعتيقه. وعندما لا تنفصل الخثارة من اللبن ولا يكون الجبن قديمًا، ويكون القوام طريًّا يُسمَّى جبنًا غير ناضج، وهو ما يُشبه جبن الكوتدج (الجبن القريش). وعند عصر كل الشرش الممكن من الخثارة وترك الجبن فترة زمنية ليتعتَّق، تنتج قوالبُ صلبة تُسمَّى الجبن الجاف، مثل الجبن الباراميزان الجاف. يتضمن التعتيق إتاحة الوقت للبكتريا لإتمام عملية التجبُّن التي تبدؤها الإنزيمات، مما يُفسر لماذا يظل الجبن الجاف بحالة جيدة؛ فهو قد تعرض بالفعل للبكتيريا ونجا. أما الجبن الطري مثل الجبن القريش الذي لم يتعتَّق، فينبغي حفظه في المبرد. ومن بين الثلاثين رطلًا من الجبن التي يستهلكها الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية، يتمثل قدر كبير من الجبن المذاب في طعامنا المحلي الحديث: البيتزا. تتصدر عناوين محلات البيتزا معظم دلائل التليفونات، وهو امتياز لم يحظَ به التفاح ولا الخرشوف ولا السبانخ، ومع أن طبقتَي البيتزا الخارجية المقرمشة والصوص قد تكونان عنصرَين مهمَّين في البيتزا الجيدة، فإنه يجب أن نُقر ونعترف أنه بدون الجبن تكون البيتزا مجردَ شطيرة صوص طماطم مفتوحة للهواء. إن جودة جبن البيتزا وخصائصه المميزة هما أهمَّ ما ينشغل به العاملون في مجال البيتزا. ما هي أهم خاصية في جبن البيتزا الجيد؟ الطعم، بالطبع، وقدرته على الذوبان بانسيابية أيضًا وفي شكل منتظم دون الانفصال مرة أخرى إلى خثارة وشرش، ولهذا السبب لا تُغطَّى البيتزا بجُبن غير ناضج مثل الجبن القريش أو جبن جاف مثل جبن الباراميزان، لكن بجبن شبه طري: وهو الموتزريلا. وثمة ميزة أخرى لاستخدام الموتزريلا، وهي أن البيتزا كخليط تنصهر بسرعة وتجانُس عند نقطة انصهارها؛ وذلك لأنه في معظم المخاليط الصلبة، نجد أن الخليط ينصهر في مدًى معين من درجات الحرارة، بمعنى أن الخليط يبدأ في الانصهار عند درجة حرارة ما، لكن لا يتحول الخليط بأكمله إلى الحالة السائلة ما لم يُسخَّن إلى درجة حرارة نهائية معينة. إلا أنه يُوجَد بعض المخاليط الانتقالية التي لديها التركيب المباشر حيث تصل إلى نقطة الانصهار على نحو مفاجئ وفوري. ويُطلَق في الكيمياء على الخليط الذي ينصهر عند نقطة انصهار واحدة (نقطة واحدة وليس مدًى معينًا من النقاط مثل باقي المخاليط) «الخليط سهل الانصهار»، ويُطلَق على هذا الخليط في عالم الجبن الموتزريلا. وسبيكة اللحام خليط سهل الانصهار. إلا أن المعضلة التي تُواجه متعهِّدي البيتزا في أمريكا ليست صهر الجبن فحسب، بل تجميده أيضًا، حيث يطلب عشاق البيتزا في أمريكا الحصولَ على وجبتهم المفضلة في التو واللحظة، مما يعني أنها يجب أن تكون في وضع مجمَّد بحيث يسهل إعدادها سريعًا في الميكروويف أو في أفران الحمل الحراري. إلا أن الجبن يُمكن أن يفسد عندما يمر بتغيرات سريعة في الطور مثل تجميده في المبرد وتسخينه في الميكروويف. ويُفضي التجميد الذي يعقبه تسخينٌ سريع إلى جبن هش وخيطي وصُلب القوام، أو إلى جُبن محروق. والحل هو استخدام جبن معالَج وهو خليط من الجبن المطحون وأملاح استحلاب ومثبتات أخرى. يسمح الجبن المعالج للبيتزا بأن تتجمد وأن يُعاد تسخينها أو حتى تُترك خارج الثلاجة على المائدة لفترة مقبولة من الوقت، إلا أن أفضل فترة انتقالية من التجمد إلى الانصهار يُمكِن تحقيقها باستخدام جبن مُقلد مكوَّن من زيت فول الصويا والخثارة. ولإثبات الاختلاف في سلوك تغير الحالة، اشترِ موتزريلا مبشورة أصلية، وموتزريلا مبشورة مقلدة ممتازة. وبقراءة البطاقة المكتوب عليها المكونات، ستجد علامة تدل على ما إذا كانت هذه الموتزريلا أصليةً أم مقلَّدة، أما إذا كان لديك بعض الشك، فبالنظر إلى قائمة المكونات سيتَّضح الاختلاف بين الاثنتَين. ضع مقدارًا ضئيلًا من كلٍّ منهما على كل جانب من جوانب طبق من الورق واكتب «أصلي»، و«مقلَّد» على الطبق بجانب كل عينة على حسَبها. سخِّن الطبق الذي يحوي العينات في الميكروويف لمدة من عشرين إلى ثلاثين ثانية. نُلاحظ أن الموتزريلا المقلدة المنصهرة بانسيابية تحتفظ بلونها ومرونتها، أما الموتزريلا الأصلية فتتحول إلى اللون البُني وتُصبح هشة وصلبة بصورة سيئة. بترك عينات الموتزريلا الأصلية والمقلدة، بالخارج على منضدة لمدة يومَين، نجد أن الموتزريلا الأصلية تُصبح هشة وجافة، في حين أن سطح الموتزريلا المقلدة يبدو طازجًا تمامًا كما كان الحال عند إخراجها من عبوتها. من ثَم إذا كان هدفك هو أن تتغلب على فيزياء تغيُّر الحالة، فإن الموتزريلا المقلدة هي طريقك إلى ذلك، لكنها ليست طريقك إذا أردت أن تحتفظ بالنكهة الغنية، فالكيمياء مختلفة هنا. وللأسف، لقد قادتنا خبراتنا الكثيرة مع الجبن المعالج إلى توقع صلابة في البيتزا التي لن تكون موجودة لو أنها كانت مصنوعة من مكونات غير معالَجة؛ لذا إذا كنت تستثمر في بيتزا جيدة بحقٍّ، وكان هناك متبقٍّ منها لتخزنه، فربما يتعيَّن عليك أن تفعل ذلك بحذر. فعند معالجة الموتزريلا بعناية، فإن كل شيء يكون على ما يُرام، فيجب تدفئة البيتزا المجمدة قبل إعادة تسخينها، ويجب إعادة تسخينها في درجة حرارة منخفضة في الميكروويف، أو ربما من الأفضل في فرن دافئ، لكن حتى مع كل هذه التحذيرات، قد يكون هناك تغيرات في القوام والمذاق؛ لذا من الأفضل أن تتمتع بالبيتزا بأكلها وهي طازَجة وبحالة جيدة، وإذا كان عليك أن تُجمدها، فلا تُحبط إذا فسدت هذه البيتزا الجيدة. تبقى معضلة أخرى ألا وهي أنه ما من مقدار من المُثبتات يُثبت، وعليه، ستجف حتمًا البيتزا إذا لم يُحكَم غلق الكيس الذي يحويها. وأما غير المطلعين على مخطط الطور، فقد يبدو تجفيف الطعام في المجمد غريبًا عليهم، لكن بالنظر إلى مخطط طور الماء، نرى أنه في درجة الحرارة ٣٢ فهرنهايت (٠ درجة سيليزية)، وهي درجة حرارة معظم المجمدات، يكون الجليد الصلب في توازن مع بخار الماء، مع أن ضغط البخار أقلُّ من ضغط الجو؛ ومن ثم يتبخر الماء في المجمد، لكن لأن المجمد مغلق معظم الوقت، قد نظل نتوقع أن يكون انخفاض الماء بأدنى حدٍّ ممكن. إلا أن الصعوبة تكمن في أن المجمدات الخالية من الثلج تحتفظ بخلوِّها من الثلج بتدوير الهواء وتجميع بخار الماء قبل أن تأتي له الفرصة ويستقر في جوانب المجمد في هيئة ثلج. بكلمات أخرى، نظرًا إلى أن الماء يُزال باستمرار بسبب دوران الهواء، لا يكون الماء الذي في المجمد في حالة اتزان، فهو لا يكون في حالته السعيدة، الحالة التي يكون متوازنًا فيها مع بعض الماء في الحالة السائلة وبعض الماء في الحالة البخارية. ينتج المزيدُ من بخار الماء من الأطعمة نظرًا إلى أن النظام يُحاول أن يستعيد التوازن، وهذا الدافع لإحداث التوازن يُفسِّر سبب تضاؤل مكعبات الثلج ببطء في المجمد، ويُفسِّر أيضًا سبب «فساد» البيتزا الموضوعة في كيس غير محكم الغلق، وبذلك لا تظل البيتزا على حالها إلى الأبد. ويُعَد أخذ ما يحدث عندما ينشر أحدهم ملابسه لتجفَّ في قارة أنتاركتيكا بعين الاعتبار، امتدادًا مشوقًا لهذا التوضيح المتعلِّق بالتوازن الفيزيائي، فهل تجف هذه الملابس؟ نعم تجف، ما دام الهواء يعمل على إزالة بخار الماء الذي يُحيط بالملابس المتجمدة مباشرة؛ فإن رقاقات الثلج في الملابس الداخلية سوف تستمر في التبخر لاسترداد التوازن. أما النوع الآخر من التوازن الذي سنبحثه الآن، فيُطلَق عليه التوازن الكيميائي. والتوازن الكيميائي ليس أقلَّ شيوعًا لكن لا يُمكن التعرف عليه بنفس القدر من السهولة دائمًا، فهو بالتأكيد أكثرُ تعقيدًا، لكن سواء كان معقدًا أم لا، فإننا متجهون إليه الآن.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.25/
تجربة ١٥: عندما تتكافأ جميع الأشياء
دون حدوث أي تغير موضوعي أيًّا كان هذا التغير، يحل التنوع محلَّ الرتابة والملل. مضيفه وأهل مضيفه … بدءوا في تمييز أنفسهم كما يحدث في العمليات الكيميائية. ارتدِ نظارة الأمان الواقية. خذ محلول كبريتات النحاس كما هو معدٌّ في «قائمة المشتريات والمحاليل»، وصب نحو بوصتَين في كوب زجاجي شفاف أو كوب بلاستيكي شفاف يُمكن الرؤية من خلاله بوضوح. ضع في زجاجة مياه غازية شفافة نصف كوب من الماء (١٢٠ مليلترًا)، ثم استخدم القُمع لتُضيف ملعقتَين كبيرتَين من بيكربونات الصودا إلى الماء. رج المحلول. صبَّ من اثنَين إلى ثلاث بوصات (٥سم) من الخل في زجاجة صودا شفافة أخرى في أثناء الوقت المنقضي حتى يستقر المحلول. أضف من ثلاث قطرات إلى أربع قطرات من محلول بيكربونات الصودا إلى كبريتات النحاس، وتأكد من عدم انتقال بيكربونات الصودا غير المذابة إلى المحلول وأنت تُضيف القطرات. يُمكنك تجنُّب انتقال بيكربونات الصودا غير المذابة باستخدام قطارة العين أو ماصة يُمكنك أن تسحب المحلول من خلالها بسد إحدى طرفَيها بإصبعك حتى يُمكنك سحبُ بعض القطرات من أعلى المحلول، وكن حذرًا من أن تُثير الراسب في قاع الزجاجة. بمجرَّد أن تُضيف بيكربونات الصودا إلى محلول كبريتات النحاس، يتكون راسب خفيف ملون بلون باهت ويترسب في قاع الكوب. ولأنك كنت حذرًا في عدم إضافة أي موادَّ صلبة، يجب أن يكون هذا الراسب هو ناتجَ تفاعل كبريتات النحاس مع بيكربونات الصودا الذي هو كربونات النحاس. إذا أضفت مرة أخرى قليلًا من قطرات محلول بيكربونات الصودا، تُلاحظ أن حجم الراسب يزداد، ويظل المحلول الذي يعلو الراسب ملونًا باللون الأزرق الذي يُشير إلى وجود كبريتات النحاس التي لم تدخل في التفاعل. الآن أضف العديد من قطرات الخل إلى الكوب، ثم لاحظ حدوث الفوران الذي يُوضح زوال الكربونات من المحلول. تذكر أن الخل حامضي وأن بيكربونات الصودا قاعدية؛ لذا فهما يتفاعلان معًا ليُكوِّنا حامض الكربونيك الذي يذوب على التوالي إلى ماء وفقاعات ثاني أكسيد الكربون. إذا لاحظت بعناية فسوف ترى أن الفوران يحدث على سطح المحلول بمجرد إضافة قطرات الخل. استمر في إضافة قطرات الخل إلى أن يتوقف المحلول عن الفوران. قد تحتاج إلى تقليب المحلول قليلًا في الكوب بعد كل مرة تُضيف فيها قطرات الخل، وعندئذٍ ينبغي أن يبدأ الراسب الذي في القاع في الاختفاء بسبب إضافة الخل وزوال أيون الكربونات. وعند توقف الفوران واختفاء الراسب، أضف محلول بيكربونات الصودا مرة أخرى إلى أن يتكون الراسب. عندئذٍ أزل الراسب مرة أخرى عن طريق إضافة قطراتِ الخل. وهكذا تستمرُّ عملية التقدم والتراجع ما دمتَ مستمرًّا في إثارة الوضع عن طريق إضافة أو إزالة أيون كربونات بإضافة الخل (أو حتى يُصبح المحلول مخففًا للغاية، لكن من المحتمل أن يمتلئ الكوب قبل حدوث هذا). عند إضافة بيكربونات الصودا في بادئ الأمر، تخرج كربونات النحاس من المحلول حتى يحدث توازن للنظام، بمعنى أن النظام أصبح مستقرًّا ومتوازنًا مع أقصى كميات يُمكن أن يتشبَّع بها المحلول من أيونات النحاس والكربونات. غير أن التفاعلات الكيميائية ليست شوارعَ ذاتَ اتجاه واحد، لكن معدل التدفق يحدث في الاتجاهَين؛ ومِن ثَم عندما حدث خلل لهذا النظام المتعادل عن طريق إزالة بعضٍ من أيونات الكربون بالسماح لها بالتفاعل مع الخل، حدث التفاعل العكسي، واستعاد النظام توازنه عندما أُعيد بعضٌ من الراسب إلى المحلول مرة أخرى، وعندما أُضيف المزيد من أيونات الكربونات، استجاب النظام عن طريق تكوين المزيد من الراسب مرة أخرى. إن فهم عملية تقدم وتراجع التوازن الكيميائي في غاية الأهمية لفهم فنِّ التلاعب في التفاعلات الكيميائية، وهو موضوع المناقشة التالية.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.15/
الاتزان الكيميائي: الكيمياء الثنائية الاتجاهات
جلسَت ليلي محدقة وهي غارقة في التفكير في الدخان الخارج من سيجارتها الذي يأخذ شكل حلقات زرقاء اللون. ثم نطقت أخيرًا قائلة: «إنه يبدو لي أنك قضيت قدرًا لا بأس به من الوقت مع العنصر الذي تستنكره.» استقبل سيلدن هذه اللطمة دون أن يرتبك، وردَّ قائلًا: «أجل، لكن الخيمياء الحقيقية تكمن في القدرة على إرجاع الذهب مرة أخرى إلى شيء آخر، وهذا هو السر الذي خفي على معظم أصدقائك.» كان الغرض من التجربة السابقة، «عندما تتكافأ كل الأشياء»، هو إيضاح ثلاثة أمور غاية في الأهمية والحساسية فيما يتعلق بالتفاعلات الكيميائية ألا وهي: أولًا: مع أننا غالبًا ما نرمز للتفاعلات الكيميائية بأسهُم صغيرة، تشير إلى اتجاه التفاعل من المتفاعلات إلى النواتج؛ كالآتي: فإنه في حقيقة الأمر، كما رُجِّح مرات عديدة في المناقشات السابقة، فإن التفاعلات الكيميائية هي تفاعلات ثنائية الاتجاهات، بمعنى أنها تفاعلات قابلةٌ للارتداد مرة أخرى. إذا كان من الممكن أن تُصبح أحدُ المواد المتفاعلة مادةً ناتجة؛ فمن ثَم يكون من الممكن للمادة الناتجة أن تُصبح مادةً متفاعلة أيضًا. ولذلك، مع أننا لم نُؤكد على هذا الجانب في التفاعلات الكيميائية حتى الآن، فإنه كلما حدث تفاعل كيميائي كان من الطبيعي أن يُوجَد خليطٌ من المتفاعلات والنواتج التي يُطلق عليها «خليط الاتزان». في بعض الأحيان يكون من المؤكد أن التفاعل يسير باتجاه النواتج في المقام الأول، فعلى سبيل المثال، عندما ينفجر البارود، فغالبًا ما يتحوَّل بأكمله إلى نواتج، واللفظة «غالبًا» هي ظرف في غاية الأهمية هنا؛ إذ إن بقايا البارود ستزيد من شر الكثير من المجرمين وفي أوقات أخرى ربما يظلُّ مزيج التفاعل كما هو؛ إذ تبقى موادُّ المتفاعلات كما هي دون أن تدخل في تفاعل، وهو ما قد نُواجهه في طريقة هابر التي تُستخدَم لتحضير النشادر، وهو ما يُمكن أن نسترجعه من مناقشتنا لتفاعلات الحالة الغازية؛ إذ كان كلٌّ من غازَي الهيدروجين والنيتروجين حوله، لكن تعيَّن عليه أن يبذل قصارى جهده كي يخلطهما معًا لعمل النشادر. غير أن تفاعلاتٍ عديدةً أخرى تُشبه تفاعلات اللبن المُخثَّر، اللبن المُخثر هو اللبن الذي تتكون فيه الخثارة التي يُمكن صنعها عن طريق إضافة الخلِّ إلى اللبن، فما إن يُضاف الخل حتى تتكون الخثارة في التو، لكن يتبقى بعض اللبن والخل دون أن يتفاعلا معًا، ويحدث هذا التفاعل بسرعة شديدة لكنه بمجرد أن ينتهي، تظل نِسَب خثارة اللبن واللبن غير المتخثر والخل كما هي على مر الوقت؛ إذ يصل التفاعل إلى حالة من الاتزان. النقطة الثانية التي أردنا أن نُوضحها من تجربة «عندما تتكافأ كل الأشياء» هي أن قولنا «إن التفاعل قد وصل إلى حالة الاتزان» ليس بنفس معنى قولنا «لا يُوجَد مزيدٌ من التفاعلات». في الواقع، تميل مَخاليط الاتزان إلى أن تكون نشطة للغاية — مع استمرار تحوُّل المتفاعلات إلى نواتج والنواتج إلى متفاعلات مرة أخرى. ويُمكن توضيحُ هذه الخاصية الحركية للنظام الكيميائي بطريقة مباشرة كالآتي: اقطع قطعة من ورق الحمام وضعها على حافة كوب يحوي القليل من الماء بحيث يتدلَّى طرَف قطعة الورق في الماء. يرتفع الماء في قطعة الورق لكن إلى حد معين إذ يصل كلٌّ من الماء وورق الحمام في آخر الأمر إلى حالة من الاتزان بين جذب الورقة للماء والانجذابات التي تحدث بين جزيئات الماء نفسها، والجاذبية التي تشدُّ الماء إلى أسفل. انتظر عشر دقائق حتى تسمح للورقة أن تتشبَّع بأكبر قدر ممكن من الماء، ثم أضف قطرة ألوان الطعام في بُقعة بعيدة تمامًا عن قطعة الورقة المتدلية في الماء، نجد أن لون الطعام ينتشر عن طريق الإنتروبيا (كما برهنَّا في الفصل الذي يدور حول الديناميكا الحرارية)، وفي النهاية يتسلل اللون لأعلى إلى الورقة أيضًا. يُمكن للون أن يتسلق إلى أعلى للورقة لأن جزيئات الورقة في حالة الاتزان تُغيِّر أماكنها دائمًا. وبعض جزيئات الورق تُصبح جزيئاتٍ ملطخةً بالماء وتُصبح جزيئات الماء هي جزيئات الورقة. وعند إضافة الصبغة تجلب جزيئات الماء الجديدة التي تحل محل الجزيئات القديمة الصبغة معها أيضًا إلى الورقة. لكن مع كل هذا النشاط الحادث، فإن النظام لا يزال يحتفظ بالاتزان؛ لأن المتفاعلات تتحول إلى نواتج والنواتج تتحول إلى متفاعلات بمعدلات تحفظ الكميات النسبية نفسَها من المتفاعلات والنواتج، ونُطلِق على هذا النوع من الاتزان «الاتزان الديناميكي». ومع أن التأثير النهائي قد يبدو بلا تغيير فإنه يُحفَظ ثابتًا هكذا عن طريق معدلات التغيير الثابتة. ويُمكن أن نُشبِّه ذلك بما يحدث في حركة المرور، فعند مشاهدة إحدى إشارات المرور من طائرة هليكوبتر نجد أن كثافة السيارات المزدحمة في إحدى الطرق العامة تبدو ثابتة تمامًا، لكن ذلك في الواقع نتيجة للتغيير الثابت؛ فثمَّة سيارات تدخل وتخرج طوال الوقت. وتُمثل السيارات في الطرق الجانبية المتفاعلاتِ، والسياراتُ في الطريق العام النواتجَ، ويُشير السهم هنا إلى الطريقَين؛ لأن السيارات تتدفق إلى الطريق العام وتخرج منه، ويكون نوع الاتزان هنا هو اتزانًا حركيًّا وانعكاسيًّا. وفي الصباح الباكر يُمكن أن يُوجَد عدد قليل من السيارات في الطرق الجانبية وقليلٌ من السيارات في الطريق العام، لكن في السابعة والنصف صباحًا قد يتزايد عدد السيارات في الطرق الجانبية على حين غِرَّة. وعلى الفور يستجيب النظام ويتزايَد عدد السيارات في الطريق العام حتى يحدثَ الاتزان مرة أخرى. وبالرجوع إلى تجربتنا الكيميائية السابقة، نجد أن لدينا موقفًا حركيًّا وانعكاسيًّا أيضًا؛ إذ يتكون راسبُ كربونات النحاس لكنه ذاب مرة أخرى أيضًا. فعندما أضفنا الخل، فإننا أزلنا بعض الكربونات من الاتزان. والمادة الصلبة المذابة مرة أخرى ليست إلا محاولةً لاسترجاع تركيزات متزنة لكلٍّ من النواتج والمتفاعلات. ومن الممكن أن يحدث أيضًا التوتر في الاتزان بسبب التغيير في كمية الطاقة المتاحة، فإذا كان التفاعل يتطلب طاقة، فمن الممكن أن يُنظَر إلى الطاقة على أنها أحد المتفاعلات. عندما أذبنا بيكربونات الصودا في الماء، لاحظنا أن المحلول أصبح باردًا، ورأينا أيضًا أن تدفئة محلول بيكربونات الصودا ساعدت على زيادة قابلية بيكربونات الصودا للذوبان. وعند أخذ هذه الملاحظة بعين الاعتبار إلى جانب قاعدة لوشاتيليه، يُمكننا التحكم بالتفاعلات بالحرارة، فإذا كان التفاعل يتطلَّب وجود حرارة، فإن إيجاد الحرارة سوف يُغيِّر اتجاه التفاعل ليسير في اتجاه النواتج. ويُمكننا أن نُغير اتجاه الاتزان إلى الطرف الآخر عن طريق تبريد المحلول، الذي هو في جوهره عملية إزالة للحرارة. عندما تركنا محلول بيكربونات الصودا الدافئ ليبرد، نتج المزيد من بيكربونات الصودا من المحلول. والآن، بعد أن برهنَّا على أن التفاعلات الكيميائية هي تفاعلات حركية وانعكاسية؛ ومِن ثَم يكون التفاعل الكيميائي خليطًا متزنًا للمتفاعلات والنواتج. وقد شاهدنا أيضًا أن التفاعل يميل بقوةٍ في بعض الأحيان إلى أن يسير في اتجاه النواتج (كما في تفاعل البارود)، وأحيانًا في اتجاه المتفاعلات (كما في طريقة هابر لتخليق النشادر من النيتروجين والهيدروجين). غير أننا لم نُجِب عن هذا السؤال: لماذا يميل التفاعل في بعض الأحيان إلى السير في اتجاه المتفاعلات وفي أحيان أخرى في اتجاه النواتج؟ وما هو الشيء الذي يُحدِّد الاتجاه الذي سيَركَن إليه التوازن؟ الطاقة هي أحد العوامل المحددة، فالميل الطبيعي للأنظمة الكيميائية، وكذلك الحال في الأنظمة الفيزيائية الأخرى، هو الاتجاه إلى حالة أدنى من الطاقة. فعلى سبيل المثال تعادل الأحماض القواعد. وتضعف البطاريات. فعندما تتساوى العوامل الأخرى كافةً، فإن التفاعل سيُعدِّل تلقائيًّا من وضعه كي يُقلل من طاقته ويُفرغ الطاقة الزائدة في العملية، لكننا رأينا حامض الستريك يتوغَّل في المحلول بمنتهى التلقائية، فبرد الخليط الذي امتص الطاقة؛ ومن ثم لا تكون الطاقة الأدنى هي الأمرَ الوحيد الذي يُعتَدُّ به. ولكي نفهم العامل الثاني الذي يلعب دورًا هنا، ضع نُصب عينَيك الأمثلة التي طرحناها في بداية هذه المناقشة، لقد سار أحد التفاعلات في اتجاه النواتج على نحوٍ يكاد يكون تامًّا وهو تفاعل البارود، في حين ظل الآخر على نحوٍ شبهِ تام كمتفاعلات، كما الحال في عملية تخليق النشادر من النيتروجين والهيدروجين. فالتفاعل الذي سار في اتجاه النواتج، كوَّن نواتجَ في الحالة الغازية. والتفاعل الذي ظل في حالة المتفاعلات اشتمل على متفاعلات أكثرَ في الحالة الغازية. ما المثير في الحالة الغازية إذن؟ وما الذي تتمتَّع به الحالة الغازية دون الحالات الأخرى؟ المثير الذي تتمتع به الحالة الغازية هو الأنتروبيا؛ إذ تتمتع بالأنتروبيا الفياضة. وما يُحدد وضع الاتزان في آخر الأمر، ما إذا كان يميل إلى اتجاه المتفاعلات أم النواتج أم فيما بينهما هو المقايضة التي تحدث بين الطاقة والأنتروبيا، وهو الموقف الذي يُمكن أن يُشبَّه بمعرِض تجاري. لقد انتشرت جدًّا المعارِض التِّجارية في عالمنا المعاصر لدرجة أنه يُوجَد الآن مَعارضُ تِجارية لأي شيء ولأي أحد، بداية من مُحبي الحاسبات الآلية إلى عُشاق المخيمات، ومن الكيميائيين إلى موظَّفي الإصلاحيات. وفي المعارض التجارية، وكذلك في المعارض التي تُقام في المراكز الكبرى المتخصصة في هذا الأمر، يُقيم الناس الذين يتخصصون في تجارة سلعة معينة أو يخدمون فئة معينة من الناس أكشاكًا لعرض بضائعهم. ولأن الغرض من المعرض التجاري هو فعليًّا الإعلانُ عن السلعة أكثرَ من بيعها، فإن العاملين يقيسون نجاحهم بعدد الناس الذين زاروا أكشاكهم، وقد يُقدم البائعون هدايا لجذب الزوار إلى أكشاكهم، مثل أقلام وقصافات أظافر وحافظات أوراق وما إلى ذلك. وفي معرضنا التجاري للاتزان سوف نتخيل معًا شركةً صغيرة وجريئة للغاية قرَّرت أن تُقدم رحلات مجانية كهدايا لأي أحد يزور كشكها، والآن لنرَ ما يُمكن أن يترتب على هذا الفعل. غير أنه لن يكون بإمكان كل الناس الذهابُ إلى كشك الهدايا المجانية؛ لأنه لا يُوجَد مساحة حول الكشك كافية لتسع كل الناس، بعض الناس سوف يُدفَعون إلى الخارج وسوف يجدون أنفسهم مدفوعين نحو أكشاك أخرى. سوف ينتشر الناس عبر كل أنحاء صالة العرض؛ لأن الناس لا تُحبذ أن تكون متكدسة معًا، وسوف نُطلِق على هذه الرغبة في الانتشار بعشوائية «الأنتروبيا». إذا كنا نُمسك بأيدينا حَفْنة من السكر فمن المؤكد أن ثمة جزيئًا من السكر في قبضة يدِنا، لكن إذا ألقينا هذه الحَفنة في المحيط، فإن جزيئات السكر سوف تنتشر إلى أربعة أطرافِ الكرة الأرضية. وهذا الدفع الذي تُثيره الأنتروبيا يُمكن أن يدفع بعض المتفاعلات على الأقل كي تمتصَّ مقدارًا ضئيلًا من الحرارة وتصعد في صورة طاقة. ولأن الناس لديهم رغبةٌ في الانتشار فإن بعضهم سوف يذهب إلى كشك الطاقة المرتفعة، ولعل واحدًا أو اثنَين سيدفع الدولاراتِ الخمسةَ رسم الدخول. وتتحكم رغبة الحضور في تقليل طاقتهم والانتشار في معدل الاتزان النهائي الذي حدث بين الناس في كشك النواتج، والناس في كشك المتفاعلات، لكن الميل سيكون إلى اتجاه النواتج. وتتصرف التفاعلات الكيميائية بهذه الطريقة نفسها أيضًا. في حال حدوث الاتزان تُوزِّع الجزيئات نفسها بين النواتج والمتفاعلات بطريقةٍ تسمح لها بتقليل الطاقة إلى أدنى حدٍّ وتعظيم الوصول إلى أقصى حد من الأنتروبيا، لكن ثمة مقايضة دائمًا، ومع ذلك إذا لم تكسب الأنتروبيا الكثير في كِلا الموقفَين، فإن الطاقة الأدنى هي التي ستكسب الجولة. أما إذا كان هناك الكثير من الأنتروبيا لتُكتسَب، فحتى التفاعلات التي تتطلب لحدوثها طاقة يُمكن أن تحدث تلقائيًّا. وبالطبع تتضمن بعض التفاعلات كل هذه المقومات؛ ففي الاحتراق الذي يحدث في محركات السيارات، يُقلل الجازولين الطاقة عن طريق طرد الحرارة ويَزيد الأنتروبيا عن طريق التحول إلى غازات، وتتسبَّب الطاقة المتولدة في تمدد الغازات، بل وزيادة الأنتروبيا أيضًا. من ثَم تكون النواتج الأساسية الخارجة من الأنبوب الخلفي (شكمان السيارة) هي ثاني أكسيد الكربون والماء — مع القليل من السخام وأكسيد النيتروجين كما ذكرنا من قبل. من ثم نكون قد بلَغنا مرادنا، وعليه يُحدَّد الوضع النهائي للاتزان عن طريق الرغبة في تقليل الطاقة وتعظيم الأنتروبيا وهو أقصى حالة من استقرار النظام، وتحدث المقايضة بين الطاقة والأنتروبيا. وقد نتذكر من مناقشتنا للديناميكا الحرارية أننا أطلقنا على هذه المقايضة مصطلح «الطاقة الحرة». وعندما لا يتوفر المزيد من الطاقة الحرة لكي تُطلَق أو لكي تعمل، فإننا نكون قد وصلنا إلى حالة مُرضية من الاتزان الساكن. ودائمًا يُحقق الاتزانُ النجاح، ومع أنه قد يُحرَم من أن يكون له تأثيرٌ لوقتٍ ما، بل وقد يدخل النظام في حالة شبه استقرار، فإن التوازن يسود في نهاية الأمر. وتحظى التفاعلات الكيميائية بالمقدرة على الاستجابة لحالة الطاقة المنخفضة والأنتروبيا المرتفعة والتأقلم معهما؛ وذلك لأن التفاعلات الكيميائية تتسم بالقدرة على التحرك والانعكاس. وتعني القدرة على التحرك والانعكاس أن التفاعلات الكيميائية يُمكن أن تكون غاية في المرونة، ويُمكن التأثير فيها للحصول على المزيد من النواتج أو الرجوع إلى متفاعلات مرة أخرى. وتُعَد مثل هذه الممارسات أمرًا حتميًّا في الصناعة والمختبرات الكيميائية. غير أنها تحظى بأهمية تفوق كل ذلك، فالاتزان يخصنا جميعًا في حياتنا اليومية ما دمنا نحيا ونتنفس. يلعب الاتزان أدوارًا كثيرة في الأنظمة الحيوية، وأحد هذه الأدوار الذي قد يكون أكثر اعتيادًا لنا هو ذلك الدور الذي نختبره من ألف إلى ثلاثة آلاف مرة في الساعة الواحدة، على مدار أربع وعشرين ساعة يوميًّا — سواءٌ كانت السماء تُمطر أو الثلوج تتساقط، سواءٌ كنت نائمًا أو مستيقظًا — وسنتناول الآن الاتزان الذي يُحدِثه التنفُّس. وهنا سوف نعتبر الهيموجلوبين الخاليَ من الأوكسجين، والأوكسجين هما المتفاعلات، ومركب الهيموجلوبين المحمَّل بالأوكسجين هو الناتج. ويُمكن أن نوضح هذا التفاعل بالمعادلة الآتية: وعندما يحوي الغلاف الجوي كميةً أقلَّ من الأوكسجين، كما هي الحال في الارتفاعات الشاهقة، فإنه قد لا يتدفَّق القدر الكافي من الأوكسجين إلى الرئتَين. وعندما لا تحصل الرئتان على حاجتهما من الأوكسجين يُصاب الفرد بالهيبوكسيا أو نقص الأوكسجين الذي قد يُسبِّب وجعًا في الرأس وإعياءً ودُوارًا وتعثرًا وغثيانًا. ويفقد الجسم توازنه، وهو أمر سيِّئ بالنسبة إلى الجسم. عندئذٍ يعمل الجسم على أساس مبادئ الاتزان؛ لذا إذا حدث عجزٌ في مكان ما، فإن الجسم يتدبر أمر نفسِه؛ كي يُعوض هذا العجز. وبالتأكيد لا يستطيع الجسم أن يُنتج الأوكسجين؛ لذا فهو يقوم بالخيار التالي الذي أمامه فيصنع المزيد من مادة المكونات الأخرى وهي الهيموجلوبين؛ ومن ثم يمتلك قاطنو الجبال هيموجلوبينًا أكثرَ من أولئك الذين يعيشون في مستوى سطح البحر مرةً ونصفَ المرة. وحتمًا يُسبب صنع المزيد من الهيموجلوبين نقصًا في البروتينات المستخدمة لصنع الهيموجلوبين مما يضغط على الخلايا لصنع المزيد من هذه البروتينات مما يخلق سلسلة كاملة منتظمة من تفاعلات إعادة التوازن التي تحدث جميعها بدافع تقليل الطاقة وتعظيم الأنتروبيا. والسؤال هنا: أيُوجَد تفاعلٌ كيميائي لا ينطوي على تغيير في الطاقة والأنتروبيا؟ بالطبع لا. فتعريف التفاعل الكيميائي نفسه يقول إنه إذا كانت هناك مادةٌ جديدة تتكون، فثمة روابطُ كيميائية تتكوَّن وروابط تتكسَّر، مما يعني أنه سيكون هناك تغييرٌ في الطاقة والروابط. في حقيقة الأمر، من الصعب أن نتخيل حدوث أية عملية، فيزيائيةً كانت أم كيميائية، تتضمَّن وجود طاقة دون أن يُصاحبها وجود أنتروبيا. ومع ذلك، فثمة بعضُ العمليات الفيزيائية التي تدفعها الأنتروبيا ولا يُصاحبها أي تغيير فعلي في الطاقة. ويُعَد الخلط الطبيعي لألوان الطعام والماء مثالًا على العمليات المدفوعة بالأنتروبيا. ففعليًّا، ثمة فئةٌ كاملة من التفاعلات التي تدفعها الأنتروبيا وهو ما سنتعرَّض له الآن.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.26/
تجربة ١٦: موانع التجمد وموانع الغليان
سوف نشرح في هذه المجموعة المكونة من أربع تَجارِب الخصائصَ الترابطية الأربعَ للمحلول. وتصف الخصائص الترابطية الأربعُ للمحلول كيف أن وجود المذاب يُغير سلوك تغيُّر الحالة للمذيب. وتتشابك هذه الخصائص معًا لدرجة أنها لا تعتمد إلا على الطريقة التي يُوجَد بها العديد من جسيمات المذيب معًا، ولا تعتمد على هُوية الجسيمات نفسِها. ويُمكن أن نُشبه ذلك بسلوك الجموع المحتشدة معًا من الناس، فهذه الجموع تميل إلى أن تتصرف بطريقةٍ تتوقف على حجم الجموع، وليس على الطبائع الفردية للناس الذين تتكون منهم المجموعة. وحتمًا تحظى شخصيات الناس بأهميتها عند مستوًى معين، وكذلك يكون لخصائص الجسيمات أهميتُها في مواقف معينة أيضًا. غير أن التأثير النهائي الذي هو سلوك الجموع هو ما نُعنى به هنا. والخصائص الترابطية التي سنُلاحظها هي: الانخفاض في درجة التجمد، والارتفاع في درجة الغليان، وتقليل الضغط البخاري، والأزموسية (الانتشار الغشائي). وعليك الآن أن ترتديَ نظارة الأمان الواقية إذ سنقوم بإجراء التجارِب الأربعِ جميعها. لإثبات الانخفاض في درجة التجمُّد، خذ زجاجتَي صودا أو ماءٍ مصنوعتَين من البلاستيك وقديمتَين، ومعهما أغطيتُهما ثم اغسلهما جيدًا بالماء. ضع كوبَ ماءٍ (٢٤٠ مليلترًا) في كِلتَيهما ثم أغلق إحداهما. ضع في الأخرى ملءَ ملعقة كبيرة (١٥ مليلترًا) من ملح الطعام، ثم غطِّها ورُجَّها جيدًا. إذا ذاب كل الملح في الماء ضع مرة أخرى القليلَ من الملح ورجَّ الزجاجة أيضًا. استمِر في إضافة كميات قليلة من الملح إلى أن تجد الملح لا يذوب بعد رج الزجاجة ويترسب بعضه في قاع الزجاجة. ضع علامة على الزجاجة المذاب فيها الملح بقلم فوسفوري أو بشريط لاصق، أحكم غلق الزجاجتَين وضع كلتَيهما في المجمد. لاحِظ الزجاجتَين من وقت لآخر، ستجد أن الماء العاديَّ قد تجمد كما هو متوقع، أما الزجاجة التي تحوي المحلول المشبع بالملح فنجد أن المحلول لا يتجمد إلا عند درجة حرارة منخفضة جدًّا، ولا تُوجَد درجة الحرارة هذه في المجمد العادي، مما يدل على الانخفاض في درجة التجمد. ويُمكنك أن تترك الزجاجتَين في المجمد إلى أن تقتنع أن المحلول الملحي لن يتجمد. وقد تكون الخاصية التي أوضحناها في التجرِبة الأولى مألوفةً لديك إذا استخدمت من قبل الماكينة المستخدمة في صنع الآيس كريم. في هذه الماكينة، يُصَب خليط الآيس كريم في وعاء وهذا الوعاء موضوع في حمام من المحلول الملحي المجمد. ويُبرد خليط الآيس كريم المتلامس مع الثلج الملحي عند درجةٍ أقلَّ من درجة تجمد الماء. من ثم عندما يتلامس الماء الموجود في الكريم مع جوانب الوعاء، يتجمد. وتُدار الريشة المستخدمة في التقليب على نحوٍ ثابتٍ حتى يأخذ الكريم والثلج شكلًا شبه جامد وموحدًا. وتنخفض درجة تجمد خليط الآيس كريم المتلامس مع الثلج الملحي بسبب وجود مذاب منحل (الملح) في المذيب (الماء). وتقوم فكرة عمل موانع التجمد على نفس المبدأ. وموانع التجمد هي موادُّ غير مسببة للتآكل، وهي تلك الموادُّ التي تُضاف إلى مياه مبرد السيارة لتقليل درجة التجمد؛ ومن ثَم لا تتجمد مياه مبرد السيارة بسهولة. أما الخاصية الترابطية الثانية التي تُدعى الارتفاع في درجة الغليان، فيُمكن التدليل عليها باستخدام الخل. يُظهِر الخلُّ تأثيرات ترابطية؛ لأنه محلول حامض الخلِّيك المذاب في الماء. ويُمكنك أن تقيس درجة غليان الخل باستخدام الترمومتر ذي المقياس الكبير المقترَح في قائمة المشترَيات والمحاليل. ولا تكون هذه الترمومترات على قدرٍ من الدقة في كل الأوقات؛ ومِن ثَم لكي ترى الفرق عليك أن تُقارن درجة حرارة الخل المغلي بدرجة حرارة الماء المغلي عن طريق وضع الترمومتر أولًا في أحدِهما ثم في الآخر. ولا بد أنك ستجد أن الخل يغلي عند درجة ٢١٦ فهرنهايت (١٠٢ درجة سيليزية) على حد التقريب بدلًا من درجة ٢١٢ فهرنهايت (١٠٠ درجة سيليزية)، وهي درجة الحرارة التي يغلي عندها الماء النقي. وقد لا يُعطيك الترمومتر هذه القراءة بالضبط، فينبغي أن تظل درجة الغليان التي للخل أعلى من تلك التي للماء. وتكون درجة حرارة المحلول أعلى في حال وجود المذاب، وهو ما يُعَد مثالًا على الارتفاع في درجة الغليان. وتتضمَّن تجربتنا الثالثة القدرةَ المنخفضة للمحلول على التبخر عند مقارنته بالمذيب النقي. وأود أن أُكرر مرة أخرى أن هذه الخاصية التي يُطلَق عليها «تقليل الضغط البخاري»، لا تعتمد على الطبيعة الكيميائية للمادة لكن على الكم المنحل من المذاب في المذيب. أحضر ملعقتَين، وافْرُك ثلاثة أقراص أسبرين، ثم خذ كوبَين شفافَين صغيريَن، وضع الأسبرين المفروك في أحدهما. صب في كلٍّ منهما نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) من كحول الأبيزبروبيل. ومن الضروري أن يكون المحلول عند نفس المستوى في كلٍّ منهما. قلِّب الكوب الذي يحوي كحول الأيزوبروبيل والأسبرين لتخلط المحتويات (قد يظل البعض غير ذائب). ضع بطاقة على كلٍّ منهما لتُميز أيُّ الكوبَين يحوي الأسبرين، ثم ضعهما في وسط متماثل؛ ومِن ثَم يحصلان عل نفس القدر من الحرارة والتيار الهوائي وغير ذلك. ويُفضَّل أن يُوضَع الكوبان متلاصقَين في وعاء. اتركهما نحو ساعة، عندئذٍ عليك أن تُلاحظ اختلافًا واضحًا في مستوى الكوبَين. ومع أن المذيب يتبخَّر من كلا الكوبَين، فإنه يتبخَّر بدرجة أكثر بطئًا من الكوب الذي يحوي الأسبرين. يحدث التأثير نفسُه عند استخدام أقراص الفيتامين أو الحديد المذابة في الكحول؛ من ثَم فالذي يُحدث التأثير هو وجود المذاب وليس طبيعته. ولكي تعرف أن عدد جسيمات المذاب يُحدِث اختلافًا، جرِّب تجربة الأسبرين السابقة مرة أخرى باستخدام ثلاثة أو أربعة أكواب، ونوِّع عدد الأسبرين في كل كوب. وبعد أن تتركها تتبخر لما يقرب من ساعة، ستحصل على ثلاثة أو أربعة مستويات مختلفة تمامًا من المذيب تتنوع ما بين القليل في الكوب الذي يحتوي على أقل عدد من الأسبرين إلى المرتفع في الكوب الذي يحتوي على أكبر عدد من الأسبرين. وآخر خاصية ترابطية سنوضحها هي الأزموسية، وتُعَد الأزموسية أكثر تخصصية إلى حدٍّ ما؛ نظرًا إلى أنها تتطلب غشاء شبه منفذ. والغشاء شبهُ المنفذ هو تلك المادة التي تسمح بنفاذ جزيئات المذيب وليس جزيئات المذاب. يتدفق المذيب في عملية الأزموسية من أحد المحاليل إلى الآخر عبر غشاء شبه منفذ. وإذا كان كلا الوعاءَين معرَّضَين لنفس الضغط الجوي، فإن اتجاه التدفق يكون من المحلول الأكثرِ تخفيفًا إلى المحلول الأكثر تركيزًا. ولكي نُبين تدفق المذيب إلى المحلول الأكثر تركيزًا، ضع زبيبة أو أي قطعة أخرى من الفاكهة المجفَّفة في الماء ثم لاحِظها بعد مرور ما يقرب ساعة، تجد أن الزبيبة تنتفخ إذ ينتقل المذيب النقي الذي هو الماء عبر الغشاء شبه المنفذ — الذي هو قشرة الزبيبة — إلى الزبيبة وإلى خلاياها في محاولة لتخفيف المكونات المركزة للخلايا. ولكي نُبين تدفق المذيب من المحلول الأقل ملحية للخلايا إلى المحلول الشديد الملوحة، قطع شريحتَين من البطاطس النيئة بحيث تكونان رفيعتَين بقدر الإمكان. وستجد أن شريحة البطاطس النِّيئة الرفيعة للغاية لا تزال قوية ونضرة؛ لأن الخلايا المكونة للبطاطس تكون مشبعة بالماء. ضع إحدى الشريحتَين في محلول ملحي شديد الملوحة بإضافة ملعقة كبيرة (١٥ مليلترًا) من ملح الطعام إلى نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) ماء. ضع الشريحة الأخرى في ماء نقي. انتظر لمدة نصف ساعة ثم أخرِج كِلتا الشريحتَين ثم افحصهما. نجد أن الشريحة التي كانت موضوعة في الماء النقي لا تزال نضرة، أما الشريحة التي كانت موضوعة في المحلول الملحي فستكون رخوة وضعيفة. قارن شريحة البطاطس التي كانت موضوعة في المحلول الملحي بشريحة بطاطس جديدة مقطوعة للتو، لتتبيَّن الفرق. السبب في ضَعف شريحة البطاطس هو أن بعض الماء ترك الخلايا وانتقل إلى المحلول الأكثر ملحية. ويُعبِّر عن حركة المذيب في الأزموسية التي تبدو سهلة مصطلحُ «التعلم بواسطة الأزموسية». وينطوي التعلمُ بواسطة الأزموسية على أنه يُمكن التشبُّع بالمعرفة عن طريق مجرد الجوار، أي الوجود الزمني أو المكاني معها، ولا يتطلب الأمر جهودًا من قبل المتعلم، لكن هذا غير صحيح، فما كان التعليم بلا عناء أبدًا، وسواءٌ في التعليم أو في الكيمياء، فثمَّة قُوًى تدفع الأزموسية، كما هو الحال مع سائر الخصائص الترابطية الأخرى، كما سنكتشف في الصفحة التالية.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.16/
الخصائص الترابطية: القوة في الأعداد
في العلوم التجريبية، نُطلِق على الأشياء التي نعرفها «قوانين الحتمية» والتي نجهلها «القوة الحيوية». والقوة الحيوية ما هي إلا مصطلح يُعبِّر عن البقية المجهولة، إلى جانب ما نعرفه عن جوهر هذه الحياة. عند التعامل مع التفاعلات الكيميائية، عادةً تتعلق الأسئلة الأولى بنوعيَّة المادة؛ ما المادة المتفاعلة؟ وماذا سيكون الناتج؟ ما رائحته؟ لكن عندما يتعلق الأمر بالخصائص الترابطية للمحاليل، يكون السؤال: ما مقدار المذاب؟ وليس ما نوعه؟ بكلمات أخرى، قد يُهمك إذا كنت ستضع سكرًا أم خمرًا في الشاي الخاص بك، أما الخصائص الترابطية للشاي فلا تهم البتة ما دمت ستضع عدد الجزيئات نفسه من السكر أو الخمر. والخصائص الترابطية للمحاليل هي خصائصُ فيزيائية وليست كيميائية؛ لأن الطبيعة الكيميائية للمذاب وللمذيب ستظل كما هي دون تغيير. في الواقع، في المحاليل التي تحوي قوًى بينجزيئية شديدة بين الجسيمات، قد تتصرف المواد المذابة المختلفة بطرق مختلفة بدرجة طفيفة، غير أن التأثير العام سيكون هو نفسه. وتكون هذه التأثيرات وثيقة الصلة بعمليات كيميائية عديدة، ويُمكنها أن تتحكم في الظروف المتنوعة تنوعًا كبيرًا قدر تنوع المهام التي تقوم بها الخلايا الحية للحفاظ على الحياة على الطريق السريع. وتُعد الخصائص الترابطية للمحاليل هي خصائصَ تغير الحالة، وتتضمن مجموعة غريبة من التأثيرات. يُشير الانخفاض في درجة التجمد إلى الملاحظة التي تقول إن المحاليل تتمتع بدرجة تجمد منخفضة عن درجة تجمد المذيبات النقية. فكلما أُضيفت جسيمات من المذاب انخفضَت درجة التجمد. ويستفيد العاملون بالطرق من هذا التأثير في الشتاء فيقومون برشِّ الملح على الطرق الجليدية لإذابة الجليد، فكما ذكرنا في مناقشتنا لتغيرات الحالة أن الجليد يُغطَّى بطبقة رقيقة من الماء بسبب التوازن الحادث بين حالات المادة. ويذوب الملح المرشوش على الجليد في طبقة الماء التي تكسو الجليد ويُكوِّن محلولًا مركزًا جدًّا. وكما أشرنا من قبل، يكون التوازن حركيًّا بمعنى أن الجزيئات في الحالة الصلبة تقوم باستمرار بتبادل الأماكن مع الجزيئات في الحالة السائلة، لكن الموقف يختلف قليلًا في هذه الحالة، فعندما تتحرك الجزيئات الصلبة نحو المحلول، فإنها تكون محلولًا لم يعد عند نقطة التجمد، وعليه لا تعود مرةً أخرى إلى الحالة الصُّلبة، فالاتزان يميل إلى اتجاه الحالة السائلة، ويجد عددٌ أكثر فأكثر من الجزيئات نفسه في المحلول. وتُستخدَم الرمال أيضًا أحيانًا في الطرق الزلِقة، غير أن الرمال تصلح للاستخدام في المواقف التي تتضمَّن وجود الجليد أو في الأماكن الموحِلة حيث يُمثل السَّحبُ والجر مشكلة. وعندما يكون الهدف هو إذابةَ الجليد، تُستدعى على الفور شاحنات الملح. وتُشير خاصية الارتفاع في درجة الغليان إلى حقيقة أن المحاليل تغلي عند درجاتٍ أعلى من تلك التي تغلي عندها المذيبات النقية. فكلما وُجد المزيد من المواد المذابة ارتفعت درجة الغليان. وعند إضافة مذاب مثل إحدى المواد المانعة للتجمد إلى مذيب مثل ماء مبرد السيارة، فإن درجة تجمد المحلول في المبرد تنخفض؛ ومن ثَم لا يتجمد بسهولة. وقد اتضح أنه يُمكن أن يُطلَق على موانع التجمد، موانع الغليان أيضًا؛ لأن الموادَّ التي تُساعد في حفظ مبرد السيارة من التجمد هي نفسُها التي تُساعد في حفظه من الغليان، لكنَّ ثمَّة تحذيرَين ينبغي أن نذكرهما هنا؛ أولهما: موانع التجمد وموانع الغليان التي لا تتطلَّب مبردات لا تتجمد أو تغلي أبدًا، كل ما هنالك أنه يجب الوصول إلى درجة أقلَّ من درجة التجمد أو درجة أعلى من درجة الغليان لتحقيق التجمد أو الغليان. وثانيهما: المادة مانعة التجمد التي تُضاف إلى المبرد هي مادة مُتخمرة سامة؛ ومن ثَم لا ينبغي تجربتها. وعندما نتحدث عن تقليل الضغط البخاري، فإننا نتحدث عن تصرف الأدخنة؛ أي مُذيب متطاير لديه أدخنة مقترنة به، مثل الأدخنة اللاذعة التي تقترن بالبنزين أو الكحول. يُشار في لغة الكيمياء إلى هذه الأدخنة على أنها الأبخرة المتصاعدة فوق المذيب، وتتوقف كمية الأبخرة المقترنة بمذيب على درجة حرارة المذيب وهو السبب الذي يربط الكثيرون من أجله أدخنةَ البنزين بحرارة الصيف أكثرَ من برودة الشتاء. ويتوقَّف ضغط الأبخرة أيضًا على مقدار المذاب المنحلِّ في المذيب. أما خاصية الأزموسية فهي مَيل المذيب إلى التدفق في اتجاه المحاليل الملحية لتخفيفها. والأزموسية هي التي تتولَّى مسئولية إحياء أوراق نبات الكرفس الذابلة عند نقعها في الماء النقي؛ إذ يتدفق الماء إلى داخل خلايا الكرفس كي يُخفف الخلايا الملحية. والأزموسية هي المسئولة عن تخليل المخللات؛ إذ يتدفق الماء خارج المخللات ليُخفف المحلول الملحيَّ للمخلل. كيف يصل الطعم إلى المخلل؟ الأزموسية هي المسئولة عن الوصول إلى الاتزان، والمواقف التي يحدث فيها الاتزان هي مواقفُ ديناميكية. وفي الاتزان يُعاد توزيع الجزيئات التي تحمل النكهة بين المخلل والمحلول الملحي. لنتذكر معًا التجربةَ التي استُخدِم فيها ورق الحمَّام وألوان الطعام؛ فقد سُمِح لورق الحمام وهو في حالة اتزان أن يحمل قدرًا من الماء من جزء من الكوب، وعندئذٍ أُضيفَت صبغة الطعام إلى هذا الجزء من الكوب. ولأن الاتزان ديناميكي؛ فإن بعض ألوان الطعام انتقلت إلى الورقة. وفي حالة المخللات، في وضع الاتزان، يكون مقدار من الماء خارج خلايا المخلل أكثرَ من مقداره داخلها، لكن ينتقل جزء من النكهة الموجودة في المحلول الملحي إلى داخل المخلل. تُوجَد الخلايا، وهذه الخلايا هي السبب في الحياة لأن أغشية الخلية أغشيةٌ شبهُ مُنفذة، أي تسمح بدخول احتياجات الخلية إليها وتسمح بطردِ ما لا تحتاجه، كما تحافظ على محتويات الخلية من أن تُهدَر خارجها أو تقطر بعيدًا. ويُمكن لواحد من هؤلاء الذين يمكثون أوقاتًا طويلة في حوض استحمام أن يرى مثالًا على عمل الغشاء شبه المنفذ للخلية؛ إذ تتجعد بشرتهم. وإذا سألت بعضهم عن السبب، سيُجيب الكثيرون أن سبب هذا التجعيد هو فقدان البشَرة للماء. في حقيقة الأمر، تحدث هذه الانثناءات والتجعيدات للبشرة بسبب انتفاخ البشَرة بالماء الذي امتصَّته، فالسائل الذي يُوجَد في البشَرة هو خليط من المواد المذابة تركيزه عالٍ جدًّا، فهو يتركب من بروتينات وأملاح وسكريات وبعض الجزيئات الأخرى، وعليه يُحاول الماء الموجود في حوض الاستحمام أن يتدفق إلى الخلايا في محاولةٍ لتخفيف تركيز محتويات الخلية. ومع ذلك، فلا يزال يشوب الخصائصَ الترابطية للمحاليل قدرٌ من الغموض منها وفي طبيعتها ذاتها. ويُشير الرأي السائد إلى أن ثمَّة عاملَين أساسيَّين يدفعان السلوك الترابطي الذي يجري ملاحظته؛ أحدهما هو أن الوجود الفيزيائي للمذاب في المحلول يعوق الدور المعتاد الذي تُؤدِّيه جسيمات المذيب. فعلى سبيل المثال، ينخفض الضغط البخاري؛ لأن جُسيمات المذاب تَشغل بعض مناطق السطح التي من المفترض أن يرحل منها المذيب إلى الحالة الغازية. ويتسبَّب هذا المنع للبخار في انخفاض الضغط البخاري — ومن ثم ارتفاع درجة الغليان — وذلك لأن الغليان يحدث عندما يتساوى الضغط البخاريُّ للمذيب مع الضغط المحيط وعندئذٍ يُمكن لفقاعات البخار أن تتصاعد. ويُمكِن لجزيئات المذاب أن تعوق أيضًا قوى الجذب البينجزيئية التي تُسهل عملية التجمد؛ ومن ثَم تعمل على انخفاض درجة التجمد. ولكن، مع أن هذه التأثيرات لها تعليلاتها، فإن الدافع الرئيسيَّ وراء الخصائص الترابطية المرصودة هو الأنتروبيا. ذكرنا من قبل أن النظام يميل إلى حالة من الفوضى العارمة، أي حالة أنتروبيا قصوى، وأن المحلول المخفَّف أكثر فوضوية من المحلول المركز. والآن تخيل موقفَين متناقضَين تمامًا، يُوجَد في أحدهما جُسيمان — واحد لمذاب والآخر لمذيب — وفي الموقف الثاني يُوجَد جسيمٌ واحد من مذاب موضوعٍ في بحر من مُذيب. يُعتبَر الموقف الأول منظمًا للغاية؛ إذ يسهل تحديد موضع جسيم المذاب، أما في الموقف الثاني فيُعتبَر غايةً في الفوضى إذ يستحيل تحديد موضع جسيم المذاب الموضوع في بحر من المذيب، ومن ثَم فكلما زادت خفةُ المحلول زادت فوضويته. ويميل النظام بطبيعته إلى حالةٍ من الأنتروبيا القصوى، كما شدَّدنا على ذلك في مناقشتنا للديناميكا الحرارية. وتميل الأنظمة الكيميائية والفيزيائية على حدٍّ سواء نحو الفوضى، فهذه هي حالتها الطبيعية، فالغازات تتمدَّد، والأصباغ تنتشر، والمخاليط تبذل ما في وسعها كي تصبح مُخففة، والمحاليل لا تُريد أن تفقد المذيبات كي تُصبح مركزة؛ إذ إن الأنتروبيا تزيد بالتخفيف. ويُقلِّل الضغط البخاري للمحلول، كي لا يفقد المحلول المذيب ويُصبح أكثر تركيزًا. وتُرفَع درجة الغليان للسبب عينِه. وتزيد الأنتروبيا أيضًا في الحالة السائلة عن الحالة الصلبة؛ ومن ثَم يمنع التجمد حدوث الأنتروبيا. وعليه، تختبر المحاليل انخفاض درجة التجمد. ويكون الدافع في الأزموسية هو السعيَ نحو محلول منظَّم مخفف كوسيلة لزيادة الأنتروبيا. وبالمرور عبر المخللات إلى الكرفس إلى الخلايا، إذا كان هناك قوًى حيوية وراءها، فستكون الأنتروبيا. ما الذي ينبغي أن تفعله الكُلى حيال المخللات والكرفس؟ في الواقع، هي تقوم بدورٍ لا بأس به حيالَهما. تبرز الخصائص الترابطية في كيمياء الجسم بدرجة كبيرة؛ لأن الجسم محلولٌ ملحي واحد كبير موزَّع في خلايا عن طريق الأغشية شبه المنفذة. غير أن الأغشية شبهَ المنفذة للخلايا لديها دورٌ تُؤديه يفوق في أهميته مجرد السماح للماء بالنفاذ إلى الخلايا الذابلة في نبات الكرفس أو النفاذ من المخللات. يغمر الدم الخلايا في محلول مركَّب من جسيمات متنوعة إلى جانب الماء، علاوة على أن الخلايا نفسَها تحوي سائلًا مكونًا من جسيمات مُتنوعة إلى جانب الماء أيضًا. بعض هذه الجسيمات كبير نسبيًّا والبعض الآخر صغير نسبيًّا. ويكون البعض منها أيونات والبعض الآخر متعادل، وبعضها قطبي والآخر غير قطبي، وجسيمات يُفترَض وجودها، وأخرى لا يُفترَض وجودها. ولكي يُضبَط تركيب محتويات الخلية، يجب أن تُوجَد احتياجات الخلية في الدم وينعدم فيه أي شيء تعتبره الخلية فضلات. والجانب الشائك هنا هو تقرير أي هذه الأشياء فضلات وأيها ليس كذلك، بمعنى تقرير أيهما سيبقى وأيهما سيُخرج. فعلى سبيل المثال، اليوريا، الذي هو نتاج هضم البروتين والذي اشتقت منه كلمة يورين، يجب أن يجري التخلص منه. وكذلك الفضلات الأخرى الناتجة عن عمليات الأيض، أو أي سموم تنتجها البكتيريا، أو أي بقايا أدوية أو مواد غير مستخدمة أو هرمونات زائدة. ومن ناحية أخرى، لا ينبغي التخلص من الجلوكوز أو إفراز البروتينات، وينبغي الاحتفاظ بالفيتامينات والكالسيوم ونسبة معينة من الصوديوم والمعادن الأخرى. غير أنه ينبغي ضبط كمية الماء؛ لأن ارتفاع الماء في الدم مضرٌّ لأن الدم إذا أصبح مخففًا للغاية حينئذٍ لن يُوجَد قدر كافٍ من المواد الغذائية كي تُنقل إلى الخلية. وإذا كان الدم يحوي كمية قليلة من الماء، فإن العملية الفيزيائية المتعلقة بضخ الدم في كل أنحاء الجسم سوف تضعف، ووظيفة الكُليتين هي فرز المواد المتنوعة التي تطفو بالقرب منها ثم تختار ما تحتفظ به وما تطرده. ويُعتبَر الترشيح الجيد والمعروف منذ القِدَم هو إحدى الآليات المباشرة التي تستخدمها الكُلى؛ إذ تُخفِّض نسبة الماء والجزيئات الصَّغيرة باستخدام الضغط، كما في ماكينة صنع القهوة. فالمحلول الذي يمرُّ عبر المرشِّحات يُطلَق عليه «المادة المُرشحَة» (التي تُقابلها القهوة في ماكينة صنع القهوة). وتكون خلايا الدمِ الحمراء كبيرةً في الحجم على أن تُرشح عند هذه الدرجة، وينبغي أن تبقى بعيدةً عن عملية الترشيح. ويُشير وجود أي خلايا دمٍ حمراءَ في البول إلى إمكانية حدوث ارتشاح في الشُّعيرات الدموية، وينبغي استشارةُ الطبيب في هذه الحالة. غير أن المرشِّح لا يُمكنه أن يُفرِّق جيدًا بين الأشياء التي يجب التخلُّص منها والأشياء التي لا يجب؛ فبعض الموادِّ التي يجب أن تُحتجَز تكون دقيقةً للغاية حتى إنها تستطيع المرور. وتُعوَّض الكُلى عن ذلك باحتوائها على بروتينات خاصة تُدعى «الناقلات» تُوجَد على أغشية الكُلى، التي يُمكنها أن تُميز الجزيئات وتُعيد امتصاصها مثل بعض أنواع السكر والبروتين. وبالطبع يكون للجسم ناقلاتٌ خاصة لهذه المواد فحَسْب؛ يصنعها بنفسه، أو يأخذها بانتظامٍ من البيئة الداخلية. ويُصنِّف الجسمُ الأدوية التي يصنعها الإنسان على أنها فضلات، وعليه يجري التخلص منها؛ ومن ثَم يجب أن يُضبَط وقتُ جرعات الدواء وكمياتها بما يحفظ كمياتٍ مناسبةً منه في الدم. وليست مُعدلات الأيض وحدَها هي التي يُمكن التحكُّم فيها، فالتفاعلات الكيميائية كافةً — بداية من أكثر التفاعلات نشاطًا إلى أبطئها — تقوم على مجموعةٍ من القواعد والمبادئ، وهو ما سننتقل إليه الآن.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.27/
تجربة ١٧: لمزيد من الإثارة
شاهدتُ رجلًا يزِن مائتي رطل يجلس على مكتبه وهو يتسلَّم إحدى البرقيات … أعطى الرجلُ الصبيَّ خمسة سنتات، ثم فتح الظرف وقرأ البرقية. صاح الرجل بعدها قائلًا: «يا إلهي!» قفز ليلتقط قبعته ومعطفه وركض نحو المصعد، ثم استقل سيارة أجرة إلى محطة القطار … لقد كان أشبهَ بمجموعة من البلَّورات المرصوصة في أنبوبة الكيميائي ومقدار قليل جدًّا من الملح … أنا أعرف صانع أحذية يعمل في بدرو، وكان هذا الرجل يركب نصف نعل في الحذاء، وعندما سألته عن ذلك أجابني قائلًا: «أنا أدفع فواتيري، وأحب زوجتي، ولا أخشى أحدًا.» وثب سايم على قدَمَيه، وارتدَّ قليلًا للوراء مثلما يرتد مُحاضِر الكيمياء لدى إجرائه انفجارًا ناجحًا. يُؤثِّر عاملان رئيسان على معدل التفاعل الكيميائي — علم حركة التفاعلات الكيميائية — وهما التركيز ودرجة الحرارة. ويُمكن توضيح كِلَيهما بسهولة ويُسر باستخدام موادَّ من «قائمة المشتريات والمحاليل». لإجراء التجرِبة الأولى، ارتدِ نظارة الأمان الواقيةَ وصُب مباشرة نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) من مادة التبييض المنزلية في كوبَين صغيرَين شفافَين. وكن حذرًا من أن تنشر رذاذ المادة المبيضة، صبَّها بالطريقة نفسِها التي تصبها بها عند الغسيل، وقد تحتاج إلى ارتداء قفَّاز لحماية يدَيك. ضع كِلا الكوبَين على فرخ ورق أبيض حتى يُمكنك أن تُلاحظ اللون بسهولة. تأكد من وجود ساعة إيقاف أو ساعة حائط في مكان ذي رؤية مناسبة. أضف قطرتَين من دليل الميثيل الأحمر (الموجود في عُبُوَّة اختبار قاعدية مياه حمام السباحة) للكوب الأول. بعدما أضفتَ نقطتَين إلى الكوب الأول، أضف بعدها مباشرة إلى الكوب الثاني أربع قطرات. قلِّب كلا الكوبَين برِفق للتأكُّد من حدوث امتزاج. ضع كلا الكوبَين على فرخ الورق الأبيض، ثم دوِّن على الورقة الوقت الذي أُضيفت عنده القطرات في كلا الكوبَين. نجد أن اللون الأحمر الموجود في كلا الكوبَين يتلاشى تدريجيًّا في وقت يتراوح بين خمس وعشر دقائق؛ إذ تُهاجم مادة التبييض جزيئات الصبغة التي تُلون المحاليل. عندما يختفي اللون الأحمر من الكوب الذي يحوي القطرتَين، دوِّن الوقت المستغرق على الورقة ثم عاوِد ملاحظة الكوب الذي يحوي القطرات الأربع، ثم دوِّن أيضًا وقت انتهاء التفاعل. يُمكنك أن تُفرغ كل المحتويات في المرحاض، وتجنب نشر رذاذ مادة التبييض. يُمكنك أن تُشاهد اللون وهو يزول لأن التفاعلات الكيميائية تستغرق وقتًا لحدوثها؛ فبعض التفاعلات سريع جدًّا والبعض الآخر بطيء جدًّا، لكن جميعها يستغرق وقتًا. وتفاعل مادة التبييض له سرعة معينة حتى إنه يُمكننا أن نُلاحظ عملية التفاعل دون أن ننتظر لسنواتٍ طِوال. وحتمًا لاحظتَ أن الكوب الذي يحوي أربع قطرات من الصبغة يستغرق وقتًا أطولَ حتى يُتمم التفاعل أكثر من الكوب الذي يحوي قطرتَين. غير أنه لا يُشترَط أن الكوب الذي يحوي أربع قطرات يستغرق ضِعف الوقت الذي يستغرقه الكوب الذي يحوي القطرتَين، مع أن مادة التبييض تُهاجم في هذه الحالة كمية مضاعفة من الصبغة. ويتأثر معدل التفاعل بتغير التركيز، لكن لا يحدث عادة هذا التأثير بطريقة مباشرة. ويُمكن توضيح تأثير درجة الحرارة على معدل التفاعل الكيميائي باستخدام قرصَي فوار مضاد للحموضة، وكوبَين وماء صنبور. ضع في أحد الكوبَين نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) ماءً فاترًا من صنبور الماء البارد. وضع في الكوب الآخر الكمية نفسَها من الماء الساخن من صنبور الماء الساخن. ضع قرصًا فوارًا في كل كوب في الوقت نفسِه. نجد أن فعل الفوران يكون أكثرَ حركةً في الكوب الذي يحوي الماء الساخن من الكوب الذي يحوي الماء الفاتر. تعمل درجة الحرارة الأعلى في هذه الحالة بطريقتَين، فهي تدفع المزيد من الفقاعات خارج المحلول (وهذا هو السبب نفسُه الذي يجعلك حذرًا وأنت تفتح علبة مياه غازية دافئة)، كما تَزيد معدل التفاعل لأن الجزيئات ذات درجة الحرارة المرتفعة تتحرك بدرجة أسرع، وأحيانًا يجد بعضُها بعضًا، وعندما يجد بعضها بعضًا تتصادم بطريقة عنيفة. وهذا التأثير وغيره من المبادئ فيما يرتبط بالحركيَّة الكيميائية، هي موضوع مناقشتنا التالية.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.17/
الحركية الكيميائية: انفجار حقيقي
حسنًا. أنتِ إنسانة بريئة مباركة! … الحياة لن تظلَّ هادئة مع فتاة في التاسعةَ عشْرة من عمرها تعيش في مثل هذا المكان. قد تخدعين نفسك، لكنكِ لا تستطيعين أن تخدعيني. ألا تتفاعل فتاة في التاسعة عشرة من عمرها مع الأشياء! إنها قد تنفجر! الأشياء لا تتفاعل في أي مكان باستثناء بوسطن وفي المختبَرات الكيميائية. أظن أنكِ تعلمين أنكِ تصطحبين معكِ قنبلةً إنسانية إلى مستودَع أسلحة، ألست كذلك؟ تتعامل الديناميكا الحرارية كما ذكَرنا من قبلُ مع تأثيرات الحرارة والأنتروبيا على الاتزان، وهي تُفيد في التنبُّؤ بالمدى الذي سيحدث عنده التفاعل، لكن الديناميكا الحرارية تُشبِه طفلًا مشاغبًا يتجنَّب القيام بمهامه اليوميَّة؛ فهي قد تُخبِرك بأن التفاعل سيحدث لكن لن تُخبرك متى، فعلى سبيل المثال، تتنبَّأ الدِّيناميكا الحرارية بأن الجرافيت هو أحدُ أشكال الكربون النقيِّ الأكثرِ ثباتًا من الماس، وعليه سيتحوَّل كل الماس في آخر الأمر إلى جرافيت، لكني أودُّ أن أنصحك قبل أن تَشرع في تعديل حافظتك الاستثمارية بأن هذا التحوُّل قد يستغرق مليارات السنين. ولا ينبغي أن تُلام الديناميكا الحراريَّة؛ فثمَّة مُمارسات عديدة تكون أكثرَ سهولةً في التنبُّؤ بحدوث الحدث من معرفةِ توقيت حدوثه. فعلى سبيل المثال، يُمكننا توقُّع أننا حتمًا سنموت، لكن لك أن تتخيل كيف كنا سنتصرف إذا عرَفنا متى! لكن بصرف النظر عن القابلية للتنبؤ، من الضروري جدًّا معرفة معدلات التفاعل عند التحكم بالتفاعلات الكيميائية. قد لا نتعرض في حديثنا اليومي لتحول الماس تدريجيًّا إلى تراب الكربون، غير أن الانفجارات هي التي تتصدر الأخبار الليلية. والغرض من دراسة معدلات التفاعلات — الحركية الكيميائية — هو قياس ودراسة معدلات التفاعلات الكيميائية بالعين التي تُمكننا من التنبؤ بمدى السرعة أو البطء اللذَين يحدث بهما التفاعل الكيميائي وكيفية تعجيله أو إبطائه حسبما تتطلب الحاجة. ولكن المسافة التي يقطعها جزيء غاز واحد في الثانية الواحدة، تحت الضغط الجوي العادي، لا تكون في خطٍّ مستقيم؛ وذلك لأن كثافة جزيئات الغلاف الجويِّ تحت الظروف العادية في الأرض تكون هي تلك الكثافةَ التي يمرُّ عندها الجزيء الواحد في الحالة الغازية بما يقرب من سبعة مليارات تصادم كل ثانية. وتُعَد كل هذه التصادمات بمنزلة أخبار سارة للكيميائي الذي يدرس معدل التفاعلات الكيميائية؛ لأن معدل التصادم يرتبط بمعدل التفاعل، الذي يرجع إلى أن الجزيئات يجب أولًا أن تجتمع مع بعضها البعض قبل حدوث أي شيء آخر في التفاعل، بمعنى أنها يجب أن تتصادم. ويُطلَق على الفكرة القائلة إن معدل التفاعل الكيميائي يرتبط بمعدَّل التصادم «نظرية التصادم لمعدلات التفاعل» غير أن الغموض الذي يكتنف الطبيعةَ لا يُمكن حلُّه بهذه السهولة. فأثناء التفاعلات الكيميائية، تتشابك مدارات الإلكترونات (أي السحُب الإلكترونية) في المتفاعلات الفردية ويندمج بعضها مع بعض بالطريقة التي تندمج بها فقاعتان معًا وتُصبحان فقاعة واحدة. وما إن تُصبح الظروف مواتية حتى تستغرق الإلكترونات في المدارات الفردية ما يقرب من كوادريليون من الثانية؛ كي تُعيد ترتيب نفسها في المدارات حول النواتج، لكن إذا حدثت جميع التفاعلات بالسرعة نفسِها التي تحدث بها التصادمات، فإن الطعام كان سيُطهى في أقلَّ من لمح البصر، وكان الدهان سيجف بمجرد وضعه، وكنا سنموت فور ولادتنا؛ لأن تفاعلات الأيض التي تحدث في أجسامنا كانت ستُدمرنا. إذن، لماذا لا تحدث التفاعلاتُ كافةً في أجزاء من الثواني؟ تكمن الإجابة في هذه الجملة: «عندما تُصبح الظروف مواتية.» في البداية، يجب أن نعرف أن المتفاعلات في الحالة الغازية قد يتصادم بعضها مع بعض ملياراتِ المرات في الثانية الواحدة، أما المتفاعلات في حالة المحلول فيُمكن أن يعزل بعضَها عن بعضٍ بحرٌ من المذيب، وقلما يتصادم بعضها مع بعض. ويُمكنك أن تتأكد من ذلك عن طريق إضافة بعض قطرات صبغة الطعام في الماء والبعض الآخر في الجلسرين، فستجد أن معدل انتشار — أي حركة المذاب في المذيب — يختلف اختلافًا جذريًّا من مذيب لآخر (شاهد هذا الانتشار من جانب الكوب للحصول على مشاهدة أفضل). لكني أود أن أُكرر مرة أخرى أن اللزوجة لا تمنع دائمًا حدوث التفاعل الكيميائي، بل إنها تعمل في بعض الأوقات على تعزيز حدوث التفاعل عن طريق وضع المتفاعلات معًا. لكن، مع أن المتفاعلات تكون قادرةً على التصادم معًا فإنه ليست كلُّ التصادمات تُفضي إلى حدوث تفاعل، كما أنه ليست كل مواعدة ينتج عنها زواج. أُكرر مرة أخرى، يجب أن تكون الظروف مناسبة؛ لأن المدارات يجب أن تكون مصفوفة كما ينبغي، والتصادم يلزمه كمٌّ كافٍ من الطاقة كي يحدث. عندما يحدث اصطدامٌ بين سيارتَين قريبتَين إحداهما من الأخرى بسرعة خمسة أميال في الساعة، فإنه قد لا يحدث حتى انبعاجٌ في الرفارف، أما إذا حدث هذا التصادم من الجنب وكان متوسط سرعة السيارتَين هو أربعين ميلًا في الساعة، فإن جانب السيارة يتحطَّم؛ ومن ثَم، كي يحدث التفاعل، فإن المتفاعلات يجب أن تجتمع معًا، وأن يكون لها اتِّجاه معيَّن، ويجب أيضًا أن تتمتَّع بالقدر المناسب من الطاقة. ولنفترض أننا نعرف عن الجزيئات وحركتها، عندئذٍ يُمكننا أن نفعل أشياءَ معينة للتحكم في معدلات التفاعل. فعلى سبيل المثال، يُمكننا أن نتحكم في التركيز، وهي فكرة مباشرة وبسيطة؛ فكلما زاد الكمُّ، زادت فرصة حدوث التفاعل، لكن كما لاحظنا في توجيهات التجرِبة الأولى المطروحة سابقًا، لا تُعَد دائمًا الزيادة في المعدلات هي نتيجةً مباشرة للزيادة في التركيز، فعلى سبيل المثال، إذا لم يكن التفاعل يحدث في خطوة واحدة لكن بواسطة سلسلة من التفاعلات (مثل معظم التفاعلات)، فسيكون عندئذٍ استجابة معقدة للزيادة في التركيز، وذلك لأنَّ التركيزات العالية لبعض المتفاعلات تعوق حدوث التفاعل لبعض التفاعلات. وثمة عاملٌ آخر يُمكِنه أن يُؤثِّر على معدل التفاعل الكيميائي هو الحالة الفيزيائية للمتفاعلات، فمثلًا الطباشير المستخرَج من الأرض يذوب في الخل أسرعَ من الطباشير الصُّلب المُصنَّع. ويُمكن أيضًا للحالة التي تكون عليها المتفاعلات أن تُؤثر على معدلات التفاعل، فالبنزين السائل يحترق أما بخار البنزين فينفجر. ولطالما تتواجد الأسطح الغريبة في التفاعل، حتى لو كان مجرد سطح الوعاء الذي يحوي التفاعل؛ لذا يجب أن تُؤخَذ أيضًا بعين الاعتبار. ففي بعض الأحيان تعمل هذه الأسطح على زيادة معدلات التفاعل عن طريق حمل أحد المتفاعلات على السلوك في الاتجاه المناسب. وفي أحيانٍ أخرى تعوق الأسطحُ التفاعل عن طريق جعل التفاعل يسير في اتجاه عكسي، أو عن طريق تهدئة المتفاعلات عند التصادم. أما درجة الحرارة فهي تُعَد دائمًا عاملًا رئيسيًّا نظرًا إلى أهميتها على عدة مستويات، فالأغلبيةُ العظمى من التفاعلات تزيد سرعتها مع الارتفاع في درجة الحرارة؛ لأن ارتفاع درجة الحرارة يعمل على زيادة السرعة التي تبدأ عندها الجزيئاتُ الانتشارَ في كل الأنحاء، ممَّا يَزيد عدد التصادمات؛ ومن ثَم الطاقة الناجمة عن تلك التصادمات. فعلى سبيل المثال، عند حدوث عدوى أو إصابة لدى إحدى الثدييات، فإنها تستجيب لذلك بعدة طرق؛ من بينها رفع درجة حرارة الجسم؛ ومن ثم تكون استجابة كلٍّ من الجهاز المناعي واستجابة الخلايا المختصة بالتصليح أسرع. فعادةً يُصاحب الارتفاعَ في درجة الحرارة زيادةٌ في معدل التفاعل، لكن ذلك لا يحدث دائمًا. فإذا نتجت حرارة عن خطوة معينة من خطوات التفاعل، فإن زيادة درجة الحرارة عن طريق إضافة حرارة إلى التفاعل يُمكنه أن يُغير اتجاه التفاعل إلى الخلف، وينتهي الأمر بتقليل سرعة التفاعل، لذلك، قلَّما كان التنبؤ بمعدلات التفاعل والقدرة على التحكم بها مباشرًا وبسيطًا. ويجب أن يُؤخَذ أيضًا بعين الاعتبار الحالة التي تتوسط الطريق بين المتفاعلات والنواتج، التي يُطلَق عليها الحالة الوسيطة أو المتراكب النشط. لو استخدمت سمنًا وبيضًا ودقيقًا وسكرًا ولبنًا (كمتفاعلات)، فقبل أن تُصبح هذه الأشياء كعكة (النواتج) يجب أن تمر بالمرحلة الوسيطة وهي الخفقان والضرب. ويمر كل تفاعل كيميائي بهذه الحالة الوسيطة، لكنها تكون قصيرةَ الأجل. فالمتفاعلات يجب أن يتَّحد بعضُها مع بعض وتُكون المتراكِب الذي تُنظَّم فيه المدارات وتتكوَّن النواتج. والأمر يتطلب دائمًا وجود الطاقة حتى يتكون هذا المتراكب النشط، أي الحالة الوسيطة، مع أن هذه الطاقة قد تكون كبيرة للغاية أو صغيرة للغاية. ويتحدث الكيميائيون عن حاجزٍ يُدعى الحاجز النشط، بمعنى الحد الأدنى من الطاقة المطلوبة لتكوين الحالة الوسيطة، ثم عندئذٍ يدفعه إلى أسفل في اتجاه النواتج. ويُمكن أن يُفهَم هذا الحاجز النشط في ضوء أي جهد يبذله الإنسان، فالأمر يتطلب قدرًا من الطاقة في الفترة التي تتوسط بزوغ الفكرة، ووصولًا إلى الناتج النهائي، بصرف النظر عن الاستحسان الذي قد يناله المنتَجُ النهائي. أما في حالة التفاعل الكيميائي، فإن الأمر يتطلب الطاقة للتغلب على المعضلة الأولى المتمثلةِ في التحول من متفاعلات إلى نواتج، حتى إن انطلقت الطاقة من التفاعل برُمَّته. لكن في أوقاتٍ أخرى، يُمكن التأثير في الموقف (أخيرًا وجدنا أخبارًا سارة)، بمعنى أنه في بعض الأحيان يُمكن أن يعمل عامل حفَّاز على التسريع من وتيرة التفاعل المطلوب. والعامل الحفاز هو تلك المادة التي تُقلل من طاقة التنشيط المطلوبة لإتمام التفاعل. والعامل الحفاز لا يُغير من كم المنتج المكون؛ فكل دوره يقتصر على جعل التفاعل أسرع. وقد يُشبه العامل الحفاز رصيف مشاة متحركًا في مطار، فهو لا يجعل الجهة الأخرى للمطار أقرب، لكنه يُقلل كمَّ الطاقة المطلوبة للتنقل من جهة لأخرى، كما أنه يُسرع من معدل الخطوات التي قد تخطوها هناك. وأود أن أُوضح التشبيه أكثر، ينقل الرصيف المتحركُ المسافرين من جهة لأخرى لكنه لا يُغادر المطار نفسه. وبالمثل يدخل العامل الحفاز الحقيقي في التفاعل، لكنه لا يُستهلَك في التفاعل. وتُعَد الإنزيمات من العوامل الحفازة؛ فالمكمِّلات الغذائية التي تُساعد الجسم على هضم المنتجات المصنوعة من اللبن أو موادِّ الطعام الخشنة التي لا تُهضَم مثل الفول، هي في حقيقة الأمر إنزيمات. وتُضاف الإنزيمات في بعض الأحيان إلى المنظِّفات لتُسرع من تفتيت الدهون. ويُعجل العامل الحفاز المحول في السيارة من كسر مركبات النيتروجين والأوكسجين ومركبات الكربون والهيدروجين إلى غاز النيتروجين، وغاز الأوكسجين، والماء، وثاني أكسيد الكربون. وعلى المحولات الحفازة أن تُجري هذه التفاعلات بسرعة تامة كي تتواءم مع عادم السيارة العادية. أما الأنواع الأخرى من العوامل الحفازة، فلا تُفهَم تمامًا آلية عملها، ولا يزال الأساس الذي يقوم عليه اختيار عامل حفاز لتفاعل معين هو نوعًا من الفن. فعلى سبيل المثال، يُحفز سلك نُحاس تحلل فوق أكسيد الهيدروجين بدرجة أفضل كثيرًا من سلك من الصوف الفولاذي. ويُمكن توضيح هذا الفرق بطريقة مقنعة كالآتي: ارتدِ نظارتك الواقية، ثم ضع سلك نُحاس في منتصف كوب (١٢٠ مليلترًا) من فوق أكسيد الهيدروجين الذي يُباع في الصيدلية. ضع قليلًا من أسلاك الصوف الفولاذي في عينةٍ مماثلةٍ من فوق أكسيد الهيدروجين، نجد أنه يظهر على طول سلك النُّحاس فقاعاتٌ حيث تحلل فوق أكسيد الهيدروجين إلى غاز الأوكسجين والماء. وبسبب العوامل العديدة التي تُؤثِّر على معدل التفاعل — مثل تركيز المتفاعلات ودرجة الحرارة والعوامل الحفازة — وحقيقة أن المتفاعلات تجتمع معًا بشكل عشوائي ولا تسير دائمًا في الاتجاه الصحيح أو تتمتع بالقدر المناسب من الطاقة؛ فإنه لا تُوجَد وصْفةٌ مباشرة للتنبُّؤ بمعدلات التفاعل، ولكنَّ الكيميائيين يُحرِزون تقدمًا حقيقيًّا، وربما يُصبح لدينا يومًا ما قدرٌ كافٍ من المعرفة حتى نتمكَّن من ضبط معدلات التفاعل تمامًا، لكننا نتحرك بخُطًى متثاقِلة حتى الآن؛ بسبب قيود السرعة التي تفرضها الطبيعة. عادة ما ترتبط كلمة «انفجار» في أذهاننا بالتدمير، لكنها لا تعني في الواقع سِوى «رد الفعل السريع»، فهو يكون في غاية السرعة حتى إن الأشياء المحيطة ليس لديها الوقت حتى تسع أو تمتص التغيير. لقد أضحت الانفجارات في عالمنا المعاصر شيئًا مألوفًا مثل النفَس الذي نتنفسه، ومحرك الاحتراق الداخلي يُمكنه أن يُنتج آلافًا عديدة من الانفجارات في الثانية الواحدة. ويبدو الأمر غريبًا لنا أن محرك الاحتراق الداخليَّ لا يزأر حولنا إلا لما يقرب من قرنٍ من الزمان، في حين تقوم البشرية بالانفجارات على مدار عدة آلاف من السنين. وبالطبع يرتبط التعليل بالهندسة التي تُعَد غايةً في الأهمية للتحكم في الانفجارات، بما في ذلك كيفية تفعيل العديد من الانفجارات في الوقت ذاتِه وجعلها جميعًا تعمل معًا، وبكلمات أخرى، يتعلق الأمر بالتوقيت. يختلط البنزين والهواء في محرك الاحتراق الداخلي في أسطوانة محكمة الغلق تحوي مكبسًا متحركًا. يتحرك المكبس لأعلى ويضغط خليط الهواء والبنزين الذي يحترق عندئذٍ بشرارة. ويدفع الانفجارُ الناتج المكبسَ لأسفل، وتُحرك الحركة من أعلى لأسفل رافعةً تدور حول عمود الإدارة. ويُضبَط توقيت الانفجارات؛ ومِن ثَم عندما يندفع أحد المكابس إلى أسفل، يُستخدَم جزء من قوة اندفاعه لأسفل في تحريك مكبسٍ آخرَ لأعلى، على غِرار طريقة عمل الأرجوحة — أو على الأقل هذا ما يحدث عندما تسير الأمور على ما يُرام. وأحد الأمور التي قد تفسد في محرك الاحتراق هي تلك الحالة التي يُطلَق عليها «خبط المحرك»، وهي عبارة عن انفجار غير مكتمل ينتج عنه «فرقعة المحرك»، أو فقدان مفاجئ في القدرة، ويُمكِن فهمُ سبب خبط المحرك في ضوء معدلات التفاعل الكيميائي. عند النظر إلى صورة مبسَّطة تعرض محركًا في حالة تشغيل، فقد يبدو أن مكبسًا يتحرك لأعلى ضاغطًا على خليط البنزين والهواء حتى يصل إلى قمة الشوط لأعلى، وعندئذٍ يطلق البوجيه شرارة كهربائية فينفجر البنزين ويتحرك المكبس لأسفل. غير أن هذه الصورة المبسطة تغفل حقيقة أن اشتعال البنزين هو تفاعل كيميائي ويشتمل على انفجارات ولا يحدث تلقائيًّا شأنه في ذلك شأن التفاعلات الكيميائية كافة، والانفجارات تستغرق بعض الوقت كي تنتشر في خليط البنزين والهواء. ويُعزى السبب في استغراق الانفجار لبعض الوقت إلى أن البوجيه عادةً يُصمَّم كي يُطلِق الشرارة قبل أن يصل مباشرة إلى قمة الشوط لأعلى، وبهذه الطريقة يستقبل المكبسُ الدفعَ من انفجار الغاز بمجرد أن يكون في وضعِ استعدادٍ لبدء التحرك لأسفل، كما أنَّه يستفيد من الأثر الكامل للانفجار. وإذا كان مِن المفترض أن يبدأ الانفجارُ مباشرة عندما يصل المكبسُ إلى قمة الشوط، فإن المكبس عندئذٍ سيكون بالفعل في حالةِ حركةٍ في الاتجاه البعيد؛ لأن قوة الغازات المنفجرةِ بأكملها تتحرَّك نحوه، وأثرُ القوة سيكون قد خُفِّف. وإذا كان من المفترض أن تحدث الشرارة الكهربية بعيدًا جدًّا عن المكبس، فإن الانفجار الكامل كان سيُقابِل المكبس في طريقه لأعلى؛ ومن ثَم يعمل ضد شوط القدرة للمكابس الأخرى التي تُوجَد أسفل الخط. ويُمكن أن يُدمر الإشعالُ المحظور الفوائدَ التي تُجنى من كلِّ هذه التوقيتات المعقَّدة. فإذا حدث شيء ما تسبب في اشتعال خليط البنزين والهواء قبلما يُطلق البوجيه شرارته الكهربية، أو تسبب في احتراق الخليط في أماكن مختلفة في ذات الوقت، فإن النتيجة ستكون مجموعة من الموجات الصدمية (موجات صوتية تنطلق بسرعة فوق صوتية). وهذه الضغوط الشاذة وغير الموضوعة في الحسبان يُمكنها أن تتداخل على نحو خطير مع وظيفة المكبس. وكما رأينا، تُعَد درجة الحرارة عاملًا مهمًّا لمعدلات التفاعل. وكما ذكرنا في مناقشتنا للحالة الغازية، يُمكن لزيادة الضغط أن تتسبَّب في ارتفاع درجة الحرارة، حتى إنه يُمكن تسخين خليط البنزين والهواء إلى درجة الاشتعال عن طريق الضغط وحده. وفي الواقع يعتمد عمل محركات الديزل على هذه الفكرة، فلا تحوي محركات الديزل بوجيهات إشعال، لكنها تعتمد على الضغط لإشعال خليط الوقود والهواء، لكن إذا حدث هذا في محركات أخرى غير محركات الديزل، فإنه يتسبب في حدوث احتراق لا يُمكن التحكم فيه ويتسبَّب في حدوث الاضطرابات؛ إذ يجب التحكم الجيد في خليط البنزين والهواء في محركات تُدار بعناية لمنع حدوث الخبط. وثمة عاملٌ مهم آخرُ هو الوقود؛ فإذا كانت درجة البنزين ذات قدرةٍ أكبرَ على تحمُّل درجة الحرارة والضغط داخل الأسطوانة دون حدوث اشتعال تلقائي داخل الأسطوانة، فعندئذٍ سيكون الخبط أقل على الأرجح. وقد أُعِدَّ الوقود الذي يحوي درجة «أوكتان» عالية، بحيث يُمكنه أن يُقاوم الاحتراق حتى يشتعل. ويُشير اسم «أوكتان» إلى مركب يحوي ثمانيَ أنوية من الكربون في تركيبه، وتعني درجةُ الأوكتان الموجودة في البنزين، في الأساس، نسبةَ نوعٍ معين من الأوكتان (فثمَّة طرُق عديدة لترتيب ثماني أنوية كربون في سلسلة) إلى نسبة سلسة معينة ذات سبع أنوية كربون، لكن هذا المصطلح قد تغيَّر منذ بدء استخدامه ليصفَ خصائص احتراق الوقود أكثرَ مما يصف التركيب الدقيق للوقود. فعلى سبيل المثال عندما وُجد أن بعض مركبات الرَّصاص بإمكانها أن تُحسن طريقة احتراق الغازات، ومن ثَم تجنب الخبط، حينئذٍ قيل إن المواد المُضافة من منتجات الرَّصاص تعمل على رفع نسبة «الأوكتان» في البنزين. ولحسن الحظ، يُمثل تصميم المحرك عاملًا مهمًّا أيضًا من العوامل التي تعمل على منع الخبط؛ ومِن ثَم عندما تَزيد نسبة الرصاص في البيئة بسبب زيادة نسبة الرصاص في الوقود، فإن السيارة يُعاد تصميمها كي تُزوَّد بوَقود ذي نسبةٍ أقلَّ من الأوكتان. لكن ليست بالضرورة أن تَستخدم جميعُ السيارات وقودًا عاليَ الأوكتان كي تكون بمأمن! فبعض السيارات تُدار بطريقةٍ أفضل باستخدام وَقودٍ منخفضِ الأوكتان؛ ففائدة الوقود عالي الأوكتان تتوقف على تصميم المحرك وعمره، وحالته وموقعه، وكيفية ضبطه، والوقت من السنَة. والتجرِبةُ هي خير دليل لك، فإذا كانت سيارتك تعمل جيدًا، دعها وشأنها فلا تخبطها.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.28/
تجربة ١٨: كيمياء الضوء الأسود، وكيمياء المشابك
أولئك الذين يُشكلون الأرستقراطية الطبيعية، لا تجدهم في الواقع أرستقراطيين، أو بالكاد يكونون أرستقراطيين، مثل الطاقة الكيميائية للطَّيف؛ لا تكون أقوى إلا بالقرب منه. في مناقشتنا عن العوامل التي تُؤثر على أداء محرك السيارة، من الأشياء التي لم نذكرها هي شدة ضوء الشمس؛ لأن التفاعلات التي تحدث داخل المحرك لا تتعرض لأشعة الشمس، لكن ضوء الشمس يُؤثر على السيارات، فالموادُّ الكيميائية الموجودة في دهان السيارة والإطارات والتركيبات المصنوعة من اللدائن تفسد من الشمس. في الواقع، الضوء يُمكِنه أن يكون عاملًا مهمًّا لتفاعلات عديدة، ويُمكن أن يكون الضوء أيضًا عاملًا غامضًا؛ لأنه في أوقاتٍ كثيرة لا يتوقف الأمر على الضوء فحسب، بل على نوعه أيضًا، ولكي نُبين تأثير الضوء على التفاعلات الكيميائية، راجع التجربة التي طرحناها في الفصل الأخير التي قمنا فيها بقياس معدل التبييض باستخدام محلول دليل. ارتدِ نظارتَك الواقية، ثم ضع مادة التبييض في الأكواب تمامًا مثلما فعلنا من قبل، لكن في هذه المرة عَرِّض أحد المحاليل للضوء الأسود المقترح شراؤه ضمن قائمة المشتريات والمحاليل. يجب أن يُقرب الضوء الأسود لمسافة بوصة من سطح المحلول لضمان أكبر تأثير. فالضوء يجب أن يُسلَّط فوق السطح مباشرة وليس عن طريق جانب الوعاء الزجاجي أو البلاستيكي. ويجب أن يدوم التعرض لما يقرب من خمس عشرةَ دقيقة. احرص على ألَّا يتعرض المحلول الآخر للضوء. الآن أضف قطراتٍ متساويةً من الدليل إلى كِلا الكوبَين اللذَين يحويان مادة التبييض، ثم احسب الوقت الذي يستغرقه اللون حتى يتلاشى منهما. عندئذٍ ينبغي أن يحدث التفاعل في المحلول الذي تعرَّض للضوء الأسود أسرع جدًّا من تفاعل المحلول الذي لم يتعرَّض؛ ذلك لأن مادة التبييض تفكَّكَت ضوء كيميائيًّا، بمعنى أن الضوء الأسود تسبَّب في تفتيت مادة التبييض كيميائيًّا إلى أنواع أكثرَ قدرةً على التفاعل. والآن وأنت لا تزال مرتديًا نظارة الأمان، صُب نحو نصف بوصة (١سم) من محلول كبريتات النحاس (المعدة كما هو مشار في قائمة المشتريات والمحاليل) إلى كوب من الزجاج أو البلاستيك على أن تتخلص من الكوب بعدها. فكِّك مشبك ورق واغمس أحد طرَفَيه في المحلول، ثم ضع طرَف مسمار مطليًّا بالخارصين في المحلول على ألَّا يَلمس المشبك، ضع أيضًا طرف سلك ألمنيوم طويلًا في المحلول بحيث لا يلمس المعادن الأخرى. انتظر ساعة ثم أخرج المعادن من المحلول وافحصها جيدًا. ينبغي أن يتغطى المشبك بطبقة رقيقةٍ من النُّحاس، والمسمار المطلي بالخارصين يصبح لونه أغمق في الموضع الذي لمس المحلول، أما سلك الألمنيوم فينبغي أن يظل كما هو بلا تغيير. في حالة المشبك المعدني والمسمار المطلي بالخارصين، فإن الإلكتروناتِ الموجودةَ على سطح المعدن تنتقل إلى أيونات النحاس في المحلول تُكوِّن النحاس الفلزي عندما قبلت الأيونات الإلكترونات. وترسب النحاس على المشبك المعدني وعلى سطح المسمار؛ لأن الحديد الموجود في المشبك والمسمار تأيَّن وانحلَّ. غير أن الإلكترونات مرَّت بوقتٍ أصعبَ بتركها الألمنيوم. ويُطلَق على تبادل الإلكترونات عبر المحاليل أو عبر المعادن مصطلحُ «الكيمياء الكهربائية». ولَسوف نفحص المزيد من هذه التفاعلات — وأسبابها وعواقبها — في الفصل التالي.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/1.18/
الإلكترونات والفوتونات: أنِر الضوء
ما الشيء المشترك بين الألعاب النارية وتغير لون أوراق الشجر في فصل الخريف؟ الشيء المشترك هو الكيمياء الضوئية، وهي الكيمياء التي يكون فيها الضوء إحدى مواد المتفاعلات أو النواتج. ففي الألعاب النارية يكون الضوء هو إحدى النواتج وهو أمر جليٌّ للعيان بالطبع، وفي تغيُّر لون أوراق الشجر في فصل الخريف يكون الضوء هو إحدى موادِّ التفاعل، فعند وضع كيس ورقي فوق كُتلة من أوراق الشجر المتساقط، فإن هذا سوف يمنع تغيُّر لونها؛ ومِن ثَم يُعتبَر الضوء إحدى موادِّ التفاعل في أشهَر تفاعلات التساقط. ما الشيء المشترك بين البطاريات والمِصدَّات؟ الشيء المشترك هو الكيمياء الكهربائية، وهي الكيمياء التي تكون فيها الكهرباء هي أحدَ المتفاعلات أو النواتج. فالبطاريات تُنتج الكهرباء عبر التفاعلات الكيميائية، وتخلق قدرًا من الإلكترونات كافيًا لإنارة المصباح الكهربي. وعند الطِّلاء بالكهرباء يُستخدَم نبع من الإلكترونات لاختزال المعادن، مثل الكروم، على السطح، كما في المصدَّات في السيارات المعروفة بكراون فيكتوريا، موديل عام ١٩٥٦. ما الشيء المشترك بين الكيمياء الضوئية والكيمياء الكهربائية؟ كلاهما يُمثل بعضًا من أنواع التفاعلات الكيميائية التي تتضمن جسيماتٍ صغيرة، ولكنها ليست ذرَّات، ولكنها تُؤثر كيميائيًّا. وفي الكيمياء الكهربية تكون هذه الجسيمات الدقيقة هي الإلكتروناتِ التي نألَفُها الآن. أما في الكيمياء الضوئية فتكون الجسيمات الصغيرة فوتونات، وهي قد تحتاج إلى بعض الشرح. ونبدأ الآن بشرح طبيعة الضوء، يُمكِن وصف الضوء على أنه «مجال كهرومغناطيسي متذبذب»، وهو مصطلح يحتاج شرحًا في حد ذاته. وتُعرَّف كلمة «مجال» في العلوم الفيزيائية على أنها الأثر الذي ينتشر عبر منطقة من الفراغ، فعلى سبيل المثال، إذا كانت هناك نارٌ مشتعلة في منتصَف فِناء، فإنها تخلق مجالًا من السخونة، وتكون درجة الحرارة أعلى في المكان المشتعلة فيه النيران، ثم تمتد الحرارة في المنطقة المحيطة وتقلُّ بالتدريج إلى أن تتلاشى مع بُعد المسافة عن النيران. والمجال المتذبذب هو ذلك المجال الذي يتغير بانتظام مع الوقت. فعندما تُسلِّط مِروَحة على كتلة جليدية فإنها تكون مثل المجال الحراري المتذبذب السابق، والمجال الكهرومغناطيسي المتذبذب هو مجال كهربائي متذبذب مصحوبًا بمجال مغناطيسي متذبذب. ويُمكنك أن تُبين العلاقة بين الكهرباء والمغناطيسية باستخدام مسمار وقطعةٍ من السلك، وبطارية قاعدية الخلية جهدها ١٫٥ فولت، وحامل بطارية (يُمكنك استخدام حامل بطارية أو لا). يُلف السلك حول المسمار في سلسلة من اللفات الضيقة، وعندئذٍ تُوصِّل الأطراف أو تُمسِك بأطراف البطارية. وعليه، يُصبح المسمار مغناطيسًا كهربائيًّا، ويستطيع أن يلتقط مشبكًا معدنيًّا. ويُمكن أن يُشغَّل المِغناطيسُ ويُطفَأ عن طريق توصيل البطارية وفصلِها. وقد يسخن السلك؛ لذا لا تتركه موصلًا لفترة طويلة أكثرَ من الحاجة. ولا تُخزن على الإطلاق بطارية موصلة بأسلاك؛ لأنه قد يحدث تلامس وتسخن لدرجةٍ يُمكنها أن تُشعِل مادة قابلة للاشتعال. والسؤال الذي نود أن نطرحه: لماذا يخلق التيار المتحرك مجالًا مغناطيسيًّا؟ لكي نكون أمناء تمامًا في الردِّ على هذا السؤال، أود أن أذكر أنه ما من أحد قطُّ أجاب عن هذا السؤال إجابة شافية بعد؛ لذا لن نُحاول نحن ذلك، لكن يكفي أن نذكر أن التأثير قوي للغاية، ويُقدم كيمياء مثيرة أيضًا. لماذا يرتبط المجال الكهرومِغناطيسي المتذبذبُ بالكيمياء؟ كما يُمكن أن نتذكر من مناقشتنا للتركيب الذرِّي أن الذرةَ نفسها تتمتع بمجالٍ إلكتروني، كما أوضحنا بتجرِبة «الساحرة والماء». وتكون شحنة الإلكترون سالبةً وشحنة البروتون موجبة، وكلاهما منفصلان أحدُهما عن الآخر؛ ومِن ثَم يُوجَد بين الإلكترونات والبروتونات مجال، وهو مجال الجذب. وقد يمتصُّ الجزيء الطاقة من المجال الكهرومغناطيسي المتذبذب للضوء؛ لأن الإلكترونات تُدفَع وتُجذَب من أماكنها الطبيعية، كما لو كانت طفلًا يتأرجح على أُرْجوحة إذ يمتصُّ الطاقة من والِدَيه اللذَين يدفعانه من موضعِ الاتزان على الأرجوحة. تتلخَّص كلُّ الكيمياء في إعادة تنظيم الإلكترونات؛ ومِن ثَم قد تجد الإلكترونات المدفوعة في كلِّ مكانٍ نفسَها في موضع جديد، مما قد ينتج عنه موادُّ جديدة. لكن لماذا قلنا إن الضوء قد يتفاعل مع الذرات؟ إذا كان الضوء هو مجالًا كهرومغناطيسيًّا متذبذبًا والذرات تحوي مجالًا كهربائيًّا، ألَا ينبغي إذن أن يتفاعل الضوء دائمًا مع الذرات؟ قد نجد الإجابة في سؤال آخر قد تكون سألته في غضون التجرِبة التي أجريناها في هذا الفصل، وهو: هل يجب عليَّ أن أشتري مِصباحَ ضوءٍ أسود؟ فهو مكلف للغاية! ألا يُمكن أن أستخدم المصباح العادي أو حتى أُعرِّض المحلول للشمس؟ والإجابة على ذلك هي أن الضوء الأسود يُقدم وفرة من الأشعة فوق البنفسَجية، وهي نوع الضوء الذي نحتاجه لإتمام التفاعل. ويُفسر عمل الأشعة فوق البنفسجية أيضًا لماذا يجب رصد نِسَب الكلور في حمامات السباحة، فلا يُمكن التسليم بوضع نفس الكمية من الكلور كل يوم؛ لأنه لا يُوجَد كمٌّ ثابت من أشعة الشمس كل يوم، لكن إذا كانت الشمس تُرسل أشعَّة فوق بنفسَجية، لماذا لا نكتفي بتعريض التفاعل لأشعة الشمس ونُوفِّر نفقات مصباح الضوء الأسود؟ والإجابة هي أن الأشعة فوق البنفسجية ليست الأشعة الوحيدة التي تُرسلها الشمس، وأن وجود أنواع أخرى من الأشعة قد يُؤثر على نتائج التجربة، فالشمس تُرسل أيضًا أشعَّة مرئية والأشعة تحت الحمراء، والأشعة تحت الحمراء يُمكنها أن تُسخن المحلول. وكما ذكرنا في مناقشتنا حول «الحركية الكيميائية»، تستطيع الحرارة أن تُسرع من التفاعل الكيميائي؛ ومِن ثَم إذا عرَّضنا المحلول للشمس، فإننا لن نكون متيقِّنين أيهما السبب في تفتيت مادة التبييض؛ الأشعة فوق البنفسجية أم الحرارة. ويكون نوع الضوء المطلوب لإتمام التفاعل محددًا للغاية؛ لأن نوع المجال الكهربائي المحيط بالجزيء محدَّد للغاية. ويعتمد المجال على طبيعة العناصر التي تكون الجزيء وموقعها في الجزيء. وتعتمد الطاقة التي تحملها الأشعة على نوع الأشعة، فنوع الأشعة التي تُسخن المحلول إذا عرَّضناه للشمس (الأشعة تحت الحمراء)، هي أشعَّة منخفضة الطاقة نسبيًّا، والأشعة المرئية التي تستجيب لها أعينُنا هي أشعة متوسطة الطاقة، أما الأشعة فوق البنفسَجية التي أتمت التفاعل الكيميائي فهي أشعَّة عالية الطاقة نسبيًّا. والأشعة فوق البنفسجية هي ذلك النوع من الأشعة الذي يُمكنه أن يُدمر البشرة إذا تعرَّضت للشمس لفترات طويلة. ويُمكن أن تكون الأشعة التي نحتاجها لإتمام تفاعل كيميائي محددةً للغاية، لدرجة أن الأشعة يُمكن النظر إليها على أنها تيار من حُزَم الطاقة، يُحدِث كل جسيم فيها تغييرًا كيميائيًّا واحدًا. ويُطلَق على حُزَم الطاقة تلك فوتونات ويُمكن أن نعدَّها مثلما نعد الإلكترونات والجزيئات والذرات. كيف يُمكن أن يكون الضوءُ جسيمًا وموجة؟ لقد أربك هذا السؤال أجيالًا من دارسي الكيمياء والفيزياء، لا سيما وأن الإجابة هي أن الضوء ليس هذا ولا ذاك — وهو هذا وذاك في الوقت ذاته — فالضوء يُمكن تصوره على هيئة جسيم عندما تكون صورة الجسيم مناسبة، ويُمكن تصوره على هيئة موجة عندما تكون صورة الموجة مناسبة، وفي الوقت ذاته لا تُعبر أيٌّ من الصورتَين عن جوهر الضوء، بل يُمثلان أحد جوانبه. ويُمكِن أن نُشبه ذلك بالقطط المدلَّلة العادية التي تُربَّى في المنازل. هل القطط التي تُربَّى في المنازل هي حيوانات أليفة أم حيوانات متوحِّشة؟ تتصرف القطط كحيوانٍ أليف عندما تأتي أو تُدعَى للطعام أو للهو معها، لكنها تتصرف كحيوان متوحش عندما يعترض طريقَها عنكبوتٌ منحوس. إذن هل القط أليف أم متوحِّش؟ من الممكن أن نُطلِق عليه في وقت ما إحدى هاتَين الصفتَين، وفي وقت آخر الصفة الأخرى، فالقط ليس هذا ولا ذاك، وفي الوقت نفسِه هو كلاهما. وبالمثل، يُوصَف الضوء في بعض الأوقات على أنه جُسيم وفي أوقاتٍ أخرى على أنه موجة. وقد شاهدنا بالفعل أن الضوء قادر على استثارة التفاعلات الكيميائية، لكن كيف يُمكننا أن نُوضِّح أن التفاعلات الكيميائية قادرة على إنتاج الضوء؟ إن أسهل طريقة على الأرجح هي الذَّهاب إلى أحد المعارض التِّجارية أو السيرك أو متجر بيع الأشياء المبتكرة لشراء أنابيب متوهجة. تعمل هذه الأنابيب الطويلة المكسوَّة بالبلاستيك والطويلة عن طريق ثَنيِها وبرمها حتى ينكسر الغشاء الذي يفصل ما بين سائلَين، ويمتزج هذان السائلان معًا ويتفاعلان، ويحوي هذان السائلان مواد تتفَسْفر عندما تتفاعل، وينتج عن ذلك أضواء متوهجة مبهجة. ويُمكننا أن نجد مثالًا آخر على ذلك في الألعاب النارية؛ إذ يسخن انفجار البارود الأملاح المعدنية الموجودة في الألعاب النارية إلى الدرجة التي تُثار بها الإلكترونات في مداراتها. وفي حين تسترخي الذرات عائدة إلى حالة سكونها الأكثرِ استقرارًا، تبثُّ الطاقة الزائدة في صورة ضوء. وهكذا نجد أن الطاقة المنطلقة من الضوء يُمكنها أن تُحدِث بعض التفاعلات الكيميائية، لكن السؤال هنا هو: لماذا تطلق بعض التفاعلات ضوءًا؟ الإجابة هي أن التفاعلات الكيميائية تتكون من إلكترونات معادة التنظيم، واستنادًا إلى المواد الكاشفة والنواتج، قد تجد هذه الإلكترونات نفسها في مدارات جزيئات النواتج التي لا تكون في حالة الطاقة الدنيا، وكما هو الحال مع الإلكترونات في الألعاب النارية، ففي طريق عودتها إلى حالة السكون، قد تُطلِق بعض الضوء. وثمة طريقة أخرى يُمكن عن طريقها إعادة ترتيب الإلكترونات في تفاعل كيميائي، وذلك عن طريق الأسلاك. والكيمياء الكهربائية هي كيمياء أكسدة واختزال، وهي تلك التي ينفصل فيها الموضع الذي تُجرى فيه تفاعلاتُ الأكسدة عن الموضع الذي تُجرى فيه تفاعلات الاختزال. وتظهر طبيعة الكيمياء الكهربائية في المقام الأول في شكلَين مميزَين، هما خلايا التحليل الكهربي والخلايا الفولتية (المعروفة بالجلفانية أيضًا). والخلايا الفولتية هي خلايا تنتج الكهرباء؛ من ثم تُصنَّف البطاريات باعتبارها خلايا فولتية. والمبادئ التي تقوم عليها فكرة عمل الخلايا الفولتية هي نفس المبادئ التي تقوم عليها باقي التفاعلات الكيميائية الأخرى، باستثناء أن الإلكترونات تتبادل بعضُها مع بعض عبر أسلاك، وليس عبر اتصال مباشر. والتفاعلات هي تفاعلات أكسدة واختزال (ولذلك هي تُنتج تيارًا من الإلكترونات) بمعنى أن التفاعلات تخضع لقوانين الديناميكا الحرارية وتميل إلى الاتزان (ولهذا تفقد البطاريات طاقتها)، وأن التفاعلات لها معدلات محددة (ولهذا يجب أن تُدفَّأ بعض البطاريات حتى تصل إلى درجة حرارة الغرفة قبل أن تُنتج الحد الأقصى من الطاقة). لكن تفاعلات الكيمياء الكهربية يجب أن تخضع لقوانين الكهرباء أيضًا مثلما تخضع لقوانين الكيمياء؛ لذلك حتى إن اتصلت المحاليل عن طريق سلك، فإن الدائرة الكهربية يجب أن تكون مكتملة، وإلا فلن تنتقل الإلكترونات إلا بعيدًا ليس إلا. ويحدث الاتصال عامة عن طريق محلول يحتوي على أيونات يُسمَّى «الإلكتروليت». لأن الأيونات هي جسيمات صغيرة مشحونة تتحرك في الإلكتروليت وتكون قادرة على توصيل الشحنة الكهربائية من موضع الأكسدة إلى موضع الاختزال؛ إذ تتحرك الإلكترونات عبر السلك، وفي حال البطاريات التي تشتريها من المتجر، عادةً ما يكون الإلكتروليت في شكل عجينة رطبة وليس سائلًا، لكن في بطاريات السيارات التي تنتج تيارات كهربائية عالية، عادة ما يكون الإلكتروليت هو حامض الكبريتيك. ويكون الليمون حامضيًّا؛ ومِن ثَم يُعَد عصير الليمون فعليًّا إلكتروليت جيدًا أيضًا. والآن ارتدِ نظارة الأمان الواقية، واغرز مسمارًا مطليًّا بالخارصين في طرف ليمونة ودبوسًا في طرفها الآخر في أحد شقوقها الضيقة، ثم قِسْ فرق الجهد الكهربائي بين المسمار والدبوس وباستخدام فولتميتر يُمكن شراؤه من متجر بيع الخردوات، عن طريق توصيل الطرَف السالب بالمسمار المطلي بالخارصين والطرف الموجب بالنُّحاس. يعتمد فرق الجهد المَقيس الفعلي على الليمون والعوامل الأخرى. والتفاعل الذي يحدث في بطارية الليمون هو اختزال أيونات النحاس (إذ يذوب القليل من النحاس من دبوس النحاس في عصير الليمون الحامضي) وأكسدة الخارصين إلى أيونات الخارصين — وهي الحالة الأكثر ثباتًا وفقًا للديناميكا الحرارية. ولأن التفاعل يتحرك نحو حالة أكثر ثباتًا؛ ومِن ثَم يُمكنه أن ينتج الكهرباء تمامًا مثل الخلية الجلفانية. وخلية الإلكتروليت هي نقيض الخلية الجلفانية، ففي الخلية الجلفانية يُستخدَم التفاعل الكيميائي لكي يُنتج الكهرباء، أما في خلية الإلكتروليت فتُستخدَم الكهرباء لتُنتج التفاعل الكيميائي، ويُمكن عمل خلية إلكتروليتية كالآتي: ارتدِ أولًا نظارة الأمان الواقية، ثم التقط مسمارك الحديد المطلي بالنحاس من التجربة السابقة، ثم أدخله في كوب يحوي نحو بوصة من المحلول المُخفِّض لقلويةِ ماءِ حوض السمك، المقترَح شراؤه في قائمة المشتريات والمحاليل. ثبِّت المسمار بواسطة سلك في الطرف الموجَب من بطارية جافة في حامل بطارية. أضف مسمارًا حديديًّا آخر إلى المحلول ثم وصِّله بالطرف السالب لنفس البطارية. يترك النحاسُ المسمارَ الحديدي الأول بالتدريج ويتحول ليُغطي المسمار الثاني. وهذه العملية، التي يُطلَق عليها الطلاء الكهربي، تُستخدَم لإضافة الطبقات المعدنية لكل شيء، بدءًا من المفروشات إلى المجوهرات. ويُمكِن أن يكون الغرض من الطلاء الكهربي هو التزيين، لكنه يتمتع بأغراض عملية أكثر، فهو يُستخدَم بنجاح ليحمي المعادن النشطة مثل الحديد أو سبائك الحديد من تأثيرات الصدأ التي تُحدِثها الرطوبة. ولماذا تُتلِف الرطوبة الحديد؟ قد يظن المرء أن الكباري الفولاذية التي يُمكنها أن تتحمل أطنانًا من الشحنات كل يوم ينبغي أن تُقاوم قطرات قليلة من الماء، ولكن تُشكل قطرات الماء على الحديد خليةً كهروكيميائية، تمامًا مثل سلك الحديد الذي يوصل ما بين محلولَين. في التفاعل المكون للصدأ، يتأكسد الحديد إلى أكسيد حديد الذي هو الصدأ، ويُختزَل الأوكسجين الموجود في الهواء إلى ماء. ولكي نُثبت أن هذا التفاعل يحدث في موضعَين مختلفَين — أحدهما للأكسدة والآخر للاختزال — فكِّك مشبكًا معدنيًّا، وضع نصفه داخل كوب يحتوي على خل والنصف الآخر خارج الخل لمدة يومَين. عندئذٍ خذ الدبوس خارج المحلول وتفحَّصْه تحت عدسة مكبرة. ينبغي أن ترى الصدأ متجمعًا على موضع واحد بعينه، ثم ستجد تحت بقعة الصدأ تلك منطقة نظيفة، فالصدأ يتجمع فوق المحلول؛ لأن التفاعل يحتاج إلى أوكسجين. والآن أثبتنا أنَّ ثمةَ شيئًا مشتركًا بين الألعاب النارية وتغيُّر لون أوراق الشجر في فصل الخريف، وأيضًا هناك شيءٌ مشترك بين البطاريات والمصدَّات، لكن في هذا الفصل، نضع أساسًا مشتركًا لتلك الأشياء الأربعة معًا، إذن ما الشيء المشترك بين الألعاب النارية، وتغيُّر لون أوراق الشجر في فصل الخريف، والبطاريات، والمصدات؟ الشيء المشترك بينها هو الطاقة الشمسية. تستفيد كلٌّ من الحرباء وعبَّاد الشمس من الطاقة الشمسية منذ أمدٍ بعيد قبل أن يظهر الإنسان على وجه البسيطة، ويُمكن أن نقول بوجه عام إن كل الحياة مبنية على الطاقة الشمسية. غير أننا قد أضفنا تقنيات ضئيلة عبر السنين، فقد استعنَّا في بادئ الأمر بفكرة الحرباء، وطورنا مجمعات للطاقة الشمسية تمتص الطاقة من الشمس ثم تختزنها. كما طورنا أيضًا الخلايا الفوتوفلطية بنجاح في تشغيل الأجهزة الصغيرة مثل الآلات الحاسبة وحتى في تشغيل المنتجات التي تحتاج لمقدار هائل من الطاقة في المناطق التي تتعرض للشمس بغزارة. ويعمل العلماء أيضًا على استنباط تقنيات إبداعية أخرى للاستفادة من الطاقة الغزيرة المنبثقة من الشمس، وتتمثَّل إحدى هذه التقنيات في استغلال الطاقة الشمسية في التحويل الإلكتروليتي للملوثات. ومن أكثر الملوثات صعوبة في السيطرة عليها، الملوثات العضوية التي تُشتق من المخصبات والمبيدات الحشرية. والمركبات العضوية هي أنواع من المواد يتركَّب منها الزيوت والشمع والبلاستيك، وهي مُقاوِم جيِّد للماءِ والأملاح البسيطة التركيب أو حتى الأحماض والقلويات، غير أن المواد العضوية يُمكن أن تتفتت عن طريق وضعها في خلايا إلكتروليتية ثم دفع إلكترونات عبرها أو إزالة إلكترونات منها، لكن الإلكترونات يجب أن تأتي من مصدر ما. فإذا دُفِع التيار في نبات يُحرَق بالزيت، فعندئذٍ تُنتج عملية تفتيت الملوثات ملوثاتٍ أخرى، ومن ثَم نعود إلى نقطة البداية. لكن لحسن الحظ، تُوجَد بعض المواد مثل جسيمات أكسيد التيتانيوم. ويُستخدَم أكسيد التيتانيوم في مواد الدهان بسبب لونه الأبيض النقي، وعندما تظهر الشمس، يُمكن أن تمتصَّ جسيماتُ أكسيد التيتانيوم إشعاعاتِ الشمس، وتَستخدمَ هذه الطاقة في تنشيط إلكتروناته بجعلها في حالة نشطة وذات قدرة أكثرَ على التفاعل، عندئذٍ تعمل هذه الإلكترونات مثل مصادر الإلكترونات الصغيرة الحجم في البطاريات المصغَّرة لتحليل الملوثات العضوية جزيئًا جزيئًا. لذا كما هو الحال في أساطير إيسوب — التي تدور حول الصراع ما بين الشمس والرياح فيما يتعلق بأيِّهما الأقوى — نجد أن الذي يُقاوم القوة يُمكن التغلب عليه في كثير من الأحيان بالإقناع اللطيف. ضوء الشمس الدافئ المرحَّب به.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.29/
مقدمة
قال إم والدمان: «إنني سعيد لأن يكون لي تلميذ، وإذا كان عملك على نفس قدر قدراتك، فأنا متيقن تمامًا من نجاحك. والكيمياء هي ذلك الفرع من الفلسفة الطبيعية التي حدث فيها أعظم التطورات، ولا تزال هناك إمكانية حدوث المزيد، إنها في غاية الأهمية حتى إنني جعلتها دراستي الخاصة.» لقد قطعنا قدرًا لا بأس به، فقد ناقشنا طبيعة الكيمياء، وتركيب الذرات والمركبات الكيميائية، وخصائص العناصر كما هي موضحة في الجدول الدوري. واكتشفنا أيضًا الفئاتِ الأساسيةَ للتفاعلات الكيميائية مثل تفاعلات الأكسدة والاختزال، وتفاعلات الأحماض والقواعد، وكذلك تفاعلات الإزاحة. وشرحنا النظرية التي تشرح طبيعة الروابط الكيميائية ومبادئ التفاعلات الكيميائية. وناقشنا الاعتبارات العملية للقوى البينجزيئية والتركيز، كما درسنا الخصائص التي تقتصر على الغازات وتفاعلاتها. وكشفنا عن الفروق الصارخة بين الخصائص المراوغة للمحاليل والخصائص الملموسة للمواد الصلبة. ونقَّبنا في الديناميكا الحرارية واكتشفنا مرحلة الاتزان، وتفحصنا أهمية مفهوم الاتزان الكيميائي، ورأينا كيف أنه يُمكن لمبادئ الديناميكا الحرارية أن تتنبأ بخصائص المحاليل الترابطية المُلاحظة. واطَّلعنا على قواعد علم الحركية الكيميائية، وختمنا دراستنا لمبادئ الكيمياء بنظرة للكيمياء المستحَثَّة بالكهرباء والضوء. يا له من عمل جيد! وبعد أن قضينا الكثير من الوقت والجهد في البحث والتمعن والاستقصاء، نحن الآن مستعدون لجنيِ الثمار؛ إذ سنرى كيف تجتمع معًا هذه المبادئ الأساسية في بعض من مجالات الكيمياء المميزة والمتخصصة — مثل الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية والكيمياء الحيوية والكيمياء التحليلية — وسنُلقي نظرة للأمام على مستقبل مثير. وقبل أن نبدأ لنلقِ نظرة عامة قصيرة. وأود أن أذكر أن الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية ليستا تطبيقاتٍ للكيمياء بقدر ما هما استكشافاتٌ للكيمياء لها أهدافٌ محدَّدة. ويهتم أخصِّائيُّو الكيمياء العضوية بكيمياء الهيدروكربونات، وهي المواد المكوَّنة من كربون وهيدروجين مرتبطَين برابطة تساهمية. والهدف من الكيمياء العضوية هو تركيب خصائص السلاسل المترابطة وتفاعلاتها، والمعقودة في شكل حلقات للهيدروكربونات في كل تنويعاتها المطلَقة وفهمها، وتُوجَد هذه المواد في كافة أنحاء عالمنا الزيتي الشمعي، وفي المواد التي تُصنَع منها أجسادنا. أما أخصائيو الكيمياء غير العضوية فهم يبحثون في المواد المصنوعة من العناصر المائة أو ما يزيد، الموجودةِ في الجدول الدوري، الذي يُعَد مشروعًا ضخمًا. ولكن، مع أن هذه المركبات غنية ومعقدة في سلوكها، فهي لا تكوِّن سلاسل طويلة ومترابطة مثلما تفعل الهيدروكربونات؛ ومِن ثَم يُمكن تنوعها في تركيبها العنصري. وتُكوِّن المواد غيرُ العضوية المحاليلَ الصخرية والمِلحية التي تُكوِّن الأرض والكواكب وموادَّ النجوم كافة. ويعمل أخصائيُّو الكيمياء غيرِ العضوية على استنباط تركيبات لأشباه الموصلات والموصلات الفائقةِ التوصيل، والسبائك والكثير غيرها من المواد الجديدة. ويدرس علماءُ الكيمياء الحيوية هُويةَ المواد التي تُعَد أساسَ الحياة وخواصَّها وتفاعلاتها. وتُستمَد هذه المحاولة المهمة التي تتعقد باطِّرادٍ من جميع أنظمةِ الكيمياء، وتُوظَّف مبادئُ الكيمياء كلُّها لفهم تفاعلات الكيمياء التي تقود إيقاعات الحياة. ويأخذ علماء الكيمياء التحليلية عن الأنظمة السابق ذِكرُها كافَّة. والهدف الذي يسعى نحوه علماءُ الكيمياء التحليلية هو تحديد هوية المواد ومقاديرها — سواءٌ أكانت موادَّ عضوية أم غير عضوية أم موادَّ كيميائية حيوية — عن طريق فصلها في بعض الأحيان من المزيج، وفي أحيان أخرى عن طريق عزلها في قالب معتم. وعلى كل كيميائي أن يتمتع ببعض الإجادة لفن تحليل المواد الكيميائية من حيث تركيبُها وتركيزُها. ويجد اختصاصيُّو الكيمياء التحليلية العملَ كجزء لا يتجزَّأ من المختبرات الأكاديمية والصناعية والحكومية. وسوف نكتسب بعض التقدير للبراعة الفنية التي يتمتع بها اختصاصيو الكيمياء التحليلية عن طريق متابعة بعضٍ من المغامرات الخاصة التي يتمتع بها اختصاصيُّو الكيمياء التحليلية — كيميائيو الطبِّ الشرعي — في أحداث يوم مشوِّق. والآن، هيا بنا إلى المختبر …
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.30/
تجربة الكيمياء العضوية: من أسبرين إلى حامض
لقد حدث هذا في غضون يومٍ من أيام الدراسة، حدث في خضمِّ انغماسهم في غموض الكيمياء العضوية وأسرارها أن دوريس فان بنشوتن اقتحمت حياتهم. عندما تمكنتُ من إذابة الهيدروكربونات التي كنت أعمل بها، تقابلت مرة أخرى مع مشكلة الشُّلتوس، وتفكرت مليًّا في الأمر برمته مرة أخرى. لأن الكربون يتمتع بخصائصَ فريدةٍ عديدة، مثل قدرته على تكوين سلاسل طويلة، تظهر المركَّبات العضوية — أو مركبات الكربون — في أنواع غير منتهيةِ العدد تقريبًا. ويقضي اختصاصيُّو الكيمياء العضوية وقتَهم في دراسة الطرق التي يتفاعل بها الكربون مع نفسه ومع المركبات الأخرى، ثم يَستخدمون هذه المعلومات لكي يُصمموا التراكيب، وهي إجراءات تدريجية يُمكن عن طريقها تخليقُ مركَّب معينٍ من المادة المعطاة في البداية. وقد صمم اختصاصيو الكيمياء العضوية، باستخدام معلوماتهم عن نشاط الكربون، تركيبًا لكل الموادِّ العضوية الرائعة التي لدينا، ابتداءً من اللدائن وحتى الأدوية. غير أن هذه الليونةَ التي تتمتَّع بها جزيئاتُ المواد العضوية تُمثل أيضًا التحديَ الذي تُكابده الكيمياء العضوية؛ إذ يجب مُراعاةُ الأنظمة التخليقية بشدة وهي قد تتضمَّن خطواتٍ عدةً تتطلب كلٌّ منها ضبطًا مُحكَمًا، وتُقدِّم التجرِبةُ الآتية لمحةً عن الخطوات التي قد تُتضمَّن في مثل هذا التخليق. وفي هذه التجرِبة، سنعزل أولًا المكوِّن النشط الذي يُوجَد في الشكل الحديث للأسبرين، حامض الإستيل ساليسيليك، باستخدام إجراء يتمتع بقداسة تقادمه، خاص بالكيمياء العضوية يُسمَّى «الاستخلاص». ويُعَد تحضيرُ دليل الكرنب القرمزي نوعًا من الاستخلاص العضوي، فالصِّبغة القرمزية العضوية تُستخرَج من الكرنب مع الماء، وهنا سنستخدم الكحول لاستخراج حامض الإسيتيل ساليسيليك من الأسبرين. والكيمياء العضوية هي نظام صارم، ولكن يُمكن تقليل الألم بقليل من الأسبرين. ضع من عشرة إلى خمسة عشر قرص أسبرين، سواء أكان أسبرينًا خالصًا أم في محلول منظَّم، في وعاء زجاجي. ارتدِ نظارة الأمان الواقية ثم صبَّ نصف كوب (١٢٠ مليلترًا) من كحول الأيزوبروبيل، ويُمكن أن يفيَ ٧٠٪ من الأيزوبروبيل بالغرض، لكن ينبغي أن تكون هذه الكمية كافية لتغطية الأقراص مع ترك بعض الفراغ. ولن يتطلب الأمر الكثير من المذيب لاستخراج حامض إسيتيل ساليسيليك من الأقراص. سخِّن الوعاء تسخينًا هينًا في ميكروويف على نصف الطاقة لمدة ثلاثين ثانية، ثم أخرجه. ينبغي أن يكون المذيب دافئًا وليس مغليًّا. يستخرج المذيب الدافئ مركب الأسبرين من الأقراص تاركًا الغلاف النشوي ومكونات أخرى غير مذابة. تذكر مناقشتنا التي تدور حول أن «الأشباه تُذيب الأشباه»، لا تُذِب النشا غير القطبية في مذيب الكحول والماء القطبي. إذا كان لديك ملعقة أو شوكة قديمة، يُمكنك أن تُفتت برفق المادةَ المتبقية لكي تحصل على المزيد من حامض إسيتيل ساليسيليك المستخلص. تستغرق هذه العملية ما يقرب من خمسَ عشرة إلى عشرين دقيقة، لكنك ينبغي أن تتحلى بالصبر. خذ منشفة ورقية وابسطها فوق سطح كوب كبير. اضغط عليها من المنتصف بخفة حتى تشبه القمع. صب بحذر محلول الأسبرين والكحول عبر المنشفة الورقية، وسيعمل هذا على تجميع المتبقِّي من الأقراص في المنشفة الورقية، وسيسمح بنفاذ السائل الصافي، الذي يُدعى «السائل الأم»، إلى قاع الكوب. وبمجرد ترشيح كل المحلول، ارتدِ قفَّازك المصنوع من المطاط وأزِل المنشفة والمتبقيَ من الأقراص. حاول ألا تلمس الجزء الرَّطْب من المنشفة الورقية؛ إذ يكون المذيبُ مُحمَّلًا بحامض الإسيتيل ساليسيليك الذي قد يَعلَق ببشَرتِك بعدما يتبخَّر المذيب. قد ترغب في غسل يدَيك إذا حدث ذلك، مع أن الأسبرين لا يُعَد مركبًا خطيرًا عندما يعلق بنسب ضئيلة بيدَيك. والآن نجد أن حامض الإسيتيل ساليسيليك ذاب في الكحول الموجود في الكوب. افتح الصنبور واملأ الكوب المحتويَ على السائل الأم بماء الصنبور الفاتر حتى يمتلئ نحو ثلاثة أرباع الكوب، وإذا كان استخلاصك للكحول ناجحًا، ينبغي أن يكون هناك بلَّورات بيضاء صغيرة مسطحة من حامض الإسيتيل ساليسيليك تملأ الخليط. ويُعتبَر حامض الإسيتيل ساليسيليك عديمَ القطبية إلى حد ما ويذوب بسهولة في مذيب عديم القطبية إلى حد ما مثل كحول الأيزوبروبيل، لكن ما إن يُضاف الماء ذو القطبية الشديدة حتى يُجبر حامض الإسيتيل ساليسيليك على الخروج من المحلول بسبب انخفاض قابليته للذوبان ويكون بلورات، ولكنها لا تظهر في شكل بلورات كبيرة مستقلة لكنها تميل إلى أن تُشبِه رقائقَ صابون بيضاء، وقد تبدو لزجة إلى أن تجف. ومن المثير دائمًا أن تُلاحظ حجم البلورات المتكونة، ولا سيما عندما تُقارنه بحجم الأقراص التي استخدمت من البداية. أعد مرشحًا آخر باستخدام منشفة ورقية في كوب كبير وجمع فيه بلورات حامض الإسيتيل ساليسيليك عن طريق صب خليط الكحول والماء والبلورات في المنشفة. أزِل البلورات من الكوب الأول بغسله بقليل من ماء الصنبور الفاتر، ثم صب هذه الكيمياء الضئيلة عبر المنشفة الورقية. وسيعمل هذا أيضًا على إزالة البلورات من المنشفة. احتفظ بالبلورات في المنشفة وتخلص من المذيب المستعمل المتساقط من المنشفة الورقية. عندئذٍ من الممكن أن تنتقل إلى الإجراء التالي، وفي حال إذا كان لديك متسَعٌ من الوقت، ابسط المنشفة التي تحوي البلورات على طاولة لتجفَّ في الهواء، قد يستغرق هذا الليلَ بطوله. تأكد من وضع البلورات بعيدًا عن متناول الأطفال والحيوانات الأليفة. وقد يكون النسيم القوي ضارًّا أيضًا لأن البلورات الجافة تكون هشة ورقيقة. لاحظ أن رائحة البلورات تختفي بمجرد أن تجف، وتختفي حتى أيضًا رائحةُ كحول الأيزوبروبيل. وعندما تجفُّ البلورات، يُمكِنك أن تُلاحظ كيف أصبحَت هشة عن طريق التقاط المنشفة. كان معظمُ الوزن الأصلي للبلَّورات المبللة خاصًّا بالمذيب. إذا كنت قد تركت بلَّوراتك تجف طوال الليل، عندئذٍ ارتدِ نظارة الأمان الواقية مرة أخرى. خذ نحو ربع مقدار من بلورات حامض الإسيتيل ساليسيليك المبللة أو الجافة، وضَعْه في وعاء زجاجي يُمكِن أن يُستخدَم في التسخين. البلورات الجافة هشَّة للغاية وينبغي أن تتعامل معها بحذر حتى لا تتبعثر. خذ زجاجة من المحلول المُخفِّض لقلوية ماء حوض السمك الموصى بشرائه في قائمة المشتريات والمحاليل، ثم صبَّ منه قطرة قطرة حتى تُغطَّى عينة حامض الإسيتيل ساليسيليك تمامًا. والمحلول المُخفض للأس الهيدروجيني هو حامض الكبريتيك الذي يكون غير مركز جدًّا بحيث يتلاءم تمامًا مع هذا التفاعل، فهو يعمل كعامل حفاز؛ إذ يُسرع التفاعل ولا يُستهلَك في أثناء التفاعل. وينبغي أن تتوخَّى الحذر البالغ في هذه المرحلة من التجرِبة، إذ سيتبقَّى حامض الكبريتيك المخفَّف في نهاية التجرِبة، وحتى الحامض المخفَّف ينبغي أن يُعامَل بحذر بالغ. سخِّن هذا الخليط ببطء لما يقرب من خمسَ عشْرةَ ثانية في فرن ميكروويف عند درجة حرارة منخفضة (بنسبة ٥٠٪). أخرج الوعاء من الميكروويف، وأبعد بيدك أيَّ روائح منبعثة من قمة الوعاء في اتجاه أنفك. نجد في نهاية التفاعل أن جزءًا من حامض الإسيتيل ساليسيليك سوف ينفصل عن هذا الجزيء بسبب البيئة الحامضيَّة. والجزيء الذي ينعزل يُصبح حامض الخليك الذي يُمثل الأساس النشط للخل، وفي آخر الأمر يُمكنك أن تُميز الرائحة بوضوح. وبمجرد تبخر حامض الخليك، تكون بقايا البلورات هي حامض الساليسيليك ذا التأثير المسكِّن للألم. ويُمكن التخلُّص من كافة المواد الصُّلبة بإلقائها في سلة القمامة، والتخلص من السوائل بسكبها بحذرٍ في المرحاض.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/2.1/
عضوية ليس إلا
ومن ناحية أخرى، اعتدت أن أرى بول تيكلورني منغمسًا بعمق في دراسة استقطاب الضوء وحُيوده وتداخله وانكساره الأحاديِّ والثنائي ومختلِف المركبات العضوية الغريبة. حتى ونحن نتحدث، يصنع بعض الكيميائيِّين في كولومبيا الصوف خلسةً من نبات الجوتة. إنه لشيء بنَّاء أن ننظر حولنا إلى عدد الأشياء المكوَّنة في المقام الأول من موادَّ عضوية — أي المواد المكونة من مركبات الكربون والهيدروجين المرتبطة بروابط تساهمية التي يُطلَق عليها الهيدروكربونات — سواء المعالجة أو غير المعالجة، بداية من الأسفلت إلى الأسبرين، فعالمنا مغمور بالهيدروكربونات. وتشتمل هذه الهيدروكربونات على اللدائن التي أصبحت هذه الأيامَ موجودةً في كل شيء بداية من السيارات إلى تجهيزات المكاتب، ومن مُعدات المزارع إلى الملابس. وجميع الأطعمة تُعتبَر موادَّ عضوية من شرائح اللحوم إلى رقائق البطاطس المقلية، ومن السكر إلى السردين؛ مما يضعنا أمام أكبر فئة وهي الكائنات الحية كافة — أي النباتات والحيوانات والفطريات والبكتيريا. أنواع الوقود التي نستخدمها — مثل البنزين والغاز الطبيعي والبروبان والبيوتان — هي أيضًا مواد عضوية لأنها تُشتَق من كائنات كانت حية يومًا ما مثل الأشجار والديناصورات والأسماك. وتتراوح المنتجات النفطية من الأسفلت وحتى الأسيتون. والفحم كتلة مادة عضوية. والصابون والشامبو أيضًا هما مواد عضوية سواء أذُكِرَ ذلك عنهما أم لم يُذكر. وماذا عن مواد التجميل، أتُعَد مواد عضوية؟ نعم. وماذا بشأن معجون الأسنان ومزيل العرق؟ غالبًا ما يتكوَّنان من مركَّبات عضوية قاعدية مُضافًا إليها القليل من المواد الفعالة. والأدوية؟ الأدوية هي مواد عضوية، وإذا لم تكن المواد الفعالة موادَّ عضوية، فإن الناقل النشوي أو الكبسولة الجيلاتينية موادُّ عضوية. وقد يكون أي مشروب ذي نكهة مكونًا من الماء في المقام الأول، لكن المواد الملونة أو النكهات سواءٌ أكانت طبيعية أم مصنوعة من قطران الفحم فهي موادُّ عضوية. أما عن الملابس، سواء الطبيعية أو الاصطناعية فهي مصنوعة من الألياف. وفي كثير من الأوقات، تُستخدَم كلمة «عضوي» لِتَعني «الأشياء المُنتَجة طبيعيًّا وليس صناعيًّا»، لكن في حقيقة الأمر، تكون كل الهيدروكربونات موادَّ عضوية بصرف النظر عن الطريقة التي جاءت بها إلى حيز الوجود، لكن المركبات العضوية الأولى كانت طبيعية بلا أدنى شك، وجسم الإنسان هو عضوي أيضًا. السؤال إذن: لماذا تتكون العديد من المواد من الهيدروكربونات؟ في الواقع، اللغز ليس بهذا القدر من العمق، وتفسيره لا يكمن في أعماق الكرة الأرضية! فعندما نُقارن كتلة الأرض بما فيها باطنُها غيرُ العضوي، بكتلة الهيدروكربونات نجد أن الهيدروكربونات، مع كل ذلك، ليست بكل هذا القدر من الانتشار. فالكربون لا يُصنَّف ضمن عناصر القمة الثمانية التي يتألف منها كوكبنا (الحديد والأوكسجين والسيليكون والماغنسيوم والنيكل والكبريت والكالسيوم والألمنيوم على الترتيب من حيث الوفرةُ)، ولا حتى من بين عناصر القمة الثمانية التي تُكون قشرة الأرض (الأوكسجين والسيليكون والألمنيوم والحديد والماغنسيوم والكالسيوم والبوتاسيوم والصوديوم على الترتيب من حيث الوفرة). غير أن الكربون الذي لدينا يتكدس بشدة في الأطراف العلوية من قشرة الأرض بسبب كتلة الكربون الذَّرية المنخفضة. وخلال التغيرات الكبيرة التي حدثت في الفترات الطويلة من عمر الأرض، انتقلت العناصر الأخفُّ إلى القمة، مثل حب الفُلفل الذي يطفو فوق سطح حِساء البازلاء الخضراء. وبمجرد وجوده داخل القشرة الأرضية، كان الكربون قادرًا على أن يُشكِّل أكبر قدر من المركبات المتنوعة. يرجع ذلك في المقام الأول إلى تمتُّعه بالقدرة على تشكيل سلاسل روابط طويلة ومستقرة، وتُدعى هذه الموهبةُ «التسلسل». وتتجلى قوة روابط الهيدروكربونات واستقرارُها عند كسرها وانبعاث الطاقة منها، فالهيدروكربونات تُعتبَر وَقودًا جيدًا. ومع وجود التنوع الهائل في الجزيئات العضوية، فإن الكيميائيِّين بذلوا جهدًا كبيرًا في تصنيف المواد المتعددة في عائلاتٍ من المركبات. وطريقة التَّصنيف التي نتجَت عن هذه الجهود هي أن تُصنف المركبات في عائلات طبقًا لوجود تراكيبَ معينة محددة للنوع التي تُدعى «المجموعات الوظيفية». ومثال على ذلك، سنتأمَّل في أربع عائلات من الهيدروكربونات تحتوي على الأوكسجين في مجموعاتها الوظيفية، وهي الكحوليات، والإيثرات، والأحماض العضوية، والإسترات. وقد تضمُّ مركباتُ الكربون أيضًا ذرات عناصرَ أخرى يُطلَق عليها «الذرات غير المتجانسة»، مثل النيتروجين والكبريت والكلور والبرومين وغيرها، لكن مهما كانت هُوية الأنواع المترابطة، فالكربون دائمًا سيُكوِّن أربعَ روابط سواءٌ كانت روابطَ أحادية أم ثنائية أم ثلاثية، وعندما يكون للكربون أربعُ روابطَ أُحادية، تظهر خاصية مُثيرة، وهي خاصية اليدوية. تتصف التوائم انعداميةُ التناظر في المرآة بخصائص مختلفةٍ بعضِها عن بعض، فعلى سبيل المثال، الشكل الواحد من مركب الكارفوني، وهو جزيء عضويٌّ منعدم التناظرية المرآوية، يُعطي رائحة النَّعناع، في حين أن صورته المنعكسة في المرآة تُعطي رائحة الكراويا. وشكل واحد من جزيء الليمونين، وهو جُزيء منعدِم التناظر المرآوي أيضًا، يُعطي رائحة ليمون في حين أن صورته المرآوية تُعطي رائحة برتقال. ولكي نَعيَ السببَ الذي يجعل هذا الاختلاف الدقيق في الشكل يُؤدِّي إلى مثلِ هذا الاختلاف الهائل في الخصائص، حاوِل أن تُصافح يدَيك بنفسِك أو أن تضَع قدمك اليمنى في الحذاء الأيسر، ستجد أن هذا لا يصلح؛ فالحذاء لن يتَطابق مع قدمك، وهذا هو الحال في أنظمة بيولوجية كثيرة، إذا لم يكن الجزيء مطابقًا فإن الأمر لن يُجدي. ويُمكن أيضًا تمييزُ هذه الجزيئات المنعكسة صورتها في المرآة بعضها عن بعض بواسطة الطريقة التي تتفاعل بها مع الضوء المستقطَب، والضوء المستقطب هو ضوء ذو مدًى محدود الاتجاه. وفي مجال صناعة النظارات الشمسية، يُطلَق على الضوء المنبعث في كل الاتجاهات «السطوع»، ولكي تَعرف الفرق بين السطوع والضوء المستقطب، قلِّب نظارة شمسية مستقطبة على الوجهَين للداخل والخارج وأنت تنظر إلى أشعَّة الشمس المنعكسة على سطح لامع. وتسمح نظارة الشمس المستقطبة فقط بمرور الضوء ذي المدى المحدود من الاتجاهات، أو الاستقطاب؛ فمِن ثَم تُقلل من السطوع. وعندما يُواجه الضوء جزيئًا منعدم التناظرية المرآوية، قد يمر الضوء بانحراف عن المجال الكهربائي للجزيء غير المتماثل، يبدو هذا الأمر مثل ميل السيارة أثناء انعطافها. وإذا كان هناك عددٌ كبير من مثل هذه الجزيئات تتفاعل مع الضوء، فإن التأثير يُمكن أن يكون كبيرًا لدرجة تكفي لقياسه. إن أصل ميل الطبيعة نحو الاتجاه الأيسر غيرُ معروف، لكن من المحتمل أن يكون نفس السبب الذي يُفسِّر التقليد البريطاني المتبع في أن يكون موضعُ قائد السيارة في الجهة اليسرى من الطريق، فهي مجرد الطريقة التي بدأت عليها الأمور وظلت كما هي، ولكن لا يُسبِّب الاختلاف في الصورة المرآوية للأيسوميرات هذا الاختلاف في حاسَّتَي الشم والتذوق فحسب، بل إن التعرض للأيسومر غير المتناظر في المركبات البيولوجية يكون ضارًّا أيضًا. وإحدى حالات الخلل تلك المشهورة بشأن التعرض للأيسومر غير المتطابق هي حالة الثاليدوميد (دواء مُسكِّن) وهو مزيج من صورتَيه المنعدمتَي التناظر في المرآة. وللأسف، يعمل الشكل الذي لا يقوم بدور المسكن كمادة ماسخة يُمكنها أن تُسبب تشوهات للأجنة. فبسبب مثلِ هذا الاختلاف في الأنشطة، وأيضًا لكي نُقلِّل الجرعة المطلوبة، يُحبَّذ أن يُنتَج دواءٌ يحوي أحد الأيسومرين قدر المستطاع؛ ومِن ثَم يُبذَل قدرٌ لا بأس به من الجهود حاليًّا نحو هذا الهدف. غير أن هذا هو المكان الذي تترك فيه الكيمياءُ النحيلة صُحبة الكيمياء العضوية. إذن لا يُمكن تسمية الجزيء العضوي بِناءً على خاصية واحدة فحسب. فاسمُ الجزيء يجب أن يصف ملامحه كافَّة؛ ومن ثَم يكون اسمه مميزًا، ولكي نُقرر الاسم الذي ينبغي ألَّا يُطلَق على جزيء معيَّن، يُحدَّد أولًا اسم المركب الأساسي، الذي عادةً ما يُكون سلسلة كربون تُمثل الهيكل الأساسي مثل الميثيل أو الإيثيل، ثم تُضاف أسماءُ كلِّ المجموعات الوظيفية، والخصائص التي يتمتَّع بها المركب كافَّة، وكل المجموعات المحددة للهُويَّة، وعندئذٍ يُمكن أن تكون أسماء الجزيئات العضوية ثقيلةً للغاية في حد ذاتها. وبعيدًا عن استخدام أسماء المهندسين والمحبوبات في تسمية المركبات، فأخصائيو الكيمياء العضوية يقضون وقتهم أيضًا في التقصي عن الأعداد المذهلة من التفاعلات التي يُمكن أن يدخل فيها كلُّ مركب من هذه المركبات. وكما شاهدنا في تجرِبتنا، فإن تحريك جزء واحد فقط أو إزالته، يُمكنه أن يُغير خصائص المادة تغييرًا جذريًّا؛ لذا تمتلئ أدراج الكيميائيين العضويين بالدوريات المخصصة لتعقيدات الكيمياء العضوية، ويبقى قدر لا بأس به من المهام للعمل عليها. وكما تتحول المواد الخام من مواد بترولية إلى كتلة حيوية أو استخدام المواد المعاد تصنيعها — إذ إنه أمرٌ حتمي بلا جدال — فإن الكيمياء العضوية تتردد على الكيمياء الكلاسيكية وتبتكر كيمياء جديدة، لكن تذكر أن كل مادة لزجة عضوية يجب أن يكون لها علاقة بتربة صخرية رملية، ومحيط من الماء، وغلاف جوي من الهواء، أما عن عالم الكيمياء غير العضوية فهو ما سنخوض فيه لاحقًا.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.31/
تجربة الكيمياء غير العضوية: أنتروبيا، وأمونيا، وأميبا
ثمة سنوات أخرى محمَّلة بدفعات من الزهور والأوراق وطيور العندليب والسُّمنة والحسون، وتأخذ مثلُ هذه المخلوقات الزائلة مواقعَها، التي كانت منذ سنة واحدة فقط مقرًّا لغيرها حينما لم تكن هذه المخلوقات سوى بذورٍ أو أجنَّة وجسيمات غير عضوية. خذ كوب ماء وبعض قطرات من ملوِّن الطعام المقترَحِ في «قائمة المشتريات والمحاليل». أضف برفقٍ شديد قطرةً من مُلون الطعام إلى كوب الماء، مراعيًا أن تجعل زجاجة ملون الطعام قريبة من السطح بقدر ما تستطيع حتى تُقلل الاهتياج. عندئذٍ استرخِ واستمتع بمشاهدة رقصة الباليه الجميلة التي تُؤدِّيها قطرة ملون الطعام وهي تنتشر في الماء، نجد أن قطرة ملوِّن الطعام تمتزج تلقائيًّا بالماء بسبب الأنتروبيا، التي هي ميل النظام الطبيعي نحو حالة من الفوضى القصوى. الآن، وبعد أن تتأكد من ارتدائك لنظارة الأمان الواقية، خذ محلول خلات الحديد المذكور في «قائمة المشتريات والمحاليل»، وضَعْه في طبق من السيراميك أو الزجاج بحيث يكون قُطر المحلول نصف بوصة (١سم). راعِ ألَّا تجعل بقعة المحلول الصغيرة تنتشر في الطبق. إذا وجدت أنَّ لبقعةِ المحلول قمةً بارزة لأعلى ومستديرة بسبب التوتر السطحي، فعندئذٍ تكون جاهزًا للخطوة التالية، أما إذا لم تجد ذلك، فإن ذلك يُشير إلى وجود بعض البقايا في الطبق. في هذه الحالة أحضِر طبقًا نظيفًا وجافًّا وحاوِل مرة أخرى. خُذ بعض القطرات من النشادر، واصنع بقعة أخرى لها نفس البروز لأعلى على بُعد نحو ربع بوصة (نصف سم) من بقعة محلول خلات الحديد. والآن ارسم بحذَر خطًّا من السائل يصل ما بين السائلين عن طريق جرِّ طرف ماصَّة من بقعة إلى الأخرى، على أن تُراعي ألَّا تندمج البقعتان إلا في نقطة اتصالهما. لاحِظ أن المحلولَين يمتزجان أحدُهما في الآخر، وتكون الأشكال المتكونة غايةً في الجمال والروعة، وكأنها حديقةٌ مُتحرِّكة، ويُمكن جعلُ حرَكة هذه العَملية أبطأ عن طريق إضافة قطرةٍ من الجلسرين أو زيت مَعدِني بين الخليطَين وتوصيل البقعتَين إلى البقعة التي تتوسطهما. ويُمكن مُشاهدة تفاعل دمج للأشكال مُشابه عن طريق إضافة بقعةٍ من محلول كبريتات النُّحاس إلى محلول النشادر أو كبريتات النُّحاس ومحلول بيكربونات الصوديوم. وأودُّ أن أذكر مرةً أخرى أن هذا الخلط يَحدث تلقائيًّا، لكنَّ ثَمَّة عنصرًا آخرَ للتسلية في مثل هذا التفاعل الكيميائي أيضًا. شاهد الحركة التي تُشبه حركة الأميبا التي يخطو بها المحلولان غير العُضويَّين أحدهما نحو الآخر وموجات التَّفاعل التي تنتشر عبر الطبق في شكلٍ أشبهَ بأصابع اليد، ويُمكن للمرء أن يتخيَّل التكوُّن الأول للأجسام في الحساء الكوني البُدائي كما بوُسعه أن يتخيَّل التقدم ببطءٍ واطِّراد للخروج من هذا الحساء.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/2.2/
صخور الكيمياء
حالما تكون هناك، ستشعر كأنَّك قطرةٌ من الماء على قطعة البلَّور الصخري، ووسيلتك ستُسبِغ طابَعَ الجلال على عدم تميُّزك. نرجو أن نكون قد أقنعنا القارئ بأهمية الكيمياء العضوية، ولكن ليس على حساب الكيمياء غير العضوية. فمن الأحجار الكريمة إلى الحجر الجيري ومن النترات إلى الفوسفات، الكيمياء غير العضوية مُهمة للغاية أيضًا. وإذا كان من الممكن وصفُ الكيمياء العضوية على أنها كيمياء الهيدروكربونات، فإن الكيمياء غيرَ العضوية يُمكن وصفُها على أنها كيمياء كلِّ شيءٍ آخر — وتعبير «كل شيء آخر» يشملُ الكثير جدًّا. في الواقع، موادُّ عديدة من التي ذكرناها هي بالفعل موادُّ غير عضوية مثل المعادن وأشباه الموصِّلات والأملاح والكثير من الأحماض والقواعد. على أن اهتمامنا الثقافي بالمركبات العضوية، الذي ينبع من غَزارة الموادِّ العضوية الأولية وتوفُّرها في شكل النفط أو الفحم، قادنا إلى عقلية عضوية. وهذه العقلية التي تستحوذ عليها هذه الفكرة الواحدة قد أفضَت إلى اعتمادية مؤسِفة على مصدرٍ محدود، غير أنه، بإلقاء نظرةٍ إلى الوراء على العناصر الموجودة في القشرة الأرضية، نجد أنَّ الأوكسجين والهيدروجين أكثرُ وفرةً من الكربون (فالأوكسجين يُمثل وحش الجودزيلا في الرسم البياني، والكربون يُمثل الفأر الخارق)؛ ومن ثَم قد يكون هناك بعضُ البدائل. فنجد في الوقت الحاليِّ أن خلايا الوقود التي تستخدم الهيدروجين والأوكسجين تُستخدَم في تشغيل المكوك الفضائي، ولديها القدرةُ على تشغيل السيارات وكذلك أجهزة الدي في دي. ومن السارِّ أن نعرف أنه حتى بالرغم من صعوبة الوصول إلى المثالية، يحمل المستقبل بدائلَ للبترول الخام. وسنُلقي هنا نظرةً على بعض الموضوعات التي تُمثل حاليًّا الإطار الخاص للكيمياء العضوية، وهي المركبات التناسقية الترابط المتراكِبة للفلزَّات الانتقالية، وكيمياء المجموعات النموذجية، والكيمياء الإشعاعية. وكما أشرنا في مناقشتنا للكيمياء الضوئية — وكما نُواجه في الحياة اليومية لدى استخدامنا للمواد بداية من معجون الأسنان المبيض وحتى الأكواب الملونة باللون الوردي — يتفاعل الضوء مع المواد الكيميائية، وسواءٌ أكانت هذه التفاعلات تفاعلاتٍ مُلمعات أو مُعتمات، فجميعها تحدث على مستوى الجزيئات. وفيما يتعلق بمتراكبات التناسق غير العضوية، يعتمد لون الضوء الذي يتفاعل مع الجزيء على طبيعة الليجندات، ومدى كونها في وضع محكم أو غير محكم في التحامها بأيون الفلز. ونتيجة لحدوث امتزاج معقد للمؤثرات، بما في ذلك التجاذب الإلكتروني وقوى الجذب البينجزيئية والأنتروبيا، ينجذب النشادر بشدة نحو أيون الحديد. وعندما أُضيف النشادر إلى محلول الحديد، أحاطت جزيئات النشادر بأيون الفلز حيث حلت محلَّ بعض جزيئات الماء وأيونات الخلات وغيرت لون المركب في هذه الأثناء. وعندما أضفنا فوق الأكسيد، غيرنا حالة أكسدة الحديد ومدى إحكام الليجند حول الفلز. وعليه، غيرت إعادة الترتيب تلك الطريقة التي تفاعل بها الضوء مع المركَّب، أو بكلمات أخرى، غيرت اللون. ويُمكن للجزيئات العضوية الأكبرِ أن تُكوِّن معقَّدات مع الأيونات الفلزية أيضًا؛ فمنظف الرادياتير يتكون من عامل متراكِب قابلٍ للذوبان في الماء مثل المركَّب العضوي حامض الأوكساليك، الذي يُكوِّن قفصًا قابلًا للذوبان في الماء حول أيونات الفلز ثم يرفعها من جدران المبرد. أما المعادن التي تُوجَد مترسِّبة على جدران المبرد مثل الكالسيوم، فإنها كانت مذابة في ماء المبرد في وقتٍ ما، ونحن عادةً لا نُفكر في الكالسيوم على أنه فلز، لكنه كذلك، فالكالسيوم يقع في الجانب الأيسر من الجدول الدوري مما يجعله فلزًّا، ويُمكنه أن يُكوِّن مُعقدات تناسقية كما تفعل أيونات الفلزات الانتقالية، وعندما يكون الكالسيوم متراكبًا مع حامض الأوكساليك، يُصبح الكالسيوم قابلًا للذوبان في الماء. وجزيئات المتراكبات العضوية التي تدفع الأيونات الفلزية إلى داخل المحلول تُعرف باسم «عوامل ربط مخلبية». ولعل أهم الروابط المخلبية العضوية هي تلك التي تحدث في أجسادنا، فمُعظم أيونات الفلزات الضئيلة الضرورية للحياة ترتبط بجزيئات البروتين بطريقة أو بأخرى، ويُمكن اعتبار البروتين عامل ربط مخلبيًّا. ويُعَد الهيموجلوبين في أحد أوجُهِه شكلًا مخلبيًّا للحديد، فبدون متراكِب تناسقِ الهيموجلوبين والحديد، لا يُمكن نقلُ الأوكسجين في دمائنا. ولأن البروتين الموجود في الهيموجلوبين يتجمَّع حول أيون الحديد؛ فهو يكون جيبًا جيدًا لغاز الأوكسجين، عندئذٍ يحمل الهيموجلوبين المنقول في الدم هذا الأوكسجين إلى الخلايا التي تحتاجها. وتكون هذه العناصر في باقات متنوعة، تحوي فلزاتٍ ولافلزات، وأيضًا بعض الغازات والسوائل والمواد الصلبة في درجة حرارة الغرفة والضغط العادي. ويُوجَد ضمن المجموعة النموذجية عائلات عديدة جديرة بالاعتبار من العناصر، كلٌّ فيما يختص به في فرع من فروع الكيمياء. ويُوجَد كلٌّ من الصوديوم والبوتاسيوم في كل مكان في المعادن واليابسة، وفي مسطحات المياه الطبيعية أيضًا، وقد أدى وجودهما في مياه المحيطات إلى اندماجهما في الكائنات الحية التي نشأت هناك. وفي هذه الأيام، يرتبط الاعتناء بالصحة بتركيزات أيونات الصوديوم العالية في الجسم، لكن التأكيد هنا هو على «التركيز». فالأمر الذي يتسبب في حدوث مشكلة هو في المقام الأول غياب الماء وليس وفرة الصوديوم. فقد اتجهنا في ثقافتنا إلى إضافة الصوديوم والابتعاد عن الماء، وهو ما يُعَد مزيجًا يُضعِف أحد أركان الآخر، فهو رفضٌ مؤسف لأبسط فَهم للمحلول الملحي (إذ يتكون من ماء وملح) كي نُخِل بالتوازن بهذه الطريقة. ونجد في العناصر النموذجية الخانةَ التي تحوي الكربون والنيتروجين والأوكسجين والفوسفور والكبريت، وهي العناصر التي تكون أساس الحياة إلى جانب الهيدروجين. ولكننا أطلقنا في الفصل السابق على كيمياء مركبات الكربون والهيدروجين، أو الهيدروكربونات، «الكيمياء العضوية»، وذكرنا أننا سوف نتناول الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية كموضوعات منفصلة. فهل يُسمَح لنا الآن أن نمسَح هذه الأسطر وأن نضمَّ عناصرَ الكيمياء العضوية إلى عناصر الكيمياء غير العضوية؟ لن يُسمَح لنا فحسب، بل إنه يجب علينا أيضًا، فليس الكيميائي هو الذي مسحَ الأسطر، بل الطبيعة نفسُها؛ ففي عالمنا المتكافل والمتعايش، لا يُوجَد فصلٌ مطلَق بين الحيوان والأرض، غير أننا قد نسعى إلى فرض أحدهما من أجل التيسير على الكيميائي. ولا يُوجَد مكان أثبت فيه هذا التكافل وجوده بطريقة لافتة للنظر أكثر من ذلك الذي في دورات الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية، حيث تتناوب الحياة استخدامَ عناصرَ مثل الكربون والنيتروجين، اللذَين يعودان إلى الأرض ثم إلى الهواء، ثم يُعاد استخدامهما مرةً أخرى لكي يُعزِّزا وجود الحياة. فتعجبت قائلًا: النترات! انظر إنها تزداد، إنها تتدلى كالطحالب التي تغشى سطح المقابر، نحن الآن تحت سطح قاع النهر، وقطرات الندى تسيل بين العظام. وفي أقصى اليمين من الجدول الدوري تقع الغازات النبيلة — التي هي الهليوم والنيون والأرجون والكربتون والزينون والرادون. وتكون هذه العناصر كما أشرنا من قبل غايةً في الخمول، ولهذا السبب، نُقدِّم لأطفالنا بالونات مليئة بالهليوم دون أن نقلق بشأن الانفجارات (ولا يجب أن نُعطي هذه البالونات للرضع، ليس بسبب الهليوم ولكن بسبب المادة المصنوع منها البالونُ نفسُه). ويشتهر الرادون باعتباره مصدرًا للتعرض الإشعاعي المكثَّف؛ لأنه غاز نبيل — فهو خامل وغاز في الوقت ذاته — ويُمكِنه أن يتخلل التربة وينفذ إلى المنازل السيِّئة التهوية. ومع أن الرادون خامل كيميائيًّا، فإنه يُمكنه أن يتحمل التحلل الإشعاعي، وإذا استنشق فإن الجسيمات النافذة يُمكنها أن تُدمِّر أنسجة الرئتَين. ويقع الرادون في الجهة السفلى من الجدول الدوري، شأنه في ذلك شأن العناصر المشعَّة كافة تقريبًا. وللأسف، تستحضر كلمة «إشعاعي» للذهن صور القنابل والأمراض والكوارث والدمار، ولكن على المستوى السلمي، يُمكننا أن نُقِر بأن النشاط الإشعاعي أمدَّنا بالأشعة السينية، وتقنيات التصوير العالية وعلاجات فعالة وغير جراحية للأمراض، لكن على مستوى المشاعر، فإننا تأقلمنا على أن نتفاعل سلبيًّا مع الأشياء المرتبطة بالنشاط الإشعاعي كافة. غير أن الخطر الناجم عن المواد الكيميائية هو نسبي دائمًا — فالكثير من الأسبرين يُمكن أن يكون مميتًا مثلما يكون الكثير من الماء مميتًا إذا كنت لا تُجيد العوم — وكذا الحال مع المواد الكيميائية الإشعاعية. ومع أنه ينبغي أن يُعامَل النشاط الإشعاعي والعناصر المنتِجة له بحرص شديد، فإنه إذا استخدم بطريقة مناسبة يُمكن التحكُّم فيه والسيطرة عليه. وتخضع الكيمياء الإشعاعية أو كيمياء العناصر المشعة للسيطرة عن طريق النوع نفسِه من الكيمياء التناسقية التي تخضع لها العناصر الانتقالية، وأحد المخاوف التي تُساورنا بشأن عدم الانتشار النووي هي أن كيمياء اليورانيوم والبلوتنيوم هي بالفعل كيمياء غير عضوية صريحة، فمُعظم العناصر المشعَّة تُوجَد في مجموعة يُطلَق عليها «العناصر الأرضية النادرة» (التي تقع في هذَين الصفَّين المنفصلَين أسفل الجدول الدوري)، مع أنه تُوجَد عناصرُ ذات نظائرَ مشعَّة منتشرة في كلِّ أنحاء الجدول الدوري. وكما لاحظنا من قبل، النظائر هي ذرات لعناصر لا تختلف إلا في عدد النيترونات، فلها العدد نفسُه من البروتونات، ولكنها تختلف في عدد النيترونات. وتمتلك بعض النظائر عددًا غيرَ مستقرٍّ من البروتونات والنيترونات. وتتناثر هذه النظائر جزيئيًّا في محاولة للوصول إلى حالة الاستقرار؛ إذ تُطلق بعضَ الجسيمات وقدرًا كبيرًا من الطاقة أثناء ذلك. وثَمة استخدامٌ آخرُ للأشعة المنطلقة من العناصر المشعة، الذي قد يكون أكثرَ إثارة للجدل من أجهزة الكشف عن الدخان، وهو استخدام الأشعة لقتل البكتيريا في الطعام. تعمل هذه الطريقة جيدًا، فهي تعمل على إطالة فترة تخزين العديد من الأطعمة، غير أن الكثيرين يرفضون استخدام طعام عُرض للإشعاع، ربما خوفًا من التلوث. ولا ينبغي أن تنتابنا المخاوفُ بشأن التلوث؛ فالأغذية المعرَّضة للإشعاع لا تتعرض للمصدر الإشعاعي مباشرة، لكنَّ ثمة أفكارًا أخرى مُثيرة لرفض هذه الأطعمة، بعضها معنيٌّ بأن الإشعاع قد يُسبِّب حدوث تفاعلاتٍ في الطعام نفسِه مما قد يكون مركَّبات عادةً ما لا تكون موجودةً في الطعام. والبعض يقولون إننا ينبغي أن نقلق بشأن أي شيء يقتل فعليًّا كلَّ البكتيريا الموجودة في الطعام. لماذا؟ ذلك لأن البكتريا لا تُعَد أساسًا شيئًا سيِّئًا، فهي جزءٌ من النظام الكبير. فالطبيعة هي حافظٌ جيد للحياة، بما فيها حياة البكتيريا، فلا يُوجَد تحيُّز خاص لحياة الإنسان. من ثَم إذا تمكَّنا من تدمير بعض البكتيريا، مما قد يُسبب وجود فجوة ما، وقد ينشأ نوع جديد من البكتريا لسدِّ هذه الفجوة، ولا يُمكِننا أن نتنبأ بما إذا كان هذا النوع الجديد من البكتيريا ضارًّا بالإنسان أو غيرَ ضار. ويعدُّ هذا التعديل ممكنًا من جانب الطبيعة؛ لأن الأنظمة الطبيعية غيرُ جامدة، بمعنى أنها قابلة للتغيير. ونحن نميل إلى أن نُفكر في عالمنا في ضوء الاستمرارية والبقاء؛ لأنه عادةً ما يحدث التغيير ببطء شديد. غير أن الأنظمة الحيوية تستجيب للضغوط، كما هو الحال مع التفاعلات الكيميائية التي تنشأ عنها الأنظمةُ الحيوية. ونتناول في موضوعنا التالي المزيد من المناقشات حول الجزيئات الكيميائية الحيوية.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.32/
تجربة الكيمياء الحيوية: دهون، وانتفاخ البطن، وحساء البقوليات
كيف لك بحق السماء أن تنتوي شرح ظاهرة بيولوجية مهمة مثل ظاهرة الحب الأول في ضوء الكيمياء والفيزياء؟ من إحدى الحقائق الموجودة في حياتنا هي أننا نحتاج أن نتناول طعامًا صحيًّا، والطعام الصحي يمدنا بالغازات. وتكمن المشكلة في أن النشويات الموجودة في الخضراوات العشبية لا تُهضم كليةً في الأمعاء الدقيقة للإنسان قبل أن تنتقل إلى الأمعاء الغليظة. ومع ذلك، فلا يُمثل هذا القصور أيَّ مشكلة للطبيعة. فمن إحدى أروع أنظمة التكافل التي تعشقها الطبيعة هي مستعمرات البكتيريا التي يُطلَق عليها صراحة «النُّبيتات الجرثومية المعوية»، التي تعيش في أمعائنا. وكما ذكرنا في مناقشتنا لخصائص الحالة الغازية فإن هذه البكتيريا لديها الإنزيمات اللازمة لهضم المأكولات العشبية ويروق لها أن تتغذى على البقايا. غير أنها تنتج الغازات في غضون هذه العملية. وتنتج أيضًا عملية الهضم الكبريتيد الذي هو موادُّ كيميائية عضوية تحتوي على الكبريت، وهي تقترن بانتفاخ البطن الغازي، فرائحة البيض الفاسد هذه تُنتجها البكتيريا التي تُؤدي نفس الدور في إتلاف البيض. وتأتي رائحة انتفاخ البطن من هذا الكبريتيد المحمول مع الغاز، ولهذا السبب في بعض الأوقات تكون رائحة الغاز القادم من الأمعاء نفاذة أكثر من أوقات أخرى. غير أن مشكلة الرائحة هي مشكلة مُصطنَعة تفرضها الأعراف الاجتماعية، لكن تنفيس الغاز الذي تُسببه غزارة غازات الأمعاء يُمكن صرفُ الأنظار عنه في أفضل الأحوال وإضعافه في أسوأ الأحوال؛ ومِن ثَم تُوجَد أسباب لتجنب الكميات المفرطة من الغازات، أحدها بالطبع عدمُ تناول الأطعمة التي تُسبب الغازات مثل الخضراوات غير المطهوة والبقوليات. غير أن معظم هذه الأطعمة تكون مفيدة وتُعَد مصادر غنية بالبروتينات والفيتامينات والخشائن الضرورية، ولا ينبغي تجنبها تمامًا. وإن كان لديك رغبة، يُمكنك أن تتناول إنزيم ألفا جلاكتوزايداز قبل الأكل الذي يُساعد في هضم النشويات قبل أن تتناولها البكتيريا، وفي التجرِبة التالية سنُسلط الضوء على هذه الإنزيمات وهي تُؤدي وظيفتها. ارتدِ نظارة الأمان الواقية، جهز محلولَين باستخدام أقلَّ من ربع ملعقة صغيرة (١ مليلتر) من النشا في كوب (٢٤٠ مليلترًا) ماء. افرك قرصًا من الأقراص المساعدة على الهضم التي يجري تناولها قبل الوجبات للتقليل من غازات الأمعاء. ينبغي أن تحوي هذه الأقراص إنزيم ألفا جلاكتوزايدز الذي يهضم النشا. تفقَّدْ نشرة الدواء للتأكُّد من احتوائه على هذا الإنزيم. أضف القرص المفروك إلى أحد الكوبَين المحتوِيَين على محلول دقيق الذرة النشوي. اترك كِلا الكوبَين نحو ساعة ثم أضف إلى كلٍّ منهما قطرةً من صبغة اليود. واليود هو دليلٌ معروف للنشا؛ لأن اليود يُكوِّن مع النشا مركبًا ذا لونٍ أزرق جميل. ويتحوَّل لون محلول النشا الذي لا يحوي الإنزيمَ إلى اللون البنفسجي المائل للزُّرقة دليلًا على وجود النشا. أما المحلول المُضاف إليه الإنزيمُ فينبغي أن يظلَّ محتفظًا باللون البُني الخاص بصبغة اليود. وإذا وُجِد لون أزرق، فإنه سيكون ضعيفًا جدًّا. تُبرهن هذه التَّجرِبة على أن النشا تحللت. وتخضع الإنزيمات والنشويات لمِظلَّة الكيمياء الحيوية، المملكة التي سننتقل إليها الآن.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/2.3/
الكيان الكيميائي في مقابلة مع كيمياء الجسم
لأنه لا النترات ولا الفوسفات ولا امتداد الألياف في القطن هي الأرض، فإنه لا الكربون ولا الملح ولا الماء ولا الكالسيوم هم الإنسان؛ فالإنسان هو كلُّ ذلك معًا، بل هو أكثر من ذلك كله. ما هي علاقة اللدائن بالبشر؟ كما هو واضحٌ للعيان، فالعلاقة كبيرة جدًّا. تُصنَع الموادُّ البلاستيكية عن طريق البَلْمرة، وهي العملية التي ترتبط من خلالها الجزيئاتُ البسيطة معًا في سلاسلَ طويلة ممتدةٍ من آلاف الجزيئات. ولا تُوجَد بوليمرات أبرعُ من الخلايا الحية. والمواد التي تتكون منها أجسامُنا، ابتداء من الجلد وحتى الشعر ومن اللَّوزتَين إلى ظفر إصبَع القدم، هي موادُّ بوليمرية ليِّنة ومستمرَّة. وكما أشَرنا في مناقشتنا للكيمياء العضوية فإن نجاح أشكال الحياة العضوية يتوقَّف على قدرة الكربون على تكوين سلاسلَ طويلة، وعندما تتكرَّر الوحداتُ المكونة من هذه السلاسل الطويلة يتكوَّن ما يُعرَف بالبوليمرات. وتتألف أجسامنا — شأنها في ذلك شأن جسم أي شخص وأي شيء آخر، ابتداءً من الأميبا فصاعدًا — من سلاسلَ طويلةٍ من الوحدات الأساسية المتكررة — من الكربوهيدرات والدهون والأحماض الأمينية والنيوكليوتيدات — أي البوليمرات التي نُصنَع منها. والكربوهيدرات هي سكَّريات – الجلوكوز والفركتوز وجلاكتوز. والسكروز المعتاد هو ثنائي السكاريد، أي جزيئَي سكاريد مرتبطان معًا. وعندما يرتبط أكثر من جزيئَي سكاريد يتكون عديد السكاريد. وتكون السلسلة الطويلة من عديد السكاريد المواد الأساسية للنشا التي هي السليلوز والجليكوجين. وكما هو معروف جيدًا لأولئك الذين يتبعون الحميات الغذائية والمعنيِّين بالأمور الصحية، يقوم الجسم بأيض السكريات لإطلاق الطاقة وعندما يُوجَد المزيد من السكر، يخزنه الجسم لاستخدامه فيما بعد. وتخزن الحيوانات السكريات كبوليمرات الجلوكوز التي يُطلَق عليها «الجليكوجين». أما النباتات فتصنع بوليمر من السكر يختلف اختلافًا طفيفًا بغرض التخزين، وهذا هو ما نُطلِق عليه النشا. وتستخدم النباتاتُ أيضًا سلاسلَ طويلة من الكربوهيدرات لعمل السليلوز، الذي تستخدمه لأغراضٍ بنائية، وليس لأغراض تخزينية. ولا يستطيع جسم الإنسان أن يستعيد السكاريد من السليلوز، وفي بعض الأحيان تُدمَج الكربوهيدرات عَسِرةُ الهضم في الطعام كي تُقلِّل عدد السعرات الحرارية لكل مكوِّن من مكونات الطعام. ويخزن الجسم أيضًا بعض أنواع الليبيدات أو الدهون لعملية الأيض النهائية، والدهون نوعٌ آخر من الطعام يُوصى بعدم الإفراط في تناوله بسبب الآثار السلبية الناجمة عن زيادة استهلاكه، لكن يحتاج الجسم الدهون بلا أدنى شك، ولا سيما أجسام الأطفال التي تكون في مرحلة نمو، فعلى سبيل المثال تحتاج فيتامينات أ، ك، د إلى الدهون لكي تُمتَص؛ ومِن ثَم يحتاج مقدار الدهون أن يُضبَط حقًّا عن طريق معرفة أيِّ أنواع الدهون ينبغي الحد منها وأيها ضروري. وثمَّة أنواعٌ عديدة من الدهون تتمتع بوظائفَ مختلفة. ويُوضَع هذان المركبان معًا في مجموعة واحدة؛ إذ يتمتعان بخاصية مشتركة وهي قابلية الذوبان في السوائل الزيتية القِوام، ففي حالة الأحماض الدهنية، يُوجَد طرفٌ واحد قابل للذوبان في الزيت، والطرف الآخر قابلٌ للذوبان في الماء، وهو غموض يتَّضِح أنه مفيدٌ بدرجة مذهلة، كما سنرى. لاحظ أن الكربون له أربعُ روابط، والأحماض الأمينية يُمكن أن يكون لها «يد مفضلة» والأحماض الأمينية التي تتكون طبيعيًّا، لديها يد مفضلة، فإذا أُدخل جزيء ذو تشكيلٍ خاطئ — أو حتى إذا جرى تبادل أوضاع رابطتَين — يكون الجزيء غيرَ مناسب ويُمكن أن تكون النتيجة مميتة. ويُوجَد ما يقرب من عشرين حمضًا أمينيًّا مختلفًا موجود بشكل طبيعي في جسم الإنسان، وتُكوِّن بوليمرات هذه الأحماض الأمينية البِنَى البروتينية مثلَ أظافر الأصابع والغضاريف، وكذلك الإنزيمات والهرمونات. ويُمكن تصنيع بعض الأحماض الأمينية في الجسم، لكن يجب أن يأتيَ عددٌ مساوٍ تقريبًا عن طريق الغذاء، فكل الأحماض الأمينية الضرورية تُوجَد في البروتين الحيواني مثل اللحوم والبيض، غير أنها يُمكن أن تُكتسَب من مصادر غير حيوانية أيضًا، ولا تُوجَد خضراوات تحتوي على كل البروتينات الضرورية، لكن ما دام يُوجَد تنوعات مختلفة كثيرة تُستهلك، مثل القرع والذُّرة والأرز والبقوليات وفول الصويا والمكسرات، فإن حاجة الجسم من البروتين يُمكن أن تُلبَّى. ويستحيل أن نَصِف في هذه الصفحات القليلة عددَ المواد التي تُكونها البروتينات في الجسم وأدوارها المتعددة، لكن من الممكن أن نُلقِيَ نظرة على فئة بعينها وهي الإنزيمات التي تعمل على نقل براعة البروتينات الفائقة. والإنزيمات هي العوامل الحفازة للجسم، فهي تُسهل حدوث التفاعلات السريعة الضرورية للحياة (تذكر أن ثَمة رسالةً يجب أن تنتقل إلى مخِّك عندما تجرح أصبعك، وإذا لم تصل هذه الرسالة بالسرعة الكافية، فإنه يحدث تلفٌ يتعذر إصلاحه.) وتُؤدي الإنزيمات دورها التحفيزي عن طريق تركيبها ثلاثي الأبعاد، ويتمتع كل إنزيم بشكل متفرد يسمح له بالارتباط بالجزيئات المستهدفة، وقد أوضحنا إحدى الطرق التي يُمكن لهذا الربط أن يُسرع عن طريقها التفاعلاتِ الكيميائية لدى تناولنا لموضوع معدلات التفاعلات الكيميائية، فعندما ترتبط مادتان متفاعلتان بإحدى الإنزيمات، فإن الإنزيم يجمعهما معًا في التقارب الأمثل إلى أن يتفاعلا. وتُعَد الطريقة التي يستخدم بها الجسمُ الإنزيماتِ طريقةً رائعةً للغاية، فلا يجب أن تعمل الإنزيمات على نحوٍ دائم إذ إنها لو كانت كذلك فسوف تُحفز التفاعلات بلا انقطاع، فإذا لم تكن هناك حاجةٌ إلى ناتج التفاعل، يجب أن تتوقَّف الإنزيمات عن العمل، ففي أوقاتٍ عديدة، وفي موقفٍ أشبهَ برقصة البالية الرشيقة، تقوم المادة الناتجة نفسُها التي يُنتجها الإنزيم بإيقافه عن العمل. ويُؤدي الإفراط في تكوين النواتج إلى انحراف اتجاه التفاعل، فبدلًا من أن يُكوِّن النواتج، يكسرها، ويجب أن يحتفظ الجسم بتوازنٍ حساس للمواد، سواءٌ كان من ناحية النُّدرة أو الغزارة؛ ومِن ثَم يجب أن تعمل آلية إيقاف الإنزيمات عن العمل تمامًا مثل آلية تحفيزها، ومن المدهش أن هذا هو ما يحدث. ويجب أن يُنظِّم أيضًا عددُ البروتينات نفسَه، ويعمل النظام المسئول عن إنتاج البروتينات وفقًا لمبادئ التوازن أيضًا، فعلى سبيل المثال، إذا كان الإنزيم اللازم لتكسير اللاكتوز موجودًا بصورة دائمة في مجرى الدم، فإنه كان سيجلط الدم ويُعرقل النشاط، فقط في انتظار منتج خاصٍّ بالألبان كي يُستهلَك. ومن ثَم يكسر الجسم بروتيناتِ هذه الإنزيمات ويُعيد تصنيعها، مُخزِّنًا إياها في السائل البروتيني الموجود في الجزء الداخلي لكلِّ خلية، وعندما يظهر اللاكتوز ثانيةً في مجرى الدم، فإن الخلية تُحفَّز لإنتاج المزيد من الإنزيم للتعامل معه، ولكن كيف تُنتج الخلية المزيدَ من الإنزيمات؟ بالطبع، عن طريق بوليمر آخر. والكروموزوم، الذي هو شريط طويل من الدي إن إيه، هو جزيء يحتوي على معلومات حول كيفية صناعة كل البروتينات الموجودة في الجسم، ويُمثِّل الجين أحدُ قطاعات الكروموزوم الذي يُخبر عن كيفية صنع بروتين واحد بعينه، ويعمل تتابع النيوكليوتيدات في الجين كقابل يُترجَم في نهاية الأمر كتتابُعٍ للأحماض الأمينية في البروتين. ويُمكِن النظر إلى الدي إن إيه على أنه ملف مصغر يحتوي على الوصفة أو طريقة العمل. وعندما يحتاج الجسم إلى هرمون يذهب إلى الدي إن إيه ليتلقَّى التعليمات حول كيفية عمل هرمون، وعندما يحتاج إلى إحدى خلايا البشرة أو ظفر، يذهب إلى الدي إن إيه كي يحصل على وصفات للبروتينات، وعندما يكون هناك حاجة إلى بروتين معين — عندما يكون هناك عجزٌ فيه أو يكون الجسم في حاجة إلى المزيد — يتولد ضغطٌ على الاتزان مما يُؤدي إلى حل شفرة جزء من الدي إن إيه. وبهذه الطريقة عندما يحتاج الجسم إلى المزيد من الشعر، تُحفز الخلايا لإنتاج بروتين الشعر، وعندما يحتاج الجسم إلى إنزيمات تُساعد على الهضم، تُستقبَل الرسالة ويُنتَج المزيد، وعندما يحتاج الجسم إلى هرمون الأدرينالين، يكون الهرمون مستعدًّا، بمعدلٍ يسمح لنا أن نقفز فوق السيارات أو نسبق الصرصار. لكن، كما أشرنا في التجرِبة التي بدأنا بها هذا الفصل، مع كل القدرات الهائلة التي تتمتَّع بها الخلية لكي تُلبِّي حاجة الجسم من الإنزيمات، فإن إنزيمًا واحدًا يبقى لا يستطيع جسم الإنسان أن يُنتجه، إنه الإنزيم الذي يُحلل البقوليات تمامًا. والإنزيمات، مثل ذلك الإنزيم الذي استخدمناه في تجرِبتنا، يَحكمها مبادئُ علم الحركة الكيميائية — وهو يُمثل إحدى الروابط العديدة التي تربط بين المبادئ الأساسية للكيمياء والكيمياء المعقَّدة للحياة. وتعرض دراستنا السريعة والخاطفة للكيمياء الحيوية هنا، ممزوجة بمناقشتنا السابقة للأنظمة الكيميائية الحيوية، أن كل مبادئنا الكيميائية تلعب دورًا هامًّا في الحياة، مثل التفاعلات الحمضية القاعدية، وتفاعلات الأكسدة والاختزال، والروابط الكيميائية، وقُوى الجذب البينجزيئية، والتركيز، والمواد الصُّلبة والقابلية للذوبان، وعلم الحركة الكيميائية، وحتى تغييرات الحالة والحالة الغازية. ويلعب الاتزانُ دورًا حيويًّا، وكذلك الديناميكا الحرارية التي تحكمه، وأيضًا الطاقة والأنتروبيا على السواء. وأينما وُجِدت الحاجة لمركب، ينتجه الجسم، وحينما يكون هناك وفرةٌ منه، يتوقَّف الجسم عن الإنتاج، ويستهلك أو يُخرِج الزائد، فعندما نحتاج إلى طاقة نأكل، وجسم الكائن الحي يُؤدِّي دوره عن طريق العرض والطلب من الاتزان الكيميائي. وقد يبدو الأمر غريبًا حينما نُفكِّر في الأنتروبيا في ضوء الكيمياء الحيوية؛ لأن الأنظمة البيولوجية تكون غاية في التنظيم والترتيب، غير أن الكيمياء الحيوية تُعتبَر قوة هائلة على الأنظمة البيولوجية وكذلك على أي مكان في الكون. وتُعطي الرسوماتُ البيانية للخلايا الموجودة في الموسوعات انطباعاتٍ خاطئةً بأن الخلايا تُشبه صفَّ منازل في مدينة أو شقة في مجمع سكني، وجميعها متكدسة معًا ومنظمة ولها الشكل نفسُه، غير أن نظرةً واحدة عبر الميكروسكوب ستعمل على تصحيح ذلك الانطباع، فالخلايا غيرُ منظمة حقًّا وفوضويةٌ، وكل واحدة منها لها شكلها وعاداتها الخاصة، ولا يكون غشاء الخلية صلبًا، فهو مائعٌ ويُغيِّر شكله تِباعًا بصورة دائمة، والدي إن إيه ليس مطبوعة جامدة من المعلومات، لكنه يحتوي على «الجينات القفازة»، و«الجينات المهمَلة»، وهي الجينات التي يُمكنها أن تتحرَّك حول الجينات، التي يبدو أنها لا تقوم بأي دور سِوى زيادة التشويش والفوضى. لكنَّ ثمَّة بعضَ الأسباب لتقدير كلِّ هذه الفوضى؛ فهي تَعني أنه لا يُوجَد نظامان بيولوجيَّان طبيعيان متطابقان تمامًا. لقد تعلَّمنا أن نتفهَّم هذا التفرد ونُحسن استغلاله في ضوء تقنيات الكيمياء التحليلية التي سنتناولها لاحقًا. والآن، تُمكِّننا أدوات الكيمياء التحليلية من تحليل المعلومات واستخراجها من إحدى رقائق الجلد أو من قطرة اللُّعاب. سيفتخر بنا شارلوك هولمز.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.33/
تجربة الكيمياء التحليلية: الدليل في بصمات الأصابع
بافتراض أن هُوية الشاعر يُرمَز لها بالرقم عشَرة، وحتمًا سيجد الكيميائيُّ وهو يُجري تحاليله عليها أنه مُكوَّن من جزء واحد يتعلق بالمصلحة الذاتية. فالتسعة أجزاء من احترام الذات لدى جرينجوير التي زادت وتعاظمَت نتيجة عبير الإعجاب الشعبي قد أضحت في حالة تضخُّم مذهلة، طامسة ذلك الجزيء الدقيق جدًّا من المصلحة الذاتية. لقد ثبت أن دليلَ الدي إن إيه ذو قيمةٍ عالية، وعلى قدر مرتفع من الدقة، ويُمكن التعويلُ عليه، غير أنه لا يكون متاحًا دائمًا، لكن بصمات الأصابع يَسهل رؤيتها ويجري السعي إليها في كل موقع جريمة، ولكي نرى كيف يُمكن جعلُ البصمات الخفية مرئية، ارتدِ نظارة الأمان الواقية وأجرِ التجربة الآتية: خُذ بعض رقائق الألمنيوم واصنع شكل مربع صغير في طاسة أو كِفة ميزان. خذ وعاءَ طعام بلاستيكيًّا سَعتُه نحو واحد جالون (إذا استخدمت وعاءَ زبدة كبيرًا، فسيفي بالغرض تمامًا). اغسل الوعاء وغطاءه ثم جفِّفهما. أحضر برطمانًا صغيرًا، وليكن زجاجة دواء فارغة أو كوبًا أملس أو أي وعاء شفَّاف صغير يُمكِن أن يدخل في وعاء الزبدة، اغسله كلَّه أولًا جيدًا من الداخل والخارج، ثم تناوله باستخدام قفاز أو مِنشَفة لتجنُّب أي بصمات أصابع غير مخطَّط لها. أحضر ملقاطًا نظيفًا، أو كماشة نظيفة، والآن أنت قد حصلت على كل العدة اللازمة لغرفة تحميض بصمات الأصابع. أحضر الغراء الممتاز المدرج في قائمة المشتريات والمحاليل، وتأكد من أنه النوع الذي يحوي سيانواكريلات. وستظهر بصمات الإصبع على البرطمان الزجاجي الصغير أو الوعاء الذي اختارته أنت؛ لذا أمسك بإحكام بأصابعك العارية الكوب، واحرص على ألَّا تلطخ البصمات، ثم ضع البرطمان داخل وعاء الزبدة. دوِّن في مفكرة أين لمست البرطمان لتذكرتك في المستقبل. خذ الكفة التي تحوي رقائق الألمنيوم وضع نحو ثلاثين نقطة من الغراء فيها. وعندئذٍ تتوقف كمية الغراء الموضوعة على حجم غرفة التحميض، فكلما كانت غرفة التحميض أكبر تطلب الأمر إضافة المزيد من الغراء. ضع الكفة التي تحوي الرَّقائق والغِراء في قاع الغرفة إلى جانب البرطمان. وقد تحتاج أن تمسك الطاسة بالملقاط أو الكماشة كي تتجنَّب وصول الغِراء إلى يدَيك وأنت تضع الكِفة في الغرفة. ضع الغطاء بحذر على الغرفة، وتأكد من أن الغراء لا يسيل من الكفة، ثم ضع الغرفة جانبًا طوال الليل. سيتبخر الغراء طوال الليل، وسوف يتفاعل بخار الغراء مع الزيوت والمركبات التي خلفتها وراءك على البرطمان بأصابعك. وفي الصباح، ارفع الغطاء بحذر وأزل البرطمان عن طريق إدخال قلم رصاص أو مسبار آخر طويل في فتحة البرطمان. حاول ألَّا تُلطخ بقايا بصمات الأصابع التي يُمكِن ملاحظتها الآن على البرطمان. هل هناك أي بصمات في أماكنَ أخرى من البرطمان لم تكن ملحوظة اليوم السابق؟ كانت هناك بصمات على برطماننا مع أننا حاولنا أن نكون حَذِرين. وإذا كنت تتمتع بيدَين ثابتتَين، ولديك بعض الورق الأسود، وشريط لاصقٌ شفاف، يُمكنك أن ترفع البصمات من على البرطمان وتجعلها على الشريط. ضع بحذر قطعة صغيرة من الشريط على بصماتك. ولأن البصمات المحمضة تظهر بلون رمادي فاتح، فإن إلحاق الشريط بالبطاقة السوداء يجعلها أكثر وضوحًا، والبصمات يُمكن رفعها من عدة أسطح، حتى الأسطح غير المحتملة أيضًا، فعلى سبيل المثال، يُمكن رفع البصمات من داخل القفازات الجراحية بحرص شديد. ارتدِ قفازًا جراحيًّا وأمسك مقبض الباب أو أي شيء آخر بإحكام. انزع القفاز بحيث تُخرج الجزء الداخلي للخارج ثم ضعه في غرفة التحميض. انشره قليلًا بحيث يتسنَّى للبخار أن يصل كل المناطق. ظهر البصمات بنفس الطريقة السابقة. وها قد تمكَّنا من تظهير إحدى البصمات من داخل قفازاتنا التي تَمكنا من نقلها على شريط. وتُعَد بقع الدم أيضًا غاية في الأهمية في إعادة بناء موقع الجريمة، وتُوضح هذه التجربة الأخرى كيف يُمكن اكتشاف وجود الدم، فالهيموجلوبين الموجود لدى الثدييات يعمل كعامل حفاز في انحلال فوق أكسيد الهيدروجين، ويُمكننا الحصولُ على القدر الكافي من الهيموجلوبين لهذه التجربة من قطعة لحم نِيئةٍ، أو عندما تشتري قطعة لحم بقري يُمكِنك أن تأخذ الأنسجة الماصة الموجودة تحتها وتستخدمها كمصدر للدم. وسوف تحتاج إلى كوبَين صغيرَين شفَّافَين من البلاستيك ولون أحمر من ألوان الطعام كعنصر ضابط. ضع مقدارًا قليلًا من لون الطعام الأحمر في أحد الكوبَين مع بعض الماء ثم اخلطهما معًا. خذ اللحم النِّيء أو الأنسجة من اللحم البقري، ثم اعصر القليل من الدم في الكوب الآخر. ثم صُب نحو ملء ملعقة صغيرة (٥ مليلترات) من فوق أكسيد الهيدروجين في كل كوب. يتأكسد لون الطعام ببطء بسبب فوق الأكسيد ويتلاشى اللون تدريجيًّا، لكن الدم سوف يُسبب تحللًا سريعًا وقويًّا لفوق أكسيد الهيدروجين، ويُميز الاختلاف في التفاعلَين بوضوح الدم عن لون الطعام.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/2.4/
الكيميائي محللًا
لقد عثرت على شارلوك هولمز وحده، لكنه كان نِصفَ نائمٍ بقِوامه الطويل النحيل منكمشًا في كرسيِّه الهزاز. وقد استنتجت من وجود مجموعة هائلة من الزجاجات وأنابيب الاختبار، ومع تصاعد … رائحة حامض الهيدروكلوريك النفاذة، أنه قد قضى يومه في العمل الكيميائي الذي كان يُقدِّره أيَّما تقدير. وسألت وأنا أدخل: «هل وجدتها؟» أجابني: «أجل، لقد كانت بيكبريتات أكسيد الباريوم.» صرخت: «لا، أعني حل اللغز!» بالطبع يسهل على السكر أن يكون حلوًا وعلى نترات البوتاسيوم أن تكون مالحة. الكيميائي باعتباره محللًا، أيُعقَل هذا؟ بالطبع نعم، فنحن لا نستخدم أريكة لكي نُحلل كيميائيًّا، نحن نستخدم كيميائيًّا لكي نُحلل أريكة. لكننا أرجأنا مناقشتنا للكيمياء التحليلية إلى قرب النهاية؛ لأنها تُخرج أفضل ما لدى الكيميائي بطرقٍ شتَّى. ففي الكيمياء التحليلية، تُحضَر كافة أدوات الكيمياء وكل مواهب الكيمياء من أجل طرح سؤالَين هما: ما الكيمياء التحليلية، وما الكمُّ الموجود لدينا منها؟ عند نقطة ما سنجد كل الكيميائيين كيميائيين تحليليين، وأن كل الكيمياء تتطلب تحليلًا. وثمة مناطقُ عديدة متخصصة تهم الكيميائيين التحليليين مثل خبراء مراقبة الجودة الذين يضمنون جودة الأطعمة التي نتناولها، ومدى الوثوق بالأدوية، وكل السيارات الجديدة التي تدور في خطوط التجميع لها البريق نفسُه، لكن الكيمياء التحليلية منتشرة للغاية حتى إن العديد منا، عادةً ما يعمل كاختصاصي في الكيمياء التحليلية عندما يستخدم عبوات اختبار مياه الصنبور وعبوات اختبار ماء حمامات السباحة، وعبوات اختبار الرادون، وعبوات اختبار مياه أحواض الأسماك، وعبوات اختبار التُّربة، واختبار نِسَب الرصاص في موادِّ الدهان, وحتى اختبارات الحمل، واختبارات مرض السكَّري، ومُحللة النفس الشهيرة التي تَقيس نسبة الكحول في نفس السائق. وتَكمن وظيفة كيميائي التحاليل في إيجاد — أو استنباط — الأداة أو الأدوات اللازمة لتحديد كمية المادة المعطاة أو طبيعة مادة غير معروفة. وتقع الكيمياء التحليلية في نطاق الأعمال البحثية، ومثل محقق يحل الألغاز، يتعيَّن على كيميائي التحاليل أن يتحرك بحذرٍ وبمثابرة أيضًا كي يجدَ الإجابات الصحيحة. وكما أن الشرطيَّ يتعين عليه لدى حدوثِ جريمة أن يُؤمِّن مسرح الجريمة حتى يَحول دون إفساد أي دليل موجود، كذلك يتعين على كيميائي التحاليل أن يتأكد من أن كل المعدات والأدوات الزجاجية التي يستخدمُها نظيفة تمامًا وخالية من أيِّ تلوث. وكما أن مُحقق الشرطة يجمع أتفه الأدلة، يتعامل كيميائيُّ التحاليل في بعض الأحيان بالمثل مع مقادير مثل الميكروجرام (جزء من مليون من الجرام)، والنانوجرام (جزء من مليار من الجرام)، والبيكوجرام (جزء من تريليون من الجرام) كي يحصل على الإجابات. وقد يصل الأمر بكيميائي التحاليل إلى أن يأخذ بعين الاعتبار طفو الهواء؛ لكي يحصل على الوزن الدقيق. وكما يجب على رجال الشرطة أن يحتفظوا بأسلحتهم ويُقدِّموها في الميعاد في مكان التدريب، هكذا يجب على الكيميائيين التحليليين أن يضمنوا دائمًا أن أدواتهم لا تزال محتفظة بالتدرج وتعمل جيدًا. وفي عمل الشرطة، إذا اعترف أحدهم دون أن تُتَّبع الإجراءات المناسبة التي تنصُّ عليها اللوائح، فإن أكبر الدلائل تُصبح عديمة الجدوى. وعلى نفس المنوال، يجب أن يكون كيميائي التحاليل قادرًا على الدفاع عن النتائج التي يصل إليها عن طريق تسجيل المعالم مثل حدود الثقة ومستويات التشويش الصادرة عن الأدوات والأشكال المهمة. ويجب أن يكون كيميائيُّ التحاليل ضليعًا دائمًا، فإذا وُجِد خيط من سجادة لن يُساعد على تحديد موقع المجرم في مسرح الجريمة، لكن خيط السجادة مع شعرة الكلب مع بقعة دهان لم يجفَّ بعدُ قد تُكوِّن معًا أدلة مقنعة لهيئة المحلَّفين. ويجب على كيميائي التحاليل في أوقاتٍ عديدة أيضًا أن يُقدِّم مجموعة من الأدلة، أي نتائج تُثبِت أدلته باستخدام طرق بديلة وتَكْرار نفس الإجراءات مرات عديدة لكي يُثبت أن النتائج منطقيةٌ من الناحية الإحصائية. وفي بعض الأوقات، يجب أن يُعيد الاختصاصي في الكيمياء التحليلية، شأنُه في ذلك شأن البوليس السري الذي يتبع المبادئ العلمية في البحث، هيكلةَ الأحداث، فعندما يحدث انفجار، قد يكون لذلك أسباب عدة، ليست جميعُها شريرة، لكن إذا كان هنالك آثارٌ لموادَّ كيميائية لا تُستخدَم لأي أغراض أخرى غير التفجير، عندئذٍ يكون هذا دليلًا قويًّا على أن التفجير مُتعمَّد. وعندما يُشتبَه في تعاطي المخدرات، يُفحَص الدم، غير أن دليل وجود الهيروين في الدم لا يعتمد على وجود آثار من الهيروين، لكنه يعتمد على وجود نواتجِ أيض الهيروين، أي المورفين، ومع ذلك حتى وجود المورفين لا يشير دائمًا إلى استهلاك الهيروين، فقد وُجد أن بذور نبات الخَشْخاش التي تُستخدَم في المخبوزات تحتوي على نسبة ضئيلة من الأفيون، ويُمكِن أن يُنتج نسبًا ضئيلة من المورفين في البول. والأدوية المصرَّح بها يُمكن أن يقوم الجسم بأيضها إلى موادَّ خاضعةٍ للسيطرة؛ ومِن ثَم يجب أن تُؤكِّد الأدلة الأخرى وجود الأدوية المحظورة أو تدحضه. في الواقع، ثمة تشابهات عديدة بين كيميائي التحاليل المحنَّك والمحقق الجنائي، لدرجةِ أننا سوف نستخدم تحقيقًا افتراضيًّا بواسطة كيميائي تحليليٍّ يعمل في مجال الطبِّ الشرعي؛ كي نُوضح كيف يتحرك هذا المتخصص المحترف. إن مهمة الكيميائي العامل في مجال الطب الشرعي هي أن يُطبِّق الكيمياء التحليلية على القضايا الهامة للنظام القانوني. عادة ما يعمل الطبيب الشرعي في مختبر حكومي وقد يتحمَّل مسئولية الذَّهاب بنفسِه إلى مسرح الجريمة، وتجميع الأدلة، وفحص الأدلة والشهادة في المحكمة. ولكي نرى كيف يُمكن أن يعمل كل هذا، دعونا نبدأ بسيناريو لموقع جريمة افتراضي ونتتبَّع سير عمل اختصاصي الكيمياء التحليلية وهو يتحرك. ولنقل مثلًا إن الشرطة قد استُدِعَيت في إحدى الليالي إلى مبنًى ما بسببِ الصَّرخات العالية الصادرة عن إحدى الشُّقق والتي تبعها غلق الباب بعنف شديد. تصل الشرطة وتجد جثةَ امرأة غارقة في بِركة من القيء. ويذكر الطبيب الشرعيُّ من الفحص المبدئي أنه يبدو أن المرأة ماتت إثر حادثة من جراء إصابتها بصدمة تأقية (فرط شديد في الحساسية)، غير أنه يجب بالطبع أن يُجري تشريحًا للجثة للتأكد. والصدمة التأقية، التي تكون السبب وراء العديد من حالات الوفاة سنويًّا، هي تفاعل تحسُّسي شديد للغاية حتى إنه يُسبب انقباضًا في الحنجرة لدرجة الاختناق، والمادة التي تُسبب التفاعل التحسسي، التي يُطلَق عليها المسبب للحساسية، قد تكون من مكسرات أو بيض أو سُمِّ نحلة أو العديد من المواد المعروفة. وعادة يُعاني الأكثر عرضة للصدمة التأقية استجابة أولية خفيفة لنفس المسبب للحساسية، ثم تزداد حساسيتهم باطِّراد شديد مع كل تعرُّف للمسبب للحساسية. والذين يعرفون أنهم عرضة لمثل هذه الاستجابات الشديدة يحملون جهاز «إيبيبن»، وهو جهاز صغير يُشبه القلم لحقن جرعة من الأدرينالين تُقاوم الانتفاخ وتنقذ الحياة، ووفقًا للطبيب الشرعي في قصتنا، المرأة التي عُثر عليها في الشقة لديها كل العلامات التي تدل على أنها قد عانت هذا الموت المؤسف لكن الطبيعي، لكن ثمة تقريرًا يُفيد بأنه كانت هناك صيحات عالية وغلقٌ عنيف للباب؛ ومِن ثَم استُدعي فريق كامل من الطب الشرعي. عادةً يدرس الكيميائي العامل في مجال الطب الشرعي كل الأدلة الممكنة في مسرح الجريمة ويسجلها، لكن في هذه الحالة، يتفحص الكيميائي محتويات الأرفف وخزانة الأدوية ويأخذ أي عينات من فوق الأسطح ليرى ما إذا كان بمقدوره أن يُحدد مصدر المادة المسببة للحساسية، ويقوم بمسح يدِ الضحية ووجهها؛ كي يجمع أي آثار لموادَّ كيميائية، كما يأخذ عينة من دم الضحية ومحتويات المعدة المتوافرة في بركة القيء. ويُلاحِظ الكيميائي أن المأكولات الموجودة على الأرفف منتقاةٌ بعناية بحيث تكون خالية تمامًا من زيت الفول السوداني أو منتجات الفول السوداني؛ ومن ثَم يُشتبَه في أن المرأة تُعاني حساسية من الفول السوداني، المتهَمِ الأكبر في الصدمات التأقية. ويأخذ الكيميائي عيناتٍ بحذر من كل الأطعمة الموجودة في الثلاجة، وكل الأوعية الموجودة على الأرفف، كما يفحص حافظة نقود الضحية وجيوبها، لكنه لا يجد شيئًا جديرًا بالاهتمام. ويفتح أيضًا الأدراج في المطبخ وحجرة النوم دون طائل أيضًا. وينظر في خزانة الأدوية ولا يجد إلا بعض الأدوية التي ليس لها وصفات طبية مثل أسبرين ومضاد للحموضة وضمادات. وعندما كف الكيميائي عن العمل وكان يستعد للرحيل، توقف ليُخبر الضابط المسئول أن ثمة حاجةً إلى إجراء المزيد من التحقيقات، فهو يعتقد بِناءً على ما رآه حتى الآن أنها جريمة قتل. عزيزي القارئ، أتعتقد أنت أيضًا ذلك؟ بدأت الشرطة تتصرف بناء على اقتراح الكيميائي، وعاد هو إلى مختبَره لكي يُؤكِّد بعض شكوكه. أولًا، إذا قلنا إن سبب الوفاة هو استجابة حادَّة بسبب الفول السوداني، إذن يجب أن يكون هناك بعضٌ من زيت الفول السوداني أو بقايا للفول السوداني في مكانٍ ما في جسم الضحية. عندئذٍ يأخذ الكيميائي عيناتِه ويَشرع في تحليلها. وأول مشكلة قد تُواجه اختصاصيَّ الكيمياء التحليلية عمليةُ الفصل، فكما تفصل الشرطة الشهود وتأخذ كلَّ واحد في حُجرة على حِدَةٍ لتستمع إلى شهادته حتى تتجنَّب أيَّ تدخُّلٍ أو تشويشٍ من ذوي النفوذ على غيرهم، كذلك سوف يبذل اختصاصي الكيمياء التحليلية أقصى جهده كي يفصل مكونات الخليط غير المعروف؛ ومن ثَم يُمكن تحليل المواد المفصولة دون تشويش من الأنواع الأخرى. وإذا كانت المواد تُوجَد في مراحل منفصلة، عندئذٍ يُمكن استخدام تقنية مباشرة مثل الترشيح، فعلى سبيل المثال، يُرشح الكيميائي عينات محتويات المعدة، ثم يبرد المرشح كي يتبيَّن إذا كانت موادُّ أخرى ستنفصل. إذا كان المركب موضع الاهتمام مركبًا عضويًّا، فإنه يُمكن فصلُه عن المركبات غير العضوية المصاحبة له بواسطة طريقة استخلاص مبسطة مثل تلك التي استخدمت لاستخراج حامض الأسيتيل ساليسيك من الأسبرين في تجربة الكيمياء العضوية، لكن نتيجة استخلاص محتويات المعدة والدم ستكون خليطًا من المواد العضوية، وإذا كانت المحاولة التي نود أن نُجريَها هي محاولة فصل مادتَين عضويتَين، إذن الطريقة التي ستجري هذا العمل البارع هي طريقة الكروماتوغرافيا (الاستشراب). والكروماتوغرافيا هي تقنية للفصل يُمرَّر فيها المذيب على خليط ويحمل العديد من المواد المذابة على مسافات مختلفة. وربما يُمكن تشبيه ذلك بعملية فصل الأتربة عن الذهب؛ إذ يغسل الماء الذي يتدفق بلا انقطاع فوق الرمال الجزيئات الأقل كثافة، مُخلفًا وراءه الذهب. ويُمكن توضيح التقنية التي تقوم عليها الكروماتوغرافيا بطريقة مبسطة باستخدام الأسيتون أو مُزيل طِلاء الأظفار وبعض أوراق الشجر. اقطع ورقَتَي شجرة خضراوَين أو ثلاثًا، ومزقهما ثم ضعهما في قاع كوب شرب زجاجي. وبعد أن ترتديَ نظارة الأمان الواقية، أضِف نحو ثلاث بوصات من الأسيتون (مُزيل طِلاء الأظفار)، الذي ينبغي أن يُغطي كومة أوراق الشجر. اترك خليط الأوراق هذا لعدة دقائق حتى يتمكَّن الأسيتون من استخراج مركبات من الأوراق. قصَّ قطعتين من ورق الحمام طويلتَين بما يكفي ليصلا إلى قاع الكوب. لف إحدى طرَفَي الورقتَين حول قلم رصاص وثبِّتها بشريط لاصق، ينبغي أن تكون الورقة الآن أقصر قليلًا من ارتفاع الكوب لكن بالقدر الذي يُسمَح لها أن تلمس السائل. ضع القلم الرصاص في الكوب، واغمس ورق الحمام في خليط الأسيتون وورق الشجر. وبعد مرور بضع ساعات ينبغي أن يظهر على الأقل شريطان مختلفان من الألوان على الورق؛ إذ ينتقل الأسيتون إلى أعلى الورق بفعل الخاصية الشعرية، وينقل معه صبغة ورق الشجر، لكن انتقال صِبغة ورق الشجر بهذه السهولة مع المذيب يتوقَّف على نوع الصبغة؛ ومِن ثَم عندما يكون هناك أكثرُ من صبغة واحدة في الورقة، فإنها تنفصل إلى مجموعات. انتظر دقيقةً ثم انظر إلى لونِ المجموعات، ينبغي أن يكون لون إحداها أخضر، لكن المجموعة أو المجموعات الأخرى يكون لونها الأصفر أو البرتقالي أو الأحمر. ويُقال في موسم الخريف إن الأوراق تغير لونها، لكن حقيقة الأمر، هذه الألوان التي يبدو أن الورق قد غيرها موجودة بالفعل في الورقة من البداية، لكن ما يَحدث هو أن الكلوروفيل هو الذي يُفقَد في موسم الخريف، وباختفاء الكلوروفيل وبقاء الصبغات الأخرى تظهر الألوان الأخرى. وما إن يفصل كيميائي الطب الشرعي كل المواد العضوية من الأقطان التي استخدمها في مسح الجثة وغيرها، قد تكون الخطوة التالية التي سيُقدِم عليها هي التركيز. ويتعين التغلب على مشكلة التركيز إذا كانت المادة التي ستخضع للتحليل موجودة بكميات قليلة. فمع أن الطرق التحليلية في تقدُّم مستمر طوال الوقت، وتزداد حساسية الأجهزة باطِّراد مستمر، فإنه لا يزال هناك حدٌّ أدنى، ولا يُمكن لأجهزة معيَّنة أن تكتشف المادة إذا كانت كميتها أقلَّ من هذا الحد الأدنى. فعلى سبيل المثال، قد يصعب كشف الكميات الصغيرة من السموم في الدم. فأجسامنا بطبيعتها تركز السموم في الكبد، وقد يستفيد المحلل من هذه الحقيقة إذا كان الكبد متاحًا، أما إذا لم يكن متاحًا، فقد يحدث التركيز عن طريق التبخير أو الترسيب أو الطَّرد المركزي — وهي الطريقة التي تُدار فيها العينات في أنابيبِ الاختبار بمعدلات سرعة عالية حتى تترسَّب المكونات الأكثر ثقلًا في القاع. وتُعَد الكتلة خاصية مُحدِّدة للهوية جيدة جدًّا، فإذا كان لديك شيءٌ مستدير يَزِن عشَرة أرطال (خمسة كيلوجرامات)، وشيء آخر يزن أوقية واحدة (٢٨ جرامًا)، فإنك ستكون قادرًا على الفور أن تُميز الكرة الحديدية عن كرة التنس، لكن الموقف ليس بهذه السهولة للتحليل الطيفي للكتلة، فلكي تُفصل الجزيئات بِناءً على الكتلة، يجب أن تُحولها أولًا إلى أيونات، والطريقة التي يُمكن بها تحويل الجزيئات إلى أيونات هي تحطيمها، وهي الطريقة التي تصطدم فيها الجزيئات بمصدر من الإلكترونات بمجرد خروجها من عمود الكروماتوغرافيا، ونرى هنا مرة أخرى قوة الإلكترونات، وقد ذكرنا من قبل أن الإلكترونات بالنسبة للجزيئات مثل البُرْغوث بالنسبة إلى الفيل، لكن تخيَّل لو أن سِربًا ضخمًا قويًّا من هذه البراغيث هاجم الفيل! كذلك، قد تكون الإلكترونات صغيرة للغاية، لكنها تمتلك القوة التي تُساعد على حدوث الكيمياء. وشظايا الجزيئات عامَّة تفقد إلكترونات؛ ومِن ثَم تتمتع بشحنة صافية، وتمامًا كما رأينا في الكهرباء المغناطيسية التي حصلنا عليها من توصيل سلك بمسمار وبطارية، يتفاعل المجال الكهربائي الخاص بالشحنة المتنقلة مع المجال المغناطيسي، وقد صُنِعت الشظايا كي تنتقل في مسارٍ مُنحنٍ عن طريق المجال المغناطيسي، بالإضافة إلى أن الكتلة والشحنة الموجودة على الشظية يُحددان نصف قطر المنحنى، ومن ثم تُرتب الشظايا بالكتلة. وبنهاية هذا الاختبار يأمُل الكيميائي أن المعدل كان جيدًا وأن التفسير كان دقيقًا — أو أن هناك عينة كافية لمحاولة أخرى — لأن هذه التقنية تعد تقنية مدمرة، وذلك لأن العينة قد نَفِدَت الآن ولا يُمكن استعادتها، ولحسن الحظ، ثمة طرقٌ أخرى متعلقة بالمنظار وغير مُدمِّرة، وإحداها هو التحليل الطيفي للضوء. لقد شاهدنا عندما عرَضنا مادة التبييض للضوء الأسود أن الأنواع المختلفة من الضوء تتفاعل مع المادة بطرق مختلفة، وأن نوع الضوء الذي تتفاعل معه المادة يُمكن أن يكون إحدى خواصِّ المادة. ويُستغَل هذا التفاعل الحادث بين الضوء والمادة عن طريق التحليل الطيفي للضوء، فعينةٌ من المادة تتعرض لشعاع ضوئي انفصل إلى مكوناته بنفس الطريقة التي يفصل بها المنشور الضوء إلى ألوان، ويُسمَح لحُزمة معينة من الضوء أن تنفذ من خلال العينة، ثم يُكشَف عن كمية الضوء التي تنجح في النفاذ من العينة من الجانب الآخر وتُسجَّل. ثم يُسلَّط تردُّد جديد من الضوء على العينة، وعندئذٍ يُسجَّل مرة أخرى مقدار الضوء الذي نفذ من العينة وهلم جرًّا. وحتمًا إذا جرت العملية بالتدريج والبطء الممل كما أشرنا، فإن التحليل الطيفي للضوء سيكون تقنية شاقة للغاية وقد كان بالفعل كذلك في وقتٍ ما، غير أن تحسيناتٍ عديدةً أُدخِلَت عليه فيما بعد حتى أصبح الآن تقنيةً سريعة ودقيقة للغاية. وتتضمَّن أنواع التحليل الطيفي للضوء، التي تُستخدَم على نطاق واسع، التحليل الطيفي للأشعة فوق البنفسجية، والتحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء، والتحليل الطيفي للموجات الميكروئية الذي يكون أقلَّ شيوعًا في مختبرات الطب الشرعي. وغالبًا يُستخدَم التحليل الطيفي للأشعة فوق البنفسَجية في تحليل المركبات غير العضوية، في حين أن التحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء يُستخدَم غالبًا في تحليل المركبات العضوية. وفي الواقع، تُرجع بعض المصطلحات المستخدمة للإشارة إلى التحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء ذاكرتنا مرة أخرى إلى طبيبنا الشرعي، فالمنطقة التي أظهر فيها مطياف الامتصاص الخواص التي تميز بشدَّة المركب الذي يخضع للتحليل تُسمَّى منطقة «بصمة الإصبع»، وهو مفهوم ينبغي أن يتشجَّع به طبيبنا الشرعي! غير أن التحليل الطيفي للضوء، شأنه شأن التحليل الطيفي للكتلة، لا يطبع اسم المركَّب على قُصاصةٍ من الورق ويُسلمها لك، فالطريقة التي يتفاعل بها الجزيء مع الضوء سوف تعتمد على طبيعة كلِّ أنواعه وترتيبها؛ ومِن ثَم تُعَد الاستجابة للضوء متنوعةً ومعقَّدة، ويُمكن أن يلجأ اختصاصيُّ الكيمياء التحليلية مرة أخرى إلى مجموعة البيانات، لكن إن لم يكن الفصل نقيًّا تمامًا، ويُصاحبه بعض الملوثات أو التشويش أو الشظايا، فعندئذٍ سيكون هناك الكثيرُ من العمل البوليسي لنقوم به. ويجب أن تُوضَع العينة في الموضع المناسب في اللهب، ويتمتَّع اللهب نفسه بكيمياء مذهِلة تتمثل في أن بعض المناطق في اللهب نفسه تكون أكثرَ سخونة من غيرها، وبعض المناطق تُساعد على حدوث تفاعلات أكسدة، والبعض الآخر تفاعلات اختزال. وبالطبع، يُوجَد هناك أكثرُ أوجه كيمياء اللهب تشويقًا، المتمثلة في اللهب الذي ينتج حرارةً وضوءًا معًا. ويعتمد لون اللهب على المادة الموضوعة في اللهب، مثلما تعتمد ألوان الألعاب النارية على المادة الموجودة في المدفع، وفي أحد الأوضاع، يستفيد جهاز مطياف الامتصاص الذري من هذه الحقيقة كي يُحلل المادة التي فُصِلَت ذراتها في اللهب، فالكاشف الضوئي الموجود بالقرب من اللهب يُسجِّل الألوان المختلفة لألسِنة اللهب وكثافتها، التي تُعَد متناسبة مع كمية كلِّ مادة موجودة في اللهب. وفي وضع آخر، يستخدم جهاز مطياف الامتصاص الذري بعض الظواهر الفيزيائية الأخرى المعروفة والمستخدمة، مثل حقيقة أن الموادَّ تميل إلى امتصاص تردد الضوء نفسِه الذي ينبعث منها، فمثلًا النظارات التي تكون عدساتها ذات لون وردي تجعل لون الأشياء من حولنا كافةً أقربَ إلى اللون الوردي؛ لأن المواد المصنوع منها العدسات صُمِّمَت لكي تمتصَّ كل الألوان عدا اللون الوردي، ويُمكن تحديد المواد عن طريق الألوان التي تمتصها. وفي جهاز مطياف الامتصاص الذري أيضًا، يُوجَّه ضوء المصباح المصمم كي يبعث خطًّا رفيعًا جدًّا من الألوان نحو العينة الموجودة في اللهب. ويُصمَّم المصباح بحيث تكون مادة التحليل هي أيضًا المادة التي تُنتج ضوء المصباح، أو بكلمات أخرى، إذا أراد المحلل أن يُحلل الصوديوم، فعندئذٍ يُستخدَم مصباح يحتوي على صوديوم، وفي هذه الحالة يبعث المصباح ضوءًا مُميزًا للصوديوم، وإذا كان يُوجَد أي صوديوم في العينة، فإنه يمتص الضوء، ويبين الكاشف أن ثمة بعضَ الضوء المفقود. والطرق التي يستخدمها طبيبنا الشرعي الشجاع هي تقنيات التحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء وللكتلة، وبنهاية الجهود التي بذلها، وجَد بالفعل آثارًا لزيت الفول السوداني في فم الضحية؛ ومِن ثَم فالأسئلة التي تطرح نفسها هي: من أين جاء هذا الزيت؟ وإلى أين ذهب؟ يُحلِّل بطلُنا عينات الطعام والدواء التي أخذها من الشقة لكنه لا يجد شيئًا، ويُلاحظ أن المريضة قد قرأت البطاقات حتمًا بعناية شديدة كي تتجنَّب حتى المنتجات التي يبدو أنها غير مضرة مثل بعض أنواع الآيس كريم والسلع المخبوزة وصوص السلطة والحساء التي من الممكن أن تحتوي على زيت الفول السوداني، ولم تكشف المعدة أو الدم عن وجود أية سموم أخرى، مع أن هناك دليلًا على حدوث استجابة تحسسية حادة، ويظل يُفكر مليًّا بعناية بالغة، ويُجدول النتائج التي توصَّل إليها وإذا بالهاتف يرن؛ إنها الشرطة تتصل به كي تُخبره بأنه كان محقًّا؛ فقد وجدوا ما أخبرهم أن يبحثوا عنه، ألا وهو جهاز إيبيبن غيرُ مستعمَل — وهي حقنة مليئة بدواء منقِذ — مُلقاة في وعاءِ قُمامة خلف البناية التي تعيش فيها، مع زوج من القفازات الجراحية. ما الذي جال بخاطر الكيميائي وجعله يخبر رجال الشرطة أن يبحثوا عن جهاز إيبيبن خارج الشقة؟ عندما بحث هو في الأرفف وفي خزانة الأدوية وبجانب الضحية لم يجد جهاز إيبيبن، لقد علم أن الضحية كان حريصة للغاية بشأن اختيار مأكولات خالية من المادة المسببة للحساسية (زيت الفول السوداني)؛ ومِن ثَم كانت الضحية على دراية بالحساسية المصابة بها، وأي شخص كان على علم بأنها مصابة بمثل هذا النوع من الحساسية الخطيرة، يعلم حتمًا أنها ينبغي أن تكون محتفظة بجهاز إيبيبن في متناولها أو في مكان يسهل الوصول إليه، وهي قد مُنعت من الوصول إليه. ويعلم طبيبنا الآن أنه سوف يجد على سطح القفاز زيت الفول السوداني، وقدرًا لا بأس به من بصمات الأصابع داخل القفاز. ومن ثَم قد تكون مهنة اختصاصي الكيمياء التحليلية معقدة وصعبة ومرهقة ودقيقة، غير أنها لا تزال تُستخدَم على نطاق أوسع من نطاق الجرائم. ومع أن بعض الناس قد يكون لديهم حساسيةٌ لبعض النباتات، وبعض النباتات قد تكون سامَّة لكل الناس، فإن التفاعلات بين النباتات والحيوانات لا تكون دائمًا متضادة؛ إذ تكون النباتات في بعض الأحيان مفيدةً للغاية، في حقيقة الأمر، عندما يتعلق الأمر بالنباتات والحيوانات، فإنَّ لهما مستقبلًا معًا، مستقبل الكيمياء.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.34/
تجربة للمستقبل: كيمياء خزانة الأدوية
لإجراء تَجرِبتنا الأخيرة، اذهب إلى خزانة الأدوية وخذ مُشابهًا صناعيًّا لخلاصة لحاء نبات الصَّفصاف المعالَج لتخفيف التأثير الحامضي، أو بكلمات أخرى: خذ أسبرينًا. ما علاقة الأسبرين بمستقبل الكيمياء؟ واصِل القراءة.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/2.5/
هاري، وهوجوارتس، ودستور الأدوية العامة؛ غموض في الماضي وسحر في المستقبل
أنت هنا كي تتقن العلم البارع والفن الدقيق لصناعة الأدوية … ولأن هناك عصًا سحرية خرقاء تلوح، سيصعب على الكثيرين منكم تصديق أن هذا سحر … جمال الغلاية التي تتصاعد أدخنتها اللامعة، والقوى الدقيقة للسوائل التي تزحف عبر أوردة البشر ساحرة أذهانهم، وملهبة مشاعرهم … بمقدوري أن أعلمك كيف تُعبئ الشهرة في زجاجات، وتطهو المجد، وتُوقف زحف الموت … صاح سناب فجأة قائلًا: «بوتر، ما الذي يُمكن أن أحصل عليه إذا أضفت جذورًا مطحونة من نبات البروق إلى منقوع الشيح؟» هل تظن أن العلوم كانت لتنشأ وتصبح رائعة لو لم يكن هناك سحرة وخيميائيون ومُنجِّمون ومشعوذون الذين كانوا متعطشين لقوى محظورة؟ هناك عشرات الملايين من المركبات الكيميائية المعروفة، ويُجمَع المزيد كلَّ يوم، وفعليًّا عددُ مجموعات العناصر التي ستُكتشف في المستقبل عددٌ لا نهائي، وهكذا يستمرُّ الجدول الدوري في التوسُّع، وقد أصبحنا تقريبًا ماهِرين في مهنتنا. ومثلما يكونُ الأطفال في متجر الحلوى حيث يُوجَد الكثير من الحلوى، لكنهم لا يعرفون من أين يبدَءُون، هكذا الحال معنا؛ إذ لا يكون السؤال هو هل هناك المزيدُ من الكيمياء لتُكتشَف، لكن السؤال هو أين ينبغي أن نُركز أولًا. ومع كل المشكلات التي تُواجه بقاء الجنس البشري، فلا يُمكننا أن نضع مليونَ كيميائي في مليون مختبر، ونأمُلَ أن نجد الحلول لهذه المشكلات، ولنأخذ على سبيل المثال مشكلة اكتشاف الأدوية، فكيف يُمكِننا أن نُقرر أي مركَّب من عشرات ملايين المركبات غير التقليدية الموجودة لدينا سوف نُجربه كعلاج للأمراض؟ لقد حدث في الماضي بعضُ الصُّدف السعيدة، لكن لا يُمكِننا أن نعتمد على الحظ. وهناك اختياران في عملية التصنيع الرشيد للأدوية؛ أوَّلهما: أنه يُمكِننا أن نُجرِيَ اختباراتٍ متنوعةً على المركبات التي نجح استخدامها في الماضي وهذا النهج مقبول ومعقول وغالبًا ما ينجح؛ فعندما يتغيَّر نوع معيَّن من البكتيريا يُطوِّر سُلالة مُحصنة ضدَّ أدويتنا، عندئذٍ يُمكِنُنا أن نأخذ الدواء الذي كان يعمل من قبل ونُضيف مجموعةً جديدة من الذرات، أو نُغير رابطة لنرى هل بمقدورنا أن نجعله فعالًا مرة أخرى، وقد أنتج هذا النهج، الذي يُسمَّى «النهج التوفيقي»، مركباتٍ نافعةً عديدة، غير أن هذا النهج قد شُبِّه أيضًا بشجرةٍ ذات جذور عدة، فهي يُمكنها أن تختبر أنواعًا عدة من التربة، لكن أنواع التربة التي تقع على مقربة منها فحسب، فإذا كان هناك دواء جديد ذو تركيب جديد تمامًا، فمن أين للنهج التوافقي أن يكتشفه؛ فهو ينحصر في مجموعة معينة من المركبات! ألقِ نظرةً أخرى على خِزانة الأدوية الخاصة بك لترى منتجات أخرى مصنوعة من النبات في الأصل، مثل الأدوية المثبِّطة لمستقبلات البيتا، وأدوية تنظيم النسل، والمسكنات، والملينات، والمطهرات، والصابون … من ثم المرة القادمة التي تتناول فيها الأدوية المهمة اذهب للخارج، واحضن شجرة كي تُعبر لها عن امتنانك. ويُطلَق على دراسة كيمياء النباتات مصطلح «الكيمياء النباتية أو كيمياء العقاقير»، وحقيقة أن أدوية فعالة عديدة وُجِدت في المواد الطبيعية التي تُنتجها النباتات (يُقال إنها قد تصل إلى ثلث الأدوية المصنَّعة حاليًّا) تُثير التساؤل: لماذا؟ لماذا يُفترَض أن النباتات تُنتج موادَّ تتفاعل مع الإنسان؟ ولماذا تجعلنا بعض المواد التي تُنتجها نباتات معينة في صحة جيدة، وبعضها يجعلنا سعداء، وأخرى تجعلنا ننام، والبعض منها يُميتنا؟ بالطبع من الممكن أن يكون هذا مجرد صدفة، فكلُّنا وُجِدنا في الكوكب نفسِه — الإنسان والنبات — ومن ثَم ينبغي أن تكون كيمياؤنا متشابهة، ومن المرجح جدًّا أن الأدوية التي هي في أصلها نباتاتٌ متوافقة تمامًا مع أنظمتنا؛ لأننا نتشارك في الحيز الكيميائي نفسِه (الكوكب)، ولكن هناك أيضًا علاقة نفعيَّة بين النبات والحيوان، فكلاهما على القدر نفسِه من الأهمية، تستهلك النباتات ثانيَ أكسيد الكربون وتُنتج الأوكسجين، والحيوان يستهلك الأوكسجين وثانيَ أكسيد الكربون. ويُلقِّح النحلُ الزهور، وتُغذِّي الزهورُ النحل. ونجد أن أكثر القطط المتوحشة وآكلة اللحوم تأكل الأعشاب من وقتٍ لآخرَ لِتَحصل على الألياف التي تحتاجها. وتنمو مبايِضُ بعض النباتات إلى فاكهة، وعليه تأكل الحيوانات البذور وتنقلها بعيدًا؛ ومن ثم يجري تجنُّب المنافسة مع النبات الأم على الموارد. لماذا تُنتج النباتات موادَّ كيميائية تتمتع بهذه الخصائص المميزة؟ هل النباتات يُصيبها آلامٌ في الرأس؟ هل لديها اضطراباتٌ في النوم؟ لماذا تُكوِّن النباتات موادَّ كيميائية بها نسبة من المسكنات أو المهدئات أو تكون ذات خصائص سيكلوجية المفعول؟ مرة أخرى نقول إن الأمر قد يكون مجرد صدفة؛ فالنباتات تُنتج موادَّ كيميائية لقتل الحيوانات الضارية، لكن السم الذي قد يقتل حشرة، قد يُسبب مجرد اهتياج للإنسان فحسب، بل قد يعمل كمُهدِّئ له، فغالبًا ما يكون الفرق بين المهدئ والسم هو فرق في الجرعة فحَسْب، فابتلاع السموم دون المستويات المميتة من أجل الحصول على اللذَّة أصبحت معروفة باسم «نشوة التسمم»، إشارةً إلى أصلها السُّمِّي. ومن ناحية أخرى، قد تُكوِّن النباتات بعضَ المسكنات والمهدئات؛ لأن هذا يُفيد النبات نفسه، فإذا كان الحيوان الضاري يأكل النبات بغرض الأكل، فقد لا يكون هناك مُنبِّهات تجعل الحيوانَ يُوقِف نفسَه عن أكل البراعم أو الزهرة كلها، أما إذا كان يأكل بغرض الفائدة الحسية، فإن الحيوان قد يأكل فقط ما يكفي لإشباعه ثم يتوقَّف؛ إذ يُخدر الحيوان. ما الفائدة التي تعود على النبات إذن؟ لعلها التَّخصيب؛ فعلى الأرجح، يتبرَّز الحيوان الذي هدَّأه النبات على مَقرُبة من النبات بدلًا من التجوُّل بعيدًا بالعناصر الغذائية للنبات الضحية. أو هناك فائدةٌ أخرى قد تعود على النبات وهي التقليم، فالنباتات العُشبية يُمكِنها أن تتكاثر عن طريق قطع أوراقها وبذورها، فإزالةُ أطراف هذه الأنواع من النباتات يسمح للنبات أن يُوجِّه كلَّ طاقاته نحو الأجزاء الباقية، عندئذٍ يكون التشذيب علاجًا ذاتيًّا، ونفس المادة الكيميائية التي تكون مهدئًا للحيوان، تكون سامَّة لبعض الحشرات مما قد يحدُّ من تكاثر الحشرات أيضًا. وأيًّا كانت الضغوط النابعة من التطور، فإن النباتات تُكوِّن مركبات تؤثر علينا مثل القهوة والشاي والتبغ وعرق السوس والكودين والكوكايين والأفيون، وكل هذه جميعها في الأساس هي أدوية عشبية. وتُعَد النباتات أيضًا مصادرَ للمُطهِّرات، والمسكنات، والمضادات الحيوية، والأدوية الطاردة للديدان، والمهدئات، والمنبهات، والمجهضات، والسموم، والملينات، والأدوية المدرَّة للبول، ومضادات الإسهال، وأيضًا الأدوية الترويحية الفعالة، وكما يقول معلم هاري بوتر إنها الشهرة المكتومة، والمجد المختمِر، وحتى الموت المختوم. وعلم العقاقير هو الدراسة التي تدور حول اكتشاف الأدوية المنتجة طبيعيًّا وتطويرها، وهو يتضمَّن في نطاقه البحث في الادِّعاءات الخاصة بالسلالات النباتية — أو بكلمات أخرى «الطِّب الشعبي» — وتنظر هذه الأبحاث في مُمارسات الثقافات الحديثة، مثل قاطِني الغابات المطيرة، كما يُنعِمون النظر أيضًا في الممارسين البارزين مثل ناسكو ومُتسوِّلي القرون الوسطى في أوروبا، والزوجات المتقدِّمات في السنِّ والعرَّافين والساحرات. وثمَّة إدراك جديد مفاده أن الناس الذين اضطُهِدوا بوصفهم سَحرةً ومُشعوِذين في العصور الوسطى في أوروبا، كانوا في حقيقة الأمر مجردَ قابِلات ومُعالِجين، وبعضٌ مِن علاجاتهم المزعوم أنها سحرية هي أدوية ذاتُ كفاءة وفاعلية معترَف بها؛ فقد كانوا يَنصحون الشخص الذي يُعاني ألم الأسنان باستعمال زيت القرنفل المسكن للألم، وقشر البيض الجيري لاضطرابات المعدة؛ لأنه مصدر لكربونات الكالسيوم المكون الأساسي لمضادات الحموضة المستخدمة اليوم. ولا شك في أنَّ هناك أيضًا موادَّ أخرى ذات فائدة في أماكنَ أخرى في الطبيعة، مثل المحيطات، والأغطية الجليدية القطبية، والبراكين، وربما حتى في كواكِبَ أخرى وأقمار، وقبل أن نَستفيد من هذه الموارد، ثم كمًّا كبيرًا من المشكلات التي تحتاج إلى إيجاد حلول لها، بيد أنَّ هناك احتمالًا لحدوث الوفرة الكيميائية إذا قُمنا بحلِّ هذه المشكلات. أين نُكثِّف جهودنا؟ قد تجد الإجابة في كلمات العالم المبجَّل مؤلف الكتب العلمية إيزاك أزيموف حينما قال: «إن أكثر العبارات التي يُمكِن أن تسمعها في العلم إثارة … ليست «وجدتها»، ولكن «هذا ممتع» …» إننا سوف نجد الوجهة التي نقصدها عندما نحصل على اكتشاف ما، عندما يلتقط أحدهم حصاة ويلحظ نمطًا جديدًا، أو يجد حشرة جديدة أو معدنًا غريبًا، إنها تحتاج إلى شخص يتمتع ببعض الفضول والرغبة في المعرفة، شخص يستمتع بالتاريخ والموسيقى والفنون، وربما بعض كتب الكيمياء الغريبة.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.35/
خاتمة
أنا أحتفي بنفسي وأُشيد بها، وما أفترضه أنا تفترضونه أنتم؛ لأنَّ كل ذرة تخصني تخصُّكم أنتم أيضًا. إذا أثار موجز علم الكيمياء المختصر هذا كل قرائنا، فحتمًا سينهضون معًا نهضة امرئ واحد ويهتاجون كالعاصفة بحثًا عن مزيد من الاستنارة، صارخين: لا شيء يُمكنه أن يبهجنا أكثر من هذا، فهذا الكمُّ من المعلومات هائل جدًّا. لقد ذهبنا في رحلة رائعة، وفحصنا تركيب الجسيمات الدقيقة للمادة وسلوكها، وشاهدنا كيف أن خواصَّها البالِغةَ الصِّغرِ تتكاثر كي تكون العالم من حولنا، ودرسنا الكيمياء القديمة وشرحنا هذه التفاعلات الحية باستخدام موادَّ عادية، ورأينا كيف أن الكيمياء ترتبط بخبرات الحياة اليومية، وطورنا فهمًا بديهيًّا لأساسيات الكيمياء عن طريق الأمثلة والتشبيهات، ورأينا كيف أن المبادئ والنظريات المستمدة من الماضي قد انهالت علينا بوابلٍ من ثروات التكنولوجيا والمواد، وقد رأينا التحديات الموضوعة أمامنا. وفي هذه الألفية الجديدة، سيكون هناك أدويةٌ جديدة ومداخلُ ابتكارية للشفاء، وسيكون هناك كَبارٍ قابلةٌ للثَّني دون أن تنكسر حينما تهتز الأرض، وسيكون هناك مصادرُ جديدة للوقود غزيرة غزارةَ ضوء الشمس وطعامٌ كافٍ لإطعام العالم المتضوِّر جوعًا، وسيكون هناك أيضًا فَهمٌ جديد لكل العلوم، وسوف نتعلم كيفية حماية هذا الكوكب والحياة بأشكالها كافة. لكن من أين نبدأ؟ ومن الذي يُحدِّد أين نستخدم مواردنا؟ وإذا وجدنا شكلًا جديدًا للحياة في المحيط يُمكنه أن يُنتج دواءً فعالًا جديدًا، فإذن سيخص مَن هذا الدواء؟ ولمن سيُسمَح بالحصول على فوائده، وتطويره، وضمان الحفاظ عليه؟ الإجابة هي الناس، كل الناس، فكيمياء المستقبل سوف تعتمد على أكثرَ من مجرد كيميائي؛ إنها سوف تتطلب تضافر الجهود الدولية التي تستقطب مواهب الفلاسفة، والباحثين، وعلماء البيئة، وأخصائيِّي علم الأخلاق والاقتصاد والإحصاء، ورجال القانون ومُنفِّذيه، وعلماء النبات والبكتيريا والأعشاب، والمؤرخين من كتاب وجمهور، وعلماء التكنولوجيا العاملين في المعامل والمختبَرات وفي مجال الكهرباء والحاسب الآلي، وكل أولئك المستعِدِّين لصُنع قرارات مستنيرة ومُطَّلعة. فلا يَزال هناك الكثيرُ من العمل الذي يحتاج إلى إنجازه والكثير من الأسباب لإتمامه، فالعمل بعيدٌ كلَّ البعد عن بلوغ نهايته، وليس للمتعة منتهًى أبدًا.
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.36/
الملحق
null
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.37/
حقوق الصور
null
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/46075724/
روعة الكيمياء: العلم المذهل للأشياء المألوفة
كاثي كوب
اكتشف بنفسك سحر الكيمياء ومتعتها من خلال التجارب العملية. ينظر الكثيرون إلى الكيمياء على أنها علم معقد، تزيد الرياضيات من صعوبته، وتقتصر ممارسته على منشآت بحثية مؤمّنة جيدًا. ومع أن لهذه الجوانب من الكيمياء أهمية قصوى، فإن المعامل والآلات الحاسبة لا تصور بالضرورة الجمال المتأصل في الكيمياء أو المتعة التي تصاحب ممارستها. يتحدى هذا الكتاب النظرة السائدة إلى الكيمياء على أنها علم صعب يثير النفور، وجاف إلى درجة تحول دون الاستمتاع به. ففي هذا الكتاب، يقدم المؤلفان للقارئ سحر الكيمياء وجمالها وروعتها؛ إذ يستخدمان مواد مألوفة لنا لتوضيح مفاهيم الكيمياء بلغة الحياة اليومية، بدءًا من تغير ألوان أوراق الأشجار في الخريف، مرورًا بالألعاب النارية، وطريقة عمل كاشف الدخان والحاسبات الآلية. يستهل الكاتبان كتابهما بفرقعة: صاروخ الزجاجة الملونة الذي يُركَّب باستخدام أشياء عادية يمكنك أن تجدها في مرآبك، ثم يقدمان مبادئ الكيمياء باستخدام مواد منزلية ولغة غير متخصصة مألوفة لنا. ويوضحان للقارئ أساسيات التركيب الذري، وطبيعة الروابط الجزيئية، وعالم التفاعلات الكيميائية المفعم بالحياة، ويستخدمان التشبيهات والأمثلة لإلقاء الضوء على المبادئ الأساسية، مثل: الديناميكا الحرارية، والكيمياء الضوئية، والكيمياء الكهربائية، والتوازن الكيميائي، كما يفسران أسباب التفاعلات الكيمائية ونتائجها. وتبرز الملاحظات المثيرة متعة وسحر تعلم الكيمياء. يثبت هذا الكتاب الممتع الغني بالمعلومات أن الكيمياء يمكن أن تكون علمًا يستهوي عقولنا ومداركنا، ويمكن أيضًا — إذا كان لدينا الاستعداد للتجربة بأنفسنا — أن يكون مصدرًا للمتعة.
https://www.hindawi.org/books/46075724/0.38/
ملاحظات
null
كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. كاثي كوب: مؤلفة حازت إعجابًا كبيرًا. تعمل كاثي كوب الآن معلمة للتفاضل والفيزياء في مدرسة أيكن الإعدادية، وأستاذة مساعدة في الكيمياء بجامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن. مونتي إل فيترولف: يعمل أستاذًا للكيمياء في جامعة ساوث كارولينا في أيكن.
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/0.2/
مقدمة طبعة عام ٢٠٠٤
مرَّ ما يقرب من عَقدٍ من الزمان منذ نُشِر هذا الكتاب للمرة الأولى. وكما أذكر في التمهيد الأصلي، تسنَّت لي فرصة تأليف هذا الكتاب وأنا في كلية الحقوق، بعد انتخابي كأول أمريكي من أصل أفريقي لرئاسة مجلة «هارفارد لو ريفيو». ففي أعقاب نيلي نصيبًا متواضعًا من الشهرة تلقيتُ عرضًا من أحد الناشرين وحصلتُ منه على دفعةٍ مقدَّمة من مبلغ التعاقد، وبدأتُ العمل وأنا أومن أن قصة عائلتي، ومحاولاتي لفهم تلك القصة، قد تُخاطب بصورةٍ ما صدوعَ العنصرية التي كانت سمةَ التجربة الأمريكية، وأيضًا حالة الهوية غير الثابتة — القفزات عبر الزمن وتصادُم الثقافات — التي تُمثِّل سمةَ حياتنا العصرية. وعلى غرارِ مَن يؤلِّف كتابًا للمرة الأولى غمرتني مشاعرُ الأمل واليأس فورَ نشر الكتاب؛ أمل في أن يحقِّق الكتاب نجاحًا يتجاوز ما يجول في أحلامي الشابة، ويأس من أن أكون قد فشلتُ في أن أقول شيئًا كان ينبغي أن أقوله. أما الحقيقة فكانت تقع في مكانةٍ بين هذا وذاك. فجاءت المقالات النقدية عن الكتاب إيجابيةً نوعًا ما، وكانت الجماهير تحضُر بالفعل الندوات التي نظَّمها الناشر وتَجري فيها قراءة أجزاء من الكتاب. لم تكن المبيعات مُبهرة. وبعد بضعةِ أشهر مضيتُ قُدُمًا في حياتي المهنية وكُلي ثقة بأن مستقبلي في تأليف الكتب سيكون قصيرًا، لكني كنتُ سعيدًا بأني خُضتُ تلك التجربة وخرجتُ منها دون مساس بكرامتي. لم يتسنَّ لي الكثير من الوقت للتفكير طوال السنوات العشر التالية؛ فقد أدرتُ مشروعًا لتسجيل الناخبين في انتخابات عام ١٩٩٢م، وبدأت العمل محاميًا في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية، وبدأت أدرُس مادة القانون الدستوري في جامعة شيكاغو. واشتريتُ أنا وزوجتي منزلًا، ورُزقنا طفلتَين رائعتَين ومشاغبتَين تتمتَّعان بصحةٍ جيدة، وكنا نجاهد لدفع تكاليف معيشتنا. وعندما أصبح أحد المقاعد في المجلس التشريعي في ولاية إلينوي شاغرًا عام ١٩٩٦م، أقنعني بعض الأصدقاء أن أُرشِّح نفسي، وبالفعل فُزت بالمقعد. حذَّرني البعض قبل أن أشغل المنصب من أنَّ السياسات داخل الولاية تفتقد إلى البريق الذي يشعُّ من نظيرتها في واشنطن؛ فالمرء يكدح لكن وراء الستار، وغالبًا في موضوعاتٍ تعني الكثير للبعض، ولكن رجل الشارع يمكنه أن يغضَّ طرْفه عنها دون أن يشوب تصرُّفه هذا شائبة (مثل اللوائح المتعلِّقة بالمنازل المتنقِّلة، أو التداعِيات الضريبية لانخفاض قيمة معدَّات الزراعة). ومع ذلك وجدتُ العمل مُرضيًا، غالبًا لأن نطاق السياسات داخل الولاية يسمح بالتوصُّل إلى نتائجَ ملموسة — توسيع خدمة التأمين الصحي لتشمل أطفال الفقراء، أو تعديل القوانين التي تتسبَّب في موت الأبرياء — في ظل إطارٍ زمني معقول. وأيضًا لأنه بداخل مبنى المجلس التشريعي لولايةٍ صناعية كبيرة مثل إلينوي يرى المرء كلَّ يومٍ وجهَ أمَّةٍ في حوار مُستمر: أمهات من الأحياء المكتظة بالسكان، ومزارعي الذرة والفول، والعمال من المهاجرين الذين يعملون باليومية، إلى جانب المصرفيِّين في البنوك الاستثمارية في الضواحي، جميعهم يتدافعون ليحصلوا على فرصةٍ لسماعهم، وجميعهم مُستعدون بقصصٍ ليَرووها. قبل بضعة شهور فُزت بترشيح الحزب الديمقراطي لمقعدٍ في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية إلينوي. كان سباقًا صعبًا في ساحةٍ تزدحِم بالمرشحين الماهرين البارزين الذين يحظَون بتمويلٍ كبير. وكان يُنظَر إليَّ — وأنا رجل أسودُ له اسم مُضحك لا يحظى بأيِّ دعمٍ مؤسسي ولا يمتلك ثروة شخصية — على أن إمكانية فوزي مسألةٌ بعيدة المنال. وهكذا عندما فُزت بأغلبية الأصوات في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، في مناطق البِيض والسود على حدِّ السواء، وفي الضواحي وكذلك في شيكاغو، كان ردُّ الفعل الذي تلا هذا يُشبه ردَّ الفعل الذي تلا انتخابي رئيسًا لمجلة «هارفارد لو ريفيو». وقد عبَّر معظم المعلِّقين عن دهشتِهم وأملِهم الحقيقي في أن يُشير انتصاري إلى تغيُّرٍ كبير في سياساتنا العنصرية. وفي مجتمع السُّود كان هناك إحساس بالفخر تجاه الإنجاز الذي حققتُه، فَخْر يمتزج بخيبةِ الأمل لأنه بعد ٥٠ عامًا من قضية براون ضد مجلس التعليم، وبعد أربعين عامًا من إقرار قانون حقِّ التصويت، لا نزال نحتفل بإمكانية (وفقط إمكانية؛ لأنه كانت لا تزال أمامي انتخابات عامة صعبة قادمة) أن أكون الأمريكي الوحيد من أصلٍ أفريقي في مجلس الشيوخ والثالث على مرِّ التاريخ منذ مرحلة إعادة التأسيس التي تلت الحرب الأهلية الأمريكية. انتابتني، كما انتابت عائلتي وأصدقائي، مشاعرُ الحيرة من هذا الاهتمام، وكنا دائمًا نعي الفرْق بين بريق تقارير وسائل الإعلام وحقائق الحياة العادية الفوضوية كما نعيشها في الواقع. وبالضبط مثلما أثارت تلك الموجة من الشهرة اهتمام الناشر قبل عَقد من الزمان تسبَّبت هذه الجولة الجديدة من الأخبار الصحفية في إعادة نشْر الكتابِ مرةً أُخرى. ولأول مرة منذ سنوات أخذتُ نسخةً من الكتاب وقرأتُ بعض الفصول لأرى إلى أيِّ مدًى تغيَّر صوتي بمرور الزمن. وأعترف بأني كنتُ أشعر ببعض الخجل من حينٍ لآخر كلما رأيتُ كلمةً أسأتُ اختيارها أو جملةً مشوَّهة أو تعبيرًا عن العاطفة يبدو متلطفًا أو مُبالغًا فيه. وكانت داخلي رغبةٌ ملحَّة كي أحذف من الكتاب ما يقرب من ٥٠ صفحة؛ فقد أصبحتُ أميل كثيرًا إلى الاختصار. ولكني لا أستطيع حقًّا أن أقول إن الصوت الذي يتردَّد في الكتاب ليس صوتي، وأني كنتُ سأكتب القصة بصورةٍ مختلفة إلى حدٍّ بعيد اليومَ عما كتبتُها قبل ١٠ أعوام، حتى وإن كان قد ثبت أن بعض الفقرات غير مناسبةٍ سياسيًّا، وهو ما يخلق ساحةً لتعليقات الخبراء وأبحاث المعارضة. ما تغيَّر بالطبع تغيرًا شديدًا وقاطعًا هو السياق الذي قد يُقرأ فيه الكتاب الآن. لقد بدأتُ أكتب في ظل خلفيةٍ يميزها وادي السليكون، وازدهار البورصة، وانهيار سور برلين، وخروج مانديلا من السجن بخطًى ثابتة متأنية ليقود دولة، وتوقيع اتفاقيات السلام في أوسلو. وعلى المستوى المحلي بدَتِ المناظراتُ الثقافية، حول الأسلحة والإجهاض وموسيقى الراب، قويةً للغاية لأن سياسة بيل كلينتون «الطريق الثالث»، وهي سياسة دولة الرفاهية المتقلِّصة التي تفتقد الطموحَ العظيم وتعوزها القوةُ الحازمة، بدت أنها تصف إجماعًا ضمنيًّا واسعَ النطاق على المسائل المتعلِّقة بقُوت الحياة اليومية؛ إجماعًا ستوافق عليه حمْلة جورج دبليو بوش في فترة رئاسته الأولى بسياستها «المحافظة الرحيمة». وعلى المستوى العالمي أعلن المؤلفون نهايةَ التاريخ، وبزوغَ نجم السوق الحرة والديمقراطية الليبرالية، وزوال الكراهيات القديمة والحروب بين الأمم ليحلَّ محلَّها المجتمعات والمعارك الافتراضية من أجل الحصول على نصيب في السوق. ثم في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م تمزَّق العالم. ومهارتي في الكتابة لا تؤهلني لوصف ذلك اليوم، والأيام التي تلته؛ كانت الطائرات مثلَ الأشباح تختفي بين الحديد والزجاج، انهيار البرجَين كشلَّالٍ يتدفَّق بالتصوير البطيء، أناسٌ يكسوهم الرمادُ يجولون الشوارع، والألم والخوف. ولا أتظاهر بأني أفهم العدميَّة الشديدة التي كانت تحرِّك الإرهابيِّين في ذلك اليوم والتي لا تزال تحرِّك إخوانهم اليوم. وقدرتي على التقمُّص، على الوصول إلى قلوب الآخرين، لا يمكن أن تخترِقَ تلك النظرات الخاوية لأولئك الذين غمرتهم مشاعرُ الارتياح الهادئة غير المنطقية وهم يغتالون الأبرياء. ولكن ما أعرفه هو أن التاريخ قد أعاد ذلك اليوم حاملًا معه الانتقام، وفي الحقيقة، كما يُذكِّرنا فولكنر، الماضي لا يموت أبدًا ولا يُدفن تحت الثرى؛ بل إنه حتى ليس ماضيًا. هذا التاريخ الجماعي، هذا الماضي، يمسُّ ماضيَّ مباشرة. ليس فقط لأن قنابل القاعدة قد تركت بصماتها بدقةٍ غريبة على بعض مَعالم حياتي؛ المباني والطرقات والوجوه في نيروبي وبالي ومانهاتن، ولم يكن ذلك فحسب لأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تسبَّبت في أن يُصبح اسمي هدفًا لا يُقاوَم للسخرية من أنصار الحزب الجمهوري الشديدي الحماس، بل أيضًا لأن الصراع الضمني — بين عوالم الرخاء وعوالم الفقر المدقع، بين الحديث والقديم، بين الذين يعتنقون تنوُّعنا الشديد والمتضارب والمسبِّب للمشكلات ويتمسَّكون بمجموعةٍ من القيم التي تربطنا معًا، وأولئك الذين يسعون، تحت أية راية أو شعار أو نصٍّ مقدَّس، إلى يقينٍ وتبسيط يبرِّران القسوة تجاه مَن ليسوا مثلنا — هو الصراعُ الموضَّح على نطاقٍ أصغرَ بين دفَّتي هذا الكتاب. أعلم، ورأيت بنفسي، اليأسَ والاضطراب الذي يشعر به العاجز، كيف يشوِّهان حياة الأطفال في شوارع جاكرتا أو نيروبي بالطريقة نفسِها تقريبًا التي يشوِّهان بها حياةَ الأطفال في الجزء الجنوبي من شيكاغو، كيف يكون الطريقُ ضيقًا بالنسبة إليهم بين الذل والغضب العارم، كيف ينزلقون بسهولةٍ إلى أحضان العنف واليأس. أعلم أن ردَّ فعْلِ مَن يمتلك القوةَ على هذه الفوضى — الذي يكون إما رضًا متبلِّد الحس أو، عندما تزيد تلك الفوضى عن حدودها، تطبيقًا صارمًا غير عاقل للقوة، وإصدار أحكام بالسجن لمددٍ أطول، ومزيد من العتاد الحربي المتطور — غير مناسب لهذه المهمة. وأعلم أن التعصُّب واعتناق الأصولية والقبلية يحكم علينا جميعًا بالهلاك. وهكذا تحوَّل ما كان مجهودًا داخليًّا شخصيًّا من جانبي لفهم هذا الصراع والعثور على مكاني فيه ليلتقي مع مناظرة شعبية أوسع مجالًا، مناظرة تورطتُ فيها مهنيًّا، مناظرة ستُشكِّل حياتنا وحياة أطفالنا لسنواتٍ طويلة قادمة. أما التداعيات السياسية لكلِّ هذا فهي موضوع كتابٍ آخر، فدعوني أنتهي بدلًا من هذا بملحوظةٍ شخصية: معظم شخصيات هذا الكتاب تظلُّ جزءًا من حياتي، وإن كان بدرجاتٍ متفاوتة؛ عملًا وأطفالًا وجغرافية ومصائر. الاستثناء الوحيد هو أُمي التي فقدناها بسرعةٍ وحشية بسببِ مرض السرطان، بعد بضعة أشهر من نشْر هذا الكتاب. كانت قد قضت السنوات العشر السابقة تفعل ما تحب؛ فكانت تجوب العالم تعمل في القرى النائية في آسيا وأفريقيا تساعد النساء على شراء ماكينات خياطة أو بقراتٍ حلوب، أو الحصول على فرصةٍ للتعليم قد تمنحهنَّ موطئ قدمٍ في اقتصاد العالم. وكان لدَيها أصدقاء من كل مكان، وكانت تتنزَّه سيرًا على الأقدام وتحدِّق في القمر وتبحث في الأسواق المحلية في دلهي أو مراكش عن شيءٍ صغيرٍ مثل وشاح أو قطعةٍ حجرية منحوتة يجعلها تضحك أو يسعد ناظرَيها. وكتبت التقارير وقرأت الروايات وأزعجت أطفالها وحلمت بأحفادها. كنا كثيرًا ما نرى بعضًا، فَصِلُتنا لم تنقطع، وخلال تأليف هذا الكتاب، كانت تقرأ المسوَّدات وتُصحِّح القصص التي أسأتُ فهْمها، وتحرص على عدم التعليق على وصفي لها لكن تُهرع إلى تفسيرٍ أو دفاع عن الصفات الأقل جاذبيةً في شخصية أبي. وقد تعاملَتْ مع مرضها بلطفٍ ودعابة، وساعدتني أنا وأختي على أن نستمر في حياتنا، رغم خوفنا ورفضنا وانقباضات قلبينا المفاجئة. في بعض الأحيان أُفكِّر أنني لو كنتُ أعلم أنها لن تنجوَ من مرضها لكتبتُ كتابًا مختلفًا، أقل تأملًا في الأب الغائب، وأكثر حفاوةً بالأم التي كانت موجودةً دائمًا في حياتي. وإنني أراها في ابنتيَّ كلَّ يوم، فرحتها وقدرتها على التعجب، ولن أحاول أن أصفَ كيف لا أزال في غاية الحزن لرحيلها. وأعرف أنها كانت أطيبَ وأكرم روحٍ عرفتُها في حياتي، وأني أَدين لها بأجملِ ما فيَّ.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/0.3/
تمهيد
اعتزمتُ في الأصل تأليف كتاب مختلف تمامًا، وقد لاحت أول فرصة لتأليف هذا الكتاب وأنا ما زلتُ طالبًا في كلية الحقوق بعد انتخابي أولَ رئيسٍ أسودَ لمجلة «هارفارد لو ريفيو»، وهي مجلة قانونية غير معروفة إلى حدٍّ بعيد خارج الوسط القانوني. وتبِع انتخابي هذا موجةٌ مفاجئة من الشهرة حيث نُشِرت عدة مقالات في الصحف التي شهدت للمكانة المتميزة لكلية الحقوق بجامعة هارفارد في المعتقدات الأمريكية، وكذلك توقُ أمريكا الشديد لأيةِ إشارةٍ تدعو إلى التفاؤل على جبهة العنصرية؛ أي دليل بسيط على أن هناك تقدُّمًا أُحرِز، أكثر من شهادتها لإنجازاتي المتواضعة. واتصل بي بضعةُ ناشِرين ووافقتُ، وأنا أتخيَّل أن لديَّ شيئًا جديدًا يمكن أن أقوله عن الوضع الراهن للعلاقات العنصرية، أن أقتطع عامًا بعد التخرُّج وأنقل أفكاري إلى الورق. وفي ذلك العام الأخير من الدراسة في كلية الحقوق بدأتُ أرتِّبُ في ذهني، بثقة مخيفة، كيف سيسير العمل في الكتاب بالضبط: مقال عن قصور قضايا الحقوق المدنية في تحقيق المساواة العنصرية، وأفكار عن معنى المجتمع وإصلاح الحياة العامة عن طريق القاعدة الشعبية من المجتمع التي تحتاج إلى تنظيم، وأفكار عن سياسة التمييز الإيجابي ومركزية أفريقيا، وملأت قائمةُ الموضوعات صفحةً كاملة. وكنتُ سأُضيف بالطبع بعضَ النوادر الشخصية وأحلِّل أسبابَ المشاعر التي تنتابني بصورةٍ مُتكررة. ولم يكن الأمر بصفةٍ عامة إلا رحلة فكرية كاملة تخيلتُها لنفسي، بالخرائط ونقاط التوقُّف ووضع خطِّ السير الدقيق، اعتزمتُ أن ينتهي الجزء الأول في مارس وأن أُرسِل الجزء الثاني للمراجعة في أغسطس … ومع ذلك فعندما جلستُ وبدأت أكتب وجدتُ عقلي ينجرف إلى شواطئ أكثرَ اضطرابًا. فقفزت مشاعرُ اشتياقٍ قديمة لتجتاح قلبي، وظهرت أصواتٌ بعيدة وخفتت، ثم عادت لتظهر مرةً أخرى. تذكرتُ القصص التي كانت أمي ووالداها يقصونها عليَّ وأنا طفل، قصص عائلة تحاول تفسير نفسها. وتذكَّرت عامي الأول كمنظمٍ للمجتمع الأهلي في شيكاغو، وخطواتي المتعثرة تجاه مرحلة البلوغ. وسمعتُ صوتَ جَدتي وهي تجلس أسفل شجرة مانجو تُضفِّر شَعر أختي وتصفُ لي الأب الذي لم أعرفه حقَّ المعرفة قط. ومقارنةً بذلك الفيضان من الذكريات، بدت جميع نظرياتي المرتَّبة واهيةً وغير ناضجة. ومع ذلك ظللتُ أُقاوم بشدةٍ فكرةَ عرض ماضيَّ على صفحات كتاب، ذلك الماضي الذي جعلني أشعر أني عارٍ، بل أشعر بالخزي بعض الشيء. ليس لأن ذلك الماضي مؤلم للغاية أو غير لائق؛ بل لأنه يخاطب تلك الجوانب من ذاتي التي تقاوم الاختيارَ الواعي والتي تناقض — على الأقل ظاهريًّا — العالَم الذي أعيش فيه الآن. وعلى أية حال أنا الآن في الثالثة والثلاثين من عمري أعمل محاميًا نشطًا في الحياة الاجتماعية والسياسية في شيكاغو، المدينة التي اعتادت جراحَها العنصرية وتفتخر للغاية بافتقادها العاطفة. فإذا كنتُ قادرًا على مقاومة اليأس والشك فإنني مع ذلك أحبُّ أن أرى نفسي حكيمًا في الحُكم على العالَم وحريصًا على ألا أتوقَّع الكثير. ومع ذلك فإن أكثرَ ما يُدهشني عندما أفكِّر في قصة عائلتي هي تلك السلسلة الممتدة من البراءة؛ براءة تبدو مستحيلةً حتى بمقاييس الطفولة. لكن أحد أقرباء زوجتي فقدَ هذه البراءة بالفعل وهو لا يزال في السادسة من عمره؛ إذ أخبر أبوَيه قبل بضعة أسابيع أن بعض زملائه في الصف الأول رفضوا اللعب معه لأن بشرته سوداء حالكة. ومن الواضح أن أبويه — اللذين وُلِدا وترعرعا في مدينتَي شيكاغو وجاري — قد فقدا براءتهما قبل ذلك بوقتٍ طويل، ومع أنهما لم يُظهِرا استياءهما — فكلاهما يتمتَّع بالقدْر نفسِه من القوة والفخر وسَعة الحيلة مثل كل الآباء الذين أعرفهم — فإن المرء يسمع نبرةَ الألم التي تتردَّد في صوتيهما وهما يعيدان النظرَ في فكرة انتقالهما من المدينة إلى ضاحيةٍ معظمُ قاطنيها من البِيض، وقد انتقلا لحمايةِ ابنهما من احتمالِ أن يقع ضحيةَ تبادلٍ لإطلاق النيران بين العصابات، ولثقتهما بأنه سيتلقَّى تعليمَه في مدرسةٍ لا تحظى بالتمويل المادي الكافي مما يجعلها متواضعةَ المستوى. إنهما يعرفان الكثير؛ فقد رأينا جميعًا الكثيرَ، ولنأخذ قصةَ زواجِ والديَّ القصيرِ — رجل أسود وسيدة بيضاء، أفريقي وأمريكية — دليلًا على ذلك. ونتيجة لذلك الاقترانِ يجد بعض الناس صعوبةً في تقبُّلي. فعندما يكتشف البعض ممن لا يعرفونني معرفةً وثيقة — البِيض أو السود على حدٍّ سواء — قصةَ عائلتي (وعادة ما يكون هذا اكتشافًا بحقٍّ؛ إذ إنني توقَّفت عن إعلان عِرق أمي وأنا في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري عندما بدأتُ أشكُّ أن في هذا تودُّدًا وتملقًا للبيض)، أرى التغيير الذي يستغرق جزءًا من الثانية الذي عليهم أن يقوموا به، وبحثهم في عينيَّ عن أية إشارةٍ لكشف مكنون نفسي. إنهم لم يعودوا يعرفون مَن أنا، وأظن أنهم يفكِّرون في أنفسهم في قلبي المضطرب والدم الخليط والروح الممزقة والصورة المخيفة للإنسان الخليط البائس المولود من أبٍ زنجي وأم بيضاء الذي يقع أسيرًا بين عالمَين. وإذا كنتُ أنوي أن أقول لهم لا، المأساةُ ليست مأساتي، أو على الأقل ليست مأساتي وحدي، إنها مأساتكم يا أبناء صخرة بلايموث وجزيرة إيليس، إنها مأساتكم يا أطفال أفريقيا، إنها مأساة قريب زوجتي ذي السنوات الست وزملائه البِيض في السنة الأولى، ومن ثَم فإنكم لستم بحاجةٍ لأن تتخيَّلوا ما يُكدِّر حياتي؛ فإنه يظهر في النشرة المسائية ليراه الجميع، وإننا إذا كان بإمكاننا الاعترافُ على الأقل فإن الدائرة المأسوية ستبدأ في الانكسار … حسنًا، أظن أنني أبدو شديد السذاجة، أتمسك بآمالٍ ضائعة مثل أولئك الشيوعيين الذين يروِّجون صحفَهم على أطرافِ كثيرٍ من المدن الجامعية، أو الأسوأ من هذا، أبدو وكأني أحاول الاختباء من نفسي. لا أستطيع انتقاد شكوك الناس. فقد تعلمتُ منذ وقتٍ طويل أن أرتابَ في طفولتي والقصص التي شكَّلتها. ولم أستطِع أن ألتفتَ وأُقيِّم هذه القصص القديمة لنفسي إلا بعد مرور سنواتٍ كثيرة، بعد أن جلستُ على قبرِ أبي وتحدَّثت إليه عبر تربةِ أفريقيا الحمراء. أو كي أكونَ أكثرَ دقة، حينها فقط فهمت أنني قضيتُ جزءًا كبيرًا من حياتي أحاول أن أعيدَ كتابة هذه القصص وأن أسدَّ الثغرات في القصة، وأن أتكيَّف مع التفاصيل غير المحبَّبة، وأن أُسلِّط الضوءَ على الخيارات الفردية في مواجهةِ الانجراف الأعمى للتاريخ، كلُّ هذا على أملِ أن أستخرج لوحًا صلبًا من الحقيقة يمكن أن يقفَ عليه أولادي — الذين لم يُولَدوا بعد — بأقدامٍ ثابتة. ثم في مرحلةٍ ما، ومع الرغبة القوية في أن أحمي نفسي من التدقيق المفرط، ومع الحافز الذي كان يدفعني من حينٍ لآخر إلى أن أترك المشروعَ بأكمله، فإن ما وجد طريقَه إلى هذه الصفحات هو سجِلٌّ لرحلةٍ شخصية داخلية، رحلةِ بحثِ صبيٍّ عن والده، ومن خلال ذلك البحث يجد معنًى عمليًّا لحياته كأمريكي أسود البشرة. وكانت النتيجة سيرة ذاتية، مع أنه كلما سألني أحدٌ على مدار تلك السنوات الثلاث الأخيرة عن موضوع الكتاب، كنتُ عادةً أتجنَّب استخدام هذا الوصف. فالسيرة الذاتية تَعِدُ بالحديث عن إنجازاتٍ جديرةٍ بأن تُسجَّل، وأحاديث مع مشاهير، ودور محوري في أحداثٍ مُهمة. ولا يُوجَد شيء من هذا في الكتاب. أو على الأقل، تعني السيرةُ الذاتية ضمنًا أنها مُلخَّص أو نهاية محدَّدة وهو ما لا يناسب شخصًا في مثل عمري لا يزال مُنشغلَ الذهن برسمِ الطريق الذي سيسلكه في العالم. إنني حتى لا أستطيع أن أعتبر تجربتي تمثِّل تجربة الأمريكيين السود (كما أوضح لي ناشرٌ من مانهاتن: «فرغم كل شيء، إنك لا تنتمي إلى خلفية محرومة ومعدمة») وفي الواقع فإن تعلُّم قبول تلك الحقيقة بالذات — أنني يمكنني معانقةُ إخوتي وأخواتي السود، سواء في هذا البلد أو في أفريقيا، والتأكيد على وجودِ مصيرٍ مشترَك دون أن أتظاهر بالتحدُّث إلى، أو عن، جميعِ صراعاتنا المختلفة — جزءٌ مما يدور حوله هذا الكتاب. وفي النهاية هناك المخاطر المتأصِّلة في تأليف أية سيرةٍ ذاتية؛ إغراء أن يلوِّن المؤلِّفُ الأحداث بالطريقة التي يُفضِّلها هو، والنزعة للمبالغة في تقديرِ أهمية تجربةِ الفرد للآخرين، وزلات الذاكرة المتعمَّدة. وتتعاظم مثل هذه المخاطر عندما يفتقر الكاتبُ إلى الحكمة التي يكتسِبها المرء بتقدُّم العمر؛ أي المسافة التي يمكن أن تداوي المرء من تفاهاتٍ بعينِها. ولا يمكنني أن أقول إنني تجنَّبتُ كلَّ هذه المخاطر بنجاح، أو أيًّا منها. ومع أن جزءًا كبيرًا من هذا الكتاب يعتمد على تسجيلٍ متزامنٍ للأحداث أو التاريخ الشفهي لعائلتي فإن الحوار تقريب ضروري لما قيل بالفعل أو ما رُوي لي. وبدافع الاختصار فإن بعض الشخصيات التي ظهرت ما هي إلا مُركَّب من أناسٍ عرفتُهم، وبعض الأحداث تظهر خارج الترتيب الزمني الدقيق لها. وباستثناء عائلتي وحفنة من الشخصيات العامة، فإن أسماءَ معظم الشخصيات قد غُيِّرَت للحفاظ على الخصوصية. ومهما كان الوصفُ الذي سيلتصق بهذا الكتاب؛ سيرةً ذاتية أم مذكراتٍ أم تاريخَ أسرةٍ أم شيئًا آخر، فإن ما حاولتُ أن أفعله هو كتابة سردٍ صادقٍ لجزء مُحدَّد من حياتي. وعندما شردْتُ بذهني استعنتُ بوكيلةِ أعمالي جين ديستل لإخلاصها وصلابتها، وبالمحرِّر هنري فيريس لتصحيحاته التي يُقدِّمها بأسلوبٍ لطيف لكن حازم، وبروث فيسيش وفريق العمل في شركة تايمز بوكس لحماسهم واهتمامهم بالاعتناء بالنص في مراحله المختلفة، وبأصدقائي، ولا سيما روبرت فيشر، لقراءتهم الكريمة للنص، وبزوجتي الرائعة ميشيل لخفةِ ظلِّها ورِقَّتها وصراحتها وقدرتِها على دفعي للأمام. لكنني أَدين بعميق الفضل لعائلتي، أُمي وجَدي وجدتي وإخوتي المنتشِرين عبر المحيطات والقارات، وإليهم أهدي هذا الكتاب. فمن دون حبهم ودعمِهم المستمرَّين، ومن دون استعدادهم لأن يتركوني أتحدَّث بلسانهم وتسامُحهم مع ما أقعُ فيه من أخطاءٍ بين الحين والآخر، لم يكن بإمكاني حتى أن آمُل أن أنتهي من الكتاب. وأتمنَّى أن يسطعَ الحب والاحترام، إذا لم يكن شيء آخر، اللذان أشعرُ بهما تجاههم على كلِّ صفحةٍ من صفحات هذا الكتاب.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/1/
الفصل الأول
بعد بضعةِ أشهرٍ من عيد ميلادي الحادي والعشرين، جاءني اتصال من شخصٍ غريب ليُبلغني الخبر. كنتُ أعيش في ذلك الوقت في نيويورك في شارع رقم ٩٤ بين الجادتين الثانية والأولى، وهو جزءٌ من ذلك الحد المتغيِّر الذي لا يحمل اسمًا بين شرق هارلم وباقي مانهاتن. كان شكل المجمَّع السكني غيرَ جذَّاب ويخلو من الأشجار والنباتات، تصطفُّ على جانبَيه مبانٍ سكنية طلاؤها أسود وبلا مصاعد تلقي بظلالٍ كئيبة معظمَ أوقات اليوم. كانت الشقة صغيرة وأرضيتها مائلة ودرجة حرارتها غير مستقرة ولها جرس كهربائي أسفل المبنى لا يعمل، ومن ثَم كان على أيِّ زائرٍ أن يتصل قبل مجيئه من هاتفٍ عمومي في محطة البنزين في زاوية الشارع، حيث كان يُوجَد كلبٌ أسود من نوع دوبرمان في حجم الذئب يقطع المكان جَيئةً وذهابًا طَوال الليل في دورة حراسة يقِظة، يقبض بأنيابه على زجاجةِ جعَة فارغة. لم أكن أهتمُّ بذلك كثيرًا؛ فلم أكن أستقبل الكثيرَ من الزوار. في تلك الأيام كنت ضيقَ الصدر، مشغولًا بالعمل وخططٍ لم تُنفَّذ، وأميل إلى اعتبار الأشخاصِ الآخرين مصدرًا لتشتيت الانتباه لا ضرورةَ له، وليس ذلك لأني لا أُقدِّر الرُّفقة؛ فقد كنت أستمتِع بتبادل الدعابات باللغة الإسبانية مع جيراني الذين كان أغلبهم من بورتوريكو، وفي طريق عودتي من المحاضرات كنت عادةً أتوقَّف لأتحدث مع الصبيةِ الذين كانوا يقضون وقتهم عند مدخل المبنى طوال فترة الصيف يتحدثون عن فريق نيكس لكرة السلة أو الطلقات النارية التي سمعوها الليلة السابقة. وعندما يكون الطقس جيدًا يمكن أن أجلس أنا ورفيقي في الشقة على سلَّم الحريق ندخِّن السجائر ونتأمَّل الغسق وهو يُغرِق المدينةَ في الظلام، أو نشاهد البِيض من المناطق السكنية الأفضل بالقرب منَّا يسيرون بكلابهم أسفلَ العمارة التي نقطن فيها ويتركون الحيوانات تتبرَّز على حافةِ رصيف الشارع، كان رفيقي يصرخ فيهم بغضب مؤثِّر: «تخلصوا من هذا البراز أيها الأوغاد!» وكنا نسخَر من وجهَي السيد الأبيض والحيوان وهما يتجهَّمان دون إبداء أية نية للاعتذار وينزلان على رُكبتَيهما للقيام بفَعْلتهما. كنت أستمتع بتلك اللحظات، ولكن لوهلةٍ قصيرة. فإذا بدأ الحديث يخرج عن مساره أو يعبُر الحدود التي تفضي إلى الشعور بالألفة والحميمية، كنت سريعًا ما أجد سببًا للانصراف. فقد أصبحتُ أشعر براحةٍ شديدة في عزلتي، فهي آمَن مكانٍ عرفته. أتذكَّر رجلًا عجوزًا كان يعيش في الشقة المجاورة يُشاركني نزعتي. كان ضامرَ الجسد منحنيَ الظهر يعيش وحدَه، يرتدي في المناسبات القليلة التي يترك فيها شقته معطفًا أسودَ ثقيلًا وقبَّعةً قبيحة الشكل. وبين الفينة والفينة كنت ألتقي به مصادفةً وهو عائد من المتجر، وكنت أعرض عليه أن أحمل عنه البِقالة في رحلة الصعود الطويلة على سلالم العمارة، فكان ينظر إليَّ ويهزُّ كتفَيه ونبدأ الصعود، وكنا نتوقَّف على كلِّ بسطةٍ كي يلتقط أنفاسه. وعندما نصل في النهاية إلى شقته أضع الحقائبَ بحرصٍ على الأرض ويُومئ لي شكرًا قبل أن يجرَّ قدمَيه إلى داخل شقته ويغلق مزلاج الباب. لم يدُر بيننا أيُّ حديثٍ قط، ولم يقُل لي قطُّ كلمة شكرٍ على صنيعي. كان صمت الرجل العجوز يُثير إعجابي فكنتُ أراه قريبًا مني روحيًّا. وفيما بعدُ وجدَه رفيقي في الشقة ملقًى على بسطة سلُّم الطابق الثالث وعيناه مفتوحتان عن آخرهما وأطرافه متيبِّسة ومُتكوِّرة كطفلٍ صغير. تجمَّع الناس حوله، وحرَّكت بعض النساء أيديهن بعلامة الصليب على أجسادهن وتهامس الأطفال الصغار فيما بينهم بانفعال. وفي النهاية وصل المسعفون ليأخذوا الجثة، ودخلت الشرطة إلى شقة العجوز. كانت الشقة مرتَّبة وخاوية تقريبًا إلا من مقعدٍ ومكتب وصورة باهتة — أعلى الحافة البارزة للمِدفأة — لسيدةٍ لها حاجبان كثَّان وابتسامة رقيقة. فتح أحدهم الثلاجة ووجد ما يقرب من ١٠٠٠ دولار في عملاتٍ صغيرة مغلَّفة داخل أوراق جرائد قديمة وموضوعة بحرصٍ خلف برطمانات المايونيز والمخلَّل. أثَّرت فيَّ العزلة التي عبَّر عنها المشهد، ولوهلةٍ قصيرة تمنيتُ لو أنني قد عرفتُ اسم العجوز. ثم ندمتُ على الفور على هذه الأمنية وما صاحبها من حُزن. وشعرتُ كما لو أن تفاهمًا قد نشأ بيننا، كما لو أن العجوز كان يهمس في تلك الشقة الخاوية تاريخًا لم يروِه أحد، يخبرني بأشياءَ لا أُحبُّ أن أسمعها. بعد ذلك بشهرٍ أو أكثر على ما أظن، في صباح يومٍ بارد كئيب من أيام شهر نوفمبر، كانت الشمس باهتةً خلف ضباب السُّحب؛ جاءت المكالمة الهاتفية. كنت أُعِدُّ الفطور لنفسي والقهوة على الموقد والبَيض في المقلاة، عندما ناولني رفيقي الهاتف، كان الصوت بعيدًا ومشوشًا: «باري؟ باري، أهذا أنت؟» «نعم … مَن المتحدث؟» «نعم يا باري … أنا عمَّتك جين من نيروبي، هل تسمعني؟» «عفوًا، قلتِ مَن؟» «عمَّتك جين، استمع إليَّ يا باري، لقد تُوفي أبوك. مات في حادث سيارة. باري؟ هل تسمعني؟ أقول إن أباك قد تُوفي. باري من فضلك اتصل بعمِّك في بوسطن وأخبِره. لا يمكنني التحدُّث الآن. سأحاول الاتصال بك مرةً أخرى …» كان هذا هو كلَّ ما جاء في المحادثة. وانقطع الخط فجلستُ على الأريكة وانتشرَت رائحةُ البَيض وهو يحترق في المطبخ، أخذتُ أُحملق في شقوق طلاء الحائط أحاول أن أُقدِّر حجم خسارتي. ••• لم يكن أبي عندما تُوفي إنسانًا عاديًّا من وجهة نظري؛ بل كان أسطورة. ترك أبي هاواي عام ١٩٦٣حينها لم أكن قد تجاوزتُ الثانية من عمري؛ لذا لم أعرف أبي حين كنتُ طفلًا إلا من حكايات أمي وجَدي. وكان لكلٍّ منهم حكاياته المفضَّلة، وكلٌّ منها مترابط وسلِس من كثرة التكرار. ولا يزال بإمكاني تخيُّل صورة جَدي وهو ينحني إلى الوراء في مقعده الوثير بعد العشاء ويرتشِف الويسكي وينظِّف أسنانه بورق سيلوفان من علبة سجائره ويحكي لي كيف كاد أبي أن يرمي برجلٍ من على جرف «بالي لوك أوت» بسبب غليون: «قرَّر والداك أن يصطحبا صديقَ أبيك في جولة سياحية حول الجزيرة. ذهبا بالسيارة إلى جرفِ لوك أوت، وكان باراك على الأرجح يسير على الجانب الخاطئ طوال الطريق إلى هناك.» عقَّبت أمي قائلة: «كان والدك سائقًا سيئًا.» وتابعت: «وكان ينتهي به الحال إلى الجانب الأيسر من الطريق بالطريقة التي يقود بها البريطانيون، وإذا قلتَ له شيئًا، تجده يُبدي سخطه على القواعد الأمريكية السخيفة …» «حسنًا، في تلك المرة نجحوا في الوصول سالمين، وخرجوا من السيارة ووقفوا على الحاجز المعدني المُقام على الجرف ليتأملوا المشهد. كان باراك يدخِّن من الغليون الذي أعطيتُه إيَّاه في عيد ميلاده، ويشير بمقدمته إلى جميع المشاهد مثل قبطانٍ بحري …» وهنا تُقاطع أمي مرةً أخرى: «لقد كان أبوك فخورًا حقًّا بذلك الغليون.» وتابعت: «كان يُدخِّن منه طوال الليل وهو يذاكر، وفي بعض الأحيان …» «حسنًا يا آن، هل تودِّين أن تحكي أنت القصةَ أم ستدعينني أُكمِلها؟» «آسفة يا أبي. تفضَّل.» «على أية حال، كان ذلك الفتى المسكين طالبًا أفريقيًّا أيضًا، أليس كذلك؟ كان قد وصل لتوه إلى أمريكا. ولا بد أن ذلك الفتى المسكين قد أُعجِب بالطريقة التي يتحدث بها باراك وهو يشير بالغليون؛ إذ طلب أن يجرِّبه، فكَّر والدك في الأمر لدقيقة ثم وافق في النهاية، وما إن بدأ الفتى في التدخين منه حتى داهمته نوبة سعال. وأخذ يسعل بقوةٍ حتى إن الغليون انزلق من يده وسقط من فوق الحاجز، من ارتفاع مائة قَدم ليستقر أسفل الجرف.» ثم يتوقَّف جَدي ليرتشف من زجاجته قبل أن يستأنف كلامه. قال: «حسنًا، كان أبوك لطيفًا بما يكفي لأن ينتظر حتى ينتهي صديقه من السعال ثم أمرَه أن يقفز من فوق الحاجز ويُعيد له الغليون. فنظر الرجل أسفل الجرف الذي يهبط بزاوية قائمة وقال لباراك إنه سيشتري له واحدًا آخر عوضًا عنه …» قالت جدتي من المطبخ: «أمرٌ معقول جدًّا.» (كنا نطلق على جدتي توتو، أو اختصارًا توت، وتعني «الجدة» بلغة هاواي لأنها رأت في اليوم الذي وُلِدْتُ فيه أنها لا تزال صغيرة للغاية كي يخاطبها أحد بلقب جدتي.) فيعقد جَدي ما بين حاجبَيه ويقرِّر أن يتجاهلها: «لكن باراك كان مصرًّا على استعادة غليونه؛ لأنه كان هديةً ولا شيء يعوِّضه عنه. فألقى الفتى نظرةً أخرى وهزَّ رأسه مرة أخرى، وهنا رفعه والدك من على الأرض وبدأ يؤرجِحه على الحاجز!» ويطلق جَدي صيحةً ويضرب على ركبته بمرح. ويضحك وفي هذه اللحظة أتخيَّل نفسي أنظر إلى والدي الأسمر البشرة واقفًا قُبالة الشمس الساطعة، وذراعا صديقه المذنب تلوِّحان في الهواء وأبي يحمله عاليًا؛ يا لها من رؤية مخيفة لتحقيق العدالة. فتقول أمي وهي تنظر إليَّ بقلق: «إنه لم يكن يحمله فوق الحاجز بالضبط يا أبي»، ولكن جَدي يأخذ رشفةً أخرى من الويسكي ويستمر في الحديث: «عندئذٍ، بدأ الناس يحدِّقون فيما يحدث، وأمُّك تناشد باراك أن يتوقَّف، وأظن أن صديقه كان يحبس أنفاسه ويتلو صلواته. وعلى أية حال، بعد بضع دقائق ترك والدك الرجل يهبط على قدمَيه مرةً أخرى، وربَّت على ظهره واقترح بهدوء أن يذهبوا جميعًا ويحتسوا الجِعَة. وما لا يخطر لك على بال أن أباك استمر في التصرُّف بهذه الطريقة لما تبقَّى من الرحلة، وكأن شيئًا لم يكن. وبالطبع كانت والدتُك عندما عادا إلى المنزل ما زالت غاضبةً إلى حدٍّ بعيد. في الحقيقة كانت تتحدَّث إلى والدك بالكاد، ولم يكن والدك يساعد على تحسين الأمور. فعندما حاولت والدتُك أن تُخبرنا بما حدث، هزَّ رأسه وبدأ يضحك، وقال لها: «اهدئي يا آنا»، كان صوت والدِك عميقًا جهوريًّا ويتحدَّث باللكنة البريطانية. وهنا يَثني جَدي ذقنه إلى عنقه ليحقِّق التأثير الكامل. ويستكمل: «اهدئي يا آنا.» ويتابع: «ما أردتُ إلا تعليم ذلك الشاب درسًا عن العناية اللائقة بممتلكات الآخرين!»» كان جَدي يبدأ في الضحك مرة أخرى حتى يأتيه السعال، وتُغمغم جدتي بصوتٍ خافت أنها رأت أنه من الأفضل أن والدي قد أدرك أن إسقاط الغليون كان مجرد حادثٍ عارض لأنه مَن يدري ماذا كان سيحدث غير ذلك، وكانت والدتي توجِّه نظرَها إليَّ وتقول إنهما يُبالغان. كانت أمي تعترِف وعلى شفتَيها يرتسِم شبحُ ابتسامة: «قد تكون شخصية والدك مسيطرة إلى حدٍّ ما.» ثم تستدرك: «لكن هذا في الواقع لأنه شخص صادق للغاية. وذلك يجعله عنيدًا في بعض الأحيان.» كانت أمي تُفضِّل أن ترسم صورةً أكثرَ رقةً لوالدي، فتحكي لي أنه حضَر لتسلُّم مفتاح الجمعية الفخرية «في بيتا كابا» مرتديًا ثيابَه المفضَّلةَ؛ بنطلون جينز وقميصًا قماشيًّا قديمًا عليه صورة نَمِر. وتقول: «لم يخبره أحدٌ أن الأمر شرف كبير؛ لذا فقد دخل ووجد الجميع يقفون في تلك الغرفة الأنيقة يرتدون ستراتٍ رسمية. وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي رأيته يشعر فيها بالخجل.» وكان جَدي، بعد أن يستغرق فجأةً في التفكير العميق، يبدأ يومئ لنفسه ويقول: «إنها حقيقة يا باري.» ويتابع: «لقد كان بإمكان والدك أن يتعامل مع أي موقفٍ فجعل هذا الجميعَ يحبُّونه. أتذكَّر أنه كان عليه أن يُغني في مهرجان الموسيقى الدولي؟ لقد وافق على غناء بعض الأغاني الأفريقية، لكن عندما وصل اتضح أن الأمرَ ليس هينًا، كانت السيدة التي قدَّمت العرض السابق له مطربةً شِبه محترفة؛ فتاة من هاواي لدَيها فرقة موسيقية كاملة تدعمها. كان يمكن لأي شخصٍ عندئذٍ أن يتوقَّف، ويتعلَّل بأن خطأً ما قد حدث إلا باراك. فلم تكن تلك طبيعته؛ فقد نهض وبدأ يُغني أمام ذلك الجمْع الكبير، وأنا أقول لك إن هذا ليس بالأمر الهين، وهو لم يكن رائعًا، لكنه كان واثقًا من نفسه فحصل على الفور على الإعجاب نفسه الذي حصل عليه الآخرون.» وكان جَدي يهزُّ رأسه وينهض من على مقعده ويقلب قنوات التليفزيون. وكان يقول لي: «هناك شيء يمكنك أن تتعلَّمه من والدك.» ثم يستكمل: «الثقة. إنها سرُّ نجاح الإنسان.» ••• كانت جميع القصص تسير على هذه الوتيرة؛ موجزةً ومشكوكًا في صحتِها وتُروى في تتابُعٍ سريع على مدار أمسيةٍ واحدة، ثم تطويها ذاكرة عائلتي لشهور، وفي بعض الأحيان لسنوات. بالضبط مثل الصور القليلة لوالدي التي ظلَّت في المنزل، وهي صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود كنتُ أعثر عليها عَرَضًا وأنا أبحث في الخزانات عن زينة رأس السنة أو جهازٍ قديم للتنفُّس تحت سطح الماء. وفي الوقت الذي بدأتْ فيه ذكرياتي، كانت أُمي قد بدأت بالفعل علاقتها العاطفية بالرجل الذي سيُصبح زوجها الثاني، وشعرتُ دون تفسيرٍ لماذا تعيَّن أن تُوضَع الصور بعيدًا. ولكن بين الحين والآخر، كنتُ أُحدِّق — وأنا أجلس مع أُمِّي على الأرض، ورائحة الغبار والنفتلين تنبعث من الألبوم الممزَّق — في صورة أبي؛ الوجه الأسمر المبتسِم، الجبهة البارزة والنظارة السميكة التي تجعله يبدو أكبر سنًّا من عمره الحقيقي، وأستمع وأحداث حياته تتدفَّق في قصةٍ يرويها طرَف واحد. علمتُ أن أبي كان أفريقيًّا، كينيًّا من قبيلة «لوو» وُلِد على شواطئ بحيرة فيكتوريا في قريةٍ يُطلق عليها «أليجو». كانت القرية فقيرة، لكن والده — جَدي الآخر حسين أونيانجو أوباما — كان مزارعًا بارزًا وأحد كبار القبيلة، وطبيبًا يمتلك قوًى شفائية. ترعرع أبي يرعى ماعز والدِه ويدرُس في المدرسة المحلية التي أنشأتها حكومةُ بريطانيا الاستعمارية، وقد أظهر تفوُّقًا كبيرًا في دراسته، بعد ذلك فاز بمنحةٍ دراسية بجامعة نيروبي، ثم في عشية استقلال كينيا اختاره القادة الكينيُّون والرعاة الأمريكيون للدراسة بجامعةٍ في الولايات المتحدة لينضمَّ إلى أول موجةٍ كبيرة من الأفارقة تُبعَث لتُتقِن تكنولوجيا الغرب وتعود بها تبني أفريقيا عصرية جديدة. عام ١٩٥٩م وصل أبي إلى جامعة هاواي وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ليكون أول طالب أفريقي في تلك الجامعة. ودرس الاقتصاد القياسي واجتهد في دراسته بتركيزٍ ليس له نظير، وتخرَّج بعد ثلاث سنوات أوَّلَ دفعتِه. كان له عدد ضخم من الأصدقاء، وساعد في تنظيم الاتحاد الدولي للطلاب، وكان أوَّل رئيس له. وفي دورةٍ لدراسة اللغة الروسية، قابل فتاةً أمريكية خجولة مُرتبكة كانت في الثامنة عشرة من عمرها فجمعهما الحب. وأُسِر والدا الفتاة — اللذان كانا مُتحفِّظَين في البداية — بجاذبية الرجل وعقليته، وتزوَّج الشابَّان وأنجبا طفلًا أورثه والدُه اسمَه. ثم فاز الأب بمنحةٍ دراسية أخرى، هذه المرة ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، لكنه لم يحصل على النقود التي تجعله يصطحِب أُسرتَه الجديدة معه. وحدث الانفصال، وعاد هو إلى أفريقيا ليفي بوعده للقارة. وظلَّت الأم والطفل في أمريكا، لكنَّ بُعدَ المسافة لم يؤثِّر على رباط الحب. وهنا تنتهي صور الألبوم، وأبتعِد أنا راضيًا مُتدثرًا بالقصة التي وضعتْني في منتصف عالمٍ شاسِع ومرتَّب. وحتى في الرواية الموجزة التي قصَّتها عليَّ والدتي وجَدَّاي، كان هناك الكثير من الأشياء التي لم أفهمها. لكني نادرًا ما سألتُ عن التفاصيل التي من الممكن أن تُحدِّد معنى كلمة «دكتوراه» أو «استعمار» أو أن أُحدِّد موقع أليجو على الخريطة. بدلًا من ذلك، احتلَّ مسار حياة أبي المكان نفسه الذي احتلَّه كتابٌ اشترته لي أمي ذات مرة، كتاب يُسمَّى «الجذور»، وهو مجموعة من قصص الخلق من جميع أنحاء العالم، قصص لسِفْر التكوين والشجرة التي وُلِد عندها الإنسان، وبروميثيوس ونعمة النار، والأسطورة الهندوسية للسلحفاة التي تطفو في الفضاء وتحمل ثِقَل العالَم على ظهرها. وفي وقتٍ لاحق، عندما أصبحتُ أكثرَ اعتيادًا على طريق السعادة الضيق الذي يُوجَد في التليفزيون والسينما، أصبحَتِ الأسئلة تعصف بذهني؛ ما الذي يحمل السلحفاة؟ لماذا يترك إله قدير ثعبانًا يُسبِّب كلَّ هذا الحزن؟ لماذا لم يَعُد أبي؟ لكن في سنِّ الخامسة أو السادسة، رضيتُ أن أترك هذه الألغاز البعيدة دون المَساس بها، كلُّ قصة قائمة بذاتها وحقيقية كالتي تليها، تنجرف إلى أحلامٍ هادئة. وحقيقةُ أن أبي لم يكن يبدو مثل أيِّ شخصٍ ممن حولي، أنه أسود كالفحم وأمي بيضاء كاللبن، لم تَعلقْ بذهني. في الحقيقة لا أتذكَّر سوى قصةٍ واحدة تتناول بصراحةٍ موضوع العِرق، وعندما كبرتُ كانت تتكرَّر كثيرًا، كما لو أنها تُعبِّر عن جوهر القصة الأخلاقية التي أصبحت حياةُ أبي تُمثِّلها. ووفقًا للقصة، انضم أبي، بعد ساعاتٍ طويلة من المذاكرة، إلى جَدي وعدد من الأصدقاء الآخرين في حانةٍ محلية في منطقة وايكيكي. كان الجميع في مزاجٍ مرحٍ يأكلون ويشربون على صوت الجيتار الذي تشتهر به هاواي عندما أعلن رجلٌ أبيض فجأة لساقي الحانة بصوتٍ عالٍ أسمعَ الجميعَ أنه لم يكن من المفترض أن يحتسيَ الخمرَ الجيد «بجوار زنجي». غرقت الحانة في الصمت واستدار الجميعُ إلى أبي متوقِّعين أن يَشبَّ شجار. لكن أبي نهض، وسار إلى الرجل وابتسم وبدأ يُلقِّنه درسًا عن حماقة التعصب الأعمى ووعد الحلم الأمريكي والحقوق العالمية للإنسان. وكان جَدي يقول: «تملَّك الرجلَ شعورٌ بالأسف الشديد عندما انتهى باراك من حديثه حتى إنه وضع يده في جيبه وأخرج ١٠٠ دولار أعطاها لباراك في الحال، ودفع مقابل جميع المشروبات والمقبلات التي تناولناها لباقي السهرة، بل إيجار سكن والدك لباقي الشهر.» عندما بلغتُ سنَّ المراهقة أصبحتُ أشكُّ في صِدْق هذه القصة وطرحتُها جانبًا مع باقي القصص، حتى تلقيتُ مكالمةً هاتفية بعد مرور سنواتٍ كثيرة من رجلٍ أمريكي من أصلٍ ياباني قال إنه كان زميلَ والدي في هاواي وأنه يُدرِّس في إحدى جامعات الغرب الأوسط. كان الرجل لطيفًا للغاية، ويشعر بشيءٍ من الخجل من اندفاعه، وأوضح لي أنه رأى حوارًا معي منشورًا في الصحيفة المحلية، وأن رؤية اسم والدي جعلت موجةً من الذكريات تتدفَّق إلى ذهنه. ثم في أثناء الحوار الذي دار بيننا أعاد على أسماعي القصة نفسها التي أخبرني إياها جَدي عن الرجل الأبيض الذي حاول أن يشتري عفوَ والدي، وقال لي الرجل عبر الهاتف: «لن أنسى هذا أبدًا»، وسمعتُ في صوته النبرةَ نفسَها التي سمعتُها من جَدي قبل سنواتٍ كثيرة؛ نبرةَ عدم التصديق والأمل. ••• «اختلاط الأجناس». مصطلح يبدو قميئًا مشوهًا ينذر بنتيجةٍ بشعة، بالضبط مثل عبارة «ما قبل الحرب الأهلية الأمريكية» أو وصف شخصٍ بأن «ثُمن أسلافه من الزنوج»، إنها تستدعي صورًا من عصرٍ آخر، عالم بعيد من السياط والنيران، ونباتات المنغولية الميتة وأروقة المعابد المتداعية. ومع ذلك فلم تنجح المحكمة العليا بالولايات المتحدة في إقناعِ ولاية فيرجينيا أن منْعَها الزواجَ بين الأجناس المختلفة خرقٌ للدستور إلا عام ١٩٦٧م، وهو العام الذي احتفلتُ فيه بعيد ميلادي السادس، والعام الذي عزَف فيه جيمي هندريكس في مونتيري وغنَّى، وبعد ثلاث سنوات من حصول الدكتور كينج على جائزة نوبل للسلام، وهو وقتٌ كانت أمريكا قد بدأت فيه بالفعل تسأم مطالبة السود بالمساواة، وانتهت على ما يفترض مشكلة التمييز العنصري. أما عام ١٩٦٠م، العام الذي تزوَّج فيه والداي، فكان اختلاط الأجناس لا يزال يوصف بأنه جريمةٌ عظمى في أكثر من نصف ولايات الاتحاد. وفي أجزاء عديدة من الجنوب كان من الممكن أن يُعَلَّق أبي على شجرةٍ لمجرد أنه ينظر إلى أمي نظرةً غيرَ لائقة؛ وفي أكثرِ مدن الشمال تحضرًا كان من الممكن أن تدفع النظرات العدائية والهمسات أية امرأة في مأزق والدتي أن تقوم بعملية إجهاض غير شرعية، أو على الأقل أن تلجأ لديرٍ بعيد يمكن أن يرتِّب لعملية التبني، وكان من الممكن اعتبار مجرَّد صورتهما معًا مسألةً فظيعة وشاذة؛ بمنزلة ردٍّ فعَّال على القلة من المتحررين الأغبياء الذين يدعمون أجندة الحقوق المدنية. لكن السؤال: هل كنتَ ستدع ابنتك تتزوَّج واحدًا منهم؟ وردُّ جَداي بالإيجاب على هذا السؤال — بصرف النظر إلى أي مدًى كان ذلك على مضضٍ — يظلُّ لغزًا مُلحًّا عليَّ. فلم يكن هناك أيُّ شيء في ماضيهما ينبئ بمثل هذه الإجابة، فلا يُوجَد مؤمنون بالفلسفة المتعالية من نيو إنجلاند أو اشتراكيون متطرفون في شجرة عائلتيهما. صحيح أن كانساس حاربت إلى جانب الاتحاد في الحرب الأهلية، وكان جَدي يحب أن يذكِّرني بأن فروعًا مختلفة من شجرة العائلة كانت تضمُّ مناهضين متحمِّسين للعبودية. وإذا سألت جدتي فإنها ستدير رأسها إلى الجانب لتستعرض أنفها الأعقف الذي يدل — بالإضافة إلى عينيها الشديدتي السواد — على أنها من نسل قبيلة شيروكي (من السكان الأصليين للولايات المتحدة). لكن صورة قديمة بُنية اللونِ على رفِّ الكتب كانت تعبِّر بوضوح عن جذورهما. يظهر فيها جَدَّا جَدَّتي، وهما من أصلٍ اسكتلندي وإنجليزي، واقفَين مُتجهمَين أمام منزلٍ متداعٍ، يرتديان ملابسَ من صوفٍ خشن، وعيونهما شبه مغمضة تنظر إلى الحياة الصعبة القاسية التي تمتد أمامهما. وكان لهما وجهان كاللذين يظهران في اللوحة التي رسمَها جرانت وود التي حملت اسم القوطي الأمريكي وهم الأقارب الفقراء من نسل البروتستانت الأنجلو ساكسونيين البِيض (واسب)، وفي عيونهما يرى المرءُ الحقائقَ التي سأعلم فيما بعدُ أنها وقائع؛ أن كانساس لم تنضمَّ إلى الاتحاد حرةً إلا بعد الأحداث العنيفة التي سبقت نشوب الحرب الأهلية في المعركة التي تذوَّق فيها سيف جون براون طعمَ الدماء لأول مرة، وأنه في حين كان أحدُ أجدادي الأوائل، وهو كريستوفر كولومبس كلارك، جنديًّا في جيش الاتحاد وحاصلًا على أوسمة، كانت الشائعات تطارد أمَّ زوجته أنها تَمُتُّ بصلةِ قرابةٍ من الدرجة الثانية لجيفرسون دافيس، رئيس الولايات الكونفدرالية التي انشقَّت عن الاتحاد، ومع أن أحد أجدادها الأوائل كان من قبيلة شيروكي فقد كان ذلك النسل مصدرًا للخِزي الشديد لوالدة جدتي، وكلما ذكر أحدُهم هذا الأمر شحب وجهها، وتمنَّت أن تحمل هذا السرَّ معها إلى قبرها. هذا هو العالَم الذي نشأ فيه جدَّاي، وسط الدولة بالضبط المحاط بالأرض من جميع الاتجاهات، وهو مكان ترتبط فيه اللياقة وقوة التحمُّل وروح الريادة ارتباطًا وثيقًا بالامتثال لقواعد المجتمع، والشك واحتمال التعرُّض للقسوة التي لا يطرِف لها جَفن. لقد نشأ أحدهما على بُعد أقل من ٢٠ ميلًا من الآخر؛ فجدَّتي نشأت في أوجوستا وجَدي نشأ في إلدورادو وهما مدينتان أصغر من أن تظهرا بحروفٍ بارزة على خريطةٍ للطريق، ورسمت مرحلة الطفولة — التي كانا يحبَّان أن يقصَّاها كي أستفيد منها — بلدةً صغيرة، كما رسمت أمريكا أثناء عصر الكساد بجميع مظاهر مجدِها البريء؛ الاستعراض العسكري في الرابع من يوليو وعروض الأفلام التي كانت تُقام على جوانب الحظائر، واليراعات الموضوعة في برطمان، والمذاق الحلو كالتفاح للطماطم الناضجة، والعواصف الترابية والثلجية، والفصول المكتظَّة بأطفال المزارع الذين لا يبدِّلون أبدًا ملابِسَهم الداخلية الصوفية التي تلتصق بأجسادهم منذ بداية الشتاء، وتنبعث منهم رائحةٌ كريهة مثل الخنازير مع مرور الشهور. حتى أزمة انهيار المصارف ونزْع ملكية المزارع بدت أمرًا رومانسيًّا بعد أن غزلته ذاكرة جديَّ، وعندئذٍ كان الجميع يشترك في الشدائد التي تُعد وسيلةً عظيمة للمساواة بين الناس والتقريب بينهم. لذا كان على المرء أن يستمع بحرصٍ ليُدرك الترتيب الهرمي الدقيق والقوانين غير المعلنة التي كانت تحكم حياتهم في بدايتها، والتمييز بين الأشخاص الذين لا يملكون الكثير ويعيشون في مناطقَ نائية. لقد كان الأمر يتعلَّق بشيء يُطلَق عليه الاحترام؛ فقد كان هناك أناس محترمون وآخرون لا يحظون بقدرٍ كبير من الاحترام، ومع أن المرء لا يجب أن يكون ثريًّا لينعم باحترام الناس؛ ففي الواقع عليه أن يبذل كثيرًا من الجهد لينال هذا الاحترام إن لم يكن ثريًّا. كانت عائلة جدتي محترمة. فكان والدها يعمل بوظيفةٍ ثابتة طَوال فترة الكساد، فيدير عقودَ تأجير الأراضي التي سيُنقَّب فيها عن البترول لشركة ستاندرد أويل. وكانت والدتها قبل أن تنجِب تُدرِّس في مدارس إعداد المعلمين. كانت الأسرة تحافظ على منزلها نظيفًا، وتطلب كتبًا من التي ترِد في قائمة «جريت بوكس» عبر البريد، وتقرأ الكتاب المقدَّس ولكنها بصفةٍ عامة كانت تتجنَّب الذَّهاب إلى الخِيام التي تُعقد بها اجتماعات النهضة المسيحية، وتُفضِّل شكلًا قويمًا من تعاليم الكنيسة الميثودية التي تقدِّر العقل على العاطفة والاعتدال على كليهما. أما وضْع جَدي فقد كان أصعب. ولم يعرف أحدٌ لماذا؛ فلم يكن جدَّاه اللذان ربياه هو وشقيقه الأكبر ثريَّين، لكنهما كانا مُهذَّبَين ومعمدانيَّين يخافان الله، وينفقان على العائلة من أجرهما كعاملين في منصات النفط بالقرب من مدينة ويتشيتا. ومع ذلك فقد تحوَّل جَدي بطريقةٍ ما إلى شخصٍ طائش إلى حدٍّ ما. وأرجع بعض الجيران سببَ ذلك إلى انتحار والدته؛ فقد كان ستانلي — الذي لم يتجاوز الثامنة — هو الذي وجد جثَّتها. وكان آخرون أقلَّ رفقًا به يهزون رءوسهم ويقولون إن الولد يحذو حذو والده زير النساء، ويرَون أن هذا هو السبب الأكيد لمصير والدته التَّعس. ومهما كان السبب، فعلى ما يبدو كان جَدي يستحق السمعة التي عُرف بها. ففي سن الخامسة عشرة، طُرد من المدرسة الثانوية لأنه لكمَ الناظرَ في أنفه. وفي السنوات الثلاث التالية كان ينفِق على نفسه من أعمالٍ مختلفة؛ يتنقَّل بين عربات القطارات المتجهة إلى شيكاغو ثم كاليفورنيا ثم يعود أدراجه مرة أخرى، وأثناء هذا التنقُّل ينخرط في الهراء ولعِبِ الورق وإقامة علاقات مع النساء. وكما كان يحب أن يقول، فإنه كان يعرف طريقه جيدًا في ويتشيتا حيث انتقلت عائلته وعائلة جَدتي في ذلك الوقت، وهي من جانبها لا تُناقض ما يقوله، وبالطبع صدَّق والدا جَدتي القصصَ التي سمعاها عن الشاب واستنكرا علاقته بها من البداية. وأول مرة أحضرت فيها جَدتي جَدي إلى منزلها ليقابل أُسرتها ألقى والدها نظرة واحدة على شَعر جَدي الأسود الأملس الممشَّط إلى الخلف، ثم ابتسم ابتسامة الرجل الحكيم التي يرسُمها دائمًا على شفتَيه وعبَّر عن تقييمه الصريح: «إنه يُشبه المتبخترين من الإيطاليين.» ولكن جَدتي لم تأبَه. فهي كمتخصصة في التدبير المنزلي حديثة التخرُّج في المدرسة الثانوية سئمت الامتثالَ لقواعد المجتمع، ولا بد أن جَدي كان أنيقًا وجذابًا لها. في بعض الأحيان أتخيَّلهما في كل مدينة أمريكية في تلك السنوات التي سبقت الحرب، وهو يرتدي سروالًا فضفاضًا وفانلة بيضاء وقبَّعة عريضة الحواف يُرجِعها إلى الخلف على رأسه، وهو يقدِّم سيجارةً إلى هذه الفتاة العذبة الحديث التي تُفرِط في طلاء شفتيها باللون الأحمر وتصبغ شعرها ليصبح أشقرَ ولها ساقان جميلتان تصلحان لاستعراض جوارب المتجر المحلي. أتخيَّله وهو يحدِّثها عن المدن الكبيرة، والطريق السريع الذي لا ينتهي، وهروبه الوشيك من السهول الخاوية التي يُغطيها الغبار، حيث تعني الخططُ الكبيرة العملَ مديرًا لبنك، وتعني التسليةُ آيس كريم بالصودا وحضورَ حفلٍ في نهار يوم الأحد، وحيث يخنُق الخوفُ وضيقُ الخيال أحلامَ المرء حتى إنه يعرف بالفعل في اليوم الذي يُولد فيه أين بالضبط سيموت ومَن سيدفنه. ويصرُّ جَدي على أنه لن ينتهيَ به الحال هكذا، فلدَيه أحلامه، ولدَيه خططه، وسينقل لجدتي عدوى التنقُّل التي جعلت أجدادهما يعبُرون المحيط الأطلنطي ونصف قارة قبل سنوات كثيرة. وهربَا سرًّا ليتزوَّجا في توقيت قصف بيرل هاربور بالضبط، وجُنِّد جَدي في الجيش. وعندئذٍ تسير أحداث القصة في ذهني بسرعةٍ شديدة مثلَ مشهد نزع أوراق نتيجة حائط بوتيرةٍ أسرعَ فأسرع في أحد تلك الأفلام القديمة بيدٍ خفية، فتدور بسرعةٍ في مخيلتي عناوين أخبار عن هتلر وتشرشل وروزفلت ونورماندي، إلى أن تصل العناوين لدوي القصف بالقنابل وصوت إدوارد آر. مورو وإذاعة بي بي سي. وأشاهد أُمي وهي تُولَد في قاعدة الجيش حيث كان يتمركز جَدي، وكانت جَدتي إحدى النساء اللاتي عملن في المصانع الحربية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت تعمل في خطِّ تجميع قاذفة قنابل، وجَدي يخوض في الوحل في فرنسا ضمن قوَّات الجنرال باتون. وعاد جَدي من الحرب دون أن يرى حربًا حقيقية قط، واتجهت الأسرة إلى كاليفورنيا حيث التحق جَدي بجامعة بيركلي بموجب قانون إعادة تأهيل رجال الجيش العائدين من الحرب. لكن غرفة الدراسة لم تتَّسع لطموحاته ونفاد صبره، ومن ثم انتقلت الأسرة مرةً أخرى عائدة في البداية إلى كانساس، ثم عبر سلسلة من المدن الصغيرة في تكساس، وأخيرًا إلى سياتل حيث استقر بهما المُقام لفترةٍ طويلة سمحت لوالدتي أن تُنهي دراستها في المدرسة الثانوية. وعمل جَدي بائعًا للأثاث، واشتريا منزلًا ووجدا شركاء يلعبون معهما لعبة البريدج. وكانا سعيدَين لأن والدتي أثبتت تفوُّقها في المدرسة، مع أنها عندما عُرض عليها الالتحاق المبكِّر بجامعة شيكاغو منعها جَدي من الذَّهاب مُقرِّرًا أنها لا تزال أصغر من أن تعيش بمفردها. ••• وعندئذٍ كان من الممكن أن تتوقَّف القصة؛ منزل وأسرة وحياة محترمة. فيما عدا أن شيئًا واحدًا كان لا يزال يقضُّ مضجع جَدي. ويمكنني أن أتخيَّله وهو يقف على حافة المحيط الهادي، وقد شاب شعره مبكرًا، وأصبح جسده الطويل النحيل ممتلئًا، ينظر إلى الأفق يراه وهو ينحني، ولا يزال يشمُّ رائحة منصات النفط وقشر الذرة والحياة الصعبة التي ظن أنه تركها بعيدًا وراءه. ولذلك عندما ذكَر أمامه بالصدفة مديرُ شركة الأثاث التي يعمل بها أن متجرًا جديدًا على وشْك أن يُفتتَح في هونولولو، وأن فرص ازدهار العمل هناك غير محدودة نظرًا لأنها قريبًا ما ستُحقق استقلالها، أسرعَ إلى البيت في اليوم نفسِه وتحدَّث إلى جَدتي عن بيع المنزل وحَزَم حقائبهم مرة أخرى للشروع في آخر جولة في رحلتهم غربًا، في اتجاه غروب الشمس … سيكون دائمًا بهذا الشكل، أعني جَدي، دائمًا ما يبحث عن هذه البداية الجديدة، دائمًا ما يهرُب من الأمور المألوفة. وعندما وصلت الأسرة إلى هاواي كانت شخصيته قد نضجت تمامًا على ما أظن؛ تلك الشهامة والرغبة في إسعاد الآخرين، ذلك المزيج الغريب من الخبرة والمعرفة وضيق الأفق، وسذاجة المشاعر التي من الممكن أن تجعله فجأةً غير لبقٍ ومن السهل جرحُ مشاعره. لقد كانت شخصيته شخصيةً أمريكية، نموذجًا للرجال من جيله، الرجال الذين اعتنقوا مفهوم الحرية والفردية والطريق المفتوح دون أن يكونوا دائمًا على درايةٍ بثَمن ذلك، والذين من الممكن أن تقود حماستهم بالسهولة نفسها إلى جبن المكارثية أو إلى أعمال الحرب العالمية الثانية البطولية، الرجال الذين كانوا خطيرين وواعِدين في آنٍ واحد، وكانوا كذلك بسبب براءتهم المتأصِّلة، وهم الرجال الذين سيُصابون بالإحباط في النهاية. ومع ذلك فحتى عام ١٩٦٠ لم يكن جَدي قد تعرَّض للاختبار بعد، أوقات الإحباط ستأتي بعد ذلك، وحتى عندما تأتي فإنها ستأتي ببطءٍ ومن دون العنف الذي كان من الممكن أن يغيِّره للأفضل أو للأسوأ. وقد أصبح يعتبر نفسه مفكرًا حرًّا مخالفًا لمن حوله، بل بوهيميًّا. وكان يكتب الشعر أحيانًا ويستمع إلى موسيقى الجاز، ويعتبر عددًا من اليهود الذين قابلهم في عمله في مجال الأثاث أقربَ أصدقائه. وفي محاولته الوحيدة للدخول إلى الدِّين المنظم، كان يدرج أسماءَ الأسْرة في الاجتماع المحلي للمُتَّبِعين لمذهب الكونية التوحيدية، وكانت تروقه فكرة أن التوحيديين يستخدمون نصوص جميع الأديان العظيمة (وكان يقول: «كما لو أن لديك خمسةَ أديان في دينٍ واحد»). كانت جَدتي تحاول أن تُقنعه بالعدول عن آرائه في الكنيسة (فتقول: «بحق السماء يا ستانلي، ليس من المفترض أن يكون الدِّين مثل شراء حبوب الإفطار!»)، لكن إذا كانت جَدتي أكثر شكًّا بطبيعتها، ولم تكن تتفق مع جَدي في بعض مفاهيمه الغريبة، فإن الاستقلال العنيد لشخصيتها وإصرارها على التفكير في الأمور بنفسها، جعلهما بصفةٍ عامة متقاربَين. كل هذا جعلهما مُتحررَين إلى حدٍّ ما، مع أن أفكارهما لن تتحدَ أبدًا لتُكوِّن ما يُشبه أيديولوجية ثابتة، وفي هذا كانا أيضًا أمريكيَّين. ولذا عندما عادت أُمي إلى المنزل ذات يومٍ وتحدَّثت عن صديقٍ قابلَتْه في جامعة هاواي، وهو طالب أفريقي يُدعى باراك، كان أول ما بدر إلى ذهنهما هو دعوته إلى العَشاء. وأظن أنه جال في خاطر جَدي أن ذلك الشاب المسكين على الأرجح وحيدٌ وبعيد عن وطنه، وكانت جدتي ستقول لنفسها من الأفضل أن نُلقي نظرةً عليه. وعندما وصل أبي إلى باب منزلهما، من المحتمل أن جَدي قد صُدِمَ على الفور بمدى تشابُه الأفريقي مع أحد مُطربيه المفضَّلين؛ نات كينج كول، وأستطيع أن أتخيَّله وهو يسأل أبي هل بإمكانه أن يُغنِّي، دون أن يفهم نظرة الارتياع التي ارتسمت على وجه والدتي، وكان جَدي على الأرجح مشغولًا للغاية يحكي إحدى دعاباته أو يتجادل مع جَدتي حول كيفية طهي شرائح اللحم حتى إنه لم يلحظ أن والدتي مدَّت يدَها وضغطت على اليد القوية الملساء إلى جوار يدِها. ولاحظت جَدتي ذلك لكنها كانت مُهذَّبة بما يكفي لأن تقدِّم الحلوى وهي تعض على شفتيها؛ فقد حذَّرتها غريزتها من أن تُبالغ في ردِّ فعْلها. وعندما انتهت الأمسية علَّق كلاهما على حِدَّة ذكاء الشاب ومدى اعتزازه بنفسه الواضح في الإيماءات المحسوبة وجِلسته الأنيقة وهو يضع ساقًا فوق أخرى، وما أجمل اللُّكنة! ولكن هل يتركان ابنتهما «تتزوج» واحدًا مثله؟ إننا لا نعرف بعد، فالقصة حتى ذلك الحين لا تقدِّم تفسيرًا مناسبًا. الحقيقة أنهما — على غرار معظم الأمريكيين البِيض في ذلك الوقت — لم يُفكِّرا كثيرًا في السود. فقد سلكت قوانين الفصل العنصري طريقها شمالًا إلى كانساس قبل أن يُولَد جَداي بزمنٍ طويل، لكن هذه التفرقة بدت على الأقل حول ويتشيتا أكثر لُطفًا وأقل رسمية، ولم تتضمَّن ذلك القدْر الكبير من العنف الذي سيطر على ولايات أقصى الجنوب. فقد أبقت القوانين نفسُها غيرُ المعلنة التي حكمت الحياة بين البِيض التعاملَ بين الأجناس المختلفة عند أدنى مستوياته، وعندما يظهر السود في ذكريات جَدي وجَدتي عن كانساس، تكون صورًا قصيرة؛ رجال سود يأتون بالقُرب من حقول النفط من حينٍ لآخر يبحثون عن عمل كعُمَّالٍ بالأجرة، أو سيدات سوداوات يأخذن ملابس البِيض للتنظيف أو يساعدن في تنظيف منازل البِيض. فالسود كانوا موجودين وغير موجودين، مثل سام عازف البيانو أو بولا الخادمة أو أموس وأندي على شبكات الإذاعة؛ حضور صامت غير ملحوظ لا يُثير عاطفة ولا خوفًا. ولم تبدأ الأسئلة حول العِرق تظهر في حياة عائلتي إلا عندما انتقلت إلى تكساس بعد الحرب. فقد تلقَّى جَدي في أسبوعه الأول من العمل هناك نصيحةً من زميله البائع في محل الأثاث عن كيفية التعامل مع الزبائن السود والمكسيكيين: «إذا أراد الملونون أن يلقوا نظرةً على البضائع يجب أن يأتوا بعد ساعات العمل الرسمية، ويتولوا بأنفسهم ترتيبات توصيلها لأماكنهم.» وبعد ذلك تعرَّفت جَدتي في المصرف الذي كانت تعمل فيه إلى الحارس، وهو رجلٌ أسود طويل محترم من محاربي الحرب العالمية الثانية، ولا تتذكَّر إلا أن اسمه كان السيد ريد. وبينما كانا يتبادلان أطراف الحديث في الرُّواق في أحد الأيام ثارت ثائرة سكرتيرة في المكتب وهمست بغضبٍ لجَدتي بأنها لا ينبغي أن تُخاطب أبدًا «زنجيًّا بلقب السيد». وبعد ذلك بوقتٍ قصير وجدت جَدتي السيد ريد في ركنٍ من المبنى يبكي بصوتٍ منخفض، وعندما سألته ما الخطْب نصب قامته وجفَّف عينيه وردَّ بسؤال. قال: «ماذا فعلنا حتى نُعامل بهذا الاحتقار؟!» لم تكن جَدتي تعرف إجابةً عن هذا السؤال في ذلك اليوم، لكن السؤال علِق في ذهنها، وكانت تُناقشه في بعض الأحيان مع جَدي حين تأوي أمي إلى الفراش. وقرَّرا أن تستمر جَدتي في مخاطبة السيد ريد بلقب «سيد»، مع أنها تفهَّمت، بمزيج من الارتياح والحزن، المسافةَ التي أصبح الحارس يراعي الحفاظ عليها كلما مرَّ أحدهما بجانب الآخر في الأروقة. وبدأ جَدي يرفض دعوات زملائه في العمل للخروج واحتساء الجِعَة، ويُخبرهم أن عليه العودةَ إلى المنزل كي يُسعِد زوجته. وأصبحا انطوائيَّين وقلقَين وملأهما خوف مجهول وكأنهما غريبان دائمان في المدينة. وكانت أُمي هي أكثر المتضرِّرين من ذلك المناخ السيئ الجديد. كانت في ذلك الوقت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرها، طفلة وحيدة لم تتعافَ من حالة ربو شديدة إلا منذ وقتٍ قليل. وقد جعلها المرض — بالإضافة إلى كثرة التنقُّل — وحيدةً نوعًا ما، كانت مرحةً وخفيفةَ الظل لكنها تميل إلى أن تدفِن رأسَها في كتاب أو تخرُج في نزهاتِ سَيرٍ فردية، وبدأت جَدتي تقلق من أن ذلك الانتقال الأخير زاد من وضوح غرابة سلوكيات ابنتها. وكانت لأمي صداقات قليلة في مدرستها الجديدة، وكانت تتعرَّض بلا رحمة لمضايقاتٍ بسبب اسمها، ستانلي آن (أحد أفكار جَدي التي تفتقد إلى الحكمة؛ إذ كان يريد ابنًا). فكانوا يطلقون عليها ستانلي ستيمر أو الرجل ستان. وكانت جَدتي عندما تعود من عملها تجدها عادةً وحدَها في الحديقة الأمامية تؤرجح ساقيها من فوق الشرفة أو تستلقي على الحشائش مستغرقةً في عالمها المنعزل. لكن ذلك الوضع اختلف في أحد الأيام. فعندما كانت جَدتي عائدة إلى المنزل في أحد الأيام الحارة الهادئة وجدت جمعًا من الأطفال محتشِدِين خارج السياج المحيط بمنزلهم. وعندما اقتربت جَدتي استطاعت تمييز أصوات ضحكات ساخرة، وعلامات الغضب والاشمئزاز ترتسم على وجوه الأطفال. وكانوا يغنون بصوتٍ حادٍّ وبإيقاع متناوب: «مُحِبَّة الزنوج!» «يانكي قذرة!» «مُحِبَّة الزنوج!» تفرَّق الأطفال عندما رأوا جَدتي، لكن ليس قبل أن يقذف ولدٌ حجرًا كان في يدِه فوق السياج، وتتبَّعت عينا جَدتي مسار الحجر وهو يهبِط أسفل شجرة، هناك رأت سبب كل هذه الإثارة: كانت والدتي وبِصُحبتها فتاةٌ سوداء في نفس عمرها تقريبًا تستلقيان على بطنيهما إحداهما بجوار الأخرى على الأعشاب وجونلتاهما مرفوعتان فوق ركبتَيهما، وأصابع أقدامهما تخترق تربةَ الحديقة، ورأساهما يستندان على يديهما أمام أحد كتب والدتي. ومن بعيد بدت الفتاتان ساكنتَين تحت ظلِّ أوراق الشجر. ولم تُدرك جَدتي أن الفتاة السوداء كانت ترتعش وعينا أمي مليئة بالدموع إلا عندما فتحت البوابة. ظلت الفتاتان بلا حراك، مشلولتَين من الخوف، حتى انحنت جَدتي في النهاية ووضعت يدَها على رأسيهما. وقالت: «إذا كنتما ستلعبان، فبحق السماء تعاليا إلى الداخل، أنتما الاثنتان.» وتابعت: «تعاليا!» ثم رفعت والدتي من على الأرض ومدَّت يدَها إلى يد الفتاة الثانية، لكن قبل أن تستطيع التفوه بكلمةٍ أخرى ركضت الفتاة بأقصى سرعتها، وبدت ساقاها الطويلتان كسيقان الكلاب من نوع الوبت السريعة حتى اختفت في الشارع. استشاط جَدي غضبًا عندما سمع ما حدث، واستجوب أُمي عما حدث ودوَّن الأسماء. وفي اليوم التالي أخذ فترة الصباح إجازة من عمله لزيارة ناظر المدرسة. واتصل شخصيًّا بأولياء أمور بعض الأطفال الذين أهانوا ابنته ليصبَّ عليهم جامَّ غضبه. وقد حصل على الإجابة نفسها من كل ولي أمرٍ تحدَّث إليه: «من الأفضل أن تتحدَّث إلى ابنتك يا سيد دونهام؛ فبنات البِيض لا يلعبنَ مع الملونين في هذه المدينة.» ••• من الصعب أن يعرف المرء كيف يقدِّر أهمية هذه الأحداث، وما الإخلاص الدائم للقضية الذي تكوَّن أو انهار، أو ما إذا كانت هذه الأحداث بارزةً فقط في ضوءِ ما تبِعها من أحداث. فكلما تحدَّث جَدي معي عنها أصرَّ أن عدم ارتياح الأسرة مع هذه العنصرية كان من بين الأسباب التي دفعتها لمغادرة تكساس. وكانت جَدتي أكثرَ حرصًا؛ فذات مرةٍ عندما كنا وحدَنا أخبرتني أنهم لم ينتقِلوا من تكساس إلا لأنَّ الأمور لم تكن تسير على ما يُرام مع جَدي في العمل، ولأن صديقًا من سياتل وعَدَه بشيء أفضل. ووفقًا لها فلم يكن حتى مصطلح «العنصرية» في مفرداتهم في ذلك الوقت. فتقول: «كنتُ أرى أنا وجَدك أنه علينا معاملة الناس بأسلوبٍ مهذَّب يا باري. هذا هو كلُّ ما في الأمر.» إنها حكيمة بهذه الطريقة، فجَدتي — التي تميل للشك في العواطف المفرطة أو الادعاءات المُبالغ فيها — تقبل حُكمَ الفطرة السليمة. لذا أميل إلى الثقة بروايتها للأحداث، فإنها تتفق مع ما أعرفه عن جَدي من ميله لأن يُعيد كتابة تاريخه ليكون متوافقًا مع الصورة التي يتمنَّاها لنفسه. ومع ذلك فلا أستبعد تمامًا ما يقصه عليَّ جَدي من أحداثٍ وأعتبره عملًا من أعمال الثناء المفرِط على الذات، أي صورة أخرى من إعادة كتابة التاريخ بشكلٍ مُغاير لدى البِيض. لا يمكنني هذا، بالتحديد لأني أعرف مدى إيمان جَدي الشديد بالقصص التي يرويها، ورغبته الشديدة في أن تكون حقيقية، حتى لو لم يعرف دائمًا كيف يجعلها كذلك. بعد تكساس لا أظن أن السُّود أصبحوا جزءًا من القصص التي يرويها، القصص التي كانت تجد طريقها عبر أحلامه. وستُصبح حالة العِرق الأسود وآلامه وجراحه، تختلط في عقله مع آلامه الخاصة؛ الأب الغائب والإشارة إلى الفضيحة، والأم التي رحلت، وقسوة الأطفال الآخرين، وإدراكه أنه لم يكن صبيًّا أشقرَ الشعر، وأنه يبدو مثل «إيطالي متبختر». وأخبرته غريزتُه أن العنصرية كانت جزءًا من ذلك الماضي، جزءًا من التقاليد والجدارة بنَيل الاحترام والمكانة، وجزءًا من تكلُّف الابتسام والهمسات ونشْر الإشاعات التي أبقَتْه في الخارج يحاول أن يسترِقَ النظر إلى الداخل. أظن أن هذه الغريزة لها أهمية؛ فقد اتجهتْ عند كثيرٍ من البِيض من جيل جَدي وجَدتي ممن لهم نفس خلفياتهما العائلية إلى الاتجاه المضاد؛ اتجاه الجماهير. ومع أن علاقة جَدي بوالدتي كانت قد توتَّرت بالفعل في الوقت الذي وصلوا فيه إلى هاواي — فهي لم تتقبَّل قط عدم استقراره ومزاجه العنيف في معظم الأوقات وستُصبح خجولة من قسوته وأخلاقه الفظة — فقد كانت تلك الرغبة في طمس الماضي، وتلك الثقة بإمكانية إعادة تشكيل العالم من الخيال هو الميراث الباقي له. وسواء أدرك جَدي هذا أم لم يُدركه، فإن رؤيةَ ابنته في صحبةِ رجل أسود قدَّمت له على مستوًى عميق غير مُستكشَف من ذاته نافذةً تطل على قلبه. ولكن معرفة الذات هذه — حتى إذا كان قد توصَّل إليها — لم تكن لتجعل تقبُّل خطوبة أمي أسهلَ له. في الحقيقة تظل مسألة كيف حدث الزواج ومتى حدث أمرًا غير واضح، وهي التفاصيل التي لم أملِك الشجاعة قطُّ لاستكشافها. فلا يُوجَد تسجيل لحفل زواج بالمعنى المعروف، لا كعكة أو خاتم زواج أو إمساك والد العروس بيد ابنته ليسلِّمها لزوجها. ولم تحضُره عائلات، حتى يبدو أن الناس في كانساس في ذلك الوقت لم يكونوا على علمٍ به. مجرَّد حفل زواج مدني صغير، وقاضٍ لإتمام مراسم الزواج القانونية. الأمر برُمَّته يبدو هشًّا عند تأمُّله، عشوائيًّا للغاية ودون أي تنظيم. وربما يكون هذا هو الأسلوب الذي أراد جَدَّاي أن يتمَّ به الأمر، تجربة ستمر، مسألة وقتٍ فحسب، ما دام أنهما يحافظان على ثبات موقفهما ولم يقوما بأي سلوكٍ عنيف. وإذا كان الأمر كذلك، فإنهما لم يُخطئا في تقديرِ حزمِ أمي الهادئ فحسب، بل أخطآ أيضًا في تقدير تذبذُب مشاعرهما. وعندما وُلد طفل، يزن ثمانية أرطال وأوقيتَين وله عشر أصابع في قدمَيه ومثلها في يدَيه ويريد أن يأكل، ماذا كان يمكن أن يفعلا؟ بدأ الزمان والمكان يتآمران ويحوِّلان الموقفَ العصيب إلى شيءٍ يمكن تقبُّله، بل يمكن أن يُصبح مصدرًا للفخر. وكان جَدي يجلس يشارك أبي احتساء الجِعَة ويستمع إلى زوج ابنته الجديد وهو يتحدَّث بجرأة عن السياسة أو الاقتصاد وعن أماكنَ بعيدة للغاية مثل الوايتهول أو الكريملين ويتخيَّل نفسه يستطلع المستقبل. ثم يبدأ يقرأ الصحيفة بحرصٍ أكبر، ويجد أول التقارير التي تحدَّثت عن عقيدة الاندماج العنصري الجديدة في أمريكا، ويقرِّر أن العالَم ينكمِش، وأن العواطف تتغيَّر، وأن الأسرة من ويتشيتا قد انتقلت في الواقع إلى مقدمة سياسة «الحدود الجديدة» التي تبنَّاها كينيدي، وحلم الدكتور كينج الرائع. كيف يمكن لأمريكا أن تُرسِل رجالها إلى الفضاء وهي لا تزال تُبقي مواطنيها السود في العبودية؟ وكانت إحدى أوائل الذكريات في حياتي؛ أن أجلس على كتفَي جَدي أشاهد رواد الفضاء يصِلون من إحدى مهام بعثة أبوللو إلى قاعدة هيكام الجوية بعد هبوطٍ ناجح. وأتذكَّر أن روَّاد الفضاء بنظاراتهم التي يضعها الطيارون كانوا على مسافةٍ بعيدة للغاية، ولا أكاد أراهم عبر مدخل غرفة العزل. ولكن جَدي كان يُقسِم دائمًا أن أحد رواد الفضاء قد لوَّح لي وأنا لوَّحت له. كان هذا جزءًا من القصة التي يرويها لنفسه. لقد دخل جَدي مع زوج ابنته الأسود وحفيده الأسمر البشرة إلى عصر الفضاء. وأي ميناء يكون أفضل من هاواي، أحدث عضو في الاتحاد، لبدء هذه المغامرة الجديدة؟ حتى في الوقت الحاضر — بعد أن تضاعف تَعداد سكان الولاية أربعة أضعاف، وبعد أن أصبحت وايكيكي تُتاخِم مطاعم الوجبات السريعة المختلفة والمتاجر التي تبيع شرائط الفيديو الإباحية والتقسيم الفرعي الذي يزحف دون رحمةٍ إلى كل جزءٍ من التل الأخضر — حتى في هذا الوقت يمكنني تعقُّب الخطوات الأولى التي خطوتُها وأنا طفل مُنبهر بجمال الجزر. والسطح الأزرق المرتجف للمحيط الهادي. والمنحدرات التي تُغطِّيها نباتات الأشنة الخضراء، والاندفاع الرائع لشلالات مانوا، وزهور الزنجبيل والظلال العالية المليئة بأصواتِ طيورٍ غيرِ مرئية. وأمواج الشاطئ الشمالي العنيفة، تتحطَّم كما لو أنها في بكرة شريطٍ سينمائي في عرضٍ بطيء. وظلال قِمَم بالي الجبلية، والهواء الرطب ذي الرائحة الطيبة النفَّاذة. إنها هاواي! ولا بد أنها كانت في نظر عائلتي التي وصلت عام ١٩٥٩ كما لو أن الأرض نفسها — بعد أن سئمت تدافُع الجيوش والحضارة المريرة — أجبرت هذه السلسلة من الصخور الزمردية اللون على البروز حيث يستطيع الرُّواد من جميع أنحاء العالم أن يملئوا الأرض بأطفالهم الذين ستصبغُهم الشمس باللون البرونزي. أما الغزو القبيح لسكان هاواي الأصليين عن طريق المعاهدات الفاشلة، والأمراض العضال التي أحضرتها البعثات التبشيرية، وتجريف التربة البركانية الغنية على يد الشركات الأمريكية من أجل زراعة قصب السكر والأناناس، ونظام التعاقُد بين صاحب العمل والأجير الذي جعل المهاجرين من اليابانيين والصينيين والفلبينيين يكدحون دون توقُّف من شروق الشمس إلى غروبها في هذه الحقول، واعتقال الأمريكيين من أصل ياباني خلال الحرب؛ كل ذلك كان تاريخًا حديثًا. ومع ذلك ففي الوقت الذي وصلت فيه عائلتي كان ذلك قد اختفى بطريقةٍ ما من الذاكرة الجماعية، مثل ضباب الصباح الذي بدَّدته الشمس. كان هناك الكثير جدًّا من الأجناس — والسلطة مشتَّتة للغاية فيما بينهم — مما جعل من الصعب فرض النظام الطبقي الصارم المطبق في الدولة الأم، وعدد قليل للغاية من السود حتى إن أكثر أنصار الفصل العنصري حماسةً يمكنهم الاستمتاع بإجازةٍ بأمانٍ في ظل معرفة أن الاختلاط بين الأجناس في هاواي ليس له علاقة بالنظام القائم في الوطن. ومن ثم، نُسِجَت خيوط أسطورة تقول إن هاواي بوتقةُ الانصهار الحقيقية، وتجربة في التجانُس العِرقي. وقد أقحم جَدي وجَدتي — ولاسيما جَدي الذي كان يتعامل مع أناسٍ كثيرين بحُكم عمله في الأثاث — نفسيهما في قضية التفاهُم المتبادل. ولا تزال هناك نسخة قديمة من كتاب ديل كارنيجي «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثِّر في الناس» على رفِّ مكتبته. وعندما كبرتُ كنتُ أسمعه يتحدَّث بذلك الأسلوب المرح الودود الذي رأى أنه سيساعده في عمله مع زبائنه. فكان من السهل عليه أن يُخرِج بسرعة صورَ العائلة ويروي قصة حياته على أول شخصٍ غريب يُقابله، ويُصافح ساعي البريد ويشدُّ على يدَيه، أو يُلقي دعاباتٍ بذيئة على النادلات في المطاعم. كانت مثل هذه السلوكيات الغريبة تجعلني أشعر بالخجل ولكن كان هناك أشخاص أكثر تسامحًا من حفيده يقدِّرون صفاته الغريبة، حتى إنه كانت له دائرة واسعة من الأصدقاء، مع أنه لم يكن لدَيه تأثير كبير قط. فقد كان بالقُرب من منزلنا متجر صغير يُديره رجل أمريكي من أصلٍ ياباني يدعو نفسه فريدي يحتفظ لنا بأفضل شرائح التونة من نوع سكيب جاك لصُنع طبق الساشيمي، ويُعطيني حلوى رايس كاندي المغلَّفة بورق أرز يمكن أكله. وفي أوقاتٍ كثيرة كان سكان هاواي الأصليون الذين يعملون في متجر جَدي عمالَ توصيل للطلبات يدعوننا لتناوُل طبق «بوي» المميز لهاواي مع لحم الخنزير المشوي، الذي كان جَدي يلتهِمه بنهمٍ (أما جَدتي فكانت تُدخِّن السجائر حتى تعود إلى المنزل وتقلي لنفسها بيضًا). وفي بعض الأحيان كنتُ أذهب مع جَدي إلى مُتنزَّه أليئي حيث كان يحب أن يلعب الداما مع فلبينيين كبار السن يُدخِّنون سجائر رخيصة ويبصقون بكمياتٍ كبيرة عصارةَ بذور نبات التنبول التي تبدو كما لو أنها دم. ولا أزال أذكر كيف اصطحبَنا رجلٌ برتغالي — كان جَدي قد باعه أريكةً بثَمنٍ جيد — في وقتٍ مبكِّر من صباح أحد الأيام قبل شروق الشمس بساعاتٍ لاصطياد سمكٍ بالحربة من خليج كايلوا. كان هناك مصباح يعمل بالغاز يتدلَّى من الكابينة في قارب الصيد الصغير وأنا أشاهد الرجلَين وهما يغوصان في المياه المظلمة السوداء كالفحم، وضوء كشافيهما يتوهَّج أسفل السطح حتى يظهرا ومعهما سمكة كبيرة ملوَّنة تضرب بذيلها في طرف أحد الرمحَين. وقد أخبرني جَدي باسمها في لغة هاواي، وهو هومو-هومو-نوكو-نوكو-أبوا، وقد أخذنا نُردِّده طوال رحلتنا إلى المنزل. في مثل هذه البيئة، لم يُسبِّب أصلي العِرقي لجَدي وجَدتي الكثير من المشكلات، وسرعان ما تبنَّيا سلوك الازدراء الذي يتبعه السكان المحليون تجاه الزوَّار الذين يعبِّرون عن عدم ارتياحهم فيما يخصُّ هذا الشأن. وفي بعض الأحيان عندما يرى جَدي السيَّاح يُشاهدونني وأنا ألعب على الرِّمال، فإنه يقترب منهم ويهمس، باحترام لائق، قائلًا إنني حفيد الملك كاميهاميها أول ملوك هاواي. وكان يُحب أن يقول لي وهو يرسم ابتسامةً عريضة على شفتَيه: «أنا واثق من أن صورتك تُوجَد في ألف كتاب للقصاصات يا باري، من ولاية إيداهو إلى ولاية مين.» أظن هذه القصة بالتحديد غامضة، وأرى فيها استراتيجية لتجنُّب الموضوعات الصعبة، لكن جَدي كان يروي قصةً أخرى بالسرور نفسه عن تلك السائحة التي رأتني أسبح يومًا ما، ودون أن تعرف مع مَن تتحدَّث علَّقت قائلة: «لا بد أن سكان هاواي هؤلاء يُولَدون ماهرين بالسباحة.» فأجابها جَدي إن هذا أمرٌ يصعب اكتشافه إذ إن «هذا الصبي هو حفيدي، وأمُّه من كانساس ووالده من قلب كينيا، ولا يُوجَد محيط لمسافة عدة أميال من كلا المكانَين.» ففي نظر جَدي لم يَعُد العِرق شيئًا يستحقُّ أن يقلق المرءُ بشأنه، فإذا كان الجهل لا يزال باقيًا في أماكنَ بعَينها، فسيكون من الباعث على الطمأنينة أن تفترض أن باقي العالم سرعان ما سيلحق بركْب الحضارة والتقدُّم. ••• وفي النهاية أظنُّ أن هذا هو ما كانت تدور حوله جميع القصص عن أبي. فإنهم لم يتحدَّثوا عن الرجل نفسه بقدرِ ما تحدَّثوا عن التغيُّرات التي حدثت في الأشخاص المحيطين به، والعملية المُتردِّدة التي تغيَّر بها موقف جَدي وجَدتي تجاه العنصرية. لقد أعطت القصص صوتًا لروحٍ ستستحوِذ على الأمة طوال الفترة القصيرة بين انتخاب كينيدي وإقرار قانون حق التصويت؛ الذي يُعَد الانتصار الظاهري للعالمية على محدودية التفكير وضيق الأفق، إنه عالَم جديد مُشرق حيث ستكون الاختلافات في العِرق والثقافة مصدرًا للتوجيه والتسلية، بل ربما تقود المرء للمجد. إنها قصة خيالية جيدة تُطاردني قدرَ ما كانت تطارد عائلتي، وتستحضر بعض جوانب جنةٍ مفقودة تمتدُّ لِأبعدَ من مجرد حدود الطفولة. ولم تكن هناك سوى مشكلةٌ واحدة؛ أنَّ أبي لم يكن موجودًا. لقد ترك الجنة، ولم يكن شيء مما أخبرَتْني به أمي أو جَدي وجَدتي بإمكانه أن يُلغي هذه الحقيقة الواضحة. وقصصهم لم تُخبرني لماذا رحل. ولم يستطيعوا أن يصِفوا كيف كانت ستبدو الأمور إذا لم يرحل. وعلى غرار الحارس السيد ريد أو الفتاة السوداء التي أثارت الغبار وهي تقطع أحد طرق تكساس مسرعة، أصبح والدي مجرَّد شخصية في قصةٍ يرويها شخصٌ ما. شخصية جذَّابة — شخص غريب قلبه من ذهب، الغريب الغامض الذي يُنقِذ المدينة ويفوز بالفتاة — ولكنه لا يزال شخصية في قصة مع ذلك. إنني لا ألوم حقًّا والدتي أو جديَّ على هذا. فربما كان والدي يفضِّل الصورة التي رسموها له، بل ربما كان مشتركًا في تصويرها. فهو يظهر، في مقالٍ نُشر في صحيفة «هونولولو ستار-بوليتين» عند تخرُّجه، شخصًا متحفظًا ومسئولًا، في صورة الطالب النموذجي سفير قارته، وينتقِد الجامعة بلباقةٍ لأنها تحشد الطلاب الزائرين في مبنًى خاص مُلحَق بالجامعة وتُجبرهم على حضور برامجَ دراسيةٍ مُصمَّمة لتعزيز التفاهُم الثقافي، وقال إن هذا يُشتِّت انتباهه عن التدريب العمَلي الذي يسعى إليه. ومع أنه لم يتعرَّض شخصيًّا لأية مشكلات، فقد لاحظ أن البعض يعزلون أنفسهم عمن حولهم وأن هناك تمييزًا عنصريًّا واضحًا بين الجماعات العرقية المختلفة، وعبَّر بمرحٍ ساخر عن حقيقة أن «القوقازيين» في هاواي يتعرَّضون أحيانًا للتحيُّز. لكن إذا كان تقييمه يُعبِّر عن بصيرةٍ نافذة نسبيًّا، فقد كان حريصًا على أن يُنهي حديثه بملحوظةٍ إيجابية؛ إذ قال إن أحد الأشياء التي يمكن أن تتعلَّمها الأمم الأخرى من هاواي هي استعداد الأجناس للعمل معًا من أجل تحقيق التنمية المشتركة، وهو سلوك وجد المواطنين البِيض في أماكنَ أخرى غير مُستعدِّين للقيام به في معظم الأحيان. اكتشفتُ وجودَ هذه المقالة مطويةً بين شهادة ميلادي واستمارات تطعيم قديمة، عندما كنتُ في المدرسة الثانوية. كانت قصاصةً صغيرة بها صورة له، دون ذكرٍ لأُمي أو لي، وتُركتُ أنا لأتساءل عما إذا كان الحذف متعمدًا من جانب أبي، استعدادًا لرحيله الطويل. وربما لم يطرح الصحفي عليه أسئلة شخصية خوفًا من أسلوب أبي المتعجرف، أو ربما كان الأمر قرارًا من مجلس تحرير الصحيفة بصفته ليس جزءًا من القصة البسيطة التي كانوا يبحثون عنها. وأتساءل أيضًا هل سبَّب ذلك الحذف شجارًا بين أبوي. في ذلك الوقت ما كنت سأعرف لأني كنتُ أصغر سنًّا من أن أُدرك أنه كان من المفترض أن يكون لي أب يعيش معي، بالضبط كما كنتُ أصغر من أن أعرف أني بحاجةٍ لأن يكون لي عِرق. ولفترةٍ قصيرة للغاية بدا أن أبي قد سقط تحت تأثير التعويذة التي سقط تحت تأثيرها أمي وجدَّاي، وحتى عندما كُسِرت تلك التعويذة، واستعادت العوالم — التي ظنوا أنهم تركوها خلفهم — سيطرتها عليهم، شغلتُ أنا المكان الذي كانت تحتله أحلامهم في السنوات الست الأولى من حياتي.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/2/
الفصل الثاني
كان الطريق إلى السفارة مُختنقًا بحركة المرور؛ السيارات، والدرَّاجات البخارية، وعربات الأجرة الصغيرة التي تسير على ثلاث عجلات (ريكشا)، والحافلات الكبيرة والصغيرة التي تحمل ضعف سَعتها من الركَّاب؛ موكب من العجلات والأذرع والسيقان، كلٌّ يحارب ليجد لنفسه مكانًا أثناء قيظِ ما بعد الظهيرة. استطعنا أن نشقَّ طريقنا بضعةَ أقدامٍ إلى الأمام، ثم توقَّفنا. ووجدْنا مخرجًا ننفُذ منه ثم توقَّفنا مرةً أخرى، ولوَّح سائق سيارة الأجرة التي نستقلُّها مُبعدًا مجموعةً من الصبية الذين كانوا يبيعون اللبان والسجائر المفردة، وكاد أن يصطدم بدراجةٍ بخارية تحمل عائلةً كاملة على ظهرها؛ أبًا وأمًّا وابنًا وابنةً، مالوا جميعًا معًا كأنهم شخصٌ واحد عند أحد المنعطفات، وكانوا يُكمِّمون أفواههم بمناديل للتخفيف من تأثير العوادم عليهم جعلتهم يبدون كعائلة من قطَّاع الطرق. وعلى جانب الطريق كانت مجموعةٌ من النساء السمراوات ذوات البشرة الذابلة يلفُفنَ حول أجسادهن رداءً بنيًّا باهتَ اللون يُرتِّبن في أكوام سِلالًا من القش ممتلئةً بفاكهة ناضجة، وميكانيكيان يجلسان أمام مرأبٍ في الهواء الطلق، ويهشَّان الذبابَ بخمولٍ وهما يُفكِّكان محرِّكًا. ومن خلفهما تنحدِر بعض أجزاء التربة الطينية لتصبح مقلبًا للنفايات المحترقة حيث كان طفلان مُستديرا الرأسِ يطاردان بجنونٍ دجاجةً سوداء هزيلة. وانزلق الطفلان في الوحل وقشر الذرة وأوراق شجر الموز، يصرخان في سعادةٍ حتى اختفيا في الطريق القذرِ خلفهما. وما إن وصلنا إلى الطريق السريع حتى قلَّ الزحام، خرجنا من سيارة الأجرة أمام السفارة حيث استقبلَتْنا إيماءات الترحيب من اثنين من رجال المارينز يرتديان ملابس أنيقة. وداخل فناء السفارة حلَّ صوت الإيقاع المنتظِم لتقليم الأشجار محلَّ ضوضاء الشارع. كان رئيس أمي في العمل رجلًا أسودَ بدينًا قصيرَ الشعر بدأ الشيب يخطُّ صدغَيه. ويتدلَّى علم الولايات المتحدة من على عصًا طويلة بجوار مكتبه. وقد مد إليَّ يده مصافحًا بقوة قائلًا: «كيف حالك أيها الشاب؟» كانت تنبعِث منه رائحةُ عطرِ ما بعد الحلاقة وياقة القميص المشدودة تُحيط عنقه بإحكام. ووقفتُ منتصبَ القامة وأنا أُجيب أسئلته عن تقدُّمي في الدراسة. وكان الهواء في غرفة المكتب باردًا وجافًّا، مثل هواء قِمم الجبال، نسيم نقي عليل. انتهت مُقابلتنا، وأجلستني أمي في المكتبة في حين ذهبَتْ هي لإنجاز بعض الأعمال. انتهيتُ من قراءة كتب الرسوم المسلية ومن الواجب الدراسي الذي جعلتني أمي أُحضِره معي قبل أن أصعد على مقعدي لأستعرض الكتب على الأرفف. كانت معظم الكتب لا تُثير اهتمامَ صبيٍّ في التاسعة من عمره؛ تقارير البنك الدولي، ودراسات جيولوجية، وخطط خمسية للتنمية. لكني وجدتُ في أحد الأركان مجموعةً من أعداد مجلة «لايف» معروضة بشكلٍ أنيق في غلاف بلاستيكي شفاف. قلَّبت في الإعلانات الجذابة — شركة جوديير للإطارات، وشركة دودج فيفر، وشركة زينيث لأجهزة التليفزيون («لماذا ليس أفضل الأنواع؟») وحساء كامبل (ممم، شهي!) — ورجال يرتدون بلوفرات بيضاء ذات رقبةٍ طويلة يسكبون الخمر على الثلج ونساء يرتدين جونلات حمراء قصيرة يشاهدنَ بإعجاب، ولسببٍ غريب بثَّ هذا في نفسي الطمأنينة. وعندما رأيت صورًا إخبارية، حاولت أن أُخمِّن موضوعَ القصة قبل قراءة التعليق. رأيت صورةً لأطفال فرنسيين ينطلقون في شوارعَ مُعبَّدة بالحصى الكبير، كان مشهدًا سعيدًا يلعبون فيه لعبة الاستغماية بعد يومٍ من الكتب المدرسية والواجبات اليومية المملة، وكانت ضحكاتهم تُعبِّر عن الحرية. ثم صورة سيدة يابانية تضع برفقٍ فتاةً صغيرة عارية في حوضٍ غير عميق، كان ذلك المشهد حزينًا؛ فالفتاة كانت مريضة وساقاها ملتويتان ورأسها ملقًى إلى الخلف على صدر الأم، كان الحزن محفورًا على ملامح وجه الأم، ربما كانت تلقي باللوم على نفسها … وفي النهاية صادفتُ صورةً لرجل عجوز يرتدي نظارةً سوداء ومعطفَ مطر يسير في طريق خاوٍ. لم أستطِع تخمينَ ما الذي تدور حوله هذه الصورة؛ فلم يبدُ بها أيُّ شيءٍ غير عادي عن الموضوع. وفي الصفحة التالية وجدت صورةً أخرى، هذه المرة صورة أقرب ليدَي الرجلِ نفسه. وكانتا شاحبتَين شحوبًا غير طبيعي، كما لو أن الدماء قد سُحبت من الجسد. فعُدت إلى الصورة الأولى، وفي تلك اللحظة فقط رأيت أن شَعر الرجل المجعَّد وشفتَيه الغليظتين وأنفَه العريض الضخم جميعها لها نفس اللون الشاحب المخيف. وجال في خاطري أن الرجل يُعاني مرضًا شديدًا، أو ربما يكون ضحيةَ التعرُّض لإشعاعٍ أو ربما يكون أمهقَ؛ فقد رأيت أحد هؤلاء الناس في الشارع قبل بضعة أيام، وشرحَتْ لي أُمي هذه الأشياء. لكن عندما قرأتُ ما صحِب الصورة من تعليق أدركتُ أنه ليس واحدًا من هؤلاء؛ فقد جاء في المقال أن الرجل تلقَّى علاجًا كيميائيًّا لتفتيح لون بشرته. وقد دفع نقودَ العملية من أمواله الخاصة. ثم أبدى بعضَ الندم على محاولة تغيير نفسه إلى رجل أبيض، وكان يشعر بالأسف للنتيجة السيئة التي آلت إليها الأمور. لكن لا يمكن إعادة بشرته إلى ما كانت عليه. آلاف الأشخاص مثله، رجال ونساء سود في أمريكا كانوا سيودون الخضوعَ لهذا العلاج استجابةً للدعاية التي تَعِدهم بحياةٍ سعيدة إذا أصبحوا من البِيض. تدفَّقت الدماء الساخنة إلى وجهي وعنقي، وبدأت معدتي تتقلَّص، وبدت الحروف غيرَ واضحةٍ أمام عيني. هل كانت أمي تعلم بشأن هذا؟ ماذا عن رئيسها، لماذا كان شديد الهدوء وهو يقرأ التقارير على مقربةٍ منها في الرُّواق؟ وكانت لديَّ رغبة قوية في أن أقفز من على مقعدي لأريهم ما رأيته، وأن أطلب منهم تفسيرًا أو طمأنة. لكن شيئًا ما أوقفني. وكما يحدث في الأحلام لم يكن هناك صوتٌ لمخاوفي الجديدة، وعندما عادت أمي لتصطحبني إلى المنزل كانت الابتسامة تعلو وجهي وعادت المجلات إلى مكانها الصحيح. والغرفة والجو عادا هادئين كما كانا من قبل. ••• كنا قد قضينا في إندونيسيا في ذلك الوقت ما يزيد عن ثلاثة أعوام نتيجةَ زواج والدتي من رجلٍ إندونيسي اسمه لولو كان هو الآخر طالبًا قابلَتْه أمي في جامعة هاواي. واسمه يعني بلغة هاواي «مجنون»، الأمر الذي جعل جَدي ينفجر ضحكًا بلا توقُّف، لكن المعنى لم يكن مناسبًا للرجل؛ إذ كان لولو يتمتَّع بكياسةِ وأخلاقِ شعبِه. فهو قصير القامة أسمرُ البشرة وسيمُ الطلعة أسودُ الشعر كثيفه، له ملامح من الممكن أن تكون ملامح أحد أبناء المكسيك أو ساموا أو إندونيسيا، ويجيد لعب التنس، وله ابتسامة هادئة رائعة، وكان رابطَ الجأش أيضًا. ولمدة عامَين — منذ أن كنتُ في الرابعة حتى أصبحت في السادسة — احتمل عددًا لا حصر له من ساعات لعب الشطرنج مع جَدي وجولاتٍ طويلة من المصارعة معي. وعندما أجلستني أُمي في أحد الأيام لتُخبرني أن لولو قد عرض عليها الزواج ويريدنا أن ننتقل معه إلى مكانٍ بعيد، لم أتفاجأ ولم أُبدِ أيَّ اعتراضٍ أيضًا. لكني سألتها هل تحبُّه؛ فقد أصبحتُ على خبرةٍ كافية لأن أُدرك أهمية مثل هذه الأشياء. فبدأ ذقن أمي يرتجف مثلما يحدث عندما تُقاوم دموعها، وضمَّتني بين ذراعَيها لوقتٍ طويل مما جعلني أشعر بأني شجاع، مع أني لم أكن واثقًا من سبب هذا الشعور. ترك لولو هاواي فجأةً بعد ذلك، وقضيتُ أنا وأمي شهورًا نُجري استعداداتنا؛ جوازات السفر والتأشيرات وتذاكر الطيران وحجز الفنادق وسلسلة لا تنتهي من الصور. وبينما كنا نحزم حقائبنا، أخرج جَدي أطلسَ جغرافية العالم ووضع علاماتٍ على أسماء سلسلة جزر إندونيسيا: جاوة وبورنيو وسومطرة وبالي. وقال إنه يتذكَّر بعض الأسماء من قراءة أعمال جوزيف كونراد وهو صبي. كان يُطلَق عليها في ذلك الوقت «جزر البهار»، ولهذه الجزر أسماء ساحرة محاطة بالغموض. وقال: «يقول الكتاب إنه لا تزال تُوجَد هناك نمور.» وتابع: «وإنسان الغاب.» ونظر إلى الكتاب واتَّسعَت عيناه وقال: «يقول إنه يُوجَد هناك صائدو رءوس!» في ذلك الوقت اتصلت جَدتي بوزارة الخارجية لتعرِف هل البلد مُستقر. وأيًّا كان مَن تحدَّثت إليه فقد أخبرها أن الموقف تحت السيطرة، لكنها أصرَّت على أن نحمل معنا عدةَ صناديق مليئة بالأطعمة: مسحوق عصير تانج، وحليب مُجفَّف، وعلب من سمك الساردين. وقالت بحزم: «مَن يدري ماذا يأكل أولئك الناس!» فتنهَّدَت أُمي، لكن جَدتي قذفت بعدة علب من الحلوى كي تَكسبني إلى صفِّها. أخيرًا صعدنا على متن طائرةٍ تابعةٍ لشركة «بان أمريكان» لنبدأ رحلتنا حول العالم. كنتُ أرتدي قميصًا أبيضَ اللون طويل الأكمام وربطةَ عنق مثبتة بدبوس، وقد أمطرتني المضيفات بألعاب ألغازٍ وكميةٍ إضافية من الفول السوداني، وأجنحةِ طيار معدنية وضعتُها فوق جيب القميص. وفي أثناء التوقُّف لثلاثة أيام في اليابان سِرنا تحت أمطارٍ شديدة البرودة لنرى تمثال بوذا الفضِّي العظيم في كاماكورا المصنوع من البرونز وتناولنا آيس كريم بالشاي الأخضر في معدِّية تنتقل عبر البُحيرات الجبلية المرتفعة. وفي المساء كانت أمي تُذاكر بطاقات تعليم اللغات الأجنبية المصوَّرة. وما إن هبطنا من الطائرة في جاكرتا — كان مهبط الطائرات شديدَ الحرارة والشمس مُتوهِّجة كأنها فرن — حتى أمسكتُ بيدِ أُمي عاقدًا العزم على حمايتها من أيِّ شيءٍ قد نُجابهه. كان لولو هناك في استقبالنا، وقد ازداد وزنه بضعة أرطال، وأصبح هناك شاربٌ كثٌّ يلوح فوق ابتسامته. وقد احتضن أُمي ورفعني لأعلى في الهواء، وأخبرَنا أن نتَّبع الرجل الصغير النحيل الذي يحمل حقائبنا في الطابور الطويل في الجمارك ثم إلى السيارة التي كانت بانتظارنا. ابتسم الرجل بابتهاجٍ وهو يضع الحقائب في حقيبة السيارة، وحاولت أُمي أن تقول له شيئًا، لكن الرجل ضحك وأومأ برأسه. التفَّ الناس حولنا يتحدثون بسرعةٍ بلغةٍ لا أعرفها وتنبعث منهم رائحة غريبة. ولوقتٍ طويل شاهدتُ لولو يتحدَّث إلى مجموعةٍ من الجنود الذين يرتدون زيًّا موحَّدًا بنيَّ اللون. وكان بحوزتهم مسدسات يضعونها في جرابها، لكنهم بدوا في مزاجٍ مرح، يضحكون على شيءٍ ما قاله لولو. وعندما انضم إلينا لولو أخيرًا، سألته أمي هل يريد الجنود فحص حقائبنا. فقال وهو يستقلُّ السيارة ويشغل مقعد السائق: «لا تقلقي … لقد اهتممتُ بكلِّ شيء.» وتابع: «إنهم أصدقائي.» أخبرَنا لولو أنه استعار السيارة، لكنه اشترى درَّاجةً بخارية جديدة يابانية الصنع، وستفي بالغرض في الوقت الراهن. كان قد انتهى من إعداد المنزل الجديد ولم يتبقَّ سوى قليلٍ من اللمسات الأخيرة. وقد سُجِّل اسمي بالفعل في مدرسةٍ قريبة، وأقرباؤه يتوقون لمقابلتنا. وبينما كان يتحدَّث هو وأُمي، أخرجتُ رأسي من النافذة الخلفية وأخذتُ أحدِّق فيما نمرُّ به من مناظرَ طبيعية بُنية وخضراء متعاقبة، وقرًى تتبعها غابات، ورائحة وقود الديزل واحتراق الأخشاب. وكان الرجال والنساء يسيرون برشاقةٍ مثل طيور الغرنوق عبر حقول الأرز، والقبعات القشية العريضة تُخفي وجوههم. وكان هناك صبي مُبتل وأملس مثل ثعلب الماء يجلس على ظهر جاموسةِ ماء لها وجه مضحك ويضربها على فخذها بعصًا من الخيزران. أصبحت الشوارع أكثر ازدحامًا؛ إذ ظهرت المحال الصغيرة والأسواق والناس يجرُّون عرباتٍ محمَّلة بحصًى وأخشاب، ثم أصبحت المباني أكثر ارتفاعًا مثل المباني الموجودة في هاواي — فندق إندونيسيا الذي يقول عنه لولو إنه حديث للغاية والمركز التجاري الجديد، أبيض ومُتألق — ولكنَّ قليلًا منها فقط كان أطولَ من الأشجار التي كانت تُرطِّب الهواء على الطريق. وعندما مرَرْنا بصفٍّ من المنازل الكبيرة العالية الحواجز وبها مخافرُ للحراسة، قالت أُمي شيئًا لم أستطِع تمييزه بوضوحٍ عن الحكومة ورجل يُسمَّى سوكارنو. فَصِحتُ أنا من المقعد الخلفي للسيارة: «مَن هو سوكارنو؟» لكن بدا أن لولو لم يسمعني. وبدلًا من ذلك لمس ذراعي وتحرَّك أمامنا. قال: «انظر»، وهو يشير إلى الأعلى. وهناك كان يقف مُنفرجَ الساقَين على جانبي الطريق عملاقٌ ضخم يصِل طوله إلى ارتفاع ١٠ طوابق على الأقل، وله جسد إنسان ووجه قرد. قال لولو ونحن ندور حول التمثال: «هذا هو هانومان، الإله القرد.» فاستدرتُ في مقعدي وتسمَّرتُ وأنا أنظر إلى التمثال الوحيد الذي بدا شديد السواد في مقابل الشمس، ومتأهبًا للقفز نحو السماء في الوقت الذي تدور فيه حركة المرور الضعيفة حول قدمَيه. وقال لولو بحزم: «إنه محارب عظيم.» وتابع: «يتمتَّع بقوة ١٠٠ رجل. وعندما يحارب الشياطين يهزمهم دائمًا.» كان المنزل في منطقةٍ تحت التطوير في ضواحي المدينة. والطريق يمتدُّ عبر جسرٍ ضيقٍ فوق نهرٍ واسعٍ مياهه بُنية اللون، وعندما مررْنا رأيتُ فلاحِين يستحمُّون ويغسلون ملابسهم على طول الضفاف المنحدرة بالأسفل. وبعد ذلك انعطف الطريق المعبَّد إلى الطرق المغطاة بالحصى، ثم طريق ترابي عندما انعطف ليمرَّ أمام متاجر صغيرة وبيوت من طابقٍ واحد مطلية بالجير حتى توقَّفتُ أخيرًا عند ممرات المشاة الضيقة للقرى الصغيرة. كان المنزل نفسه متواضعًا من الجص والطوب الأحمر، لكنه مفتوح ويدخله الهواء، وبه شجرة مانجو كبيرة في الفناء الأمامي الصغير. وعندما دخلنا من البوابة قال لولو إن لدَيه مفاجأةً لي، وقبل أن يذكرها سمعنا صوتَ عواء يصمُّ الآذان من أعلى الشجرة. فقفزتُ أنا وأُمي إلى الوراء بهلعٍ ورأينا مخلوقًا كبيرًا كثيفَ الشعر له رأس صغير مُسطح وذراعان طويلتان تسبِّبان الرعبَ يهبِط إلى غصنٍ متدلٍّ. فصرخت: «سعدان!» صحَّحَت أُمي: «بل قرد.» فأخرج لولو حبَّة فول سوداني من جيبه ووضعها بين أصابع الحيوان. وقال: «اسمه تاتا.» وتابع: «وقد أحضرتُه من غينيا الجديدة إلى هنا من أجلك.» فبدأتُ أتقدَّم قليلًا كي أنظر إليه عن قُرب، لكن تاتا هدَّد بأن يندفع فجأة للأمام، وكانت عيناه السوداوان الدائريَّتان شرستَين ومليئتَين بالشك. فقررتُ أن أظل حيث أنا. فقال لولو وهو يُعطي تاتا حبَّة أخرى من السوداني: «لا تقلق.» وتابع: «إنه مُقيَّد بحبل. تعالَ، هناك المزيد.» فنظرتُ إلى أُمي، فابتسمت لي بتردُّد. وفي الفناء الخلفي وجدْنا ما يُشبه حديقة حيوان صغيرة: دجاجٌ وبطٌّ يركض في كل مكان، وكلب أصفر كبير له نباح مُخيف، واثنان من طيور الفردوس، وببغاء كوكاتو أبيض اللون، وأخيرًا تمساحان صغيران كانا شبه مغمورين في بحيرةٍ محاطة بسياجٍ باتجاه نهاية المنزل. حدَّق لولو في التمساحَين وقال: «لقد كانوا ثلاثة، لكن أكبرها خرج زاحفًا عبر حفرة في السياج. وتسلَّل إلى حقل أرز ملك شخصٍ ما وأكل إحدى بطات صاحب الحقل. وكان علينا أن نصطاده على ضوء الكشافات.» كان الليل قد أوشك أن يُرخي ستائره، ولكننا أخذنا نزهةً قصيرة على الطريق الطيني إلى القرية. ولوَّحت مجموعاتٌ من أطفال الجيران الضاحِكين لنا وهم في منازلهم. وجاء بعض كبار السن من الرجال حفاةَ القدمَين لمصافحتنا. وقفنا أمام منطقةٍ عامة، حيث كان أحد رجال لولو يرعى بعض الماعز، وجاء ولدٌ صغير إلى جواري يمسك يعسوبًا يرفرف بجناحيه في طرَف خيط. وعندما عُدنا إلى المنزل، كان الرجل الذي حمل متاعنا يقِف في الفِناء الخلفي يطوي أسفل ذراعه دجاجةً لونها بني يميل إلى الأحمر ويحمل في يده اليمنى سكينًا طويلًا. وقال شيئًا للولو، الذي أومأ له ثم نادى على أُمي وعليَّ. لكن أُمي طلبت مني أن أنتظر حيث أنا ونظرت إلى لولو متسائلة. «ألا ترى أنه لا يزال صغيرًا؟» فهزَّ لولو كتفَيه ونظر إليَّ. قال: «على الصبي أن يعرف من أين يأتي عشاؤه. ما رأيك يا باري؟» فنظرتُ إلى أُمي ثم استدرتُ لمواجهة الرجل الذي يحمل الدجاجة. فأومأ لولو مرة أخرى، وشاهدتُ الرجل وهو يضع الطائر أرضًا، ويُثبِّته برفقٍ أسفل إحدى ركبتيه، ثم أبعد عنقه عن جسده ليُصبح فوق بالوعة قريبة. ولدقيقة أخذ الطائر يُناضل، ويضرب بجناحَيه الأرض بقوة، وتطايرت بضع ريشات في الهواء لترقص مع الرياح. ثم سكن تمامًا، فمرَّر الرجل شفرة السكين على عنق الطائر في حركةٍ واحدة هادئة. واندفعت الدماء في شريط قرمزي طويل. ونهض الرجل وهو يحمل الطائر بعيدًا عن جسده، ثم ألقاه فجأة عاليًا في الهواء. وسقط الطائر بصوتٍ مكتوم على الأرض ثم جاهد ليقِف على قدمَيه، ورأسه يتدلَّى بشكلٍ غريب على جانبه ورجلاه تدوران بجنون في دوائر غير منتظمة. وشاهدتُ الدائرةَ التي يلفُّ فيها الطائر تضيق، وأصبح الدم يسيل ببطءٍ مُحدثًا صوتًا كالقرقرة، حتى انهار الطائر على الحشائش وقد فارق الحياة. مسح لولو على رأسي بيدَيه وأخبرَني أنا وأمي أن نذهب ونغتسِل قبل العَشاء. تناولنا نحن الثلاثة الطعام؛ دجاجًا وأرزًا بهدوء على ضوءِ مصباحٍ أصفر خافت، ثم كانت الحلوى فاكهة حمراء قشرُها كثير الشعر، رائعة المذاق في مُنتصفها حتى إنه لم يُوقفني عن تناولها إلا آلام المعدة. وبعد ذلك سمعتُ — وأنا أنام وحيدًا أسفل مظلةٍ للحماية من الناموس — صوت صراصير الليل أسفل ضوء القمر، وتذكَّرت الانتفاضة الأخيرة للحياة التي شاهدتها قبل ساعات قليلة. ولم أكد أُصدِّق حظي السعيد. ••• «أول شيء تتذكَّره هو كيف تحمي نفسك.» وقفتُ في مواجهة لولو في الفناء الخلفي. وقبل ذلك بيومٍ عُدت إلى المنزل وعلى جانب رأسي تورُّم في حجم البَيضة. فنظر إليَّ لولو وهو يغسل دراجته البخارية وسألني ماذا حدث، فأخبرته عن مشادة وقعت بيني وبين صبيٍّ أكبرَ منِّي يقطن في آخر الشارع. وأخبرتُه أن هذا الصبي أخذ كرةَ قدم صديقي وجرى ونحن في منتصف اللعبة. وعندما طاردتُه التقط حجرًا من الأرض. ثم قلتُ وصوتي يختنق من الحزن هذا ليس عدلًا. لقد غشَّني. مرَّر لولو أصابعه في شعري وفحص الجرح بهدوء. ثم قال في النهاية قبل أن يعود إلى عمله: «إنه لا ينزف.» ظننتُ بذلك أن الموضوع قد انتهى. ولكن عندما عاد إلى المنزل من العمل في اليوم التالي، كان معه زوجان من قفازات الملاكمة. وكانت لهما رائحة الجلد الجديد، الزوج الأكبر كان أسود اللون وكان الأصغر أحمر، وأرْبِطتُهما معقودة، ومُلقَيان على كتفِه. انتهى لولو من عقْد الرباط في قفازي وتراجع إلى الخلف ليرى نتيجة عمله. تدلت يداي إلى جانبيَّ مثل مصابيح تتدلَّى في طرف سلك رفيع. فهز رأسه ورفع القفازين ليُغطيا وجهي. قال لولو: «أبقِ يدَيك مرفوعتَين لأعلى.» وأخذ يضبط وضع مرفقي وتراجع ليتخذ وقفةً مناسبة وبدأ يتحرَّك في مكانه. وقال: «عليك أن تستمرَّ في التحرك، ولكن اخفض رأسك لأسفل دائمًا، لا تمنحهم هدفًا يضربونه. بماذا تشعر؟» أومأتُ برأسي وأنا أُقلِّده بقدرِ ما أستطيع. وبعد بضع دقائق، توقَّف ورفع راحةَ يده في مواجهة أنفي. وقال: «حسنًا. دعنا نرَ ضربتك.» هذا شيء أعرف كيف أقوم به. فتراجعتُ خطوةً للخلف، وشحذتُ قواي وسدَّدت أفضلَ ضربةٍ لدي. وتمايلت يدُه بالكاد. فقال لولو: «ليس سيئًا.» وأومأ لنفسه ولم تتغيَّر تعبيراتُ وجهه. وتابع: «ليس سيئًا على الإطلاق. لكن انظر أين يداك الآن. ماذا قلت لك؟ ارفعهما لأعلى …» رفعتُ ذراعيَّ وسدَّدتُ ضرباتٍ خفيفةً لراحة يد لولو وأنا ألقي نظرة عليه على نحوٍ مُتكرِّر وأدركتُ إلى أي مدًى أصبح وجهه مألوفًا لي بعد سنتَين معًا، مألوفًا بالضبط كالأرض التي كنا نقف عليها. استغرقتُ أقل من ستة شهور كي أتعلم اللغة الإندونيسية والعادات والأساطير فيها. وتعرضتُ للإصابة بالجديري المائي والحصبة وتعافيتُ منهما، وتذوَّقتُ لسعةَ عِصي المدرسين المصنوعة من الخيزران. وأصبح أقرب أصدقائي هم أبناء الفلاحين والخدَم والموظفين الحكوميين العامِلين بوظائف قليلة الأهمية، وكنا نركض في الشوارع مساءً وصباحًا، ونقوم بأعمال غريبة؛ فنُمسك بصراصير الليل، ونحارب الطيارات الورقية بأسلاك حادة كالأمواس، وكان الخاسر يرى طائرته الورقية وهي تُحلِّق بعيدًا مع الرياح، ويعرف أنه في مكانٍ ما هناك أطفال آخرون كوَّنوا صفًّا يتحرك من جانبٍ لآخر على نحوٍ غير مستقر، ورءوسهم تتَّجِه إلى السماء مُنتظرِين أن تهبِط عليهم جائزتهم. ومع لولو تعلمتُ كيف آكل الفلفل الأخضر الصغير نيئًا على العشاء (مع كثير من الأرز)، وبعيدًا عن مائدة العشاء، جرَّبت لحمَ الكلاب (صعب المضغ)، ولحم الثعابين (أصعب) والجراد المشوي (مقرمش). وعلى غرار معظم الإندونيسيين، تبع لولو فرقةً من الإسلام يمكن أن تتَّسِع معتقداتها لتشمل بقايا العقائد القديمة الأكثر روحانية والهندوسية. وكان يرى أن الرجل يستمد قوَّته مما يأكله، ووعدني أنه سيُحضِر لنا قريبًا قطعةً من لحم نَمِر لنأكلها معًا. هكذا كانت تسير الأمور، مغامرة واحدة طويلة، إثراء لحياة صبي صغير. وفي خطاباتٍ لجَديَّ كنتُ أُسجِّل بصدقٍ الكثيرَ من هذه الأحداث، وأنا واثِق بأن طرودًا من الشيكولاتة وزبدة الفول السوداني الأكثر رقيًّا ستتبع هذه الخطابات. لكن لم تكن الخطابات تحمل كلَّ ما أمر به؛ فبعض الأشياء وجدتُ أنه من الصعب تفسيرها. فلم أخبر جَديَّ عن وجه الرجل الذي جاء يطرق بابنا في أحد الأيام وفي وجهه حفرة عميقة في المكان الذي من المفترض أن يكون فيه أنفه، وصوت الصفير الذي صدر منه وهو يسأل أُمي بعض الطعام. ولم أذكر لهما أيضًا تلك المرة التي أخبرني فيها أحد زملائي في منتصف فُسحَة اليوم الدراسي أن شقيقه الرضيع تُوفي الليلة السابقة بسبب روحٍ شريرة جلبَتْها الرياح، والرعب الذي تراقص في عينَي صديقي لوهلةٍ قبل أن يُطلق ضحكةً غريبة ويَلكمني في ذراعي ويُطلق ساقَيه للريح. ولم أذكر تلك النظرة الخاوية التي ارتسمت على وجوه الفلاحين في العام الذي لم تهطل فيه الأمطار قط، وانحناء أكتافِهم وهم يتجولون حفاةً في الحقول القاحلة المتشقِّقة وينحَنُون كثيرًا ليُفتِّتوا التربة الزراعية بين أصابعهم، ولم أكتب عن إحباطهم العام التالي عندما هطلت الأمطار دون توقُّف لما يزيد عن شهر، مما أدَّى إلى ارتفاع منسوب المياه في النهر والحقول حتى إن المياه كانت تتدفَّق في الشوارع وقد وصلت إلى مستوَى خَصري، والعائلات تتزاحَم لإنقاذِ ما يملكون من الماعز والدجاج حتى بعد أن جرفت المياه أجزاءً من أكواخهم. عرفتُ أن العالم عنيف، ولا يمكن تَوقُّعُ ما سيحدث فيه وغالبًا ما يكون قاسيًا. ورأيت أن جَديَّ لا يعرفان شيئًا عن مثل هذا العالم، ولم يكن هناك مغزًى من إزعاجهما بأسئلةٍ لا يستطيعان الإجابةَ عنها. وفي بعض الأحيان، عندما كانت أُمي تعود من العمل كنتُ أخبرها عن الأشياء التي رأيتها أو سمعتُ عنها، وكانت تضرب براحةِ يدِها على جبهتي وتستمع إليَّ باهتمام، وتبذل قصارى جهدها في تفسيرِ ما تستطيع. وكنتُ دائمًا أُقدِّر هذا الاهتمام؛ فصوتُها ولمسةُ يدِها كانا يمثِّلان لي الأمان. لكن معلوماتها عن الفيضانات والتعاويذ ومصارعة الديوك جعلت هناك الكثير من الأشياء التي أودُّ تعلُّمها. فكلُّ شيءٍ جديد عليَّ كان جديدًا عليها، وكنتُ أخرج من تلك الحوارات وأنا أشعر بأن أسئلتي قد منحتها سببًا غير ضروري للقلق. لذا فقد اتجهتُ للولو أطلبُ منه الإرشاد والنُّصح. ولم يكن لولو شخصًا كثيرَ الكلام، لكن من المريح أن تكون معه، وكان يُقدِّمني لعائلته وأصدقائه بصفتي ابنه، لكن الأمور بيننا لم تتطوَّر إلى أكثرَ من نصائح مباشرة، ولم يتظاهر أن علاقتنا أكثر مما هي عليه حقًّا. وأنا تفهَّمتُ هذه المسافة؛ فقد كانت تعني ضمنًا وجودَ ثقةٍ بيننا كرجُلَين. وبدت معلوماته عن العالم لا تنضب. فلم تتضمَّن هذه المعلومات كيفيةَ تغيير الإطار الذي تسرَّب منه الهواء، أو الثغرات في لعبة الشطرنج فحسب. بل كان يعرف أمورًا تتصف بقدرٍ كبيرٍ من المراوغة، وطرقًا للتعامُل مع المشاعر التي كانت تنتابني، وطرقًا لشرح ألغاز القدَر المستمرة. على سبيل المثال مسألة كيفية التعامُل مع المتسولين. بدوا أنهم كانوا ينتشرون في كل مكان؛ فقد كانوا مَعْرض للمرضى من الرجال والنساء والأطفال الذين يرتدون ملابس رثَّة تُغطيها القاذورات، وبعضهم فقدَ ذراعَيه والبعض الآخر فقدَ قدمَيه، وبعضهم ضحايا لمرض الإسقربوط أو شلل الأطفال أو الجذام يسيرون على أيديهم أو يتدحرجون على الأرصفة المزدحمة في عرباتٍ بالية، وسيقانهم ملتوية خلفهم مثل البهلوانات المتخصِّصين في تنفيذِ حركات صعبة بأجسادهم. في البداية كنتُ أرى أُمي تعطي نقودًا لأي شخصٍ يتوقَّف عند باب بيتنا أو يمدُّ لها يده ونحن نسير في الشوارع. بعد ذلك عندما أصبح من الجليِّ أن فيضان الآلام لا ينتهي كانت تنتقي مَن تمنحهم نقودًا بعد أن تعلَّمت تقييم درجة البؤس. ورأى لولو أن حساباتها الأخلاقية مثيرةٌ للإعجاب لكنها سخيفة، وكلما رآني أنهج نهجها وأمنح المتسولين العملات القليلة التي أمتلكها رفع حاجبَيه وانتحى بي جانبًا وسألني: «كم معك من النقود؟» فكنت أفرغ جيبي. وأقول: «٣٠ روبية.» «وكم عدد المتسولين في الشارع؟» حاولت أن أتخيَّل عددَ مَن مرَّ إلى جوار منزلنا في الأسبوع المنصرم. فيقول بمجرد أن يظهر عليَّ أني لا أستطيع إحصاء العدد: «أرأيت؟» ويتابع: «من الأفضل أن تدَّخِر أموالك وتحرص على ألا ينتهي بك الأمر أنت شخصيًّا في الشارع.» وكان يُطبِّق المبدأ نفسه مع الخدَم الذين كان معظمهم فلاحين. كانوا شبابًا وصلوا إلى المدينة حديثًا ويعملون غالبًا لدى عائلاتٍ ليسوا أحسن حالًا منهم بكثير، ويرسلون النقودَ إلى أهلهم في القرية أو يدَّخرون ما يكفي لأن يبدءوا مشاريعهم الخاصة. وعندما كان لولو يرى أنَّ لدَيهم طموحًا، كان يساعدهم ليبدءوا أعمالهم الخاصة، ويتسامح بصفة عامة مع صفاتهم الشخصية غيرِ المألوفة؛ فقد استأجر لأكثر من عامٍ شابًّا طيبًا يحب أن يرتدي ملابسَ نسائية في عطلة نهاية الأسبوع، وكان لولو يُحب الطعام الذي يطهوه، لكنه من الممكن أن يطرد الخدَم دون أيِّ شعور بالذنب إذا كانوا غير مهرة أو كثيري النسيان أو يكلِّفونه نقودًا كثيرة، وكان يشعر بالحَيرة عندما أحاول أنا أو أُمِّي أن نحميهم من حُكمه عليهم. وقد قال لي لولو في أحد الأيام بعد أن حاولَتْ أُمي أن تتحمَّل هي اللوم لإسقاط جهاز راديو من على الخزانة: «إن أُمَّك رقيقة القلب.» وتابع: «وهذه صفة جميلة في النساء. لكنك ستكون رجلًا يومًا ما، ويجب على الرجل أن يتحلَّى بمزيدٍ من العقل.» وقال إن هذا ليس له علاقة بما إذا كان المرء طيبًا أم شريرًا، أو يُحب الناس أو يكرههم. إنها مسألة تقبُّل الحياة بشروطها. شعرتُ بضربةٍ عنيفة في الفك، ونظرتُ إلى أعلى إلى وجه لولو الذي يتصبَّب عَرقًا. «انتبِه. وأبقِ يدَيك مرفوعة لأعلى.» تدرَّبنا نصف ساعة أُخرى قبل أن يقرِّر لولو أنَّ وقتَ الراحة قد حان. كانت ذراعاي تؤلمانِني، ورأسي يخفق بألمٍ مستمر. أخذنا إبريقًا مليئًا بالماء وجلسنا بالقُرب من بحيرة التماسيح. وسألني: «أتشعر بالتعب؟» سقط جسدي للأمام وأنا أُومئ له بالإيجاب بصعوبة. فابتسم وشمَّر عن إحدى ساقيه ليحكَّ الجزء الخلفي من ساقه. فلاحظتُ سلسلةً من الندبات المسنَّنة التي تمتدُّ من الكاحل لأعلى حتى منتصف قصبة ساقه. «ما هذه؟» «إنها علاماتٌ تركتها الطفيليات.» وتابع: «ذلك منذ أن كنتُ في غينيا الجديدة. إنها تزحف داخل حذاء الجيش أثناء السير في المستنقعات. وعندما تنزع الجوارب في المساء تجدها ملتصقةً في هذا المكان مُنتفخةً من امتصاص الدماء. وعندما تنثر عليها الملح تموت، لكن عليك أن تحفر في جسدك بسكين ساخن لاستخراجها.» مرَّرتُ أصبعي على إحدى الندبات البيضاوية الشكل. وكانت ناعمةً وخالية من الشَّعر في الأماكن التي تعرَّض فيها الجِلد للحرق. وسألت لولو عما إذا كانت قد آلمته. فقال وهو يرتشف جرعةَ ماء من الإبريق: «بالطبع كانت مؤلمة.» واستدرك: «لكن في بعض الأحيان لا يُهمك هل الأمر مؤلم أم لا. إنما يهمك فقط القيام بما عليك أن تقوم به.» ساد بيننا صمتٌ لبعض الوقت وكنتُ أراقبه بطرَف عيني. وأدركتُ أنني لم أسمعه قط يتحدَّث عما يشعر به. لم أرَه قط غاضبًا أو حزينًا. لقد بدا وكأنه يعيش في عالمٍ من الأسطح الصلبة والأفكار المحدَّدة بدقة. وفجأة قفزت إلى ذهني فكرةٌ غريبة. فسألته: «هل رأيتَ في حياتك شخصًا يُقتَل؟» فنظر إلى الأسفل وقد باغته السؤال. فأعدتُه عليه مرةً أخرى: «هل رأيت؟» فقال: «نعم.» «هل كان المشهد داميًا؟» «نعم.» فكَّرتُ لدقيقة وسألت. «لماذا قُتِل الرجل؟ أعني الرجل الذي رأيت؟» «لأنه كان ضعيفًا.» «هذا كل شيء؟!» فهزَّ لولو كتفَيه وعاد ليُغطي ساقه التي كشفها. وقال: «عادة ما يكون هذا كافيًا، فالناس تستغل ضعف الآخرين. إنهم بالضبط مثل الدول في هذا الأمر. فالرجل القوي يستولي على أرض الضعيف. ويجعل الضعيفَ يعمل في حقوله. وإذا كانت زوجة الرجل الضعيف جميلة فإن القوي سيأخُذها.» وتوقَّف ليأخذ رشفةً أُخرى من الماء ثم سألني: «أيهما تفضِّل أن تكون؟» لم أُجِب عليه، فنظرَ بعينَين شبهِ مُغمضتين إلى السماء. وقال في النهاية وهو ينهض على قدميه: «من الأفضل أن تكون قويًّا.» وتابع: «وإذا لم تستطِع أن تكون قويًّا، فكن ذكيًّا وتحالفْ مع شخصٍ قوي. لكن من الأفضل دائمًا أن تكون أنت نفسك قويًّا. دائمًا.» ••• كانت أُمي تُراقبنا من داخل المنزل، وهي تجلس إلى مكتبها تُصحِّح الأوراق. وتتساءل في نفسها: ما الذي يتحدَّثان عنه؟ دماء وأحشاء على الأرجح، وربما ابتلاع المسامير. فمثل هذه الأمور تروق للرجال. وأطلقَتْ ضحكةً عالية ثم توقَّفت. فهذا ليس عدلًا. إنها مُمتنَّة بالفعل لاهتمام لولو بي. فلم يكن سيُعامِل ابنَه بطريقةٍ مختلفة. وتعلم أنها محظوظة لطيبةِ قلبِ لولو. وضعت أمي أوراقها جانبًا وراقبتني وأنا أُمارس تمارين الضغط. وأخذت تُفكِّر في أن ابنها يكبر بسرعة. وحاولت أن تتخيَّل نفسها يومَ وصولنا؛ أُمٌّ في الرابعة والعشرين من عمرها ومعها طفل في رعايتها، ومتزوجة من رجلٍ لا تكاد تعرف تاريخه أو بلده. وأدركَتْ في ذلك الوقت أنها لم تكن تعلم حينها إلا أمورًا قليلة، وأنها كانت تحمل براءتها مع جواز سفرها الأمريكي. وكان من الممكن أن تُصبح الأمور أسوأ، بل أسوأ بكثير. لقد توقَّعَت أن تكون هذه الحياة الجديدة صعبة. وقبل أن تُغادر هاواي حاولَتْ أن تعلَمَ كلَّ ما يمكنها عن إندونيسيا: تَعداد سكانها؛ فهي خامس دولةٍ في العالم من حيث تَعداد السكان وبها المئات من القبائل واللهجات المحلية، وحاولت معرفةَ تاريخها مع الاستعمار؛ إذ احتلتها في بادئ الأمر هولندا أكثرَ من ثلاثة قرون، ثم اليابان إبَّان الحرب العالمية الثانية، سعيًا وراء التحكُّم في مخزونها الكبير من النفط والمعادن والأخشاب، ومعركتها من أجل الاستقلال بعد الحرب وظهور مُقاتل من أجل الحرية اسمه سوكارنو ليكون أولَ رئيس للبلاد. ومنذ عهد قريب نُحِّيَ سوكارنو لكن التقارير تقول إنه كان انقلابًا غيرَ دموي، وإن الشعب أيَّد التغيير. إذ قالوا إن سوكارنو أصبح فاسدًا، مُستبدًّا يعتمد على الخُطَب المتوهِّجة لإثارة مشاعر الجماهير، وشديد الانجذاب للشيوعيين. وإندونيسيا دولة فقيرة ومُتخلفة وغريبة تمامًا، هذا هو ما كانت تعرفه. وكانت مستعدة لمواجهة الدوسنتاريا والحمى، واستعدَّت لعدم وجود الماء الساخن في الحمامات، وأن عليها أن تجلس القرفصاء على حفرةٍ في الأرض لتتبول، واستعدت لانقطاع الكهرباء كلَّ بضعة أسابيع، وللجو الحار وللناموس المستمر. إنها أمورٌ مُزعِجة حقًّا، لكنها كانت أقوى مما تبدو عليه، بل أقوى حتى مما كانت تَعرِف عن نفسها. وعلى أية حال كان هذا أحد أسباب انجذابها للولو بعد رحيل باراك؛ الوعد بشيءٍ جديد ومُهم، مساعدة زوجها في إعادة بناء بلدٍ في مكان مشحون ومليء بالتحديات بعيدًا عن متناول يد والدَيها. لكنها لم تكن مستعدةً للوِحدة، الوِحدة الدائمة مثل ضيق التنفُّس. لم يكن بإمكانها أن تُشير إلى شيءٍ محدَّد بدقة. لقد رحَّب بها لولو ترحيبًا حارًّا وبذل كلَّ ما في وسعه ليجعلها تشعر بالأُلفة ووفَّر لها جميع سُبل الراحة التي يستطيع. وعاملتها عائلته بلباقةٍ وكرم، وعاملت ابنها كما لو أنه أحد أبنائها. لكن شيئًا ما حدث بينها وبين لولو في العام الذي افترقا فيه. في هاواي كان لولو مفعمًا بالحياة، وشديدَ التَّوق لتنفيذ خُططه. وليلًا عندما يكونان وحدهما كان يخبرها كيف ترعرع وهو صبي إبَّان الحرب ثم رأى والده وشقيقه الأكبر يرحلان عن الأسرة لينضمَّا إلى جيش الثورة، وسمع نبأ مقتلِهما وضياع كلِّ شيء، وكيف أضرم الجيش الهولندي النيران في منزلهم فهربوا إلى الريف، وكيف كانت والدتُه تبيع مجوهراتها قطعةً في مقابل الطعام. وقد أخبرها لولو أن الأمور ستتغيَّر بعد رحيل الهولنديين وأنه سيعود للتدريس في الجامعة، وسيكون جزءًا من ذلك التغيير. لكنه لم يَعُد يتحدَّث بهذه الطريقة. في الواقع أصبح نادرًا ما يتحدَّث إليها على الإطلاق، إلا عندما تكون هناك ضرورة لذلك أو عندما تتحدَّث هي إليه، وغالبًا لا يكون ذلك إلا عن مهمةٍ حالية مثل إصلاح تسرُّبٍ ما، أو التخطيط لرحلةٍ لزيارة أحد أقربائه البعيدين. كان الأمر كما لو أنه انجذب إلى مكانٍ مظلمٍ سري، لا يمكن لأحد الوصول إليه مصطحبًا معه أكثرَ جزءٍ مشرق من ذاته. وفي بعض الليالي كانت تسمعه وهو مستيقظ — بعد أن يأوي الجميع إلى الفراش — يتجوَّل في المنزل ومعه زجاجة من الويسكي المستورد غارقًا في أسراره. وفي ليالٍ أخرى كان يضع مسدسًا أسفل وسادته قبل أن يخلُد للنوم. وكلما سألته أُمي ما الخطْب صدَّها بلباقةٍ قائلًا إنه مُتعَب. وأصبح كما لو أنه لم يَعُد يثق بالكلمات. لم يَعُد يثق بالكلمات وبما تحمِله من مشاعر. ساورت والدتي الشكوك بأن هذه المشكلات تتعلَّق بعمل لولو. فعندما وصلت كان يعمل جيولوجيًّا في الجيش، يفحص الطرق والأنفاق. كان عملًا مرهقًا للعقل وغير مجزٍ ماديًّا؛ فشراء الثلاجة وحدَها كلَّفه مرتَّبه في شهرين. وأصبح معه زوجة وطفل يتكفَّل بهما … فلا عجبَ أنه كان مكتئبًا. ورأت أُمي أنها لم تقطع كلَّ هذه المسافة لتكون عبئًا عليه. فقرَّرت أن تتحمَّل هي الأخرى الجزء الخاص بها من المسئولية. وسرعان ما عثرت على عملٍ في تدريس اللغة الإنجليزية في السفارة الأمريكية لرجالِ الأعمال الإندونيسيين — وهو جزء من برنامج مساعدات الولايات المتحدة للدول النامية. وساعدتها النقود لكنها لم تخفِّف من وِحدتها. ولم يكن رجال الأعمال الإندونيسيون مُهتمين كثيرًا بتفاصيل اللغة الإنجليزية الدقيقة، وحاول العديد منهم التقرُّب منها. في السفارة كان الأمريكيون في الغالب رجالًا مُتقدِّمين في السن يهتمُّون بعملهم في وزارة الخارجية، أما رجال الاقتصاد أو الصحافة — الذين كانوا يختفون فجأةً لشهور — فلم يكن من الواضحِ ما وظيفتهم أو صِلتهم بالسفارة. وبعضهم كان صورةً للوجه القبيح للأمريكيين، فكانوا يميلون إلى السخرية من الإندونيسيين حتى يكتشفوا أنها متزوِّجة من إندونيسي، وعندها يحاولون التذرُّع بحجةٍ للإفلات من الإحراج كأن يقول أحدهم: لا تعتبري كلَّ ما أقوله جديًّا، فإن الجو الحار يَذهب بعقلي، وكيف حال ابنك، إنه ولد رائع. ومع ذلك فهؤلاء الرجال كانوا يعرفون البلد جيدًا، أو أجزاء منها على الأقل، وحتى المخابئ التي دُفنت فيها الهياكل العظمية. وعلى الغداء أو أثناء محادثات عابرة كانوا يخبرونها أشياءَ لم تكن تعرفها من الأخبار الصحفية التي تُنشر. شرحوا لها كيف أن سوكارنو قد سبَّب قلقًا شديدًا للحكومة الأمريكية التي كانت تنتابها الهواجس بالفعل بسبب زحف الشيوعية عبر الهند الصينية، وخُطبِه الرنانة وسياسة عدم الانحياز، لقد كان سيئًا بالضبط مثل لومومبا أو جمال عبد الناصر، لكنه كان أسوأ بسبب الأهمية الاستراتيجية لإندونيسيا. وانتشرت شائعاتٌ تقول إن وكالة الاستخبارات الأمريكية قد لعِبت دورًا في الانقلاب، مع أن أحدًا لم يكن متأكدًا من هذا. لكن الأمر الأكيد هو أن القوات العسكرية بعد الانقلاب اجتاحت الريف بحثًا عن متعاطفين مع النظام الشيوعي. وكان عدد القتلى عرضةً للتقديرات المختلفة؛ فالبعض قدَّره ببضع مئات من الآلاف أو ربما نصف مليون. وحتى رجال المخابرات المحنَّكون لم يعرفوا العدد. وقد علِمت أُمي من التلميحات والهمسات الجانبية أننا وصلنا إلى جاكرتا بعد أقلِّ من عام من أكثرِ حملات القمع وحشيةً وسرعةً في العصر الحديث. وامتلأت نفسها خوفًا من فكرةِ أنه يمكن ابتلاع التاريخ بهذا الشكل، بالطريقة نفسها التي يمكن للأرض الثرية والخصبة ابتلاع أنهار الدماء التي كانت تتدفَّق في الشوارع، والطريقة التي استطاع بها الناس استكمالَ أعمالهم وفوق رءوسهم صور عملاقة للرئيس الجديد كما لو أن شيئًا لم يحدث، كشعبٍ منشغل بتطوير نفسه. وعندما اتسعت دائرة أصدقائها من الإندونيسيين كان بعضهم على استعدادٍ لأن يخبرها بقصصٍ أخرى عن الفساد الذي تفشَّى في الجهات الحكومية، وعمليات الابتزاز التي تُنفِّذها الشرطة والجيش، والصناعات التي نشأت من أجل عائلة الرئيس وحاشيته. وبعد كل قصة جديدة كانت تذهب إلى لولو وتسأله سرًّا: «هل هذا صحيح؟» وهو لم يكن يُخبرها شيئًا. وكلما ازدادت أسئلتها أصبح هو أكثر تمسكًا بصمته الهادئ. وكان يسألها: «لماذا تُقلقين نفسَك بمثل هذه الأحاديث؟» ويستفسِر منها قائلًا: «لِمَ لا تشترين ثوبًا جديدًا للحفل؟» وفي النهاية، اشتكت لأحد أقرباء لولو، وهو طبيب أطفال كان يرعى لولو أثناء الحرب. وقد قال لها قريبه برفق: «إنك لا تفهمين.» «أفهم ماذا؟» «ظروف عودة لولو. إنه لم يخطِّط للعودة من هاواي بهذه السرعة كما تعرفين. ففي أثناء التطهير استُدعي جميع الطلاب الذين يدرُسون بالخارج دون تفسير، وسُحبت منهم جوازات السفر. وعندما هبط لولو من الطائرة لم تكن لدَيه فكرةٌ عما قد يحدث بعد ذلك. إننا حتى لم نرَه؛ فقد اصطحبه المسئولون بالجيش واستجوبوه، وأخبروه أنه جرى تجنيده وسيذهب لأدغال غينيا الجديدة لمدة سنة. لقد كان من المحظوظين. إذ كان حال الطلاب الذين كانوا يدرسون في دول الكتلة الشرقية أسوأ كثيرًا. الكثير منهم لا يزالون في السجن. أو اختفوا.» وقال لها مرة أخرى: «ينبغي ألا تقسي على لولو.» وتابع: «من الأفضل أن ينسى المرء مثل هذه الأوقات.» غادرت أمي منزلَ قريبه وهي تشعر بدوار. وفي الخارج كانت الشمس في كبد السماء والهواء مليء بالغبار، لكن بدلًا من أن تستقل سيارةَ أجرةٍ إلى المنزل بدأت تسير دون أن تعرف إلى أين تتَّجِه. ووجدت نفسها في حيٍّ للأثرياء حيث يقطن الدبلوماسيون وقادة الجيش في منازلَ واسعة لها بوابات عالية من الحديد المطروق. ورأت سيدة حافية القدمَين ترتدي شالًا ممزقًا تعبُر بوابةً مفتوحة وتسير على الطريق الذي يقود إلى داخل المنزل حيث كان مجموعةٌ من الرجال يغسلون أسطولًا من السيارات من طراز مرسيدس-بنز، ولاند روفر. صاح فيها أحد الرجال وأمرها أن تغادر، لكن المرأة وقفَت في مكانها، ومدَّت أمامها يدًا ضامرة تستجدي بها والظلال تخفي وجهها. وفي النهاية وضع رجل آخر يدَه في جيبه ورمى إليها بضع عملات. ركضت المرأة خلف العملات بسرعةٍ مُذهلة وهي ترفع عينَيها من حينٍ لآخر تتفحَّص الطريق في شك، وهي تجمع النقود وتضعها في جيب صدرها. «القوة». علِقت الكلمة في ذهن أُمي مثل اللعنة. في أمريكا تظل مسألة القوة هذه بصفةٍ عامة مختفية عن الأنظار حتى يبحث المرء بنفسه أسفل السطح؛ أي حتى يزور أحد الأماكن المغلقة المخصَّصة لقبائل الهنود الحمر أو يتحدَّث إلى شخصٍ أسود بعد أن يكسِب ثقتَه. لكن القوة هنا واضحة لا تعرف تمييزًا، عارية، دائمًا حية في ذاكرتك. لقد أخذت القوة لولو وأعادته مرةً أخرى في الوقت الذي ظن فيه أنه هرب منها، مما جعله يشعر بأهميتها، وجعلته يُدرك أن حياته ليست ملكه. هكذا سارت الأمور؛ فالمرء لا يستطيع أن يُغيِّر شيئًا، كلُّ ما يمكنه فعله هو أن يعيش وفقًا للقواعد، وهي قواعد بسيطة إذا تعلمها. وهكذا عقد لولو معاهدةَ سلام مع القوة، وتعلَّم حكمة النسيان. بالضبط كما فعل زوج أخته الذي جمع الملايين من عمله كمسئولٍ رفيع المستوى في شركة نفط قومية، وبالضبط كما حاول شقيقٌ آخر له أن يفعل إلا أنه أخطأ في حساباته وآل به الحال الآن إلى سرقة قطعٍ من الفضة كلما جاء في زيارة، وبيعها بعد ذلك مقابل السجائر. وتذكَّرت ما أخبرها به لولو ذات مرة عندما مسَّت أسئلتها المتواصلة موضوعًا حساسًا. إذ قال: «الإحساس بالذنب رفاهيةٌ لا يقدِر عليها سوى الأجانب، مثل قولٍ ما يبدُر إلى ذهنك.» إنها لم تكن تعرف ما يبدو عليه الأمر عندما يخسر المرء كلَّ شيء، عندما يستيقظ ويجد أحشاءه تتقطَّع من الجوع. لم تعرف كم من الممكن أن يكون الطريق إلى الأمن مزدحمًا وغادرًا. فمن دون التركيز المطلق، من السهل أن ينزلق المرء ويعود إلى الوراء. إنه محقٌّ بالطبع. إنها أجنبية، بيضاء من الطبقة المتوسطة جذورها تحميها، سواءً أكانت تريد الحماية أم لا. فبإمكانها دائمًا أن تُغادر إذا ما ساءت الأمور. وهذه الإمكانية كانت تنفي أيَّ شيءٍ من الممكن أن تقوله للولو، وهذا هو الحاجز الذي لا يمكن اختراقه بينهما. وفي تلك اللحظة نظرت من النافذة ووجدَت أنني ولولو قد انتقلنا من مكاننا والحشائش أصبحت مسطَّحة في المكان الذي كنا نجلس فيه. هذا المشهد جعلها ترتجف، فنهضت على قدمَيها وقد ملأها رعب مفاجئ. إن القوة تأخذ ابنها. ••• وعندما أعود وأفكِّر في تلك الفترة أجد أنني لستُ واثقًا بأن لولو كان يفهم جيدًا ما كانت أمي تمرُّ به في تلك السنوات، ولماذا كانت الأشياء التي كان يبذل قصارى جهده ليوفِّرها لها تزيد المسافة بينهما. إنه لم يكن رجلًا يطرح على نفسه مثل هذه الأسئلة، بل كان يحافظ على تركيزه، وعلى مدار الفترة التي عشناها في إندونيسيا استمرَّ نجمه في الصعود. وبمساعدة زوج شقيقتِه حصل على عملٍ جديد في مكتب العلاقات الحكومية بشركةِ نفط أمريكية. وانتقلنا إلى منزلٍ في حيٍّ أفضل، وحلت السيارة محلَّ الدراجة البخارية، وحل التليفزيون ومذياع لِبثِّ الصوت بكفاءةٍ عالية محلَّ التماسيح والقرد تاتا، وأصبح بإمكان لولو أن يحجز لنا عشاءً في نادي الشركة. وفي بعض الأحيان كنتُ أسمعه وأمي يتجادلان في غرفةِ نومهما عن رفضها حضور حفلات العشاء التي تقيمها الشركة حيث يربِّت رجال الأعمال الأمريكيون من تكساس ولويزيانا على ظهرِ لولو ويتفاخرون بالرُّشا التي دفعوها للحصول على حقوق التنقيب عن النفط في الحقول البحرية الجديدة، في حين تشتكي زوجاتهم لأمي من طبيعة المساعدة الإندونيسية. وكان يسألها كيف سيكون شكله إذا ذهب وحدَه، ويذكِّرها بأنهم شعبها، وهنا يعلو صوت أُمي ليُصبح صراخًا تقريبًا. كانت تقول: «إنهم ليسوا شعبي.» ومع ذلك فمثل هذه المناقشات نادرًا ما كانت تحدُث، وقد ظلَّت علاقة لولو وأمي يسودها الودُّ عند ميلاد أختي مايا وانفصالهما وطلاقهما في النهاية، وحتى المرة الأخيرة التي رأيتُ فيها لولو بعد ١٠ سنوات عندما ساعدَتْه أُمي على السفر إلى لوس أنجلوس للعلاج من مرضٍ في الكبد تسبَّب في وفاته وهو في الحادية والخمسين من عمره. أما التوتر الذي لاحظتُه فكان يتعلَّق في المقام الأول بالتغير التدريجي في سلوك أُمي تجاهي. لقد كانت دائمًا تشجعني على أن أتشرَّب الثقافة الإندونيسية بسرعة، وقد جعلني هذا إلى حدٍّ ما أتمتَّع باكتفاءٍ ذاتي ولا أطلب الكثير نظرًا للميزانية المحدودة، وجعلني حسَن الخلق بالمقارنة بالأطفال الأمريكيين الآخرين. لقد علَّمَتني أن أحتقر المزيج من الجهل والغرور الذي كان في أغلب الأحيان صفةً للأمريكيين بالخارج. لكنها أصبحت تُدرك — مثل لولو بالضبط — الهوةَ الكبيرة التي تفصل بين فرص الحياة المتاحة أمام أمريكي وتلك المتاحة أمام إندونيسي. وعرفَت إلى أي جانبٍ تريد أن يكون ابنها. فقرَّرت أنني أمريكي، وحياتي الحقيقية تُوجَد في مكانٍ آخر. تركَّزت جهودها المبدئية على التعليم. ومع عدم توفُّر النقود المناسبة كي ألتحق بالمدرسة الدولية حيث يدرُس معظم الطلاب الأجانب في جاكرتا؛ فقد رتَّبت منذ لحظة وصولنا كي تُضيف إلى تعليمي في المدارس الإندونيسية منهجًا دراسيًّا أمريكيًّا أدرُسه بالمراسَلة. وفي ذلك الوقت تضاعفت جهودها. فطَوال خمسة أيام في الأسبوع كانت تدخل إلى غرفتي في الرابعة صباحًا، وتُجبرني على تناول طعام الإفطار وتُعطيني دروسًا في اللغة الإنجليزية لمدة ثلاث ساعاتٍ قبل أن أذهب إلى المدرسة وتذهب هي إلى عملها. وقد قاومتُ هذا النظام بشدة، لكن في مقابل كل وسيلةٍ كنتُ أتدبَّرها، سواء أكانت غير مُقنعة (مثل ألمٍ في معدتي) أو حقيقية بصورةٍ لا تقبل النقاش (مثل أن تَغمض عيني كل خمس دقائق)، كانت أُمي تكرِّر على مسامعي بصبرٍ أقوى وسيلة دفاعية لديها: «هذا الأمر ليس نزهةً لي أنا أيضًا أيها الصبي.» ثم كانت هناك المخاوف التي تظهر من حينٍ لآخر فيما يخصُّ سلامتي، وصوت جَدتي يتصاعد. وأذكر أني عُدت إلى المنزل بعد أن أسدل الليل ستائره في أحد الأيام لأجد أنَّ هناك فرقةَ بحثٍ كبيرة محتشدة في فناء منزلنا. لم تبدُ أُمي سعيدة ولكنها شعرت بارتياحٍ شديد لرؤيتي حتى إنها استغرقت عدة دقائق لتُلاحظ أن جوربًا مبتلًّا ومُتسخًا بالوحل ملفوفًا حول ساعدي. «ما هذا؟» «ماذا؟» «هذا! لماذا تلف ساعدك بجورب؟» «لقد جرحت نفسي.» «دعني أرَ.» «الأمر ليس بهذه الخطورة.» «باري. دعني أرَ.» فنزعتُ الجورب لأُريها جرحًا طويلًا يمتد من الرُّسغ إلى المرفَق. كان بعيدًا عن الوريد ببوصةٍ واحدة لكنه عميق عند العضلة حيث يظهر لحمٌ دامٍ من أسفل الجلد. وعلى أمل أن تهدأ شرحتُ لها ما حدث وهو أنني وصديقي سافرنا مُتطفلَين إلى مزرعة عائلته، ثم بدأت الأمطار تهطل، وفي المزرعة كان هناك مكان رائع للتزلُّق على الوحل، وكانت هناك أسلاك شائكة تُعيِّن حدود المزرعة، و… صاحت أمي: «لولو!» وعندما تقصُّ أمي هذه القصة الآن فإنها تضحك عند هذه النقطة، ضحكة أم سامحت ابنها على الأخطاء التي مضت. لكن نبرتها تتغيَّر تغيرًا طفيفًا عندما تتذكَّر أن لولو اقترح أن ننتظر إلى الصباح لتضميد الجرح، وأنه كان عليها أن تُرهِب جارنا الوحيد الذي يمتلك سيارةً بالصياح في وجهه ليصطحبنا إلى المستشفى. وتتذكَّر أمي أن معظم الأضواء كانت مطفأة في المستشفى عندما وصلنا، ولا يُوجَد أيُّ موظفٍ في الاستقبال، وتتذكَّر صوت خطواتها المضطربة تتردَّد عبر الرُّواق حتى وجدت أخيرًا شابَّين يرتديان شورت لعبة الملاكمة يلعبان الدومينو في غرفةٍ صغيرة في الخلف. وعندما سألتهما أين الأطباء، أجابها الرجل بابتهاج: «نحن الأطباء»، واستكملا لعبتهما قبل أن يرتديا سرواليهما ويخيطان ذراعي بعشرين غرزة تركت ندبةً قبيحة المنظر. وطوال ذلك الوقت، كان هناك شعور يسيطر عليها أن حياة طفلها ربما تضيع عندما يغيب عن ناظرَيها، وأن جميع مَن حولها سيكون مشغولًا في محاولة النجاة بنفسه حتى إنه لن يلاحظ، وأنه عندما نظرَت حولها وجدَت أنه سيكون معها الكثير من المتعاطفين لكن لا أحد سيقِف إلى جوارها وهي تقاوِم المصير الذي يُهدِّدها. وأُدرك الآن أن مثل تلك الأمور، غير الملموسة مثل النصوص الدراسية والخدمات الطبية، هي التي أصبحت محورَ تركيزِ دروسها معي. فكانت تقول لي: «إذا أردتَ أن تكون إنسانًا فإنك بحاجةٍ إلى بعض القِيَم»: الأمانة: ما كان ينبغي للولو أن يخبِّئ الثلاجة في حجرة التخزين عندما جاء مسئولو الضرائب، حتى إذا كان الجميع — ومنهم مسئولو الضرائب أنفسهم — يتوقَّعون مثل هذه الأمور. العدالة: لا ينبغي لأولياء أمور الطلاب الأكثر ثراءً أن يُهدوا المدرسين أجهزةَ تليفزيون في شهر رمضان، وليس من حق أطفالهم أن يفتخروا بالدرجات العالية التي يحصلون عليها. الصراحة: إذا لم يكن القميص الذي اشتريته لك في عيد ميلادك قد أعجبك، كان يجب أن تقول هذا بدلًا من أن تتركه في قاعِ خزانة ملابسك. استقلال الرأي: إذا كان الأطفال يستهزئون بالصبي الفقير بسبب الطريقة التي يقصُّ بها شعره فلا يعني هذا أن تفعل مثلهم. لقد كان الأمر كما لو أنه بالسفر حول منتصف العالم — بعيدًا عن الاعتداد بالنفس والنفاق الذي كشفته الألفة — استطاعت أُمي أن تُعبِّر عن فضائل ماضيها الغرب أوسطي وتعرِضها بصورةٍ مركَّزة. المشكلة هي أنه لم يكن لدَيها سوى قليلٍ من وسائل التأكيد؛ فكلما انتحت بي جانبًا لتقدِّم لي إحدى هذه النصائح أومأتُ لها موافقًا، لكن كان يجب أن تعرف أن الكثير من أفكارها غيرُ عمليٍّ. وكلُّ ما فعَله لولو هو أنه شرح لي فقط الفقر والفساد والتدافُع المستمر من أجل الأمان، لكنه لم يخترعها. فقد ظلَّت تُحيط بي وولَّدت داخلي شكًّا لا يعرف الرحمة. فثقة أُمي في الفضائل الجمالية تعتمد على إيمانٍ لم يكن عندي، إيمان رفضتْ هي أن تصفه بأنه دِين، إيمان أخبرتْها خبرتُها أنه تدنيس للمقدَّسات؛ إنه إيمان بأن الأشخاص العقلانيين المتفكِّرين يمكنهم أن يُشكلوا قدَرَهم. وفي أرضٍ ظلت الحتمية فيها أداةً ضرورية لتحمُّل الصعاب، حيث كانت الحقائق المطلَقة تظل منفصلةً عن حقائق الحياة اليومية، كانت هي شاهدة وحيدةً للإنسانية العلمانية، جندية لصفقة كينيدي الجديدة، وقوات السلام، والليبرالية التي تقول بها المنظمات. ولم يكن لها في كل هذا سوى حليفٍ واحد؛ السلطة البعيدة لأبي. فأصبحت بصورةٍ متزايدة تذكِّرني بقصته؛ كيف نشأ فقيرًا في دولةٍ فقيرة في قارةٍ فقيرة، وكيف كانت حياته صعبة، صعبة مثل أي شيءٍ قد يكون لولو واجهه. لكنه لم يختَر أسهل الطرُق ولم يلجأ إلى استخدام كل وسيلةٍ تُتاح أمامه لتحقيق أهدافه. لقد كان مجتهدًا وأمينًا مهما كلَّفه الأمر. وعاش حياته وفقًا لمبادئَ تطلَّبت نوعًا مختلفًا من الصلابة، مبادئ وعَدَته بشكلٍ أرقى من القوة. ورأت أمي أني سأسير على نهجه. ولم يكن لديَّ خيار. فهذا الأمر مستقرٌّ في جيناتي. «يمكنك أن تشكرني على شكل حاجبَيك … فقد كان حاجبا أبيك خفيفَين وصغيرَين. لكنك ورِثت عقلك وشخصيتك عنه.» أصبحت رسالتها تضمُّ السودَ بصفةٍ عامة. فكانت تعود إلى المنزل محمَّلةً بكتبٍ عن حركة الحقوق المدنية، وتسجيلات لماهاليا جاكسون وأحاديث الدكتور كينج. وعندما قصت عليَّ قصصًا عن أطفال المدارس في الجنوب الذين كانوا مُجبرين على قراءةِ كتبٍ تنازلت عنها لهم مدارس البِيض الأكثر ثراءً، لكنهم استكملوا تعليمهم ليصبحوا أطباء ومحامين وعلماء، شعرت بخجلٍ لأني أُعارض الاستيقاظ مبكرًا والمذاكرة في الصباح. وإذا أخبرتها عن مسيرات الاستعراض العسكري التي قام بها فريقُ الكشافة الإندونيسي أمام الرئيس، فقد تذكر مسيرةً من نوع آخر، مسيرةَ أطفال لا يكبرونني سنًّا من أجل الحرية. فكل رجلٍ أسودَ كان ثورجود مارشال أو سيدني بواتييه، وكانت كل سيدة سوداء فاني لو هامر أو لينا هورن. وأن يكون المرءُ أسودَ يعني أن يكون المستفيدَ من ميراثٍ عظيم، ومصيرٍ خاص، وأعباءٍ مجيدة لا يقوى على تحمُّلها سوانا. إنها أعباءٌ قُدِّر لنا أن نتحمَّلها بأناقة. فقد أشارت أمي أكثرَ من مرةٍ إلى أن «هاري بيلافونت هو أكثر الرجال وسامةً على ظهر الكوكب.» ••• كان هذا هو السياق الذي رأيتُ فيه صورة الرجل الأسود في مجلة «لايف» الذي حاول أن يخلع عنه بشرتَه. وأتخيَّل أطفالًا سودًا آخرين في ذلك الوقت والآن يمرون بلحظاتٍ مشابهة من تجلي الحقائق. ربما تتجلَّى هذه اللحظات في أوقاتٍ مبكِّرة للبعض؛ فيحذِّر الآباء أبناءهم من عبور حدود منطقةٍ محدَّدة بعينها، أو يشعرون بالإحباط لأن شَعرهم ليس كشعر الدُّمية «باربي» بصرفِ النظر عن كيف تُمشَّط وتَتَعَذَّب، أو قصة إهانة الوالد أو الجَد على يد صاحب عمل أو ضابط، التي يسمعها الطفل صدفةً عندما يكون من المفترض أنه نائم. قد يكون من الأسهل لطفلٍ أن يتلقى الأخبار السيئة في جرعاتٍ صغيرة ويسمح لنظامِ دفاعٍ أن يتكوَّن داخله، مع أني أشك أني كنتُ من المحظوظين؛ إذ تمتعتُ بفترةِ طفولة خالية من الشك في الذات. أعلم أن رؤيةَ ذلك المقال كانت قاسية، كمينٌ تعرَّضتُ فيه للهجوم. لقد حذَّرتني أمي من المتعصِّبين؛ فهُم جهلةٌ غير مثقَّفين يجب أن يتجنَّبهم المرء. وإذا لم أكن قادرًا بعدُ على التفكير في كوني مخلوقًا فانيًا، فقد ساعدني لولو على فهْم احتمال التعرُّض لعجز المرض، أو تشوُّهات الحوادث، أو أُفول نجم الحظ. فاستطعتُ بنجاحٍ التعرُّف على طمعٍ منتشر أو قسوةٍ في الآخرين، وفي بعض الأحيان في نفسي. لكن تلك الصورة أخبرتني بشيءٍ آخر: أن هناك عدوًّا خفيًّا، عدوًّا يمكنه أن يصل إليَّ دون علمِ أحد، أو حتى دون علمي أنا شخصيًّا. وعندما عُدت إلى المنزل في تلك الليلة من مكتبة السفارة، ذهبت إلى الحمام ووقفتُ أمام المرآة ووجدتُ جميع حواسي وأطرافي كما هي، وبدوت كما أنا دائمًا، وتساءلت هل أَلَمَّ بي شيء. أما البديل الآخر الذي كان أمامي فلم يكن أقلَّ إثارة للرُّعب وهو أن جميع الكبار ممن حولي يعيشون في غمرة الجنون. ستمرُّ تلك النوبة القوية الأولى من القلق، وسأقضي عامي المتبقِّي في إندونيسيا كما أمضيتُ ما قبله. وحافظتُ على ثقةٍ لم تجد ما يبرِّرها دائمًا، ومهارة لا يمكن كبتها للإزعاج. لكنَّ نظرتي تغيَّرت للأبد. وفي عروض التليفزيون الأجنبية التي بدأت تُذاع في المساء، بدأتُ ألاحظ أن «كوسبي» لم يفُز قط بالفتاة في مسلسل «أنا أتجسَّس» (آي سباي)، وأن الرجل الأسود في فيلم «مهمة مستحيلة» (ميشن إمبوسيبل) ظل طوال الوقت تحت الأرض. ولاحظت أنه لا يُوجَد أحدٌ مثلي في كُتيب الكريسماس الدعائي لشركة «سيرز وروباك وشركاه» الذي كان جَدي وجَدتي يُرسِلانه لنا، وأن بابا نويل كان رجلًا أبيضَ اللون. احتفظتُ بهذه الملاحظات لنفسي، مُقرِّرًا أن أمي إما أنها لم تشاهدها أو أنها تحاول حمايتي، وإنني يجب ألا أريها أن محاولتها قد فشلت. وكنتُ لا أزال أثق بحبِّ أمي، لكني أصبحتُ أواجه احتمال أن ما ترويه عن العالم ومكانة أبي فيه غير كاملة بطريقةٍ ما.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/3/
الفصل الثالث
استغرقتُ بعض الوقت حتى تعرفتُ عليهما في الزحام. في البداية عندما انفتحت الأبواب الجرَّارة كان كلُّ ما استطعت أن أُميزه هو صورة غير واضحة لوجوهٍ مبتسمة متلهفة تنظر باتجاه الحاجز. ثم التقطت عيناي في النهاية رجلًا طويلَ القامة يميل شعره إلى اللون الأبيض يقف في آخر الزحام، ومعه سيدة قصيرة لا تكاد تظهر وهي تقف إلى جواره ذات وجهٍ دائري وترتدي نظارةً دائرية. بدأ الاثنان يلوِّحان لي، لكن قبل أن ألوِّح لهما اختفيا وراء زجاجٍ نصف شفاف. نظرتُ إلى مقدمة الصف فرأيت عائلةً صينية يبدو أنها تواجه بعض المشكلات مع مسئولي الجمارك. كانت رفقة تلك الأسرة ممتعة طوال الرحلة من هونج كونج، فكان الأب يخلع حذاءه ويسير جَيئةً وذهابًا في الممرات، والأطفال يصعدون فوق المقاعد، والأم والجدة تجمعان الوسائد والأغطية وتثرثران معًا دون توقُّف. وفي تلك اللحظة كانت العائلة تقف ساكنة تمامًا، تحاول أن تختفي عن الأنظار، وعيونهم تتابع بصمتٍ الأيديَ التي تقلِّب في جوازات سفرهم وأمتعتهم بهدوءٍ يثير الخوف. وكان الأب يذكِّرني بلولو بشكلٍ ما، فنظرتُ إلى القناع الخشبي الذي كنتُ أحمله في يدي والذي أهداني إياه صديقُ أُمي مساعد الطيار الإندونيسي الذي اصطحبني في حين وقفت هي ولولو وأختي الجديدة مايا على البوابة. أغلقت عينيَّ ووضعتُ القناع على وجهي. كانت تنبعث من الخشب رائحةُ جوز الهند والقرفة، وشعرت بنفسي أنجرف عبر المحيطات وفوق السُّحب إلى الأفق البنفسجي عائدًا إلى المكان الذي كنت فيه يومًا ما … صاح أحدٌ باسمي. فسقط القناع إلى جانبي ومعه حلم يقظتي، ورأيت مرةً أخرى جَديَّ يقفان يلوِّحان لي بحماس. هذه المرة لوَّحتُ لهما، ثم دون أن أفكِّر أعدتُ القناع على وجهي مرة أخرى، وجعلتُ رأسي يتمايل في رقصةٍ قصيرة غريبة. ضحك جَدَّاي وأشارا إليَّ ولوَّحا مرة أخرى حتى ربَّت مسئول الجمارك على كتفي وسألني هل أنت أمريكي، فأومأتُ له بالإيجاب وسلَّمته جواز سفري. فقال لي: «تفضَّل» ثم طلب من العائلة الصينية أن تتنحى جانبًا. أغلقتُ الأبواب الجرارة خلفي. واحتضنتني جَدتي ووضعَتْ حول رقبتي عِقدًا من الحلوى واللبان. وألقى جَدي ذراعه حول كتفي وقال إن القناع تحسَّن لا جدال فيه. واصطحباني إلى السيارة الجديدة التي اشترياها، وعلَّمني جَدي كيف أُشغل جهاز التكييف. قُدنا السيارة في الطريق السريع، ومررنا بمطاعم الوجبات السريعة، والنُّزل الرخيصة التكلفة، وأسواقٍ لبيع السيارات المستعملة محاطة بسياجٍ مُزيَّن. وأخذتُ أحدِّثهم عن الرحلة وعن كل شخصٍ تركته في جاكرتا. وأخبرني جَدي بما خطَّطاه لحفل عشاء الترحيب بعودتي. وقالت جَدتي إنني سأحتاج إلى ملابس جديدة للمدرسة. ثم فجأة، توقَّف الحوار. فأدركتُ أنني سأعيش مع غريبَين عني. لم تبدُ الترتيبات الجديدة سيئةً عندما شرحَتْها لي أمي في البداية. فقالت إنه حان الوقت كي ألتحق بمدرسةٍ أمريكية، وإني سأراجع سريعًا جميع دروس المنهج الذي درسته بالمراسلة. وقالت إنها ومايا ستلحقان بي في هاواي قريبًا للغاية — عام على الأكثر — وإنها ستحاول أن تأتي في الكريسماس. وذكَّرتني كم كان الوقت الذي قضيتُه مع جديَّ الصيف السابق ممتعًا؛ الآيس كريم وأفلام الكرتون والأيام التي أمضيناها على الشاطئ. وقالت: «لن يكون عليك أن تستيقظ في الرابعة صباحًا»، وهو أمرٌ وجدتُ أنه أكثرُ جاذبية لي. لم أُدرك أن جديَّ تغيرَا كثيرًا إلا في ذلك الوقت عندما بدأتُ أتكيف في الحياة معهما لفترةٍ غير محدَّدة ورأيتُ كيف تسير حياتهما. فبعد أن رحلتُ أنا وأمي باعا المنزل الكبير القديم الذي كان قريبًا من الجامعة، واستأجرا شقةً صغيرة بها غرفتان للنوم في مبنًى شاهق الارتفاع في شارع بيريتانيا. وترك جَدي عمله في تجارة الأثاث ليعمل وسيطًا في مجال بيع بوالص التأمين على الحياة، ونظرًا لأنه لم يكن قادرًا على إقناع نفسه بأن الناسَ تحتاج ما يحاول بيعه لهم، ولكونه حسَّاسًا تجاه الرفض، لم يَسِر العمل على ما يُرام. ومساء كل يوم أحد، كنتُ أشاهِده وهو يُصبح أكثرَ عصبيةً عندما يمسك بحقيبته، ويضع منضدةً قابلةً للطي أمام مقعده، ويلاحِق أيَّ شيءٍ قد يشتِّت انتباهه حتى يدفعنا في النهاية للخروج من غرفة المعيشة، ويحاول أن يحدِّد مواعيد مع عملاء مُحتمَلين عبر الهاتف. وفي بعض الأحيان عندما كنت أتسلَّل على أطراف أصابعي إلى المطبخ كي أُحضِر زجاجةَ مياه غازية، كنت أسمع اليأس وهو يتسلَّل إلى صوته، وفترة الصمت التي تتبع هذا اليأس عندما يفسِّر له الشخص على الطرَف الآخر من الهاتف لماذا يوم الخميس غير مناسب والثلاثاء ليس أفضل كثيرًا، ثم أسمع تنهيدةَ جَدي العميقة بعد أن يضع سماعة الهاتف، ويده تتحسَّس الملفات على حِجره باضطرابٍ مثل لاعب الورق الذي يواجه ورطةً كبيرة. وفي النهاية، يرقُّ بعض الناس، فيذهب عنه الألم، ثم يدخل جَدي إلى غرفتي ليحكي لي قصصًا عن شبابه أو الدعابة الجديدة التي قرأها في مجلة «ريدرز دايجست». وإذا كانت المكالمات التي أجراها سارت على ما يرام في تلك الليلة فقد يُناقش معي بعضَ الأمور التي لا يزال يُفكِّر فيها؛ مثل ديوان الشعر الذي بدأ يكتبه، والرسم التخطيطي الذي يوشك أن يتحوَّل إلى لوحة، ومخططات المساقط الأفقية لمنزل أحلامه المتكامل الذي تُتاح فيه وسائل الراحة والرفاهية التي سيحصل عليها بضغطة زر، وسيحتوي على حديقةٍ خلَّابة. ورأيتُ كيف أن خططه كلما ابتعدت عن نطاق إمكانية تحقيقها ازدادت جرأة، لكني رأيتُ فيها بعضًا من حماسه القديم، وكنتُ أحاول عادةً أن أبتكر أسئلةً مُشجِّعة تساعد على إبقاء حالته النفسية جيدة. ثم عند نقطةٍ ما أثناء حديثه، نلاحظ نحن الاثنين أن جَدتي تقف في الرَّدهة خارج غرفتي، ورأسها يميل جانبًا في انتقاد. «ماذا تريدين يا مادلين؟» «هل انتهيتَ من مكالماتك الهاتفية يا حبيبي؟» «نعم يا مادلين. انتهيتُ من مكالماتي الهاتفية. إنها العاشرة مساءً!» «لا داعي للصراخ يا ستانلي. لقد أردتُ فقط أن أعرف هل بإمكاني الذهاب إلى المطبخ.» «أنا لا أصرخ! يا إلهي، لا أفهم لماذا …» وقبل أن ينتهي من عبارته تكون جَدتي قد انسحبت إلى غرفةِ نومهما، فيترك جَدي غرفتي ونظرةُ الاكتئاب والغضب ترتسِم على وجهه. أصبحَت مثل هذه الأحاديث أمرًا معتادًا لي؛ إذ كانت المناقشات بين جَدي وجَدتي تسير بنمطٍ روتيني يتكرَّر كثيرًا، نمط نشأ نتيجة الحقيقة التي نادرًا ما تُذكر وهي أن دخلَ جَدتي كان أعلى من جَدي. وقد أثبتت أنها رائدة في مجال عملها إلى حدٍّ ما؛ فقد كانت أول سيدة تعمل نائبةَ رئيس بنكٍ محلي، ومع أن جَدي كان يُحب دائمًا أن يقول إنه كان يُشجِّعها لتتقدَّم في عملها، فقد أصبح عملها موضوعًا حسَّاسًا ومريرًا بينهما؛ فالعمولات التي كان يتلقَّاها كانت لا تُسدِّد سوى أقلِّ القليل من فواتير الأسرة. لم تكن جَدتي تتوقَّع تحقيقَ هذا النجاح. فنظرًا لأنها لم تكن حاصلةً على درجةٍ جامعية فقد بدأت العملَ سكرتيرةً للمساعدة في تحمُّل نفقات مجيئي غير المتوقَّع إلى الدنيا. ولكنها كانت سريعة البديهة وسديدة الرأي ولديها القدرة على العمل المتواصِل. وأخذت تتقدَّم في عملها ببطء، وكانت تتصرَّف مع مَن حولها بأمانةٍ وشرف حتى وصلت إلى بابٍ لم تكن الكفاءة كافية لاجتيازه. وظلت في وظيفتها ٢٠ عامًا، نادرًا ما تحصل على إجازات وتشاهد نظراءها من الرجال وهم يُواصِلون الصعود على درجات السُّلَّم الوظيفي، ويلجئون للغش قليلًا باستخدام معلوماتٍ تتسرَّب أثناء لعب الجولف وأثناء الطريق إلى مبنى النادي، ويُصبحون رجالًا أثرياء. وأكثر من مرة، قالت أمي لجَدتي إنه لا ينبغي أن يفلت البنك من العقاب على سياسة التفرقة الجنسية الصارخة التي يتَّبعها. لكن جَدتي كانت تستخفُّ بملاحظات أُمي وتقول إن كل شخصٍ بإمكانه أن يجد سببًا للشكوى من شيءٍ مُعيَّن. ولم تشتكِ جَدتي قط، وكل صباح كانت تستيقظ في الخامسة صباحًا، وتبدِّل الموو موو — رداء النساء التقليدي في هاواي — غيرَ المهندم الذي كانت ترتديه في المنزل، وترتدي بذلتها الأنيقة وحذاءً عاليَ الكعب. وتضع المساحيق على وجهها، وترتدي مشدًّا للوسط (كورسيه)، وتُزين شعرها الخفيف ثم تستقل حافلةَ السادسة والنصف صباحًا لتصل إلى مكتبها في وسط المدينة قبل الجميع. ومن حينٍ لآخر، كان يأخذها التفاخُر بعملها رغمًا عنها وتستمتع بإخبارنا بالقصة الخفية وراء الأخبار المالية المحلية. وعندما كبرتُ أسرَّت إليَّ بأنها لم تتوقَّف قط عن الحلم بمنزلٍ له سياج خشبي أبيض، وقضاء الأيام وهي تخبز أو تلعب البريدج أو تعمل متطوعةً في المكتبة المحلية. وقد فاجأني هذا الاعتراف؛ إذ إنها نادرًا ما كانت تُعبِّر عن أُمنياتها أو الأشياء التي تندم عليها. قد يكون صحيحًا، أو لا يكون، أنها كانت ستفضِّل الحياةَ البديلة التي تخيلَتْها لنفسها، لكني أصبحتُ أفهم أن حياتها المهنية كانت في وقتٍ لم يكن فيه عملُ الزوجة خارج منزلها مصدرًا للتباهي، سواء لها أو لجَدي، وأنه لم يكن يمثِّل إلا سنوات تضيع، ووعودًا تتحطم. والشيء الذي كانت جَدتي تعتقد أنه يجعلها قادرةً على الاستمرار هو احتياجات أحفادها، والجَلَد الذي كان يتميَّز به أجدادها. فقد قالت أكثرَ من مرة: «المهم حقًّا يا باري، هو أنكم بخير أيها الأولاد.» هكذا أصبح جَدي وجَدتي يعيشان. كانا لا يزالان يُعِدَّان طبق الساشيمي للضيوف الذين أصبحوا قليلي التردُّد على منزلهما. وكان جَدي لا يزال يرتدي قميص هاواي عند ذَهابه إلى المكتب، وكانت جَدتي لا تزال تصرُّ على أن نخاطبها بلقب «توت». ولكن فيما عدا ذلك، فقد جفَّ نبع الطموح الذي حملاه معهما إلى هاواي، حتى أصبح الانتظام — انتظام المواعيد والتسلية والطقس — هو العزاء الوحيد لهما. وكانا يتذمَّران من حينٍ لآخر من أن اليابانيين قد استولوا على الجزر، وكيف تحكَّم الصينيون في الموارد المالية للجزيرة. وفي أثناء جلسات استماع قضية ووترجيت، انتزعت أُمي منهما اعترافًا بأنهما انتخبا نيكسون، مرشح القانون والنظام، في انتخابات عام ١٩٦٨م. ولم نَعُد نذهب إلى الشاطئ أو نتنزَّه معًا، وفي المساء كان جَدي يشاهد التليفزيون في حين كانت جَدتي تجلس في غرفتها تقرأ قصص ألغاز جرائم القتل. وأصبح مصدر الإثارة في حياتهما هو شراء ستائر جديدة أو مُجمد منفصل. لقد بدا كما لو أنهما تجنَّبا تلك القناعة التي تأتي في منتصف العمر؛ أي التقاء النضج النابع من الخبرة الحياتية بما تبقى من العمر، والتقاء طاقة الإنسان بما هو متاح له من وسائل، والاعتراف بالإنجازات التي تحرِّر الروح. لقد قرَّرا في وقتٍ ما أثناء غيابي أن يُقلِّلا من خسائرهما ويقبلا مجرد البقاء. ولم يعودا يريان أية غاية يتمنَّيان تحقيقها. ••• وعندما اقترب الصيف من نهايته، تزايد شوقي لبدء الدراسة. وكان اهتمامي الرئيسي هو أن أجد رفاقًا في مثل عمري، ومن وجهة نظر جَدي كان قبولي في «أكاديمية بوناهو» إعلانًا ببداية شيءٍ عظيم وسموًّا في مكانة العائلة حتى إنهما لم يدَّخِرا جهدًا كي يجعلا الجميع يعلم بهذا. فقد أصبحت أكاديمية بوناهو، بعد أن أسَّستها البعثات التبشيرية عام ١٨٤١م، مدرسةً إعدادية لها مكانتها، مكانًا يدرُس فيه أبناء عِلية القوم في الجزيرة. وقد ساعدت سُمعتها في إثناء أُمي عن قرار إرسالي إلى إحدى الولايات الأمريكية. فقد أخبرها جَدي وجَدتي أن التحاقي بها لم يكن أمرًا سهلًا؛ إذ كانت هناك قائمة انتظار طويلة، ولم أحظَ بفرصة القبول إلا بعد تدخُّل رئيس جَدي في العمل الذي كان أحد خريجي الأكاديمية (يبدو أن أول تجربةٍ لي مع سياسة التمييز الإيجابي لم يكن لها علاقة بالعِرق). كنتُ قد أجريتُ عدةَ مقابلات شخصية مع المسئولة عن القبول في أكاديمية بوناهو الصيف السابق. وكانت سيدة مُفعمة بالحيوية وتبدو شخصًا كفئًا لم يزعجها أن قدميَّ لا تكادان تلمسان الأرض وهي تسألني بإلحاحٍ عن أهدافي المهنية. وبعد المقابلة أرسلتني السيدة أنا وجَدي في جولةٍ في حرم المدرسة، الذي كان مجمعًا يمتدُّ لعدة أفدنة من الحقول الوافرة الخضرة والأشجار الظليلة، ومبانٍ مدرسية قديمة مبنية بالحجارة وأخرى حديثة من المعدن والزجاج. وكانت هناك ملاعب تنس وحمامات سباحة واستديوهات تصوير. وفي أثناء الجولة تخلفنا قليلًا عن المرشد، وأمسك جَدي ذراعي وهمس. قال: «اللعنة يا باري، هذه ليست مدرسة. إنها جنة. يمكنك أن تجعلني أعود مرةً أخرى لصفوف الدراسة معك.» وصل مع خطاب القبول مظروفٌ سميك يحتوي على المعلومات وضعتْه جَدتي جانبًا لنقرأه بتأنٍّ بعد ظُهر أحد أيام السبت. وجاء في الخطاب: «مرحبًا بك في عائلة بوناهو.» وجاء فيه أنه خُصِّصت لي خزانة، وأُدرج اسمي في برنامج تناول الوجبة إلا إذا وضعْنا علامة في المربع المخصَّص لغير ذلك، وكانت هناك قائمة بالأشياء التي ينبغي لي شراؤها؛ زي مُوحَّد للتربية البدنية، ومقص ومسطرة وأقلام رصاص رقم ٢، وآلة حاسبة (اختياري). قضى جَدي المساء يقرأ كتاب المدرسة الإرشادي بالكامل وهو كتاب كبير يوضِّح التقدُّم المتوقَّع لي خلال السنوات السبع القادمة؛ مناهج المدرسة الإعدادية، والأنشطة خارج المقرَّر، وأسلوب تحقيق التفوُّق الشامل في عدة مجالات. ومع كل نقطة جديدة يزداد حماس جَدي؛ فقد نهض عدة مرات وهو يضع إبهامه حيث توقَّف ويتجه إلى الغرفة حيث كانت جَدتي تقرأ ويقول لها وصوته مليء بالدهشة: «ألقي نظرةً على هذا يا مادلين.» ولهذا صحبني جَدي بحماسٍ شديد في يومي الأول في المدرسة. وأصرَّ على أن نصل مبكرًا، ولم يكن مبنى «كاسل هول» المخصَّص للطلاب في الصفَّين الخامس والسادس قد فتح أبوابه بعد. ولم يصل سوى حفنة من الأطفال، وكانوا منشغِلين بمعرفة أخبارِ ما حدث في الصيف. جلسْنا إلى جوار صبيٍّ صيني رشيق يضع جهازًا ضخمًا لتقويم الأسنان يلتف بشرائط حول عنقه. قال جَدي للصبي: «مرحبًا بك.» وتابع: «هذا باري. وأنا جَدُّ باري. يمكنك أن تخاطبني جَدي.» وصافح الصبي الذي كان اسمه فريدريك. وقال له: «باري جديد هنا.» فقال فريدريك: «وأنا أيضًا»، واشتركا معًا في حوارٍ شائق. وجلستُ وأنا أشعر بالخجل حتى فُتحت الأبواب أخيرًا وصعدنا السُّلَّم إلى الفصل. وعند الباب، ربَّت جَدي على ظهر كِلَينا. وقال وقد ارتسمت على شفتَيه ابتسامةٌ عريضة: «لا تفعلا أيَّ شيءٍ كنت سأفعله أنا.» وقال فريدريك وهو يشاهد جَدي يقدِّم نفسه للآنسة هيفتي مدرِّسة الفصل: «إن جَدك خفيف الظل.» «نعم، إنه كذلك.» جلسنا إلى الطاولة ومعنا أربعة أطفال وبدأت الآنسة هيفتي، وهي سيدة متوسطة العمر مفعمة بالحيوية لها شعر رمادي قصير، تُسجِّل الحضور. وعندما قرأت اسمي بالكامل، سمعتُ ضحكاتٍ مكتومة تتردَّد في أرجاء الغرفة، وانحنى فريدريك عليَّ. قال: «ظننت أن اسمك هو باري.» وسألتني الآنسة هيفتي: «هل تُفضِّل أن نُناديك باسم باري؟» وتابعت: «إن باراك اسم جميل للغاية. يقول جَدك إن أباك كيني الجنسية. لقد كنتُ أعيش في كينيا. أُدرِّس لأطفالٍ في مثل عمرك تقريبًا. وإنه لبلدٌ رائع حقًّا. هل تعلم إلى أية قبيلة ينتمي والدك؟» أثار سؤالها المزيد من الضحكات، وظللتُ أنا صامتًا دون أن أتفوَّه بكلمة لدقيقة. وعندما قلت في النهاية «لوو»، أعاد صبي أشقر الشعر يجلس خلفي الاسم بصيحة استهزاء عالية مقلدًا صوت القرد. ولم يستطِع الأطفال بعد ذلك السيطرةَ على أنفسهم، وتطلَّب الأمرُ من الآنسة هيفتي أن تُوبِّخ الفصل بقوةٍ حتى يهدأ وانتقلنا، رحمةً بي، إلى الشخص التالي في قائمة أسماء التلاميذ. قضيتُ باقي اليوم حائرًا، وطلبَتْ مني فتاةٌ حمراء الشعر أن تلمس شعري، وكان من الواضح أن رفضي قد آلمها. وسألني ولدٌ أحمر الوجه عما إذا كان أبي من آكلي لحوم البشر. وعندما عُدت إلى المنزل كان جَدي مستغرقًا في إعداد العشاء. «كيف كان الحال؟ أليس من الرائع أن الآنسة هيفتي كانت تعيش في كينيا؟ أراهن أن هذا جعل اليوم الأول في المدرسة أسهل.» ذهبتُ إلى غرفتي وأغلقت الباب. وسرعان ما اعتاد الأطفال الآخرون على وجودي في الفصل، ومع ذلك فقد استمر شعوري بأنني لا أنتمي إلى المكان يزداد. وكانت الملابس التي اخترتُها أنا وجَدي قديمةَ الطراز للغاية، وبدا مظهر الصندل الإندونيسي مُزريًا بعد أن كان جيدًا للغاية في جاكرتا. وكان معظم زملائي في الفصل معًا منذ الحضانة، ويعيشون في مناطقَ متجاورة في منازلَ من طابقين بها حمَّامات سباحة، وآباؤهم درَّبوا الفِرق نفسَها التي تلعب في مسابقة البيسبول التي تُنظِّمها «ليتل ليج»، وأمهاتهم ممن يدعمنَ أنشطة بيع المخبوزات لجمع التبرعات. ولم يكن أيٌّ منهم يلعب كرة القدم أو كرة الريشة أو الشطرنج، وأنا لم تكن لدي أدنى فكرة عن كيفية إلقاء الكرة بشكلٍ حلزوني أو الحفاظ على توازني وأنا على لوح التزلج. كان الأمر بمنزلةِ كابوسٍ لطفل في العاشرة من عمره. إلا أنه مع عدم ارتياحي في الشهر الأول، فلم أكن أسوأ من الأطفال الآخرين المستبعَدين الذين يصنَّفون في فئةِ مَن لا يمكن تقبُّلهم بسهولة؛ وقد ضمَّت هذه الفئة الفتيات اللائي كن شديدات الطول أو الخجل، والصبي الذي كان نشيطًا شيئًا ما، والأطفال الذين منعتهم إصابتهم بالربو من حضور فصول التربية البدنية. ومع ذلك فكانت هناك طفلة أخرى في فصلي تُذكِّرني بألمٍ من نوع آخر. اسمها كوريتا، وقبل وصولي كانت هي الفتاة السوداء الوحيدة في الصف. كانت ممتلئة الجسد وسوداء البشرة ولا يبدو أن لدَيها أصدقاء كثيرين. ومنذ اليوم الأول كلٌّ منا تجنَّب الآخر لكنه راقَبَه من بعيد، كما لو أن أيَّ اتصالٍ مباشر بيننا سيذكِّرنا بشدة بعُزلتنا. وفي النهاية في أثناء فترة الفسحة في يومٍ حارٍّ سماؤه صافية من الغيوم وجدنا نفسينا في الركن نفسِه من الفِناء. لا أذكر ما دار بيننا من حديث، لكني أذكر أنها فجأة كانت تركض خلفي عبر القضبان الأُفقية والعمودية التي يستعملها التلاميذ في اللعب. وكانت تضحك بسعادةٍ وكنتُ أنا أغيظها وأراوغ بالركض بين تلك القضبان، حتى أمسكتني في النهاية وسقطنا على الأرض لا نستطيع التقاطَ أنفاسنا. وعندما نظرتُ لأعلى رأيتُ مجموعةً من الأطفال لم أرَ وجوههم بوضوحٍ أمام وهج الشمس يشيرون إلينا. قالوا: «كوريتا لديها حبيب! كوريتا لديها حبيب!» ارتفع صوت الغناء عندما التفَّ حولنا أولاد آخرون. تمتمت: «إنها ليست حبيبتي.» ونظرتُ إلى كوريتا أنتظر منها الدعم، لكنها كانت تقف مكانها تنظر إلى الأرض. «كوريتا لديها حبيب! لماذا لا تمنحها قُبلة أيها الحبيب؟» فصرخت: «أنا لست حبيبها.» وركضتُ باتجاه كوريتا ودفعتُها برفقٍ، فترنَّحت إلى الخلف ونظرَت إليَّ دون أن تقول شيئًا. فصرختُ أنا مرة أخرى: «دعيني وشأني!» وفجأة أطلقت كوريتا ساقيها للريح وأخذت تركض أسرعَ فأسرع حتى اختفت عن الأنظار. وتصاعدت ضحكات السعادة من حولي. ثم دقَّ جرس انتهاء الفسحة، وظهر المدرسون ليعيدونا إلى الفصول. ظلت تلك النظرة التي ارتسمت على وجه كوريتا قبل أن تركض تُطاردني فيما تبقَّى من ظهيرة ذلك اليوم؛ نظرةُ خيبةِ الأمل والاتهام. وأردتُ أن أشرح لها بطريقةٍ ما أن المسألة ليست شخصية؛ كلُّ ما في الأمر أنه لم تكن لديَّ حبيبة قط ولا أرى حاجة لأن تكون لدي واحدة الآن. لكني لم أعرف حتى هل كان ذلك صحيحًا، كلُّ ما كنتُ أعرفه هو أن وقت التفسير قد فات، وأنني تعرضتُ للاختبار، وكانت النتيجة أنني غير كفء، وكلما اختلستُ النظر إلى مقعد كوريتا رأيتها ورأسها ينحني على كتبها تبدو كما لو أن شيئًا لم يحدث، منطوية على نفسها ولا تطلب عطفًا من أحد. خلقتْ خيانتي هذه مسافةً بيني وبين الأطفال الآخرين، وعلى غرارِ كوريتا تركوني وشأني تقريبًا. كان لديَّ عدد قليل من الأصدقاء وتعلمتُ ألا أتحدَّث كثيرًا في الفصل، وتعلمتُ أن أُلقيَ بكرةٍ متذبذبة. لكن منذ ذلك اليوم شعرتُ أن جزءًا مني قد سُحق ودُمِّر، ووجدت ملاذًا في الحياة التي كان جَداي يحييانها. فبعد انتهاء اليوم الدراسي كنتُ أسير مسافةَ المجمعات السكنية الخمسة التي تفصل المدرسة عن منزلنا، وإذا كان في جيبي نقود أتوقَّف في بعض الأحيان عند كشك صحفٍ يُديره رجلٌ أعمى كان يدَعُني أعرف المجلات المصورة الجديدة التي ظهرت في الأسواق. وكان جَدي يبقى في المنزل ليفتح لي الباب، وعندما ينام بعد الظهر أشاهد أفلام الكرتون ومسلسلات كوميديا الموقف أثناء إعادة عرْضها. وفي الرابعة والنصف أوقظ جَدي ونأخذ السيارة إلى وسط المدينة كي نُقِلَّ جَدتي. وأؤدي واجبي المنزلي وقت العشاء الذي كنا نتناوله ونحن نشاهد التليفزيون. وأقضي باقي الأمسية أتفاوض مع جَدي على البرامج التي سنشاهدها، ونتناول أحدث الوجبات الخفيفة التي عثر عليها في المتجر. وفي العاشرة مساءً أذهب إلى غرفتي (فبرنامج جوني كارسون يُذاع في ذلك الوقت ومشاهدة هذا البرنامج لا تخضع للمناقشة)، وأخلد إلى النوم على أنغام موسيقى البرنامج الإذاعي «توب فورتي». شعرت بالأمان وأنا في حضن الثقافة الأمريكية الاستهلاكية الناعم المتسامح، كان الأمر كما لو أني سقطتُ في مرحلةِ سباتٍ عميق. وفي بعض الأحيان أتساءل كم من الوقت كنتُ سأظلُّ في هذه المرحلة إذا لم تكن جَدتي وجدَتْ ذلك التلغراف في صندوق البريد في أحد الأيام. فقد قالت: «والدك سيأتي لرؤيتك.» وتابعت: «هذا سيكون الشهر القادم. بعد أسبوعَين من وصول والدتك. سيظلَّان هنا حتى نهاية الاحتفال برأس السنة.» طوت جَدتي الورقةَ بعنايةٍ ووضعتها في أحد أدراج المطبخ. وظلَّت هي وجَدي صامِتَين بالطريقة نفسِها التي أتخيَّل أنها ردُّ فعلِ مَن يخبره الطبيب أنه يعاني مرضًا عضالًا ولكن يمكن علاجه. ولدقيقةٍ خيَّم علينا الصمت في الغرفة، ووقفنا مُتسمِّرين غارقِين في أفكارنا. وفي النهاية قالت جَدتي: «حسنًا، أظن أنه من الأفضل أن نبدأ في البحث عن مكانٍ يمكنه الإقامة فيه.» خلع جَدي نظارته ومسح عينَيه. وقال: «لا بد أنه سيكون رأس سنة زاخرًا بالأحداث.» ••• في أثناء فترة الغداء شرحتُ لمجموعةٍ من الصبية أن والدي أمير. «جَدي هو الزعيم؛ أي رئيس القبيلة. مثل الهنود كما تعرفون. وهذا يجعل أبي أميرًا. وهو سيتولى الحكمَ عندما يموت جَدي.» وسألني أحد أصدقائي ونحن نفرغ أطباقنا في سلة المهملات: «وماذا بعد ذلك؟» وتابع: «أعني، هل ستعود إلى هناك وتصبح أميرًا؟» «حسنًا … يمكنني إذا أردتُ هذا. إنها مسألة معقَّدة نوعًا ما لأن القبيلة مليئة بالمحاربين. مثل أوباما … الذي يعني «الحربة المحترقة». فكل رجل في قبيلتنا يريد أن يُصبح هو الزعيم؛ لذا فعلى أبي أن يُنهي هذه العداءات قبل أن أذهب.» عندما خرجَتْ هذه الكلمات من بين شفتي وشعرتُ بسلوك الأطفال يتغيَّر تجاهي وأصبحوا أكثر فضولًا وألفةً معي ونحن يصطدم بعضنا ببعض في الصف عائدِين إلى الفصل، بدأ جزء مني يصدِّق هذه القصة. لكنَّ جزءًا آخر منِّي كان يعرف أن ما أقوله مجرَّد كذبة؛ شيء اختلقتُه من فتات المعلومات التي عرفتُها من أمي. وبعد أسبوع من لقاء أبي بلحمِهِ ودمِه رأيتُ أني أُفضِّل صورته البعيدة، تلك الصورة التي كان بإمكاني تغييرها كما أشاء، أو أتجاهلها عندما يكون ذلك مناسبًا. وإذا لم يكن أبي قد خيَّب أملي بالضبط فقد ظل شيئًا لا أعرفه، شيئًا مؤقتًا، ومُخيفًا بصورةٍ غامضة. أحسَّت أُمي بخوفي في الأيام المتبقِّية على وصوله، وأظن أنها كانت تعكس خوفها؛ ولهذا كان من بين مجهوداتها لإعداد الشقة — التي أجَّرناها من الباطن له — محاولتها أن تطمئِنَني أن اللقاء العائلي سيمرُّ بسلام. وقالت إنها كانت تُراسِله طوال الفترة التي قضيناها في إندونيسيا وإنه يعرف كل شيءٍ عني. وكان أبي، على غرار أمي، قد تزوَّج مرة أخرى وأصبح لديَّ خمسة إخوة وأخت يعيشون في كينيا. وقد تعرَّض لحادثِ سيارة شديد، وكانت تلك الرحلة جزءًا من فترة النقاهة بعد أن مكث في المستشفى وقتًا طويلًا. وقالت: «ستُصبِحان صديقَين رائعَين.» وإلى جانب إخباري بأشياءَ عن أبي بدأتْ أمي تحشوني بمعلوماتٍ عن كينيا وتاريخها، وقد اختلست اسم «الحربة المحترقة» من كتاب عن جومو كينياتا أول رئيس لكينيا. ولكن لم ينجح شيءٌ مما أخبرتني به أُمي في التخفيف من شكوكي، ولم أحتفظ إلا بالقليل من المعلومات التي أخبرتني بها. ولم تنجح في إثارة اهتمامي حقًّا سوى مرةٍ واحدة عندما أخبرتني أن قبيلة أبي «لوو» شعب نيلي هاجر إلى كينيا من موطنه الأصلي على ضفاف أطول أنهار العالم. بدا هذا واعدًا. وكان جَدي لا يزال يحتفظ برسمٍ رسمَه ذات مرة هو صورةٌ طبْق الأصل للوحة فنية أصلية لمصريين نحفاء باللون البرونزي يركبون مركبةً ذهبية تجرُّها جياد مرمرية. وكانت لدي فكرة عن مصر القديمة، والممالك العظيمة التي قرأتُ عنها، والأهرامات، والفراعنة، ونفرتيتي، وكليوباترا. وفي أحد أيام السبت ذهبتُ إلى المكتبة العامة بالقُرب من شقتِنا، وبمساعدة أمين المكتبة العجوز صاحب الصوت المبحوح الذي تفهَّم مدى جِدِّيتي وجدتُ كتابًا عن شرق أفريقيا. ولكن لم يكن به أي ذكْر للأهرامات. وفي الحقيقة، لم يكن هناك سوى فقرة قصيرة عن قبيلة «لوو». واتضح أن الشعوب النيلية مصطلح يصفُ عددًا من القبائل المتنقلة التي نشأت أصلًا في السودان على ضفاف نهر النيل الأبيض في أقصى جنوب الإمبراطوريات المصرية. وكانت قبيلة «لوو» ترعى الماشية، وتعيش في أكواخٍ طينية، وتأكل وجباتٍ من الذرة واليام — وهو من فصيلة البطاطا — وطعامًا آخر يُسمَّى حبوب الدخن. وكان زيها التقليدي شريطًا من القماش يُغطي منطقةَ العورة يتدلى من حزامٍ جلدي يحيط بالخَصر. تركتُ الكتاب مفتوحًا على الطاولة، وخرجتُ دون أن أشكر أمين المكتبة. وأخيرًا جاء اليوم الموعود، وتركتني الآنسة هيفتي أخرج مبكرًا من الفصل وهي تتمنى لي حظًّا سعيدًا. تركتُ مبنى المدرسة مثل شخصٍ محكوم عليه بالإعدام. كانت قدماي ثقيلتَين ومع كل خطوةٍ تُقرِّبني من منزل جَدي يعلو صوت خفقات قلبي. وعندما دلفتُ إلى المصعد وقفتُ دون أن أضغط الزر. فانغلق الباب ثم فُتح مرةً أخرى، ودلف رجل فلبيني عجوز يقطن الطابَق الرابع. قال الرجل بسعادة: «جدُّك يقول إن والدك قادم لزيارتك اليوم.» وتابع: «لا بد أنك تطير فرحًا.» وعندما لم أستطِع التفكير في أي مهْرب، بعد أن وقفتُ أمام باب الشقة ومددتُ بصري نحو أفق هونولولو فشاهدت سفينةً بعيدة، ثم نظرتُ إلى السماء بعينٍ شبه مغمضة لأرى العصافير تدور في الهواء. دققتُ الجرس. وفتحت جَدتي الباب. «ها هو ذا! تعالَ يا باري … تعالَ قابِل والدك.» وهناك في مدخل الشقة غير المضاء رأيته: رجل طويل أسود يعرج قليلًا وهو يسير. وجثم على ركبتيه وطوَّقني بذراعَيه وتركتُ أنا ذراعيَّ تنخفضان إلى جانبي. وخلفه كانت أُمي تقِف يرتجف ذقنها كالعادة. قال أبي: «حسنًا يا باري.» وتابع: «من الجميل أن أراك بعد كل هذا الوقت. بل من الرائع جدًّا.» وأمسك بيدي وأدخلني غرفةَ المعيشة، وجلسنا جميعًا معًا. وقال: «أخبرتني جَدتك أن أداءك ممتاز في المدرسة.» فهززت كتفي. فقالت جَدتي: «أظنُّ أنه يشعر بشيءٍ من الخجل.» ثم ابتسمت ومسحت على رأسي. فقال أبي: «حسنًا، لا يُوجَد ما يدعو لأن تخجل من أن أداءك ممتاز. هل أخبرتك أن إخوتك وأختك متفوقون أيضًا في دراستهم؟ أظن أن هذا الأمر يجري في دمائكم»، قالها ضاحكًا. راقبتُه بحرصٍ عندما بدءوا جميعًا يتحدثون؛ كان أنحفَ كثيرًا مما توقَّعت، وكانت عظام ركبتَيه تكسر سيقان البنطلون في زوايا حادة، ولم أستطِع أن أتخيَّله يرفع أيًّا منهما من على الأرض. وإلى جواره كانت هناك عصًا لها رأس عاجية غير مُدبَّبة تستند إلى الحائط. وكان يرتدي سترةً زرقاء اللون، وقميصًا أبيض، وربطة عنقٍ قرمزية اللون. ونظارته بارزة الحواف تعكس ضوء المصباح فلم أرَ عينَيه بوضوح، لكن عندما نزع النظارة ليحكَّ قصبة أنفه رأيت أنهما تميلان إلى اللون الأصفر قليلًا كعينَي شخصٍ أُصيب بالملاريا أكثر من مرة. ورأيتُ أن جسده ضعيف، وكان حذرًا عندما كان يُشعل سيجارة أو يمد يدَه إلى كوب الجِعَة. وبعد ساعةٍ تقريبًا رأت والدتي أنه يبدو متعبًا ويحتاج إلى أن ينال قسطًا من الراحة، وقد وافقها على ذلك. فالتقط حقيبة سفره ثم توقَّف في منتصف خطوته الواسعة، وبدأ يبحث في الحقيبة حتى أخرج منها في النهاية ثلاثة تماثيل خشبية، أسد وفيل ورجل فاحم السواد يرتدي ملابس قبلية ويقرع طبلة، وأعطاني إيَّاها. فقالت أمي: «قُل شكرًا يا باري.» فغمغمت: «شكرًا.» نظرتُ أنا ووالدي إلى التماثيل المنحوتة وهي جامدة دون حياة في يدي، ولمس كتفي. وقال برفق: «إنها أشياء صغيرة.» ثم أومأ لجَدي وأخذا حقائبَه معًا وهبطا إلى الشقة الأخرى. ••• شهر. هذه هي الفترة التي قضيناها معًا، معظم الأمسيات كنا نقضيها نحن الخمسة في غرفة معيشة شقة جَدي، وكنا نقضي النهار في جولاتٍ بالسيارة حول الجزيرة أو في نزهاتٍ قصيرة إلى أماكن لها علامات مميزة في حياة عائلتي: الأرض التي كانت تُوجَد عليها شقة والدي يومًا ما، والمستشفى الذي ولدتُ فيه والذي أُعيد بناؤه، وأول منزل لجَدي في هاواي، قبل أن يُقيما في منزلهما بشارع يونيفرستي أفينيو، وهو منزلٌ لم أعرفه قط. كان هناك الكثير من الأشياء التي عليه أن يُخبرني بها في ذلك الشهر، والكثير من التفسيرات أيضًا؛ ومع ذلك فعندما أحاول أن أعصر ذاكرتي لأتذكَّر الكلمات التي قالها أبي، الحوارات والمواقف القليلة التي قد تكون دارت بيننا، أجد أنها ذهبت بلا رجعة. ربما تكون مطبوعةً في أعماق ذاكرتي، وصوته — الذي يُعَد بذرةَ جميع المناقشات المتشابكة التي أحملها مع نفسي — لا يمكنني الوصول إليه الآن بالضبط مثل نمط جيناتي؛ لذا فإن كلَّ ما أستطيع فهْمه هو الإطار الخارجي الممزَّق. تُقدِّم زوجتي تفسيرًا أبسطَ لهذا وهو أن الأبناء والآباء لا يكون لديهم الكثير دائمًا ليتحدثوا عنه معًا إلا إذا تولَّدت بينهم الثقة، وقد يكون هذا أقرب إلى الحقيقة؛ إذ كنتُ دائمًا ما أقف أمامه دون أن أتفوَّه بكلمةٍ واحدة، وهو لم يدفعني قط للحديث. وتركني وكلُّ ما لديَّ صورٌ تظهر وتخبو في ذهني مثل الأصوات البعيدة؛ كأن أتذكَّره ورأسه يرجع للوراء وهو يضحك على واحدة من دعابات جَدي وأنا ووالدتي نعلِّق زينةَ عيد الميلاد، وقبضته على كتفي وهو يُقدِّمني إلى أحد أصدقائه القدامى من الجامعة، وضِيق حدقَتَي عينيه وتمرير أصابعه في لحيته الصغيرة المتناثرة وهو يقرأ كتبه المهمة. كلُّ ما أتذكَّره هو صوره وتأثيره على الآخرين. فكلما تحدَّث — وإحدى ساقيه فوق الأخرى ويداه الضخمتان ممتدتان لتوجيه الانتباه إلى شيء معيَّن أو تشتيته، وصوته العميق الواثق المقنع الضاحك — رأيت تغيرًا مفاجئًا في العائلة. فقد أصبح جَدي أكثرَ نشاطًا وأعمق فكرًا، ووالدتي أكثر حياءً، وحتى جَدتي خرجت من جحرها في غرفة النوم وبدأت في مجادلته في أخبار السياسة والمال وهي تضرب الهواء بيدَيها ذات العروق الزرقاء لتوضِّح وجهةَ نظرها. كان الأمر كما لو أن وجوده استدعى روح الأيام القديمة وسمح لكلٍّ منهم أن يعود ليُمارس دوره القديم؛ بدا الأمر وكأن الدكتور كينج لم يلقَ حتفه قط بعد إطلاق النار عليه، واستمر أنصار كينيدي في دعم الأمة، ولم تكن الحرب والشغب والمجاعة أكثرَ من مجرَّد نكسات مؤقتة، ولم يكن هناك شيء يخافون منه إلا الخوف نفسه. وقد أذهلتْني هذه القوة الغريبة، ولأول مرة بدأتُ أفكِّر في أبي على أنه شيء حقيقي وقريب، بل حتى دائم. ومع ذلك فبعد بضعة أسابيع شعرتُ ببدء التوتُّر من حولي. بدأ جَدي يشكو من أن أبي يجلس في مقعده. وتذمَّرت جَدتي وهي تغسل الأطباق قائلة إنها ليست خادمة أحد. وكانت والدتي تضغط على شفتَيها وهي تحاول أن تتجنَّب عينَي والدَيها ونحن نتناول العشاء. وفي إحدى الليالي أدرتُ التليفزيون لأُشاهد فيلم كارتون خاصًّا اسمه «كيف سرق جرينش رأس السنة» (هاو ذا جرينش ستول كريسماس)، وفجأة تحوَّلت الهمسات إلى صياح. قال أبي: «باري، لقد شاهدتَ التليفزيون بما يكفي الليلة.» وتابع: ادخل إلى غرفتك وذاكر، ودعِ الكبار يتحدَّثون.» فوقفت جَدتي وأطفأت التليفزيون. وقالت: «لماذا لا تُشاهد البرنامج في غرفة النوم يا باري؟» فقال أبي: «كلَّا يا مادلين، ليس هذا ما أعنيه.» وتابع: «لقد ظلَّ يشاهد هذا الجهاز طوال الوقت والآن حان الوقت كي يُذاكر.» حاولت أُمي أن تشرح له أننا في إجازة الكريسماس وأن هذا الكارتون هو المفضَّل في الكريسماس، وأنني كنتُ أنتظره طوال الأسبوع. وقالت: «لن يستمر طويلًا.» «هذا هراء يا آنا. إذا كان الصبيُّ قد فرغ من عمل الغد، فيُمكنه أن يبدأ في واجبات اليوم التالي. أو حتى الواجبات التي ستُفرَض عليه عندما يعود من الإجازة.» ثم التفت إليَّ وقال لي: «أنا أقول لك يا باري إنك لا تُذاكر بالجِد الذي من المفترض أن تُذاكر به. اذهب الآن قبل أن أغضب.» دخلتُ إلى غرفتي وأغلقتُ الباب بعنفٍ وأنا أسمع الأصوات تعلو من خلفي، فكان جَدي يصرُّ على أن هذا المنزل منزله وجَدتي تقول إن أبي ليس لدَيه حق في أن يأتي ويفرض رأيه على الجميع، بما في ذلك أنا، بعد أن رحل عنَّا كل تلك الفترة. وسمعتُ والدي يقول إنهم يُدللونني، وإنني أحتاج إلى حزمٍ في التعامل، وسمعتُ والدتي تقول لوالدَيها إن شيئًا لم يتغيَّر بهما. وقفنا جميعًا في موقف الاتهام، وحتى بعد أن غادر أبي وجاءت جَدتي لتقول إنه يمكنني مشاهدة آخِر خمس دقائق في البرنامج، شعرتُ أن شيئًا قد تصدَّع بيننا جميعًا، عفاريت انطلقت من مخبأ قديمٍ مغلَق. وعندما شاهدتُ على شاشة التليفزيون الكائن جرينش وهو يعتزم تدمير رأس السنة ثم يتحوَّل في النهاية بفضل إيمان المخلوقات ذات العيون الكبيرة السوداء الطيبة التي تسكن مدينة هوفيل، رأيته على حقيقته؛ مجرَّد كذبة. وبدأت أعُدُّ الأيام الباقية حتى يرحل أبي ويعود كل شيءٍ إلى ما كان عليه. في اليوم التالي أرسلتني جَدتي إلى الشقة بالأسفل حيث كان يقطن أبي لأرى هل لدَيه ملابس بحاجة إلى الغسيل. طرقتُ الباب وفتح لي أبي وهو عاري الصدر. وبالداخل رأيتُ أُمي تكوي بعض ملابسه. كان شعرها معقوصًا خلف رأسِها وعيناها مُترقرقتَين حزينتين كما لو أنها كانت تبكي. طلب منِّي أبي أن أجلس إلى جواره على الفراش، لكني أخبرته أن جَدتي تحتاج إليَّ لأساعدها وغادرتُ بعد أن أخبرتُه بالرسالة التي جئتُ بها. عُدت لأعلى وكنتُ قد بدأت في تنظيف غرفتي عندما دخلَتْ أمي. «ينبغي ألا تغضب من والدك يا باري. إنه يحبك كثيرًا، لكنه يصرُّ على رأيه في بعض الأحيان.» فقلتُ دون أن أنظر إليها: «حسنًا.» وشعرت بعينَيها تتبعانني في أرجاء الغرفة حتى أطلقتُ في النهاية زفيرًا بطيئًا واتجهتُ إلى الباب. قالت: «أعلم أن هذا الأمر كلَّه مُحيِّر لك.» وتابعت: «وهو كذلك لي أنا أيضًا. فقط حاول أن تتذكَّر ما قلتُه لك، اتفقنا؟» ووضعت يدَها على مقبض الباب. ثم سألت: «هل تريدني أن أغلق الباب؟» فأومأتُ لها بالإيجاب، لكن بعد أن غادرَتْ بدقيقةٍ واحدة عادت فأدخلت رأسها في الغرفة. وقالت: «بالمناسبة، لقد نسيتُ أن أخبرك أن الآنسة هيفتي دعت والدك ليذهب إلى المدرسة يوم الخميس. وتريد منه أن يتحدَّث إلى الفصل.» لم يكن بوسعي تخيُّل أخبارٍ أسوأ من هذه. وقضيتُ تلك الليلة واليوم الذي تلاها أحاول أن أقمع ما يُراودني من أفكارٍ حولَ ما لا يمكن تجنُّبه: وجوه زملائي في الفصل عندما يسمعون عن الأكواخ الطينية، وفضْح جميع أكاذيبي، والدعابات الموجعة التي سأسمعها بعد ذلك. وفي كل مرةٍ أتذكَّر فيها يتلوَّى جسدي كما لو أنه تلقَّى ضربةً عنيفة في الصميم. كنتُ لا أزال أحاول إيجاد طريقةٍ لتبرير نفسي عندما دخل أبي إلى الفصل في اليوم التالي. رحَّبَت الآنسة هيفتي به بقوة، وعندما اتخذتُ مقعدي سمعتُ العديد من الأطفال يتساءلون ماذا يحدث. وأصبحتُ أكثرَ يأسًا عندما تبِعه دخول مدرس الرياضيات الضخم من سكان هاواي السيد إيلدريدج الذي لا يقبل الهراء ومعه ٣٠ طالبًا من الفصل المجاور لنا، ترتسِم الحيرة على وجوههم. بدأت الآنسة هيفتي الحوار قائلة: «لدَينا دعوة خاصة لكم اليوم.» وتابعت: «والد باري أوباما هنا اليوم، وقد قطع كلَّ هذه المسافة من كينيا في أفريقيا ليُخبرنا عن بلده.» نظر الأطفال إليَّ عندما وقف والدي، ورفعتُ أنا رأسي بعنادٍ أحاول أن أركِّز على نقطةٍ خاوية على السبورة خلفه. وعندما استطعتُ في النهاية أن أعود بنفسي إلى أرض الواقع كان قد بدأ هو الحديث منذ فترة. كان ينحني على مكتب الآنسة هيفتي السميك المصنوع من خشب البلوط ويصف الصدعَ العميق في الأرض حيث ظهر الجنس البشري لأول مرة. وتحدَّث عن الحيوانات المفترسة التي لا تزال تجول السهول، والقبائل التي لا تزال تطلب من الصبي الصغير أن يقتُل أسدًا كي يُثبت رجولته. وتحدَّث عن عادات قبيلة «لوو» وكيف يُعامَل الكبار بأقصى درجات الاحترام ويَسنُّون القوانين التي يتَّبعها الجميع أسفل أشجار ضخمة. وأخبرنا عن صراع كينيا لتنال حريَّتها وكيف أراد البريطانيون أن يبقوا بها ويحكموا أهلها ظلمًا كما فعلوا في أمريكا، وكيف رزح الكثيرون تحت قيد العبودية بسبب لون بشرتهم فحسب مثلما حدث في أمريكا، ولكن الكينيين، مثل جميع مَن في الغرفة، كانوا يتوقون للحرية وتطوير أنفسهم عبْر العمل الجاد والتضحية. وعندما انتهى من حديثه كانت الآنسة هيفتي تشعُّ فخرًا. وجميع زملائي في الفصل يصفِّقون بحرارة، وقليل منهم استجمع شجاعته ليطرح أسئلةً بدا أبي يفكِّر فيها جيدًا قبل الإجابة عليها. وانطلق جرس الغداء، فجاء السيد إيلدريدج إليَّ. وقال: «إن والدك مُثير للإعجاب حقًّا.» وقال الصبي ذو الوجه الأحمر الذي سألني عن آكلي لحوم البشر: «والدك لطيف حقًّا.» وفي أحد الجوانب رأيتُ كوريتا تشاهد أبي وهو يودِّع بعض الأطفال. وبدت عاقدة العزم على ألا تبتسِم، ولم يبدُ على وجهها سوى نظرة رضًا. ••• وبعد أسبوعَين رحل أبي. وفي ذلك الوقت وقفنا معًا أمام شجرة الكريسماس لنلتقِط بعض الصور، وهي الصور الوحيدة التي أحتفظ بها وتضمنا معًا، وأنا أحمل كرة سلة برتقالية اللون وهي هديتُه لي، وهو يستعرض رابطة العنق التي اشتريتُها له (وقال لي وقتَها: «سيعرف الناس أنني رجلٌ مهم للغاية لأني أرتدي رابطة العنق هذه.») وفي حفلٍ موسيقيٍّ ﻟ «ديف بروبيك» جاهدتُ كي أجلس بهدوء في القاعة المظلِمة إلى جواره، وأنا لا أستطيع أن أتابع المعادلات الصوتية التي كان العازفون يقومون بها، وحرصتُ على أن أصفِّق وقتما يُصفِّق. ولأوقاتٍ قصيرةٍ في اليوم كنتُ أستلقي إلى جواره ونحن الاثنان وحدَنا في الشقة المؤجَّرة من الباطن من سيدةٍ عجوز متقاعِدة لا أذكر اسمها، والمكان مليء بالألحفة ومناديل المائدة وأغطية المقاعد المنسوجة من عُقَد من الخيط، وكنتُ أقرأ كتابي وهو يقرأ كتابه. وظل غامضًا في نظري؛ كِيان حاضر إلى جواري، وعندما كنتُ أقلِّد إيماءاته أو عباراته لا أعرف أصلها أو نتائجها، ولا أرى كيف تموت بمرور الوقت. لكني أصبحتُ معتادًا على رفقته. وفي يوم رحيله وبينما كنتُ أساعده أنا وأُمي كي يحزم حقائبه أخرجَ أسطوانتَين، من تلك المصمَّمة لتدور ٤٥ دورة في الدقيقة، في غلافٍ بُني باهت. وقال: «باري، انظر هنا لقد نسيتُ أني أحضرتُ لك هذه. إنها صوت قارتك.» استغرق بعض الوقت ليعرف كيف يتعامل مع جهاز تسجيل جَدي العتيق، ولكن في النهاية بدأت الأسطوانة تعمل، ووضع هو بحذرٍ شديد الإبرة في مكانها. ثم بدأ ينبعث صوت موسيقى جيتار عالية النغمة، ثم أبواق حادة، وإيقاع قرع طبول، ثم الجيتار مرة أخرى ثم الأصوات واضحة ومليئة بالسعادة وهي تعلو فوق الإيقاع في الخلفية وتشجِّعنا. قال والدي: «تعالَ يا باري.» وتابع: «ستتعلم من الأستاذ.» وفجأة بدأ جسده النحيل يتمايل إلى الأمام وإلى الخلف، وكان الصوت يرتفع، وذراعاه تتمايلان وكأنهما تغزلان شبكةً غير مرئية، وقدماه تتحرَّكان على الأرض في حركةٍ غير عادية، وساقه المصابة ثابتة لكن رِدفه كان عاليًا ورأسه إلى الخلف، ووركاه يتحرَّكان في دائرة ضيقة. وتسارعت الأنغام، ودوَّى صوت الأبواق، وأغلق هو عينَيه ليُتابع استمتاعه، ثم فتح إحدى عينَيه ليلقي نظرةً عليَّ، وارتسمت ابتسامةٌ ساذَجة على وجهه الوقور، وابتسمت والدتي وجاء جَدَّاي ليريا ما هذه الضوضاء. خطوتُ أولى خطواتي التجريبية وعيناي مغمضتان وذراعاي تتمايلان إلى الأسفل ثم إلى الأعلى، والأصوات تعلو. وكنتُ لا أزال أسمعه. فعندما كنت أتابع خطواته على أنغام الموسيقى أطلق أبي صيحةً سريعة مرحة وعالية؛ صيحةً تترك الكثير خلفنا وتتوق للمزيد، صيحةً تتوق للضحك.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/4/
الفصل الرابع
«إنني لن أذهب إلى حفلات بوناهو التافهة هذه مرةً أخرى يا رجل.» «نعم، هذا ما قلته المرة السابقة.» جلستُ أنا وراي إلى إحدى الموائد وفككنا لفافةَ شطائر الهامبورجر. كان راي يكبرني بعامَين، فكان في السنة الأخيرة وجاء إلى مدرستنا قادمًا من لوس أنجلوس العام السابق نتيجةً لنقل والدِه من عمله في الجيش. ومع أن هناك فارقًا في السنِّ بيننا فقد كان من السهل أن نُصبح أصدقاءَ وهو ما يرجع إلى حدٍّ بعيد إلى أننا نمثِّل معًا تقريبًا نصف عدد السود في مدرسة بوناهو الثانوية. وكنتُ أستمتِع برفقته؛ فقد كان يتمتَّع بدفءٍ وخفةِ ظل متهورةٍ تعوِّض عن إشارته الدائمة إلى حياته السابقة في لوس أنجلوس، وإلى حاشيته من النساء اللائي كن، كما يزعم، لا يزلنَ يتصلنَ به هاتفيًّا كلَّ ليلةٍ مع بُعد المسافة، وإلى إنجازاته السابقة في كرة القدم، وإلى المشاهير الذين عرفهم. وكنتُ أميل إلى ألا أُلقي بالًا لمعظمِ الأشياء التي يقولها، ولكن ليس جميعها؛ فقد كان صحيحًا على سبيل المثال أنه كان من أسرع العدَّائين في الجزيرة، وقال البعض عنه إنه كان في مستوَى عدائي الأولمبياد. هذا مع أن له كرشًا ضخمة لا تتناسب مع سرعة عدْوِه كانت تهتز أسفل قميصه المشبع بالعَرق كلما ركض، تاركًا وراءه المدربين والخصوم يهزون رءوسهم غير مُصدِّقين. وعن طريق راي اكتشفتُ حفلات السُّود التي كانت تُقام داخل الجامعة أو خارجها في القواعد العسكرية، واعتمدتُ عليه في تسهيل طريقي إلى الأماكن غير المألوفة لي. وفي المقابل كنت أستمع إليه وهو يشكو من إحباطه. وكان يقول لي في تلك اللحظة: «أنا جادٌّ هذه المرة.» وتابع: «هؤلاء الفتيات عنصريات من الدرجة الأولى، جميعهن. الفتيات البِيض. والفتيات الآسيويات. اللعنة عليهن، أولئك الآسيويات أسوأ من البِيض. تظنُّ أننا مُصابون بمرضٍ أو شيء من هذا القبيل.» «ربما ينظرنَ إلى مؤخرتِك الضخمة. يا رجل لقد ظننتُ أنك تتدرَّب.» «أبعِد يدَيك عن بطاطسي المقلية. إنك لستَ حبيبي أيها الزنجي … اشترِ لنفسك منها، ما الذي كنتُ أتحدَّث عنه؟» «إذا رفضت فتاة الخروج معك فهذا لا يجعلها عنصرية.» «لا تكن غبيًّا، إنني لا أتحدَّث عن مرةٍ واحدة فقط. فقد طلبتُ من مونيكا الخروج معها، وقالت لا. فقلت لها حسنًا، إنك لستِ شديدة الإغراء على أية حال.» وتوقَّف راي كي يرى ردَّ فعلي، ثم ابتسم. واستأنف: «حسنًا، ربما لم أقُل لها هذا بالضبط. فقلتُ لها حسنًا يا مونيكا، لكننا لا نزال أصدقاء مقرَّبين. وبعد ذلك أعرف أنها ارتبطت بستيف ياماجوتشي «البدين»، ويسيران وهما مُتشابكا الأيدي كأنهما طائرا غرام. فأقول لنفسي حسنًا الفتيات كثيرات من حولنا. فأطلُب من باميلا الخروجَ إلى الحفل الراقص معي. فتقول لي إنها لن تذهب. فأقول لا بأس. وعندما أصل إلى هناك، خمِّن مَن كان هناك يلفُّ ذراعه حول ريك كوك. لقد كانت هي وتقول: «مرحبًا يا راي» كما لو أنها لا تعرف ما يحدث. وتتابع: «ريك كوك! الآن تعلم أن هذا الرجل ليس سيئًا. ذلك اللعين الحقير لا يزيد عني شيئًا، أليس كذلك؟ لا شيء.» وملأ فمه بملء يدِه من البطاطس. وقال: «وبالمناسبة، هذا الأمر لا ينطبق عليَّ وحدي، فلا أرى أن حالك أفضل منِّي في هذا المجال.» فقلتُ في نفسي إن السبب في هذا هو أنني خجول، ولكني لن أعترف بهذه المسألة له أبدًا. فراي سوف يستغل الفرصة. «أخبِرني ماذا يحدث إذن عندما نخرج إلى حفل مع بعض الأخوات؟ ماذا يحدث؟ أنا سأخبرك ماذا يحدث. مفاجأة! إنهن يتوافدنَ علينا مُسرعاتٍ متلهفات. فتيات المدرسة الثانوية، وفتيات الجامعة، لا يهم. يتصرفنَ بلُطف. كلهن يبتسمن. وتجد الواحدة منهن تقول: «بالطبع يمكنك الحصول على رقم هاتفي يا حبيبي.» أراهن على ذلك.» «حسنًا …» «حسنًا ماذا؟ اسمعني، لماذا لا تحصل على وقتٍ أطول في اللعب في فريق كرة السلة؟ على الأقل اثنان منهم لا يتفوقان عليك في شيء، وأنت تعرف هذا، وهما يعرفان هذا. لقد رأيتك وأنت تتفوَّق عليهما في الأداء في الملعب، لا مجال للمنافسة بينكم. لماذا لم أبدأ أنا في فريق كرة القدم هذا الموسم، بصرف النظر عن العدد الكبير من التمريرات التي تسقط من يد الشاب الآخر؟ لا تُخبرني أننا لم نكن لنحظى بمعاملةٍ مختلفة لو كنا من البِيض. أو يابانيين. أو من هاواي. أو حتى من الإسكيمو اللعين.» «ليس هذا ما أعنيه.» «ما الذي تعنيه إذن؟» «حسنًا، إليك ما أعنيه. صحيح أنه من الصعب مواعدة الفتيات لأنه لا تُوجَد فتيات سوداوات في هذا المكان. لكن هذا لا يجعل جميع الفتيات هنا عنصريات. ربما يردنَ شخصًا يُشبه آباءهن أو إخوتهن أو أيَّ شخصٍ آخر ونحن لسنا كذلك. وصحيح، قد لا أكون أحصل على الفرَص التي يحصل عليها الآخرون في الفريق، ولكنهم يلعبون مثلما يلعب الفتية البِيض وهذا هو الأسلوب الذي يحب المدرِّب اللعب به، ويفوزون بهذا الأسلوب الذي يلعبون به، وأنا لا ألعب بهذا الأسلوب.» ثم أضفتُ وأنا أمدُّ يدي لألتقِط آخِر ما تبقَّى من البطاطس التي يتناولها: «أما أنت أيها البدين فأظنُّ أن المدربين قد لا يُحبونك لأنك أسود يظنُّ نفسه أذكى ممن حوله، لكن قد يُساعدك التوقُّف عن تناول هذه المقليَّات التي تجعلك تشبه امرأةً حاملًا في ستة أشهر. وهذا ما أعنيه.» قال راي: «لا أدري يا رجل لِمَ تجد لهؤلاء القوم أعذارًا؟!» ونهض وكوَّم ما أمامه من مهملاتٍ محولًا إيَّاها إلى كرة صغيرة.» وتابع: «دعنا نخرج من هنا. فحديثك أصبح معقَّدًا للغاية.» ••• كان راي على حق، الأمور أصبحت معقَّدة. كان قد مرَّ خمس سنوات على زيارة أبي، وكانت فترةً هادئة، في الظاهر على الأقل، تُميزها الطقوس والشعائر التي تتوقَّعها أمريكا من أبنائها؛ تقارير تُرسَل لعائلتي تخبرهم عن مستواي المتدني، واستدعاءات إلى مكتب الناظر، وعمل لنصف دوام في سلسلةِ مطاعم للهامبورجر، والإصابة بحبِّ الشباب، واختبارات قيادة السيارات، والرغبات الجامحة. وأصبح لي عددٌ لا بأس به من الأصدقاء في المدرسة، وخرجتُ في مواعداتٍ غريبةٍ من حين لآخر؛ وإذا كانت الحيرة قد انتابتني في بعض الأحيان تجاه إعادة الترتيب الغامضة للمكانة التي تحدث بين رفاقي في الفصل — فبعضهم ترتفع مكانته وتتراجع مكانة الآخر اعتمادًا على نزوات أجسادهم أو طراز سياراتهم — فإني شعرت بالارتياح لأن وضعي كان يتحسَّن بانتظام. ونادرًا ما كنتُ أقابل فتيةً لدى أُسَرهم أقلُّ مما لدى أسرتي حتى يُذكِّروني بأني سعيد الحظ. ولكن والدتي كانت تبذل قصارى جهدها لتُذكِّرني بهذا. فقد انفصلت عن لولو وعادت إلى هاواي بعد وقتٍ قصير من وصولي سعيًا وراء الحصول على درجة الماجستير في علم الإنسان. ولثلاثة أعوامٍ عشتُ معها ومع مايا في شقةٍ صغيرة على بُعد مجمع سكني واحد من بوناهو، وعشنا نحن الثلاثة على المنحة الدراسية التي تتلقَّاها والدتي. وفي بعض الأحيان، عندما كنتُ أُحضِر أصدقاء معي بعد انتهاء اليوم الدراسي، كانت أمي تسمعهم وهم يُعلِّقون على نقص الطعام في الثلاجة أو الإدارة غير المتميزة لشئون المنزل، فكانت تنتحي بي جانبًا وتُخبرني أنها أم وحيدة عادت لصفوف الدراسة وترعى طفلَين، ومن ثَم فإن صُنْع البسكويت ليس على رأس قائمة أولوياتها، وفي حين أنها كانت تُقدِّر التعليم المتميز الذي أتلقَّاه في بوناهو فإنها لم تكن تُخطِّط لتحمُّل أي سلوكٍ متعالٍ مني أو من أي شخصٍ آخر، فهل هذا مفهوم؟ وكان ذلك مفهومًا لي، ورغم مطالبي المتكررة للاستقلال التي كنتُ أطلبها في بعض الأحيان بوجهٍ عابس مُتجهِّم فقد ظللنا مقرَّبين، وكنت أفعل ما بوسعي لمساعدتها قدرَ ما يمكنني؛ فأذهب للتسوُّق، وأغسل الملابس، وأعتني بأُختي التي أصبحت طفلةً ذكية سوداء العينَين. لكن عندما أصبحت والدتي مُستعدةً للعودة إلى إندونيسيا للقيام بعملها الميداني، واقترحَتْ أن أعود معها هي ومايا وألتحق بالمدرسة الدولية هناك، رفضتُ على الفور. فقد كانت تُساورني الشكوك في ذلك الوقت حيالَ ما يمكن لإندونيسيا أن تُقدِّمه لي، إلى جانب أني سئمتُ البدء من جديد مرةً أخرى. والأهم من هذا هو أنني توصَّلتُ إلى معاهدةٍ غير معلنة مع جَديَّ فحواها أنه يمكنني الذهاب للعيش معهما وهما سيتركانني وشأني ما دمتُ أُبقي مشكلاتي بعيدًا عنهما. وكان ذلك الاتفاق يُناسِب هدفي، وهو الهدف الذي كنتُ أحدِّده لنفسي بشقِّ الأنفس، ناهيك عن توضيحه لهما. وبعيدًا عن والدتي وجَديَّ كنتُ أمرُّ بصراعٍ داخلي لا يهدأ. فكنتُ أحاول أن أُعِدَّ نفسي لأكون رجلًا أسود في أمريكا، وفيما عدا مظهري، لم يبدُ أن أحدًا ممن حولي يعرف بالضبط ماذا يعني هذا. ولم تقدِّم لي خطابات أبي سوى بعض الخيوط التي يمكنني تتبُّعُها. وكانت تصِل على فتراتٍ متقطعة في صفحةٍ زرقاء واحدة ويكون لسان ظرف الرسالة مطويًّا بمادة لاصقة تجعل أيَّ كتابات على الهوامش غير واضحة. كان يقول في خطاباته إن الجميع بخير، ويمتدح تقدُّمي في دراستي، ويؤكد أنه يرحِّب بي وبوالدتي وبمايا أن نحصل على المكان الجدير بنا إلى جواره وقتما نريد ذلك. ومن آنٍ لآخر كان يُسدي لي بعض النصائح عادةً في شكل حكمةٍ لم أكن أفهمها بوضوح (مثل «مثلما يصل الماء إلى منسوبه فإنك ستصل إلى المهنة التي تُناسبك.») وكنت أردُّ على خطاباته على الفور في صفحةٍ عريضة مسطرة، وتشقُّ خطاباته طريقها إلى الخزانة بجانب الصور التي تحتفظ بها أُمي له. وكان لدى جَدي عددٌ من الأصدقاء السود هم في الأغلب زملاء له في لعبتَي البوكر والبريدج، وقبل أن أكبر بما يكفي لئلا أهتمَّ بأن أجرح مشاعره كنتُ أتركه يجرُّني معه إلى واحدةٍ من ألعابهم. كانوا رجالًا مُتقدِّمين في السن يرتدون ملابسَ أنيقةً وأصواتهم جشة وملابسهم ينبعث منها رائحة السيجار؛ أي نوع الرجال الذين في نظرهم كل شيءٍ له مكانه المحدَّد، والذين يظنون أنهم رأوا ما يكفي حتى إنه لا يجب إضاعة الكثير من وقتهم بالحديث عنه. وكلما رأوني ربَّتوا على ظهري بمرحٍ وسألوني عن حال أمي، ولكن ما إن يحين وقت اللعب لا يتفوَّهون بشيءٍ سوى الشكوى لشركائهم في اللعب من النقاط التي توقَّعوا أن يحصلوا عليها. كان هناك استثناء، وهو شاعر اسمه فرانك، يعيش في منزلٍ خربٍ في جزءٍ من وايكيكي حالته متدهورة. وقد طاردته سمعةٌ سيئة لبعض الوقت، وكان معاصرًا لريتشارد رايت ولانجستون هيوز في السنوات التي قضاها في شيكاغو، وقد أراني جَدي ذات مرة بعضًا من أعماله اختُيرت لتُنشَر في ديوانٍ من دواوين حركة الشِّعر الأسود. ولكن في الوقت الذي قابلتُ فيه فرانك كان يناهز الثمانين من عمره وله وجه ضخم به لُغد، وشعر أفريقي طويل مجعَّد رمادي اللون وغير ممشَّط مما جعله يُشبه أسدًا عجوزًا أشعث الشعر. وكلما مررنا بمنزله قرأ لنا قصائده واحتسى مع جَدي الويسكي الموضوع في برطمان مُفرغ لهذا الغرض. وبعد انقضاء الليل يستجدي كلاهما مساعدتي في تأليف قصائد فكاهية خماسية الأبيات لا قيمةَ أدبية لها. وفي النهاية يتحوَّل الحوار إلى الانتحاب على النساء. وكان فرانك يقول لي بجدية: «إنهن سيقُدنَك إلى احتساء الخمر يا فتى.» ويتابع: «وإذا سمحتَ لهنَّ بذلك فسيُهلِكنك.» أسَرَتني شخصية فرانك العجوز، بكتُبه ورائحة الويسكي التي تنبعث من أنفاسه، والإشارة إلى المعرفة التي اكتسبها بشقِّ الأنفس التي أراها خلف عينَيه الغليظتَي الجفنَين وتبدو شبه مغمضة. ودائمًا ما كانت الزيارات إلى منزله تتركني أشعر بعدم الارتياح بصورةٍ غامضة، وكأني كنتُ أشهد صفقةً تجارية غير معلنة ومعقَّدة بين الرجُلَين، صفقة لم أستطِع فهْمها بالكامل. وكلما اصطحبني جَدي إلى وسط المدينة إلى إحدى حاناته المفضَّلة الموجودة في حي الدعارة في مدينة هونولولو انتابني الشعور نفسه. وكان يقول لي وهو يغمز بعينِه: «لا تخبِر جَدتك»، وكنا نمرُّ أمام فتيات ليل ناعمات الجسد جامدات الملامح قبل الوصول إلى حانةٍ صغيرة مُظلمة بها جهاز فونوغراف آلي يعمل بالعملة وطاولتان للعب البلياردو. ولم يبدُ أن أحدًا اهتمَّ بأن جَدي هو الرجل الأبيض الوحيد في المكان، أو أنني لم أكن إلا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمري. وكان بعض الرجال يتكئون على بار الحانة ويلوِّحون ناحيتنا، وأحضرَت ساقية الحانة — وهي سيدة ضخمة فاتحة البشرة لها ذراعان ممتلئتان عاريتان — شراب الويسكي من نوع سكوتش لجَدي وأحضرت كوكاكولا لي. وعندما تكون الطاولة خالية يُعطيني جَدي بعض الكرات ويعلِّمني اللعبة، لكني عادة كنت أجلس إلى البار وساقاي تتدليان من على الكرسي العالي، وأنفخ الفقاقيع في شرابي وأنظر إلى الرسوم الإباحية المعلَّقة على الحوائط؛ رأيت نساء برَّاقات وهنَّ يرتدين جلود الحيوانات، وشخصيات ديزني في أوضاعٍ فاضحة. وعندما يكون رودني — وهو رجلٌ يرتدي قبعة عريضة الحواف — موجودًا هناك يتوقف إلى جانبي ليرحِّب بي: «كيف يسير حال الدراسة أيها القائد؟» «بخير.» «إنك تحصل على امتياز، أليس كذلك؟» «في بعض المواد.» وكان يقول وهو يُخرِج ٢٠ دولارًا من بين كومةٍ سميكة من النقود أخرجها من جيبه: «هذا أمرٌ رائع، يا سالي، قدِّمي لهذا الرجل كوبًا آخر من الكوكاكولا» ثم يختفي في الظلام. لا أزال أذكُر الإثارةَ التي كنتُ أشعر بها في أثناء تلك الرحلات الليلية، وجاذبية الظلام وصوت كرة البلياردو، وجهاز الفونوغراف الآلي وهو يُطلق أضواءه الحمراء والخضراء، والضحكات المنهكة التي كانت تتردَّد في أنحاء الحانة. وحتى في ذلك الوقت، ومع صِغَر سِني فقد بدأتُ أشعر بالفعل أن معظم الناس في الحانة لم يكونوا هناك باختيارهم، وأن ما كان جَدي يسعى إليه هناك هو رفقة أناسٍ بإمكانهم مساعدته على نسيان مشكلاته الخاصة، أناس كان يعتقد أنهم لن يشكلوا آراء عنه. وربما تكون الحانة قد ساعدته بالفعل على النسيان، لكني عرفت بغريزة الطفل التي لا تخطئ أنه كان مخطئًا بشأن آراء الآخرين عنه. فقد كانوا هم أيضًا يشعرون أننا مُجبرون على الوجود هناك، وعندما وصلتُ إلى المرحلة الإعدادية تعلمتُ أن أعتذِر عن دعوات جَدي وأنا أعلم أنه مهما كان ما أسعى إليه، ومهما كان ما أحتاج إليه، فإنه يجب أن يأتي من مصدر آخر. التليفزيون والسينما والراديو: كانت هذه هي الأماكن التي بدأتُ منها. وكانت ثقافة البوب حصرية على الملوَّنين كأنها معرضٌ من الصور التي يمكنك منها اختلاس أسلوب في السير أو الحديث أو خطوة في رقصةٍ أو في أسلوب ارتداء الملابس. ولم يكن بإمكاني الغناء مثل مارفين جاي، لكني استطعتُ تعلُّم جميع الخطوات الراقصة ببرنامج «سول ترين». ولم يكن بإمكاني أن أحمل سلاحًا مثلما شاهدتُ في فيلمَي «شافت» أو «سوبرفلاي»، لكن كان بإمكاني بالطبع إطلاقُ السباب مثل ريتشارد براير. وكنت أستطيع لعبَ كرة السلة بعاطفةٍ شديدة تتخطى دائمًا مهارتي المحدودة. وقد جاءت هدية أبي للكريسماس عندما بدأ فريق كرة السلة في جامعة هاواي يتقدَّم في الترتيب القومي بفضل فريقٍ جميع لاعبيه الخمسة من السود الذين أحضرتهم المدرسة من مختلف الولايات الأمريكية والذين تبدأ بهم المباراة. وفي ذلك الربيع اصطحبني جَدي إلى إحدى مبارياتهم وشاهدتُ اللاعبين وهم في تمرينات الإحماء، وكانوا لا يزالون فتيانًا لكنهم بدوا لي مقاتلين جسورين واثِقين بأنفسهم، يضحكون على دعابات يُلقونها فيما بينهم، أو ينظرون فوق رءوس المعجبات اللائي يتودَّدنَ إليهم حتى يغمزوا بعيونهم للفتيات الموجودات على الخط الجانبي، أو يتناقلون الكرة من حينٍ لآخر بيد واحدة وهم بجوار السلة، أو يصوِّبون كرات قوسية تجاه السلة وهم يقفزون عاليًا حتى تنطلق الصفَّارة، وكذلك قفزة لاعبي الوسط واشتراك جميع اللاعبين في معركة ضارية. قررتُ أن أصبح جزءًا من هذا العالم، وبدأتُ أتردَّد على ملعبٍ بالقرب من شقة جَديَّ بعد المدرسة. وكانت جَدتي تُشاهدني من نافذة غرفة نومها على ارتفاع ١٠ طوابق في الملعب حتى بعد أن يُسدِل الليل ستائره بوقتٍ طويل عندما كنتُ أقذف الكرة بكلتا يديَّ في البداية، ثم تطورتُ إلى التسجيل وأنا أقفز بطريقةٍ غريبة، والمناورة بالكرة بسرعةٍ بين كلتا يدي، وأستغرق في الحركات الفردية نفسها ساعةً بعد ساعة. وعندما التحقتُ بالمدرسة الثانوية لعبت في فريق بوناهو، واستطعتُ أن ألعب في الجامعة حيث علَّمني بعض الرجال السود — معظمهم ممن يقضون أغلب أوقاتهم في صالة الألعاب الرياضية أو ممن كانوا يومًا من ذوي الشأن — أشياء لم تكن تتعلَّق بالرياضة فقط. علموني أن الاحترام ينبع مما يفعله المرء وليس من هوية أبيه. وأنه يمكن للمرء الحديث عن أمورٍ لإثارة حنق خصمه لكن عليه أن يُغلق فمه اللعين إذا لم يكن بإمكانه دعم ما يقول. وألا يدَع أحدًا يتسلَّل إلى أعماقه ليرى مشاعر، مثل الألم والخوف، لم يشأ أن يراها أحد. وهناك شيء آخر أيضًا، شيء لم يتحدَّث عنه أحد؛ طريقة للتماسك عندما تكون المباراة حرجة، والعَرق الغزير يغمر اللاعبين، عندما يتوقَّف أفضل اللاعبين عن القلق بشأن تسجيل النقاط، وتجرف المباراة أسوأ اللاعبين، ويُصبح ما يهمُّ هو النقاط فقط لأن هذه هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على نشوة المباراة. وفي غمرة كلِّ هذا قد يقوم اللاعب بحركةٍ أو يمرِّر تمريرة تُفاجئه هو شخصيًّا، حتى إن اللاعب الذي يتولى مراقبته لا يملك إلا أن يبتسِم كما لو أنه يقول: «اللعنة …» وعند هذه النقطة من القصة تدير زوجتي عينَيها. فقد نشأت مع أخٍ نجم في لعبة كرة السلة، وعندما تريد أن تُثير ضيقَ أيٍّ منَّا تصرُّ على أنها تفضِّل أن ترى ابنها يعزِف على آلة التشيلو. إنها على حقٍّ بالطبع؛ فقد كنتُ أعيش بداخل صورةٍ مشوَّهة ومغالًى فيها لمراهَقةِ شابٍّ أسود، وهي في حدِّ ذاتها صورة مشوَّهة ومغالًى فيها لمرحلة الرجولة الأمريكية المختالة. لكن عندما يكون من المفترض ألا يريد الأبناء اتباع خُطى آبائهم المنهكة، عندما لا يكون من المفترض أن تملي مُتطلبات العمل في الحقل أو المصنع على المرء هويته حتى إن الكيفية التي ينبغي أن يعيش بها المرء تُباع جاهزةً أو تُوجَد في مجلة، يكون الاختلافُ الرئيسي بيني وبين معظم الشبابِ من حولي — راكبي الأمواج ولاعبي كرة القدم ومَن سيصبحون عازفي موسيقى الروك آند رول على الجيتار — يكمن في العدد المحدود من الخيارات المتاحة أمامي. فكلٌّ منا اختار رداءً؛ درعًا ضد الشك. وعلى الأقل في ملعب كرة السلة كان بإمكاني إيجادُ مجتمعٍ من نوعٍ ما له حياته الخاصة. هناك كوَّنت أقربَ صداقاتٍ لي من الشباب البِيض، في مجالٍ لم يكن سواد البشرة عيبًا. وهناك قابلتُ راي وأترابي من الفتية السود الآخرين الذين بدءوا يتوافدون على الجزيرة رويدًا رويدًا، والذين كانوا مراهقين ساعدَتْ حيرتهم وغضبهم في تكوين حيرتي وغضبي. وكان بعضهم يقول ونحن وحدنا: «هكذا بالضبط سيُعاملك البِيض.» ويضحك الجميع ويهزون رءوسهم، وينطلق عقلي يُبحر في سجلٍ من المواقف المهينة: أول صبي في الصف السابع، الذي أطلق عليَّ عبد أسود، ثم دموع المفاجأة التي انهمرت من عينَيه وهو يسألني: «لماذا فعلت هذا؟» عندما أدميتُ أنفه. وذاك الذي كان يتدرَّب معي في دورة التنس الذي قال لي إنه يجب ألا ألمس جدول المباريات الملصَق بدبُّوس إلى لوحة النشرات لأن لوني قد يزول، وابتسامة وجهه الأحمر رفيعِ الشفتَين عندما هدَّدتُ بأن أُبلغ عنه وهو يقول: «ألا يمكنك تقبُّل الدعابات؟» وتلك السيدة العجوز — التي تقطن في مبنَى جَدي نفسِه — التي ثارت عندما دخلتُ المصعد وراءها وهُرعت خارجةً منه لتخبر المدير أنني أُلاحقها، ورفضها أن تعتذِر بعد أن علمَتْ أنني أعيشُ في المبنى نفسه. ومساعد مدرِّب فريق كرة السلة، وهو شاب نحيل من نيويورك يرتدي سترةً أنيقة، قال بعد مباراةٍ لم يُخطَّط لها مع بعض الرجال السود الثرثارين على مقربةٍ منِّي أنا وثلاثة من رفاقي في الفريق إنه ما كان يجب أن نخسر أمام حفنةٍ من الزنوج، والذي شرح لي بهدوء الحقيقة التي تبدو واضحةً وهي «هناك أُناس سود وهناك زنوج. وهؤلاء الأشخاص زنوج»، كان ذلك عندما قلتُ له بغضبٍ، فاجأني أنا شخصيًّا، اخْرَسْ. هكذا بالضبط سيُعاملك البِيض. المشكلة لم تكن تتعلَّق بقسوة الأمر فقط؛ فقد علمتُ أيضًا أن الرجال السود قد يكونون وضيعِين، بل أكثر من ذلك. لقد كان نوعًا خاصًّا من الغرور؛ بلادة عقل يتمتَّع بها أناسٌ يكونون فيما عدا ذلك عقلاء وتدفعنا إلى الضحك بمرارة. لقد كان الأمر كما لو أن البِيض لم يكونوا يعرفون أنهم قُساة في المقام الأول. أو على الأقل يرَون أننا نستحقُّ ازدراءهم. «البِيض». كان المصطلح نفسُه غيرَ مريح على لساني في البداية، فكنتُ أشعر أنني أجنبي أتلعثم في نطق عبارةٍ صعبة. وفي بعض الأحيان أجد نفسي أتحدَّث إلى راي عن «هؤلاء البِيض» و«أولئك البِيض»، ثم أتذكَّر فجأة ابتسامة أُمي فتبدو لي الكلمات التي أتفوَّه بها غريبة وزائفة. أو أكون أساعد جَدي في تجفيف الأطباق بعد العشاء وتأتي جَدتي وتقول إنها ستأوي إلى الفراش، وتبرق كلمة «البِيض» في ذهني مثل إشارة لامعة مضيئة، فأهدأ فجأة كما لو أن لديَّ أسرارًا أحتفظ بها. وبعد ذلك، عندما أكون وحدي أحاول أن أحلِّل هذه الأفكار الصعبة. وكان واضحًا أن هناك بعض الأشخاص البِيض الذين يمكن أن نستثنِيَهم من الفئة العامة التي لا نثِق بها، وكان راي دائمًا ما يتحدَّث عن لطفِ جَديَّ. ورأيتُ أن مصطلح أبيضَ أصبح عنده اختصارًا، علامة مميزة لمن يمكن أن تطلِق عليه أُمي شخصًا متعصبًا. ومع أني أدركتُ خطورة المصطلحات التي يستخدمها، وكم من السهل أن يهوي المرء إلى هوة هذا التفكير المختلِّ الذي ظهر على مُدرب كرة السلة (الذي قلتُ له قبل أن أخرج من الملعب في ذلك اليوم: «هناك أشخاص بِيض، وهناك جهلة حقراء مثلك»)، وقد أكد لي راي أننا لن نتحدَّث قطُّ عن البِيض على أنهم بِيض أمام البِيض دون أن نعرف بالضبط ماذا نفعل. ودون أن نعرف أنه قد يكون هناك ثَمن ندفعه. ولكن هل هذا صحيح؟ هل كان لا يزال هناك ثَمن لندفعه؟ هذا هو الجزء المعقَّد، الشيء الذي لم أستطِع أنا وراي أن نتَّفِق عليه قط. وفي بعض الأحيان كنتُ أسمع راي وهو يتحدَّث إلى فتاةٍ شقراء قابلَها لتوِّه عن الحياة في شوارع لوس أنجلوس الفقيرة، أو أسمعه يشرح — لمدرسٍ شابٍّ مُتحمس — الندبات التي تركتها العنصرية، وأكاد أُقسِم أنه وراء تلك التعبيرات الجادة كان راي يغمز لي بعينه ليجعلني أشترك في الحوار. وكان وكأنه يقول لي إن غضبنا على البِيض لا يحتاج إلى سبب، ولا إلى تأكيد مُستقل، إنه شعور يمكن أن نجعله يظهر ويختفي وقتما نشاء. وفي بعض الأحيان — بعد أحد هذه العروض التمثيلية — كانت الشكوك تُساورني حول حُكمه، إن لم يكن إخلاصه. وكنتُ أُذكِّره أننا لا نعيش في الجنوب في ظل قوانين جيم كرو، ولم يُلقَ بنا في مشروع إسكانٍ ليس به وسائل تدفئة في هارلم أو برونكس. إننا في هاواي اللعينة، نقول ما نشاء ونأكل حيثما نشاء ونجلس في مقدمة الحافلة التي يستقلها الجميع. ولا يُعاملنا أيٌّ من أصدقائنا البِيض، أمثال جيف وسكوت في فريق كرة السلة، بطريقةٍ مختلفة عن تلك التي يتعاملون بها بعضهم مع بعض. إنهم يُحبوننا ونحن نُحبهم. بل نِصْفهم تقريبًا يبدو وكأنه يودُّ لو أنه أسود اللون، أو على الأقل مثل الدكتور جيه. وكان راي يعترف بصحَّةِ هذا. ومِن ثَم فربما يمكننا أن نمنح موقف الزنجي السيئ هذا بعض الراحة. وندَّخِره حتى نحتاج إليه حقًّا. فكان راي يهزُّ رأسه. ويقول: «موقف؟ تحدَّث عن نفسك فقط.» وكنتُ أعرف أن راي سيُشهِر ورقته الرابحة، تلك الورقة التي يُحسَب له أنه نادرًا ما يستخدمها. ورقة أنني، رغم كل شيء، مختلف وربما أكون مُشتبَهًا بي، ليست لدي فكرة عن هويتي الحقيقية. ولأني لم يكن لديَّ استعداد للمخاطرة بكشف نفسي، كنتُ أنسحب بسرعةٍ وأتحدَّث عن موضوعٍ أكثر أمانًا لي. فربما لو كنا نعيش في نيويورك أو لوس أنجلوس، لاستطعتُ استيعاب قواعد اللعبة الخطيرة التي نلعبها سريعًا. وتعلمتُ أن أنتقل جَيئةً وذهابًا بين العالمين الأبيض والأسود اللذين كنتُ أعيش فيهما، وتفهمتُ أن كلًّا منهما له لُغته وعاداته والمعاني الخاصة به، وكنت مقتنعًا أنه ببعض المجهود في الترجمة بين العالمين من جانبي يمكن في النهاية أن يلتحِما. ومع ذلك فقد استمرَّ الشعورُ بأنَّ هناك شيئًا يُراودني ليس على ما يُرام، جهازَ إنذار ينطلِق كلما ذكَرَتْ فتاةٌ بيضاء أثناء حديثها مدى حُبها لستيفي واندر، أو عندما سألتني سيدةٌ في المتجر هل ألعب كرة سلة، أو عندما أخبرني ناظر المدرسة أنني لطيف. لقد كنتُ أحب ستيفي واندر، وكنتُ أحب كرة السلة، وبذلتُ قصارى جهدي كي أكون لطيفًا طوال الوقت؛ فلماذا إذن كانت مثل هذه التعليقات تُثير قلقي؟ كنتُ أشعر أن هناك خدعةً ما، مع أني كنتُ لا أفهم ما تلك الخدعة، ومَن الذي يقوم بها، ومَن الذي يُخدع بها. وفي أحد أول أيام الربيع تقابلتُ أنا وراي بعد المدرسة وبدأنا نسير في اتجاه المقعد الحجري الذي يحيط بشجرة تين البنغال الضخمة في حرَم مدرسة بوناهو. وكان يُطلَق عليه «مقعد الكبار»، لكنه كان في الواقع نقطةَ تجمُّع جماعات الطلبة في المدرسة الثانوية؛ هواة الرياضة، وكبار المشجِّعين، وهواة الذهاب إلى الحفلات ومعهم التابعون لهم والمولعون بالمزاح، والمرافقات اللائي يتدافَعْن للحصول على مكانٍ على الدَّرجَات الدائرية. وكان أحد الطلاب في السنة النهائية، وهو مدافع عنيد اسمه كيرت، هناك وبمجرد أن رآنا صاح بصوتٍ عالٍ. نادى قائلًا: «مرحبًا راي! ما الأخبار يا رجل؟» فاتَّجه إليه راي وضرب يده براحته الممتدَّة. لكن عندما أعاد كيرت التحية لي لوَّحت له أن يتركني وشأني. وسمعتُه يقول لراي عندما سرتُ مبتعدًا: «ماذا به؟» وبعد بضع دقائق لحِق بي راي وسألني ما الأمر. «هؤلاء الناس لا يفعلون شيئًا سوى السخرية منَّا.» «ما الذي تتحدَّث عنه؟» «كل ذلك الهراء الذي يتحدَّثون به.» «مَن الآن الذي أصبح السيد الحسَّاس إذن؟ كيرت لا يعني شيئًا بهذا.» «إذا كان هذا ما ترى، إذن …» وفجأةً انفجر راي غضبًا. وقال: «انظر، إنني أُحاول أن أتعايَش فقط، أليس كذلك؟ مثلما رأيتُك تتعايش وتتحدَّث عن الرياضة التي تمارسها مع المدرِّسين عندما تحتاج إلى خدمةٍ يُقدِّمها لك أحدهم. كل تلك الأمور مثل «حسنًا يا آنسة سنوتي اللعينة، أظن أن القصة مثيرة للاهتمام، فقط إذا أمكن أن أحصل على يومٍ واحد إضافي لأنتهي من ذلك البحث، فسأُقبِّل يدك البيضاء اللعينة.» إنه عالمهم، أليس كذلك؟ إنهم يملكونه ونحن نعيش فيه. والآن اغرب عن وجهي بحق الجحيم.» وبحلول اليوم التالي كانت حرارة نقاشنا قد تبدَّدت، واقترح راي أن أدعو صديقينا جيف وسكوت إلى حفلٍ يُقيمه راي في منزله في العطلة الأسبوعية. تردَّدتُ لوهلة؛ إذ لم ندعُ أصدقاءَ بِيضًا إلى حفلٍ للسُّود قط، لكن راي أصرَّ، ولم أجد سببًا مُقنعًا للاعتراض. وكذلك جيف وسكوت؛ فقد وافق كلاهما على حضور الحفل ما دمتُ أوافق أن أُقلَّهما. وهكذا، بعد أن أنهينا إحدى مبارياتنا في مساء يوم السبت، ركِبْنا نحن الثلاثة سيارة جَدي القديمة من طراز فورد جراندا وشققنا طريقنا إلى القاعدة العسكرية سكوفيلد باراكس على بُعد ٣٠ ميلًا تقريبًا خارج المدينة. عندما وصلْنا كان الحفل قد بدأ، فتوجَّهنا لنحصل على بعض المرطبات. لم يبدُ أن حضور جيف وسكوت يُسبِّب أيَّ اضطراب، وقد قدَّمهما راي لمن في الغرفة وبدءوا يتحدَّثون قليلًا مع بعض الأشخاص، واصطحبا فتاتَين للرقص معهما. لكني رأيتُ بوضوح أن المشهد قد أذهل صديقيَّ الأبيضَين. فكانا يبتسمان كثيرًا. وينتحِيان جانبًا في أحد الأركان، وكانا يومِئان برأسيهما من حينٍ لآخر بخجلٍ وعدم ارتياح لضربات الموسيقى، ويقولان: «معذرة» كلَّ بضع دقائق. وبعد ساعة تقريبًا طلبا أن أصطحبهما إلى المنزل. وعندما ذهبتُ إلى راي لأُخبره أننا سنغادر، قال بصوتٍ عالٍ محاولًا التغلُّب على صوت الموسيقى: «ما الأمر؟» وتابع: «لقد بدأ الحفل لتوِّه يصِل إلى أوْجِه.» «أظن أنهما لا يتأقلمان.» والتقت عينانا، ووقفنا هناك برهةً طويلةً من الوقت، والضوضاء والضحكات تدوِّي من حولنا. ولم يبدُ في عينَي راي أيُّ أثرٍ للرضا أو أية إشارة لخيبة الأمل؛ مجرَّد نظرة ثابتة من عينٍ لا تطرِف مثل عينِ ثعبان. وفي النهاية مدَّ لي يدَه فأمسكتُ بها، وعينانا لا تزالان ثابتتَين ثم قال: «نلتقي لاحقًا إذن»، وسحَب يده من يدي ورأيتُه وهو يبتعِد في الزحام ويسأل عن الفتاة التي كان يتحدَّث إليها قبل بضع دقائق. وفي الخارج كان الهواء لطيفًا، والشارع خاويًا تمامًا، فيما عدا الارتجاف الخفيف الذي يُسبِّبه مذياع راي، والأضواء الزرقاء التي تُنير بصورةٍ متقطعة في نوافذ المنازل ذات الطابق الواحد التي تمتدُّ عبر الشارع الجانبي النظيف، وظلال الأشجار تمتد عبر ملعبٍ لكرة البيسبول. وفي السيارة وضع جيف ذراعه على كتفي، وبدا فجأة يشعر بالأسف البالِغ والارتياح في آنٍ واحد. وقال: «أتعرف لقد علَّمني هذا الحفل شيئًا. أقصد، أصبحتُ أعرف مدى صعوبة الأمر عليك وعلى راي في بعض الأحيان في حفلات المدرسة … إنكم أنتم فقط السود.» فأجبت: «آه، نعم.» وأراد جزءٌ منِّي أن يَلكمَه. وبدأنا نقطع الطريق تجاه المدينة، وفي هذه الفترة من الصمت بدأ عقلي يُعيد عرْض كلمات راي في ذلك اليوم مع كيرت، وكل المناقشات التي دارت بيننا قبل ذلك، وأحداث تلك الليلة. وفي الوقت الذي أوصلتُ فيه صديقيَّ بدأتُ أرى خريطةً جديدة للعالم، خريطةً مُخيفة في بساطتها، وخانقة في المعاني التي تتضمَّنها. لقد كنا دائمًا نلعب في ملعب الرجل الأبيض، ووفقًا لقواعده، هذا ما قاله راي. وإذا أراد الناظر أو المدرِّب أو المدرِّس أو كيرت أن يبصُق على وجهك يمكنه هذا لأنه يتمتَّع بسلطةٍ ليست لدَيك. وإذا قرَّر ألا يفعل شيئًا من ذلك؛ أي إذا عاملك على أنك إنسان أو دافع عنك، فهذا لأنه يعرف أن الكلمات التي تتفوَّه بها، والملابس التي ترتديها، والكتب التي تقرؤها، وطموحك ورغباتك هي في الأساس مِلك له. ومهما كان ما يُقرِّر أن يفعله فهذا قراره وليس قرارك، وبسبب هذه السلطة الجوهرية التي يمتلكها عليك، ولأنها وُلِدت قبل دوافعه الشخصية ونزعاته وستستمرُّ بعدَها، فإن أيَّ تمييز بين الإنسان الأبيض الطيب والشرير ليس له معنًى كبير. وفي الحقيقة لا يمكنك أن تثِق أن كلَّ شيءٍ افترضتَ أنه تعبير عن نفسك الحرة كإنسانٍ أسود — مثل الدعابات والأغاني والتمريرات من وراء الظهر في مباريات كرة السلة — جميعها قد اخترتها بنفسك. لقد كانت هذه الأشياء على أفضلِ تقديرٍ ملجأً أو، على أسوأ تقدير، فخًّا. وباتباع هذا المنطق المثير للجنون فإن الشيء الوحيد الذي يمكنك اختياره ليكون مِلكًا لك هو الانسحاب إلى عالمٍ أصغر فأصغر من الغضب، حتى يُصبح معنى كونك أسود هو إدراك أنك بلا سلطة واعتراف بهزيمتك. والمفارقة الأخيرة هي أنه إذا رفضتَ هذه الهزيمة وتحدَّثتَ بغضبٍ منتقدًا آسِرَك، فستجد لدَيه اسمًا لهذا بإمكانه أن يسجنك في قفصٍ آخر. كأن يصفك بأنك مُصاب بجنون الاضطهاد. أو عدواني. أو عنيف. أو زنجي. ••• وعلى مدار الشهور القليلة التالية، تطلَّعتُ إلى ترسيخ هذا الكابوس. فجمعتُ كتبًا من المكتبة؛ كتب لبالدوين وإليسون وهيوز ورايت ودوبويس. وفي المساء كنتُ أُغلق باب غرفتي وأخبر جَديَّ أن لديَّ واجبًا منزليًّا يجب أن أنتهي منه، وأجلس هناك وأحارب الكلمات، مُحتجزًا في جدال مفاجئ يائس أحاول أن أتصالح مع العالم كما وجدتُه عند ميلادي. لكن لا مناص. ففي كل صفحةٍ من كل كتاب، سواء في الكتب التي تتحدَّث عن شخصية الزنجي الشرير مثل بيجر توماس أو شخصيات أخرى مجهولة، كنتُ أجد نفس الأسى، نفس الشك؛ ازدراء للذات لم تستطِع السخرية ولا الفكر تغيير مساره. وحتى عِلم دوبويس وحب بالدوين وخفة ظل لانجستون استسلموا في النهاية إلى قوَّته المدمِّرة، فكلٌّ من هؤلاء الرجال وجد نفسه في النهاية مجبرًا لأن يشكَّ في قدرة الفن على إنقاذه، وكلٌّ منهم وجد نفسه في النهاية مجبرًا على الانسحاب؛ أحدُهم إلى أفريقيا والآخر إلى أوروبا والثالث إلى أعماق هارلم، لكنهم جميعًا انتهى بهم الحال إلى نفس الفِرار المنهك، جميعهم تملَّك منهم التعب، جميعهم يشعر بالمرارة، جميعهم تُطاردهم الشياطين. كانت سيرة مالكولم إكس الذاتية وحدَها هي التي قدَّمت شيئًا مختلفًا. فكانت محاولاته المتكرِّرة لتكوين الذات تُخاطبني، والشِّعر الصريح في كلماته وإصراره الطبيعي على نيل الاحترام يَعِدان بنظامٍ جديد وثابت، نظام عسكري في طريقته يُصاغ من خلال القوة المجرَّدة للإرادة. وقرَّرتُ أن جميع الأشياء الأخرى، مثل الحديث عن الشياطين الزرقاء العيون وسِفر الرؤيا، كانت عارضة على هذا البرنامج؛ فقد كانت أفكارًا دينية بدا أن مالكولم نفسه قد هجرَها في نهاية حياته. ومع ذلك، حتى عندما تخيلتُ نفسي أتبع نداء مالكولم، فقد منعني سطر واحد في الكتاب من هذا. فقد تحدَّث في هذا السطر عن أُمنية كانت تراوده في يومٍ من الأيام، أمنية أن يتخلَّص، عن طريق العنف، من الدماء البيضاء التي تجري في عروقه. وعرفت أن أمنية مالكولم تلك لم تكن عارضة قط، وعرفت أيضًا أن الرحلة إلى احترام الذات للدماء البيضاء لا تتراجع أبدًا إلى مجرد فكرة مجردة. وتُركت أنا لأتساءل ماذا أيضًا سأُمزِّق إذا ما تركتُ والدتي وجَديَّ عند حدود مجهولة، ومتى أفعل هذا. وأيضًا إذا كان اكتشاف مالكولم الذي توصَّل إليه قرب نهاية حياته أن بعض البِيض قد يعيشون إلى جواره إخوةً في الإسلام، يشع بعض الأمل في احتمال التوصُّل إلى مصالحةٍ في النهاية، فإن ذلك الأمل بدا أنه لن يتحقَّق إلا في المستقبل البعيد وعلى أرضٍ بعيدة. وفي الوقت نفسه نظرتُ لأرى من أين سيأتي هؤلاء الأشخاص الذين يرغبون في العمل من أجل هذا المستقبل واستيطان هذا العالم الجديد. وفي أحد الأيام، بعد إحدى مباريات كرة السلة في صالة الألعاب الرياضية بالجامعة، بدأتُ بالصدفة أنا وراي حديثًا مع رجلٍ طويلٍ ونحيل اسمه مالك كان يلعب معنا من حينٍ لآخر. ذكر مالك أنه كان من أتباع «أمَّة الإسلام» ولكن منذ موت مالكولم وانتقاله إلى هاواي لم يَعُد يذهب إلى المسجد أو الاجتماعات السياسية، مع أنه كان لا يزال يَنشُد السكينة في صلاته المنفردة. ولا بد أن أحد الشبان إلى جوارنا قد استمع إلينا؛ إذ إنه انحنى إلى الأمام وعلى وجهه تعبير الرجل الحكيم. «إنكم تتحدَّثون عن مالكولم أليس كذلك؟ إن مالكولم يصوِّر الحقائق كما هي، لا شك في هذا.» فقال شاب آخر: «نعم.» واستدرك: «لكني سأقول لكم شيئًا، إنكم لن تروني أنتقل إلى غابةٍ أفريقيةٍ في أي وقتٍ قريب. أو إلى أية صحراء لعينة أجلس على سجَّاد مع بعض العرب. كلَّا يا سيدي. ولن تراني أتوقَّف عن تناول اللحوم.» «يجب أن نحصل على بعض اللحوم.» «والعلاقات الحميمية أيضًا. ألم يتحدَّث مالكولم عن رفض العلاقات الحميمية؟ هل عرفتم الآن أن هذا لن يُجدي.» لاحظتُ أن راي يضحك فنظرتُ إليه عابسًا. قلت: «ما الذي تضحك عليه؟» وتابعت: «إنك لم تقرأ شيئًا لمالكولم قط. ولا تعرف حتى ماذا يقول.» فجذب راي كرة السلة من يدي واتجه إلى الحافة المقابلة. وصاح: «إنني لا أحتاج إلى كتبٍ لتُخبرني كيف أكون أسود.» فبدأتُ أجيب عليه ثم استدرتُ إلى مالك متوقعًا بعض عبارات المساندة منه. لكن الرجل المسلم لم يقُل شيئًا، وارتسمت على وجهه النحيل ابتسامةٌ حالمة. ••• بعد ذلك قرَّرتُ أن أكتمَ آرائي، وتعلمتُ أن أخفي انفعالي. ومع ذلك، بعد بضعة أسابيع استيقظتُ على صوت جدالٍ في المطبخ؛ صوت جَدتي الذي كان لا يكاد يُسمَع ويتبعه صوت جَدي العميق وهو يتذمَّر. ففتحتُ الباب ورأيتُ جَدتي وهي تدخل إلى غرفة نومها لترتدي ملابسها وتذهب إلى العمل. فسألتها ماذا حدث. «لا شيء. كلُّ ما هنالك أن جَدك لا يريد أن يُقلَّني إلى العمل هذا الصباح. هذا كل شيء.» وعندما دخلتُ إلى المطبخ كان جَدي يغمغم مُتذمرًا. وصبَّ لنفسه كوبًا من القهوة وأخبرته أنني مُستعد لأن أقلَّ جَدتي إلى العمل إذا كان متعبًا. وكان ذلك عرضًا جريئًا لأنني لم أكن أُحب الاستيقاظ مبكرًا. وقد قابل جَدي عرضي بأن قطَّب جبينه. «ليست هذه هي المشكلة. إنها تريد أن تجعلني أشعر بالذنب.» «أنا واثق أن هذا ليس هو الهدف يا جَدي.» فارتشف من قهوته. ثم قال: «بل هذا هو الهدف بالطبع.» وتابع: «إنها تستقلُّ الحافلة منذ أن عمِلتْ في المصرف. وكانت تقول إن الأمر كان أسهل. والآن فقط لأنها مُنزعِجة قليلًا، تريد أن تُغيِّر كلَّ شيء.» ظهرت جَدتي بقوامها القصير في الرَّدهة تنظر إلينا من خلف نظارتها ذات العدسات الثنائية البؤرة. وقالت: «هذا ليس صحيحًا يا ستانلي.» فاصطحبتُها إلى الغرفة الأخرى وسألتُها عما حدث. فقالت: «رجلٌ طلب مني نقودًا بالأمس. ذلك عندما كنتُ بانتظار الحافلة.» «هل هذا كلُّ ما في الأمر؟» ضمَّت شفتَيها في غضب. ثم قالت: «كان عدوانيًّا للغاية يا باري. عدواني للغاية. أعطيتُه دولارًا وظلَّ يطلُب مني المزيد. وأظن أنه إذا لم تكن الحافلة قد وصلت، كان من الممكن أن يضربني على رأسي.» فعُدت إلى المطبخ. وكان جَدي يغسل الفنجان مديرًا ظهره لي. فقلت: «لِمَ لا تتركني أُقِلُّها أنا. إنها تبدو شديدة الغضب؟» «مِن متسوِّل؟!» «نعم، أعلم، لكن أغلب الظن أنه كان من المخيف لها أن ترى رجلًا ضخمًا يعترض طريقها. لا مشكلة في هذا.» استدار جَدي إليَّ، فرأيتُ أن جسده يرتجف. أخذ يقول: «بل مشكلة كبيرة. إنها مشكلة كبيرة في نظري. لقد ضايقها رجالٌ كُثر من قبل. هل تعلم لماذا هي خائفة بشدة هذه المرة؟ سأُخبرك أنا لماذا. قبل أن تدخل أخبرتني أن الرجل كان أسود.» قال الكلمة الأخيرة وهو يهمس. ثم استأنف: «هذا هو السبب الحقيقي في انزعاجها. وأنا لا أظنُّ أن هذا صحيح.» كان وقْع هذه الكلمات عليَّ وكأن أحدًا لكمَني في معدتي. فارتجف جسدي كي أستعيد رباطة جأشي. وقلتُ له في أكثرِ نبرةٍ استطعتُ أن أجعلها ثابتة، إن مثل هذا السلوك يُثير ضيقي أنا أيضًا، وأكدتُ له أن مخاوف جَدتي ستنتهي وأننا يجب أن نُقِلَّها إلى العمل في الوقت الحالي. ترك جَدي جسده يسقط على مقعدٍ في غرفة المعيشة وقال إنه آسِف لأنه أخبرَني. وأمام عيني رأيته وقد أصبح صغير الحجم كبير السن حزين الوجه. فوضعتُ يدي على كتِفِه، وأخبرتُه أن كل شيءٍ على ما يُرام وأنني أتفهَّم الموقف. ظللنا هكذا لعدة دقائق في صمتٍ مؤلِم. ثم أصرَّ في النهاية على أن يُقلَّ جَدتي إلى عملها، وجاهد لينهض من على مقعده ويرتدي ملابسه. وبعد أن غادرا، جلستُ على حافة فراشي وفكَّرتُ في جَديَّ، فكثيرًا ما ضحَّيا من أجلي. وعلَّقا جميع آمالهما التي لم تتحقَّق على نجاحي. ولم يمنحاني أبدًا سببًا كي أشكَّ في حُبهما لي، وكنتُ أثق بأنهما لن يقدِّما سببًا لهذا الشك قط. ومع ذلك فقد علمتُ أن الرجال الذين كان من الممكن بسهولة أن يكونوا إخوتي يمكن كذلك أن يُثيروا مخاوفهما. ••• في تلك الليلة قُدتُ السيارة إلى وايكيكي مارًّا بالفنادق المضاءة بألوانٍ براقة في اتجاه قناة ألا-واي. استغرقتُ بعض الوقت كي أتعرَّف على المنزل، بشرفته المتهدِّمة وسطحه ذي الانحدار البسيط. وفي الداخل كانت الأنوار مضاءة، ورأيتُ فرانك وهو يجلس على مقعده الضخم المريح، وعلى حِجره ديوان للشعر ونظارته التي يقرأ بها مُنزلقة قليلًا على أنفه. جلستُ في السيارة أُراقبه لبعض الوقت، وفي النهاية خرجتُ من السيارة وطرقتُ الباب. ورفع العجوز عينَيه قليلًا وهو ينهض كي يفتح مزلاج الباب. وكان قد مرَّ ثلاثُ سنواتٍ منذ رأيته آخِر مرة. سألني: «أتريد شرابًا؟» فأومأتُ له بالإيجاب ورأيته وهو يُخرِج زجاجةً من الويسكي وكوبَين بلاستيكِيَّين من خزانة المطبخ. لم يتغير شكلُه كثيرًا، فقط ازداد شاربه بياضًا وهو يتدلى مثل نبات لبلاب ميت فوق شفته العُليا الغليظة، وبنطلونه الجينز القصير به مزيدٍ من الثقوب ومربوط عند خصره بشريطٍ غليظ. «كيف حال جَدِّك؟» «إنه بخير.» «ماذا تفعل هنا؟» لم أكن واثقًا. فأخبرتُ فرانك جانبًا مما حدث. فأومأ برأسه وسكب لكلٍّ منا كأسًا. وقال: «إن جَدَّك لطيف.» وتابع: «هل تعلم أننا نشأنا على بُعد ٥٠ ميلًا بيننا؟» هززتُ رأسي نافيًا. «هذه حقيقة. فقد كان كِلانا يعيش بالقُرب من ويتشيتا. ولكننا لم يعرف أحدنا الآخر بالطبع. وعندما كبِر هو بما يكفي ليتذكَّر شيئًا كنتُ أنا قد رحلتُ قبل وقتٍ طويل. ومع ذلك فقد أكون رأيتُ بعضًا من أهله. ربما أكون مررتُ بهم في الشارع. وإذا كان ذلك قد حدث فقد تعيَّن عليَّ أن أنزل عن الرصيف كي أفسح لهم الطريق. هل أخبرك جَدُّك عن شيءٍ من هذا القبيل من قبلُ؟» ألقيتُ ما تبقى من ويسكي في حلقي، وهززتُ رأسي مرة أخرى. فقال فرانك: «ولا أعتقد أنه كان سيفعل. إن ستانلي لا يحب الحديث عن ذلك الجزء من حياته في كانساس كثيرًا. فهذا لا يجعله يشعر بالارتياح. وقد أخبرني ذات مرةٍ عن فتاةٍ سوداء استأجروها للعناية بوالدتك. أظنُّ أنها كانت ابنة قس. وأخبرني كيف أصبحت جزءًا من العائلة. هذا هو ما يتذكَّره عنها؛ فهذه الفتاة تذهب للعناية بأطفال الآخرين، ووالدتها تغسل ملابس الآخرين. جزء من العائلة.» هذه المرة مددتُ أنا يدي إلى الزجاجة كي أصبَّ منها بنفسي. ولم يكن فرانك يراني فقد كانت عيناه مغمضتَين ورأسه يستند إلى ظهر مقعده ووجهه الضخم المتجعِّد مثل نقشٍ حجري. ثم قال في هدوء: «لا يمكنك أن تلوم ستانلي على ما هو عليه. إنه رجل طيب بطبيعته. لكنه لا يعرفني حقًّا. ليس أكثر من معرفته بتلك الفتاة التي كانت ترعى والدتك. ولا يستطيع أن يعرفني، ليس كما أعرفه أنا. ربما يستطيع بعض سكان هاواي ذلك، أو الهنود في تلك المناطق المخصَّصة لهم. فقد رأوا آباءهم يتعرَّضون للإهانة، وأمهاتهم تُنتَهك حرماتهن، لكن جَدك لن يعرف أبدًا كيف يشعر المرء في مثل هذه المواقف. لهذا يمكنه أن يأتي إلى هنا ويحتسي الويسكي ويسقط نائمًا على الكرسي الذي تجلس أنت عليه الآن. ويغطَّ في سباتٍ عميق. وهذا شيء لا يمكنني أن أفعله في منزله. أبدًا. مهما كان ما أشعر به من تعب، فعليَّ أن أُراقب سلوكي. يجب أن أكون حذِرًا حفاظًا على حياتي.» فتح فرانك عينَيه. وقال: «ما أحاول أن أقوله لك هو أن جَدتك لدَيها الحق في أن تشعر بالخوف. وهي على حق بالضبط مثل ستانلي. إنها تفهم أن السود لديهم سبب كي يشعروا بالكراهية. هذه هي الحقيقة. وإن كنتُ أتمنى — من أجلك — أن يكون الحال غير الحال. لكن هذه هي الحقيقة. لذا فيمكنك أن تعتاد عليها أنت الآخر.» أغمض فرانك عينيه من جديد. وبدأت أنفاسه تتباطأ حتى بدا أنه خلد إلى النوم. فكَّرت في إيقاظه، ثم قرَّرتُ ألا أفعل وسرتُ عائدًا إلى السيارة. شعرت بالأرض تهتز تحت قدميَّ وكأنها مُستعدة لأن تنشقَّ في أية لحظة. فتوقَّفتُ وأنا أحاول أن أتماسك، وأدركتُ لأول مرةٍ أنني وحدي تمامًا.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/5/
الفصل الخامس
كانت الساعة الثالثة صباحًا. وكانت الشوارع التي يغمرها القمر بضوئه خاوية، ولم أسمع سوى صوت سيارةٍ تزيد من سرعتها في طريقٍ بعيد. ولا بدَّ أن جميع مَن كانوا في الحفل الصاخِب قد اختفوا في مكانٍ هادئ الآن، سواء كل حبيبَين معًا أو كل شخصٍ وحدَه يغطُّ في سباتٍ عميق من أثر احتساء الجِعَة، وحسن في شقة صديقته الجديدة، بعد أن قال لي وهو يغمز بعينه: «لا تبقَ مُستيقظًا لوقتٍ طويل.» ولم يتبقَّ إلا نحن الاثنين فقط ننتظر شروق الشمس، أنا وصوت بيلي هوليداي الذي كان يشدو ليملأ أرجاء الغرفة المظلمة، ويصل إليَّ ليلمسني وكأنه حبيبتي. صببتُ لنفسي شرابًا وتركت عينيَّ تدوران في أنحاء الغرفة؛ أطباق عميقة من فتات المقرمشات المملَّحة، وطفايات السجائر الممتلئة عن آخِرها، والزجاجات الفارغة التي تبدو وكأنها خط الأفق قُبالة الحائط. حفل رائع. هذا ما قاله الجميع، وقالوا أيضًا اعتمدوا على باري وحسن في إقامة الحفلات الموسيقية. استمتع الجميع بوقته فيما عدا ريجينا. هي لم تستمتع. ماذا قالت قبل أن تغادر؟ قالت: «إنك دائمًا تظن أن الأمر يتعلَّق بك.» ثم ذكرَت تلك الأشياء عن جَدتها. كما لو أنني مسئول عن مصير العِرق الأسود بأكمله. كما لو أنني أنا مَن جعل جَدتها تجثم على رُكبتَيها طوال عمرها. إلى الجحيم يا ريجينا. إلى الجحيم بغرورك العنيد وورعك الممقوت ونظرة عينَيك التي تتَّهِمني بخذلانك. إنها لم تعرفني. لم تفهم وجهة نظري. سقطتُ على الأريكة مرة أخرى وأشعلتُ سيجارة وشاهدتُ عود الثقاب وهو يحترق حتى لسع طرف إصبعي، ثم شعرتُ بألمٍ عندما أطفأتُ اللهيب بإصبعَيَّ. سأل الرجل قائلًا: «ما الخدعة؟» «الخدعة ألا تبالي بالألم.» حاولتُ أن أتذكَّر أين سمعتُ تلك الجملة التالية، لكن ذاكرتي لم تسعفني؛ فقد غاب هذا الأمر عنها مثل وجهٍ ذهب في غياهب النسيان. لكن هذا لا يهم. فبيلي تعرف الخدعة نفسها، إنها موجودة في صوتها المرتجف الممزَّق. وقد تعلمْتُها أنا أيضًا؛ فقد كان هذا هو محور حياتي في المدرسة الثانوية في العامَين الماضيين بعد أن رحل راي إلى معهدٍ في مكانٍ ما، ونحَّيتُ أنا الكتب جانبًا، وبعد أن توقَّفتُ عن الكتابة إلى أبي وتوقَّف هو عن إرسال خطابات لي. سئمتُ من محاولة التخلُّص من فوضى ليست من صُنعي. تعلمتُ ألَّا أهتم. أطلقتُ بعض حلقات الدخان في الهواء، وأنا أتذكَّر تلك السنوات. وقد ساعدتني الماريجوانا والخمور، وقليل من الكوكايين من حينٍ لآخر عندما أستطيع تحمُّل تكلفته. لكنني لم أتعاطَ الهيروين، مع أن ميكي — وأغلب الظن أنه كان الشخص الذي قادني إلى هذا الطريق — كان مُتلهفًا كي أُجرِّبه. وقال إنه يستطيع تعاطيه وهو معصوب العينين، لكنه كان يرتجف مثل مُحرِّكٍ خَرِبٍ عندما قال هذا. ربما كانت هذه الرجفة لأنه يشعر بالبرد فحسب، فقد كنا نقف في مُجمدِ لحوم في مؤخرة محل الأطعمة الباردة والمعلبة الذي كان يعمل به، ولا يمكن أن تكون درجة الحرارة أكثر من ٢٠ درجة داخل المحل. لكنه لم يبدُ أنه يرتجف من البرد. بل بدا وكأنه يتصبَّب عَرقًا، ووجهه لامع ومُحتقن. وقد أخرج الإبرة والأنبوب الصغير، فنظرتُ إليه وهو يقف هناك محاطًا بشرائحَ كبيرة من سمك السلامي ولحم البقر المشوي، وعندئذٍ انبثقت في ذهني فجأةً صورة فقاعة هواء لامعة ومُستديرة مثل لؤلؤة تتدحرج ببطءٍ بداخل وريدي وتوقَّف قلبي عن الخفقان … مدمن للمخدرات. ومدخن للماريجوانا، هذا ما كنتُ أتَّجه إليه: الدور المحتم الأخير الذي يلعبه الشاب الأسود الذي سيُصبح رجلًا. إلا أن اللجوء إلى نشوة المخدرات لم يكن الهدف منه أن أحاول أن أثبت كم أنتمي إليهم. لم يكن الأمر كذلك آنذاك على أية حال. فقد كنت ألجأ إلى نشوة المخدرات من أجل عكس ذلك تمامًا؛ إذ كنتُ أبحث عن شيءٍ يمكنه أن يُبعد عن ذهني تلك الأسئلةَ المتعلقة بهويتي، شيء يمكنه أن يريح قلبي، ويمحو ذاكرتي. واكتشفتُ أنه لا فارق بين ما إذا كنتَ تُدخِّن الماريجوانا في شاحنة زميلك الأبيض الجديدة اللامعة، أو في غرفة نوم أحد الإخوة الذي قابلته في صالة الألعاب الرياضية، أو على الشاطئ مع بعض الصبية من هاواي الذين تركوا المدرسة ويقضون معظم أوقاتهم يبحثون عن سببٍ للشجار. لم يكن أحد يسألك هل والدك مسئول تنفيذي واسع السلطة فاحش الثراء يخون زوجته، أو رجل بدين طُرِدَ من عمله، كلما أزعج نفسه وجاء إلى المنزل انهال عليك ضربًا. وربما لا يتعدَّى الأمر كونك شخصًا يشعر بالملل أو الوحدة. فالجميع مُرحَّب به في نادي السخط. وإذا لم تنجح نشوة المخدرات في حل المشكلة التي تقضُّ مضجعك، فإنها تساعدك على الأقل على السخرية من حماقة العالَم المستمرة، وترى حقيقة النفاق والهراء والحِكَم الأخلاقية الرخيصة. هكذا بدا الأمر لي آنذاك. فقد استغرقتُ بضع سنوات قبل أن أرى كيف بدأت المصائر تتحدَّد، والاختلافات التي يُسبِّبها اللون والمال فيمن ينجو، ومدى عنف أو سهولة الهبوط عندما يسقط المرء في النهاية. وبالطبع في كلتا الحالتَين فإنك بحاجةٍ إلى بعض الحظ. وعلى الأرجح هذا ما كان يفتقده بابلو عندما لم تكن معه رخصةُ القيادة في ذلك اليوم، مما جعل شرطيًّا يُفتِّش حقيبة سيارته. أو بروس عندما لم يجد طريقَه للعودة من رحلات مُخدِّر الهلوسة الكثيرة وانتهى به الحال في مستشفًى للأمراض النفسية. أو ديوك الذي لم يستطِع الخروج سالمًا من حادث تحطُّم سيارته … حاولتُ أن أشرح بعض هذه الأمور لوالدتي ذات مرة؛ أي دور الحظ في الحياة، وكيف تدور عجلة الحظ. كان ذلك في بداية عامي الأخير في المدرسة الثانوية، وكانت هي قد عادت إلى هاواي بعد أن انتهت فترة عملها الميداني، وفي أحد الأيام دخلَتْ إلى غرفتي تريد أن تعرف تفاصيل القبض على بابلو. فقابلتُها بابتسامةٍ مُطَمئِنة وربَّتُّ على يدِها وأخبرتها ألا تقلق، فإنني لن أتصرف بحماقة. وغالبًا ما كان هذا الأسلوب فعالًا؛ إذ كانت إحدى تلك الخُدَع التي تعلمتُها: فالناس تشعر بالرضا ما دمتَ لطيفًا معهم وتبتسِم ولا تقوم بأي تصرُّفات مفاجئة. وفي حالتي كانوا يشعرون بشيءٍ أكثرَ من الرضا، كانوا يشعرون بالارتياح؛ فقد كانت مفاجأة سعيدة أن يجدوا شابًّا أسود حسن الخلق لا يبدو غاضبًا طوال الوقت. إلا أن أُمي لم يبدُ عليها الرضا. فجلسَتْ أمامي تتفحَّص عينيَّ ووجهها مُتجهِّم كعربة نقل الموتى. وقالت: «ألا تظنُّ أنك أصبحتَ غير مهتمٍّ قليلًا بمستقبلك؟» «ماذا تعنين؟» «إنك تعرف بالضبط ماذا أعني. فقد أُلقي القبض على أحد أصدقائك لحيازته مخدرات. وبدأت درجاتُك تقلُّ. ولم تبدأ حتى الآن في تقديم طلبات الالتحاق بالجامعة. وكلما حاولتُ أن أتحدَّث إليك عن هذا الأمر تصرَّفتَ كما لو أنني لستُ إلَّا مصدرًا للإزعاج الشديد.» ولم أكن بحاجةٍ إلى الاستماع إلى كلِّ هذا. فلم أكن سأُطرَد من المدرسة بسبب رسوبي. فبدأتُ أخبرها أني أُفكِّر ألا أسافر بعيدًا للدراسة في الجامعة، وأنني يمكنني البقاء في هاواي والالتحاق ببعض الدورات، والحصول على عملٍ نصفَ دوام. ولكنها قاطعتني قبل أن أنتهي. وقالت إنه يُمكنني الالتحاق بأية كلية أريد في أي مكانٍ في البلد، فقط إذا بذلت قليلًا من الجهد. «أتتذكَّر هذا الشيء؟ الجهد؟ اللعنة يا باري لا يمكنك قضاء الوقت هكذا كسولًا بلا هدفٍ مثل شخصٍ مُولَع باللهو، وتنتظر أن يطرق الحظ بابك؟» «مثل مَن؟» «مثل شخصٍ مُولَع باللهو. أي مُتسكِّع.» نظرتُ إليها وهي تجلس أمامي والجدية التامة ترتسِم على ملامحها وهي واثقة من مصير ابنها. فقد ظلت فكرة أن مُستقبلي يعتمد على الحظ بدعةً في نظرها، وأصرَّت على إلقاء المسئولية على كاهل أحد، كاهلها أو كاهل جَدي أو جَدتي أو كاهلي. وفجأة شعرتُ أنني أهزُّ تلك الثقة، وأتركها تكتشِف أن تجربتها معي قد فشلت، وبدلًا من الصراخ أخذتُ أضحك. وأقول: «شخص مولع باللهو؟ حسنًا ولم لا؟ ربما يكون هذا ما أريده من الحياة. أعني انظري إلى جَدي. إنه حتى لم يلتحِق بالجامعة.» فاجأت هذه المقارنة أُمي. فشَحَب وجهها، ودارت عيناها في محجرَيهما. وفجأة تجلَّى أشد مخاوفها أمامي. فسألتُها: «هل هذا ما يُقلِقك؟» وتابعتُ: «أن ينتهي بي الحال مثل جَدي؟» فهزَّت رأسها بسرعة. وقالت: «لقد تلقَّيتَ بالفعل تعليمًا أفضل كثيرًا من جَدك.» ولكن كانت الثقة قد اختفت أخيرًا من صوتها. وبدلًا من الاستمرار في الحديث، نهضت وغادرت الغرفة. ••• توقَّفت بيلي عن الغناء. وخيَّم الصمت على الغرفة، وفجأة شعرتُ بأني مُتزن وغير ثمل. فنهضتُ من على الأريكة وقلبتُ شريط التسجيل، وشربتُ ما تبقى في الكوب ثم ملأته مرةً أخرى. وفي الأعلى سمعتُ صوتَ أحدٍ يغادر الحمَّام بعد قضاء حاجته ثم يقطع إحدى الغرف سيرًا. كما سمعتُ شخصًا آخر يُعاني أرقًا على الأرجح، يستمع إلى صوت قطار حياته وهو يمر. هذه هي مشكلة الخمر والمخدرات، أليس كذلك؟ فعند نقطةٍ بعينها لا يمكن إيقاف هذا الصوت، صوت فراغ محدَّد. وهذا على ما أظن هو ما كنتُ أحاول أن أخبر أُمِّي به في ذلك اليوم: أن إيمانها بالعدالة والعقلانية ليس في محله، وأننا لم نستطِع في النهاية التغلُّب على شيء، وأن التعليم وجميع النوايا الحسنة في العالم لا يمكنها المساعدة في سدِّ الفجوات في الكون أو إعطاء المرء القدرة على تغيير مساره الأعمى والمجنون. ومع ذلك فقد انتابني شعور بالاستياء بعد ذلك الموقف؛ فهذه هي الحيلة التي كانت أمي تلعبها دائمًا، الطريقة التي تجعلني أشعر بالذنب. وكانت هي تتحدَّث عن الأمر بصراحة أيضًا. فقد قالت لي ذات مرة: «لا يسعك فعْل شيءٍ حيال هذا.» ثم أضافت مبتسمةً مثل قطة تشيشاير في فيلم «أليس في بلاد العجائب»: «فقد أرضعتُه لك وأنت طفل. ومع ذلك فلا تقلق.» وتابعت: «فجرعةٌ صحيةٌ من الإحساس بالذنب لا تؤذي أحدًا. فالشعور بالذنب هو الأساس الذي بُنيت عليه الحضارة. وهو شعور يُستهان به بشدة.» بعد ذلك كان بوسعِنا أن نمزح عن هذا الموقف؛ إذ إن أشدَّ مخاوفها لم يتحقَّق. فقد تخرَّجتُ دون أن يُعاندني الحظ، وقُبِلت في عددٍ من الجامعات المحترمة، واستقررتُ على الالتحاق بكليةِ أوكسيدينتال في لوس أنجلوس، ويرجع السبب في هذا في المقام الأول إلى فتاةٍ من مدينة برينتوود قابلتُها وهي تقضي الإجازة في هاواي مع عائلتها. لكنني كنتُ أفعل هذا آليًّا دون حماس، فكنتُ أشعر باللامبالاة تُجاه الجامعة بالقدْر نفسه الذي أشعر به تجاه معظم الأشياء الأخرى. فحتى فرانك رأى أن موقفي من الالتحاق بالجامعة سيئ، مع أنه لم يكن واضحًا كيف يمكنني تغييره. ماذا كان فرانك يُطلِق على الكلية؟ لقد وصفَها بقوله: «شهادة مُتقدمة في التصالح». فكَّرت في آخر مرةٍ رأيتُ فيها الشاعر العجوز قبل بضعةِ أيامٍ من مغادرتي لهاواي. وقد تحدَّثنا بعض الوقتِ واشتكى من قدمِه؛ إذ كان يُعاني الزوائد في جِلدِ قدمه والنتوءات العظمية التي أصر أنها نتيجة مباشِرة لمحاولة إجبار قدمه الأفريقية على الدخول في حذاءٍ أوروبي. وفي النهاية سألني عما أتوقَّع الحصول عليه من الكلية. فأخبرتُه أنني لا أعرف، فهزَّ رأسه الضخم الذي يكسوه الشيب. وقال: «حسنًا، هذه هي المشكلة، أليس كذلك؟ إنك لا تعرف. إنك بالضبط مثل باقي الشباب بالخارج. كلُّ ما تعرفه هو أن الكلية هي الخطوة التالية التي يجب أن تخطوها. في حين أن مَن يكبرونك سنًّا بما يكفي لأن يعرفوا أفضل منك — الذين حاربوا طَوال تلك السنوات كي تحصل على حقِّ الالتحاق بالجامعة — سيكونون سعداء إذا رأوك هناك حتى إنهم لن يُخبروك الحقيقة. الثَّمن الحقيقي للالتحاق بها.» «وما هذا الثمن؟» «أن تترك عِرقك على الباب.» وتابع: «أن تترك شعبك وراء ظهرك.» ثم تفحَّص ملامحي من فوق إطار نظارة القراءة. واستكمل: «افهم يا فتى. إنك لن تذهب إلى الكلية لتتعلَّم. إنك ستذهب «لتتدرَّب». سيُدرِّبونك على أن تُريد ما لا تحتاجه. سيُدرِّبونك على المراوغة بالكلمات حتى تُصبح عديمةَ المعنى. سيُدربونك لتنسى ما تعرفه بالفعل. سيُدربونك جيدًا حتى إنك ستبدأ تؤمن بما يُخبرونك به عن الفُرَص المتكافئة، والطريقة الأمريكية، وكل ذلك الهراء. سيعطونك مكتبًا متميزًا ويدعونك على حفلات عشاءٍ ممتازة، ويُخبرونك أنك مفخرة لجنسِك. حتى تريد أن تبدأ في إدارة الأمور فعليًّا، وحينها يجذبون السلسلة حول عُنقك بقوة، ويجعلونك تُدرِك أنك قد تكون زنجيًّا تلقَّى تدريبًا جيدًا ويحصل على مُرتبٍ جيد، ولكنك لا تزال مجرَّد زنجي.» «إذن بمَ تنصحُني؟ ألَّا ألتحق بالجامعة؟» تهدَّل كتفا فرانك وعاد ليسقط على مقعده وهو يتنهَّد. وقال: «كلَّا، إنني لا أقول هذا. عليك أن تذهب. إنني فقط أقول لك أن تُبقي عينَيك مفتوحتَين. ابقَ مُتيقظًا.» جعلني هذا أبتسم، وأنا أُفكِّر في فرانك وشخصيته الأفريقية التي تؤمن بشعار «القوة السوداء». وفي بعض الجوانب، كان فرانك حالةً يصعُب علاجها مثل والدتي، فهو على القدْر نفسه من الثقة بإيمانه، ويعيش في نفس الإطار الزمني لستينيات القرن العشرين الذي خلقته هاواي. وقد نصحني أن أُبقي عينَي مفتوحتَين. وهذا ليس بالأمر السهل كما يبدو. ليس سهلًا في لوس أنجلوس المشمسة. ليس مثل تجوُّل المرء في الحرم الجامعي لكلية أوكسيدينتال على بُعد أميالٍ قليلة من مدينة باسادينا الذي كان مُصطفًّا بالأشجار ومغطًّى بالسيراميك الإسباني. وقد كان الطلابُ ودودين، والمعلمون مُشجِّعين. وفي خريف عام ١٩٧٩ كان كارتر، وخطوط الغاز، ومشاعر الندم العلنية جميعها في طريقها إلى البُعد عن بؤرة الأنظار، وريجان في طريقه إلى اجتذاب الأنظار، وكذلك شعار حمْلته السياسية الفعَّالة «صباح جديد في أمريكا». وعندما يُغادر المرء الحرم الجامعي، ويقود سيارته على الطريق السريع ليصِل إلى شاطئ فينيسيا أو إلى ويستوود مارًّا بشرق أو جنوب لوس أنجلوس دون حتى أن يعرف هذا؛ فلن يرى في طريقِه سوى المزيد من أشجار النخيل التي تختلس النظر للمارَّة مثلما يفعل نبات الهندباء البرية المزروع على الحوائط الأسمنتية العالية. ولم تكن لوس أنجلوس شديدة الاختلاف عن هاواي، على الأقل ليس الجزء الذي رأيتُه منها. إنها فقط أكبر، ومن السهل فيها العثور على حلاقٍ يعرف كيف يقص شعرك. وعلى أية حال، لم يكن معظم الطلاب السود الآخرين في الكلية قلقِين على موضوع التصالح هذا. وكان هناك ما يكفي منَّا لتكوين قبيلة، وعندما يتعلَّق الأمر بتمضية الوقت، كان الكثيرون منَّا يتصرَّفون بأسلوبٍ يُشبه القبيلة بالفعل، فيمكثون معًا ويتحركون في جماعات. وفي عامي الأول في الدراسة عندما كنتُ لا أزال أعيش في منازل الطلبة كانت هناك جلسات اللغو نفسها التي كانت تدور بيني وبين راي والسود الآخرين في هاواي، التذمُّر نفسه، وقائمة الشكاوى نفسها. أما فيما عدا ذلك فكان ما يُقلقنا لا يختلف كثيرًا عما يُقلق البِيض من حولنا. وهو النجاح في الدراسة. والحصول على عملٍ بأجرٍ مُجزٍ بعد التخرُّج. وأيضًا محاولة إقامة علاقات حميمية مع الجنس الآخر. وقد توصلتُ صدفةً إلى أحد الأسرار الدفينة عن السود ألا وهي أن مُعظمنا لم يكن متحمسًا للثورة، وأن معظمنا قد سئم التفكير في العنصرية طوال الوقت، وأننا إذا كنَّا اخترنا أن ننغلِق على أنفسنا فهذا لأن هذه هي أسهل طريقة للتوقُّف عن التفكير في هذا الأمر، أسهل من قضاء الوقت في حالةٍ من الغضب أو محاولة استنباط آراء البِيض فينا مهما كانت. إذن، لِمَ أترك أنا أيضًا الأمر دون التفكير فيه؟ لا أعلم. أظن أنني لم أكن أتمتَّع برفاهية معرفة المعسكر الذي أنتمي إليه عن يقين. فإذا نشأ المرء في مدينة كومبتون فسيُصبح البقاء على قيد الحياة عملًا ثوريًّا. ويذهب إلى الجامعة وعائلته لا تزال هناك تُشجِّعه. وتكون سعيدة وهي تراه يهرب؛ فالأمر إذن ليست فيه أي شبهة خيانة. لكنني لم أنشأ في كومبتون أو واتس. ولم يكن لديَّ ما أهرُب منه سوى الشكوك التي تملأ قلبي. لقد كنتُ أقرب إلى الطلاب السُّود الذين نشئوا في الضواحي، أطفال دفع آباؤهم بالفعل ثَمن الهروب. ويمكنك أن تتعرَّف عليهم على الفور من الطريقة التي يتحدَّثون بها، ومَن يجالسونهم في المطعم. وعندما تضغط عليهم في الحديث، ينفعلون ويبدءون في التحدُّث بسرعةٍ ويقولون إنهم يرفضون أن يجري تصنيفهم. وسيقولون لك إنهم يرفضون تعريفهم وفقًا لِلَون بشرتهم. إنهم بشَر. هكذا كانت تُحب جويس أن تتحدَّث. كانت فتاةً جميلة لها عينان خضراوان وبشرتها بلون العسل وشفتان بارزتان. كنا نعيش في المبنى السكني نفسه في عامي الأول في الجامعة، وكان جميع الإخوة يطاردونها. وفي أحد الأيام سألتُها هل ستذهب إلى اجتماع جمعية الطلاب السود. فنظرت إليَّ بغرابة وبدأت تهزُّ رأسها مثل طفلٍ لا يريد أن يأكل ما أمامه من طعام على ملعقته. ثم قالت: «أنا لست سوداء.» وتابعت: «أنا مُتعدِّدة الأعراق.» ثم بدأت تُخبرني عن والدها الذي «تصادف» أنه إيطالي وكان أرقَّ رجلٍ في العالم، ووالدتها التي «تصادف» أن بها عِرقًا أفريقيًّا وآخر فرنسيًّا وآخر من السكان الأصليين لأمريكا وشيئًا آخر. وسألتني: «لماذا يجب عليَّ أن أختار بينهم؟» وتهدَّج صوتها وظننتُ أنها على وشك البكاء. قالت: «ليس البِيض هم مَن يفرضون عليَّ أن أختار. ربما كان الأمر كذلك فيما مضى، ولكنهم الآن مُستعدُّون للتعامُل معي على أني إنسانة. كلَّا، «السود» هم مَن يريدون أن يجعلوا كلَّ شيءٍ عنصريًّا. إنهم هم مَن يفرضون عليَّ أن أختار. إنهم هم مَن يخبرونني أنه لا يمكنني أن أكون الشخص الذي أنا عليه …» هم، هم، هم. كانت هذه هي المشكلة مع الأشخاص مثل جويس، فإنهم يتحدثون عن ثراء تراثهم مُتعدِّد الثقافات ويبدو الأمر رائعًا حقًّا، حتى تلاحظ أنهم يتجنَّبون السود. وليس الأمر بالضرورة مسألةَ اختيارٍ واعٍ، إنه أمرٌ متعلق بالجاذبية فحسب، الطريقة التي يسير بها التكامل دائمًا، طريق أحادي الاتجاه. امتصاص الثقافة السائدة للأقلية، وليس العكس. ثقافة البِيض فقط يمكن أن تكون محايدة وموضوعية، ثقافة البِيض فقط يمكن أن تكون غير عنصرية، ومُستعدَّة لاستيعاب العناصر الغريبة التي تظهر من حين لآخر إلى صفوفها. ثقافة البِيض فقط بها بشر. ونحن، المولودين لأبوَين من عرقَين مختلفَين والحاصلين على شهادات جامعية، ندرُس الموقف ونفكِّر في أنفسنا: لماذا ننضمُّ إلى الخاسرين إذا لم نكن مُضطرين لهذا؟ ونُصبح مُمتنِّين للغاية ونحن نفقد أنفسنا في الزحام، في سوق أمريكا السعيد عديم الهوية، ولا نستشيط غضبًا أبدًا مثلما يحدث لنا عندما تتجاهلنا سيارة الأجرة وتمرُّ من أمامنا، أو عندما تُحكِم السيدة في المصعد قبضتها على حقيبتها، وليس هذا لأننا مُنزعجون من حقيقةِ أنه على الملونين الأقل حظًّا أن يتحمَّلوا مثل هذه الإهانات كلَّ يوم من أيام حياتهم، مع أن هذا هو ما نقوله لأنفسنا، ولكن لأننا نرتدي حلةً تحمل العلامة التجارية بروكس براذرز، ونتحدث بلغةٍ إنجليزية صحيحة، ومع ذلك فالبعض يُخطئ ويعاملوننا على أننا زنوج عاديون. ألا تعلم مَن أنا؟ أنا «إنسان». ••• اعتدلتُ جالسًا، وأشعلتُ سيجارة أخرى، وأفرغتُ الزجاجة في كوبي. كنت أعلم أنني أقسو على المسكينة جويس. الحقيقة هي أنني كنتُ أفهمها، هي والسود الآخرين الذين كانوا يشعرون بما تشعر به. فكنتُ أرى في أسلوبهم وحديثهم وقلوبهم الحائرة أجزاء من نفسي. وهذا بالتحديد ما كان يُخيفني. فحيرتهم جعلتني أشكُّ في معتقداتي العنصرية من جديد، ولا تزال ورقة راي الرابحة عالقة في ذهني. وكنتُ أحتاج إلى إبعاد المسافة بينهم وبين نفسي، كي أُقنع نفسي أنني لم أقبل التصالح، وأنني لا أزال مُستيقظًا بالفعل. ولكي أتجنَّب أن يظن البعض أني خائن لقضية السود، كنتُ أختار أصدقائي بعنايةٍ شديدة. فأُصادق أكثرَ الطلاب السود نشاطًا في السياسة. الطلاب الأجانب. والأمريكيون من أصول مكسيكية. والأساتذة الماركسيين، ونشطاء الحركة النسائية وشعراء حفلات البانك روك الموسيقية. وكنا نُدخِّن السجائر ونرتدي سترات جلدية. وفي المساء، في غرف نومِنا كنا نناقِش الاستعمارية الجديدة، وفرانز فانون، والمركزية الأوروبية، والنظام الأبوي. وكنا نقاوم قيود المجتمع البرجوازي الخانقة عندما نسحق السجائر على سجادة الرواق أو نرفع صوت أجهزة التسجيل حتى تبدأ الجدران تهتز. لم نكن مُهملِين أو نشعر باللامبالاة أو عدم الأمان. لكننا كنا نشعر بالغربة. ولكن هذا الأسلوب وحدَه لم يُقدِّم لي المسافة التي كنتُ أحتاج إليها لتفصلني عن جويس أو ماضيَّ. فقد كان هناك الآلاف ممن يُطلَق عليهم المتطرفون في الحرم الجامعي، معظمهم بِيض، ولا يمكن فصْلهم من الجامعة ويتسامح الجميع معهم بكل سعادة. كلَّا، لقد ظلَّ من الضروري أن تثبت إلى أيِّ جانبٍ أنت، وأن تُظهر انتماءك لجموع السود، وأن تبدأ العمل، وتُشير بأصابع الاتهام إلى أشخاصٍ محدَّدين. تذكَّرتُ ذلك الوقت حين كنتُ لا أزال أعيش في المدينة الجامعية، عندما كنا نحن الثلاثة، أنا وماركوس وريجي، في غرفة ريجي وقطرات الأمطار تضرب زجاج النافذة. كنا نحتسي بعض أكواب الجِعَة، وكان ماركوس يُخبرنا بتجربته عندما أوقفته شرطة لوس أنجلوس. وقال: «لم يكن هناك أيُّ سبب لإيقافي.» وتابع: «لا سبب سوى أنني كنتُ أسير في حيٍّ يقطنه البِيض. وجعلوني أقف أمام السيارة وأرفع يديَّ وأُباعِد ما بين قدميَّ. وسحب أحدُهم سلاحه. ولكني لم أجعله يُخيفني. فهذا هو ما يوقف أولئك النازيين العنيفين، رؤية الخوف في عينَي رجلٍ أسود …» راقبتُ ماركوس وهو يتحدَّث، كان شابًّا نحيلًا أسود البشرة مُنتصب القامة، يقف مباعدًا بين قدمَيه ويرتدي قميصًا أبيضَ اللون فوقه بنطلون جينز بحمَّالات. وكان ماركوس أشد الإخوة وعيًا. وكان بإمكانه أن يقصَّ لك قصةَ جَدِّه الذي كان يؤمن بمبادئ ماركوس جارفي، ووالدته في سانت لويس التي ربَّت أطفالها وحدَها وهي تعمل ممرضة، وعن شقيقته الكبرى التي كانت أحد الأعضاء المؤسِّسين للفرع المحلي من حزب الفهود السود، وعن أصدقائه في الملهى الفقير. لقد كانت سلالته نقية، وولاؤه واضحًا، ولهذا السبب كان يجعلني دائمًا أشعر بأنني غير مُتوازن، مثل الشقيق الأصغر الذي سيظل دائمًا مهما فعل يتخلَّف بخطوة. هذا هو بالضبط ما كنتُ أشعر به في تلك اللحظة وأنا أستمع إلى ماركوس يعلن عن تجربته الصادقة كرجلٍ أسود، عندما دخل تيم إلى الغرفة. قال وهو يلوِّح بمرح: «مرحبًا يا رفاق.» ثم استدار إليَّ. وسألني: «باري، هل لديك ذلك الواجب الذي فرضه إيكون؟» لم يكن تيم أخًا واعيًا. وكان يرتدي سترةً على قماشها أشكالٌ تأخذ شكل المعيَّن، وبنطلونًا ضيقًا من الجينز ويتحدَّث مثل بيفر كليفر. وكان يخطِّط للتخصُّص في التجارة. وعلى الأرجح كانت حبيبته البيضاء تنتظِره بالأعلى في غرفته، وتستمع إلى موسيقى الريف. وكان يبدو سعيدًا للغاية، كلُّ ما أردتُه منه هو أن يذهب بعيدًا. لذا فقد نهضتُ وسرتُ معه في الرَّدهة إلى غرفتي، وأعطيتُه الواجب المنزلي الذي أراد. وبمجرد أن عُدتُ إلى غرفة ريجي، شعرتُ لسببٍ ما أنني مُضطر للتفسير. فقلت وأنا أهزُّ رأسي: «إن تيم هذا يبدو مُغيبًا طوال الوقت.» وتابعت: «يجب أن يُغيِّر اسمه من تيم إلى توم.» ضحك ريجي، ولكن ماركوس لم يضحك. وقال: «لماذا تقول هذا يا رجل؟» فاجأني السؤال. فقلت: «لا أعلم. إنه مجرد شابٍّ أبلهَ، هذا كلُّ ما في الأمر.» ارتشف ماركوس من الجِعَة ونظر إلى عينيَّ مباشرة. قال: «تيم يبدو حسنًا في نظري.» وتابع: «إنه يمضي قُدمًا في حياته. ولا يُضايق أحدًا. أظن أنه يجب أن نهتمَّ بما إذا كانت أمورنا نحن تسير على ما يُرام بدلًا من إصدار الأحكام على الطريقة التي ينبغي أن يتصرَّف بها الآخرون.» مرَّ عام وكنتُ لا أزال أحترق بتلك الذكرى، والغضب والاستياء اللذَين شعرتُ بهما في تلك اللحظة، وماركوس يُوبخني بهذا الشكل أمام ريجي. لكنه كان على حقٍّ في هذا، أليس كذلك؟ فقد كشفني وأنا أكذب. في الحقيقة أكذب كذبتَين؛ الكذبة التي قلتها عن تيم والأخرى التي كنتُ أقولها عن نفسي. في الحقيقة يبدو لي عامي الأول في الجامعة كذبةً طويلة وأنا أُهدِر كلَّ طاقتي أركض في دوائرَ محاولًا أن أخفي حقيقتي. إلا مع ريجينا. وهذا على الأرجح ما جذبَني إليها، الطريقة التي كانت تجعلني أشعر بها أنني لستُ مضطرًّا للكذب. حتى في تلك المرة الأولى التي تَقابلنا فيها، اليوم الذي دخلَتْ فيه إلى المقهى ووجدَتْ ماركوس ينتقد اختياري للكتُب التي أقرؤها. وقد لوَّح لها ماركوس يدعوها إلى طاولتنا وهو ينهض قليلًا ليسحب لها مقعدًا. وقال ماركوس: «أيتها الأخت ريجينا.» وتابع: «أنتِ تعرفين باراك أليس كذلك؟ وأنا أحاول أن أخبر الأخ باراك عن هذا العمل العنصري الذي يقرؤه.» ورفع يدَه بنسخةٍ من رواية «قلب الظلام» كأنه دليل أمام المحكمة. فمددتُ يدي محاولًا انتزاع الكتاب من يدِه. «توقَّف عن التلويح بهذا الشيء هكذا.» فقال ماركوس: «ماذا بك؟» وتابع: «أترى أنه يجعلك تشعر بالإحراج، أليس كذلك؟ مجرد رؤيتك وبصحبتِك كتاب كهذا. إنني أُنبِّهك يا رجل أن هذه الأشياء ستُسمِّم عقلك.» ثم نظر إلى ساعته وقال: «اللعنة، لقد تأخرتُ على المحاضرة.» ثم انحنى وطبع قُبلة سريعة على وجنة ريجينا. وقال لها: «هلا تتحدَّثين إلى هذا الأخ؟ أظن أنه لا يزال من الممكن إنقاذه.» ابتسمت ريجينا وهزَّت رأسها ونحن نشاهد ماركوس يقفز خارجًا من الباب. وقالت: «أظن أن ماركوس في إحدى نوبات الوعظ التي يمرُّ بها.» قذفتُ الكتاب في حقيبة ظهري. وقلت: «في الحقيقة إنه على حق.» وتابعت: «إنه كتاب عنصري. الطريقة التي يرى بها كونراد الأشياء؛ أفريقيا هي بالوعة العالم، والسود بربريون وأي اتصال بهم يؤدي إلى العدوى.» نفخت ريجينا في قهوتها. وقالت: «لماذا تقرؤه إذن؟» «لأننا مُكلَّفون بدراسته.» ثم توقَّفتُ غير واثق مما إذا كان من المفترض أن أستكمل. وتابعت: «ولأن …» «لأن …» «لأن الكتاب يُعلمني أشياء.» وتابعتُ: «أعني عن البِيض. إن الكتاب في الواقع ليس عن أفريقيا. أو السود. إنه عن الشخص الذي كتبه. الرجل الأوروبي. الرجل الأمريكي. طريقة بعَينها للنظر إلى العالم. فإذا استطعتِ أن تحافظي على المسافة بينكِ وبينه، فستَجدِين كل شيءٍ هنا سواء فيما قيل أو ما لم يُقَل. ولهذا فإني أقرأ الكتاب كي يُساعدني على فهْم ما الذي يجعل البِيض خائفين بهذا الشكل. وأعرف شياطينهم. الطريقة التي تنحرف بها الأفكار. إنه يساعدني في فهْم كيف يتعلم الناس الكراهية.» «وهذا مهم لك.» فكَّرت في نفسي أن حياتي تعتمد على هذا. لكني لم أقُل ذلك لريجينا. ابتسمتُ فقط وقلت: «هذه هي الطريقة الوحيدة لعلاج أيِّ مرض؛ تشخيصه، أليس كذلك؟» ابتسمَت هي الأخرى وارتشفت من قهوتها. كنتُ قد رأيتها من قبل، عادة وهي تجلس في المكتبة وبين يدَيها كتاب، وهي فتاة ضخمة الجسد سوداء البشرة ترتدي جوارب وملابس تبدو مُصنعة في المنزل، وكذلك نظارة كبيرة الحجم لها لون خفيف وإيشارب يُغطي رأسها دائمًا. كنتُ أعلم أنها في السنة قبل الأخيرة، وكانت تساعد في تنظيم الاحتفالات التي تُقام من حينٍ لآخر للطلَّاب السُّود ولا تخرج كثيرًا. أخذَت تُقلِّب قهوتها بخمولٍ وسألت: «ما الاسم الذي خاطبك به ماركوس الآن؟ إنه اسم أفريقي أليس كذلك؟» «باراك.» «ظننتُ أن اسمك باري.» «باراك هو اسمي الأول. وهو اسم أبي. وكان كينيًّا.» «هل يعني شيئًا؟» «يعني «مبارك» باللغة العربية. فجَدي كان مُسلمًا.» ردَّدت ريجينا الاسم لنفسها. وقالت: «باراك. إنه اسم جميل.» ثم انحنَت إلى الأمام وهي تختبر الصوت. وتابعت: «لماذا إذن يُخاطبك الجميع باسم باري؟» «أظن أنها عادة. فقد استخدمَه أبي عندما وصل إلى الولايات المتحدة. ولا أدري هل كانت تلك فكْرته أم فكْرة شخصٍ آخر. وعلى الأرجح استخدمَ باري لأنه أسهل في النطق. فقد ساعده ذلك على الاندماج. ثم ورثتُه أنا. حتى أستطيع الاندماج.» «هل تمانع إذا خاطبتك باسم باراك؟» فابتسمتُ وقلت: «لا ما دمتِ تنطقينه نطقًا صحيحًا.» أمالت رأسها بنفاد صبر، وفمها في وضعٍ ساخر وعيناها على وشْك أن تستسلِما للضحك. انتهى بنا الأمر إلى قضاء فترةِ ما بعد الظهيرة معًا، نتحدَّث ونحتسي القهوة. وأخبرتني عن طفولتها في شيكاغو، والأب الغائب والأم المكافحة، والمبنى السكني المكوَّن من ستِّ وحدات سكنية في الجزء الجنوبي من شيكاغو الذي لم يكن دافئًا بما يكفي أبدًا في الشتاء، وشديد الحرارة في الصيف حتى إن الناس كانوا يذهبون للنوم على ضفاف البحيرة. وأخبرتني عن الجيران في المنطقة السكنية التي تقطن بها، وعن السير أمام الحانات ونوادي البلياردو في الطريق إلى الكنيسة يوم الأحد. وأخبرتني عن الأمسيات وهي في المطبخ مع أقربائها وجَدَّيها ومزيج الأصوات الذي يعلو بالضحكات. وقد أثار صوتها صورةً لحياة عائلةٍ سوداء بجميع إمكانياتها، صورة ملأتني بالاشتياق، اشتياق للمكان وللتاريخ المحدَّد الثابت. وعندما نهضنا لنغادر، أخبرتُ ريجينا أنني أحسُدها. «علامَ؟» «لا أعلم. ربما على ذكرياتك.» فنظرَتْ إليَّ ثم أطلقت ضحكةً عالية من أعماقها. «ما الذي يُضحككِ بهذا الشكل؟» فقالت وهي تحاول التقاط أنفاسها: «أوليست الحياة غريبةً حقًّا يا باراك؟ فأنا كنت أتمنى طوال حياتي لو أني نشأتُ في هاواي!» ••• من الغريب كيف يمكن أن يُغيِّرك حوار واحد. أو ربما لا يبدو الأمر كذلك إلا عندما تفكِّر فيه بعد مرور الزمن. فيمر عام وتعرف أنك تشعر بشعورٍ مختلف، لكنك لا تعرف عن يقينٍ ماذا أو لماذا أو كيف؛ لذا فإن عقلك يعود إلى الوراء بحثًا عن شيءٍ من الممكن أن يكون هو ما شكَّل هذا الشعور؛ كلمة، نظرة، لمسة. أعلم أني شعرتُ أن صوتي عاد إليَّ، بعد غياب طويل، في ظُهر ذلك اليوم مع ريجينا. وظل مُهتزًّا بعد ذلك عرضةً للتزييف. لكن في عامي الدراسي الثاني شعرتُ بذلك الجزء الثابت الصادق من نفسي يُصبح أقوى، وأكثر صلابةً ليكون بمنزلة جسرٍ بين مُستقبلي وماضيَّ. في ذلك الوقت تقريبًا اشتركتُ في حملةِ المقاطعة وسحْب الاستثمارات. وقد بدأت تلك الحملة على سبيل المزاح على ما أظن، جزءًا من ذلك الموقف المتطرِّف الذي سعيتُ أنا وأصدقائي للحفاظ عليه، ومراوغة من اللاوعي عن موضوعاتٍ أقرب للوطن. لكن مع مرور الأشهر وجدتُ نفسي أنجذب لدورٍ أكبر — فتوليت الاتصال بممثِّلين عن المؤتمر الوطني الأفريقي لإلقاء خطبٍ في الحرم الجامعي، وكتابة مُسودات خطاباتٍ للكلية، وطباعة منشورات ومناقشة استراتيجيات — ولاحظتُ أن الناس بدءوا يستمعون إلى آرائي. وهو الاكتشاف الذي جعلني أتوق للكلمات. ليست كلماتٍ أختبئ خلفَها، لكن كلمات يمكن أن تحمل رسالةً وتدعم فكرة. وعندما بدأنا نخطِّط للتجمهُر من أجل اجتماع الأمناء، واقترح أحدٌ أن أفتتِح أنا الحدث، أسرعتُ بالموافقة. واكتشفتُ أنني كنتُ مستعدًّا، وأستطيع الوصول إلى الناس في أي موقف. ورأيتُ أن صوتي لن يخذلني. والآن لنرَ. تُرى ما الذي كنتُ أفكِّر فيه في تلك الأيام التي سبقت التجمهُر؟ كانت الأجندة قد أُعِدَّت بحرصٍ شديد مُسبقًا، وكان من المفترض أن أُبدي بعض الملاحظات الافتتاحية فقط، ثم وبينما أتحدَّث يصعد اثنان من الطلاب البِيض على المسرح يرتدون زيَّهم الموحَّد الذي يُشبه الزيَّ العسكري ليسحبوني بعيدًا. شيءٌ ما يُشبه الدراما التي تُمثَّل في المسارح الارتجالية في الشارع؛ أي طريقة لإضفاء لمحة درامية على الموقف من أجل النشطاء في جنوب أفريقيا. كنتُ أعرف الأحداث؛ فقد ساعدتُ في التخطيط للنص. لكن عندما جلستُ أَعُد بعض الملاحظات لما يمكن أن أقول، حدث شيءٌ ما. وفي عقلي أصبح الأمر أكثرَ من مجرد حديثٍ عمرُه دقيقتان، أكثر من طريقة لإثبات التِزامي السياسي. فبدأتُ أتذكَّر زيارةَ أبي لفصل الآنسة هيفتي، والنظرة على وجه كوريتا في ذلك اليوم، وقوة كلمات أبي على إحداث التغيير. وفكَّرتُ في نفسي أن كلَّ ما أحتاج إليه هو إيجاد الكلمات المناسبة. فبالكلمات المناسبة يمكن أن يتغيَّر كلُّ شيء: جنوب أفريقيا، حياة أطفال الجيتو الذين يعيشون على بُعد أميالٍ قليلة فقط منِّي، ومكاني الضعيف في العالم. وعندما صعدتُ على المسرح كنتُ لا أزال في تلك الحالة من النشوة. لا أدري كم من الوقت وقفتُ هناك والشمس ساطعة في عيني مباشرة، وأمامي حشد من بضع مئات من الأفراد مُتملمِلين بعد تناول وجبة الغداء. وكان هناك طالبان يلعبان بقذف الطبق البلاستيكي الطائر بينهما على الحشائش، وآخرون يقفون بعيدًا على الجانب مُستعدُّون لاقتحام المكتبة في أية لحظة. ودون أن أنتظر أية إشارةٍ للبدء، تقدَّمت إلى الميكروفون. قلت: «هناك صراع دائر.» لم يصِل صوتي إلى أبعد من الصفوف القليلة الأولى. فنظر عدد قليل للأعلى، وانتظرتُ أنا حتى هدأت الجموع. «أقول إن هناك صراعًا دائرًا!» توقَّف اللاعبان عن قذف الطبق الطائر. «يفصل بيننا وبينه المحيط. لكنه صراع يمسُّ كلَّ واحدٍ منا. سواء أكنا نعرفه أم لا. سواء أكنا نريده أم لا. إنه صراع يتطلَّب منا أن نختار إلى أي جانبٍ نقف. إنه ليس بين السود والبِيض. ليس بين الأثرياء والفقراء. كلَّا، إنه اختيار أصعب من هذا. إنه اختيار بين الكرامة والعبودية. بين العدالة والظلم. بين الالتزام واللامبالاة. اختيار بين الصواب والخطأ …» توقَّفت. وكانت الجموع هادئة وتُراقبني. فبدأ أحدُهم بالتصفيق، وصاح آخر: «استمرَّ يا باراك.» وتابع: «أخبِرنا بالواقع كما هو.» ثم بدأ الآخرون يُصفِّقون ويهلِّلون، وعرفت أنني نجحتُ في جذب انتباههم، وأنني نجحتُ في جعلهم يفهمون الصلة. فأمسكت الميكروفون مُستعدًّا للاستمرار عندما شعرتُ بيدِ أحدٍ تجذبني من الخلف. وبالضبط كما خططنا، كان أندي وجوناثان يقفان مُتجهِّمَين خلف نظارتيهما السوداوين. وبدآ يَسحبانني من على المسرح، وكان من المفترض أن أُمثِّل أني أحاول التحرُّر من أيديهما، لكن جزءًا مِنِّي لم يكن يُمثِّل؛ فقد أردتُ البقاء على المسرح بالفعل، وسماع صوتي يصِل إلى الجماهير ويعود إليَّ مُحمَّلًا بالإطراء. كان لا يزال لديَّ الكثير لأقوله. لكن دوري قد انتهى. فوقفتُ على الجانب في حين صعد ماركوس وأمسك بالميكروفون وهو يرتدي قميصه الأبيض ورداءه الجينز، وبجسده النحيل وقامته المنتصبة ووجهه الأسود. وشرح للجماهير ما شاهدوه للتو، والسبب في أن مراوغات الإدارة في اتخاذ موقفٍ بشأن الموضوعات المتعلقة بجنوب أفريقيا غير مقبولة. ثم صعدت ريجينا وتحدَّثت عن الفخر الذي شعرَتْ به عائلتها عندما التحقت هي بالجامعة، والخزي الذي كانت تشعُر هي به في ذلك الوقت عندما علمت أنها جزء من مؤسسة تدفع مُقابل تميُّزها من أرباح القمع. وكان يجب أن أشعر بالفخر بكليهما؛ فقد كانا فصيحَين في حديثَيهما، ويمكن القول إن مشاعر الجماهير قد أُثيرت. لكنني في الحقيقة لم أعُد أستمِع إليهما. كنتُ أقف في الخارج مرةً أخرى أشاهد، وأحكم، وأشك. وفي عينيَّ بَدَوْنا فجأة على حقيقتنا؛ هواة مرفَّهين مُنعَّمين، بتلك العصابات الحريرية الشفافة السوداء التي كنَّا نلفُّها حول أذرعنا، والإشارات المرسومة باليد ووجوهنا الشابة الجادة. وعاد لاعبا الطبق الطائر إلى لُعبتهما. وعندما بدأ الأُمناء يصلون لاجتماعهم، وقف بعضٌ منهم خلف الجدران الزجاجية لمبنى الإدارة ليُراقبونا، ولاحظتُ الرجال البِيض الكبار في السن يضحكون فيما بينهم، حتى إن أحدهم لوَّح باتجاهنا. فقلتُ لنفسي إن الأمر برمَّته ليس إلا مسرحية هزلية؛ التجمهر والرايات وكل شيء. مجرد تسلية جميلة لفترة بعد الظهيرة، مسرحية في المدرسة دون حضور الوالدَين. وكنتُ أنا وخُطبتي التي استمرت دقيقة واحدة أكبرَ مسرحية هزلية. وفي الحفل ذلك المساء، جاءت ريجينا إليَّ وهنأتني. فسألتُها علامَ. «على ذلك الخطاب الرائع الذي ألقيتَه.» فتحتُ علبة جِعَة. وقلت: «لقد كان قصيرًا، على أية حال.» تجاهلَتْ ريجينا السخرية في حديثي. وقالت: «هذا ما جعله مؤثرًا للغاية.» وتابعت: «لقد تحدثتَ من قلبك يا باراك. وهذا جعل الناس يريدون سماع المزيد. وعندما جذباك بعيدًا، كان كما لو …» فقاطعتُها قائلًا: «اسمعيني يا ريجينا، إنك سيدة لطيفة حقًّا. وأنا سعيد أنك استمتعتِ بأدائي القصير اليوم. لكن هذه هي المرة الأخيرة التي ستستمعين فيها إلى أي حديثٍ مِني. سأترك هذا الوعظ لك ولماركوس، أما أنا فقررتُ أنه ليس لي شأن بالتحدُّث نيابةً عن السود.» «ولماذا؟» ارتشفتُ من الجِعَة، وعيناي تدوران في الراقصين أمامنا. ثم قلت: «لأنه ليس لديَّ ما أقوله يا ريجينا. ولا أعتقد أننا صنعنا أيَّ فارقٍ بما فعلناه اليوم. لا أعتقد أن ما يحدث لطفلٍ في منطقة سويتو بجنوب أفريقيا يمثِّل فارقًا للأشخاص الذين كنا نتحدَّث إليهم. الكلام العذب لا يصنع فارقًا. فلماذا إذن أتظاهر بغير ذلك؟ سأُخبرك أنا لماذا. لأن هذا يجعلني أشعر أنني مُهم. لأنني أُحب الإطراء. فهذا يجعلني أشعر بإثارةٍ جميلة رخيصة. هذا كلُّ ما في الأمر.» «إنك لا تعتقد هذا حقًّا.» «هذا ما أعتقد حقًّا.» فحدَّقت فيَّ حائرةً تحاول أن تعرف هل أخدعها. ثم قالت في النهاية وهي تحاول أن تجاري نبرتي في الحديث: «حسنًا، ربما أمكنك أن تخدَعَني.» وتابعت: «إذ تخيلتُ أنني كنتُ أستمع إلى رجلٍ يؤمِن بشيء. رجل أسود يهتم. لكن أظن أنني غبية.» أخذتُ جرعةً كبيرة من الجِعَة ولوَّحتُ لشخصٍ يدخل من الباب. وقلت: «إنك لستِ غبيةً يا ريجينا. إنك ساذَجة.» فتراجعَتْ خطوةً إلى الوراء وهي تضع يدَيها على فخذيها. ثم قالت: «ساذَجة؟ أنت تنعتني بالساذجة؟ لا، لا أظن هذا. إذا كان هناك شخص ساذَج، فهو أنت. أنت مَن يظن أنه يستطيع الهروب من نفسه. أنت مَن يظنُّ أنه يمكنه تجنُّب ما يشعر به.» وألصقَتْ إصبعها بصدري. وقالت: «أتريد أن تعرف ما مشكلتك الحقيقية؟ إنك تظنُّ دائمًا أن كل شيءٍ يتعلَّق بك. إنك بالضبط مثل ريجي وماركوس وستيف وجميع الإخوة هنا. تعتقد أن التجمُّع من أجلك. والحديث من أجلك. والجرح جرحك أنت. حسنًا، دعني أخبرك أمرًا يا سيد أوباما. الأمر لا يتعلَّق بك أنت فقط. لم يكن البتة يتعلق بك أنت فقط، إنه يتعلق بأناسٍ يحتاجون إلى مساعدتك. الأطفال الذين يعتمدون عليك. إنهم لا يهتمُّون بسخريتِك ولا بتعقيدك أو بذاتك المجروحة. ولا أنا كذلك.» وفي الوقت الذي كانت تنهي فيه حديثها، خرج ريجي من المطبخ ثملًا أكثرَ منِّي، وجاء إلينا وطوَّق كتفيَّ بذراعه. وقال: «أوباما، إنه حفل رائع يا رجل!» وابتسم ابتسامةً ساذَجة لريجينا. وتابع: «دعيني أُخبرك شيئًا يا ريجينا. أنا وأوباما يعرف أحدُنا الآخر منذ وقتٍ طويل. كان يجب أن تري حفلاتنا العام الماضي هناك في المدينة الجامعية. أتذكُر يا رجل ذلك الوقت عندما ظللنا مُستيقظَين طوال العطلة الأسبوعية؟ ٤٠ ساعة، بلا نوم. بدأنا صباح السبت، ولم نتوقَّف حتى يوم الإثنين.» حاولت أن أغيِّر الموضوع لكن ريجي كان يكمل حديثه. قال: «لقد كان حفلًا جامحًا يا ريجينا. وعندما ظهرَت الخادمات صباح يوم الإثنين، كنا لا نزال جميعًا نجلس في الرُّواق نُشبِه الأموات الأحياء. والزجاجات في كل مكان. وكذلك أعقاب السجائر. والصحف. وتلك البقعة التي تقيَّأ فيها جيمي …» والتفتَ ريجي إليَّ وبدأ يضحك ويسكب المزيد من الجِعَة على السجادة. وقال: «إنك تتذكَّر أليس كذلك؟ كانت القاذورات بشِعة، وبدأ أولئك السيدات المكسيكيات الصغيرات بالبكاء. وصرخَتْ إحداهن: «يا إلهي» باللغة الإسبانية وبدأت الأخرى تربِّت على ظهرها. اللعنة، لقد كنا مجانين …» ابتسمتُ ابتسامةً واهية، وأنا أشعر بريجينا تحدِّق إلى عينيَّ مباشرة حتى شعرتُ بالخجل مثل الشخص المثير للازدراء الذي كنتُ عليه. وعندما بدأتْ في التحدُّث أخيرًا كان كما لو أن ريجي غير موجود. تحدَّثت في همسٍ وصوتها يرتجِف. قالت: «هل تظنُّ أن هذا مُضحك؟» وتابعت: «هل هذا هو الحقيقي في نظرك يا باراك؛ إحداث الفوضى كي يُنظِّفها شخصٌ آخر؟ كان من الممكن أن تكون تلك السيدة هي جَدتي. فقد قضت مُعظم حياتها تُنظِّف ما يخلِّفه الآخرون من فوضى. وأراهن أن أولئك الذين كانت تعمل لدَيهم كانوا يظنون أن هذا مُضحك أيضًا.» ثم انتزعت حقيبتها من على منضدة القهوة واندفعت نحو الباب. فكَّرتُ في أن أركض وراءها لكني لاحظتُ أن عددًا قليلًا من الناس يحدِّقون إليَّ ولم أُرِد أن أجذب المزيد من الأنظار. فجذب ريجي ذراعي وهو يبدو مُتألمًا وحائرًا مثل طفلٍ تائه. وقال: «ما خطْبها؟» فقلتُ: «لا شيء.» وأخذتُ الجِعَة من يد ريجي ووضعتُها على رفِّ الكتب. وتابعت: «إنها فقط تؤمن بأشياءَ غير موجودة في الحقيقة.» ••• نهضتُ من على الأريكة، وفتحت بابي الأمامي، ولاحقني دخان السجائر المحتجز في الغرفة إلى الخارج وكأنه شبح. وفي السماء كان القمر قد اختفى عن الأنظار، ولم يكن واضحًا منه سوى توهُّجه على طول حافة السُّحب العالية. وبدأتِ السماء تُنير، ورائحة الندى تملأ الهواء. انظر إلى نفسك قبل أن تُصدر الأحكام. لا تجعل أحدًا آخر يُنظِّف ما تُخلِّفه من فوضى. الأمر لا يتعلَّق بك. كانت هذه أفكارًا بسيطة؛ عظات سمعتُها ألف مرةٍ من قبل في جميع صورها المختلفة في برامج كوميديا الموقف في التليفزيون وكتب الفلسفة، ومن جَديَّ ووالدتي. وأدركتُ في ذلك الوقت أنني في وقتٍ ما توقَّفتُ عن الإصغاء إليهم، وأدركتُ كم كنت مُستغرقًا حتى أُذنيَّ في جراحي التي أشعر بها، وكم كنتُ مُتلهفًا للهروب من الشِّراك الوهمية التي أعدَّتها لي السلطة البيضاء. وكنتُ مستعدًّا لأن أتخلى عن قِيَم طفولتي إلى ذلك العالم الأبيض، كما لو أن تلك القِيَم قد تلوَّثت بصورةٍ نهائية بالأكاذيب اللانهائية التي كان البِيض يقولونها عن السود. إلا أنني أصبحتُ أسمع الأمر نفسه من أناسٍ سود أُكِنُّ لهم الاحترام، أناس لديهم من أسباب الشعور بالمرارة أكثرُ مما يمكن أن أدَّعيَه لنفسي. وسألوني: مَن قال لك إن الأمانة صفة تقتصر على البِيض؟ مَن خدعك وأخبرك أن موقفك يُعفيك من أن تكون مفكرًا أو مجتهدًا أو طيبًا؟ أو أن الأخلاق لها لون؟ لقد ضللتَ طريقك يا أخي. وأصبحت أفكارك عن نفسك — عمن أنت ومَن قد تُصبِح — غير مكتملة ومحدودة وصغيرة. جلستُ على عتبة الباب وحككتُ ظهر عنقي. وبدأت أسأل نفسي: كيف حدث هذا؟ لكن حتى قبل أن يتكوَّن السؤال في ذهني، كنتُ أعرف الإجابة بالفعل. إنه الخوف. الخوف نفسه الذي جعلني أدفع كوريتا بعيدًا عني في المدرسة الابتدائية. الخوف نفسه الذي جعلني أهزأ بتيم أمام ماركوس وريجي. الخوف الدائم المسبِّب للعجز من أنني لا أنتمي إليهم بشكلٍ ما، وأنني لو لم أراوغ وأختبئ وأتظاهر بأني شخصٌ لست عليه، سأظل دائمًا غريبًا عن باقي العالم، سواء للسود أو البِيض، دائمًا أخضع لأحكام الآخرين. ولهذا فقد كانت ريجينا على حق، إن الأمر يتعلَّق بي فقط. بخوفي. باحتياجاتي. والآن ماذا؟ تخيلتُ جدة ريجينا في مكانٍ ما، وظهرها محنيٌّ، وذراعها تهتز وهي تُنظِّف الأرض التي لا تنتهي. وببطء، رفعت السيدة العجوز رأسها لتنظُر إليَّ مباشرة، وفي وجهها الواهن رأيتُ أن ما يربطنا معًا كان شيئًا أكبرَ من الغضب أو اليأس أو الشفقة. ماذا كانت تطلُب منِّي في ذلك الوقت؟ العزم على الأرجح. العزم على أن أقاوم أية قوة جعلتها تقف محنيةَ الظهر وليست منتصبةَ القامة. العزم على مقاومة الأشياء السهلة أو المناسبة. وقرأت في عينَيها: قد تكون محتجزًا في عالمٍ ليس من صُنعك، لكن لا يزال لدَيك حق في تقرير كيفية تشكيله. لا تزال لديك مسئوليات. تلاشى وجه السيدة العجوز من ذهني، وحلَّت محله سلسلة من الوجوه الأخرى. وجه الخادمة المكسيكية البني المائل إلى الحمرة وهي تجاهد لتحمل القمامة. ووجه والدة لولو الغارق في الحزن وهي ترى الهولنديين يحرقون منزلها. ووجه جَدتي الأبيض بشفتَيها المغلقتَين في حزم وهي تستقل حافلة السادسة والنصف صباحًا إلى عملها. ضيق الأفق والذعر فقط هو ما دفعني لأن أُفكِّر أنه عليَّ الاختيار بينهن. وجميعهن، جداتي كلهن، طلبنَ الشيء نفسه منِّي. فقد تبدأ هويتي بحقيقة عِرقي، لكنها لا تنتهي، ولا يمكنها أن تنتهي، عند ذلك الحد. على الأقل هذا ما سأختار أن أومن به. ولبضع دقائق أخرى جلستُ هناك عند باب الغرفة، أراقب الشمس وهي تنزلق إلى مكانها في السماء، أفكِّر في المكالمة التي سأُجريها مع ريجينا في ذلك اليوم. ومن خلفي، كانت بيلي تشدو بآخِر أغانيها. فأخذتُ أكرِّر اللازمة التي تتكرَّر في الأغنية وأُغمغم ببعض المقاطع. وبدا صوتها مختلفًا في أُذني. فأسفل طبقات الجراح، وأسفل الضحكات المنهكة، سمعت صوت رغبة في الصمود. الصمود، وإبداع موسيقي لم يكن موجودًا من قبل.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/6/
الفصل السادس
قضيت أول ليلة لي في مانهاتن منكمشًا على نفسي في زقاق. ولم يكن ذلك عمدًا، فعندما كنتُ في لوس أنجلوس سمعتُ أن صديقة صديقٍ لي ستُخلي شقَّتها في حي سبانيش هارلم بالقُرب من كولومبيا، وأنه نظرًا لسوق العقارات في نيويورك رأيتُ من الأفضل أن أقتنِص أنا الشقة بمجرد أن أستطيع. وقد توصَّلنا إلى اتفاق، وأبرقتُ إليها بالموعد الذي سأصل فيه في شهر أغسطس، وبعد أن جررتُ أغراضي في المطار والقطار النفقي وميدان تايمز وعبر شارع ١٠٩ من جادة برودواي إلى جادة أمستردام، وصلتُ أخيرًا إلى باب المبنى، بعد أن تخطَّت عقارب الساعة العاشرة مساءً ببضع دقائق. قرعتُ جرس المبنى بالأسفل عدة مرات، ولم يُجِب أحد. وكان الشارع خاويًا، والمباني على كلا الجانبَين مُغطَّاة بقطعٍ من الخشب، مما جعلها تبدو كمجموعة من الظلال المستطيلة الشكل. وفي النهاية ظهرت شابة من بورتوريكو من المبنى وألقت نظرةً عصبية عليَّ قبل أن تتَّجه إلى الشارع. فهُرِعتُ لألحق بالباب قبل أن يُغلق، وتقدَّمتُ وأنا أجرُّ أغراضي خلفي إلى الأعلى لأطرق باب الشقة، ثم تحوَّلَت الطرقات إلى قرعٍ شديد. لكن لم يُجِب أحد أيضًا، ولم أسمع إلا صوتَ بابٍ يُغلَق في مدخل المبنى. هذه هي نيويورك بالضبط كما تخيلتُها. فحصتُ محفظتي، واكتشفتُ أنني لا أملك ما يكفي من النقود للمبيت في نُزل. ولم أكن أعرف سوى شخصٍ واحد في نيويورك، شاب اسمه صادق قابلتُه في لوس أنجلوس، لكنه كان قد أخبرني أنه يعمل طوال الليل في حانةٍ في مكانٍ ما. ولأنه لم يكن بوسعي سوى الانتظار، حملتُ أغراضي إلى الأسفل مرةً أخرى وجلستُ عند مدخل المبنى. وبعد مرور بعض الوقت، وضعتُ يدي في جيبي الخلفي، وأخرجتُ الخطاب الذي كنتُ أحمله معي منذ أن غادرت لوس أنجلوس: كانت مفاجأة سارة حقًّا أن أتلقَّى منك خطابًا بعد مرور كل هذه المدة. أنا بخير وأقوم بتلك الأشياء التي تعرف أنها مُتوقَّعة مني في هذا البلد. لقد عُدت لتوي من لندن حيث كنتُ أهتم بإنجاز بعض الأعمال الخاصة بالحكومة وأُناقش أمور التمويل وغيرها. في الحقيقة نادرًا ما أكتب إليك بسبب هذه الأسفار الكثيرة. وعلى أية حال، أظن أن الوضع سيتحسَّن من الآن فصاعدًا. ستسعد عندما تعلم أن جميع إخوتك وأخواتك هنا بخير، ويُرسلون لك تحياتهم. وقد رحَّبوا بشدةٍ بقرار عودتك إلى وطنك بعد التخرُّج مثلي تمامًا. وعندما تأتي نُقرِّر معًا كم من الوقت تُريد أن تبقى. باري، حتى إذا كانت الزيارة ستستمر بضعة أيام فحسب، فمن الضروري أن تعرف شعبَك وأن تعرف المكان الذي تنتمي إليه أيضًا. رجاءً اعتنِ بنفسك، وتحياتي إلى والدتِك وجَدتك وستانلي. وأتمنَّى أن أتلقَّى خطاباتٍ منك قريبًا. طويتُ الخطاب وأعدتُه إلى جيبي مرة أخرى. لم يكن من السهل أن أكتب إليه، فقد انقطعَت كل المراسَلات بيننا على مدار السنوات الأربع السابقة. وفي الحقيقة وضعتُ للخطاب عدة مسوَّدات، وحذفتُ أسطرًا كاملة، وكنت أجاهد لأكتب بالنبرة المناسبة وأقاوم الرغبة في تفسير الكثير من الأمور. فلم أكن أدري كيف أبدأ الخطاب: «والدي العزيز». أم «أبي الحبيب». أم «عزيزي الدكتور أوباما». وها هو ذا قد أجاب على خطابي بابتهاجٍ وهدوء. ونصحَني أن أعرف المكان الذي إليه أنتمي. وجعل الأمر يبدو سهلًا مثل أن تُجيب عليك الموظفة في خدمة استعلامات شركة الهاتف: «الاستعلامات، أي مدينة من فضلك؟» «لا أدري … أتمنَّى لو أنك تُخبرينني. الاسم هو أوباما. إلى أين أنتمي؟» ربما يكون الأمر بهذه البساطة من وجهة نظره حقًّا. وتخيلتُ أبي وهو يجلس إلى مكتبه في نيروبي، رجلًا مهمًّا في الحكومة لدَيه موظفون وسكرتارية يُقدِّمون له أوراقًا ليعتمِدها، ووزير يتَّصِل به طالبًا منه النصيحة، وزوجة مُحبة وأطفال ينتظرونه في المنزل، وقرية والده على بُعد يومٍ واحد بالسيارة. وقد جعلتني هذه الصورة غاضبًا بصورةٍ ما، وحاولتُ أن أُنحِّيها جانبًا وأُركِّز بدلًا من هذا على صوت موسيقى «الصلصا» الذي يأتي من نافذةٍ مفتوحة في مكانٍ ما في المجمع السكني. لكن ظلَّتِ الأفكار نفسها تُعاودني وتتواصَل كخفقات قلبي. إلى أين أنتمي؟ ربما يكون ذلك الحوار مع ريجينا في تلك الليلة بعد التجمهُر قد أحدث تغييرًا بداخلي، وتركني مليئًا بالنوايا الحسنة. لكني كنتُ مثل سكِّير يتعافى من فترة طويلة ومؤلمة من الإسراف في الشراب، وسرعان ما شعرتُ بالعزم الجديد الذي كان يملؤني يهرب مني، دون هدف أو اتجاه. وقبل عامَين من التخرُّج لم يكن لديَّ أدنى فكرة عما سأفعله في حياتي، أو حتى أين سأعيش. وكانت هاواي تستلقي خلفي مثل حلم الطفولة، ولم أعُد أتخيَّل الاستقرار هناك. وبصرف النظر عما يمكن أن يقوله أبي، كنتُ أعرف أنه فات الأوان على اعتبار أفريقيا وطني حقًّا. وإذا كنتُ قد أصبحت أفهم نفسي على أنني أمريكي أسود، ويعرفني الجميع بهذا، فإن هذه المعرفة ظلَّت غير مُستقرة. وأدركتُ أن ما أحتاج إليه هو مجتمع، مجتمع أكبر من اليأس المشترك الذي كنتُ أشارك أصدقائي السود الشعورَ به ونحن نقرأ آخِر إحصائيات الجرائم، أو عند التحية براحة اليد وهي مرفوعة التي يمكن أن نتبادلها في ملعب كرة السلة. والآن فإنني أحتاج إلى مكانٍ يمكنني أن أستقر فيه وأختبر ما أومن به من أفكار. وهكذا، عندما سمعتُ عن برنامج الانتقال الذي نظمته كلية أوكسيدينتال مع جامعة كولومبيا أسرعت بالتقدُّم إليه. ورأيت أنه إذا لم يكن هناك طلاب سود في كولومبيا أكثر من الموجودين في أوكسيدينتال فسأكون على الأقل في قلب مدينة حقيقية، وسيكون إلى جواري أحياء يقطنها السود. كما أنه لم يكن هناك الكثير الذي يربطني بلوس أنجلوس. فقد كان معظم أصدقائي سيتخرجون ذلك العام، وحسن سيرحل ليعمل مع عائلته في لندن، وريجينا ستسلك طريقها إلى منطقة الأندلس ذاتية الحكم لإجراء دراسة عن الغجر الإسبانيين. وماذا عن ماركوس؟ لم أدرِ بالضبط ماذا حدث لماركوس. فقد كان لا يزال أمامه عام آخر قبل التخرُّج، لكن شيئًا ما حدث له أثناء عامه قبل الأخير، شيء عرفته وإن كنتُ لم أستطِع أن أُحدِّد له اسمًا. تذكَّرت في إحدى الأمسيات عندما كنتُ أجلس معه في المكتبة قبل أن يقرِّر ترْك مقاعد الدراسة. وكان هناك طالب إيراني أصلع أكبر سنًّا له عين زجاجية يجلس على الجانب الآخر من الطاولة، وقد لاحظ أن ماركوس يقرأ كتابًا عن اقتصاديات العبودية. ومع أنه نقل عينَيه إلى الإيراني في نظرةٍ مُهدِّدة، فقد كان الرجل ودودًا وفضوليًّا، وفي النهاية انحنى إلى الأمام على الطاولة وطرح على ماركوس سؤالًا عن الكتاب. قال: «أخبرني من فضلك.» وتابع: «كيف برأيك سُمح لشيءٍ مثل العبودية أن يستمر كل هذه السنوات الطويلة؟» «البِيض لا يعتبروننا بشرًا. الأمر بهذه البساطة.» وتابع: «ومعظمهم لا يزالون.» «نعم، أفهم هذا. لكن ما قصدتُ السؤال عنه هو لماذا لم يُحارب السود؟» «لقد حاربوا بالفعل. أناس مثل نات تيرنر، ودنمارك فيسي …» فقاطعه الإيراني قائلًا: «ثورات العبيد.» لقد قرأتُ شيئًا عنها. لقد كانوا رجالًا شجعانًا. لكنهم قليلون. فلو كنتُ عبدًا، ورأيتُ ما كان يفعله أولئك الناس بزوجتي وأطفالي … كنت أُفضِّل الموت. هذا هو ما لا أفهمه، لماذا لم يُحارب الكثير من الرجال على الإطلاق. حتى الموت، أفهمتَ ما أعنيه؟» نظرتُ إلى ماركوس منتظرًا ردًّا منه، لكنه ظلَّ صامتًا. ولم يبدُ على وجهه غضب ما بدا عليه من شحوب، وظلَّت عيناه ترُكزان على نقطةٍ ما على الطاولة. وقد حيرني أنه لم يُجِب، لكن بعد وهلةٍ من الصمت، توليتُ أنا دفة الهجوم، وسألت الإيراني هل يعرف أسماء الآلاف الذين قفزوا إلى مياهٍ تعج بأسماك القرش قبل أن تصل السفن التي أُسِروا على متنِها إلى الموانئ الأمريكية؛ وسألته هل كان سيُفضِّل الموت بمجرد أن ترسو السفن، إذا عرف أن الثورة لن تعود على النساء والأطفال إلا بمزيدٍ من المعاناة. وهل كان تعاون بعض العبيد مختلفًا عن صمت بعض الإيرانيين الذين وقفوا يتفرجون ولم يفعلوا شيئًا وسفَّاحو السافاك يقتلون ويُعذِّبون مناهضي الشاه؟ كيف يمكننا أن نحكم على الآخرين إلا إذا كنا مكانهم؟ بدت هذه الملحوظة الأخيرة وكأنها فاجأتِ الرجل، وأخيرًا عاد ماركوس للمشاركة في الحوار، وذكر أحد أقوال مالكولم إكس المأثورة القديمة عن الاختلاف بين زنوج المنزل وزنوج الحقل. لكنه تحدَّث كما لو أنه لم يكن مُقتنعًا بكلماته، وبعد بضع دقائق نهض فجأة واتجه نحو الباب. لم أتحدَّث أنا وماركوس عن ذلك الحوار قط. ربما لم يكن هذا سيُفسِّر شيئًا؛ فقد كانت هناك أسباب أكثر من كافية لشخصٍ مثل ماركوس كي لا يشعر بالارتياح في مكانٍ مثل أوكسيدينتال. بالإضافة إلى أنني في الشهور التي تبِعَت بدأتُ ألاحظ تغيرات على ماركوس، كما لو أن أشباحًا هربت عبر شقوق عالمنا الآمِن المُشمس وتُطارده. في البداية أصبح أكثر تعبيرًا عن فخره العنصري. فاعتاد ارتداءَ ملابسَ مطبوعٍ عليها صور أفريقية في الفصل، وبدأ في محاولة إقناع الإدارة بأن تكون هناك مدينة جامعية مخصَّصة لإقامة السود فقط. وبعد ذلك أصبح أكثر تحفُّظًا. وبدأ يهمل حضور المحاضرات، وزاد تعاطيه للماريجوانا. وأطلق لحيته وترك شعرَه ينمو في جدائل طويلة. وفي النهاية أخبرَني أنه سيأخُذ إجازةً من الدراسة لبعض الوقت. قال: «إنني أحتاج إلى راحة من هذا الهراء.» كنا نسير في متنزَّه في كومبتون نقضي بعض الوقت هناك في احتفالٍ يستغرق اليوم بأكمله، وكان يومًا جميلًا. الجميع يرتدون شورتاتٍ قصيرة، والأطفال يصيحون وهم يركضون على الحشائش، لكن ماركوس بدا مُشتَّت الانتباه ونادرًا ما يتحدَّث. ولم يبدُ أنه عاد إلى الحياة مرةً أخرى إلا عندما مرَرْنا بفرقةٍ تعزِف على طبول البونجو. جلسنا إلى جوارهم أسفل شجرةٍ والصوت يأسِر انتباهنا، وراقبنا الأيدي السوداء التي لا تكاد تتلاحم وهي ترقص. وبعد وهلةٍ بدأتُ أشعر بالملل فمشيتُ بعيدًا عنهم وتحدَّثت إلى سيدة جميلة تبيع فطائر باللحم. وعندما عُدت كان ماركوس لا يزال في المكان نفسه، لكنه بدأ يعزِف هو الآخر، فوجدته يجلس القرفصاء بقدمَيه الطويلتَين وعلى حِجره طبلتا بونجو صغيرتان استعارهما. ومن خلال ضباب السجائر الرقيق الذي أحاط به كان وجهه جامدًا يخلو من التعبيرات، وعيناه شبه مغمضة كما لو كان يحاول إبعاد ضوء الشمس. راقبته لساعةٍ تقريبًا وهو يعزِف دون إيقاع أو اختلاف في الأصوات، لا يفعل شيئًا سوى القرع على الطبلتَين بعنف كما لو أنه يدفع بعيدًا ذكرياتٍ لا يعرفها أحد. وفي ذلك الوقت أدركتُ أن ماركوس يحتاج إلى مساعدتي مثلما أحتاج أنا إلى مساعدته، وأدركتُ أيضًا أنني لم أكن الوحيد الذي يبحث عن إجابات. في تلك اللحظة نظرتُ إلى الشارع المهجور في نيويورك. هل يعرف ماركوس إلى أين ينتمي؟ هل يعرف أيٌّ منا؟ أين الآباء والأعمام والأجداد الذين يمكنهم المساعدة في تفسير هذا الجرح العميق في قلوبنا؟ أين مُداوو الجراحِ الذين يمكنهم مساعدتنا في إنقاذ المعاني من الهزيمة؟ لقد رحلوا، اختفَوا، ابتلعهم الزمان. ولم يتبقَّ سوى صورهم المشوشة وخطاباتهم التي تصِل مرةً واحدة في العام مُحمَّلة بالنصائح غير الثمينة. ••• كان الوقتُ قد تجاوز منتصف الليل بكثيرٍ عندما زحفتُ عبر سياجٍ يقود إلى زقاق. ووجدت بقعةً جافة، فوضعتُ حقائبي أسفل جسدي وسقطتُ في سباتٍ عميق وصوت الطبول يُشكِّل أحلامي برقَّة. وفي الصباح استيقظتُ ووجدت دجاجةً بيضاء تُفتِّش بمنقارها في القمامة بالقرب من قدمي. وعلى الجانب الآخر من الشارع كان هناك مُتشرد يغتسل من صنبور مياه مفتوح، ولم يعترض عندما انضممتُ إليه. وفي الشقة لم يكن أحد يجيب، لكن صادقًا ردَّ على الهاتف عندما اتصلتُ به وأخبرني أن أستقلَّ سيارة أجرة إلى شقته في حي «أبر إيست سايد». وفي الشارع استقبلني صادق، وهو باكستاني قصير القامة قوي البنيان جاء إلى نيويورك من لندن قبل عامَين، ووجد أن سُخريته اللاذعة ورغبته الجريئة في تكوين ثروةٍ مناسبتان تمامًا لأجواء المدينة. وقد تجاوز فترة الإقامة المسموح له بها في تأشيرته، وأصبح يكسب عيشَه بالعمل نادلًا ضمن القوى العاملة من المهاجرين غير الشرعيِّين الذين يُسْتَبْدلون بسرعةٍ في نيويورك. وعندما دخلنا الشقة وجدتُ سيدة في ملابسها الداخلية تجلس على طاولة المطبخ، ومرآة وماكينة حلاقة إلى جوارها. بدأ صادق يقول: «صوفي، هذا باري …» فصحَّحتُ له: «باراك» وأنا أضع الحقائب على الأرض. لوَّحَت السيدة بعدم اكتراث، ثم أخبرتْ صادقًا أنها ستكون قد رحلَتْ عندما يعود. تبِعت صادقًا إلى الأسفل مرةً أخرى ثم ذهبنا إلى مقهًى يوناني على الجانب الآخر من الشارع. واعتذرتُ مرة أخرى لأني اتصلتُ به في وقتٍ مبكر للغاية. فقال: «لا تقلق.» وتابعَ: «لقد كانت تبدو أجمل بكثيرٍ ليلة أمس.» ثم أخذ يفحص قائمة الطعام ثم وضعها جانبًا. وسألني: «أخبِرني، يا بار— عفوًا. باراك. ما الذي جاء بك إلى مدينتنا الجميلة؟» حاولت أن أشرح له. فأخبرته أنني قضيتُ الصيف أُفكِّر في شبابٍ أُهدِر هباء، وحالة العالم وحالة روحي. وقلت: «أريد أن أصلح الأمور.» وتابعتُ: «أريد أن أجعل من نفسي إنسانًا ذا فائدة.» فتح صادق صفار بيضةٍ بشوكته. وقال: «حسنًا يا صديقي … يمكنك التحدُّث كما تشاء عن إنقاذ العالم، ولكن هذه المدينة تميل لأن تمحو مثل هذه المشاعر النبيلة تدريجيًّا. انظر إلى هناك.» وأشار إلى الزحام في الجادة الأولى. «الجميع يهتمُّ بنفسه وبمصالحه فحسب. البقاء للأصلح. أنياب ومخالب. ادفع الرجل الآخر ليبتعِد عن طريقك. هذه هي نيويورك يا صديقي. لكن …» ثم هزَّ كتفَيه ومسح بعض البيض بالخبز. قال: «مَن يدري؟ ربما تكون أنت الاستثناء. وفي هذه الحالة سأرفع لك القبَّعة.» ورفع صادق كوب قهوته في تحيةٍ ساخرة وعيناه تبحثان عن أية إشارة للتغيير. وعلى مدار الشهور التي تلت كان يستمرُّ في مُراقبتي وأنا أتنقَّل مثل فأر تجارب ضخم عبر طرق مانهاتن الفرعية. وكتم ضحكته عندما استولى شاب ضخم على المقعد الذي عرضتُه على سيدة في منتصف العمر في المترو. وكان يقودني في أحد فروع بلومينجدال عبر عارضات أزياء كنَّ ينثُرن العطر في الهواء، ويُراقِب ردَّ فِعلي وأنا أفحص بطاقات الأسعار المذهلة على معاطف الشتاء. وعرض عليَّ الإقامة عنده مرةً أخرى عندما تخليتُ عن الشقة في شارع ١٠٩ بسبب سوء التدفئة بها، وصحبني إلى محكمة الإسكان عندما تبيَّن أن المؤجِّرين من الباطن لشقتي الثانية لم يدفعوا الإيجار وهربوا بمبلغ العربون الذي أعطيتُه لهم. «أنياب ومخالب يا باراك. توقَّف عن الاهتمام بهؤلاء المشرَّدين هنا، وفكِّر كيف ستكوِّن لنفسك ثروةً من هذه الشهادة الجامعية المكلِّفة التي ستحصل عليها.» وعندما فقد صادق شقته المؤجَّرة، أقَمْنا معًا. وبعد بضعة أشهُر من الفحص الدقيق، بدأ يُدرك أن المدينة كان لها بالفعل تأثير عليَّ، مع أنه لم يكن التأثير الذي توقَّعه. فقد توقَّفتُ عن تعاطي المخدرات. وكنتُ أركض ثلاثة أميال يوميًّا وأصوم أيام الآحاد. ولأول مرة منذ سنواتٍ كرَّستُ نفسي للدراسة وبدأتُ أحتفظ بدفترٍ أُدوِّن فيه الأفكارَ اليومية وشعرًا سيئًا للغاية. وكلما حاول صادق إقناعي بالذهاب إلى إحدى الحانات اعتذرتُ بعذرٍ غير مُقنع، مثل إن لديَّ الكثير من الأعمال لأُنجزها، أو إنني لا أملك ما يكفي من النقود. وفي أحد الأيام — قبل أن يغادر الشقة بحثًا عن صحبةٍ أفضل — استدار ووجَّه لي أقسى انتقاد. قال: «إنك تُصبح مملًّا.» كنتُ أعلم أنه مُحق، مع أني لم أكن أنا نفسي أعرف يقينًا ماذا حدث. أظن أنني بطريقةٍ ما كنتُ أؤكد على تقدير صادق لإغراء المدينة، وقدرتها على الإفساد. فمع ازدهار البورصة في وول ستريت أصبحت مانهاتن تعجُّ بالنشاط والحيوية، وأصبحت التطورات تبرز إلى الوجود بغتةً في كل مكان؛ فأصبح كثير من الرجال والنساء الذين تجاوزوا العشرينيات من عمرهم بقليل يمتلكون ثرواتٍ هائلة، وسار تجار الأزياء على نهجهم. وقد بهر جمال المدينة وتلوُّثها وضوضاؤها وتبذيرها حواسِّي؛ فلم يبدُ أن هناك قيدًا على ابتكار أنماطٍ للحياة أو على صناعة الرغبات؛ فهناك دائمًا مطعم أغلى، أو ملابس أكثر أناقة، أو ملهًى ليلي أكثرُ خصوصية، أو امرأة أجمل، أو مُخدِّر أقوى. ولأني لم أكُن واثقًا بقدرتي على أن أنتهج منهج الاعتدال، وأخشى السقوط في العادات القديمة، تبنَّيتُ موقفَ — إن لم يكن معتقدات — الواعظ الذي يسير في الشوارع؛ مستعدًّا لأن أرى الإغواءات في كل مكان، ومتأهِّب لأن أتجاوز الإرادة الهشة. ومع ذلك فقد كان ردُّ فِعلي أكثر من مجرد محاولة لكبح جماح شهيةٍ مفرطة أو استجابة للضغط الحسي. فأسفل ذلك النشاط والحركة، كنتُ أرى التمزُّق المستمر للعالَم. لقد رأيتُ فقرًا مُدقعًا في إندونيسيا، ولمحتُ النزعة العنيفة في أطفال المناطق الفقيرة المكتظة بالسكان في لوس أنجلوس، وأصبحت معتادًا في كل مكانٍ على الشك الذي يُراود كل عِرق تجاه الآخر. لكن سواء أكان هذا بسبب الكثافة السكانية بنيويورك أم بسبب مساحتها، فقد بدأتُ هناك فقط أستوعِب الدقة، التي تُضاهي الدقة الرياضية، التي تلتحِم بها مشكلات الأجناس والطبقات في أمريكا، وعمق وضراوة الحروب القبلية الناتجة، والغضب والمرارة اللذَين يتدفَّقان بانسيابية، ليس فقط في الخارج في الشوارع، لكن في حمامات جامعة كولومبيا أيضًا حيث كانت الجدران، بصرف النظر عن عدد المرات التي حاولَتِ الإدارة طلاءها، لا تزال منقوشًا عليها مراسلات فظَّة بين الزنوج واليهود. كان الأمر كما لو أن جميع المواقف المعتدلة قد انهارت تمامًا. وبدا أن ذلك الانهيار كان أكثر وضوحًا في مجتمع السُّود الذي تخيلتُه بعاطفةٍ قوية وأملتُ أن أجد بداخله مأوًى، أكثر من أيِّ مكانٍ آخر. فقد أُقابل صديقًا أسود في شركته للمحاماة في وسط المدينة، وقبل أن نتَّجه لتناوُل الغداء في مطعم متحف الفن الحديث، أنظر من نافذة مكتبه — الموجود في مبنًى شاهق الارتفاع — إلى الجانب الآخر من المدينة باتجاه نهر إيست ريفر، وأتخيل حياةً سعيدة؛ إجازةً وعائلةً ومنزلًا. حتى لاحظتُ أن السُّود الآخرين في المكتب كانوا إما سعاة أو عمالًا، والسُّود الآخرين في المتحف هم حراس الأمن الذين يرتدون ستراتٍ زرقاء ويَعُدُّون الساعات قبل أن يمكنهم اللحاق بالقطار والعودة إلى منازلهم في بروكلين أو كوينز. وفي بعض الأحيان كنتُ أتجوَّل في هارلم كي ألعب في ملاعبَ قرأتُ عنها، أو كي أستمع إلى حديثٍ يُلقيه جيس جاكسون في شارع ١٢٥، أو — في أوقات نادرة من صباح أيام الآحاد — كي أجلس على المقعد الخلفي في الكنيسة المعمدانية الحبشية، وتُبهجني تراتيل الإنجيل الجميلة الحزينة التي يُرتِّلها جوقة المنشِدِين، وألمح شيئًا من ذلك الذي كنتُ أسعى إليه. ولكن لم يكن لديَّ مرشد يمكنه أن يُريني كيف أنضم إلى هذا العالم المضطرب، وعندما بحثتُ عن شقةٍ هناك، وجدتُ المنازل الأنيقة المبنية بالحجر الرملي البُني في منطقة شوجر هيل غيرَ شاغرة وبعيدة عن متناوَل يدي، أما المباني السكنية القليلة المتميزة فكان أمامها قوائم انتظار تمتدُّ لعشر سنوات، ومِن ثَم لم يتبقَّ سوى صفوف وصفوف من المباني السكنية غير صالحة للسكن كان الشباب يقفون أمامها يَعُدُّون قوائم الفواتير الضخمة، ويتنزَّه أمامها السكارى ويتعثرون ويبكون برفق. أخذت كل هذا على أنه إهانة لشخصي، سخرية من طموحي الرقيق، مع أني عندما تحدَّثتُ عن هذا الأمر أمام أشخاصٍ عاشوا في نيويورك لبعض الوقت، قيل لي إنه لا شيء جديد في هذه الملاحظات. وقالوا إن هذه المدينة خارجة عن السيطرة؛ فالتناقُض الشديد ظاهرة طبيعية، مثل الرياح الموسمية أو الانجراف القاري. وأصبحَتِ المناقشات السياسية، من ذلك النوع الذي كان هادفًا وشديدَ التوتر في أوكسيدينتال، تحمل طابع المؤتمرات الاشتراكية التي كنتُ أحضرها في بعض الأحيان في كلية اتحاد كوبر، أو معارض الثقافة الأفريقية التي كانت تُقام في هارلم وبروكلين أثناء الصيف، ولم يكن هذا سوى بضعة من مصادر التسلية الكثيرة التي قدَّمَتها نيويورك مثل الذهاب لمشاهدةِ فيلم أجنبي أو التزلُّج على الجليد في مركز روكفلر. وأمكنني بقدْرٍ بسيط من المال أن أكون حرًّا لأعيش مثل معظم المواطنين السود من الطبقة المتوسطة في مانهاتن، حرًّا في اختيار فكرة رئيسية تدور حولها حياتي، حرًّا لأُكوِّن لنفسي مجموعة من الأساليب والأصدقاء والحانات والانتماءات السياسية. ومع ذلك فقد شعرتُ أنه في مرحلةٍ ما — ربما عندما يكون لدَيك أطفال وتُقرِّر أنه لن يمكنك البقاء في المدينة إلا على حساب الالتحاق بمدرسةٍ خاصة، أو عندما تبدأ في التنقُّل بسيارات الأجرة ليلًا تجنبًا لاستقلال المترو، أو عندما تُقرِّر أنك تحتاج إلى بواب في المبنى الذي تقطن فيه — فإن اختيارك لا يمكن الرجوع فيه، فسيُصبح من غير الممكن اجتياز الهوة الفاصلة، وستجد نفسك على جانب الطريق الذي لم تعتزم قطُّ أن تكون عليه. ولأنني لم أكن راغبًا في هذا الاختيار فقد قضيتُ عامًا، أسير من أحد طرفي مانهاتن إلى الآخر. وراقبتُ، مثل السياح، نطاق إمكانيات البشر المتاحة، محاولًا تتبُّع مسار مُستقبلي في حياة الناس التي أراها، وأبحث عن منفذٍ يُمكنني الدخول منه مرةً أخرى. ••• وجدَتْني والدتي وأختي في هذه الحالة من الكآبة عندما جاءتا لزيارتي في أول صيفٍ أقضيه في نيويورك. فقالت مايا لوالدتي: «إنه نحيف للغاية.» وصاحت أُمي وهي تُفتِّش الحمَّام: «ليس لدَيه سوى مِنشفتَين!» واستدركت: «وثلاثة أطباق!» وبدأتا تضحكان. مكثتا معي أنا وصادق بضعَ ليالٍ ثم انتقلتا إلى شقةٍ في بارك أفينيو عرَضها صديقٌ لوالدتي عليهما وهي مسافرة. وفي ذلك الصيف وجدتُ عملًا في تنظيف موقع بناء في حي أبر ويست سايد؛ لذا فقد قضت والدتي وأُختي معظم أيامهما تستكشِفان المدينة وحدَهما. وعندما كنا نتقابل على العشاء كانتا تُقدِّمان تقريرًا مفصلًا عن مغامراتهما؛ مثل تناول فراولة وقشدة في بلازا، والذهاب بمركبٍ إلى تمثال الحرية، وزيارة أعمال سيزان في متحف المتروبوليتان للفنون. وكنتُ أنا أتناول طعامي في صمتٍ حتى تنتهيا من الحديث ثم أبدأ حديثًا طويلًا عن مشكلات المدينة والأمور السياسية المتعلقة بمن حُرِموا حقوقَهم. ووبَّخت مايا لأنها قضت إحدى الأمسيات تشاهد التليفزيون بدلًا من قراءة القصص التي اشتريتُها لها. وكنتُ أوضِّح لأمي الطُّرق المختلفة التي يساعد بها المتبرِّعون الأجانب ومنظمات التنمية الدولية، مثل تلك التي كانت تعمل بها، على زيادة اعتماد دول العالم الثالث على غيرهم. وفي إحدى المرات، عندما دخلَت كلتاهما إلى المطبخ سمعتُ مايا تتحدَّث إلى والدتي. قالت: «باري بخير، أليس كذلك؟ أقصد أتمنَّى ألا يفقد هدوءه ويُصبح واحدًا من أولئك الغرباء الذين نراهم في الشوارع من حولنا.» وفي مساء أحد الأيام، وبينما كنتُ أتصفَّح صحيفة «ذا فيليدج فويس»، برقَتْ عينا أمي عندما رأت إعلان فيلم «أورفيوس الأسود» (بلاك أورفيوس) الذي كان يُعرَض في سينما بوسط المدينة، وأصرَّت والدتي على أن نذهب ونُشاهده في تلك الليلة، وقالت إنه أول فيلم أجنبي رأته في حياتها. وأخبرتنا عندما دلفنا إلى المصعد: «لم أكن تجاوزتُ السادسة عشرة من عمري، وكنتُ قد قُبِلت لتوي في جامعة شيكاغو، ولم يكن جَدك قد أخبرني بعدُ أنه لن يدعني أذهب للالتحاق بالجامعة، وذهبت هناك فترة الصيف، أعمل جليسة أطفال. وكانت تلك هي المرة الأولى على الإطلاق التي أكون فيها وحدي تمامًا. يا إلهي، شعرتُ أنني ناضجة للغاية. وعندما شاهدت هذا الفيلم، قررتُ أنه أجمل شيء رأيته في حياتي.» ركبنا سيارة أجرة إلى السينما التي تُعيد عرض الأعمال السينمائية القديمة التي يعرض فيها هذا الفيلم. وقد صُور ذلك الفيلم — الذي كان الأول من نوعه بسبب فريق العمل الذي يتكوَّن بالكامل من برازيليين سُود — في الخمسينيات. وكانت قصة الفيلم بسيطة؛ أسطورة الحبِّ التعيسة بين أورفيوس ويوريديس التي دارت أحداثها في أحياء مدينة ريو أثناء المهرجان. كان البرازيليون السُّود والسمر الذين يظهرون بروعة التصوير بالألوان في خلفية من التلال الخضراء الطبيعية، يُغنُّون ويرقصون ويعزِفون على الجيتار مثل طيورٍ ملونة لا يشغل بالها شيء. وفي منتصف الفيلم تقريبًا قررتُ أنني رأيتُ ما يكفي واستدرتُ إلى أُمي لأرى هل هي مستعدة للمغادرة، ولكن كان على وجهها المضاء بالتوهُّج الأزرق المنعكس من الشاشة نظرة حالمة. وفي تلك اللحظة شعرتُ أنني أنظر عبر نافذة إلى قلبها، قلبها الطائش في شبابها. وفجأة أدركتُ أن تصوير السود بهذه البراءة التي تظهر على الشاشة — وهو نقيض الصورة التي رسمها كونراد عن السُّود البربريِّين — هو ما حملته أمي إلى هاواي كل تلك السنوات، انعكاس للأوهام البسيطة التي كانت مُحرَّمة على الفتاة البيضاء من الطبقة المتوسطة من كانساس، الوعد بحياة أخرى؛ دافئة وحسِّية وغريبة ومختلفة. استدرتُ مرة أخرى وأنا أشعر بالخجل من أجلِها، وبالغضب من الناس حولي. وتذكَّرتُ وأنا أجلس في الظلام حوارًا دار بيني وبين صديقٍ لوالدتي، وهو رجل إنجليزي كان يعمل لدى منظمة إغاثة دولية تعمل في أرجاء أفريقيا وآسيا. وقد قال لي إنه من بين جميع الشعوب المختلفة التي قابلها في أسفاره كان أهل مدينة دِك في السودان هم الأغرب. وقال: «عادة بعد شهر أو اثنين تنجح في التواصُل مع الناس، حتى إذا لم تكن تتحدَّث لُغتهم، فستجد ابتسامةً أو دُعابة؛ أيْ مظهرًا من مظاهر التعارُف. ولكن في نهاية عام مع أهل مدينة دِك ظلُّوا غرباء تمامًا في نظري؛ فكانوا يضحكون على الأمور التي تقودني إلى اليأس. وما كنتُ أظنُّه مُضحكًا كان يتركهم صامتين كالحجارة.» وقد وفَّرت عليه إخباري أن أهلَ دِك كانوا من الشعوب النيلية؛ أي أقرباء لي. وحاولت أن أتخيَّل هذا الرجل الإنجليزي شاحب الوجه في صحراء حارقة في مكانٍ ما، ويولي ظهره لدائرةٍ من رجال القبائل العراة، وعيناه تبحثان في سماءٍ خاوية، ويشعر بالمرارة في وِحدته. وقد طرأت الفكرة نفسها التي راودتني في ذلك الوقت على ذهني وأنا أخرج من السينما مع أُمي وأختي: لا يمكن للعواطف بين الأجناس أن تكون نقية، حتى الحب كانت تلوِّثه الرغبةُ في أن نجد في الآخر شيئًا نفتقده في ذاتنا. وسواء أكنا نسعى لاستحضار الشياطين أو الخلاص من ذنوبنا فإن العِرق الآخَر سيظل دائمًا كما هو: خطر وغريب ومنعزل. قالت مايا عندما ذهبت والدتي إلى الحمَّام: «إنه قديم.» «ماذا؟» «الفيلم، إنه من النوع القديم، النوع الذي تُفضِّله أُمي.» وعلى مدار الأيام التالية حاولتُ أن أتجنَّب مواقفَ تُجبرني أنا ووالدتي على التحدُّث، ثم قبل بضعة أيام من رحيلهما زرتهما عندما كانت مايا نائمة. ولاحظَتْ والدتي خطابًا موجَّهًا إلى أبي في يدي، وسألتُها هل معها طابع بريد دولي. «هل ترتِّبان لزيارة؟» أخبرتُها باختصارٍ عن خططي وهي تُخرِج من قاع حقيبتها طابعًا. في الواقع أخرجَتْ طابعَين وقد التصقا معًا بفعل حرارة الصيف. فابتسمَتِ ابتسامةً خجولة، ووضعَتِ الماء ليغلي كي نفصلهما بالبخار. وقالت من المطبخ: «أظنُّ أنه من الرائع لكليكما أن تُتاح لكما الفرصة أخيرًا ليعرف أحدكما الآخر. على الأرجح كان من الصعب عليك تحمُّله وأنت صبي في العاشرة، لكن الآن بعد أن كبِرت …» هززتُ كتفي. وقلت: «مَن يدري؟» أخرجتْ رأسَها من المطبخ. قالت: «أتمنَّى ألا تكون تشعر بالاستياء تجاهه.» «ولماذا؟!» «لا أعلم.» ثم عادت إلى غرفة المعيشة وجلسنا هناك بعض الوقت نسمع صوت حركة المرور بالأسفل. ثم انطلق صفير إبريق الشاي ووضعت طابع البريد على المظروف. ثم دون أيِّ داعٍ بدأت والدتي تروي قصةً قديمة مرةً أخرى في صوتٍ بعيد، كما لو أنها تقصُّها على نفسها. قالت: «لم يكن خطأ والدك أنه رحل كما تعلم. أنا طلَّقتُه. عندما تزوَّجنا لم يكن جَدك وجَدتك سعداء بالفكرة، لكنهما وافقا، وعلى الأرجح لم يكن بوسعهما أن يُوقِفانا، وفي النهاية غيَّرا رأيهما وقالا إنها فكرة سديدة. ثم كتب والد باراك، جَدك حسين، لوالدي ذلك الخطاب الطويل السيئ يقول فيه إنه لم يوافق على الزواج. وأضاف أنه لم يُرِد أن يتلوَّث دم عائلة أوباما بدماء امرأةٍ بيضاء. ويمكنك أن تتخيَّل كيف كان ردُّ فعل جَدك عندما قرأ هذا. ثم كانت هناك مشكلة زوجة أبيك الأولى … وكان قد أخبرني أنهما انفصلا، وقد كان زواجه بها على النظام القروي ومن ثَم لم يكن هناك أي مُستند قانوني يوضح أنهما قد طُلِّقا …» وبدأ ذقنها يرتجف وضغطت بأسنانها على شفتها محاوِلةً التماسُك. وقالت: «ردَّ والدُك على الخِطاب، وقال إنه سيستمر فيما بدأه. ثم وُلدتَ أنت واتفقنا على أن نعود نحن الثلاثة إلى كينيا عندما ينتهي من دراسته. لكن جَدك حسينًا كان لا يزال يكتب خطابات إلى والدك، ويُهدِّده بأنه سيجعلهم يسحبون تأشيرته كطالب. وفي ذلك الوقت أصبحَتْ جَدتك في غاية الاضطراب؛ فقد قرأت عن ثورة ماو في كينيا قبل بضع سنوات وقد ألقَتْ عليها الصحافة الغربية ضوءًا شديدًا، وكانت واثقة من أنهم سيقطعون رأسي ويختطفونك إذا ما ذهبنا إلى هناك. «حتى في ذلك الوقت، كان من الممكن أن ينجح الأمر. وعندما تخرَّج والدُك من جامعة هاواي تلقَّى منحتَين دراسيتَين. واحدة إلى جامعة نيو سكول هنا في نيويورك والأخرى إلى جامعة هارفارد. ووافقت جامعة نيو سكول على أن تُغطِّي نفقات كل شيء؛ الغرفة والإقامة ووظيفة في الحرم الجامعي وهو ما كان كافيًا لنعيش منه نحن الثلاثة. أما جامعة هارفارد فقد وافقت على تغطية مصاريف الدراسة فقط. لكن باراك كان وغدًا عنيدًا واختار الذهاب إلى هارفارد. وقال لي: «كيف أرفض فرصةً لتلقي أفضل تعليم؟» فهذا هو كلُّ ما كان يُفكِّر فيه: إثبات أنه أفضل …» وتنهَّدت، ومررَّت أصابعها في شعرها. وقالت: «لقد كنَّا صغارًا. كنتُ أصغر سنًّا منك الآن. وهو كان أكبر منك ببضع سنوات. بعد ذلك عندما جاء لزيارتنا في هاواي تلك المرة، أرادنا أن نذهب ونعيش معه. لكني كنتُ لا أزال متزوجةً من لولو في ذلك الوقت، وكانت زوجته الثالثة قد تركته للتو، ولم أفكِّر …» ثم توقَّفت وضحكت لنفسها. وقالت: «هل أخبرتُك قط أنه تأخَّر على أول ميعاد بيننا؟ طلب مني أن أُقابله أمام مكتبة الجامعة في الساعة الواحدة. وعندما وصلتُ إلى هناك، لم يكن قد وصل بعد، ففكَّرت أنه يمكنني أن أمنحه بضع دقائق. وكان الجو جميلًا، فاستلقيتُ على أحد المقاعد الكبيرة وسرعان ما استغرقتُ في النوم. وبعد ساعة — ساعة كاملة! — ظهر مع اثنَين من أصدقائه، فاستيقظتُ وثلاثتهم يقفون إلى جوار المقعد، وسمعتُ أباك يقول بجدية تامة: «أرأيتم أيها السادة. لقد أخبرتُكم أنها فتاة رائعة، وأنها ستنتظِرني.» ضحكت والدتي مرةً أخرى، ومرة أخرى رأيتُها في صورة الطفلة التي كانت عليها. باستثناء أني رأيتُ شيئًا آخر هذه المرة؛ ففي وجهها المبتسِم الحائر قليلًا رأيتُ ما يجب أن يراه جميع الأطفال في وقتٍ ما إذا أرادوا أن ينضجوا؛ حياة والدَيهم تتكشَّف أمامهم منفصلةً وتمتد إلى ما هو أبعد من نقطة زواجهما أو ميلاد أحد أبنائهما، وتتجلَّى تفاصيلُ الحياة بدءًا من الأجداد وأجداد الأجداد، وعدد لا نهائي من اللقاءات بالصدفة، وسوء الفهم والآمال المتوقَّعة والظروف المحدودة. لقد كانت والدتي تلك الفتاة التي لا تزال مُتأثرة بالفيلم الذي يضم أناسًا سودًا رائعين، والتي أشبع اهتمامُ أبي بها غرورَها، وهي حائرة ووحيدة تحاول أن تهرُب من قبضة حياة والدَيها. لقد كان سوء الفهم واحتياجاتها الخاصة يشوبان البراءة التي حملتها معها في ذلك اليوم وهي في انتظار أبي. لكنها كانت احتياجات ساذَجة ودون إدراك للذات، وربما تكون هذه هي الطريقة التي تبدأ بها أية قصة حب، دوافع وصور غير واضحة تسمح لنا بالهروب من وِحدتنا ثم — إذا كنَّا من سعداء الحظ — نتحوَّل في النهاية لنكون أكثر ثباتًا. ما سمعتُه من أُمي في ذلك اليوم وهي تتحدَّث عن أبي شيء أظن أن معظم الأمريكيين لن يسمعوه أبدًا من بين شفتَي شخصٍ من عِرق آخَر، ومن ثَم لا يمكن أن نتوقَّع أن يُصدقوا أنه قد يكون موجودًا بين البِيض والسود؛ إنه حُب شخصٍ يعرف جميع جوانب حياتك، حبٌّ سيتغلَّب على الإحباط. لقد رأت أمي أبي في الصورة التي يأمل كلُّ شخصٍ أن يراه عليها شخصٌ واحد على الأقل، وحاولتْ أن تساعد الطفل الذي لم يعرفه قطُّ على أن يراه بالطريقة نفسها. وقد كانت تلك النظرة على وجهها في ذلك اليوم هو ما تذكَّرتُه عندما اتصلتُ بها بعد بضعة شهور لأخبرها أن والدي قد تُوفي وسمعتُ صرختَها من هذه المسافة البعيدة. ••• بعدما تحدَّثتُ إلى والدتي اتصلتُ بشقيق والدي في بوسطن ودار بيننا حوار قصير غريب. ولم أذهب إلى الجنازة؛ لذا كتبتُ لعائلة والدي في نيروبي خطابًا أُعرِب فيه عن تعازيَّ. وطلبتُ منهم أن يكتبوا إليَّ، وسألت عن حالهم. ولكني لم أشعر بالألم، فقط راودني شعور غامض بأن فرصةً ما قد ضاعت، ولم أجد سببًا للتظاهر بغير ذلك. وتأجَّلَت خططي للسفر إلى كينيا إلى أجلٍ غير مُسمًّى. سيمرُّ عام آخر قبل أن أُقابله في إحدى الليالي في زنزانة باردة في أحد أحلامي. فقد حلمت أني أسافر بالحافلة مع أصدقاءَ لا أتذكَّر أسماءهم، رجال ونساء لدَيهم رحلات مختلفة للقيام بها. وقد سِرنا عبْر حقولٍ عميقة من الحشائش والتلال التي كانت تمتد قبالة السماء البرتقالية اللون. جلس إلى جواري رجل عجوز أبيض البشرة قصير القامة ممتلئ القوام، وقرأتُ في كتابٍ كان يحمله بين يدَيه أن الطريقة التي نتعامل بها مع كبار السن تختبر أرواحنا. وقد أخبرَني أنه من المؤيدين للنقابات ومن أعضائها وأنه ذاهب للقاء ابنته. توقَّفنا في فندقٍ قديم ضخم به ثريات. وكان هناك بيانو في الرُّواق ورَدهة مليئة بوسائد من الساتان الناعم، فأخذتُ إحدى الوسائد ووضعتُها على مقعد البيانو، وجلس الكهل الأبيض، وقد تقدَّم به العمر ووصل إلى مرحلة الشيخوخة، وعندما نظرتُ مرة أخرى إليه كانت فتاة سوداء صغيرة لا تكاد قدماها تصل إلى الدوَّاسة. فابتسمَتْ وبدأتْ تعزِف، ثم جاءت نادلة هسبانية شابة وقطَّبت ما بين حاجبَيها وهي تنظر إلينا، لكن أسفل العبوس كانت هناك ضحكة، ورفعت أصبعها إلى شفتَيها كما لو أننا نتشارك سرًّا. غلبني النوم لباقي الرحلة، وعندما استيقظتُ وجدتُ أن الجميع قد رحلوا. وجدت أن الحافلة قد توقَّفت، فخرجتُ منها وجلست على رصيف الشارع. وفي داخل مبنًى من الحجر الصلب، كان هناك محامٍ يتحدَّث إلى قاضٍ. ورأى القاضي أن أبي قد قضى ما يكفي من الوقت في السجن، وأنه حان الوقت لإطلاق سراحه. لكن المحامي اعترض بقوةٍ واستشهد بقوانينَ متعددة وسابقة وبالحاجة إلى الحفاظ على النظام. فهزَّ القاضي كتفَيه ونهض من على الأريكة. وقفتُ أمام الزنزانة وفتحت القفل ووضعته بحرصٍ على حافة نافذة. كان أبي أمامي ولا يرتدي سوى قطعة قماش تلتفُّ حول وسطه، وكان نحيفًا للغاية، برأسه الضخم، وقوامه الرشيق، وذراعَيه وصدره الخاليين من الشَّعر. وبدا شاحبًا، وعيناه السوداوان مضيئتان في وجهه الشاحب، لكنه ابتسم وأشار إلى الحارس الأبكم الطويل أن يتنحَّى جانبًا. وقال: «انظر إلى نفسك.» وتابع: «لقد أصبحتَ طويلًا للغاية ونحيفًا للغاية. بل شابَ شعرُك!» ورأيتُ أنه كان على حق، فاتجهتُ إليه وتعانقنا. وبدأتُ أبكي، وشعرتُ بالخِزي، لكن لم أستطِع أن أوقِف نفسي. وقال: «باراك. لقد أردتُ دائمًا أن أخبرك بمدى حبي لك.» وبدا صغيرًا للغاية بين ذراعَي، في حجم صبي. وجلس في زاوية فراشه الصغير، ووضع رأسه على يدَيه المتشابكتَين، وحدَّق إلى الحائط بعيدًا عني. وارتسم على وجهه حزنٌ عميق لم يبدُ أن هناك سبيلًا لمحوه، فحاولتُ أن أُداعبه، وأخبرتُه أنني إذا كنتُ نحيفًا للغاية فهذا لأنني أُشبهه. ولكنه لم يحرك ساكنًا، وعندما همستُ له أننا يمكننا أن نُغادر معًا، هزَّ رأسه وأخبرني أنه سيكون من الأفضل لو أني رحلت. استيقظتُ من النوم وأنا لا أزال أبكي، وكانت هذه هي أول دموع حقيقية أذرفها عليه، وعلى نفسي؛ أنا ساجنه، وقاضيه، وابنه. أضأتُ النور وأخرجتُ خطاباته القديمة، وتذكَّرت زيارته الوحيدة، وكرة السلة التي منحني إيَّاها، وكيف علَّمني الرقص. وأدركت، ربما لأول مرة، كيف أن صورته القوية، حتى في غيابه، منحتني حصنًا أَكْبُر بداخله، وهي صورة إما أعيش أهلًا لها أو أخذلها. سرتُ إلى النافذة ونظرتُ إلى الخارج وأنا أستمع إلى أول أصواتٍ تصدر في الصباح؛ صوت شاحنات القمامة، وخُطى أقدامٍ في الشقة المجاورة. وجال بخاطري أنني بحاجةٍ لأن أبحث عنه وأتحدَّث معه مرة أخرى.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/7/
الفصل السابع
عام ١٩٨٣م قرَّرت أن أُصبح منظمًا للمجتمع الأهلي. في واقع الأمر لم أكن ملمًّا بالكثير من التفاصيل بخصوص هذه الفكرة؛ حيث لم تتسنَّ لي معرفة أيِّ شخصٍ يعمل بهذه الوظيفة ويكسِب قُوتَه منها. وعندما كان زملائي في الجامعة يسألونني عن مهامِّ وظيفة مُنظِّم المجتمع الأهلي لم أكن أستطيع الإجابة بصورة مباشرة. إنما كنتُ أعبِّر عن الحاجة إلى إجراء تغيير. تغيير في البيت الأبيض حيثما كان ينفِّذ ريجان وأتباعه أفعالهم القذرة. وتغيير في الكونجرس الفاسد والمقهور. وتغيير في الحالة العامة للبلاد حيث الولع الزائد بالأشياء والأنانية والتمركز حول الذات. بالإضافة إلى ذلك كنتُ أقول إن التغيير لا يحدث من القمة إلى القاع. بل ينبع من القاعدة الشعبية المنظمة. وهذا هو ما سأقوم به بالفعل. حيث سأُنظِّم السُّود على مستوى القاعدة الشعبية. وذلك بهدف إجراء التغيير. كان أصدقائي — البِيض والسُّود على حدٍّ سواء — يُطرون عليَّ بشدة بسبب أفكاري المثالية قبل التوجُّه إلى مكتب البريد لإرسال طلبات الالتحاق بالدراسات العُليا بالجامعة. لم أستطِع بكلِّ تأكيدٍ إلقاء اللَّوم عليهم لشعورهم بالشك. فالآن بفضل إدراكي المتأخر للأمور أستطيع تحديدَ منطقٍ معيَّن لاتخاذي هذا القرار، وتوضيح كيف كان قراري — لأن أصبح منظِّمًا — جزءًا من القصة الكبرى التي تبدأ بوالدي ووالده من قبله، وأمي ووالديها، وذكرياتي عن إندونيسيا بمتسوِّليها وفلاحيها، وخضوع لولو أمام القوة، مرورًا براي وفرانك وماركوس وريجينا، وانتهاءً بانتقالي للعيش في نيويورك ووفاة والدي. بالإضافة إلى ذلك باستطاعتي أن أرى أن اختياراتي لم تكن أبدًا لي وحدي، وأن هذا الأمر بعينِه هو الذي كان من المفترَض أن يحدُث لأنني لو كنتُ تصرَّفت عكس ذلك للهثتُ خلف نمطٍ من الحرية يُرْثى له. لكنَّ إدراكي هذا لم يأتني إلا فيما بعد. وعند اقتراب تخرُّجي في الجامعة كانت دوافعي هي التي تُحركني بصفةٍ أساسية، تمامًا مثل سمكة السلمون التي تسبح بتهوُّر ضد التيار لتصِل لمبتغاها عند مواضع تكاثرها. وكنتُ أُخبِّئ دوافعي هذه في المحاضرات والندوات المختلفة وراء الشعارات والنظريات التي اكتشفتها في الكتب، معتقدًا — خطأ — أن هذه الشعارات لها مغزًى وأنها جعلت شعوري السابق، إلى حدٍّ ما، قابلًا للإثبات بالدليل. وعلى النقيض من ذلك فإنني ليلًا كنتُ أُنحي هذه الشعارات جانبًا وأنا مُستلقٍ على الفِراش لتحلَّ محلَّها سلسلة متتابعة من الصور الرومانسية لماضٍ لم أعرفه من قبل. كانت هذه الصور لحركة الحقوق المدنية، وفي الأغلب لمشاهدَ من الأفلام الأبيض والأسود غير الواضحة التي كانت تُعرض في شهر فبراير من كل عام خلال شهر التاريخ الأفريقي القومي، وهي الصور نفسها التي كانت أُمي ترسمها لي عندما كنتُ طفلًا. وصورة اثنين من زملاء الجامعة من ذوي الشَّعر القصير والقامات المستقيمة وهما يطلبان الطعام في المطاعم ويوشِكان أن يُحدِثا شغْبًا. وصورة العامِلين في لجنة تنسيق تحالُفات الطلاب غير العنيفة وهم واقفون عند مدخل أحد المباني عند بقعةٍ راكدة في نهر الميسيسيبي، محاولِين إقناع عائلة من المزارِعين المستأجرين بتسجيل أسمائهم حتى يمكنهم الإدلاء بأصواتهم الانتخابية. وأخيرًا صورة الإصلاحيات المكتظة بأطفالٍ مُتشابكي الأيدي يُنشِدون أغاني الحرية. أصبحَتْ هذه الصور تُلازمني طوال الوقت، فترفع من روحي المعنوية، وتُشبِع رغباتي بطريقةٍ لا يمكن للكلمات أن تُحاكيها. وكانت هذه الصور تُخبرني أنني لم أكن بمفردي في هذا الكفاح (ومع أن فهْم هذا الأمر يمكن أن يكون قد تراءى لي فيما بعدُ فلم يكن صحيحًا مائة في المائة) وأن المجتمعات لم تكن أبدًا حقيقة مُسلَّمًا بها في هذا البلد، على الأقل للسُّود. فالمجتمعات لا بد من أن تُنشأ، ويُحارب من أجلها، وأن يُعتنى بها كما يَعتني المرء ببُستانه. فهي تتوسَّع أو تنكمش طبقًا لأحلام رجالها، وفي حركة الحقوق المدنية كانت هذه الأحلام كبيرة. أما في حالات الاعتصام والمظاهرات واعتراضات السجناء فكنتُ أرى أن المجتمع الأفروأمريكي أصبح أكثر من مجرد مكانٍ وُلِدتُ فيه أو منزلًا ترعرعتُ بين جدرانه. وعن طريق العمل التنظيمي والتضحية المشتركة أمكن الحصول على العضوية؛ ولهذا السبب (لأن هذا المجتمع الذي تخيلته كان لا يزال في مرحلة الإعداد وكان مؤسَّسًا على الوعد بأن المجتمع الأمريكي الأكبر — الأسود والأبيض والأسمر — يمكنه إلى حدٍّ ما إعادة تعريف نفسه)، آمنتُ بأن هذا المجتمع مع الوقت ربما يعترف بأن حياتي ذات طبيعة متفرِّدة. كانت تلك هي فكرتي عن التنظيم، وكانت وعدًا بالإصلاح. ولذا فإنني في الشهور التي سبقت تخرُّجي، أرسلتُ خطاباتٍ لكلِّ منظمة حقوقٍ مدنية خطرت ببالي، ولكل مسئولٍ أسود مُنتخَب في الدولة يعمل طبقًا لبرنامج عملٍ تقدُّمي، ولمجالس الأحياء وجماعات حقوق المستأجِرِين. وعندما لم تَرُدَّ عليَّ أية جهة لم يُحبطني هذا ولم يُثبِّط هِمَّتي. فقررتُ أن أبحث عن عملٍ تقليدي لمدة عامٍ لسداد قروضي الدراسية وتوفير بعض الأموال القليلة. وكنتُ أقول لنفسي إنني سأحتاج إلى النقود فيما بعد. حيث إن المنظِّمين لم يكن باستطاعتِهم توفير أي أموالٍ وكان فقرُهم دليلًا على استقامتهم والتزامهم بالمبادئ الأخلاقية. في النهاية وافق مكتبٌ استشاري يُقدِّم خدماته للشركات المتعدِّدة الجنسيات على تعييني مساعدَ أبحاث. كنتُ في هذه الوظيفة — تمامًا كجاسوسٍ خلف صفوف الأعداء — أصل يوميًّا إلى مكتبي في وسط مانهاتن، وأجلس أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بي، وأُراجع الآلة التي تنقل الأخبار التي تبثُّها وكالة «رويترز» وهي تومِض برسائلَ تأتي من كل أنحاء العالَم ذات لونٍ أخضر زمرُّدي. وعلى حدِّ معلوماتي كنتُ الرجل الأسود الوحيد في الشركة، ومع أنه كان سببًا لشعوري بالخِزي فإنه كان مَدعاةً للفخر لسكرتيرات الشركة. فهؤلاء السيدات السوداوات عاملْنَني وكأنني ابن لهنَّ، وأخبرنني أنهنَّ يتوقَّعن أن أُدير الشركة يومًا ما. وفي بعض الأحيان كنتُ أخبرهنَّ بعد الغداء عن كل خُططي التنظيمية الرائعة وكنَّ يبتسِمنَ ويقُلن لي: «هذا عمل طيب يا باراك.» لكنَّ النظرة التي كانت تملأ أعينهنَّ كانت تُخبرني سرًّا بشعورهنَّ بالإحباط. لم يكن هناك سوى آيك — ضابط الأمن الأسود الفظ — هو الوحيد الذي كان دومًا على استعدادٍ ليأتي ويُخبرني بكل صراحة أنني على خطأ. «تخطيط؟ تبدو هذه الكلمة وكأنها أمرٌ من أمور السياسة نوعًا ما، أليس كذلك؟ لماذا تريد أن تفعل شيئًا كهذا؟» حاولتُ أن أشرح آرائي السياسية، وأهمية تنظيم الفقراء، وردِّ الجميل للمجتمع. لكنَّ آيك هز رأسه وقال: «إنني أتمنى يا سيد باراك ألا يكون لدَيك مانع في أن أُسدي إليك نصيحة. إنك لستَ في حاجة إلى أن تَسمعني الآن لكنني على أية حال سأُسديها إليك. حاوِل أن تغضَّ الطرْف عن فكرة التنظيم هذه، واشرع في فعل شيءٍ يجني لك بعض المال. واعلم أن كلامي هذا لا يعني أن تكون جشعًا فأنت تفهمني. إنني أقصد أن تجني من المال ما يكفيك. إنني أخبرك بذلك لأنني أرى أنك تمتلك إمكانياتٍ جيدة. فشابٌّ مثلك يتمتع بصوتٍ عذْب من الطبيعي أن يكون واحدًا من مُذيعي التليفزيون أو موظفًا في مجال المبيعات … إن لي ابنَ أخٍ في عمرك تقريبًا يعمل في هذا المجال ويجني أموالًا كثيرة. وهذا بالفعل هو ما نحتاج إليه. فأنت لا تستطيع مساعدة القاعدة الشعبية في أن يصبحوا أكثر نظامًا لأنهم لن يتمكنوا من فعْل ذلك على الإطلاق، بالإضافة إلى أنهم لن يُقدِّروا محاولاتك، حيث إن مَن يريدون فعْل ذلك سيجدون بأنفسهم الطريقَ لفعل ذلك. كم يبلُغ عمرك الآن على أية حال؟» «اثنان وعشرون.» «حاوِل أن تفهم كلامي. لا تُضيِّع شبابك هباءً يا سيد باراك. ذلك لأنك ستستيقِظ في صباح أحد الأيام لتجد نفسك رجلًا عجوزًا مِثلي وكلُّ ما ستَجنيه هو التعب والإرهاق دون تحقيق أي نتيجة.» ••• في الواقع لم أُعِر آيك الكثير من الانتباه آنذاك، وفكَّرتُ حينها أنه يُشبه جَديَّ إلى حدٍّ بعيد. ومع ذلك فقد شعرتُ بمرور الأشهر أن فكرة أن أُصبح منظمًا بدأت تتبخَّر. وجاء الوقت الذي فيه ترقَّيتُ في الشركة إلى منصبِ كاتبِ مقالاتٍ اقتصادية، وكان لي مكتبي الخاص وسكرتارية خاصة، إلى جانب حسابٍ في البنك به قدْرٌ من المال. وفي بعض الأحيان، عندما كنتُ أخرج من اجتماعٍ مع رجالِ مال يابانيين أو مُتعامِلين ألمان في السندات، كنتُ أنظر إلى نفسي في مرآة المصعد — وأنا أرتدي الحُلة ورابطة العنق وأحمل حقيبةً في يدي — وأتخيل نفسي للحظةٍ رائدًا من رواد الصناعة يُلقي الأوامر بحسمٍ شديد ويعقِد الاتفاقيات، كان كل ذلك يحدث قبل أن أتذكَّر الشخصَ الذي كنتُ قد أخبرتُ نفسي من قبل بأنني أريد أن أكونَه، وقبل أن أشعر بألم الشعور بالذنب لعدم قُدرتي على اتخاذ قرارات حاسمة. في أحد الأيام وأنا جالس على جهاز الكمبيوتر في المكتب لكتابةِ مقالٍ حول مقايضات أسعار الفائدة، حدث شيءٌ غيرُ مُتوقَّع؛ هاتفتني أوما. إنني لم أُقابل أوما — وهي أُختي غير الشقيقة — من قبلُ على الإطلاق؛ فقد كنا نتراسَل من حينٍ لآخر فقط. وقد علمتُ أنها غادرت كينيا لتدرُس في ألمانيا، وفي خطاباتنا ذكَرْنا احتمالية ذهابي لزيارتها أو حضورها هي إلى الولايات المتحدة لتزورني. لكنَّ هذه الخطط كانت تُترك دائمًا هكذا دون تحديد وقتٍ لتنفيذها، ولأن كلَينا لم يكن يملك المال كنَّا نقول إننا قد نتقابل في العام المقبل. واحتفظتْ مراسلاتُنا بعلاقات ودٍّ مُتحفظة. والآن فجأةً سمعتُ صوتها لأول مرة. كان رقيقًا وبدا أنه لامرأةٍ سوداء اصطبغت لهجتُها بنبرةٍ استعمارية. ولبضع لحظاتٍ لم أستطِع فَهْم ما تقوله، فلم أكن أسمع إلا صوتًا بدا لي مألوفًا للغاية، كنتُ قد فقدتُه لكنني لم أنسَه. ذكرت لي في هذه المكالمة أنها ستحضُر إلى أمريكا في رحلةٍ مع بعض الأصدقاء، وسألتني: «هل يمكنني زيارتُك في نيويورك؟» ودون تردُّد قلتُ لها: «بالطبع.» وتابعت: «كما أنك ستُقيمين معي؛ إنني مُتلهِّف لرؤيتك.» ضحكَتْ عندما قلتُ لها ذلك وأنا أيضًا ضحكت، وبعد ذلك ساد الصمت بيننا ولم نَعُد نسمع إلا صوت أنفاسنا وصوتَ التشويش على الإرسال التليفوني. وقالت لي: «حسنًا، لا أستطيع أن أتحدَّث طويلًا لأن المكالمات تُكلفني الكثير. وها هي ذي بيانات رحلتي الجوية»؛ لذا أغلقنا الخط سريعًا بعد ذلك كما لو كنَّا سندفع تكلفة هذا الاتصال مناصفةً بيني وبينها. قضيتُ الأسابيع القليلة التالية وأنا أستعدُّ بسرعةٍ بالِغة لحضورِ أوما، حيث اشتريتُ ملاءاتٍ جديدة للأريكة التي ستنام عليها، وأطباقًا ومناشف إضافية، إلى جانب فرشاة تنظيف لحوض الاستحمام. لكن قبل موعد حضورها المقرَّر بيومَين، اتصلت مرةً أخرى وكان صوتها غير واضح أكثر من المرة السابقة، ولم أسمع منها إلا همسًا. قالت لي في هذه المكالمة: «لن أستطيع الحضور.» وتابعت: «أحد إخوتنا، ديفيد … قُتل في حادث دراجة بخارية. إنني لا أعرف أكثرَ من ذلك.» وبدأت تبكي. قالت: «أوه، باراك. لماذا يحدث لنا كل هذا؟» حاولتُ أن أُهدِّئ من روعها قدْر استطاعتي. وسألتها عما يمكن أن أفعله لأجلِها. كما أخبرتُها أننا دون شكٍّ ستُتاح لنا الفرصة لنلتقي. وأخيرًا هدأ صوتها، وقالت إنها يجب أن تذهب الآن لتحجز تذكرة الطيران للعودة إلى بلدها. «حسنًا باراك. أراك من جديد. صحِبتك السلامة.» بعد أن أغلقتُ الخط أخبرتُ السكرتيرة أنني سأقضي بقيةَ اليوم خارج المكتب ثم خرجت. وأخذتُ أتجوَّل ساعات في شوارع مانهاتن، وصوت أوما يتردَّد في ذهني مِرارًا وتَكرارًا. ففي قارةٍ أخرى هناك امرأة تصرخ. فقد سقط في طريقٍ مُظلم ومُغطًّى بالتراب طفل صغير بعد أن انزلقت دراجتُه البخارية وفشل في السيطرة عليها ليسقط مُرتطمًا بالأرض الصلبة، وأخذت العجلات تدور حتى أصابها الصمت. سألتُ نفسي مَن هؤلاء الغرباء الذين تجري في عروقهم نفس الدماء التي تجري في عروقي؟ وما الذي يمكن أن يَشفي هذه السيدة من حزنها؟ وأي أحلام مُثيرة وغير معلنة كانت تراود هذا الولد المسكين؟ مَن أنا، وكيف لا أذرف دمعةً واحدة على فقدان أخي؟ ••• لا أزال أتساءل في بعض الأحيان كيف تغيَّرت حياتي بعد أول مكالمةٍ هاتفية لي مع أوما. وفي الواقع لم تكن المكالمة ذاتها هي التي غيَّرتني بصفةٍ أساسية (هذا الاتصال الذي شعرت في البداية أنه غيَّرني وتغيَّرتُ في النهاية بسببه) أو خبر وفاة ديفيد (فمن الصحيح أنني لم أكن أعرفه وهذا كافٍ)، إن ما غيَّرني بالفعل هو وقت اتصالها، والتسلسُل العجيب للأحداث، والتوقُّعات التي يملؤها الأمل، ثم انهيار الآمال وتحطُّمها، وهي أمورٌ جميعها حدثت في وقتٍ كانت فيه فكرة أن أكون مُنظِّمًا مجرد فكرةٍ في مخيلتي وصراع غامض في قلبي. ربما لم يكن لكلِّ ما سبق أدنى تأثير. وربما كنتُ قد التزمتُ بالفعل آنذاك بالعمل التنظيمي، وساعدَني صوت أوما فقط في أن أتذكَّر أنني لا أزال أُعاني جروحًا لم تلتئم بعدُ وأنني لم أستطِع مداواتها بنفسي. وإن لم يكن ديفيد قد مات، وأتت أوما إلى نيويورك كما اتفقنا في البداية، وعرفتُ منها حينئذٍ عن كينيا وعن والدنا ما عرفته بعد ذلك، ربما خَفَّت بعض الضغوط التي تراكمَت بداخلي لتُقدِّم لي فكرةً مختلفة عن المجتمع، وتسمح لطموحاتي أن تسير في طريقٍ أكثر خصوصيةً وضيقًا، حتى ينتهيَ بي الأمر مُتقبلًا نصيحة صديقي آيك، ومكرسًا نفسي للسندات والأسهم والرغبة في اكتساب احترام الآخرين. لا أعرف، ولكنَّ الأمر المؤكَّد هو أنني بعد بضعةِ أشهرٍ من مكالمة أوما الهاتفية قدَّمتُ استقالتي من المكتب الاستشاري، وبدأتُ أبحث جديًّا عن وظيفةٍ تنظيمية. ومرةً أخرى لم يَصلني ردٌّ على معظم خطاباتي، لكن بعد شهرٍ أو ما يقرُب من ذلك اتصل بي مدير مؤسسة حقوق مدنية شهيرة في المدينة لتحديد موعد للمقابلة. كان هذا الرجل طويل القامة، وسيمًا، وأسود اللون، وكان يرتدي قميصًا أبيض اللون ورابطة عنق مزركشة وحمَّالة بنطلون حمراء. وكان مكتبه مشتملًا على كراسيَّ إيطالية الصنع، وبارٍ مبنيٍّ بالطوب غير المطلي، والمكان كله مُزيَّن بأعمال النحت الأفريقي. ومن خلال نافذة طويلة بالمكتب تتدفَّق أشعة الشمس على تمثالٍ نِصفيٍّ للدكتور كينج. بعد أن ألقى المدير نظرةً سريعة على سيرتي الذاتية، قال: «إنني مُعجب بسيرتك الذاتية.» وتابع قائلًا: «وبالأخصِّ خبرتك في مجال المؤسَّسات. فهذا هو العمل الحقيقي لأيةِ مؤسَّسة لحقوق الإنسان في أيامِنا هذه. حيث إن الاحتجاجات والإضرابات لم تَعُد تُجدي في شيء. وحتى تؤتي هذه الوظيفة ثمارها، علينا أن نُشيِّد جسورًا بين أنشطتنا والحكومة والأحياء الفقيرة في المدن.» بعد ذلك تشابَكَت يداه معًا قبل أن يُريَني تقريرًا سنويًّا ذا ورقٍ مصقول، مفتوحًا على صفحةٍ بها أسماء أعضاء مجلس الإدارة في المؤسَّسة، منهم وزير أسود و١٠ تنفيذيِّين بيض. وبعدها قال المدير: «أترى؟» ثم تابع: «علاقات شراكة عامة-خاصة. إنها نافذتنا على المستقبل. وهنا يكون عمل الشباب من أمثالك. المتعلِّمين. الواثقين بأنفسهم. الذين يُقدِّمون المساعدة في اجتماعات مجلس الإدارة. كنتُ في الأسبوع الماضي أناقش هذه المشكلة مع جاك، سكرتير وزارة الإسكان والتنمية الحضرية، في عشاءٍ في البيت الأبيض. ويا له من رجلٍ رائع، جاك. كم سيتحمَّس لمقابلة رجل مثلك! صحيح أنني عضو في الحزب الديمقراطي لكننا لا بدَّ أن نتعلَّم كيف نتعامَل مع ذوي السلطة، أيًّا كانوا …» وعلى الفور عرض عليَّ الوظيفة التي تشتمل مهام العمل فيها على تنظيم المؤتمرات حول مشكلاتِ المخدِّرات والبطالة والإسكان. وقد أسماها «تسهيل الحوار». لكنني في الواقع رفضتُ عرضَه السخيَّ، مُقررًا وقتها أنني في حاجةٍ إلى وظيفةٍ تسمح لي بالاحتكاك بالشارع. فعملت لمدة ثلاثة شهور في أحد مكاتب رالف نادر في هارلم، محاولًا إقناع الأقلية من الطلاب في سيتي كوليدج بأهمية التغيير. بعد ذلك عملتُ أسبوعًا كاملًا في توزيع النشرات الإعلانية لأحد المرشَّحين في انتخاباتٍ عُقِدت في بروكلين، وخسر المرشَّح ولم أتقاضَ أجري. بعد ذلك بستة أشهر، أصبحتُ مفلسًا وعاطلًا، واعتدتُ شربَ الحساء المعلَّب. وسعيًا وراء حصولي على بعض الأفكار الملهمة، ذهبتُ لسماع كوامي توري الذي كان اسمه فيما مضى ستوكلي كارميشيل، والذي كان ذا صيتٍ في لجنة تنسيق تحالفات الطلاب غير العنيفة وفي حركة القوة السوداء، وهو يتحدَّث في خطابٍ له في جامعة كولومبيا. وفي مدخل قاعة الاستماع كانت هناك امرأتان، إحداهما سوداء والأخرى آسيوية، تبيعان كتبًا عن الأدب الماركسي، وتتناقشان معًا بخصوص مكانة تروتسكي في التاريخ. وداخل القاعة اقترح توري برنامجًا لإقامة روابط اقتصادية بين أفريقيا وهارلم لتجنُّب الإمبريالية الرأسمالية البيضاء. وفي نهاية محاضرته سألته شابَّة نحيفة ترتدي نظارةً هل هذا البرنامج عملي في ظل الاقتصادات الأفريقية والاحتياجات العاجلة التي تُواجِه الأمريكيين السود. فقاطعها توري قبل أن تُكمل سؤالها. قال: «إن عملية غسيل المخ التي أُجريت لكِ هي التي تجعل هذا البرنامج غير عملي يا أُختاه.» وفي ذلك الحين توهَّجَت عينا توري وهو يتحدَّث كما لو كان مجنونًا أو قديسًا. وظلَّت السيدة واقفةً في مكانها لعدة دقائق بينما كان توري يوبِّخها بقسوةٍ بسبب موقفها البورجوازي. بعد ذلك بدأ الحاضرون يُغادرون القاعة. وفي الخارج كانت السيدتان الماركسيتان تصرخان بأعلى صوتهما: «خنزيرة مُتَّبِعةٌ مذهبَ ستالين!» «عاهرة متَّبعةٌ المذهبَ الإصلاحي!» بدا هذا الموقف لي وكأنه كابوس مُزعج. وبعدَه سِرتُ هائمًا على وجهي في برودواي، متخيلًا نفسي واقفًا على حافة لينكولن ميموريال وأنا أنظر إلى إحدى المقصورات الفارغة والحطام يتطاير من حولي في الهواء. لقد ماتت الحركة منذ أعوامٍ وتمزَّقت ألفَ قطعة. وكل سبيل للتغيير خُضناه، وكل استراتيجيةٍ نفَّذناها. وعقب كل هزيمة قد يئول الحال حتى بالحركات التي تحمل أصدق النوايا إلى الابتعاد عن طريق كفاح مَن يدَّعون رغبتهم في تقديم الخدمات. ربما كان هذا نوعًا من الجنون الصريح. لقد أدركتُ فجأةً أنني كنتُ أُكلِّم نفسي في منتصف الشارع. الناس في طريقهم للعودة من العمل كانوا يتجنَّبون السير بجواري. واعتقدتُ وقتها أنني رأيتُ اثنين من زملاء جامعة كولومبيا في الزحام — كانت سُترتاهما مُلقاتَين للخلف على أكتافهما — وهما يحاولان تجنُّب رؤيتي لهما. ••• وبينما أصبحتُ قابَ قوسَين أو أدنى من التخلي عن مشروعي التنظيمي، تلقيتُ اتصالًا هاتفيًّا من مارتي كوفمان. شرح لي أنه سيبدأ حملةً تنظيمية في شيكاغو، وأعلن عن حاجته لتعيين شخصٍ تحت التدريب. كان كوفمان سيُغادر إلى نيويورك الأسبوع المقبل؛ ولذا اقترح أن نتقابل في أحد مقاهي ليكسينجتون. في حقيقة الأمر لم يكن مظهره ليولِّد شعوري بالثقة البالِغة تجاهه. فقد كان رجلًا أبيض، متوسط الطول، ممتلئ الجسم، ويرتدي حُلة مجعَّدة. كان وجهه يبدو مكتئبًا بذقنه الذي لم يُحلق منذ يومَين. وبدت عينا الرجل وكأنهما شِبه مغمضتَين وهما تسكنان خلف عدستَي نظارته السميكتَين الدائريَّتَين. وعندما نهض من على المنضدة ليُصافحني أوقع بعض الشاي على قميصه. قال مارتي وهو يحاول تنظيف المائدة بمنديلٍ ورقي: «حسنًا.» وتابع: «لماذا يريد شخصٌ من هاواي أن يعمل في مهنة التنظيم؟» جلستُ وذكرتُ له أشياءَ مختصرة عن نفسي. «إممم.» أومأ مارتي برأسه وهو يُسجِّل ملحوظاتٍ على مذكرةٍ مُسطَّرة صفحاتها مطوية الزوايا. «يبدو أن هناك شيئًا يُغضبك.» «ماذا تقصد بذلك؟» هزَّ كتفَيه. وقال: «لا أعرف بالضبط طبيعة هذا الشيء. لكنه قد يكون أيَّ شيء. لا أريدك أن تسيء فهمي، فالغضب مَطلب أساسي لهذه الوظيفة. فهو السبب الوحيد لأي شخصٍ يُقرِّر أن يُصبح منظمًا. أما عن الآخرين الذين يستطيعون التعامُل مع المشكلات دون انفعالٍ فيعملون في وظائف أكثرَ بعثًا على الراحة والاسترخاء.» طلب المزيد من الماء الساخن وحدثني عن نفسه؛ كان يهوديًّا في أواخر الثلاثينيات من عمره ترعرع في نيويورك. بالإضافة إلى ذلك، كان قد بدأ عمله التنظيمي في ستينيات القرن العشرين مع احتجاجات الطلاب، وظلَّ مُستمرًّا في هذا العمل لمدة ١٥ عامًا. فعمل مع المزارِعين في نبراسكا. ومع السود في فيلادلفيا. ومع المكسيكيين في شيكاغو. وحاول جمْع شتات سُود المدن وبِيض الضواحي معًا وإشراكهم في خطةٍ لتوفيرِ فرصِ عملٍ في مجال التصنيع في مدينة شيكاغو الكبيرة. وقال إنه بحاجةٍ إلى شخصٍ يعمل معه. شريطةَ أن يكون من ذوي البشرة السوداء. قال مارتي: «معظم عملنا مع الكنائس.» وتابع: «وإذا كان الفقراء وأفراد الطبقة العاملة يريدون أن تُصبح لهم سلطة حقيقية، فلا بدَّ من أن يكون لديهم قاعدة مؤسَّسية. وفي ظل الاتحادات على هيئتها التي هي عليها الآن تُعَد الكنائس هي الخيار الوحيد. ففيها يتواجَد الناس والقِيَم حتى وإن طغى عليها الهُراء والزيف. ولكنَّ الكنائس لن تُساعدك من منطلق طيبة قلوب مسئوليها. حيث يتمثَّل دورهم في التحدُّث بكلامٍ مُقنع مُوجَز سواء في عظات أيام الآحاد أو عند تقديم عروضٍ خاصة للمشرَّدين. ولكن عندما يَجِدُّ الجِد لن يتحرَّك هؤلاء المسئولون إلا إذا استطعتَ أن تشرح لهم كيف سيُساعدهم تحرُّكهم هذا في توفير المال لسداد فواتير التدفئة.» صبَّ مارتي كوفمان المزيد من الماء الساخن لنفسه. وسألني: «ماذا تعرف عن شيكاغو؟» فكَّرتُ في الإجابة للحظة. ثم قلتُ في النهاية: «مجزر اللحوم للعالم.» هزَّ مارتي رأسه. وقال: «لقد أُغلِقَت المجازر منذ زمن.» «وفريق «شيكاغو كابس» للبيسبول لم يفُز قط.» «هذا صحيح.» قلتُ له: «إن شيكاغو هي أكثر مدن أمريكا ممارسةً للفصل العنصري. وتابعت: «بالإضافة إلى أن هارولد واشنطن — وهو رجل أسود — قد انتُخِب لتوِّه ليصبح عمدتها، وذوو البشرة البيضاء لا يُحبونه.» قال مارتي: «إذن فأنتَ تُتابع ما يُحرِزه هارولد في حياته العملية.» وتابع: «إنني أتعجَّب من عدم عملك معه.» «لقد حاولت. لكنني لم أحصل على أيِّ ردٍّ من مكتبه.» ابتسم مارتي وخلع نظارتَه ونظَّف العدسات بطرَف رابطة العنق. وقال: «حسنًا، فهذا هو ما يجب عليك فعْله إذا كنتَ شابًّا وأسودَ، إلى جانب اهتمامك بالقضايا الاجتماعية، أليس كذلك؟ حاول أن تعثر على حملةٍ سياسية للعمل فيها. ابحث عن راعٍ ذي سلطة يمكن أن يساعدك في حياتك العملية، ولا شكَّ في أن هارولد ذو سلطة ورجلٌ له جاذبيته. بالإضافة إلى امتلاكه تأييدًا واسع النطاق في المجتمع الأسود. وما يقرُب من نصف الهيسبانيين وحفنة من البِيض الأحرار. في الواقع إنك على حقٍّ في شيءٍ واحد. وهو أن الجو العام للمدينة مُنقسِم إلى طرفَين نقيضَين، سيرك كبير لوسائل الإعلام. ولا يُنجز الكثير من الأعمال.» حينما ذكر كل هذه الأمور اتكأتُ للخلف على الكرسي. قلت: «ومَن المسئول عن كلِّ ذلك؟» ارتدى مارتي نظارتَهُ مرةً أخرى وحدَّق النظر إليَّ. وقال: «ليس الأمر متعلقًا بمن المسئول.» وتابع: «لكنه مُتعلِّق بما إذا كان يمكن أن يُقدِّم أيُّ سياسيٍّ أو أي شخصٍ في نبوغ هارولد الكثيرَ من أجل كسرِ هذه الدائرة المغلقة. كما أن المدينة المنقسِمة إلى نقيضَين ليست بالضرورة شيئًا سيئًا للسياسي. سواء أكان أبيضَ أم أسود.» عرض مارتي عليَّ أن أبدأ العمل براتب ١٠ آلاف دولار في السنة الأولى، بالإضافة إلى بدل سفرٍ يُقدَّر بألفَي دولار لشراء سيارة، وفي حالة تحسُّن الأحوال سيزداد الراتب. بعد أن رحل سلكتُ الطريق الأطول للعودة إلى المنزل وهو كورنيش نهر إيست ريفر، وحاولت أن أسبر غور هذا الرجل. وفي النهاية توصَّلتُ إلى أنه رجلٌ ذكي ويبدو مُلتزمًا تجاه عمله. لكن ظل هناك شيء يجعلني أشعر بالتحفُّظ تجاهه. ربما كان هذا الشيء هو ثقته المفرِطة أو لعلَّه لونه الأبيض. وقد قال هو نفسه إن لونه هذا كان مشكلةً له. أُضيئت مصابيح الأعمدة المزخرفة القديمة، وبدأ قارب طويل بُني اللون في شقِّ طريقه خلال المياه الرمادية في اتجاه البحر. جلستُ على مقعدٍ للتفكير في الخيارات المتاحة أمامي، ورأيتُ سيدة سوداء وابنها الصغير يقتربان منِّي. جذب الولد أُمَّه تجاه سور الكورنيش المعدني إلى أن أصبحا يقِف أحدهما بجانب الآخر، ولفَّ ذراعه حول ساقها فكوَّنا ظلًّا عكسه الشفق على الأرض. وفي آخر الأمر رفع الطفل عُنقَه لأعلى وبدا كأنه يسأل أمَّه سؤالًا. استجابت السيدة بهزِّ كتفَيها وتقدَّم الطفل بخطواتٍ قليلةٍ تجاهي. صاح الولد: «عذرًا سيدي.» وتابع: «أتعرف لماذا في بعض الأحيان يتدفَّق النهر في هذا الاتجاه، ثم يتدفَّق في الاتجاه الآخر في أحايينَ أخرى؟» ابتسمت السيدة وهزَّت رأسها، قلتُ إنه من المحتمل تعلُّق هذا الأمر بالمد، وبدا الولد راضيًا عن هذه الإجابة، ثم عاد إلى أُمِّه. وبينما شاهدتهما وهما يختفيان من أمام عينَيَّ في الظلام أدركتُ أنني لم ألحظ مُطلقًا أيَّ طريقٍ يتدفَّق النهر فيه. بعد ذلك بأسبوع ملأتُ سيارتي بالوقود واتجهتُ إلى شيكاغو.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/8/
الفصل الثامن
لم تكن تلك هي المرة الأولى لذهابي إلى شيكاغو، حيث زرتها خلال الصيف الذي تلا زيارة والدي لهاواي، قبل عيد ميلادي الحادي عشر، وكان ذلك عندما قرَّرَت جَدَّتي أنه حان الوقت لأن أرى أراضي الولايات المتحدة. ربما يكون قرارُها هذا وزيارة أبي مُرتبطَين أحدهما بالآخر، حيث وجود أبي (مرةً أخرى) وقد أزعج العالم الذي صنعه جَدي وجَدتي لنفسيهما، وبعث في جَدتي الرغبة في استعادة الماضي واسترجاع ذكرياتها ونَقلِها إلى أحفادها. استغرقت الرحلة ما يزيد عن شهر، وكنتُ قد سافرت أنا وجَدتي وأُمي ومايا، أما جَدي فلم تكن لدَيه رغبة في السفر حينئذٍ ولذا فضَّل عدم مصاحبتنا. انطلقْنا إلى سياتل، واتجهنا منها للجنوب إلى ساحل كاليفورنيا وديزني لاند، ثم اتَّجهنا شرقًا إلى وادي جراند كانيون، ثم عبرْنا منطقة السهول الكبرى لنصِل إلى مدينة كانزاس سيتي، وبعدَها اتجهنا لأعلى إلى البحيرات العُظمى قبل أن ننطلِق غربًا مرورًا بمتنزَّه يلوستون. وخلال هذه الرحلة كانت وسيلة مواصلاتنا هي غالبًا أتوبيسات شركة جريهاوند، وأقمْنا في فندق هوارد جونسون، وكنا نُشاهد جلسات الاستماع في فضيحة ووترجيت كلَّ مساء قبل النوم. مكثْنا في شيكاغو ثلاثة أيام في نُزل في منطقة ساوث لوب. ومع أننا كنَّا في شهر يوليو فإنني لسببٍ أو لآخَر أتذكَّر أن الطقس آنذاك كان باردًا ومُلَبَّدًا بالغيوم. كان بالفندق حمَّام سباحة داخلي، الأمر الذي أدهشني لأنه في هاواي لم تكن تُوجَد حمَّامات سباحة داخلية. وذات مرة كنتُ واقفًا أسفل أحد جسور شبكة القطارات المعلَّقة وأغمضتُ عيني وقت مرور القطار، وصرخت بأقصى ما استطعت. وفي متحف فيلد رأيتُ رأسين آدمِيَّين صغيرَين للغاية معروضَين في صندوقٍ زجاجي. وكان لهما وجهان تعلوهما التجاعيد، لكنهما كانا محفوظين في حالةٍ جيدة، وكان حجم كلٍّ منهما لا يزيد عن حجم كف يدي، وكان الفمان والعيون مغلقةً بإحكام، تمامًا كما كنتُ أتوقَّع. كان يبدو أنهما أوروبِيَّا العِرق، وكان للرجل لحيةٌ صغيرة مُشذَّبة جعلته شبيهًا بالغزاة الإسبان الذين هاجموا وسط وجنوب أمريكا في القرن السادس عشر، وعلا رأس السيدة شعرٌ أحمر مُنساب. حدَّقتُ النظر إلى كليهما فترةً طويلة (إلى أن جذبتني أُمي بعيدًا عنهما)، وانتابني شعور وقتها — في ظل مشاعر السخرية التي يمكن أن يشعر بها صبي صغير — كما لو أنني عثرتُ بالصدفة على أضحوكة هائلة. لم تكن حقيقةَ أن الرأسين صغيرا الحجم للغاية هي التي أدهشتني وفاقت قُدرتي على الفهم؛ حيث كان شأنها شأن فكرة أكل لحم النمور مع لولو. فقد كان شكلًا من أشكال السِّحر يستهدف استعراض السيطرة والقوة، بل إن ما أدهشني هو أن هذَين الوجهَين الأوروبِيَّين الصغيرين كانا معروضَين في إطارٍ زجاجي، حتى يتمكَّن الغرباء — وربما المنحدرون من الأصل نفسه أيضًا — من ملاحظة تفاصيل قدرهما المشئوم، إلى جانب حقيقة أنه لم يبدُ أن أحدًا قد فكَّر في هذه المفارقة. وعلى الجانب الآخر كان لأضواء المتحف المُزعجة واللافتات المُنمقة الموضوعة على المعروضات، واللامبالاة البادية على زائري المتحف المارين تأثير سحري من نوعٍ آخر أو هو جهدٌ آخر يُبذل لإظهار القوة والسيطرة. بعد زيارتي هذه بأربعة عشر عامًا، أصبحتِ المدينة أكثر جمالًا. وكان ذلك أيضًا في يوليو حيث كانت أشعة الشمس تتلألأ خلال الأشجار ذات اللون الأخضر الغامق. ولم تكن القوارب في مراسيها إذ بدت أشرعتُها من بعيد كأجنحة اليمام فوق بحيرة ميشيجان. أخبرني مارتي أنه سيكون مشغولًا في الأيام القليلة الأولى؛ لذا ظللتُ بمفردي أتصرَّف كما يحلو لي. فاشتريتُ خريطةً واسترشدتُ بها في السير بطريق مارتن لوثر كينج درايف من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ثم اتجهت شمالًا إلى مدينة كوتيدج جروف، ثم جنوبًا عبر الطرق الجانبية والأزقة مرورًا بالمباني السكنية والأراضي الفضاء والمتاجر الصغيرة والمنازل ذات الطابق الواحد. وفي طريقي تذكَّرتُ صفَّارة قطارات «إلينوي سنترال» وهي تحمل الآلاف ممن أتوا من الجنوب قبل سنواتٍ طويلة … آلاف من الرجال السُّود ونسائهم وأطفالهم، المتسخِين من سُخام عربات القطارات، قابضين على أمتعتهم التي أعدوها على عجل، وهم يشُقُّون طريقهم إلى كنيسة أرض كنعان. وحينها تخيلتُ فرانك — وهو يرتدي حُلة فضفاضة، طيةُ صدرِها عريضة — واقفًا أمام سينما ريجال القديمة في انتظار رؤية ديوك أو إيلا، وهما خارجان من عربةٍ بحصانٍ واحد. كان ساعي البريد الذي رأيتُه يوزِّع البريد هو ريتشارد رايت قبل بيع كتابه الأول، وكانت البنتُ الصغيرة ذاتُ النظارة والضفائر المجدولة التي رأيتُها تمارس قفز الحبل، هي ريجينا. لقد ربطتُ بين حياتي والوجوه التي رأيتها، مُستعيرًا ذكريات الآخرين، وبهذه الطريقة حاولتُ الإلمام بكل تفاصيل المدينة والاستحواذ عليها. وهذا أيضًا سحرٌ من نوع آخر! في يومي الثالث في شيكاغو مررتُ على صالون سميتي للحلاقة بواجهته التي تُطِلُّ على الشارع والتي يبلغ عرضها خمسةَ عشر قدمًا وطولها ثلاثين قدمًا. يقع صالون سميتي على أطراف هايد بارك ويشتمل من الداخل على أربعة مقاعد للحلاقة ومنضدة صغيرة تُطوى لتأخذ حيزًا أقلَّ لمُقلِّم الأظافر — لاتيشا — الذي يعمل نصفَ دوام. كان الباب شبه مفتوح عندما دخلتُ وكان مسنودًا بدعامةٍ لمنعه من الانغلاق، وكان الصالون تنبعث منه رائحة كريم شعر ومُطهر تمتزج مع صوت ضحكات رجالٍ وطنين مراوح تعمل ببطء. واتَّضح أن سميتي رجل أسود عجوز يعلو رأسه الشيب، وكان نحيلًا مُتقوِّس الظهر. لم يكن هناك أحد يجلس على كرسي الحلاقة أمام سميتي؛ لذا جلستُ على الكرسي وسرعان ما اشتركتُ في الحديث المعتاد في صالونات الحلاقة عن الرياضة والسيدات والعناوين الرئيسية في جرائد الأمس، تلك المحادثات التي تُوحي بالأُلفة على الرغم من جهل الرجال — الذين اتفقوا على ترْك مشكلاتهم الشخصية بالخارج — بعضهم بعضًا. سرد أحدهم قصة أحد جيرانه، الذي أمسكَت به زوجته في الفراش مع ابنة عمِّها، وخرج يجري عاريًا في الشارع وهي خلفه تُطارده بسكين المطبخ، وبعدَه مباشرة تحوَّلت دفة الحديث إلى السياسة. «إن فردولياك وسائر البِيض الحقراء لا يعرفون متى يكفُّون عما يفعلونه»، هكذا قال الرجل الذي كانت بيدِه الجريدة وهو يهزُّ رأسه تأفُّفًا مما يحدث. وأضاف: «عندما كان ريتشارد دالي في منصب العمدة لم يتحدَّث أحد عندما جعل أعضاء مجلس المدينة كلهم من هؤلاء الأيرلنديين. وبمجرد أن حاول هارولد تعيين بعض الرجال السُّود لتحقيق المساواة بين البِيض والسود، أطلقوا على هذه المحاولة عنصرية مُضادة.» «هكذا الحال دائمًا. كلما حصل رجل أسود على السلطة وجدتهم يحاولون تغيير القواعد.» «الأسوأ من ذلك أن الجرائد تُشيع أن السود هم مَن تسبَّبوا في كل هذه الفوضى.» «ماذا تتوقَّع من جرائد مُنحازة للرجل الأبيض؟» «نعم هذا صحيح. إن هارولد يعلم ماذا يفعل. ومع ذلك فهو ينتظر حتى تسنح الفرصة لفعلِ ما يريد عندما يحين موعد الانتخابات القادمة.» هكذا يتحدَّث السود عن عمدة شيكاغو، بأُلفةٍ وتعاطف وكأنهم يتحدَّثون عن أحد أقربائهم. وكانت صور هارولد في كل مكان؛ على جدران محلات إصلاح الأحذية، وصالونات التجميل، وكانت لا تزال مُلصقةً على أعمدة الإنارة بالشارع منذ حملة الانتخابات الأخيرة، وكانت لا تزال موجودةً على نوافذ محلات التنظيف الجاف الكورية ومتاجر البقالة العربية، وكانت معروضة بطريقةٍ واضحة وكأنها رمزٌ مقدَّس يمنح الحماية. بدا الرجل في الصورة الملصقة على جدار صالون الحلاقة وكأنه ينظر إليَّ، وكان وسيمًا أشيبَ وله شارب كثٌّ وحاجبان كثيفان وعينان لامعتان. لاحظني سميتي وأنا أنظر إلى الصورة وسألني هل كنتَ في شيكاغو وقتَ الانتخابات. فأجبتُه بالنفي. فهز رأسه وأخذ يتحدث. «كان من الضروري أن تكون هنا قبل أن يمسك هارولد بزمام الأمور لتفهم ماذا يعني لهذه المدينة.» وتابع: «فقَبْله بدا الأمر وكأننا دائمًا مواطنون من الدرجة الثانية.» قال الرجل صاحب الجريدة: «مستعمرة سياسية.» رد سميتي وقال: «كان الحال هكذا دائمًا.» واستكمل قائلًا: «مستعمرة سياسية. فيها يعمل السُّود في أحط الوظائف. ويقطنون أوضع المنازل. ويتعرَّضون لأسوأ معاملة على يد رجال الشرطة الهمجيِّين. لكن عندما يحين وقتُ انتخاب مَن يُطلق عليهم أعضاء اللجان السُّود يكون علينا الاتحاد والتصويت لمصلحة الحزب الديمقراطي القويم. يتعيَّن علينا حينئذٍ تقديم أرواحنا لشخصٍ أحمق. ومكافأة لهم على البصق في وجوهنا نُصوِّت لمصلحتهم في الانتخابات.» أثناء سماعي حديثَ الرجال — وهم يتذكَّرون صعود هارولد للسلطة وإمساكه بزمام الأمور — سقط بعض خُصَل الشعر على حجري. لقد ذكروا أنه رشَّح نفسه في إحدى المرات سابقًا بعد أن مات ريتشارد دالي بفترة قصيرة، لكن ترشيحَه للمنصب تعثَّر آنذاك، وأخبروني كيف كان هذا مَبعثًا للخِزي إذ حدث بسبب افتقار المجتمع الأسود لوحدة الصف وانتشار الشكوك التي كان لا بدَّ من التغلُّب عليها. على أن هارولد كرَّر المحاولة مرةً أخرى، وآنذاك كان الناس مُستعدِّين. حيث وقفوا بجانبه عندما سلَّطت الصحافة الأضواء بشدَّة على مشكلته مع ضرائب الدخل التي لم يستطِع دفعها (وكأن البِيض لا يغشُّون في أي شيءٍ طوال حياتهم). فاحتشدوا وراءه عندما أعلن أعضاء اللجنة الديمقراطيون — مثل فردولياك وغيره — دعمهم للمرشَّح الجمهوري بقولهم إن المدينة ستزداد فيها الأحوال سوءًا إذا ما أمسك بزمام الأمور فيها عمدة أسود. تجمَّع هؤلاء الناس بأعدادٍ هائلة ليلة الانتخاب؛ خُدَّام كنائس ورجال عصابات؛ كبار السن منهم والشباب. وبعد كل ذلك كوفئوا على هذا الإخلاص. وقال سميتي: «دعوني أخبركم ماذا حدث ليلة فوز هارولد؛ أخذ الناس يركضون في الشوارع. وكان يومًا شبيهًا باليوم الذي فاز فيه الملاكم جو لويس على شميلينج. وكان هو الشعور نفسه بالانتصار. ولم يكن الناس فخورين بهارولد فقط. بل كانوا فخورين بأنفسهم أيضًا. وفي هذا اليوم مكثتُ داخل المنزل لكنني لم أستطِع النوم وكذلك زوجتي حتى الثالثة صباحًا، لأننا كنا نشعر بالحماس والسعادة البالِغة. وعندما استيقظتُ في صباح اليوم التالي شعرتُ بأن هذا اليوم هو أجمل يومٍ في حياتي.» انخفض صوت سميتي بعد ذلك وبدا كأنه يهمس، وابتسم كلُّ شخصٍ في صالون الحلاقة. إنني من على بُعدٍ شاركتُهم هذا الشعور بالفخر — وأنا أقرأ الجرائد في نيويورك — نعم، الشعور نفسه بالفخر الذي جعلني أُشجِّع بحماسٍ أيَّ فريق كرة قدم محترف تعاقد مع ظهير رباعي أسود. لكن كان هناك شيء مختلف بخصوص ما كنتُ أسمعه في ذلك الحين؛ حيث بدا صوت سميتي وكأنه ينمُّ عن حماسةٍ مُتوهِّجة تجاوزت الأمور السياسية. قال لي سميتي: «كان من الضروري أن تكون هنا قبل أن يمسك هارولد بزمام الأمور لتفهم.» وكان يعني بقوله هنا «شيكاغو»، لكنه ربما قصد أيضًا «في مكاني» باعتباره رجلًا أسود يكبُرني سنًّا، كان ما زال يُعاني إهاناتٍ ظلت تُلاحِقه وتجرحه طوال حياته، ويتألم بسبب طموحاتٍ أُحبطت، وطموحات أخرى تخلى عنها قبل أن يحاول تحقيقها. وحينها سألتُ نفسي هل استطعتُ فهْم الأمر فعلًا. وتوصَّلت دون نقاشٍ إلى أنني بالفعل فهمته. وأعتقد أن هؤلاء الرجال قد افترضوا نفس الافتراض بعد رؤيتي. ولكن تُرى هل كان سيراوِدُهم الشعور نفسه إذا عرفوا المزيد من التفاصيل عني؟ طرحتُ على نفسي هذا السؤال. وحاولتُ أن أتخيَّل ماذا كان سيحدث إذا ما دخل جَدي صالون الحلاقة في هذه اللحظة بالذات، وكيف كان سيتوقَّف الحديث، وكيف كان السحر سيتوقف، وكيف كانت ستنتهي الافتراضات التي تجري على قدمٍ وساق. أعطاني سميتي المرآة للتطلُّع إلى صنيع يدَيه، ثم خلع عني ثوب الحلاقة، ونظَّف بالفرشاة الجزء الخلفي من قميصي. وقلتُ له وأنا أقف: «أشكرك على درس التاريخ هذا.» «حسنًا، هذا الدرس مجاني. وسأتقاضى عن الحلاقة ١٠ دولارات. ما اسمك على أية حال؟» «باراك.» «باراك، إمممم. مسلم؟» «كان جَدي مسلمًا.» أخذ مني المال وصافحني. وقال: «حسنًا يا باراك، أنتظِرك عما قريب. بدا شعرك أشعث للغاية عندما حضرت.» ••• لاحقًا بعد ظهر اليوم نفسه، حضر مارتي وأخذني من أمام سكني الجديد واتجهنا جنوبًا إلى طريق سكاي واي السريع. وبعد عدة أميالٍ اتجهنا إلى الجانب الجنوبي الشرقي ومررْنا بالعديد من المنازل الصغيرة المبنية بالألواح الخشبية الرمادية أو بالطوب، إلى أن وصلنا إلى مصنعٍ قديم كبير للغاية مُكوَّن من مبانٍ عدة. «مصنع ويسكونسن القديم للصلب.» جلسنا معًا في هذا المكان في صمت، نُدقِّق النظر في المبنى. كان لا يزال يحمل الروح المزدهرة والمتوحِّشة للماضي الصناعي في شيكاغو إذ دُكت في بنائه العوارض المعدنية والخرسانة دون الاكتراث كثيرًا بمدى الشعور بالراحة أو الشكل الجمالي. أمَّا الآن، وقت رؤيتنا إيَّاه، فقد كان المبنى خاويًا ويعلوه الصدأ؛ تمامًا كأطلال مبنًى مهجور. وعلى الجانب الآخر من السياج السلكي ركضَتْ قطة رقطاء جرباء عبْر النباتات البرية. قال مارتي وهو يدور بالسيارة في طريق العودة: «اعتاد الناس من الفئات كافةً العملَ في هذا المصنع. وتابع: «السود. والبِيض. والهيسبانيون. وكانوا جميعهم يعملون في الوظائف نفسها. ويعيشون ظروف الحياة نفسها. لكن خارج المصنع لا تريد أيُّ فئةٍ منهم شيئًا يربطها بالأخرى. وهؤلاء هم أفراد الكنيسة الذين أتحدث معك بشأنهم. الإخوة والأخوات في المسيح.» توقَّفنا عند إحدى إشارات المرور، ولاحظتُ مجموعة من الشباب من ذوي البشرة البيضاء يشربون البيرة عند مدخل أحد المباني وهم مرتدون فانلاتهم الداخلية. كانت صورة فردولياك معلَّقة على إحدى النوافذ، وكان العديد منهم يحدِّق النظر تجاهي، وحينها نظرتُ لمارتي وتحدثت إليه. «إذن ما الذي يجعلك تفكر أن التعاون بينهم ممكن الآن؟» «ليس أمامهم اختيار. إذا كانوا يريدون استرداد وظائفهم مرةً أخرى.» عندما بدأنا القيادة على الطريق السريع مرةً أخرى بدأ مارتي يُخبرني بصورةٍ أكثرَ تفصيلًا عن المؤسَّسة التي أنشأها. أخبرني أن الفكرة راوَدَته منذ عامَين عندما قرأ تقاريرَ صحفيةٍ متعلِّقة بإغلاق المصنع والاستغناء عن العمال، ثم إجبارهم على الانتقال إلى ضاحية ساوث شيكاغو وغيرها من الضواحي الجنوبية. وبمعاونة أسقف كاثوليكي مُتعاطف مع القضية، ذهب مارتي لمقابلة القساوسة وأعضاء الكنيسة في المنطقة وسمع كلًّا من البِيض والسود وهم يتحدثون عن شعورهم بالخِزي بسبب البطالة، وخوفهم من أن يُطردوا من مساكنهم أو حرمانهم من المعاش بطريق الخداع، والأسوأ من ذلك إدراكهم بأنهم تعرَّضوا للخيانة. في نهاية الأمر وافق ما يزيد على ٢٠ كنيسة في الضواحي على إنشاء مؤسسة أطلقوا عليها بعد ذلك اسم «المؤتمر الديني لمجتمع كالوميت». هذا بالإضافة إلى أن ثماني كنائس أخرى انضمت إلى فرع المؤسسة بالمدينة المُسمَّى بمشروع تنمية المجتمعات المحلية. لم تَسِر الأمور بالسرعة التي كان يتمنَّاها مارتي؛ فالنقابات العُمَّالية لم تكن قد انضمت بعد، وكانت الحرب السياسية في مجلس المدينة عاملًا مؤثرًا من عوامل تشتيت الانتباه. وكان المؤتمر الديني لمجتمع كالوميت قد حقَّق منذ وقتٍ قريب أولَ نصرٍ مُهم؛ مُتمثل في برنامج التوظيف القائم على استخدام الكمبيوتر الذي بلغت تكلفته ٥٠٠ ألف دولار، وكان المجلس التشريعي بولاية إلينوي قد وافق على تمويله. أوضح مارتي أننا كنَّا في طريقنا لاجتماعٍ حاشد من أجل الاحتفال ببنك الوظائف الجديد الذي يُعتبر خطوة أولى في حملةٍ طويلة المدى. قال مارتي: «سيستغرق الأمر بعضَ الوقت من أجل إعادة إحياء نشاط التصنيع هنا.» وتابع: «على الأقل ١٠ سنوات. لكن بمجرد انضمام النقابات العمالية إلينا، ستُصبح لدَينا قاعدة يمكن التفاوض من خلالها. وفي الوقت نفسه فإننا في حاجةٍ إلى أن نوقف نزيف الخسائر ونُسعد الناس ببعض الانتصارات القصيرة المدى. هذا لنُوضِّح لهم قدْر القوة التي امتلكوها بمجرد أن توقفوا عن محاربة بعضهم بعضًا وبدءوا يُركِّزون على العدو الحقيقي.» «ومَن هو ذلك العدو؟» هزَّ مارتي كتفيه. وقال: «أصحاب البنوك الاستثمارية. والسياسيون. وجماعات الضغط من أصحاب النفوذ ذوي الثراء الفاحش.» أومأ مارتي برأسه وهو ينظر إلى الطريق أمامه بعينَين شبه مُغمضتَين. فنظرتُ إليه وبدأت أشك في أنه لم يكن ساخرًا كما أحب أن يتظاهر، وأن المصنع الذي ما لبثنا أن تركناه يمثِّل له الكثير من المعاني. وحينها فكَّرت أنه أيضًا في مرحلةٍ ما من حياته تعرَّض للخيانة. عبرنا حدودَ المدينة عندما كانت حمرة غروب الشمس قد انتشرت في الأفق. توقفنا في موقف السيارات الخاص بإحدى المدارس الكبيرة في الضاحية، حيثما كانت مجموعات من الناس تشق طريقها للوصول إلى قاعة الاجتماعات الكبرى في المدرسة. بدا هؤلاء الناس تمامًا كما وصفهم مارتي: أناس فقدوا وظائفهم من عمَّال صلب، وموظفي سكرتارية، وسائقي شاحنات، ورجال وسيدات يُدخنون بإفراط ولا يكترثون بوزنهم الزائد، وكانوا يتسوَّقون من متاجر شركة سيرز أو كمارت، ويقودون سياراتٍ من أحدث طراز من مدينة ديترويت، ويأكلون في مطعم «رِد لوبستر» في المناسبات الخاصة. عند الباب رحَّب بنا رجل أسود عريض الصدر يرتدي ياقة القساوسة، قدَّمه مارتي لي وقال إن اسمه ديكون ويلبر ميلتون، نائب رئيس المؤسسة. ذكَّرني هذا الرجل، بلحيته القصيرة الحمراء ووجنتَيه المستديرتين، ببابا نويل. قال ويل وهو يُصافحني بحرارة: «مرحبًا بك.» وتابع: «كم تساءلنا من قبل متى سنتمكَّن بالفعل من مُقابلتك. أعتقد أن مارتي أعدَّك بالفعل لهذا العمل.» ألقى مارتي نظرةً سريعةً داخل القاعة. وقال: «ماذا عن عدد الحاضرين؟» «حسن حتى الآن. يبدو أن الجميع التزم بالعدد المتَّفَق عليه. وقد اتصل رجال المحافظ ليُبلغونا أنه في طريقه إلى هنا.» بدأ مارتي وويل في الاتجاه نحو المنصة وهما ينظران بتمعُّن إلى أجندة الأعمال. وعندما هممتُ في تتبُّعهما، اعترض طريقي ثلاثُ سيدات سوداوات في عمرٍ لم أستطِع تحديده بدقة. كانت إحداهنَّ جميلةً ويعلو رأسها شعرٌ مصبوغ باللون البرتقالي الخفيف، عرفتُ أن اسمها أنجيلا بعد أن قدَّمت لي نفسها، ثم مالت نحوي وهمست لي قائلة: «أنت باراك، ألست كذلك؟» أومأتُ برأسي بالإيجاب. «إنك لا تعرف قدرَ سعادتنا لرؤيتك.» قالت السيدة الواقفة بجوار أنجيلا التي بدت أكبرَ منها سنًّا: «إنك لا تعرف حقًّا!» مددتُ يدي لمصافحة هذه السيدة فابتسمَت وظهرت سِنَّتها الذهبية في صف أسنانها الأمامي. وقالت وهي تمدُّ يدَها: «أنا آسِفة، اسمي شيرلي.» ثم أشارت شيرلي تجاه السيدة الأخيرة؛ وكانت سمراء قصيرة ممتلئة الجسد قوية البنية. وقالت: «هذه مُنَى. ألا يبدو أنيقًا ومحترمًا يا مُنى؟» قالت مُنى بابتسامة: «بلى، بكل تأكيد.» قالت أنجيلا بصوتٍ مُنخفِض قليلًا: «لا تفهماني خطأ.» وتابعت: «إنني لا أكره مارتي. لكن الحقيقة هي أن هناك الكثير يمكنكما …» صاح أحدهم من على المنصة: «أنجيلا!» في هذه اللحظة، نظرنا لنرى مَن هذا الرجل لنجد مارتي يُلوِّح بيده لأنجيلا من هناك. وأضاف: «إن بإمكانكنَّ التحدُّث لاحقًا مع باراك كما ترِدن. لكن الآن أُريدكم جميعًا معي على المنصة.» تبادلت السيدات النظرات فيما بينهنَّ قبل أن تستدير أنجيلا تجاهي. قالت أنجيلا: «أعتقد أنه من الأفضل أن نذهب الآن.» واستدركت: «لكن لا بد أن نتحدَّث مرةً أخرى عما قريب.» قالت مُنى: «نعم بكل تأكيد»، قبل أن يمشي ثلاثتهن، وكانت أنجيلا وشيرلي في المقدمة مشغولتَين بالتحدث بخصوص أمرٍ ما، وكانت منى تمشي خلفهما بتؤدة. كان معظم أماكن قاعة الاجتماعات قد شُغِل آنذاك، وبلغ عدد الحاضرين ألفَي شخص، ربما كان ثلثهم من السود الذين جاءوا من المدينة مُستقلِّين الحافلات. عندما دقَّت الساعة السابعة أنشدت جوقة المنشِدِين ترنيمتَين من الإنجيل، وتفقَّد ويل الحاضرين من الكنائس، وشرح بعدها مسيحي لوثري أبيض من الضواحي تاريخ المؤتمر الديني لمجتمع كالوميت ورسالته. بعد ذلك بدأت مجموعة من المتحدثين الصعودَ إلى المنصة لإلقاء كلمتهم، وكان منهم مشرِّع أسود وآخر أبيض، وخادمٌ معمداني، والكاردينال جوزيف بيرناردين، وفي النهاية المحافظ الذي قدَّم تعهدًا رسميًّا بدعم بنك الوظائف الجديد، وقدَّم أدلةً على مجهوداته المتواصلة المبذولة نيابةً عن الطبقة العاملة في ولاية إلينوي من الرجال والسيدات. في حقيقة الأمر بدا هذا الحدث لي في مُجمله مُملًّا، مثله في ذلك مثل أي اجتماع سياسي أو مباراة مصارعة تُعرض على شاشة التلفاز. مع أن الجمهور بدا مُستمتعًا بالأمر. رفع بعضهم أعلامًا برَّاقة تحمل اسم كنيستهم. وأخذ البعض الآخر يهتف بشدة وحماسة عند مشاهدة صديقٍ لهم أو أحد الأقرباء على المنصة. وبرؤيتي كلَّ هذه الوجوه السوداء والبيضاء معًا في مكانٍ واحدٍ وجدتُ نفسي أنا أيضًا أشعر بالابتهاج، وعرفتُ أن بداخلي الرؤية نفسها التي تدفع مارتي للأمام وثقته بالدوافع الشعبية وتضامن الطبقة العاملة، وإيمانه بأنه إذا أمكن تنحيةُ السياسيين ووسائل الإعلام والبيروقراطيين جانبًا، وإعطاء كل فرد في المجتمع مقعدًا على الطاولة، يمكن عندئذٍ أن يجد عوام الناس أساسًا للتفاهُم المشترك. عندما انفضَّ الاجتماع الحاشد ذكر مارتي أن عليه توصيلَ بعض الأفراد إلى منازلهم؛ لذا بدلًا من أن أركب معه قرَّرتُ أن أركب إحدى الحافلات المتجهة إلى المدينة. وعندما وصلت الحافلة كان بها مقعدٌ خالٍ بجانب ويل، حيث بدأ يتحدَّث معي قليلًا عن نفسه في الضوء الباهت لمصابيح الإنارة المتراصَّة على الطريق السريع. ذكر لي ويل أنه تربَّى في شيكاغو، وخدمَ مع القوات الأمريكية في فيتنام. وبعد الحرب وجد عملًا كموظفٍ تنفيذي تحت الاختبار في بنك كونتيننتال إلينوي، ثم ترقَّى في البنك سريعًا واستطاع الاستفادة من مميزات العمل؛ السيارة، وارتداء الحُلَل الأنيقة، والعمل بمكتبٍ في وسط المدينة. بعد ذلك حدثت حركة إعادة تنظيم في البنك، وترتَّب عليها الاستغناء عن ويل وترْكه غارقًا في الديون. وكانت تلك هي نقطة التحوُّل في حياته — كما قال — والطريقة الإلهية لإخباره بأن عليه إعادة النظر في القِيَم التي يؤمن بها. وبدلًا من أن يبحث عن وظيفةٍ أخرى في المجال المصرفي، سلك اتجاهًا دينيًّا. حيث انضم إلى أبرشية سانت كاترين في ضاحية ويست بولمان وحصل على وظيفة الحاجب هناك. وهذا القرار في الواقع فرضَ بعض القيود على زواجه وطبقًا لما قاله، كانت زوجته «لا تزال تحاول التكيُّف» مع هذا الوضع. أما ويل فإن أسلوب الحياة الزاهد كان يتناسب مع رسالته الجديدة؛ ألا وهي نشْر تعاليم الكتاب المقدَّس، والتخلُّص من بعض مظاهر الرياء التي رآها في الكنيسة. قال ويل: «انخرط الكثير من السُّود في الكنيسة مع مواقفِ الطبقة المتوسطة واتجاهاتها.» وتابع: «فهم يعتقدون أنهم ما داموا يتَّبعون المعنى الحرفي لآيات الكتاب المقدس فإنهم ليسوا في حاجةٍ إلى اتباع روح الآيات. وبدلًا من محاولة إظهار الودِّ والرغبة في المساعدة للمُسيئين، يجعلونهم يشعرون بأنهم غير مُرحَّبٍ بوجودهم. بالإضافة إلى أنهم يَسخرون من الناس ما لم يكونوا مُرتدِين الملابس المناسبة للقدَّاس وما لم يتحدثوا بصورةٍ لائقة، وما إلى غير ذلك. إنهم يتصوَّرون أنهم يشعرون بالراحة؛ لذا لا يُوجَد سبب لشعورهم بالضيق والانزعاج. حسنًا، ليس في الدين ما يبعث على شعورهم بالراحة، أليس كذلك؟ فكلُّ ما فيه عظات اجتماعية. وقد حمل رسالته إلى الضعفاء المضطهدين. وهذا بالضبط ما أقوله لبعض هؤلاء الزنوج المنتمِين للطبقة المتوسطة كلما تحدَّثتُ معهم أيام الآحاد. حيث أُخبِرهم بما لا يودُّون سماعه.» «وهل يستمعون إليك؟» ضحك ويل ضحكةً خافتةً، وقال: «لا.» وتابع: «لكن ذلك لا يُوقفني عن الكلام. إن الأمر شبيهٌ بياقة القساوسة التي أرتديها. وهذا بالفعل يدفع بعضهم إلى الشعور بالغضب العارم. فيقولون لي: «إن هذه الياقات خاصة بالقساوسة.» لكن كما ترى، فإن كوني مُتزوجًا ولا يمكن رسمي كاهنًا لا يعني أنه لا يُوجَد لديَّ دافع داخلي قوي تجاه العمل الديني. في الواقع، لا يُوجَد شيء في الإنجيل يتحدَّث عن الياقات. لذا فإنني أرتدي الياقة ليعرف الناس وجهة نظري. في حقيقة الأمر، إنني ارتديتُ الياقة عندما ذهب بعضنا لمقابلة الكاردينال بيرناردين منذ قرابة شهر. ولكن كل شخصٍ وقتها شعر بالضيق الشديد لارتدائي إيَّاها. وبعد ذلك غضبوا جميعًا عندما ناديتُ الكاردينال جوزيف باسم «جو» بدلًا من «صاحب القداسة». ولكنَّ بيرناردين كان رائعًا. إنه رجل روحاني. وأستطيع أن أقول لك إن أحدَنا قد فهِم الآخر. لكنَّ هذه القواعد نفسها هي التي تُفرِّقنا؛ القواعد التي يفرضها البشر وليست القواعد الإلهية. أريدُك أن تعلم يا باراك أنني على الرغم من انضمامي للكنيسة الكاثوليكية فإنني منذ نعومة أظافري معمداني. وكان يمكن أن ألتحق بكنيسة ميثودية أو خمسينية أو غيرها بمنتهى السهولة. لكنَّ كنيسة سانت كاترين هي الكنيسة التي أرسلني إليها الرب. فالرب يهتمُّ بما إذا كانت لديَّ الرغبة في مساعدة الآخرين أكثر مما يهتمُّ بما إذا كنتُ ملتزمًا بخلاصة العقيدة الدينية المفرَّغة في سؤال وجواب.» أومأتُ برأسي مُقرِّرًا ألا أسأله عن معنى هذه الخلاصة. ففي إندونيسيا قضيتُ عامَين في مدرسة إسلامية وعامَين في مدرسة كاثوليكية. في المدرسة الإسلامية أرسل المدرس لأُمي خطابًا قال فيه إنني في أثناء حصص القرآن كنتُ أصنع تعبيراتٍ بلهاء بقسمات وجهي لإثارة الضحك. لكنَّ أمي لم تهتم بصفةٍ عامة بهذا الأمر. ولم تقُل لي سوى: «كن محترمًا.» أمَّا عندما كان يحين موعد الصلاة في المدرسة الكاثوليكية فكنتُ أتظاهر أنني أغمض عينيَّ ثم أظل أجول ببصري في أرجاء الغرفة. ولكن لم يكن يحدُث شيء. ولم تكن تتنزل الملائكة. ولم يكن هناك سوى راهبة عجوز جافة البشرة ومعها ٣٠ طفلًا أسمر كانوا جميعًا يُهمهِمون بالكلمات. وكانت الراهبة في بعض الأحيان تمسك بي وأنا أفعل ذلك، وكانت نظرتها القاسية تجبرني أن أغمض جفنيَّ من جديد. لكن لم يكن ذلك يُغيِّر شعوري الداخلي. لقد انتابني هذا الشعور نفسه وأنا أستمع لويل وكان صمتي شبيهًا بإغماض عينيَّ. توقفَتِ الحافلة في موقف سيارات الكنيسة، وذهب ويل لمقدمة الحافلة. وشكر الجميع على الحضور وحثَّهم على اشتراكهم المستمر. وقال: «إن طريقَنا طويل، لكنَّ أحداث الليلة أوضحت لي ما يمكننا فعله عندما نضعه نُصب أعيُننا. إن الشعور الطيب الذي ينتابكم الآن علينا أن نحافظ عليه حتى نرى حيَّنا هذا واقفًا على قدمَيه من جديد.» ابتسم بعض الناس وصدَّقوا على صحة هذا الحديث. لكن عندما نزلتُ من الحافلة سمعتُ امرأةً خلفي تهمس إلى صديقتها قائلةً: «إنني لستُ في حاجةٍ إلى سماع أي شيء عن الحي. أين الوظائف التي يتحدَّثون عنها؟» ••• بعد هذا الاجتماع الحاشد بيومٍ واحد قرَّر مارتي أنه حان الوقت لأن أُنفِّذ عملًا حقيقيًّا ذا قيمة. ولذا سلَّمني قائمةً طويلة بأسماء بعض الأفراد لإجراء مقابلات معهم. وقال لي إن عليَّ أن أعرف اهتماماتهم الشخصية. وهذا هو سببُ اشتراك الناس في عملية التنظيم، حيث يعتقدون أنهم سيستفيدون منها. وبمجرد أن كنتُ أجد قضيةً يهتم بها عدد كافٍ من الناس كنتُ أدفعهم لاتخاذ أفعال. فيمكنني البدء في اكتساب السلطة في ظلِّ تنفيذ عددٍ كافٍ من الإجراءات. القضايا، والإجراءات التنظيمية، والسلطة، والاهتمامات الشخصية. كم أحببتُ هذه المفاهيم! إنها تنمُّ عن عِنْدٍ وصلابة من نوعٍ مُعيَّن، وتدل على التخلي — القائم على الخبرة بأمور الحياة والناس — عن العواطف، وتُشير في مُجملها إلى السياسة وليس إلى الدين. وعلى مدار الأسابيع الثلاثة التالية عملتُ ليلًا ونهارًا، أُحدِّد مواعيد المقابلات مع الناس قبل أن أُجريها معهم. وكانت هذه الوظيفة أصعبَ مما توقَّعت. وكنتُ أشعر بمقاومةٍ ذاتية كلما رفعتُ سماعة الهاتف لأُحدِّد مواعيد المقابلات؛ إذ كانت تقفز إلى مُخيِّلتي صورُ المكالمات الهاتفية التي كان جَدي يُجريها لبيع خدمات التأمين على الحياة، ونفاد صبر الطرف الآخر على سماعة الهاتف، والمشاعر الحزينة عندما لا يردُّ أحد على رسائلي الصوتية. كنتُ أجري معظم مقابلاتي في المساء والتي كانت زياراتٍ منزلية، وكان الناس يشعرون بالإرهاق دائمًا بعد يوم عملٍ كامل. وفي بعض الأحيان كنتُ أصِل إلى مكان المقابلة لأكتشف أن الشخص المفترض أن أقابله نسيَ الميعاد المحدَّد بيننا، وكان عليَّ أن أذكِّر هذا الشخص بمن أكون وهو ينظر إليَّ بارتيابٍ من خلف بابٍ مُوارِب. ومع ذلك، لم تكن هذه الأمور سوى صعوباتٍ ثانوية. فبمجرد أن كنتُ أتغلَّب عليها كنتُ أجد أن الناس لا يمانعون في انتهاز أية فرصةٍ للتعبير علنًا عن آرائهم بخصوص عضو مجلس مدينة ليس له نشاط يُذكَر، أو جارٍ رفض أن يجزَّ العشب من أمام منزله. وكلما أجريتُ عددًا أكبر من المقابلات زاد سماعي لموضوعاتٍ وقضايا بعينها مُتكررة. مثلًا علمتُ أن معظم الناس في المنطقة كانوا قد تربَّوا في أقصى الشمال أو في الجانب الغربي من شيكاغو، في مناطق السود الضيقة التي أنشأتها الاتفاقيات المقيِّدة للحرية على مدار معظم الفترات في تاريخ المدينة. وكان الناس الذين تحدثتُ معهم لهم بعض الذكريات الرائعة عن ذلك العالم المستقل بذاته، لكنهم كانوا يذكرون أيضًا افتقارهم إلى الدفء والضوء والمساحة الكافية لأن تجعلهم يتنفَّسون هواء الكون، علاوةً على رؤية والديهم وهم يكدحون في العمل البدني. سار البعض على نهج آبائهم في العمل بمصانع الصُّلب أو في خطوط التجميع، لكن الغالبية عملوا في وظائف سعاة بريد وسائقي حافلات ومدرِّسين وإخصائيين اجتماعِيِّين، مُستفيدين في هذه الوظائف من التطبيق الفعَّال لقوانين عدم التفرقة في القطاع العام. وكانت لهذه الوظائف مزاياها وقدَّمت قدرًا كافيًا من الشعور بالأمان فيما يتعلَّق بالتفكير في أخذ قرضٍ للحصول على مسكن. وفي ظلِّ سَنِّ قوانين إسكان عادلة، بدأ هؤلاء — واحدًا تِلْو آخر — في شراء منازل في روزلاند ومناطق أخرى مجاورة يقطنها البِيض. وهم لم يفعلوا ذلك لأنهم كانوا يريدون الاختلاط بالبِيض بل لأن المنازل هناك كانت رخيصةً وتشتمِل على أفنيةٍ صغيرة لأطفالهم، وأيضًا لأن هذه المناطق احتوت على مدارس أفضل ومتاجر ذات أسعارٍ أرخص، وربما أيضًا لأنهم كانوا يستطيعون شراءها فحسب. عندما كنتُ أستمع لهذه القصص كنتُ في الغالب أتذكَّر القصص التي كان جَدَّاي وأمي يحكونها لي؛ قصص الكفاح والهجرة والسعي وراء الحصول على شيءٍ أفضل. لكن في الواقع كان هناك اختلاف لا يمكن على الإطلاق تجاهله بين ما كنتُ أسمعه في ذلك الحين وبين ما تذكَّرته، كما لو كانت صور طفولتي تتوارَد إلى ذهني عكسيًّا. في هذه القصص الجديدة كانت اللافتات المكتوب عليها «للبيع» تظهر فجأةً كظهور نبات الهندباء تحت أشعةِ الشمس في يومٍ صيفيٍّ حار. والأحجار تتطاير خلال النوافذ، وتُسمَع الأصوات المتوترة للآباء القلقِين وهم يُنادون على أبنائهم للدخول للمنزل وترْك ألعابهم الطفولية البريئة. وفي أقلِّ من ستة أشهر بيعت مبانٍ سكنية كاملة، وفي أقل من خمس سنواتٍ انطبق الأمر نفسه على أحياء برمَّتها. في هذه القصص — أينما يتقابل البِيض والسود — كانت النتيجة غضبًا وحزنًا أكيدَين. لم تتخلَّص المنطقة قطُّ من هذا الاضطراب العنصري، الذي كان من نتائجه انتقال المتاجر والبنوك بعملائها البِيض إلى أماكنَ أخرى، مما أدَّى إلى سوء حالة الطرق العامة الرئيسية. وتدهورت الخدمات في المدينة. وعندما يتذكَّر السُّود الذين يعيشون الآن في منازلهم منذ ١٠ أو ١٥ سنة الطريقة التي تطورت بها الأمور تجدهم يتذكرونها بشيءٍ من الرِّضا. وبالاعتماد على الدخلَين اللذَين كانوا يتقاضونهما كانوا يُسدِّدون ثَمن منازلهم وسياراتهم، وربما مصروفات التعليم الجامعي للأبناء الذين ملأت صور تخرُّجهم كلَّ أرفف المواقد. حافظ هؤلاء الناس على منازلهم، كما أبقَوا على أولادهم بعيدًا عن الشوارع، بالإضافة إلى أنهم كوَّنوا جمعياتٍ سكانية تعاونية للحفاظ على أمن ونظافة الحي نظرًا لأنهم كانوا مُتأكِّدين من أن البِيض فعلوا الشيء نفسَه. عندما كان هؤلاء الناس يتحدَّثون عن المستقبل كانت نبرة القلق تقتحم أصواتهم. وكانوا يَذكرون ابن عمٍّ لهم أو أحد أقربائهم الذي اعتاد زيارتهم طلبًا للمال، أو صبيًّا بالغًا لا يعمل لا يزال يعيش في المنزل عالةً عليهم. حتى نجاح هؤلاء الأبناء في الجامعة وفي الحياة العملية اشتمل في طياته على شعورٍ بالهزيمة، وكلما تمكَّن هؤلاء الأبناء من فعْل شيءٍ أفضل زادت فرصة رحيلهم عن المنطقة. وإلى مكانهم نفسه انتقلت عائلات أصغر سنًّا وأقل استقرارًا، وكانت تلك هي المرحلة الثانية للمُهاجِرين من الأحياء الأفقر، ليحلَّ محلهم قاطنون جدُد لا يستطيعون دائمًا تحمُّل الالتزام بسداد قروض المنازل أو دفع مصاريف الصيانة الدورية لها. في هذه الفترة اختفت سرقة السيارات وكانت المتنزَّهات ذات الأشجار الوارفة فارغة، وبدأ الناس في قضاء وقتٍ أطول داخل المنازل، واشتروا الأبواب المصنوعة من الحديد المطاوع المشغول، وكانوا يتساءلون هل بإمكانهم تحمُّل بيعها بالخسارة للانتقال إلى منطقةٍ أكثرَ دفئًا أو ربما يعودون من جديد إلى الجنوب. لذا فمع شعور هؤلاء الرجال والسيدات المُستحق بأنهم حقَّقوا إنجازات، ومع الأدلة المؤكَّدة على ارتقائهم بأنفسهم، فإن مُحادثاتنا كانت تتميز بنبرةٍ تشاؤمية. فأشياء عديدة — مثل المنازل المصنوعة من الألواح الخشبية، وواجهات المحلات الخرِبة، وقوائم أعضاء الكنيسة القديمة، وأطفال لأُسَر غير معروفة يهيمون على وجوههم في الشوارع، وتجمعات المراهقين الصاخبة، والمراهقات اللاتي كنَّ يُطعِمن الأطفال الباكين شرائحَ البطاطا، والأوراق المبعثرة أسفل المباني — كانت صدًى لحقائق مؤلمة تُخبرهم بأن الارتقاء الذي أحرزوه سريع الزوال، ويقف على أرضٍ هشَّة ومن الممكن ألا يستمر فيما تبقَّى من عمرهم. كان هذا الشعور المزدوج — بالإنجاز الفردي والانهيار الجماعي — الذي فكَّرت فيه هو المسئول عن بعض المواقف التي أربكت ويل عندما تحدَّثنا ليلة الاجتماع الحاشد. في الواقع تلمَّست هذا الشعور في الكبرياء المفرطة لبعض الرجال في البارات المملوءة بزجاجات الخمر التي أسَّسوها في الأدوار التحتية في منازلهم، تلك البارات التي تُضيئها مصابيح الزينة وتُغطي جدرانها المرايا. كما رأيتُه في البلاستيك الذي كانت تضعه السيدات أعلى السجاجيد والأرائك النظيفة لحمايتها. وفي ظل كل ذلك، كان بوسع المرء أن يرى جهودًا حازمة لتعزيز الاعتقاد في أن الأمور قد تغيَّرت بالفعل إذا ما بدأ بعض الناس في التصرُّف تصرفًا سليمًا. وذات مساء أعربَت سيدة تقطن في واشنطن هايتس المجاورة عن رأيها وقالت لي: «إنني أحاول تجنُّب القيادة في روزلاند قدْر المستطاع.» وتابعت: «الناس هناك قُساة ويمكنك بالفعل معرفة ذلك من الطريقة التي يحافظون بها على منازلهم. لكنك لم تكن لترى أشياء مثل هذه عندما كان يعيش البِيض هنا.» من الأمور التي لاحظتُها أنه كان هناك اختلاف بين الأحياء، والمباني داخل الحي الواحد، وأخيرًا بين الجيران في المبنى نفسه، من حيث محاولات الحدِّ من الانحطاط والتحكُّم فيه. إن السيدة التي كانت قلقةً للغاية من العادات الفظة لجيرانها كانت تُعلِّق صورة هارولد في مطبخها، بجوار مختاراتٍ من المزمور الثالث والعشرين مباشرةً. وهكذا أيضًا فعل الشاب الذي كان يسكن في الشقة المنهارة التي كانت تبعُد ببعض المباني والذي كان يحاول كسب قوتِ يومه عن طريق تشغيل الموسيقى في الحفلات الراقصة. وكما علمتُ من الرجال الذين كانوا موجودين في صالون سميتي للحلاقة، أعطت الانتخابات هؤلاء الناس فكرةً جديدة عن أنفسهم. أو ربما كانت فكرة قديمة بُعِثَت من جديدٍ في وقتٍ أفضل. كان هارولد رمزًا لا يزال عالقًا في عقول الناس كافة؛ فتمامًا مثل فكرتي عن التنظيم، قدَّم هارولد عرضًا للإصلاح الجماعي. ••• وضعت تقريري عن الأسبوع الثالث على مكتب مارتي وجلستُ في أثناء قراءته إيَّاه. وعلَّق عندما انتهى من قراءته «ليس سيئًا؟». «ليس سيئًا؟» «نعم، ليس سيئًا. أعتقد أنك الآن بدأتَ تستمع. لكنَّ التقرير لا يزال نظريًّا إلى حدٍّ بعيد … تمامًا كما لو كنتَ تُجرِي استقصاءً أو ما شابَهَ. إذا كنتَ تريد أن تُنظِّم الناس فأنت في حاجةٍ إلى الابتعاد عن الأشياء السطحية والاتجاه إلى محور تركيز الناس. الأشياء التي تجعلهم يسلكون سلوكًا مُعينًا. هذا وإلا فإنك لن تستطيع إطلاقًا إقامة العلاقات التي تريدها معهم لجعلِهم يشتركون معك.» كان مارتي بحديثِه هذا قد بدأ يُضايقني. فسألته هل قَلِقَ من قبلُ مِن أن يُصبح محور اهتمامه التخطيط للحصول على ما يريد دون الاهتمام بالآخرين أو جرح مشاعرهم، إذا كانت فكرة معرفة نفسيات الناس والحصول على ثقتهم فقط من أجل إنشاء مؤسَّسة فكرة خادعة لإجبار الناس على فعل ما يريد. تنهَّد مارتي. قال: «إنني لستُ بشاعر يا باراك. أنا مُنظم.» تساءلتُ بيني وبين نفسي عما عَنى بذلك. وتركتُ المكتب وأنا في حالةٍ سيئة للغاية. وبعدَها كان عليَّ أن أعترف بأن مارتي كان على حق. حيث لم تكن لديَّ أية فكرة عن كيفية وضْع ما سمعتُه حيزَ التنفيذ. وفي الواقع لم تظهر لي أية فرصة لفعل ذلك إلا في نهاية المقابلات التي أجريتُها مع الناس. في أثناء اجتماع مع روبي ستايلس — وهي سيدة قصيرة ممتلئة الجسم — وكانت تعمل مديرة مكتب في الجانب الشمالي من المدينة، لاحت هذه الفرصة في الأُفق. كان ذلك عندما ذكَرَت ارتفاع معدل العمل الإجرامي على الصعيد المحلي في سياق حديثها عن ابنها كايل المراهق الذي كان ذكيًّا إلا أنه كان خجولًا لفقدانه الثقة بنفسِه والذي بدأ في مواجهة بعض المشكلات في المدرسة. قالت روبي إن أحد أصدقاء كايل أُطلِق عليه الرصاص الأسبوع الماضي أمام باب منزله. ومع أن الصبي لم يُصَب بسوءٍ فإنها كانت قلقةً على ابنها. ابتهجتُ عندما سمعتُ هذا الأمر؛ لأنه كان اهتمامًا شخصيًّا. وعلى مدار الأيام القليلة التالية عرَّفتني روبي على أولياء أمورٍ آخرين كانوا يُشاركونها مخاوفها ويشعرون بالإحباط من ردِّ فعل الشرطة غير الفعَّال. وعندما اقترحتُ أن ندعو المسئول رسميًّا عن المنطقة إلى اجتماعٍ بالحي — حتى يُعبِّر الشعب عن قلقِه على الملأ — وافق الجميع؛ وفي أثناء حديثنا عن الإعلان عن هذا الاجتماع ذكرَتْ إحدى السيدات أن هناك كنيسة معمدانية في المجمع السكني الذي يسكن فيه الولد الذي أُطلق عليه الرصاص وأن القس رينولدز — راعي الكنيسة — ربما كان مُستعدًّا للتحدُّث بخصوص هذا الأمر لجماعة المصلين بالكنيسة. استغرق الأمر منِّي أسبوعًا لإجراء المكالمات الهاتفية، لكنني عندما توصلتُ أخيرًا للقس رينولدز بدت استجابته مُبشِّرة بالخير. كان هذا الرجل رئيسًا لاتحاد تحالُف الخُدَّام المحلي، وقال لي: «تتَّحد الكنائس معًا للوعظ بالإنجيل الاجتماعي.» وقال إن مجموعة الكنائس سوف تعقد اجتماعها الدوري في اليوم التالي، وإنه سيكون سعيدًا لإدراج موضوعي في أجندته. وضعتُ سماعة الهاتف وأنا أشعر بالسعادة البالِغة، وفي صباح اليوم التالي وصلتُ مبكرًا إلى الكنيسة حيثما يعمل القسُّ رينولدز. وقابلَتْني هناك شابَّتان ترتدِيان عباءتَين وقفازَين بيضاويين في البهو وأرشدتاني إلى غرفة اجتماعاتٍ كبيرة كان يقف فيها ١٠ أو ١٢ رجلًا أسود يكبرونني سنًّا ويتحدثون في دائرةٍ غير مُنتظمة. جاء منهم رجل مهيب الطلعة لتحيتي، وهو يأخذ بيدي لمصافحتي. قال: «لا بد أنك الأخ أوباما.» وتابع: «أنا القس رينولدز. جئتَ في الموعد … إننا على وشك البدء.» جلسْنا جميعًا حول طاولة طويلة، وفي البداية صلَّى بنا القس رينولدز ثم سمح لي بالتحدث. وعندما بدأتُ حديثي حاولتُ عرْض وجهة نظري بطريقةٍ لائقة وأنا أُخبِر الخُدَّام عن الأعمال الإجرامية المتزايدة وعن الاجتماع الذي خطَّطنا له، وسلمتُهم نشراتٍ دعائية ليوزِّعوها في أبرشياتهم. وقلتُ لهم إعدادًا لموضوع حديثي معهم: «بقيادتكم الفعَّالة، قد تكون هذه الخطوة هي الأولى تجاه تحقيق تعاونٍ في كل أنواع القضايا. مثل إصلاح المدارس. وإعادة حركة التوظيف مرةً أخرى إلى الحي …» وبمجرد أن وزَّعتُ آخِر نشرة من هذه النشرات الدعائية دخل رجل طويل القامة أسمر اللون. وكان يرتدي حُلة زرقاء بصفَّين من الأزرار، وصليبًا ذهبيًّا كبيرًا فوق رابطة عنق قرمزية اللون. وكان شعره غيرَ مجعَّد وممشطًا للخلف. قال القس رينولدز: «أخ سمولز، لقد فاتك حديثٌ شيق.» وتابع: «هذا الشاب — الأخ أوباما — لدَيه خطة لتنظيم اجتماعٍ بخصوص حادث إطلاق النار الذي وقع حديثًا.» صبَّ القس سمولز لنفسه فنجانًا من القهوة وقرأ بإمعانٍ النشرة. ثم سألني: «ما اسم مؤسَّستِك؟» «مشروع تنمية المجتمعات المحلية.» قطَّب الرجل جبينه وقال: «تنمية المجتمعات المحلية …» وتابع: «أعتقد أنني أتذكَّر بعض الرجال من ذوي البشرة البيضاء ممن تكرَّر حديثهم عن تنمية شيء. أنت شابٌّ تبدو عليك خفة الظل. وتحمل اسمًا يهوديًّا. هل للمشروع علاقة بالمذهب الكاثوليكي؟» أخبرتُه أن بعض الكنائس الكاثوليكية في المنطقة مشتركة في المشروع. قال القس سمولز: «هذا صحيح، تذكَّرت الآن.» رشف القس قهوته واتكأ للخلف على مقعده. وتابع قائلًا: «لقد أخبرتُ هذا الرجل الأبيض — مارتي — بأن يتوقَّف عن هذا العمل وأن يبتعد عن هنا. إننا لسْنا في حاجةٍ إلى شيءٍ من هذا القبيل هنا.» «إنني …» «استمع إليَّ … ما اسمك مرةً أخرى؟ أوبامبا؟ اسمع، يا أوبامبا، ربما تكون ساعيًا للخير. أنا متأكد من ذلك. لكن آخِر شيءٍ نحتاج إليه هو أن نحصل على أموال البِيض والاشتراك مع مجموعةٍ من الكنائس الكاثوليكية والقائمين على العمل التنظيمي من اليهود من أجل حل مشكلاتنا. إنهم غير مُهتمِّين بنا. وعمومًا قُل ما تريد، إن أبرشية رئيس الأساقفة في هذه المدينة يُديرها عنصريون لا مُبالِين. وكذلك الحال دائمًا. حيث تأتي الطبقة البيضاء إلى هنا اعتقادًا من أفرادها بأنهم يعرفون ما هو أفضل لنا، فيوظِّفون بعضَ الإخوة خريجي الجامعات ممن لديهم قدرة جيدة على التحدُّث — مثلك — الذين لا يعرفون أيَّ الأشياء أفضل لنا، وكل ما يريدونه هو الإمساك بزمام الأمور. إن الأمر سياسي بحت، ولا يتعلَّق بما أتى بهؤلاء الناس إلى هنا.» تلعثمتُ وأنا أقول له إن الكنيسة كانت هي الرائدة دائمًا في التعامُل مع مثل هذه القضايا المجتمعية، لكنَّ القس سمولز لم يفعل شيئًا سوى هَزِّ رأسه. قال: «إنك لا تفهم.» وتابع: «لقد تغيَّرت الأمور مع العمدة الجديد. كنتُ أعرف المسئول عن الأمن في المقاطعة منذ أن كان شرطيَّ دورية في المنطقة. وأعضاء مجلس المدينة في هذه المنطقة ملتزمون كافة بإعطاء السلطة لذوي البشرة السوداء. لذا لِمَ نكون في حاجةٍ إلى الاحتجاج والتصرف بأسلوب سخيفٍ وغير مُلائم مع أهلنا؟ إن كلَّ مَن يجلس حول هذه الطاولة لدَيه اتصال مباشر بمجلس المدينة. فريد، ألم تتحدَّث قريبًا مع عضو مجلس المدينة بخصوص الحصول على تصريح لموقف السيارات؟» ساد الهدوء الغرفة. وتنحنح القس رينولدز. قال: «تشارلز، إن هذا الرجل جديد هنا. وهو يحاول أن يقدِّم مساعداته فقط.» ابتسم القس سمولز وربَّت على كتفي برفق. وقال: «لا تُسِئ فهْمي الآن. كما قلتُ لك، إنني أعلم أن هدفك سامٍ. إننا في حاجةٍ إلى بعض الشباب لمساعدتنا في هذه القضية. وكلُّ ما أقوله هو أن هذه المعركة لا تُناسِبك.» جلستُ هناك، وأنا أتعرَّض للنقد اللاذع — كما لو كنتُ لحمًا على سيخ الشواء — في حين كان القساوسة يُناقشون إقامة الطقوس الدينية المشتركة ليوم عيد الشكر في متنزَّهٍ على الجانب الآخر من الشارع. وعندما انتهى الاجتماع شكرَني القس رينولدز وبعض الآخرين على حضوري. نصحَني أحد الحضور قائلًا: «لا تهتمَّ بحديث تشارلز وتأخُذه على مَحمل الجد.» وتابع: «إنه في بعض الأحيان يتَّسِم بالشدة والصرامة.» لكنني لاحظتُ أن لا أحد منهم ترك النشرات التي وزَّعتُها عليهم، وبعد ذلك في الأسبوع نفسه — عندما حاولتُ الاتصال ببعض الخُدَّام — ظل موظفو السكرتارية يقولون لي إنهم ليسوا موجودين. ••• بعد ذلك بدأنا اجتماعنا مع الشرطة، وكان كارثةً — وإن كانت محدودة. لم يحضر سوى ١٣ شخصًا جلسوا بغير انتظام في صفوف المقاعد الفارغة. اعتذر مسئول الأمن في الحي عن عدم الحضور وأرسل المسئول عن العلاقات في المجتمع نائبًا عنه. وبين الفينة والفينة كان يدخل شخصان مُسنَّان بحثًا عن لعبة البينجو. لذا فإنني قضيتُ معظم الأمسية مُوجِّهًا هؤلاء الناس إلى الطابَق العلوي، وجلست روبي عابسةً على المنصة تستمع إلى محاضرةِ رجُل الشرطة عن الحاجة إلى نظامٍ يفرِضُه الأبوان. وفي غمرة الاجتماع وصل مارتي. وبعد أن انتهى ظهر مارتي ووضع يدَه على كتفي. وقال: «الفوضى عمَّت المكان، أليس كذلك؟» بالفعل كان على حق. لذا ساعدَني في تنظيف المكان وتنظيمه ثم أخذني لشرب القهوة ولفت نظري إلى بعض الأخطاء التي اقترفتُها. إن مشكلة العصابات والأعمال الإجرامية كانت مشكلة عامة للغاية لكي تترك انطباعًا لدى الناس؛ بمعنى أن القضايا كانت لا بدَّ من أن تُوضع في إطار واقعي ومحدَّد وأن تكون لدَيها مُقوِّمات النجاح. وكان عليَّ أن أجعل روبي تستعد بصورةٍ أكثرَ دقةً من هذا، بالإضافة إلى إعداد عددٍ أقل من المقاعد. والأهم من كل ذلك كنتُ في حاجةٍ إلى قضاء وقتٍ أطول في معرفة القادة في المجتمع، حيث إن النشرات لم تستطِع جذب الناس بصورةٍ مؤثِّرة. قال مارتي عندما وقفنا استعدادًا للرحيل: «إنني تذكرتُ شيئًا.» وتابعَ: «ماذا حدث مع هؤلاء القساوسة الذين من المفترض أن تكون قد قابلتَهم؟» أخبرتُه عما حدث مع القسيس سمولز. وبدأ يضحك. وقال: «أتعلم، كان من الأفضل ألا أحضر معك، أليس كذلك؟» لم يُعجبني ما قاله. لذا رددتُ عليه وقلت: «لماذا لم تُحذِّرني من سمولز؟» قال مارتي وهو يفتح باب سيارته: «بل حذَّرتُك بالفعل.» وتابع: «أخبرتك بأن شيكاغو منقسمةٌ إلى نقيضَين وأن الساسة يستغلُّون هذه الحقيقة لمصلحتهم الشخصية. وهذا أمرٌ ينطبق على سمولز؛ فهو سياسي تصادف ارتداؤه ياقةَ القساوسة. وعلى أية حال، ليست تلك هي نهاية العالم. يتعيَّن عليك أن تشعر بالسعادة لأنك تعلمتَ هذا الدرس مبكرًا.» هذا صحيح، لكن أي درس؟ في أثناء مشاهدتي مارتي وهو يقود سيارته، عُدتُ بذاكرتي إلى يوم الاجتماع الحاشد: إلى نبرة صوت سميتي في صالون الحلاقة، وإلى صفوف البِيض والسود في قاعة الاجتماعات بالمدرسة، عُدت بذاكرتي إلى هذا اليوم الذي فيه بسبب دمار المصنع، وشعور مارتي بالخيانة، وبسبب الكاردينال؛ الرجل الضئيل الجسم الشاحب اللون الذي كان يرتدي ثوبًا أسود ونظارة ويبتسم على المنصة وهو يختفي داخل أحضان ويل … ويل، من المؤكد أن الرجلين كان أحدهما يفهم الآخر. حملتْ كلُّ صورةٍ من هذه الصور درسًا بعينه، وكانت كلٌّ منها قابلةً للتفسيرات المختلفة. وذلك في ظل وجود كثير من الكنائس والعقائد. ربما كانت هناك أوقاتٌ بات من الظاهر فيها أن كل هذه العقائد التقت عند نقطةٍ واحدة — عند الزحام أمام نصب لينكولن التذكاري، أو نشطاء الحقوق المدنية وقتَ الغداء — لكنَّ هذه اللحظات لم تكن كاملة، بل كانت مُحطَّمة. والأعين مغمضة، كانت شفاهُنا تنطق الكلمات نفسها، لكن في قلوبنا كنا ندعو لأسيادنا، وظل كلٌّ منَّا حبيسًا في ذكراه، وتشبَّثنا جميعًا بسِحرنا الأحمق. اعتقدتُ أنه من الطبيعي لرجلٍ مثل سمولز أن يفهم هذا الأمر. لقد فهِم أن الرجال في صالون الحلاقة لم يُريدوا أن يكون فوز هارولد في الانتخابات — الذي هو فوزهم — فوزًا مِهنيًّا، ولم يُريدوا سماع أن مشكلاتهم كانت أكثرَ صعوبةً من التعامُل مع مجموعةٍ من أعضاءِ مجلسِ مدينةٍ بِيضٍ ماكرين أو أن الإصلاح لم يكن كاملًا. كان كلٌّ من مارتي وسمولز يعرفان أنه في السياسة — كما هو الحال في الدين — تكمن السلطة في اليقين، وأن يقين أحد الأفراد دائمًا ما كان يُهدِّد يقين الآخر. بعد ذلك أدركتُ وأنا واقف في موقف سيارات خالٍ خاصٍّ بمطعم ماكدونالدز في الجانب الجنوبي من شيكاغو أنني كنتُ مهرطقًا. وربما كنتُ أسوأ من ذلك لأن المهرطق لا بدَّ وأن يكون مؤمنًا بشيءٍ ما، إن لم يكن شيئًا أكثرَ من حقيقة شكه.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/9/
الفصل التاسع
يقع مشروع الإسكان العام «ألتجيلد جاردنز» عند الطرَف الجنوبي لمدينة شيكاغو، ويضم ٢٠٠٠ شقة سكنية تحتويها مجموعة من المباني المبنية بالطوب من طابقَين ذات أبواب ضخمة خضراء اللون ونوافذ غير نظيفة موحَّدة الشكل. كان الجميع يُشير إلى هذا المشروع على سبيل الاختصار باسم «الجاردنز»، على أنني لم أعرف، إلا فيما بعدُ، السخريةَ الكامنة وراء الاسم الذي يبعث على الشعور بشيء نضِر وينعَم بعناية فائقة؛ أي الأرض المقدسة. صحيحٌ أن هذا المشروع كان يحدُّه من جهة الجنوب بستان أشجار، وكان نهر كالوميت يجري في جنوبه وغربه حيثما كان يُشاهَد في بعض الأحيان رجال يصطادون بدون اهتمام في المياه المعتمة. لكنَّ الأسماك التي كانت تسبح في هذه المياه كثيرًا ما كان لونُها متغيرًا، وعدسات عينها مُعتمة، إلى جانب وجود تضخُّم خلف خياشيمها. لذا لم يكن الناس يأكلون ما يصطادونه إلا في حالة الضرورة فحسب. وعلى الجانب الآخر من الطريق السريع، إلى الشرق، يُوجَد مقلب نفايات بحيرة كالوميت الذي يُعتبر هو الأكبر من نوعه في الغرب الأوسط. وإلى الشمال وبمجرد عبور الشارع مباشرةً، يُوجَد مصنع «ميتروبوليتان سانيتاري ديستريكت» لمعالجة مياه الصرف الصحي بالحي. لم يكن سكان مشروع ألتجيلد يرَونه أو يرَون الأوعية الضخمة المفتوحة التي كانت تُستخدَم لمعالجةِ السوائل والتي كانت ممتدَّة على مساحةٍ تقترب من الميل كجزءٍ من مشروعات التجميل الحديثة؛ إذ أقام الحي جدارًا مرتفعًا أمام المصنع مبعثرٌ حوله عددٌ كبير من الشجيرات التي زُرِعت على عجلٍ والتي رفضت أن تنمو شهرًا تلو الآخر، فكانت تُشبه الشعيرات المبعثرة على رأس رجلٍ أصلع. على أن المسئولين ظلُّوا مكتوفي الأيدي أمام الرائحة العفنة المُركزة التي كانت تختلف حدَّتها طبقًا لدرجة الحرارة واتجاه الرياح، وكانت تتسرَّب من النوافذ مهما كان إغلاقها مُحْكَمًا. روائح نتِنة، ومواد سامَّة، وأرض خواء، ومنطقة غير مأهولة بالسكان. فقد استقبلت الأميال المربَّعة المحيطة بمشروع ألتجيلد لقرابة قرنٍ مخلفاتِ أعدادٍ هائلة من المصانع، وهذا هو الثَّمن الذي دفعه الناس مقابل وظائفهم ذات الأجر المرتفِع. والآن بعد أن فُقدت هذه الوظائف، وغادر الناس الذين كان بإمكانهم الحصول عليها، أصبح من الطبيعي استخدام هذه الأرض كمقلبٍ للنفايات. استُخدِمت الأرض كمقلبٍ للنفايات، وكمكانٍ لإقامة السُّود الفقراء. ربما كان مشروع ألتجيلد يتميز عن المشاريع الأخرى في المدينة بانعزاله الطبيعي إلا إنه كان يشترك معها في تاريخ واحد؛ فجميعها يُعبِّر عن أحلام الإصلاحيِّين لبناء مُجمَّعات سكنية لائقة للفقراء، والأساليب السياسية التي عملت على تركيز هذه التجمُّعات بحيث تكون بعيدةً عن أحياء البِيض ومنعت العائلات العاملة من العيش هناك، واستخدام هيئة الإسكان بشيكاغو كمقرٍّ للمحسوبيات، وسوء الإدارة المترتِّبة على كل ذلك الإهمال. لم يكن هذا المشروع على درجة السوء نفسها التي اتصفت بها مشاريع الإسكان شاهقة الارتفاع بشيكاغو أمثال مشروع روبرت تيلورز أو مشروع كابريني جرينز التي يجد المرء فيها بيت الدرج وهو أسود كالفحم، والأروقة المتسخة بالبول، وتحدث فيها حوادث إطلاق النار على نحوٍ عشوائي. أما مشروع ألتجيلد فإن معدل إشغال الشُّقق فيه ظلَّ مستقرًّا عند نسبة ٩٠٪، وإذا سنحت لك فرصة دخول إحدى شقق هذا المشروع فستجدها في أغلب الأحوال نظيفةً ومرتبة، بل ستجد أيضًا بعض اللمسات التي تُعبِّر عن فكرة الحنين للوطن مثل القماش المزركش الموضوع لكي يُغطي أقمشة التنجيد الممزقة، وكذلك نتيجة الحائط القديمة التي ظلَّت في مكانها بسبب مناظر الشاطئ الاستوائي الموجودة عليها. في ذلك الحين بدا كل شيء خاص بالجاردنز في حالةٍ سيئة باستمرار. أسقفٌ انهارت المواد التي تُغطيها. ومواسير منفجرة. ومراحيض مسدودة. وآثار موحلة لإطارات السيارات التي ميزت المروج السمراء القاحلة التي تتناثر فيها أصص الزهور الفارغة والمكسورة والمائلة والتي تكاد تكون مدفونةً في الأرض. وقد توقَّف المسئولون عن الصيانة في هيئة الإسكان بشيكاغو عن مجرد حتى التظاهُر بأن الإصلاحات ستدخُل حيِّز التنفيذ في القريب العاجل. لذا فإن معظم الأطفال في ألتجيلد ترعرعوا دون مجرد رؤية أية حديقة. كانوا أطفالًا لم يستطيعوا رؤية شيءٍ سوى استنفاد كلِّ ما حولهم، وأدركوا أن هناك نوعًا من المتعة في الإسراع في تخريب الأشياء. توجَّهتُ إلى ألتجيلد من شارع ١٣١ ثم توقَّفتُ أمام كنيسة «أور ليدي أوف ذا جاردنز» التي كانت بناء من الطوب يقع في مؤخرة المشروع. ذهبتُ إلى هناك لمقابلة بعض قادتنا الرئيسيين للتحدُّث معهم بشأن المشكلات التي تُواجِه عملَنا التنظيمي، وكيف يمكننا إعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي مرةً أخرى. لكنني عندما أوقفتُ محرك السيارة وشرعتُ في أخذ حقيبة يدي، حدث شيء أوقفَني فجأة. ولعلَّه كان المنظر الذي رأيته؛ فقد كان لون السماء رماديًّا خانقًا. أغمضتُ عيني، واتَّكأتُ برأسي على مقعد السيارة وشعرت بأنني المساعد الأول لربَّان سفينة مشرفة على الغرق. مضى أكثر من شهرَين على اجتماع الشرطة العديم الفائدة، والأمور قد ازدادت سوءًا. إذ لم يحدث في هذه الفترة أيُّ اعتصاماتٍ أو مظاهرات أو إنشاد أغانٍ عن الحرية. بل كانت هناك سلسلة من الأخطاء وسوء الفهم والاستياء والتوتر. وكان جزء من المشكلة يرجع إلى قاعدتنا التي — على الأقل في المدينة — لم تكن كبيرة على الإطلاق؛ فلم تكن هناك سوى ثماني أبرشيات كاثوليكية تتوزَّع على بعض الأحياء، وكان رعايا الكنيسة كلُّهم من ذوي البشرة السوداء إلا أن القساوسة كانوا من البِيض. كان هؤلاء القساوسة مُنطوين على أنفسهم ومعزولين عن المجتمع، وكان معظمهم من أصلٍ بولندي أو أيرلندي، وقد التحقوا بالمدرسة اللاهوتية للتدريب على عمل القساوسة في ستينيَّات القرن العشرين بِنيَّة خدمة الفقراء ومداواة جرح المعاناة العنصرية، لكنهم كانوا يفتقرون إلى حماسةِ أسلافهم المبشِّرين؛ كانوا أطيب قلبًا ولعلَّهم كانوا رجالًا أفضل، لكنهم كانوا أيضًا أكثرَ حمقًا فيما يتعلَّق بما يستجدُّ عليهم من أمور. رأى هؤلاء الرجال بالفعل أن مواعظ الأخوَّة والمودة التي يُلقونها يُداس عليها بأقدام البِيض المذعورين، ووجدوا أن مساعِيهم لتعيين أعضاء جُدد قُوبِلت بشكوك ذوي الوجوه السوداء — غالبًا المعمدانيين والميثوديين والخمسينيين — الذين يحيطون كنائسهم الآن. أقنعهم مارتي بأن التنظيم سيقضي على هذه العزلة، وأنه لن يوقف انحدار مستوى الأحياء إلى الأسوأ فقط بل سيمدُّ أبرشياتهم بالطاقة من جديد ويُجدِّد أرواحهم. ومع ذلك فقد كان هذا الأمل ضعيفًا، وعندما التقيت بهم كانوا قد استسلموا بالفعل لشعورهم بخيبة الأمل. قال لي أحد القساوسة: «الحقيقة أن مُعظمنا هنا يسعى إلى الرحيل عن المنطقة.» وتابع: «السبب الوحيد وراء بقائي هو عدم رغبة أحدٍ في أن يحلَّ محلي.» كانت الروح المعنوية أكثرَ انخفاضًا بين العامة، أي الطبقة السوداء مثل أنجيلا وشيرلي ومُنى، السيدات الثلاث اللاتي قابلتهنَّ يوم الاجتماع الحاشد واللاتي كنَّ مُفعمات بالحيوية وخفيفات الظل، واللاتي استطعنَ إلى حدٍّ ما — دون وجود زوجٍ يُساعدهن — تربيةَ أبناءٍ وبنات، وإيجاد الوقت الكافي للعمل في وظائفَ بدوامٍ جزئي وفي مشروعاتٍ صغيرة، وتنظيم فِرَق كشافة للبنات وعروض أزياء ومعسكرات صيفٍ للأطفال الذين يذهبون إلى الكنيسة كلَّ يوم. وما دام أيٌّ من هؤلاء السيدات لا تعيش في ألتجيلد — إذ كنَّ يملكن منازل صغيرة غرب المشروع مباشرةً — سألتهنَّ في إحدى المرات عما دفعهنَّ لهذا النشاط، وقبل أن أنهي سؤالي دارت أعينهنَّ داخل محاجِرِها. قالت أنجيلا لشيرلي: «انتبهي جيدًا يا فتاة من باراك» فضحكت مُنَى ضحكةً خافتة. وتابعت أنجيلا: «يبدو أن باراك يوشِك أن يُجري معك مقابلة. هذا ما يرتسِم على وجهه». ردَّت شيرلي وقالت: «إننا سيدات في منتصف العمر نشعر بالملل يا باراك، إلى جانب أننا ليس لدَينا أفضلُ من ذلك نفعله لنستغلَّ به وقتنا. لكن …» في هذه اللحظة، مدَّت شيرلي يدَها ووضعتها على وركها النحيفة لتأخذ من جيبها سيجارة، ورفعت السيجارة إلى شفتيها — تمامًا كنجمة سينما — وأضافت: «أما إذا ظهر على الساحة فتَى أحلامنا! فَوَقْتَها سنودع ألتجيلد ونُرحِّب بمونت كارلو!» لم أكن قد سمعتُ أيَّ مزاح منهنَّ مؤخرًا، وكان كلُّ ما أسمعه شكاوى. فقد شَكونَ من أن مارتي لم يكن مُهتمًّا بألتجيلد. كما شَكونَ من كونه مُتغطرسًا ولم يكن يستمع إلى اقتراحاتهنَّ. في الغالب الأعم كنَّ يَشكُونَ من بنك الوظائف الجديد الذي كنَّا قد أعلنَّا عنه ليلة الاجتماع الحاشد الذي صاحبه جلبةٌ كبيرة. إلا أنه اتضح أنه بنك مُفلِس. فطبقًا لتخطيط مارتي كان من المفترض أن تُديرَ هذا البرنامجَ جامعةٌ حكومية تقع خارج الضواحي، وقال إن هذا الاختيار يتعلَّق بالفاعلية حيث إن الجامعة مُشتمِلة بالفعل على أجهزة كمبيوتر معدَّة للاستخدام. ولكن لسوء الحظ، بعد مرور شهرَين من الميعاد المتَّفق عليه لبدء عمل البنك، لم يوفِّر البرنامج وظيفةً لأحد. ويرجع ذلك إلى أن أجهزة الكمبيوتر لم تكن تعمل بصورةٍ صحيحة؛ فإدخال البيانات كان يجري على نحوٍ خاطئ، كان يجري إرسالُ الناس لإجراء مقابلاتٍ للحصول على وظائفَ لم تكن موجودة. كان مارتي غاضبًا للغاية مما يحدُث، وعلى الأقل مرة أسبوعيًّا كان عليه أن يذهب إلى الجامعة، وكان يسبُّ ويلعن بألفاظٍ غيرِ مسموعةٍ وهو يحاول انتزاع إجاباتٍ من المسئولين الذين بدَوا أكثرَ اهتمامًا ببرنامج التمويل للعام التالي. لكنَّ السيدات اللاتي كنَّ يقطنَّ في ألتجيلد لم يكنَّ مُهتمَّات بإحباط مارتي. وكل ما كنَّ يعرفنه هو أن ٥٠٠ ألف دولار قد أُنفِقت بالفعل في مكانٍ ما لكن لمصلحةِ ضاحيةٍ غيرِ تلك التي يسكنها. ورأى ثلاثتهن أن بنك الوظائف دليل واضح على أن مارتي استغلهنَّ من أجل تنفيذ برنامج عملٍ سري أبعدَ عنهن بطريقةٍ أو بأخرى الوظائف التي وُعِدنَ بها ليحصل عليها البِيض في الضواحي. «إن مارتي يبحث فقط عن مصلحته الخاصة»، هكذا قالت السيدات بتذمُّر. بذلتُ كلَّ ما في وسعي حتى أُسوِّي هذا الخلاف، وكنتُ أنفي عن مارتي تُهَم العنصرية، مقترحًا عليه أن يكون أكثرَ دبلوماسية في التعامُل معهنَّ. لكنه أخبرني أنني كنتُ أضيع وقتي. فوفقًا لكلامه، كان السبب الوحيد لغضب أنجيلا والقادة الآخرين في المدينة هو رفضه تعيينهم في إدارة البرنامج. وقال: «هذا هو سبب فشَل ما يُطلَق عليه المؤسسات المجتمعية هنا. حيث يبدءون بأخذ أموال الحكومة وتعيين عددٍ كبير من الموظفين الذين لا يفعلون أيَّ شيء. وسرعان ما تُدار هذه المؤسَّسات على أساس المحسوبية لخدمة الزبائنِ وتلبية رغباتهم. ليس القادة. بل الزبائن.» نطق الرجل هذه الكلمات بازدراءٍ شديد، كما لو كانت كلمات بذيئة. وأضاف: «يا إلهي، إنني أشعر باشمئزازٍ بمجرد تفكيري في الأمر.» بعد ذلك استطرد مارتي قائلًا لي بعدما رأى نظرة القلق لا تزال باديةً على وجهي: «انظر يا باراك، إذا كنتَ ستؤدي هذا العمل فإن عليك أن تتوقَّف عن القلق بشأنِ ما إذا كان الناس يُحبُّونك أم لا. فإنهم لن يفعلوا.» رأى مارتي أن المحسوبية والسياسة وجرح المشاعر والشكوى من العنصرية أشياءُ تنتمي لفئةٍ واحدة، وأنها تُشتِّت انتباهه عن هدفه الأكبر وتفسد قضيةً سامية. وحتى هذا الحين كان ما زال يحاول الحصول على إدخال اتحاد النقابات في المسألة مُقتنعًا بأن أفراده سيَسُدُّون النقص في صفوفنا، ويصِلون بسفينتنا إلى برِّ الأمان. وفي يومٍ من أواخر شهر سبتمبر طلب مارتي منِّي ومن أنجيلا الذَّهاب معه في اجتماعٍ مع مسئولي الاتحاد من شركة «إل تي في ستيل» لإنتاج الصلب، التي كانت واحدة من شركات إنتاج الصلب القلائل الباقية في المدينة. وقد استغرق الأمر من مارتي ما يزيد عن شهر للإعداد لهذا الاجتماع، وكان يفيض بالحيوية في هذا اليوم، وسريعًا في تحدُّثه عن الشركة والاتحاد والمراحل الجديدة في الحملة التنظيمية. في نهاية الأمر دخل القاعةَ رئيسُ الفرع المحلي للاتحاد — وكان شابًّا وسيمًا أيرلنديًّا انتُخِب حديثًا بعد أن وَعد بالإصلاح — ومعه رجلان ضخما الجثة من ذوي البشرة السوداء؛ هما أمين صندوق الاتحاد ونائب الرئيس. وبعد تعارُفنا جلسنا كلنا، وتحدَّث مارتي عما يسعى إلى تحقيقه محاولًا إقناع الحضور. وقال إن الشركة تتأهَّب للخروج من سوق إنتاج الصلب، وإنَّ اتفاقيات رفع الأجور لن تؤدي إلا إلى زيادة أمدِ المعاناة. وإذا كان الاتحاد يريد استمرار الوظائف فإن عليه اتخاذ إجراءاتٍ جريئة وجديدة. من هذه الإجراءات الاجتماعُ بمسئولي الكنائس، ورسمُ خطةٍ للحوافز المادية التي سيحصل عليها العاملون الذين استُغنيَ عنهم. والتفاوض مع مجلس المدينة للحصول على امتيازاتٍ خلال هذه الفترة الانتقالية فيما يخصُّ المرافق ومعدلات الضريبة. هذا إلى جانب الضغط على البنوك لتقديم القروض التي يمكن استخدامها للاستثمار في التكنولوجيا الجديدة الضرورية لإعادة المصنع إلى المنافسة مرةً أخرى. في أثناء حديثه المنفرد الطويل تململ مسئولو الاتحاد في مقاعدهم. وأخيرًا وقف الرئيس وأخبر مارتي أن أفكاره تستحقُّ دراسةً أكثرَ استفاضة، لكنَّ الاتحاد في هذا الحين عليه أن يُركِّز على اتخاذ قرارٍ فوري بخصوص عرْض الإدارة. وبعد ذلك — في موقف السيارات — جاءني مارتي وهو يهزُّ رأسه وكانت تعلو وجهه نظرةٌ تدلُّ على الاندهاش. قال: «إنهم ليسوا مُهتمِّين.» وتابع: «لا حياةَ لمن تُنادي.» شعرت بالأسف لما حدَث لمارتي. وشعرتُ بأسفٍ أكبرَ لأنجيلا. فهي لم تنطِق بكلمةٍ واحدة أثناء الاجتماع، لكن عندما تحرَّكتُ بالسيارةِ من موقف سيارات الاتحاد لتوصيلها إلى منزلها استدارت نحوي وقالت: «لم أفهم كلمةً واحدةً مما قالَه مارتي.» أعتقد أنني حينئذٍ فهِمتُ صعوبةَ ما كان مارتي يُحاول إنجازه، ومدى عُمق تقديره الخاطئ للأمور. وفي الواقع لم يكن الحال مع أنجيلا أنها لم تستطِع فهْم بعض التفاصيل في حديث مارتي، ففي أثناء حديثنا تجلَّى لي أنها فهِمَتْ حديثه، على الأقل كما فهمتُه أنا. لكنَّ المعنى الحقيقي لملاحظتها كان مُتمثلًا في أنها شكَّت في علاقةِ ما قاله بموقفها الشخصي المُطالِب بالإبقاء على مصنعِ إل تي في مفتوحًا. إن التنظيم بالتعاون مع الاتحادات كان يمكن أن يساعد بعض السود الذين ظلوا في المصانع في الاحتفاظ بوظائفهم، وهذا لم يكن سيؤثِّر على قوائم العاطلِين عن العمل في القريب العاجل. ربما كان بنك الوظائف سيساعد العمال الذين يملكون بالفعل مهاراتٍ وخبرة في العثور على وظيفةٍ أخرى، لكنَّه لم يكن بالطبع سيُعلِّم المراهِقين السود الذين تركوا التعليم كيفية القراءة أو الحساب. بعبارةٍ أخرى، فإن الأمر كان مختلفًا للسود. كما أنه مختلف وقتَ كتابتي هذا، تمامًا كما كان مختلفًا لأجداد أنجيلا الذين استبعدتهم الاتحاداتُ وبُصِقَ عليهم وكأنهم مصابون بالجرب، وكان مختلفًا أيضًا لوالِدَيها اللذَين استُبعِدا أيضًا من شَغل الوظائف الأفضل التي كان يُعيَّن الموظفون فيها على أساس المحسوبية والتي كان جهاز الكمبيوتر يوفِّرها قبل أن تُصبح كلمة محسوبية مِن غير اللائق استخدامها. وفي أوج حماس مارتي لإعلان الحرب على سماسرة السلطة في وسط المدينة، وأصحاب البنوك الاستثمارية في حُلَلِهم الفاخرة، أراد طرْح هذه الاختلافات جانبًا بصفتها جزءًا من الماضي التعيس. لكن شخصًا مثل أنجيلا، كان الماضي عندها هو نفسه الحاضر؛ إذ كان ذلك الماضي هو الذي شكَّل عالمها إلى الأبد بقوةٍ أكثرَ واقعيةً من أية فكرةٍ خاصة بتضامن الطبقات. وأوضح الكثيرَ عن سبب عدم قدرة المزيد من السود على الانتقال إلى الضواحي في الوقت الذي كان فيه هذا الانتقال مفيدًا، وسبب عدم تمكُّن المزيد منهم من اللَّحاق بركْب الحلم الأمريكي. وسبب انتشار البطالة واتصافها بأنها أكثرُ حدةً في الأحياء التي يَقطنها السود، واستمرارها لوقتٍ أطول من استمرارها في الأحياء الأخرى، وسبب نفاد صبر أنجيلا من الذين يُريدون التعامُل مع البِيض والسود على قدمِ المساواة. وهكذا فسَّر هذا الماضي مشروع ألتجيلد. ••• نظرتُ إلى ساعتي ووجدتُ أن الساعة الثانية و١٠ دقائق. قد حان الوقت لمواجهة العقاب على ما صنعته يداي. فخرجتُ من السيارة وضربتُ جرس باب الكنيسة. وفتحَتْ أنجيلا وأرشدتني إلى غرفةٍ كان ينتظرني فيها القادة الآخرون: شيرلي ومُنى وويل وماري، والأخيرة سيدة بيضاء سوداء الشعر وهادئة كانت تقوم بالتدريس لتلاميذ المرحلة الابتدائية في المدرسة التابعة لكنيسة سانت كاترين. اعتذرتُ عن تأخُّري وصببتُ لنفسي بعض القهوة وجلستُ على عتبة النافذة. قلت: «إذن، لماذا هذه الوجوه الحزينة؟» قالت أنجيلا: «سنترُك العمل.» «مَن الذي سيترك العمل؟» هزَّت أنجيلا كتفَيها وقالت: «حسنًا … إنني … أعتقد … لا أستطيع أن أتحدَّث نيابةً عن الجميع.» تجوَّلتُ ببصري في الغرفة. وتجنَّب القادة النظر إليَّ وكأنهم هيئة مُحلَّفين نطقت حكمًا في غير مصلحتي. استمرَّت أنجيلا في حديثها معي، وقالت: «إنني آسفة يا باراك.» وأضافت: «إن الأمر ليس متعلقًا بك على الإطلاق. فالحقيقة هي أننا مُتعبون فقط. نحن في هذا الموقف منذ عامَين ولم نستطِع التقدُّم خطوةً واحدة.» «إنني أتفهَّم إحباطكم يا أنجيلا. نحن جميعًا مُحبطون إلى حدٍّ ما. ومع ذلك فإنكم في حاجةٍ إلى أن تعطوا هذه المسألة مزيدًا من الوقت؛ فنحن …» قاطعتني شيرلي قائلة: «ليس لدَينا مزيدٌ من الوقت.» وتابعت: «إننا لا نستطيع الاستمرار في إعطاء الوعود لأهلنا، ولا يحدُث شيء بعدَها. إننا نحتاج إلى فعل شيءٍ الآن.» في أثناء محاولتي التفكير في شيءٍ آخر أقوله، أخذتُ أُحرِّك فنجان القهوة. ارتبكت الكلمات في رأسي، وللحظةٍ تملَّكني الذُّعر. وبعدَها تحوَّل الذعر إلى غضب. وكان هذا الغضب من مارتي لأنه أحضرني إلى شيكاغو. كما كان غضبي من القادة لكونهم قصيري النظر. وكنتُ غاضبًا من نفسي للاعتقاد في أنه كان بإمكاني رأبُ الصدع بينهم جميعًا. وعلى حين غرة، تذكَّرتُ ما قاله لي فرانك ذات ليلةٍ في هاواي، بعدما سمعتُ أن جَدتي فُزِعَت من ذلك الرجل الأسود. قال لي فرانك وقتَها، إن الحال هكذا على الدوام. وأضاف أنني ربما أيضًا أعتاد ذلك. في ظل حالة الكآبة والحزن الشديد التي انتابتني نظرتُ من النافذة ورأيت مجموعةً من الصبية مُجتمِعين في الشارع. وكانوا يقذفون بالحجارة نافذةً ذات ألواح خشبية خاصة بإحدى الشقق الخالية، وكانوا يُغَطُّون رءوسهم وأعناقهم بقلنسوةٍ بطريقةٍ جعلتهم وكأنهم صور مُصغَّرة للرهبان. وقام أحدهم بمدِّ يدِه لينتزع قطعةً من رقائق خشب الأبلكاش كانت مُثبتة بمسامير عند باب الشقة إلا إنه تعثَّر وسقط على الأرض مما جعل الآخرين يضحكون. وفجأة شعرتُ أنني أريد الانضمام إليهم، وأريد أن أقتلع الأرض الميتة التي نقف عليها، جزءًا. لكنني بدلًا من أن أفعل ذلك اتجهت إلى أنجيلا، وأشرتُ إلى النافذة. قلت: «دعيني أطرح عليك سؤالًا: ماذا تعتقدين أن يحدث لهؤلاء الصبية؟» «باراك …» «لا، إنني أسأل فقط. إنك تقولين إنكم مُتعبون، وبالطبع فإن تلك هي حالة الأغلبية هنا. لذا إنني لا أحاول إلا معرفةَ ما سيحدث لهؤلاء الصبية. ومَن الذي سيتأكد من أنهم أُتيحت لهم فرصة بالفعل؟ عضو مجلس المدينة؟ أم الاختصاصيون الاجتماعيون؟ أم العصابات؟» كنتُ في ذلك الحين أسمع صوتي وهو يرتفع لكنني لم أتوقَّف. وقلتُ لهم: «أتعرفون، إنني لم أحضُر إلى هنا لأنني كنتُ في حاجةٍ إلى وظيفة. بل حضرتُ لأن مارتي قال لي إنه يُوجَد هنا بعض الأفراد الجادِّين في فعْل شيءٍ يساعد في تغيير أحيائهم. إنني لا أهتمُّ بما حدث في الماضي. أعرف أنني هنا الآن وأنا مُلتزِم بالعمل معكم. وإذا كانت هناك مشكلة، علينا إذن أن نحلَّها. وإذا كنتم تعتقدون أنه لن يحدُث شيء بعد العمل معي، فإنني سأكون أول مَن يُخبركم بأن تتركوا العمل. لكن إن كنتم جميعًا تخطِّطون لترْك العمل الآن، فإنني أريد منكم الإجابة عن سؤالي.» توقَّفت عن الحديث، محاولًا النظر إلى وجوههم كافة لمعرفةِ ما يدور برءوسهم. كانوا قد بدَتْ عليهم الدهشة بسبب ثَورتي مع أنهم لم يكونوا مُندهِشين مِثلي على الإطلاق. عرفت وقتها أنني كنتُ واقفًا على أرضٍ هشة، ولم أكن قريبًا بما يكفي لأيٍّ منهم حتى أستطيع أن أتأكد من أن حديثي حقَّق نتائجَ غير مرغوبة. في هذه اللحظة بالذات لم يكن أمامي أي بديل. أما عن الصبية فكانوا قد غادروا وساروا في الشارع، وذهبَت شيرلي لتحضر المزيد من القهوة لنفسها، وبعد قرابة ١٠ دقائق، تحدَّث ويل أخيرًا. قال: «إنني لا أعرف شعور بقية الحضور، لكنني أعتقد أننا تحدَّثنا عن هذا الموضوع القديم وقتًا طويلًا بما يكفي. إن مارتي يعلم أننا نُواجِه مشكلات. ولذا عيَّن باراك. أليس ذلك صحيحًا يا باراك؟» أومأت برأسي بالإيجاب متحفظًا. «إن الأوضاع لا تزال سيئة هنا. ولم يتحرك ساكنٌ.» وأضاف وهو يلتفت تجاهي: «لذا فإن ما أريد معرفته هو ما سنفعله بدءًا من هذه اللحظة فصاعدًا.» أخبرتُهُ بالحقيقة. قلت: «لا أعرف يا ويل، فلتُخبرني أنت.» ابتسم ويل وشعرتُ أن الأزمة الحالية التي كنا نمرُّ بها قد انتهت. ووافقت أنجيلا على السماح بفرصةٍ أخرى لبضعة أشهر. وأعلنتُ عن مُوافقتي على تخصيص مزيدٍ من الوقت لألتجيلد. وقضينا نصف الساعة التالية نتحدَّث عن الاستراتيجية وتوزيع المهام. وفي طريقنا للخارج ظهرتْ مُنى وأخذتني من ذِراعي للتحدُّث معي. «لقد أدرتَ هذا الاجتماع بصورةٍ طيبة يا باراك. يبدو أنك تعرف ما تفعل.» «لا يا مُنى. إنني لا أعرف ما أفعل.» ضحكَت مُنى. وقالت: «حسنًا، أعِدُك بأنني لن أقول لأحد.» «إنني أُقدِّر لكِ ذلك. مِن المؤكد أُقدِّره.» ••• في مساء اليوم نفسه اتصلتُ بمارتي وأخبرتُه ببعضِ ما حدث، لكنه لم يندهش حيث إن العديد من كنائس الضواحي كانت قد بدأت بالفعل في الانسحاب. أعطاني مارتي بعضَ الاقتراحات بخصوص التعامُل مع قضية التوظيف في ألتجيلد، ونصحني بعدها أن أُحسِن اختيارَ مسار الحديث في المقابلات التي أُجريها. قال: «إنك ستحتاج يا باراك إلى بعض القادة الجدد. إن ويل رجل رائع، لكن هل تعتقد أنك ستعتمد عليه فعليًّا في تخليص المؤسسة من المصاعب المالية التي تُواجهها؟» فهمتُ ما كان مارتي يرمي إليه. وعلى قدْر إعجابي بويل وتقديري لدعمه، كان عليَّ أن أعترف بأن بعضًا من أفكاره كانت … حسنًا … غريبة بعض الشيء وغير تقليدية. فهو يُحب تدخين سجائر الماريجوانا في نهاية يوم العمل (وكان يقول: «إن لم يكن الرب يريد منا تدخين هذا الشيء، لم يكن ليخلُقَه من الأساس.») بالإضافة إلى أنه كان يُغادر أيَّ اجتماع يرى أنه مُمل. وكلما اصطحبتُه معي في مقابلةٍ مع أعضاء كنيسته بدأ بالجدال معهم بخصوص قراءتهم غير الصائبة للكتاب المقدس، أو الأسمدة التي يختارونها لمرُوجهم، أو دستورية ضريبة الدخل (وكان يشعر أن الضريبة تتعدَّى على ميثاق الحقوق، ومن ثَم رفض عن عمدٍ دفعها). لقد أخبرته ذات مرة: «ربما لو كنتَ تستمِع إلى الآخرين أكثرَ من ذلك لأصبحوا أكثر تجاوبًا معك.» هزَّ ويل رأسه. وقال: «إنني أستمِع بالفعل إليهم. وتلك هي المشكلة. لأن كلَّ ما يقولونه خطأ.» بعد فض الاجتماع في ألتجيلد لاحت لويل فكرة جديدة. وقال لي: «إن هؤلاء الزنوج المفتقِرين إلى النظام في كنيسة سانت كاترين لن يفعلوا إطلاقًا أيَّ شيء.» وأضاف: «إذا كنا نُريد تحقيق شيءٍ مُعيَّن يجب أن ننزل إلى الشوارع!» أوضح ويل أن العديد من الناس ممن يعيشون بجوار كنيسة سانت كاترين مباشرةً عاطلون وفي كفاحٍ مُستمر، وقال إن هؤلاء هم الذين ينبغي لنا استهدافهم. ولأنهم ربما لا يتقبَّلون فكرةَ حضور اجتماعٍ تستضيفه كنيسة أجنبية فإن علينا عَقْد مجموعةٍ مُتتالية من الاجتماعات في زاوية الشارع بالقرب من ضاحية ويست بولمان، مما يسمح لهم بالاجتماع معنا على أرضٍ مُحايدة. في البداية شككتُ في هذا الأمر، لكن لأنني لم أكن مُستعدًّا لإحباط أية مبادرة ساعدتُ ويل وماري في إعداد نشرة دعائية لتُوزَّع على المباني السكنية الأقرب إلى الكنيسة. وبعد أسبوعٍ وقف ثلاثتنا في زاوية الشارع في ظلِّ رياح أواخر الخريف. ظل الشارع فارغًا في البداية، ولم تكن فيه سوى ظلال صفوف المنازل ذات الطابق الواحد المبنية من الطوب. بعد ذلك بدأ الناس في الظهور رويدًا رويدًا — واحد أو اثنان في كل مرة — وكانت السيدات ترتدي قبعات فوق رءوسهن، والرجال يرتدون قمصانًا صوفية أو سترات ثقيلة، وكانوا جميعًا يجرُّون أقدامهم فوق أوراق النباتات، ويتحرَّكون تجاه دائرة التجمُّع الآخِذة في الاتساع. وعندما بلغ عدد الحضور ٢٠ شخصًا أو ما يقرُب من ذلك أوضح ويل أن كنيسة سانت كاترين كانت جزءًا من جهدٍ تنظيمي أكبر «وأننا نريد منكم أن تتحدثوا مع جيرانكم بشأن جميع الأشياء التي تَشْكون منها في حياتكم.» قالت إحدى السيدات: «حسنًا، إن كلَّ ما أستطيع أن أقوله الآن هو أن الأمر مُتعلِّق بالوقت.» ولقرابة ساعة تحدَّث الناس عن الحُفر التي تملأ الطرقات، وعن البالوعات وإشارات المرور وقِطَع الأرض المهجورة. ومع اقتراب الغسق أعلن ويل عن انتقال مقر الاجتماعات إلى الطابَق الأرضي بكنيسة سانت كاترين بدءًا من الشهر التالي. وفي طريق عودتنا إلى الكنيسة سمعتُ صوتَ الناس خلفنا، يهمس في ضوء النهار المنقضي. وفي ذلك الوقت اتجه ويل نحوي وابتسم. قال: «ألم أقُل لك؟» كرَّرنا عقْد هذه الاجتماعات في زاوية الشارع في ثلاث … أربع … أو خمس مناطق سكنية، وكان ويل يجلس في المنتصف مُرتديًا ياقةَ القس وسترة فريق شيكاغو كابس للبيسبول، وكانت ماري تدور على الناس في الزحام وبيدِها أوراق تسجيل الحضور. وعندما نقلنا الاجتماعات إلى داخل الكنيسة كان لدَينا جمْعٌ من الناس يبلغ قرابة ٣٠ شخصًا مُستعدًّا للعمل معنا في مقابل الحصول على شيءٍ ليس أكثر من فنجان قهوة. قبل هذا الاجتماع كنتُ قد وجدتُ ماري بمفردها في قاعة الكنيسة تُعِدُّ إبريقًا من القهوة. وكان جدول أعمال الأمسية مطبوعًا بصورةٍ مُنظَّمة على ورقةٍ مُعلَّقة على الحائط، هذا بالإضافة إلى أن المقاعد كانت جاهزة. وفي أثناء بحْث ماري في الخزانة عن السُّكَّر ومبيض القهوة لوَّحت إليَّ وأخبرتني أن ويل سيتأخَّر قليلًا. سألت ماري: «أتُريدين أية مساعدة؟» «أتستطيع إحضار السكَّر؟» أحضرتُ السكر من الرَّف العلوي. وقلتُ لها: «أتريدين شيئًا آخر؟» «لا، أعتقد أننا مُستعدون الآن.» جلستُ وشاهدتُ ماري وهي تنتهي من إعداد فناجين القهوة. كانت ماري من الأشخاص الذين يصعُب فَهْمُهم، حقًّا كانت كذلك؛ فلم تكن تُفضِّل الكلام كثيرًا عن نفسها أو ماضيها. وعرفتُ أنها كانت الوحيدة من ذوي البشرة البيضاء في المدينة التي تعمل معنا، فكانت واحدةً من نحو خمسة أشخاص بِيض لا يزالون في ضاحية ويست بولمان. هذا بالإضافة إلى أنني عرفتُ أيضًا أن لها ابنتَين — إحداهما تبلغ من العمر ١٠ سنوات والأخرى ١٢ سنة — وكانت أصغرهما تعاني عجزًا جسديًّا تَسبَّب في صعوبةِ مشيها وتطلَّب علاجًا مُنتظمًا. وعلمتُ أن والدَها لم يكن له وجود في حياتها، مع أنها لم تنبِس ببنتِ شفة عن هذا الموضوع. وعلى مدار عدة أشهر علمتُ أشياءَ قليلة عن كونها قد تربَّت في مدينةٍ صغيرة في ولاية إنديانا، وكانت تنتمي لعائلةٍ أيرلندية كبيرة من الطبقة العاملة. وعلى ما يبدو فإنها قابلت رجلًا من ذوي البشرة السوداء هناك ونمَت بينهما علاقة في السِّرِّ وبعدَها تزوَّجا، رفضت عائلتها التحدُّث معها بعد ذلك، ورحل الزوجان الحديثا الزواج إلى ضاحية ويست بولمان، حيث اشتريا منزلًا صغيرًا. بعد ذلك تركها زوجها ووجدت ماري نفسها وقد انجرفت إلى عالمٍ لم تكن تعرف عنه إلَّا القليل، ومن دون أي شيءٍ تملكه سوى المنزل وابنتَيها السمراوَين أصبحت غير قادرة على العودة إلى العالم الذي عرفته من قبل. في بعض الأحيان كنتُ أزور ماري في منزلها زيارةً قصيرة لإلقاء التحية عليها فقط، وربما كان الدافع وراء ذلك هو الوحدة التي شعرتُ بأنها تملأ أرجاء المنزل هناك، والتشابُه الذي وجدتُه بينها وبين أُمي، وبيني وبين ابنتَيها؛ هاتان البنتان الجميلتان اللتان كانت ظروف معيشتهما أصعبَ بكثيرٍ من ظروف معيشتي، واللتان تهرَّب منهما جَدَّاهما وضايقهما زملاؤهما السود، إلى العديد من أنواع المعاناة الأخرى. لا يعني كل ذلك أن العائلة لم يكن يساعدها أحد، حيث إن الجيران — بعد أن هجر زوج ماري المنزل — قدَّموا الكثير من الرعاية والاهتمام بها وبطفلتَيها، فكانوا يُساعدونهنَّ في إصلاح السقف الذي كانت المياه تتسرَّب منه، ويدعونهنَّ إلى حفلات الشواء وحفلات أعياد الميلاد، بالإضافة إلى الإطراء على ماري لأي عملٍ طيب أنجزته. لكن كانت هناك حدود لمدى تقبُّل الجيران لهذه العائلة وحدود ضمنية للصداقات التي كان بإمكان ماري إقامتها مع السيدات اللاتي قابلتهنَّ، خاصةً المتزوجات منهنَّ. لم يكن لدَيها أصدقاء حقيقيون سوى ابنتَيها، والآن انضم إليهم ويل الذي أعطاهنَّ إيمانه غير التقليدي شيئًا خاصًّا شاركنه إيَّاه. ولأنه لم يكن هناك شيء إضافي يمكن فِعْله في الاجتماع جلسَتْ ماري وشاهدتني وأنا أُدوِّن لنفسي الملحوظات سريعًا قبل انتهاء الاجتماع مباشرةً. «هل تمانع إذا طرحتُ عليك سؤالًا يا باراك؟» «لا، هاتي ما عندك.» «لماذا أراك هنا؟ أقصد لماذا تعمل في هذه الوظيفة؟» «بسبب الجاذبية.» «لا، إنني جادةٌ في هذا السؤال. قلتَ بنفسك إنك لا تحتاج إلى هذه الوظيفة. هذا إلى جانب أنك لستَ مُتدينًا للغاية، أليس كذلك؟» «حسنًا …» «لماذا إذن تعمل في الوظيفة؟ ثمَّة سببٌ لعملي أنا وويل في هذه الوظيفة. إنه التديُّن. هذا العمل جزءٌ من عقيدتنا. لكنني لا أعتقد أن الأمر معك يسير على هذا النحو.» في هذه اللحظة فُتح الباب ودخل السيد جرين. وكان رجلًا مُسِنًّا يرتدي سترة صيدٍ وقبعة، تتدلى حاشيتاها بغير انسيابيةٍ أمام ذقنه. «كيف حالك يا سيد جرين؟» «بخير حال. الطقس شديد البرودة لكن …» وسرعان ما دخل السيد ألبرت والسيدة تيرنر ثم سائر المجموعة، وكانوا جميعًا يرتدون ملابس ثقيلةً في ظلِّ أحوالٍ جوية توحي بشتاءٍ مُبكِّر. كانوا يفتحون أزرار المعاطف، وأعدوا القهوة لأنفسهم، واشتركوا في محادثاتٍ قصيرة متأنية ساعدت في تدفئة جوِّ الغرفة. وأخيرًا دخل ويل مُرتديًا بنطلون جينز قصيرًا وقميصًا أحمرَ مطبوعًا على مُقدِّمته «الشماس ويل»، ثم بدأ الاجتماع بعد أن طلب من السيدة جيفري أن تقودنا في الصلاة. وبينما كان الجميع يتحدَّثون كنتُ أدوِّن ملحوظاتٍ لنفسي، ولم أكن أتحدَّث إلا عندما يبدأ الحديث يحيد عن مساره الصحيح. وفي الواقع اعتقدتُ أن الاجتماع استمرَّ فترةً طويلة جدًّا عندما أضاف ويل نقطةً جديدة إلى جدول الأعمال لمناقشتها؛ ولذا انسحب بعض الحضور بعد مرور ساعة. أعلن ويل قائلًا: «قبل أن نُنهي الاجتماع أريد منكم أن تُجرِّبوا شيئًا.» وتابعت: «إننا هنا الآن في مؤسسةٍ اتخذت من الكنيسة مقرًّا لها، وهذا يعني أن نُخَصِّص جزءًا من كل اجتماعٍ نتأمَّل فيه أنفسنا، وعلاقاتنا بعضنا ببعض، وعلاقتنا بالرب. لذا أريد من كلٍّ منكم أن يستغرق دقيقةً واحدة للتفكير في سبب الحضور إلى هنا الليلة، وفي بعض المشاعر والأفكار الأخرى التي لم تتحدَّثوا عنها، وبعد ذلك أريد منكم أن تُشركوا المجموعة كلَّها فيها.» أدَّى حديث ويل إلى بناء جدارٍ من الصمت استمرَّ بضع دقائق. وأخذ يُكرِّر: «هل يريد أيٌّ منكم مشاركة أفكاره مع الآخرين؟» نظر الناس إلى الطاولة بقلقٍ وتوتُّر. فقال ويل: «حسنًا.» وتابع: «سأُشارككم معي فكرةً عالقةً في ذهني منذ وقت. إنها ليست مهمة، لكنها مجرد ذكريات. إنكم تعلمون أن أهلي لم يكونوا أثرياء أو شيئًا من هذا القبيل. حيث كنَّا نعيش في ألتجيلد. لكنني عندما عُدتُ بذاكرتي إلى الوراء — إلى أيام الطفولة. تذكَّرت أوقاتًا طيبة بالفعل؛ تذكَّرت الذَّهاب إلى بلاكبيرن فورست مع أهلي لقطف ثمار التوت البري. وتذكَّرتُ صُنع العربات الزلاجة باستخدام أقفاص الفاكهة الفارغة وعجلات أحذية التزلُّج القديمة مع زملاءٍ نشأت بيننا صداقة عابرة، والتسابق بهذه العربات في موقف السيارات، وتذكَّرتُ الذهاب إلى الرحلات الميدانية في المدرسة، ومقابلة جميع العائلات في المتنزَّه في الإجازات، حيثما كان الجميع خارج منازلهم دون أدنى شعور بالخوف، وفي الصيف كانوا ينامون في الساحات معًا إذا كان الطقس شديد الحرارة داخل المنازل. فيض من الذكريات الجميلة … يبدو الأمر وكأنني لم أكفَّ عن الابتسام طيلةَ حياتي، أضحك …» توقَّف ويل فجأةً عن تكملةِ حديثه وأحنى رأسه. ووقتها اعتقدتُ أنه يستعد للعطس، لكنه عندما أعلى رأسه مرةً أخرى رأيتُ دموعًا تنسال على وجنتَيه. استمرَّ في التحدُّث بنبرةٍ تنمُّ عن الحزن الشديد، وقال: «كما تعلمون فإنني لا أرى الأطفال يبتسِمون هنا على الإطلاق. فأنتم تنظرون إليهم … وتسمعونهم، يبدو هؤلاء الأطفال في حالةِ قلق، إنهم غاضبون من شيءٍ ما. فليس لدَيهم ما يثقون به، لا يثقون بآبائهم. أو بالرب. أو حتى بأنفسهم. وهذا ليس أمرًا طيبًا وليس من المفترَض أيضًا أن تأخذ الأمور هذا المسار … الأطفال لا يبتسِمون.» توقَّف ويل عن الحديث مرةً أخرى والتقط منديلًا من جيب بنطلونه الخلفي ليمسح أنفه. بعد ذلك بدأ الحضور بالتحدُّث عن ذكرياتهم بنبرةٍ كئيبةٍ وجادة، كما لو كانت رؤية هذا الرجل الضخم وهو يبكي قد روَتْ أسطُح قلوبهم الجافة. تحدَّث الناس عن الحياة في المدن الجنوبية الصغيرة، وعن محلات البقالة الصغيرة التي كان يتجمَّع الرجال عندها لمعرفة أخبار اليوم أو مساعدة السيدات في حمل مُشترياتهن، وتحدَّثوا عن أسلوبِ عناية الكبار بأطفال الغير؛ فكانوا يقولون لهم: «لن تستطيعوا الإفلاتَ من العقوبة على أيِّ خطأ تقترفونه؛ لأن أُمهاتكم لديهنَّ أعين وآذان في البناية كلها.» بالإضافة إلى تحدُّثهم عن شعور اللياقة العامة الذي ساعدت مثل هذه الأُلفة بينهم على استمراره. لم أحسَّ في أصواتهم أنها تحمل بين جنباتها أيَّ شعور — ولو ضئيلًا — بالحنين، ولم يشتمل إلا على عناصرَ من ذكرياتٍ مختارة، لكنَّ كلَّ ما تذكَّروه كان صحيحًا وقويًّا فيما يحمله من مشاعر وأحاسيس، كان صوتهم صدًى للشعور المشترك بالخسارة. تحوَّلت الغرفة إلى ساحةٍ ارتادها خليط من مشاعر التجربة الحية والإحباط والأمل، تلك المشاعر التي أخذت الشفاه تتناقَلُها واحدةً تلو الأخرى، وعندما تحدَّث الشخص الأخير حلَّقت هذه المشاعر في الهواء وظلَّت ثابتةً وأمكن للجميع إدراكها بوضوح. تشابكت أيدينا بعد ذلك، يدي اليسرى في يد السيد جرين القوية السميكة ويدي اليُمنى في يد السيدة تيرنر الرقيقة الملمس، ودعونا جميعًا أن نُمنح الشجاعة لإجراء التغيير. ساعدتُ كلًّا من ويل وماري في إعادة المقاعد إلى أماكنها وغسل أواني إعداد القهوة وإغلاق المكان وإطفاء الأنوار. وفي الخارج كان الطقس باردًا ليلًا، لكنه لم يكن مُلبَّدًا بالغيوم. رفعتُ ياقة السترة لأعلى وسرعان ما قيَّمتُ الاجتماع. لم يكن ويل يريد استغراق وقتٍ طويل، وكان علينا أن نبحث قضية خدمات المدينة قبل الاجتماع التالي، إلى جانب مقابلة الجميع من الحضور. وبعد أن انتهيتُ من قائمة البنود التي دوَّنتُها وضعتُ ذراعي حول كتفَي ويل وقلتُ له: «كانت فكرة التأمُّل في نهاية الاجتماع غاية في الفاعلية يا ويل.» نظر ويل إلى ماري وابتسما معًا. وقالت ماري: «مما لاحظناه أنك لم تشارك مشاعرك مع أيٍّ من أفراد المجموعة.» «على المنظِّم ألا يجذب إليه الأنظار.» «مَن قال ذلك؟» «دليلي المختصر عن وظيفة المنظم. تعالي معي يا ماري سأُوصلك إلى المنزل.» ركب ويل درَّاجته ولوَّح بيدِه قبل الانطلاق، وركبنا السيارة أنا وماري لتوصيلها إلى منزلها الذي يبعُد مسافة أربعة مبانٍ عن مكان الاجتماع. نزلت ماري أمام باب منزلها وشاهدتها وهي تمشي خطواتٍ قليلة قبل أن أمُدَّ يدي تجاه المقعد الذي كانت جالسة عليه لأُوصد زجاج النافذة، وفي تلك الأثناء ناديتُها. «ماري!» رجعَت وانحنت قليلًا لتنظُر إليَّ. «أتذكُرين السؤال الذي طرحتِه عليَّ من قبل عن سبب عملي في هذه الوظيفة؟ إن الأمر له علاقة باجتماع الليلة. أقصد … أنني لا أعتقد أن أسبابنا للعمل في هذا المجال مختلفة اختلافًا شديدًا.» أومأت ماري برأسها واتخذت طريقها للوصول إلى المنزل لرؤية ابنتَيها. ••• بعد أسبوع عُدتُ إلى ألتجيلد، وبعد أن تمكَّنتُ من اصطحاب أنجيلا ومُنى وشيرلي معي في سيارتي الصغيرة جدًّا. سألتني مُنى بعد أن شكَت من صِغَر المساحة التي تجلس فيها — لأنها كانت جالسة في الخلف. قالت: «ما نوع هذه السيارة؟» رفعت شيرلي مقعدها لأعلى. وقالت: «هذه السيارة مُصنَّعة خصيصًا للفتيات النحيفات الصغيرات الحجم اللاتي يخرج معهنَّ باراك.» «مع مَن سيكون اجتماعنا هذه المرة؟» كنتُ قد خططتُ لعقد ثلاثة اجتماعات، على أملِ العثور على استراتيجية توظيف تفي باحتياجات الناس في ألتجيلد. وفي هذا الوقت على الأقل كان حدوث ازدهارٍ صناعي جديد أمرًا صعبَ المنال؛ فكبار المُصنِّعين كانوا يختارون أروقة الضواحي النظيفة، ولم يكن باستطاعة أحد — حتى لو كان غاندي — إجبارهم على نقْل مشاريعهم بالقُرب من ألتجيلد في أيِّ وقتٍ قريبٍ على الإطلاق. على الجانب الآخر كان ما زال مُتبقيًا في المنطقة جزء من الاقتصاد الذي كان يمكن أن يُطلَق عليه الاقتصاد المحلي الذي اعتقدتُ وقتَها أنه اقتصاد استهلاكي من الطبقة الثانية — وهو اقتصاد المتاجر والمطاعم والمسارح والخدمات — الذي استمرَّ في مناطقَ أخرى في المدينة باعتباره جوهر الحياة المدنية. وهذه الأماكن هي التي اتجهت إليها العائلات لاستثمار مُدخراتها وتحقيق النجاح في العمل، إلى جانب توفيرها الوظائف لعديمي الخبرة؛ إنها الأماكن التي ظلَّ فيها الاقتصاد باقيًا بالمقياس الإنساني وواضحًا بصورةٍ كافية كي يستوعِبه الناس. كانت روزلاند هي الأقرب للمقاطعة التجارية في المنطقة؛ لذا فإننا اتخذنا مسار الأتوبيس واتَّجهنا شمالًا إلى شارع ميشيجان المشهور بمحلات بيع الشَّعر المستعار، ومحلات الخمور، ومحلات الملابس المُباعة بتخفيضات، ومحلات البيتزا، إلى أن وصلْنا أمام مخزن قديم مُكوَّن من طابَقين. دخلنا هذا المبنى من بابه المعدني الثقيل ونزلْنا على سلالمَ ضيقةٍ إلى الطابق السُّفلي المليء بقطع الأثاث القديم. وفي مكتبٍ صغير كان يجلس رجل رياضيُّ البنية إلى حدٍّ ما، بلحيةٍ صغيرة مُشذَّبة، وكان يرتدي قلنسوة ضيقةً أبرزت أُذنَيه الكبيرتَين. «هل أستطيع مساعدتكم؟» شرحتُ لهذا الرجل مَن نحن وأننا تحدَّثنا قبل الحضور هاتفيًّا. قال الرجل: «نعم هذا صحيح.» وبعدها أشار لاثنين من رجاله ضخمي الجثة كانا يقفان على جانبَي مكتبه، فمشيا بعد أن أومآ برأسيهما. وقال الرجل مرةً أخرى: «أعتقد أننا مُضطرون لتقديم أنفسنا سريعًا لأنه حدث شيءٌ غير متوقَّع. أنا رفيق الشباز.» قالت شيرلي ونحن نُصافح رفيقًا: «إنني أعرفك.» وتابع: «أنت «والي» ابن السيدة طومبسون. كيف حال والدتك؟» ابتسم رفيق ابتسامةً مُصطنعة، وطلب منا الجلوس. وأوضح أنه كان رئيسًا لائتلاف وحدة روزلاند، وهو مؤسَّسة اشتركت في العديد من الأنشطة السياسية بهدف الترويج لقضية السود، وزعمت أن لها دورًا كبيرًا في المساعدة في انتخاب عمدة واشنطن. وعندما سألناه عن كيفية دعم كنائسنا التنميةَ الاقتصادية المحلية، أعطانا منشورًا يتَّهم المتاجر العربية ببيع لحمٍ فاسد. قال رفيق: «هذا هو الأمر الذي يستحقُّ الاهتمام.» وتابع: «حيث إن هناك أناسًا من خارج مجتمعنا يأخذون منَّا أموالنا ويتعاملون مع إخوتنا وأخواتنا بغير احترام. وبصفةٍ أساسية فإن الكوريين والعرب هم مَن يُديرون هذه المتاجر، ولا يزال اليهود يملكون معظم الأبنية. والآن على المدى القصير، يتعيَّن علينا التأكُّد من أن مصالح السُّود يُعتنى بها، أتفهمونني؟ وعندما نسمع أن أحد الكوريين يُسيء معاملةَ أحد الزبائن، يجب أن نهتمَّ بهذا الأمر. ونُصِر على احترامهم لنا وتقديم المساعدة للمجتمع، مثل تمويل برامجنا وأي شيء آخر تقترحونه.» «هذا على المدى القصير، وهذه …» أشار رفيق إلى خريطة لروزلاند مُعلَّقة على الحائط وبها مناطقُ مُعيَّنة مميَّزة بالحبر الأحمر. وأضاف: «وهذه على المدى الطويل. حيث إن الأمر برمَّته يتعلَّق بقضية الملكية. وهذه الخريطة شاملة لكل المنطقة. شركات السود ومراكز المجتمع وكل شيء. هذا إلى جانب بعض الممتلكات التي بدأنا بالفعل التفاوض مع المُلَّاك البِيض على بيعها لنا بسعرٍ معقول. لذا فإذا كانوا جميعًا مُهتمِّين بالوظائف فإن بإمكانكم تقديمَ المساعدة عن طريق نشر هذه الرسالة الخاصة بهذه الخريطة. والمشكلة التي تواجهنا الآن هي عدم تلقي المساعدة الكافية من أهل روزلاند. وبدلًا من اتخاذهم موقفًا فإنهم يرحلون خلف البِيض في الضواحي، لكن كما تعرفون فإن البِيض ليسوا أغبياء، حيث إنهم ينتظرون فقط خروجنا من المدينة حتى يستطيعوا العودة لأنهم يعرفون أن قيمة المبنى الذي نجلس فيه الآن باهظة الثمن. دخل أحدُ رَجُلَيه الضخمي الجثة مرةً أخرى إلى المكتب ووقف رفيق. وقال على نحوٍ مفاجئ: «لا بد أن أذهب الآن.» لكنه استدرك قائلًا: «سنتحدَّث مرةً أخرى.» صافَحَنا رفيقٌ قبل أن يقودنا مساعده تجاه الباب. بمجرد أن أصبحنا خارج المبنى، قلت: «يبدو أنكِ تعرفينه يا شيرلي.» «نعم، قبل أن يتسمَّى بهذا الاسم الرائع، كان «والي طومبسون» البسيط، الذي استطاع تغيير اسمه لكن لم يكن بإمكانه إخفاء أُذنَيه الكبيرتَين. تربَّى رفيق في ألتجيلد، وفي الواقع أعتقد أنه وويل كانا في المدرسة معًا. وقبل أن يعتنق الإسلام كان أهم عضو في إحدى العصابات.» قالت أنجيلا: «مَن عاش على شيءٍ مات عليه.» كانت محطتنا التالية الغرفة التجارية المحلية التي كان مقرُّها في الطابق الثاني لمبنًى شبيهٍ بمحل الرهونات. وفي الداخل وجدْنا رجلًا أسودَ ممتلئ الجسم كان مشغولًا بتغليف صناديق. قلتُ لهذا الرجل: «إننا نبحث عن السيد فوستر.» قال لي، دون أن يرفع بصره: «أنا فوستر.» «لقد أُخبرنا أنك كنتَ رئيس الغرفة …» «حسنًا، هذا صحيح، كنتُ رئيسها. واستقلتُ الأسبوع الماضي فقط.» طلب منا الجلوس وتحدَّث وهو يعمل. أوضح أنه يمتلك محل الأدوات المكتبية في آخر الشارع منذ ١٥ عامًا، وأنه ظل رئيسًا للغرفة طيلةَ الخمس سنوات السابقة. كما أوضح أنه بذلَ ما في وسعه لتنظيم التجار المحليين، لكنَّ عدم تلقي الدعم جعله في النهاية يفقد حماسه. قال السيد فوستر وهو يكدِّس بعض صناديق قليلة بجانب الباب: «لن تسمعوني أشكو من الكوريين.» وأضاف: «هم الوحيدون الذين يدفعون المبالغَ المستحقَّة عليهم في الغرفة. هذا إلى جانب أنهم يفهمون عملهم ويعلمون جيدًا معنى التعاون، ويدَّخرون أموالهم معًا. ويُقرِضون بعضهم بعضًا. ولا نفعل نحن ذلك كما تعرفون. فالتجار السُّود هنا أشبه بالتفاح الفاسد داخل طبق الفاكهة.» وقف فوستر ومسح جبينَه بمنديل. وأضاف: «إنني لا أعرف. ربما لا تلوموننا على الوضع الذي أصبحنا عليه. وبعد كل هذه السنوات دون ظهور أية فرصة، اضطررتم إلى الاعتقاد في أنهم ينتزعون شيئًا منَّا. والأمر الآن أشدُّ قسوة مما كانت الحال عليه مع الإيطاليين أو اليهود منذ ٣٠ عامًا؛ لأنه في هذه الأيام لا بد أن يتنافس محلٌّ صغير كالذي أمتلكه مع سلاسل المحلات الكبيرة. إنها معركة خاسِرة ما لم تحذوا حذو الكوريين؛ أي أن تجعلوا عائلاتكم تعمل ١٦ ساعة يوميًّا، وسبعة أيام في الأسبوع. ولكن بوصفِنا أناسًا عاديين، فإننا لسنا مُستعدِّين لفعل ذلك مرةً أخرى. إنني أعتقد أننا عملنا لوقتٍ طويل دون جني أية ثمارٍ لأننا نشعر أننا لسنا مُضطرِّين لإجهاد أنفسنا لمجرَّد أن نعيش فقط. وهذا هو ما أقوله لأبنائي على أية حال. إنني لا أقول إنني مختلف. إنني أُخبِر أبنائي بأنني لا أريدهم أن يرثوا مِهنتي. وإنما أريدهم أن يعملوا لدى شركةٍ كبيرة يشعرون فيها بالراحة …» قبل أن نرحل سألَتْه أنجيلا عن احتمالية قيامه بتوفير فُرَص عملٍ بدوام جزئي للشباب في ألتجيلد. فرفع فوستر بصرَه إليها كما لو كانت مجنونة. قال: «إن كل تاجر هنا يرفض ٣٠ طلبًا من طلبات العمل يوميًّا.» وأضاف: «البالغون المواطنون الكبار. العاملون ذوو الخبرة لدَيهم استعداد لقبول أي شيءٍ يحصلون عليه. أنا آسف.» في أثناء عودتنا إلى السيارة مرَرْنا على متجرٍ صغير مليء بالملابس الرخيصة الثَّمن والسترات ذات الألوان الزاهية، ويطلُّ من نافذته دميتان بيضاويتان قديمتان مدهونتان باللون الأسود. كانت إضاءة هذا المتجر ضعيفة، لكن في مُؤخرته استطعتُ بصعوبةٍ رؤية شابةٍ كورية تخيط يدويًّا وبجانبها طفل نائم. وفي الواقع جعلني هذا المنظر أعود بذاكرتي إلى أيام طفولتي، وإلى أسواق إندونيسيا حيث البائعون المتجوِّلون، والعاملون المشتغِلون في صناعة الجلود، والسيدات المتقدِّمات في العمر اللاتي كنَّ يمضغن التنبول ويُبعِدن الذباب بالمقشَّات عن الفاكهة التي يبِعْنها. لقد اعتدتُ دومًا على مثل هذه الأسواق واعتبرتها جزءًا من الطبيعة. هذا مع أنني — الآن — عندما فكَّرتُ في ألتجيلد وروزلاند ورفيق والسيد فوستر أدركتُ أسواق جاكرتا على حقيقتها، حيث كانت أسواقًا جميلة ونفيسة. إن الناس الذين كانوا يبيعون بضائعهم هناك ربما كانوا فقراء، بل أكثر فقرًا من سكان ألتجيلد أنفسهم. حيث كانوا يحملون ٥٠ رطلًا يوميًّا على ظهورهم، ويأكلون القليل، وتُدركهم المنيَّة وهم شباب. وعلى الرغم من كل هذا الفقر فقد بقِيَ في حياتهم نظامٌ يمكن إدراكه وتمييزه؛ هو مزيج الأساليب التجارية، والوسطاء، والرشاوى التي ينبغي دفْعها، والأعراف التي ينبغي احترامها، وعادات جيلٍ تحدث يوميًّا تحت ستار المفاوضات والمساومات والضوضاء والإرهاق. كان غياب مثل هذا الترابط هو الذي جعل مكانًا مثل ألتجيلد يعمُّه اليأس هكذا، وبيني وبين نفسي فكَّرتُ أن غيابَ النظام هو الذي جعل كلًّا من رفيق والسيد فوستر — كلٌّ بأسلوبه الخاص — يشعران بالمرارة البالغة. إذن كيف يمكننا حياكة الثقافة بعد أن تمزَّقت؟ وكم من الوقت سيستغرق هذا الأمر في الولايات المتحدة؟ ظننتُ أننا سنستغرق وقتًا أطولَ من الوقت الذي استغرقَتْه أية ثقافة لتنحلَّ. وحاولتُ أن أتصوَّر العمال الإندونيسيين الذين كانوا يشقُّون طريقهم في الحياة بمجهوداتهم الخاصة من خلال العمل في العديد من المصانع التي كان مقرُّها فيما سبق على ضفتَي نهر كالوميت، والعمل بالأجرة في مجال تجميع أجهزة الراديو وصُنْع الأحذية التي تُباع في شارع ميشيجان. تصوَّرتُ هؤلاء العمال الإندونيسيين بعد ١٠ أو ٢٠ سنة من الآن، عندما تُغلَق مصانعهم نتيجةَ تطبيق التكنولوجيا الحديثة أو وجود عمَّال في أماكنَ أخرى من العالم يؤدُّون عملهم بأجرٍ أقل. ويكتشفون بمرارة أن أسواقهم اختفت، وأنهم لم يعودوا يتذكَّرون كيف يصنعون سِلالهم بأيديهم أو ينحتون أثاثهم، أو يزرعون غذاءهم، وحتى إن تذكَّروا كيفية تنفيذ كل هذا فإن الغابات التي كانت تمدُّهم بالخشب أصبحت تملكها الآن شركات الأخشاب، بالإضافة إلى أن سِلالهم التي كانوا يصنعونها من قبلُ حلَّت محلها أكياس بلاستيك أكثرُ متانة. وبذلك اختفت ثقافتهم بسبب وجود المصانع وشركات الأخشاب ومصانع البلاستيك. واتضح أن قِيَم العمل الشاق والمبادرات الفردية معتمدة على منظومةٍ من المعتقدات التي تأثَّرت بفعل الهجرة والتحضُّر وتكرار عرض البرامج التليفزيونية الأجنبية. وقد تحسَّن حال بعض هؤلاء في ظل هذا النظام الجديد. في حين انتقل البعض الآخر إلى أمريكا. أما الباقون — وهم الملايين الذين ظلوا في جاكرتا أو لاجوس أو الضفة الغربية — فقد استقروا في أحيائهم الشبيهة بألتجيلد جاردنز في حالةٍ من اليأس والإحباط. سادت حالة من الصمت في أثناء اتجاهنا بالسيارة إلى مكان الاجتماع الأخير مع مديرة الفرع المحلي لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب، الذي ساعد في توجيه العاطِلين عن العمل إلى برامج التدريب في جميع أنحاء المدينة. كنا قد واجهنا صعوبةً في العثور على المكان — الذي كان يبعُد ٤٥ دقيقة بالسيارة عن ألتجيلد وكان يقع في شارعٍ خلفي في حي فردولياك — ووقت وصولنا كانت المديرة قد غادرت. ولم يكن مساعدها يعرف متى ستعود لكنه سلَّمنا مجموعةً من النشرات الدعائية المطبوعة على ورقٍ مصقول. قالت شيرلي وهي تتَّجِه نحو الباب: «لن يُساعدنا ذلك على الإطلاق.» واستكملت كلامها: «ربما كان من الأفضل بقاؤنا في المنزل.» لاحظَتْ مُنى أنني تلكأتُ في المكتب. وسألت أنجيلا: «إلامَ ينظر أوباما؟» أظهرتُ لهما ظَهْر إحدى النشرات. وكان يشتمل على قائمة بجميع برامج مكتب التوظيف والتدريب في المدينة. وفي الواقع لم يكن أيٌّ منها جنوب شارع خمسة وتسعين. قلت: «ها قد وجدناها.» «ما هي؟» «وجدنا قضيةً لنعمل عليها.» ••• بمجرد أن رجعْنا إلى الجاردنز كتَبْنا مسودةَ خطابٍ إلى الآنسة سينثيا ألفاريز مديرة مكتب التوظيف والتدريب بالمدينة. وبعد أسبوعَين وافقَتْ على مقابلتنا في الجاردنز. ولأنني كنتُ عازمًا على عدم تكرار أخطائي أنهكتُ نفسي وكذلك القيادة في إعداد سيناريو للاجتماع، وبذلتُ جهدي لإقناع الكنائس الأخرى بإرسال مندوبين عنهم، وصياغة طلبٍ واضح اعتقدنا أن مكتب التوظيف والتدريب سوف يُلبيه، وهذا الطلب هو إنشاء مركز توظيف وتدريب في أقصى الجانب الجنوبي. على الرغم من استغراق أسبوعَين في عملية الإعداد فإنني شعرت ليلة الاجتماع باضطرابٍ شديد في معدتي. وفي الساعة السادسة و٤٥ دقيقة، ظهر ثلاثة أشخاص فقط؛ سيدة شابة ومعها طفل رضيع كان يسيل لُعابه على مِريلته الصغيرة، وسيدة أكبر سنًّا كانت قد لفَّت بعناية بعض الكعك في منديلٍ أدخلَتْه بعد ذلك في حقيبتها، ورجل ثمل غفا بمجرد أن جلس بكسلٍ شديد على مقعدٍ في الصف الخلفي. وبمرور الدقائق تصوَّرت مرةً أخرى أن المقاعد ستظل فارغة، وأن المسئول سيُغير رأيه في اللحظة الأخيرة ويعدِل عن الحضور، وتخيلتُ نظرة الإحباط التي ستعلو وجوه القادة والشعور المميت بالفشل الشديد. وقبل أن تدقَّ الساعة السابعة بدقيقتَين، بدأ الناس في الوفود واحدًا تلو الآخر. وكان كلٌّ من ويل وماري قد أحضرا مجموعةً من الأفراد من ضاحية ويست بولمان، وبعد ذلك دخل ابنتا شيرلي وأحفادها الذين ملئوا صفًّا كاملًا من المقاعد، وبعد ذلك بعض سكان ألتجيلد ممن يَدينون لأنجيلا أو شيرلي أو مُنى بمعروف. وكانت المحصلة قرابة ١٠٠ فرد في الغرفة عند وصول السيدة ألفاريز — وهي سيدة أمريكية من أصلٍ مكسيكي ومتغطرسة إلى حدٍّ بعيد — ومعها رجلان من ذوي البشرة البيضاء كانا يرتديان حُلَّتَين ويمشيان وراءها بتثاقل. سمعتُ أحد المساعدين يهمس للآخر عند دخولهما الباب وهو يقول: «لم أكن أعلَم حتى أن هذا كان هنا.» وعندما سألته إن كان يُمكنني أخذ معطفه هزَّ رأسه بعصبية. «لا، لا … إنني سوف، إمممم … سوف أحمله بنفسي، أشكرك.» أبلتِ القيادة بلاءً حسنًا هذه الليلة. وعرضَتْ أنجيلا القضية بوضوحٍ على الجمهور وشرحت للسيدة ألفاريز ما نتوقَّعه منها. وعندما تجنَّبت السيدة ألفاريز الإفصاحَ عن أي ردٍّ مُحدَّد اندفعت مُنى وطلبت منها الإجابة بنعم أو لا. وعندما وعدَت في النهاية بإقامة مركزٍ تابعٍ لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب في المنطقة خلال ستة أشهر صفَّق لها الجمهور تصفيقًا حادًّا. لكنَّ المشكلة الوحيدة ظهرت في أثناء الاجتماع عندما وقف الرجل الثمل الجالس في الخلف وبدأ يصيح ويُعرب عن رغبته في الحصول على وظيفة. وعلى الفور اتجهت شيرلي إلى هذا الرجل وهمست له في أُذنه بقولٍ جعله يعود أدراجه إلى المقعد مرةً أخرى. وبهذا الخصوص سألتُ شيرلي لاحقًا: «ماذا قلتِ له؟» «إنك صغير على أن تعرف.» انفض الاجتماع بعد ساعة، وأسرعَتِ السيدة ألفاريز ومساعداها في الخروج، وركب ثلاثتهم سيارةٌ زرقاء فارهة، وذهب الحضور لمصافحة مُنى وأنجيلا، وعند تقييم الاجتماع ابتسمت السيدات. وقالت أنجيلا وهي تُعانقني بشدة: «لقد أنجزتَ عملًا عظيمًا يا باراك.» «أرأيتِ، ألم أَعِدْ بأننا سنفعل شيئًا ذا أهمية؟» قالت مُنى وهي تغمز بعينها: «بالتأكيد فعل باراك هذا الشيء.» بعد ذلك أخبرتهنَّ بأنني سأتركهنَّ بمفردهنَّ على الأقل لمدة يومَين، وذهبتُ إلى سيارتي وأنا أشعر بعضَ الشيء بدوارٍ في رأسي. وقلتُ لنفسي إن باستطاعتي القيام بهذه الوظيفة وتنظيم هذه المدينة بأكملِها عند انتهائي من هذا العمل. أشعلتُ سيجارة بعدَها وتصوَّرت، وأنا أُهنئ نفسي على هذا الإنجاز، الانتقال بالقيادة إلى وسط المدينة للجلوس مع هارولد ومناقشة مصير المدينة. وبعد بضعة أقدامٍ وأسفل عمود نور رأيتُ الرجل الثمل الذي كان في الاجتماع، وهو يمشي في خطواتٍ دائرية بطيئة وينظر إلى ظلِّه المتطاول على الأرض. فخرجتُ من سيارتي وسألته إن كان في حاجةٍ إلى المساعدة للذهاب إلى منزله. صاح الرجل وهو يحاول الوقوف بثباتٍ قائلًا: «إنني لا أحتاج إلى مساعدة من أحد!» واستكمل كلامه: «أتفهمني! يا لك من أحمق بغيض … يقول لي أشياء مُزعجة …» خبا صوته. وقبل أن أقول شيئًا آخر استدار وبدأ يسير مُترنحًا في عرض الشارع ثم اختفى في الظلام.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/10/
الفصل العاشر
جاء فصل الشتاء وصُبِغت المدينة بمزيجٍ من الألوان؛ حيث الأشجار السوداء تحت السماء الرمادية فوق الأرض البيضاء. وأصبح الليل يُسدِل ستائره مبكرًا وقتَ الأصيل خاصةً عندما تهبُّ العواصف الثلجية؛ تلك العواصف الهائلة اللانهائية التي تُقرِّب المسافة بين السماء والأرض، فتنعكس أضواء المدينة على السُّحب. كان العمل أشدَّ قسوةً في مثل هذا الطقس. كانت أكوام الثلوج البيضاء تدخُل عبر فتحات سيارتي إلى أسفل ياقتي وخلال فتحات مِعطفي. وفي جولاتي لإجراء المقابلات الشخصية لم أقضِ إطلاقًا وقتًا كافيًا في مكانٍ واحدٍ حتى أستطيع الاستمتاع بالدفء كما ينبغي، بالإضافة إلى أن أماكن انتظار السيارات أصبحت نادرة في الشوارع التي ضيَّقتها الثلوج، وأصبح لكلِّ شخصٍ فيما يبدو قصة يُسدي من خلالها النصائح بشأن المشاجرات التي تنشب بسبب أماكن انتظار السيارات بعد هبوب العواصف الثلجية الكثيفة، وما ينتُج عن هذه المشاجرات من معاركَ عنيفة أو حوادث إطلاق النيران. أصبح حضور الاجتماعات في المساء غيرَ مُنتظم بصورةٍ أكبر؛ حيث كان الناس يتصلون بالهاتف في اللحظات الأخيرة ليقولوا إنهم أُصيبوا بالأنفلونزا أو إن سياراتهم لا تعمل، أما مَن كانوا يحضرون الاجتماعات فيحضرون والبلل على ملابسهم ويبدو عليهم الامتعاض. وفي بعض الأحيان — وأنا أقود سيارتي في طريقي للعودة إلى المنزل بعد هذه الاجتماعات المسائية بينما عواصف الرياح الشمالية تهز سيارتي عبر حواجز الطرق الضيقة — كنتُ أنسى للحظةٍ أين كنتُ وكانت أفكاري وقتئذٍ انعكاسًا للصمت. اقترح مارتي أن أستقطِع لنفسي وقتًا أطول بعيدًا عن أعباء الوظيفة. وكانت اهتماماته عمليةً وأوضح أنه: دون الحصول على بعض الدعم الشخصي خارج نطاق العمل يفقد المنظِّم رؤيته، وسرعان ما يتوقَّف عن العمل كما ينبغي. في الواقع كان هناك منطق صحيح فيما قاله؛ فالناس الذين قابلتُهم وأنا في هذه الوظيفة كانوا بصفةٍ عامة أكبر منِّي سنًّا بكثير، وكانت لهم اهتماماتٌ ومطالب أقامت سدودًا منيعةً بيني وبين صداقتهم. وعندما لم يكن لديَّ عمل في إجازات نهاية الأسبوع كنتُ في العادة أقضي هذه الإجازات وحيدًا في شقةٍ لا يقطنها غيري، وما من أنيس يُجالسني إلا الكتب فحسب. لم ألتفت إلى نصيحة مارتي، وربما كان ذلك بسبب أنه كلما كانت الروابط بيني وبين القيادة تزداد قوة أجدهم يُقدِّمون لي أكثرَ من مجرد الصداقة. فبعد الاجتماعات كان من الممكن أن أخرج مع أحد الرجال إلى إحدى الحانات المحلية لمشاهدة الأخبار أو الاستماع إلى الأغاني القديمة مثل أغاني فرقة «تيمبتيشن» وفرقة «أو جايز» التي كانت تُذاع من خلال جهاز فونغراف آلي يعمل بالعملة موضوع في أحد الأركان ويصدِر صوتًا رنانًا. وفي أيام الآحاد كنت أزور الكنائس لأداء الطقوس الدينية المختلفة، والسماح للسيدات بالاستهزاء بي بسبب خلطي بين العَشاء الرباني والصلاة. وفي إحدى حفلات الكريسماس في الجاردنز رقصتُ مع أنجيلا ومُنى وشيرلي أسفل كرةٍ عكست أضواءً دائرية مُتلألئة في الغرفة، وتبادلتُ الحديث عن الأخبار الرياضية مع أزواجٍ اشتركوا في الحديث على مضض ونحن نتناول فطائر جبن رديئة المذاق وشرائح اللحم، وتشاورتُ مع أبناء وبنات بخصوص طلبات التقديم إلى الجامعة، ولعبتُ مع أحفادٍ كانوا يجلسون على ركبتي. بدأتُ خلال هذه الفترات — التي أذابت فيها الألفة والإعياء الشديد الحواجزَ بين المنظِّم والقائد — فَهم ما كان يعنيه مارتي عندما أصرَّ على أن أنتقل إلى مراكز حياة الناس. إنني أتذكَّر على سبيل المثال الجلوس في مطبخ السيدة كرينشو بعد ظهر أحد الأيام وأنا أتناول الكعك المحروق الذي كانت تضغط عليَّ لتناوله في كل مرةٍ أزورها. كان الوقت قد تأخَّر، وبدأ سبب زيارتي يُصبح غامضًا، فطرأتْ على بالي فكرة أن أسألها عن سبب استمرارها في الاشتراك في جمعية الآباء والمعلِّمين مع أن أطفالها قد كبِروا منذ فترة طويلة. بدأت هذه السيدة تُخبرني بعد أن دفعتْ كرسيَّها بالقُرب من كرسيي سريعًا عن نشأتها في ولاية تينيسي، وكيف أُجبِرَتْ على أن تترك التعليم لأن عائلتها لم تستطِع تحمُّل تكاليف سوى ابنٍ واحد فقط في الجامعة، وهو أخوها الذي مات بعد ذلك في الحرب العالمية الثانية. أما هي فقضت هي وزوجها سنواتٍ من العمل في أحد المصانع — كما قالت — للتأكد من أن ابنهما لن يُضطر إلى أن يترك تعليمه على الإطلاق؛ ولذا استمر في التعليم إلى أن حصل على شهادة التخرُّج في كلية الحقوق من جامعة ييل. اعتقدتُ وقتَها أنها قصةٌ سهلة الفهْم؛ قصة عن تضحية جيل، وتبرير لمعتقدات أُسرة. إلا أنني عندما سألتُ السيدة كرينشو عما يفعل ابنها هذه الأيام، أخبرتني بأن الأطباء منذ بضع سنوات شخَّصوا حالته على أنها انفصامٌ في الشخصية، وأنه يقضي وقته الآن في قراءة الجرائد في غرفته خائفًا من ترْك المنزل. وفي أثناء تحدُّثها لم يرتعِد صوتها؛ فقد كان صوت إنسانة استخلصت من المأساة معنًى أكبر. وأتذكَّر تلك المرة التي كنت أجلس فيها في غرفةٍ في الدور السُّفلي في كنيسة سانت هيلينا مع السيدة ستيفينز في انتظار بدء أحد الاجتماعات. ولم أكن أعرف السيدة ستيفينز معرفةً وثيقة، فلم أكن أعرف سوى أنها كانت مُهتمةً بإصلاح وتحديث المستشفى المحلي. وبينما كنا نتحدَّث في الأمور العامة سألتُها عن سبب اهتمامها الشديد بتحسين الرعاية الصحية في المنطقةِ ما دامت عائلتها في حالةٍ صحية طيبة. فأخبرتني أنها أوشكت أن تفقد بصرها وهي في العشرينيات من عمرها من جراء الإصابة بالمياه البيضاء. وكانت عندئذٍ تعمل سكرتيرة، ومع أن حالتها كانت قد ازدادت سوءًا وأعلن طبيبها أنها أصبحت عمياء رسميًّا فقد أخفت مرضها عن رئيسها في العمل خوفًا من الاستغناء عنها. ويومًا بعد يوم كانت تتسلل إلى دورة المياه لتقرأ بعدسةٍ مكبِّرة المذكرات التي يطلبها منها رئيسها في العمل، وتحفظ كلَّ سطرٍ فيها عن ظهر قلبٍ قبل أن تعود لمكتبها لكتابته على الآلة الكاتبة، وتظل في المكتب لمدةٍ طويلة بعد ذهاب الآخرين لإنهاء التقارير المفترَض أن تكون جاهزة في صباح اليوم التالي. وبهذه الطريقة حفظت السيدة سرَّها لما يقرُب من عام إلى أن وفَّرت مبلغًا كافيًا من المال لإجراء عملية لعلاج عينها. وأتذكَّر أيضًا السيد مارشال، وهو رجل أعزب في أوائل الثلاثينيات من عمره يعمل سائقَ حافلة في شركة ترانزيت للنقل الجماعي. لم تكن صفات القيادة تنطبق بالضبط على مارشال — لم يكن لدَيه أطفال وكان يعيش في شقة — ولذا تعجَّبتُ من سبب اهتمامه الشديد بالإسهام بشكلٍ إيجابي في قضية تعاطي المراهقين للمخدرات. وعندما عرضتُ عليه أن أُوصله بسيارتي ذات يوم ليُحضِر سيارته التي تركها في ورشة الإصلاح، طرحتُ عليه هذا السؤال. فأخبرني عن أحلام والده بتحقيق الثروة في مدينةٍ بعيدة في أركانساس، وكيف تعثَّرت مشاريع والده التجارية، وتعرُّضه للغش على يد رجالٍ آخرين، وكيف اتجه والده إلى القمار وشُرْب الخمور وفقدانه لمنزله ولعائلته، وكيف عُثر عليه في النهاية ميتًا في حفرةٍ بعد أن تسبَّب التقيؤ الناتج عن إفراطه في الشراب في وفاته. كان هذا هو الدرس الذي تعلمته من القيادة يومًا بعد يوم، وهو أن الاهتمام الشخصي الذي كنتُ من المفترض أن أسعى إليه امتدَّ ليتجاوز أهمية القضايا، وأن الناس يحملون بداخلهم تفسيرات رئيسية لسلوكياتهم تظهر في الأحاديث المشتركة عن أمورٍ عامة وفي سَيْر حياتهم غيرِ المفصلة وفي آرائهم المختلفة. إنها قصص مليئة بالرعب والدهشة ومُرصَّعة بأحداثٍ لا تزال تسيطر عليهم أو تُلهمهم. يا لها من قصصٍ مُقدَّسة! كان هذا الإدراك — في اعتقادي — هو الذي سمح لي في النهاية بأن أُشارك مَن كنتُ أعمل معهم الكثير من ذكرياتي، وساعدني أيضًا على هدْم جدار العزلة الذي حملتُه معي عندما جئتُ إلى شيكاغو. في بادئ الأمر كنتُ مُترددًا خوفًا من أن تكون حياتي السابقة غريبة للغاية على مدارك الجانب الجنوبي، وأن تتسبَّب إلى حدٍّ ما في إفساد تقديرهم لي. على أن ما كان يحدث عندما كان الناس يستمعون إلى القصص التي كنتُ أرويها عن جَدتي أو لولو أو أُمي وأبي، أو حكاياتي عن الطائرات الورقية في جاكرتا أو الذهاب إلى الحفلات الراقصة في أكاديمية بوناهو، هو أنهم كانوا يُومِئون برءوسهم أو يهزُّون أكتافهم أو يضحكون، مُتعجِّبين من كيف يمكن أن ينتهيَ الحال بشخصٍ لدَيه خلفية مثل خلفيتي — كما قالت مُنى — بأن يُصبح «ريفيًّا للغاية»، إلا أن ما تسبَّب في قدرٍ أكبر من الحيرة لهم هو لماذا يمكن أن يختار شخصٌ بمحض إرادته قضاء فصل الشتاء في شيكاغو في الوقت الذي بوسعه الاستمتاع بدفء أشعة الشمس على شاطئ وايكيكي. وبعد أن أروي لهم حكاياتي كانوا يُلقون على مسامعي قصصًا تماثِل قصصي أو تُفنِّدها بهدف ربط خِبراتنا معًا؛ قصصًا عن الأب الغائب، وتجارب المراهقة السيئة مع الجريمة، والقلب الهائم، ولحظات السمو. وبمرور الوقت وجدتُ أن هذه القصص — إذا ما جرى النظر إليها كوحدةٍ واحدة — ساعدتني في أن أجمع شتات عالمي، وأنها منحتني المعنى الذي كنتُ أبحث عنه للمكان والهدف. كان مارتي مُحقًّا عندما قال إنه يُوجَد دائمًا مجتمعٌ إذا بحثنا عنه أكثرَ في الأعماق. لكنه كان على خطأ في توصيف العمل. وكان بالأمر نوع من الشِّعر أيضًا؛ فقد كان هناك عالَم لامع مُضيء كامنٌ تحت السطح، عالم ربما قدَّمه الناس إليَّ كهدية إذا ما طلبت ذلك. ••• وأنا لا أقصد أن كل شيءٍ تعلَّمته من القادة أسعدَ قلبي. فمع أنهم أظهروا قوَّة في الشخصية لم أتخيلها قط فإنهم أجبروني أيضًا على الاعتراف بالقوى غير المعلنة التي أعاقت مجهوداتنا، والأسرار التي أخفاها بعضنا عن بعض، بل أخفيناها عن أنفسنا أيضًا. كذلك كان الحال مع روبي مثلًا. فبعد اجتماعنا الذي باء بالفشل مع قائد الشرطة انتابني القلق من أنها قد تبتعِد عن مجال التنظيم. لكن ما حدث هو أنها ركَّزت بغير تردُّد على المشروع، وعملت بجِدٍّ لتكوين شبكة من الجيران يمكن الاستفادة منها بصفةٍ منتظمة في المناسبات التي نُنظِّمها، وابتكرت أفكارًا يمكن استخدامها في تسجيل الناخِبين أو التعاون مع أولياء أمور طلبة المدارس. باختصار، كانت روبي تمتلك جميع الصفات التي يتمنَّاها أي مُنظم؛ كانت إنسانة تتمتَّع بموهبةٍ غير مُستغلة وذكية ويُعتمَد عليها، وأعجبتها فكرة الحياة العامة، وكانت تتوق للتعلُّم. كنتُ أحبُّ ابنها كايل الصغير. كان عندئذٍ قد بلغ ١٤ عامًا، كنتُ أرى في سرعةِ تقلُّبِ هذا الفتى الشكلَ العام لكِفاحي إبَّان شبابي؛ ففي لحظةٍ ما كان يفيض بالطاقة والحيوية ويظلُّ يصطدم بي أثناء لعبنا كرةَ السلة في الحديقة العامة في المنطقة، ثم في اللحظة التالية مباشرة يُصبح ضجِرًا ومُتجهِّم الوجه. وفي بعض الأحايين كانت روبي تسألني عنه وهي في حالةٍ من الغضب عندما يصِلها تقرير من المدرسة يقول إن مستواه الدراسي مُتوسط، أو عندما يُصاب بجرح في ذقنه، كانت في حالة من الارتباك والحيرة بشأنِ عِنْدِ ولدِها وعقله الجامح. وكانت تقول لي: «قال لي في الأسبوع الماضي إنه سيُصبح أحد فناني موسيقى الراب.» والآن يقول إنه سيلتحق بأكاديمية الدفاع الجوي ليُصبح طيارًا عسكريًّا. وعندما أسأله عن السبب يقول لي ببساطة: «حتى أطير.» كما لو كنتُ حمقاء. أُقسِم لك يا باراك أنني في بعض الأحيان لا أعرف إن كنتُ أعانقه أم أُعاقبه بالضرب.» وكنتُ أقول لها: «افعلي كليهما.» قبل الكريسماس بيومٍ واحدٍ طلبتُ من روبي أن تحضُر إلى مكتبي حتى أُعطيها هديةً لكايل. وعندما دخلتِ المكتبَ كنتُ أتحدَّث في الهاتف، وعندما نظرتُ إليها بطرَفِ عيني ظننتُ أنني رأيتُ فيها شيئًا مختلفًا، لكنني لم أستطِع أن أُحدِّده. ولم أُدرك أن عينَيها — الدافئتَين البنيتَي اللون الغامقتَين اللتين كانتا مُتماشيتَين مع لون بشرتها — تحوَّلتا إلى ظلٍّ أزرق غير شفاف، كما لو أن أحدًا لصق زرَّين بلاستيكِيَّين أعلى قُزحِيَّتَي عينَيها، إلا بعدما أغلقتُ سماعة الهاتف واتجهَتْ هي نحوي. سألتني عما إذا كان هناك أمر سيئ. قلت لها: «ماذا فعلتِ بعينَيكِ؟» «آه، هذه؟» هزَّت روبي رأسها وضحكت. قالت: إنها عدسات لاصقة يا باراك. إن الشركة التي أعمل فيها تصنع عدسات التجميل اللاصقة وهم يمنحونها لي بخصم. هل تُعجبك؟» «كانت عيناك جميلتَين في الأصل.» قالت وهي تنظر لأسفل: «أرتديهما على سبيل التسلية فقط.» وتابعت: «ليس إلا للشعور بالاختلاف.» وقفتُ عند هذا الحد دون أن أعرف ماذا أقول. وفي النهاية تذكَّرتُ هدية كايل وأعطيتُها إيَّاها. وقلت: «هذا لكايل.» وتابعتُ: «إنه كتاب عن الطائرات … اعتقدتُ أنه سيُحِب قراءته.» أومأت روبي برأسها ووضعتِ الكتاب داخل حقيبتها. وقالت: «هذا لُطف منك يا باراك. إنني متأكدة من أنه سيُحِبُّ قراءته بالفعل.» بعد ذلك وقفَتْ على نحوٍ مفاجئ وهندمت جونلَّتها. وقالت وهي تُسرع تجاه الباب: «حسنًا، من الأفضل أن أذهب الآن.» فكَّرتُ في عينَي روبي سائرَ اليوم واليوم الذي تلاه. وقلتُ لنفسي إنني لم أتصرَّف بصورة ملائمة معها، وجعلتُها تشعر بالخجل من استخدام شيءٍ يجعلها تُعجَب بنفسها في حياةٍ لا تُتيح سوى القليل من هذه الأشياء. أدركتُ أنَّ جزءًا منِّي توقَّع منها ومن القادة الآخرين أن يمتلكوا نوعًا من المناعة ضد وابل الصور التي تُغذِّي الشعور بعدم الثقة لدى كل مواطنٍ أمريكي؛ مثل صور عارضات الأزياء النحيفات في مجلات الموضة، أو صور الرجال ذوي الفكوك المربَّعة في سياراتهم السريعة، تلك الصور التي كنتُ أنا شخصيًّا يمكن أن أتأثَّر بها وأسعى للحصول على الحماية منها. وعندما ذكرتُ هذا الموقف لصديقةٍ لي من ذوي البشرة السوداء وصفت المسألة على نحوٍ أكثر صراحة. قالت صديقتي بسرعة: «ما الذي أدهشك؟» وتابعت: «هل أدهشك أن السود لا يزالون يكرهون أنفسهم؟» أجبتُ عليها بالنفي وقلتُ لها إن ما شعرت به لم يكن دهشة. فمنذ اكتشافي الأول المخيف لكريمات تفتيح البشرة في مجلة «لايف» أصبحتُ معتادًا على مجموعة من مفردات الوعي باللون داخل مجتمع السود، مثل: الشَّعر الجميل أو الشَّعر الرديء، والشفاه الغليظة أو الشفاه النحيفة، وإن كنتَ من ذوي البشرة البيضاء فأنتَ من السعداء، أما إن كنتَ من ذوي البشرة السوداء فتراجع للوراء. في الجامعة كانت ميول الموضة لدى السُّود وموضوعات الاعتداد بالنفس التي تدل عليها الموضة من الموضوعات المتكرِّرة — إن لم تكن حسَّاسة — في محادثات السود، خاصةً بين الطالبات اللاتي كنَّ يبتسِمنَ بمرارة عند رؤيتهنَّ أحد الطلبة السُّود وهو دومًا يُواعد الفتيات ذوات البشرة الفاتحة، كما كنَّ يتعرَّضنَ بالنقد اللاذع لأي رجلٍ أسود كان به من الحمق ما يكفي لأن يجعله يُعلِّق على تسريحة شعر الفتيات السوداوات. كنت في الغالب أصمتُ عند التطرُّق لمثل هذه الموضوعات، وكنتُ أُقيِّم بيني وبين نفسي مدى تأثُّري بها. لكنني لاحظت أن هذه المحادثات نادرًا ما كانت تُدار بين مجموعة كبيرة من الطلاب، ولم تكن تُطرح إطلاقًا أمام أيٍّ من الطلاب البِيض. أدركتُ بعد ذلك أنه في الجامعات التي فيها الطلبة البِيض هم السواد الأعظم تكون مكانة معظم الطلاب السود ضئيلةً للغاية، وتضطرب فيها هوياتنا فنعجز عن الاعتراف لأنفسنا بأن فخرنا بلوننا الأسود لا يزال ناقصًا. وحقيقة أننا يمكن أن نعترف للبِيض باضطرابنا وبالشكوك التي تساورنا، وأن نضع ما في عقولنا تحت اختبار أولئك الذين تسبَّبوا في هذا القدْر الكبير من الأذى في المقام الأول، هذه الحقيقة في واقع الأمر مُضحكة، وتُعبِّر في ذاتها عن كراهية الذات حيث لا يُوجَد سببٌ يدعو لتوقُّع أن ينظر البِيض إلى كفاحنا على أنه مرآة لما في أرواحهم، فضلًا عن كونه دليلًا أكبرَ على سلوكيات السُّود المتطرفة. أعتقد أنه بعد ملاحظتي هذا الاختلافَ بين ما نتحدَّث عنه سرًّا وما نتحدَّث عنه علنًا تعلمتُ ألا أُفرِط في تصديق أولئك الذين يقولون إن اعتداد السود بأنفسهم هو علاجٌ لجميع مشكلاتهم مثل تعاطي المواد المخدِّرة، أو الحمل في مرحلة المراهقة، أو جريمة يكون طرفاها من السُّود. عند وصولي إلى شيكاغو، كانت عبارة الاعتداد بالنفس تتوارد على شفاهِ الجميع؛ النشطاء السياسيين والاجتماعيين، وضيوف البرامج الحوارية التليفزيونية والإذاعية، والمعلِّمين، وعلماء الاجتماع. كانت هذه العبارة جامعةً وبارعة في وصف آلامنا وأصبحت أيضًا طريقةً مقبولة للتحدُّث عن الأشياء التي كنَّا نحتفِظ بها لأنفسنا. لكن كلما حاولتُ التأكيد على فكرةِ الاعتداد بالنفس هذه والخصائص المُعينة التي كنا نأمُل ترسيخَها في الذهن والوسائل المُعينة التي ربما كنا نشعر من خلالها بالرضا عن النفس، كانت المحادثات تسلك طريقًا من التراجُع يبدو وكأنه لا نهايةَ له. وكانت الأسئلة التي تطرح نفسها هي: هل تكره نفسك بسبب لونك أم لأنك لا تستطيع القراءة أو الحصول على وظيفة؟ أو ربما بسبب أنك لم تكن محبوبًا في طفولتك لأن لون بشرتك كان شديدَ السواد؟ أو شديد البياض؟ أم لأن والدتك كانت تتعاطى الهيروين … تُرى لماذا كانت تتعاطى ذلك الشيء على أية حال؟ هل كنتَ تشعر بالحزن بسبب شَعرك المجعَّد أم لأن الشقَّة التي تقطن فيها ليست دافئةً أو مشتملة على أثاث جيد؟ أم لأنك كنتَ تتخيَّل في أعماقك أن الكون ليس له رب؟ ربما لم يستطِع أحدٌ تجنُّب هذه الأسئلة وهو يشقُّ طريقه نحو الخلاص الشخصي، وما شككتُ فيه هو أن كل هذا الحديث عن الاعتداد بالنفس يمكن أن يكون لُبَّ سياسةٍ فعالة للسُّود. يتطلَّب الاعتداد بالنفس من الناس الكثيرَ من الاعتماد الصادق على أنفسهم، فمن دون هذا الصدق يتدهور الأمر بسهولةٍ ليُصبح مجرد نصيحةٍ مبهمة. فكَّرتُ بيني وبين نفسي أن عدد السود الفقراء يمكن أن يتناقص عن طريق التحلي بالمزيد من الاعتداد بالنفس، غير أن الشكوك لم تُساورني في أن الفقر لم يؤثِّر على اعتدادنا بأنفسنا. ورأيتُ أنه من الأفضل التركيز على الأشياء التي ربما نتَّفِق عليها جميعًا. هذا مثل تعليم رجلٍ أسودَ بعضَ المهارات الملموسة ومنحه وظيفة. وتعليم طفل أسود كيفية القراءة والحساب في مدرسةٍ ذات مستوًى تعليمي مُتميز وآمنة. ورأيتُ أنه عند الاهتمام بالأساسيات يستطيع كلٌّ منا البحث عن معنى شعورنا بقيمة الذات. غيَّرَت روبي اعتقاداتي تغييرًا جذريًّا، وهدمت الجدار الذي كنتُ قد أقمتُه بين مشاعر وسلوكيات السود والسياسة، بين مواردنا المالية وأرواحنا. وفي الواقع كان هذا الموقف بعينه المثالَ الأكثر أهميةً على ما كنتُ أسمعه وأراه يوميًّا. وها هو ذا قد عبَّر عنه أحد القادة السود عندما شرح لي أنه لم يلجأ مُطلقًا لشخصٍ أسود لأداء أي نوعٍ من الأعمال (لأن ذوي البشرة السوداء يُفسِدون الأمور وسينتهي بي الحال بالدفع إلى البِيض لعمل المهمة من جديد.) كما اتضح هذا المثال من الأسباب التي أوردتها قائدة أُخرى لعدم استطاعتها حشدَ أفرادٍ آخرين في كنيستها (إن السود مُتكاسلون ولا يُريدون فعل أي شيءٍ يا باراك.) في مثل هذه الملحوظات التي أبداها القادة كانت كلمة «زنجي» تحلُّ محلَّ كلمة «أسود» في المعتاد؛ تلك الكلمة التي كان يروق لي أن أُفكِّر في أنها تُقال على سبيل الدعابة، وأن هذه الدعابة قد ميزت مرونتنا كشعب. إلى أن سمعتُها لأول مرةٍ من أمٍّ شابة استخدمتها نعتًا لطفلها لإخباره بأنه عديم القيمة، ورأيتُ جماعة من الصبية في سن المراهقة يستخدمونها لجرح مشاعر أحدهم أثناء مشاجرةٍ سريعة بالألفاظ الجارحة. وبذلك لم يكن تغيير المعنى الأصلي للكلمة كاملًا على الإطلاق؛ فقد كنا نحن أول مَن ابتُلي ببلايا هذه الكلمة مثلما حدث مع الوسائل الدفاعية الأخرى التي استخدمناها لصدِّ جرحٍ مُحتمل. إذا كانت لغة عوام الناس ومزاحهم وقصصهم أشياءَ اعتمدَت عليها العائلات والمجتمعات والاقتصاديات في بنائها، إذن فإنني لم أستطِع فصل تلك القوة عن الجرح والتشوُّهات التي استمرَّت بداخلنا. وأدركتُ أن أكثرَ ما أزعجني عندما نظرتُ إلى عينَي روبي هو تداعيات هذه الحقيقة. رأيت أن القصص التي اعتدتُ سماعها من القيادة وكل الحكايات المتواردة عن الشجاعة والتضحية والتغلُّب على الظروف الصعبة لم تحدث بسبب الطاعون أو القحط أو حتى مجرد الفقر. وإنما نبعت من تجربةٍ خاصة للغاية مع الكراهية. تلك الكراهية التي لم ترحَل عنا إطلاقًا، والتي شكَّلت قصصًا مُضادة — مدفونة في داخل أعماق كلِّ شخص — تتمحور حول البِيض الذين كانوا يَظهرون فيها أحيانًا قُساة القلوب وأحيانًا أخرى وهم يتَّصِفون بالجهل، وأحيانًا كانت هذه القصص تدور حول شخصٍ بعينه من البِيض وأحيانًا أخرى حول صورةٍ غيرِ مُحدَّدة لنظامٍ يدَّعي السيطرة على حياتنا. اضطُررتُ حينها إلى أن أسأل نفسي عما إذا كان من الممكن استعادة الروابط بين المجتمع دون أن يَطْرُد السُّود بصورة جماعية هذا الشكل المخيف الذي لازم أحلامَهم. تُرى هل كان يمكن أن تُحب روبي نفسها دون أن تكره العيون الزرقاء؟ ••• تعامل رفيق الشباز مع هذه القضايا بما يحقِّق رغباته الخاصة. ومع الوقت بدأتُ أراه بصورةٍ أكثر انتظامًا، وذات صباح بعد اجتماعٍ مع مكتب العمدة للتوظيف والتدريب بخصوص مشروع التنمية المحلية، اتصل بي وأخذ يتحدَّث سريعًا بخصوص مركز التوظيف الذي طالبنا به المدينة. قال لي رفيق: «يجب أن نتحدَّث يا باراك.» وتابع: «إن كلَّ ما تحاولون فعله بخصوص التدريب الوظيفي يحتاج إلى أن يتلاءم مع خطة التنمية الشاملة العامة التي أعمل عليها. فلا يمكن التفكير في هذا الشيء بمعزلٍ عن الأمور الأخرى … يجب أن تنظروا للصورة بأكملها. فإنكم لا تفهمون القوى الموجودة هنا. إنها هائلة يا رجل. فالجميع هنا على استعداد لطعنِك من الخلف.» «مَن هذا؟» «رفيق. ما الخطْب، ألا يزال أمامك الكثير لتقوله؟» نعم كان أمامه الكثير. طلبتُ منه أن ينتظر على الخط حتى أُحضِر لي فنجانًا من القهوة، وعندما عُدت طلبتُ منه أن يبدأ حديثه من جديد، لكن بصورةٍ أكثر بطئًا. وفي النهاية استنتجتُ أن رفيقًا كان لدَيه اهتمام بإقامة مركزٍ لخدمات مكتب العمدة للتوظيف والتدريب الذي كنا قد اقترحناه على المدينة في مبنًى مُعيَّن قريب من مكتبه في شارع ميشيجان. لكنني لم أسأل عن طبيعة هذا الاهتمام. إذ كنتُ أشكُّ في إمكانيةِ أن أحصل على إجابةٍ مباشِرة منه، وعلى أية حال تصوَّرتُ أننا ربما نستطيع الاستفادةَ منه كحليفٍ في سلسلة المفاوضات الصعبة مع السيدة ألفاريز. وفي هذا الصدد قلتُ إنه إذا كان المكتب الذي فكَّر فيه يفي بالمواصفات المطلوبة فسوف أكون مُستعدًّا لاقتراحه كأحد البدائل الممكنة. وهكذا كوَّنتُ أنا ورفيق تحالفًا غير مُستقرٍّ لم يلقَ كثيرًا من استحسان قادة مشروع التنمية المحلية. كنتُ أفهم دواعي قلقِهم، فكلما جلسنا مع رفيقٍ لمناقشة استراتيجيتنا المشتركة قاطَعَ المناقشة وألقى على أسماعنا دروسًا عن المؤامرات السرية الجارية، وعن الشعب الأسود المستعد جميعه لخيانة أهله. كانت حيلةً فعَّالة من حِيَل المفاوضات، وكلما ارتفع صوته تدريجيًّا وانتفخت أوداجه لجأت أنجيلا وويل والآخرون فجأة إلى صمتٍ غريب، وهم يشاهدون رفيقًا كما لو كان في نوبة صرع. ولأكثر من مرةٍ كنتُ أُضطر إلى الاندفاع سريعًا والصياح في وجهه، ليس بصورةٍ غاضبة بقدْر ما كنتُ أحاول أن أجعله يُقلِّل من حدة انفعاله، وفي النهاية ترتسِم ابتسامة صغيرة أسفل شاربه ونستطيع بعدها العودة إلى العمل. ومع ذلك فإنني عندما أُصبح بمفردي مع رفيقٍ كانت تدور بيننا في بعض الأحيان محادثات عادية. وبمرور الوقت انتهى بي المطاف إلى الإعجاب رغمًا عني بتصميمه وجُرأته وبإخلاصه لمفاهيمه الخاصة. أكَّد لي رفيق حقيقة أنه كان رئيسًا لإحدى العصابات وأنه تربَّى في ألتجيلد، وقال إنه اعتنق الإسلام بفضل زعيمٍ مُسلم محلي لا ينتمي إلى منظمة «أمة الإسلام» التي يرأسها الزعيم لويس فرقان. وأخبرني ذات يوم: «إن لم أعتنق الإسلام لأصبحتُ الآن في عداد الأموات.» وأضاف: «في الواقع كانت عندي اتجاهاتٌ هدَّامة. إذ تربيتُ في ألتجيلد وتجرَّعتُ كلَّ السموم التي كان البِيض يُرضعوننا إيَّاها. وكما ترى فإن مَن تعمل معهم يُعانون المشكلةَ نفسها، حتى إن لم يكونوا قد أدركوها بعد. إنهم يقضُون نصف حياتهم قلقِين مما يُفكِّر فيه البِيض. ويبدءون بتحميل أنفسهم مسئولية كل المساوئ التي يرَونها كلَّ يوم، مُعتقِدِين أنهم لن يستطيعوا تحسينَ أيِّ وضعٍ إلى أن يُقرِّر البِيض أنهم صالحون. إلا أنهم في أعماقهم يعرفون أنهم ليسوا صالحين. وهم يعرفون ماذا فعل هذا البلد في أُمهاتهم وآبائهم وأخواتهم. لذا فإن الحقيقة هي أنهم يكرهون البِيض، لكنهم لا يستطيعون الاعترافَ بذلك لأنفسهم. بل يكبحونه داخلَهم ويُحاربون أنفسهم. ويُهدرون كثيرًا من طاقتهم بهذه الطريقة.» أكمل رفيق حديثه وقال: «سأُخبرك شيئًا يُعجبني في البِيض.» وتابع كلامه: «إنهم يعرفون مَن هم. انظر مثلًا إلى الإيطاليين. إنهم لا يهتمون بالعَلَم الأمريكي أو أي شيءٍ من هذا القبيل عندما يأتون إلى هنا. وأول شيءٍ يفعلونه هو إنشاء مافيا للتأكُّد من أن مصالحهم سوف تتحقَّق. وانظر إلى الأيرلندِيِّين الذين يتولون السلطة في مجلس المدينة ويحصلون لأبنائهم على الوظائف. والأمر نفسه ينطبق على اليهود … أتريد إخباري أنهم يهتمُّون بالأطفال السود في الجانب الجنوبي من شيكاغو أكثرَ من اهتمامهم بأقاربهم في إسرائيل؟ اللعنة، إن الأمر مُتعلِّق بقرابة الدم يا باراك. وكلٌّ يعتني بمن هو منه. قُضي الأمر. ويمكنني أن أقول لك إن السود هم بمفردهم مَن يتَّصِفون بذلك القدْر من الحمق الذي يجعلهم يهتمُّون بأمر أعدائهم.» كانت تلك هي الحقيقة كما رآها رفيق؛ الحقيقة التي لم يهدِر طاقته في انتقادها وتفنيدها. كان رفيق يعيش في عالمٍ يُشبه عالم الفيلسوف توماس هوبز، وفي هذا العالم كان الشك حقيقةً مُسلَّمًا بها، وكان الولاء يبدأ من الأسرة ويمتدُّ إلى المسجد ثم إلى العِرق الأسود … ونتيجة لذلك لم يَعُد من الممكن تطبيق مفهوم الولاء. قدَّمت هذه النظرة المحدودة لرابطة الدم والقبيلة لرفيق وسيلةً لتركيز اهتمامه. وكان يُجادل بقوله إن احترام الذات لدى السود هو الذي منح العمدة منصبه حيث إن احترام الذات لديهم غيَّر حياةَ مُدمِني المخدِّرات في ظل تعاليم المسلمين. وكان التقدُّم في حوزتنا ما دُمنا لا نخون أنفسنا. لكن ما الذي أدَّى إلى الخيانة بالضبط؟ منذ أن تعرَّفتُ على السيرة الذاتية لمالكولم إكس حاولتُ أن أفكَّ لُغز القومية السوداء، وجادلتُ بأن الرسالة الإيجابية للقومية — عن التضامن والاعتماد على النفس والنظام والمسئولية المشتركة — ليست في حاجةٍ إلى أن تكون مُعتمِدة على كراهية البِيض أكثرَ من اعتمادها على سماحتهم. وكنتُ أُحدِّث نفسي وأحدِّث أصدقائي السود بأننا بوسعِنا أن نُخبر هذا البلد عن مواطن الأخطاء، وكان هؤلاء الأصدقاء يستمعون إليَّ دون التوقُّف عن الإيمان بقدرة البلد على التغيُّر. في تحدُّثي مع القومِيِّين المجاهرين بهويتهم القومية — من أمثال رفيق — اكتشفتُ كيف لعب الاتهام العام لكلِّ ما هو أبيض دورًا رئيسيًّا في رسالتهم عن الشعور بالأمل، وفي الطريقة التي أصبح يعتمِد فيها كل طرفٍ على الآخر على الأقل نفسيًّا. ذلك لأنه عندما يتحدَّث القومي عن إحياء القِيَم باعتباره الحلَّ الوحيد للتغلُّب على فقر السود، فإنه كان ينتقِد الجمهور الأسود من المستمِعين إليه نقدًا ضمنيًّا — إن لم يكن نقدًا صريحًا — بحجة أننا لسنا مُضطرِّين لأن نحيا بالطريقة التي حيينا بها. وما دام هناك أشخاصٌ استطاعوا استيعاب هذه الرسالة البسيطة واستخدامها لخلق حياةٍ جديدة لأنفسهم — هؤلاء الأشخاص الذين كانت لدَيهم الميول ذات المشاعر المتبلِّدة التي طالب بها «بوكر تاليافيرو واشنطن» أتباعَه ذات مرة — فإن هذا الحديث بدا في آذان العديد من السود وكأنه يُذكِّرهم بالتفسيرات التي دومًا ما كان يُقدِّمها البِيض كأسبابٍ لفقر السود؛ التفسيرات التي استمررنا نعاني بسببها، إن لم يكن من الشعور الموروث بالدونية، فإنه من الضَّعف الثقافي بعد ذلك. كانت رسالة تجاهَلَت السببية والأخطاء، رسالة خارج حدود التاريخ وتخلو من السيناريو أو الحبكة التي ربما تُصرُّ على تسلسل الأحداث. وفيما يتعلَّق بأناسٍ جُرِّدوا من تاريخهم ولا يملكون ما يؤهلهم لاستعادة هذا التاريخ بأي شكلٍ من أشكاله — بخلاف الشكل الذي يُرفرف على شاشات التليفزيون — فإن الدليل على ما كنا نراه يوميًّا كان يؤكد أسوأ شكوكنا في أنفسنا. قدَّمت القومية هذا التاريخ في صورةِ قصةٍ أخلاقية واضحة كان من السهل تناقُلها وفهْمها. وكان الهجوم المعتاد على العِرق الأبيض والسرد المستمر للتجربة القاسية التي تعرَّض لها السود في هذا البلد هو عصا التوازُن التي استطاعت منْعَ أفكار المسئولية الشخصية والجماعية من إلقاء نفسها في بحرٍ من اليأس والإحباط. نعم، كان القوميون يقولون إن حالة السود المُزرية لم تحدث بسبب عيبٍ مُتأصِّل فيهم كسُود، بل تَسبَّب فيها البِيض. وفي الواقع فإن البِيض ليس لدَيهم مشاعر، بل مخادعون أيضًا لدرجةٍ تجعلنا لم نَعُد نتوقع أيَّ شيءٍ منهم. فشعورك بكراهيتك لذاتك — الذي يدفعك إلى الإفراط في شُرب الخمر أو إلى السرقة — غُرِس بداخلك على أيديهم. لذا اطردهم بعيدًا عن تفكيرك، وحرِّر قواك الحقيقية. أو كما تقول الأغنية: «انهض أيها العِرق الجبار.» ساعدت عملية الاستبدال هذه — أي الاشتراك في انتقاد الذات في الوقت الذي نُبعِد فيه أنفسنا عن موضوع الانتقاد — في تفسير النجاح الباهر لمنظمة أُمة الإسلام في تغيير حياة مُدمِني المخدرات والمجرمين. على أنه إذا كانت قد تناسبت بصفةٍ خاصة مع هؤلاء الذين يعيشون في قاع المجتمع الأمريكي، فإنها خاطبت أيضًا جميع الشكوك المستمرة لذلك المحامي الذي سعى بكلِّ ما أوتي من قوة لتحقيق النجاح الباهر في حين كان يتعرَّض لصمت الناس جميعًا عند دخوله أماكنَ الاجتماعات، وطلاب الجامعة من الشباب الذين كانوا يُقدِّرون بحذرٍ المسافة بين أنفسهم وبين الحياة في شوارع شيكاغو المتدنِّية وهم يشعرون بالخطر الذي توحي به هذه المسافة، وجميع الأفراد السود الذين اتضح أنهم شاركوني صوتًا كان يهمس بداخلهم قائلًا لهم: «إنكم لا تنتمون إلى هذا المكان.» إلى حدٍّ ما، كان رفيق مُحقًّا عندما أصرَّ على أن جميع السود كانوا في أعماقهم قومِيين. هذا في حين كان الغضب موجودًا باستمرار، بداخلهم، مُتراكمًا في أعماقهم. وعندما فكَّرتُ في روبي وعينَيها الزرقاوَين، وفي الصِّبية وهم ينادون بعضهم بعضًا بالزنجي وما هو أسوأ، تساءلتُ عما إذا كان رفيق — الآن على الأقل — مخطئًا في تفضيلِ إعادة توجيه هذا الغضب؛ أي هل كانت سياسة السود التي منعت الغضب من البِيض بصفةٍ عامة — أو فشلت في السمو بالولاء للعِرق عن كافة مستويات الولاء الأخرى — سياسةً غير ملائمة للمهمة. كان من المؤلِم وضْع هذه الفكرة في الحسبان؛ ألمٌ لم يختلف الآن عما كان قبل سنوات طويلة. فقد تناقضَتْ مع الأخلاقيات التي علَّمَتْني إياها والدتي؛ أخلاقيات الفوارق الدقيقة بين أصحاب النية الحسنة والذين يرجون إلحاق الضرر بي، بين سوء النية والجهل أو اللامبالاة. لقد كانت لي مساهمة شخصية في هذا الإطار الأخلاقي حيث اكتشفت أنني لن أستطيع الهروب منه مهما حاولت. ومع ذلك فربما كان هذا الإطار الأخلاقي هو الإطار الذي لم يَعُد السود في هذا البلد قادرِين على احتماله، وربما يكون قد أضعف عزيمتهم وتسبَّب في إحداث الاضطراب بين الطبقات. واستدعت الأوقات العصيبة وجود إجراءات عصيبة مثلها، ورأى كثيرون من السود أن الأوقات كانت عصيبةً بصفةٍ دائمة. ربما لو كانت القومية قد استطاعت أن تخلق حالةً فعَّالة وقوية من التقوقُع، والوفاء بوعدِها باحترام الذات، لقلَّت أهميةُ الجرح الذي أصاب حَسَني النية من البِيض أو الاضطراب الداخلي الذي سبَّبَتْه لأفرادٍ مثلي. ••• هذا لو كانت القومية استطاعت. أصبح من الواضح أن القضايا المتعلقة بالكفاءة، وليس العواطف، سبَّبت معظم خلافاتي مع رفيق، وذات مرة — بعد انقضاء اجتماعٍ شائك للغاية مع مكتب العمدة للتدريب والتوظيف — طلبتُ منه إن كان في مقدوره حشدُ أتباعه إذا كان من الضروري أن تكون هناك مواجهة حاسمة بين العامة من جهة ومجلس المدينة من جهة أخرى. قال رفيق: «ليس لديَّ وقتٌ حتى أتَّجه إلى أماكنَ عديدة لتوزيع النشرات محاولًا شرح كل شيءٍ للعامة.» وتابع قائلًا: «معظم الأفراد هنا لا يهتمون بالأمر بطريقةٍ أو بأخرى. ومن يهتمُّ منهم بالأمر زنجيٌّ خائن سيحاول إفساد الأمور. والمهم الآن هو أن نجعل خطتنا محكمة للغاية ونحصل على موافقة مجلس المدينة. تلك هي طريقة تنفيذ الأعمال. وبعد ذلك يمكنك إعلانها بأية طريقة تُفضِّل.» اختلف أسلوبي مع أسلوب رفيق؛ فمع كل هذا الحبِّ الذي كان يُعلن أنه يُكنُّه للسُّود، بدا وكأنه لا يثِقُ بهم كثيرًا. لكنني عرفتُ أيضًا أن أسلوبه كان ناتجًا عن عدم قدرة لأنني اكتشفتُ أن مؤسسته وكذلك المسجد التابع له لم يستطيعا الحصولَ على عضويةِ أكثر من ٥٠ شخصًا. ولم ينبع تأثيره من أي دعمٍ مؤسَّسي قوي، لكن من استعداده لحضور أي اجتماعٍ يمُتُّ بِصِلة — ولو من بعيد — لروزلاند ومن دحض آراء معارضيه فيها. إن ما كان رفيق يعتبره صحيحًا كانت المدينة كلُّها تعتبره كذلك، ودون التأثير المركَّز لحملة هارولد، انحلت القومية إلى أن أصبحت موقفًا أكثرَ منها برنامجًا ماديًّا، مجموعة من المظالم وليست قوة مُنظمة، وصورًا وأصواتًا ملأت وسائل الإعلام ولكنها خلَت من أي وجودٍ مادي. ومن بين المنظمات القليلة الهادفة إلى رفع الراية القومية، لم يكن لأية منظمةٍ عددٌ كبير من الأنصار والأتباع سوى منظمة أمة الإسلام؛ فقد كانت خُطَب الزعيم فرقان التي كان يرفع فيها صوته ويخفضه على نحوٍ إيقاعي يحضرها جمهور كبير، وكان هناك أيضًا عددٌ كبير يستمِعُ إلى برامجه الإذاعية. لكنَّ العضوية النشطة في المنظمة بشيكاغو كانت أصغرَ من ذلك بكثير — إذ بلغت بضعةَ آلافٍ وربما بلغت قرابة عدد جماعة المصلِّين في إحدى أكبر أبرشيات السُّود في شيكاغو — وكانت قاعدة هذه المنظمة نادرًا ما تُشجِّع على المناقشة السياسية أو تدعم البرامج الواسعة النطاق. وفي الحقيقة فإن الوجود الملموس للمنظمة في الأحياء كان وجودًا اسميًّا فقط، ومُقتصرًا بصفةٍ أساسية على الأفراد الحَسَني المظهر الذين يرتدون الحُلل وأربطة العنق ويقِفون في تقاطُعات الطرق العامة الرئيسية لبيع جريدة الأمة التي حملت اسم «ذا فاينال كول». كنت بين الحين والآخر أشتري الجريدة من هؤلاء الرجال المهذَّبين دائمًا. وكان سبب شرائي لها أحيانًا هو شفقَتي عليهم بسبب ارتدائهم حُللًا ثقيلةً في الصيف ومعاطف خفيفةً في الشتاء، أو بسبب أن عناوينها شديدة الإيجاز على غرار صحف «التابلويد» كانت تلفتُ انتباهي (مثل: سيدة قوقازية تعترف: البِيض أبالسة.) وعلى الصفحة الأولى كنتُ أجد إعادة نشْر خُطَب الزعيم، بالإضافة إلى أخبارٍ مُقتطفة مباشرةً من وكالة «أسوشيتد برس» ما لم يكن مقصودًا بها أغراض تحريرية تجميلية (مثل: أعلن السناتور اليهودي ميتزنبوم اليوم …). واحتوت الجريدة أيضًا على بابٍ للصحة، مُشتملًا على وصفات أطعمةٍ قدَّمَها الزعيم فرقان خالية من لحم الخنزير، وإعلانات عن شرائط فيديو مُسجَّل عليها خُطَب الزعيم (وكان يمكن شراؤها باستخدام بطاقات الفيزا أو الماستركارد)، علاوةً على بعض الإعلانات عن مُستلزمات النظافة والزينة — مثل معجون الأسنان وما شابه ذلك — التي طرحَتْها المنظمة تحت العلامة التجارية «باور» كجزءٍ من استراتيجيةٍ لتشجيع السود على إنفاق أموالهم داخل نطاق مُجتمعهم. بعد فترةٍ من الوقت أصبحت الإعلانات المروِّجة لمنتجات «باور» أقلَّ ظهورًا في جريدة «ذا فاينال كول»، وبدا أن العديد ممن كانوا يستمتِعون بخُطَب الزعيم فرقان استمروا في تنظيف أسنانهم ولكن بمعجون كريست. بالإضافة إلى ذلك نشرت حملة «باور» أخبارًا عن الصعوبة التي تُواجهها أيةُ شركةٍ سوداء؛ مثل الحواجز التي تعوق الدخول إلى السوق، ونقص التمويل، وتَقدُّم المنافسين عليها بعدما أخرجوها من نطاق المنافسة منذ أكثر من ٣٠٠ عام. على أنني ظننتُ أنها قد عكست أيضًا الاضطراب الحتمي الذي نشأ عندما اختُزلت رسالة الزعيم فرقان إلى الحقائق الدنيوية المتعلقة بشراء معجون أسنان. وحاولتُ أن أتخيَّل مدير إنتاج «باور» وهو يستعرض توقُّعات مبيعاته. ورأيتُ أنه ربما تساءل لوهلةٍ إن كان هناك معنًى لتوزيع هذه المنتجات على سلاسل محلات السوبر ماركت القومية حيثما يُفضِّل السود الشراء أم لا. وإذا كان قد رفض هذه الفكرة، فربما كان سيضع في حسبانه ما إذا كان سيستطيع أي سوبر ماركت يملكه السود — في محاولاته للتنافُس مع السلاسل القومية — توفير مساحةٍ على أرفُفه لمنتجٍ كان هدفه استبعاد الزبائن البِيض. وهل كان الزبائن السود سيشترون معجون أسنان بالبريد؟ وماذا عن احتمالية كون المورِّد الأرخص لأية مادة من المواد التي تدخل في تصنيع معجون الأسنان من البِيض؟ كانت القضايا المتعلقة بالمنافسة والقرارات التي فرضها اقتصاد السوق وقاعدة الأغلبية موضوعاتٍ جميعها متعلقة بالسلطة. وكانت تلك الحقيقة القاسية — المتمثلة في أن البِيض لم يكونوا أشباحًا من السهل طردُهم من أحلامنا، لكنهم كانوا موجودين في حياتنا اليومية باعتبارهم حقيقةً نشطة ومُتغيرة — هي التي شرحت لنا أخيرًا كيف يمكن أن تزدهِر القومية كعاطفةٍ وأن تتعثَّر في خطواتها كبرنامج. وما دامت القومية بقِيَت كلعنةٍ تطهيرية على العِرق الأبيض فيُمكنها إذن أن تحظى بتصفيق المراهقين العاطلين عن العمل المنصتين إلى الراديو أو رجال الأعمال المشاهِدين للبرامج التليفزيونية التي تُعرَض في وقتٍ مُتأخِّر من الليل. لكنَّ التدنِّي من مثل هذه الحماسة الموحدة إلى الخيارات العملية التي واجهها السود كلَّ يوم كان انحدارًا شديدًا للغاية. حيث انتشرت الحلول الوسط انتشارًا واسعًا، وتساءل المحاسِبون السود عن أشياءَ مثل: كيف سأفتح حسابًا في البنك الذي يملكه السود إذا كان سيُكلفني مبالغَ إضافية عند الإيداع ولن يُعطيني حتى قرضًا تجاريًّا لأنه لا يستطيع تحمُّل المخاطرة؟ كما ذكرت إحدى الممرضات السوداوات أيضًا قائلةً: «البِيض الذين أعمل معهم ليسوا شديدي السوء، لكن حتى إن كانوا كذلك لا أستطيع أن أترك وظيفتي؛ مَن ذا الذي سيدفع إيجار شقتي غدًا أو يُطعِم أطفالي اليوم؟» لم يكن لدى رفيق أية إجابات جاهزة عن هذه الأسئلة؛ فقد كان مُهتمًّا بتغيير قواعد السلطة بصورةٍ أقل من اهتمامه بلَون مُتولِّيها الذين يستمتِعون بنعيمها. لم يكن هناك قطُّ مكانٌ على قِمة الهرم، ومع ذلك ففي أي سجالٍ يُشكل في هذا الإطار كان يُنتظَر وقت طويل إلى أن يفيد السود بأي آراء علنًا. وفي أثناء هذا الانتظار كانت تحدث أشياء مُضحكة. فما كان يبدو في يد مالكولم إعلانًا للحرب — وهو الإعلان بأننا لم نَعُد نستطيع تحمُّل ما لا يمكن تحمُّله — كان في الأصل شيئًا سعى مالكولم للتخلُّص منه؛ كان عنصرًا آخر من العناصر المثرية للخيال، وقناعًا آخر للنفاق، وعُذرًا آخر للكسَل وللتراخي. اكتشف سياسيون سود أقلُّ موهبةً من هارولد ما عرفه السياسيون البِيض منذ وقتٍ طويل الذي يتمثَّل في أن الحملات المعادية للعِرق يمكن أن تخلق مجموعة كبيرة من القيود. أما القادة الأصغر في السن الذين يتوقون لصُنْع اسمٍ لأنفسهم فقد دخلوا بكل ثِقَلهم وهم ينشرون نظريات التآمُر في جميع أنحاء المدينة؛ فقالوا إن الكوريين يموِّلون منظمة كلو كلوكس كلان، وإن الأطباء اليهود يَحقنون الرُّضَّع السود بفيروس الإيدز. وبذلك كانت هذه الأمور طريقًا مختصرًا لتحقيق الشهرة، إن لم يكن المال دائمًا. كان غضب السُّود يجد دائمًا سوقًا رائجة مِثله مثل الجنس أو العنف على شاشة التليفزيون. لم يبدُ أن أي شخصٍ تحدَّثتُ معه في الحي قد حمل هذا الحديث على محمَل الجِد. وكما كان الحال فقد كفَّ الكثيرون بالفعل عن الأمل في أن السياسة بإمكانها تحويل حياتهم إلى الأفضل، وفرض مطالب أقلَّ عليهم، وفيما يتعلق بهم فقد كانت ورقة الاقتراع — إذا ما اشتركوا في التصويت من الأساس — تذكرةً لمشاهدة عرضٍ جميل. وقال لي البعض إنه لم يكن لدى السُّود أية سلطة حقيقية للتأثير في الحوادث العارضة المتعلقة بمعاداة السامية أو انتهاك حقوق العمَّال الآسيويين، وعلى أية حال كان السود في حاجةٍ إلى فرصةٍ للتنفيس عن غضبهم بين الفَينة والفينة، وكنا نقول بعضنا لبعض: تُرى ماذا يقول في اعتقادك هؤلاء الناس عنا من وراء ظهورنا؟ مجرد كلام. لكن ما أثار قلقي بالفعل لم يكن الضرر الذي ألحقَه الهراء بالمجهودات المبذولة في مبنى الاتحاد أو الألم النفسي الذي سبَّبه للآخرين. بل كان المسافة بين كلامِنا وأفعالنا، والتأثير الذي كنا نشعُر به كأفرادٍ وجماعات. وهذه الفجوة أفسدت كلًّا من اللغة والتفكير، وجعلتنا مُهمِلين وشجَّعتنا على أن نحيد عن الحقيقة، وفي النهاية قتلت قُدرتَنا على تحميل أنفسنا المسئولية من ناحيةٍ وتحميل بعضنا بعضًا إيَّاها من ناحية أخرى. وبينما لم يُعتبر أيٌّ من هذه الأمور جديدًا على السياسيين أو القوميين السود — حيث استطاع رونالد ريجان التعامُل مع الأمور بصورةٍ جيدة باستخدام مهارته في اللعب بالألفاظ، وبدت الطبقة البيضاء من الشعب الأمريكي مُستعدةً لإنفاق أموالٍ كثيرة على الأراضي في الضواحي وقوات الأمن الخاصة لإنكار وجود صِلة دائمة بين البِيض والسود — كان السود هم الذين قدَّموا هذا التصوُّر. إن بقاء السود في هذا البلد كان مُعتمدًا بصفةٍ دائمة على أقل قدْرٍ من الأوهام، وكان غياب هذه الأوهام هو الذي استمرَّ في الحياة اليومية لمعظم مَن قابلتُهم من السود. وبدلًا مِن تبنِّي مثل هذه الأمانة الثابتة في أعمالنا العامة فإننا بدَونا وكأننا نفقِد سيطرتَنا على الأمور وندَع أرواحنا الجماعية تُحلِّق أينما يحلو لها حتى ولو انغمَسْنا في يأسٍ جديد. ألم يكن الاعتداد بالنفس مُعتمدًا فقط على الكفاح المستمرِّ للموازنة بين الكلمات والأفعال، والرغبات الصادقة وخُطط العمل القابلة للتطبيق؟ كان هذا الاعتقاد هو الذي قادني إلى العمل في مجال التنظيم، وهو أيضًا الذي أرشدَني إلى التوصُّل — ربما للمرة الأخيرة — إلى أنَّ مفاهيم نقاء العِرق والثقافة لم تكن ستستطيع الاستمرار بكونها الأساس للاعتداد بالنفس النموذجي للأمريكيين السُّود أكثر مما كانت لي. وكان إحساسُنا بالوحدة ينشأ من شيءٍ أكثر نقاءً من السلالات التي ورثناها، وكان له جذور في قصص السيدة كرينشو والسيد مارشال وروبي ورفيق … في كل التفاصيل المشوشة المتناقضة لخبراتنا. ••• ابتعدت عن العمل لمدة أسبوعين لزيارة عائلتي. وعندما عُدت اتصلتُ بروبي وأخبرتُها بأنني كنتُ في حاجةٍ إليها لحضور اجتماعٍ في مساء يوم السبت. صمت طويل. ثم قالت: «بخصوص ماذا هذا الاجتماع؟» «سترين. لكن استعدِّي في السادسة مساءً … سنتناول الطعام في البداية.» كان مكان الاجتماع يبعُد بساعةٍ كاملة عن شقة روبي، حيث كان في حيٍّ من أحياء الجانب الشمالي حيثما هاجَر المغنُّون وراقصو الجاز سعيًا وراء جمهورٍ يدفع لهم المال. وجدنا مطعمًا فيتناميًّا طلبنا فيه طبق نودلز وجمبري وتحدَّثنا في أثناء تناول الطعام عن رئيسها في العمل، وعن المضاعفات التي كانت تُعانيها بسبب آلام ظهرها. بدت المحادثة مُتكلفة، مع أننا لم تمرَّ علينا لحظات صمتٍ أو تفكير، وفي أثناء حديثنا كنا نتجنَّب نظرات كلٍّ منا للآخر. بعدما دفعنا الحساب ومَشينا إلى مبنى المسرح كان المسرح قد امتلأ بالفعل عن آخره. أرشدَنا أحد العامِلين في المسرح إلى مقاعدنا التي اتضح لنا أنها تقع أمام مقاعد مجموعةٍ من الفتيات السوداوات اللاتي كنَّ في رحلةٍ ميدانية. كان بعض الفتيات يتصفحنَ بحرصٍ شديد الكُتيبات التي كانت معهنَّ ويحذون حذو سيدةٍ معهنَّ أكبر في السن — اعتقدتُ أنها المدرسة — كانت تجلس بجانبهنَّ. وكان معظمهنَّ يشعر بعدم الراحة بسبب الجلوس لفترةٍ طويلة، حيث كنَّ يهمسنَ ويستهزئنَ باسم المسرحية الطويل، نتوزيك شانج، ويسألنَ أسئلة عن المدرِّسة المصاحبة التي كانت صبورةً على نحوٍ مُثير للإعجاب طوال الوقت. على حين غِرَّة عمَّ الظلام المسرحَ وصمتت الفتيات. وبعدَها أُنيرت الأضواء، وكان ضوءًا أزرقَ باهتَ اللون، وظهرت سبع سيدات سوداوات على خشبة المسرح يرتدينَ جونلَّات وأوشحة فضفاضة، وكنَّ يؤدِّين حركاتٍ التوائية غريبة للإيحاء بشعورهنَّ بالبرد القارس. صرخت إحداهنَّ وكانت ضخمةَ الجثة مُرتديةً ثوبًا بُنيَّ اللون قائلةً: بينما كانت تتحدَّث تقدَّمت ببطءٍ السيدات الأُخريات اللاتي شكَّلنَ جوقةً من مختلف الظلال والأشكال — منهنَّ البُنية اللون المائلة للحُمرة والبيضاء المائلة للصُّفرة بفعل كريم التفتيح، منهنَّ الممتلئة الجسم والنحيفة، منهن الصغيرة السن والأخرى الأكبر منها سِنًّا — ومددنَ أذرعهنَّ عبر المسرح وقلن: على مدار الساعة التالية تبادلت السيداتُ الأدوارَ في رواية قصصهنَّ وإنشاد أغانيهنَّ. غنَّينَ عن الزمن الضائع والأحلام المهملة وما حدث لهنَّ في الماضي. وقصصنَ غنائيًّا حكاياتهنَّ مع الرجال الذين أحببنَهم لكنهم خانوهنَّ واغتصبوهنَّ، وحكاياتهنَّ عن الألم الدفين في أعماق هؤلاء الرجال؛ الألم الذي كان مفهومًا في بعض الأحيان ومصفوحًا عنه في أحايين أخرى. وعرضَتْ كلٌّ منهنَّ على الأخرى العلامات الجلدية في أجسادهن والنتوءات العظمية في أقدامهن، وكشفت هؤلاء السيدات عن جمالهنَّ بتأرجُح طبقات أصواتهنَّ وارتعاد أيديهنَّ، إنه جمال مخادع يزيد وينقُص. وبعد ذلك ندبنَ أطفالهنَّ المجهَضين والآخرين المقتولين والضائعين منهنَّ. وفي أثناء تقديم الأغاني في مراحلها المختلفة — العنيفة والغاضبة والرقيقة والحازمة — رقصت كلُّ واحدةٍ منهن رقصة الرومبا ورقصة الفالس المنفردة ورقصنَ وهن يقفزنَ على الحبل، واصطدمنَ بعضهنَّ ببعضٍ في رقصاتٍ ينفطر لها القلب. واستمررنَ في الرقص إلى أن اندمجت أرواحهنَّ وأصبحنَ شخصًا واحدًا. وفي نهاية المسرحية أنشدت هذه الروح بيتًا شعريًّا واحدًا: أضيئت الأنوار وانحنت الجوقة لتحية الجمهور، وهلَّلت الفتيات تهليلًا عظيمًا تشجيعًا لهنَّ. وفي النهاية ساعدتُ روبي في ارتداء معطفها وخرجْنا معًا إلى ساحة انتظار السيارات. كانت درجة الحرارة قد انخفضت عما كانت عليه، وأومضتِ النجوم كقِطَع الثلج في صفحة السماء السوداء. وفي أثناء انتظارنا في السيارة حتى تصِل إلى درجة حرارة التشغيل، مالت روبي نحوي وقبَّلتني على وجنتي. وقالت لي: «شكرًا لك.» في ذلك الحين كانت عيناها — البُنِّيتان الغامقتان — مُتلألئتَين. أخذتُ بيدِها المخبَّأة داخل قفاز بسبب البرد وشددتُ عليها سريعًا قبل أن أبدأ القيادة. ولم تُنطَق كلمة أخرى بعدَها، ومنذ بداية رحلة عودتنا إلى الجانب الجنوبي إلى أن أوصلتُها حتى باب منزلها وتمنيتُ لها أحلامًا سعيدة، لم نكسِر حاجز الصمت النفيس.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/11/
الفصل الحادي عشر
وصلتُ إلى موقف سيارات المطار في الثالثة و١٥ دقيقة واتجهتُ إلى صالة الوصول سريعًا قدرَ استطاعتي. طُفتُ سريعًا حول المكان مراتٍ عديدة وأنا ألهث من كثرة الطواف، وكانت عيناي تُنعم النظر في الحشود المتزاحمة من الهنود والألمان والبولنديين والتايلنديين والتشيكيين الذين يحملون حقائبهم. اللعنة! أعرف أنه كان يجب أن أصل في وقتٍ مُبكِّر عن ذلك. ربما تكون قد قلقت وحاولت الاتصال بي. لكن تُرى هل أعطيتُها رقم هاتف مكتبي؟ وماذا لو فاتتها رحلتها الجوية؟ وماذا إذا كانت قد مشَتْ بجانبي ولم أعرِفها؟ نظرتُ إلى الصورة التي بيدي والتي أرسلَتْها لي منذ شهرَين، كانت قد اتَّسخت من كثرة إمساكي بها. وبعدها نظرتُ لأعلى فوجدتُ الصورةَ أمام عيني وقد أصبحت تنبض بالحياة؛ سيدة أفريقية ظهرت لي من خلف بوابة الجمارك تمشي بخطواتٍ رشيقة وهادئة، وها قد تحوَّلت عيناها اللامعتان الهائمتان لتنظُر في عينيَّ مباشرة، وعندما ارتسمت على وجهها ابتسامة أصبح وجهها الأسمر المستدير الذي يبدو مُتفتحًا مثل زهرة الوود روز وكأنما نحتته يدُ فنان. «باراك؟» «أوما؟» «يا إلهي …» عانقتُ أختي ورفعتها عن الأرض وضحكنا وكِلانا ينظر إلى الآخر، وحملتُ حقيبتها وبدأنا نمشي معًا إلى ساحة انتظار السيارات. علَّقتْ ذراعَها في ذراعي بخفةٍ شديدة. وفي هذه اللحظة أدركتُ أنَّني أُحبها حبًّا جمًّا بصورةٍ غريزية، لكنني بعدما رحلَتْ وجدتُ نفسي متشككًا في حبي لها محاولًا تفسيره لنفسي؛ وحتى هذه اللحظة لا أستطيع تفسيره، ولا أعرف إلا أن حبي لها كان صادقًا ولا يزال كذلك وأنني ممتنٌّ بشدة لهذا الحب. قالت أوما ونحن في طريقنا إلى المدينة: «إذن أخي لا بد أن تحكي لي كلَّ شيء.» «بخصوص ماذا؟» «كل شيء عن حياتك دون شك.» «من البداية؟» «من أية نقطةٍ تريد.» أخبرتُها عن شيكاغو ونيويورك، وعن عملي كمُنظم، وعن أُمي وجَديَّ ومايا، وقالت لي إنها سمعت الكثير عنهم من أبي وتشعر أنها تعرفهم بالفعل. وصفَتْ لي أوما مدينة هيدلبيرج حيث كانت تدرس للحصول على شهادة الماجستير في علم اللغة، وروت لي تجربةَ العيش في ألمانيا والمحن التي واجهَتْها هناك. وقالت لي: «أعتقد أنه ليس لديَّ حقٌّ في الشكوى.» وتابعت قائلة: «أنا حاصلة على منحةٍ دراسية وعندي شقة. ولا أعرف في الواقع ماذا كنتُ سأفعل إذا كنتُ ما زلت في كينيا. وحتى الآن أعتقد أنني لستُ مهتمةً كثيرًا بالحياة في ألمانيا. فأنت تعلم أن الألمان يُفضِّلون التفكيرَ في أنفسهم على أنهم مُتحرِّرون للغاية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأفارقة، لكن إذا ما تطرقتَ إلى هذه المسألة حتى ولو من بعيدٍ فستجد أنهم لا يزالون يحملون بعضَ أفكار ومواقف طفولتهم. ففي الحكايات الخيالية الألمانية التي تُروى للأطفال كانت العفاريت دومًا من ذوي البشرة السوداء. وأشياءُ كهذه ليس من السهولة بمكانٍ نسيانها. وفي بعض الأحيان كنتُ أحاول أن أتخيَّل شعور الرجل العجوز عندما غادر وطنه للمرة الأولى. وهل شعر بالوحدة نفسها التي …» الرجل العجوز! هذا هو ما أطلقَتْه أوما على أبينا. بدت لي على الفور — إلى حدٍّ ما — مألوفة وبعيدة؛ قوة جوهرية لم أفهمها فهمًا كاملًا. اكتشفَتْ أوما في شقتي أنه تُوجَد على رفِّ مكتبتي صورة له احتفظَتْ بها أُمي. «يبدو بريء الوجه أليس كذلك؟ وشابًّا أيضًا.» هكذا قالت أوما وهي تُمسك بالصورة بالقرب من وجهي. وتابعت: «إن فمك يُشبه فمه.» أخبرتها أنه من الأفضل أن تستريح قليلًا في الفراش، وأذهب أنا إلى مكتبي لبضع ساعات لأُنجز بعض الأعمال. هزَّت رأسها. وقالت: «لستُ متعبة. دعني أذهب معك.» «ستشعرين بتحسُّن لو أخذتِ سِنةً من النوم.» ردت عليَّ قائلةً: «أوه يا باراك! أرى أنك مُتسلط مثل الرجل العجوز أيضًا. لم تقابله سوى مرةٍ واحدة فقط؟ يبدو أنها صفة تجري في العروق.» ضحكتُ إلا أنها لم تضحك، بل جالت بناظرَيها في وجهي كما لو كانت أمام لغزٍ تحاول حله، وشعرتُ أنها تواجه مشكلةً تُنغِّص عليها حياتها بالرغم من ثرثرتها المرحة المفعمة بالحيوية. طُفت بها في جولةٍ بالجانب الجنوبي بعد ظهر هذا اليوم، هي الجولة نفسها التي قمتُ بها في أيامي الأولى في شيكاغو، والتي لم يتبقَّ لي منها سوى بعض الذكريات. عندما وصلنا إلى مكتبي تصادف وجود أنجيلا ومُنى وشيرلي هناك. وأخذنَ يسألنَ أوما عن كل شيءٍ في كينيا وعن كيفية تضفير شعرها وتحدُّثها بلباقةٍ تامة كملكة إنجلترا، واستمتعت السيدات الأربع كثيرًا وهنَّ يتحدثنَ عني وعن عاداتي الغريبة. بعدئذٍ قالت أوما: «يبدونَ معجباتٍ بك للغاية.» وتابعت: «إنهنَّ يذكِّرنني بعماتنا في كينيا.» أنزلت أوما زجاج نافذة السيارة ووجَّهَت وجهها للريح، وهي تشاهد شارع ميشيجان في أثناء مرورنا به؛ حيث الأطلال المحزنة لمسرح روزلاند القديم، والمَرْأَب المليء بالسيارات الصدئة المتهالكة. وسألتني وهي تستدير نحوي: «أهذا هو ما تفعله لهم يا باراك؟» وتابعت: «أقصد أن هذا هو العمل التنظيمي؟» هززتُ كتفي. وقلت: «لهم. ولي.» عاد تعبير الحيرة والخوف نفسه يرتسِم على وجه أوما. وقالت: «إنني لا أُحب السياسة كثيرًا.» «لماذا؟» «لا أعرف. الناس دومًا ينتهي بهم الأمر وهم محبطون.» عندما رجعنا إلى المنزل كان هناك خطابٌ في انتظارها في صندوق البريد، من طالبٍ ألماني يدرُس بكلية الحقوق، كانت — طبقًا لما قالت — على علاقةٍ به. كان الخطاب طويلًا، مُكوَّنًا على الأقل من سبع صفحات، وحين كنت أُعِدُّ العَشاء جلسَت هي على طاولة المطبخ تقرأ الخطاب وهي تضحك تارةً وتتنهَّد تارة أخرى، وفجأةً بدت على وجهها ملامح رقيقة تواقة. قلت: «اعتقدتُ أنكِ لم تحبي الألمان.» مسحت عينَيها وضحكت. قالت: «نعم … لكنَّ أوتو مختلف. إنه لطيف للغاية! في بعض الأحيان كنتُ أعامله بأسلوبٍ غير لائق! لا أعرف يا باراك. إنني في بعض الأحيان أُفكِّر في أنه من المستحيل أن أثِق بأي شخصٍ ثقةً عمياء. وأُفكِّر فيما فعله الرجل العجوز في حياته، وأضحت فكرة الزواج تُصيبني … كيف أقولها … بالخوف. الأمر نفسه ينطبق على أوتو وحياته المهنية لأننا كنا سنُضطر إلى العيش في ألمانيا. فبدأتُ أتخيَّل نفسي في هذه الحياة وأنا أعيشها كاملة أجنبية، ولا أعتقد أنني سأتحمَّل ذلك.» طوت الخطاب ووضعَتْه في مظروفه مرةً أخرى. وسألتني: «ماذا عنك يا باراك؟» وتابعت: «هل تعاني المشكلات نفسها، أم أنني بمفردي أعاني هذا الارتباك؟» «أعتقد أنني أعرف شعورك.» «هيا يا باراك فلتُخبرني.» ذهبتُ إلى الثلاجة وأخذتُ منها ثمرتين من الفلفل الأخضر ووضعتُهما على لوح التقطيع. وقلتُ لها: «حسنًا … أحببتُ سيدة في نيويورك. هي بيضاء. وسوداء الشعر، وتميل عيناها إلى الخضرة. وكان صوتها عذبًا. تقابلنا لقرابة عام. غالبًا في أيام العطلات. أحيانًا في شقتي وأحيانًا أخرى في شقَّتِها. أتعرفين شعور مَن ينغمس في عالمه الخاص؟ لم يكن في هذا العالم سوى شخصَين — أنا وهي — مختفِّيَين عن الأنظار ويغمرنا الدفء. كنا منغمِسَين في لُغتنا. كنا مُنغمسَين في عاداتنا. هكذا كانت حياتنا. دعتني هذه السيدة في أحد أيام العطلات في منزل عائلتها الريفي. كان والداها هناك، وكانا لطيفَين وكريمين إلى حدٍّ بعيد. كنا في الخريف الرائع ومن حولنا الغابات، وركبنا الزوارق الطويلة، وجدَّفنا بمجاديفها في بحيرةٍ ثلجية مستديرة وكانت أوراق الشجر الذهبية الصغيرة تتجمَّع على ضفتَيها. كانت العائلة تعرف كلَّ شبرٍ في هذه الأرض. وكيف تكوَّنت تلالها وكيف كوَّنت تياراتُ النهر الجليدية البحيرةَ، وأسماء المستعمرين البِيض الأوائل وأسلافهم ومن قبلهم أسماء الهنود الذين كانوا فيما مضى يجولون في المنطقة مُتعقِّبين حيوانات الصيد. كان المنزل الذي يعيشون فيه قديمًا جدًّا، كان منزل جَدها لأبيها. وكان جَدها هذا قد ورثه من جَدِّه لأبيه. وكانت لديهم مكتبة مليئة بالكتب القديمة وصور الجَد بصُحبة أفرادٍ مشهورين كان يعرفهم، من رؤساء ودبلوماسيين وصحفيين ورجال صناعة. وكانت الغرفة تتمتع بقدرةٍ جاذبة هائلة. وأدركت، وأنا أقف وسطها، أن عالمَينا — أنا وصديقتي — تفصل بينهما مسافةٌ شاسعة كالمسافة نفسها التي تفصل بين كينيا وألمانيا. وعلمتُ أيضًا أننا لو بَقِينا معًا لعِشْت في عالمها في النهاية. مع ذلك فهذا هو ما كنتُ أفعله معظم أوقات حياتي. وبيني وبينها كنتُ شخصًا عرَف كيف يعيش غريبًا.» «وماذا حدث؟» هززتُ كتفي. قلت: «أبعدتُها عني.» وتابعت: «بدأتِ الخلافات تنشب بيننا. وبدأنا نفكر في المستقبل الذي بدأ يضغط على عالمنا الدافئ الصغير. وذات مساء دعوتها لمشاهدة مسرحية جديدة من تأليف كاتبٍ أسود. وكانت المسرحية تُعبِّر عن الغضب الشديد للسُّود إلا أنها مُضحكة للغاية. كانت تُعبِّر تعبيرًا صادقًا عن مسرح السُّود الهزلي الأمريكي. وكان معظم الجمهور من السود، ضحك الجمهور وصفَّق وهللوا جميعًا كما لو كانوا يُسبِّحون في الكنيسة. وبعد انتهاء العرض المسرحي بدأت صديقتي تسألني عن السبب الدائم لغضب السُّود. وقلت لها إن الأمر مُتعلِّق بذكرياتهم — كما قلتُ إن أحدًا لا يسأل اليهود عن سبب تذكُّرهم الهولوكوست — لكنها أخبرتني أن الأمر مختلف وعارضتُها في ذلك، فقالت لي إن الغضب ليس إلا طريق مسدود. وبذلك تشاجَرْنا أمام المسرح. وعندما عُدنا إلى السيارة بدأتْ تبكي. وقالت إنها لا تستطيع أن تكون سوداء. وإنها كانت ستفعل إذا كان ذلك بيدِها. وإنها لا تستطيع أن تكون أحدًا غير نفسها.» «يا لها من قصةٍ محزنة يا باراك.» «نعم أعتقد ذلك. وربما حتى إن كانت سوداء لم تكن ستستمرُّ العلاقة. أقصد أن هناك بعض السيدات السوداوات اللاتي جعلنَ قلبي ينفطِر مِثلها.» ارتسمت ابتسامة على شفتي ووضعتُ الفلفل المقطَّع في الإناء، ثم استدرتُ إلى أوما مرةً أخرى. وقلتُ لها دون أية ابتسامة: «المشكلة أنني كلما عُدت بذاكرتي إلى ما قالته صديقتي هذه الليلة أمام المسرح أشعر بالخجل من نفسي إلى حدٍّ ما.» «هل تعرف أيَّ شيء عنها الآن؟» «أرسلَتْ لي بطاقةً بريدية في الكريسماس. إنها سعيدة الآن حيث أقامت علاقةً مع شخصٍ ما. أما أنا فلديَّ عملٌ أهتمُّ به.» «وهل هذا كافٍ؟» «في بعض الأحيان.» ••• لم أذهب إلى العمل اليوم التالي، وقضينا هذا اليوم معًا وزُرنا معهد الفنون (أردتُ أن أرى الرأسَين الصغيرَين في متحف فيلد، لكنَّ أوما رفضت)، إلى جانب أننا بحثنا عن الصور الفوتوغرافية القديمة التي كانت في خزانتي لمشاهدتها، وذهبنا إلى السوبر ماركت، حيث أقرَّت أوما أن الشعب الأمريكي ودود ووزنه زائد. في بعض الأحيان كنتُ أجد أوما صعبة المراس وفي أحيانٍ أخرى مُتهوِّرة، وفي أوقاتٍ كثيرة مشغولة بهموم العالَم، ودائمًا ما كانت تؤكِّد قدرتها على الاعتماد على نفسها، وهو الأمر الذي كنتُ أراه ردَّ فعلٍ مكتسَب، وكان هذا ردَّ فِعلي تجاه شعوري بالشك. لم نتحدَّث كثيرًا عن أبينا وكأنَّ حديثنا كان يتوقَّف كلما أوشكنا على الاقتراب من ذِكراه. وبعد ليلةٍ تناولنا فيها العشاء ومشَينا مسافةً طويلة بمحاذاة حاجز الأمواج المنهار للبحيرة، شعر كِلانا أننا لن نتقدَّم خطوة واحدة إلا إذا طرحنا هذا الموضوع للمناقشة. أعدَّت لنا كوبَين من الشاي وبدأت أوما تُخبرني عن الرجل العجوز، قدرَ ما أسعفَتْها ذاكرتها. قالت: «لا أستطيع القول إنني بالفعل عرفتُه حقَّ المعرفة يا باراك.» وتابعت: «ربما لم يستطِع أحدٌ معرفته حقَّ المعرفة على الإطلاق. فحياته كان التشتُّت سمتَها. ولم يعرف أحد سوى حلقاتٍ منفصلة منها، حتى أبناؤه. كنتُ خائفة منه. فأنت تعلم أنه لم يكن بجانبنا عندما وُلِدت. كان في هاواي مع أُمك وبعدَها ذهب إلى هارفارد. وعندما عاد إلى كينيا كان أخونا الأكبر — روي — وأنا ما زلنا طفلَين صغيرَين. وقد عِشنا مع أُمنا في قرية أليجو حتى ذلك الوقت. وكنتُ صغيرة للغاية على أن أتذكَّر تفاصيلَ مجيئه. كنتُ في الرابعة من عمري في حين أن روي كان في السادسة؛ لذا ربما يستطيع هو إخبارك بما حدث بصورةٍ أكثرَ إسهابًا. إنني لا أتذكَّر إلا عودته بصُحبة السيدة الأمريكية التي تُدعى روث، وأنه أخذَنا من أُمي لنعيش معهما في نيروبي. كما أتذكَّر أن هذه السيدة — روث — كانت أول شخصٍ من ذوي البشرة البيضاء أتعامل معه عن قُرب، وأنه على حين غِرة أصبح من المفترض أن تكون هي أُمي الجديدة.» «لماذا لم تظلِّي مع أُمك؟» هزَّت أوما رأسها. وقالت: «لا أعرف السببَ بالضبط. إلا أنه في كينيا يحتفظ الأزواج بأطفالهم في حالات الطلاق، إذا كانوا يريدون ذلك. وعندما سألتُ أُمي عن هذا الأمر كان من الصعب عليها التحدُّث بخصوصه. ولم تقُل شيئًا سوى أن زوجة أبي الجديدة رفضت أن تعيش مع زوجةٍ أُخرى وإنها — أمي — اعتقدت أننا كأطفالٍ من الأفضل أن نعيش مع والدنا لأنه كان ثريًّا. في السنوات الأولى كان والدُنا يُعاملنا معاملة حسنة. كان يعمل في شركة بترول أمريكية، هي شركة شل. وكان ذلك بعد استقلال كينيا ببضع سنوات، وكان لأبينا علاقات جيدة مع كبار المسئولين في الحكومة. فقد كان أغلبهم زملاء له في المدرسة. نائب الرئيس والوزراء، وكانوا جميعًا يأتون إلى المنزل لزيارته في بعض الأحيان ويشربون معه الخمر ويتحدَّثون في أمور السياسة. كان أبي يملك منزلًا كبيرًا. وكان يملك سيارة فارهة، وكان الجميع معجبًا به لأنه حصل على قدرٍ هائل من التعليم من خارج البلاد مع أنه لا يزال حديثَ السن للغاية، كما كان مُتزوجًا من امرأة أمريكية وهو ما كان حينذاك أمرًا نادرًا؛ مع أنه بعد ذلك كان يخرج مع أُمي في بعض الأحيان — في الوقت الذي كان لا يزال مُتزوجًا من روث. كما لو كان يريد أن يُظهِر للناس أنه مُقتدِر. أو بعبارة أخرى يستطيع أن يحظى بهذه السيدة الأفريقية الجميلة عندما يريد. في تلك الأثناء وُلِد إخوتنا الأربعة الآخرون. مارك وديفيد من روث ووُلدا في منزلنا الكبير في ويستلاندز، وآبو وبيرنارد من أُمي وعاشا معها وعائلتها في القرية. وفي ذلك الوقت لم نكن نعرف أنا وروي أيًّا من آبو وبيرنارد لأنهما لم يأتيا إلى المنزل لزيارتنا على الإطلاق، وعندما كان أبونا يزورهما كان يذهب دائمًا بمفرده دون أن يُخبر روث. لم أُفكِّر في هذا الأمر كثيرًا إلا فيما بعد؛ أعني في الطريقة التي قسمت حياتنا قسمَين لأنني كنتُ صغيرةً للغاية. وأعتقد أن الأمر كان أكثرَ صعوبةً على روي لأنه كان كبيرًا بما يكفي لتذكُّر كيف كانت المعيشة في أليجو مع والدتنا وعشيرتنا. أما أنا فكلُّ شيءٍ كان على ما يُرام. وفي الواقع كانت روث — أُمُّنا الجديدة — لطيفةً إلى حدٍّ معقول معنا، وكانت تُعاملنا كابنَيها تقريبًا. وأعتقد أن والدَيها كانا من الأثرياء؛ فقد كانا يُرسِلان لنا هدايا جميلة من الولايات المتحدة. وكلما استقبلنا أيَّ هديةٍ منهما سعدتُ كثيرًا. لكنني أتذكَّر أن روي أحيانًا كان يرفض أخذ هداياهما، حتى إن أرسلا لنا الحلوى. وأتذكَّر أنه ذات مرة رفض أخذ الشيكولاتة التي أرسلاها، لكن ليلًا بعدما اعتقد أني نائمة رأيتُه يأخذ بعضًا مما احتفظتُ به في دولابي. لكنني لم أقُل شيئًا لأحد لأنني كنتُ أعرف أنه حزين. بعد ذلك بدأت الأمور تتغيَّر. فعندما أنجبَتْ روث مارك وديفيد تحوَّل تركيزُها إليهما. بالإضافة إلى أن والدنا ترك الشركة الأمريكية ليعمل في الحكومة في وزارة السياحة. ولعله كانت له طموحات سياسية. في البداية سارت الأمور على ما يُرام في الحكومة. لكنَّ الانقسامات في كينيا أصبحت أكثر خطورةً عن ذي قبل بحلول عام ١٩٦٦م أو ١٩٦٧م. كان الرئيس كينياتا ينتمي لقبيلة الكيكويو وهي أكبر القبائل. لذا بدأت ثاني أكبر القبائل — وهي قبيلة لوو — الشكوى من أن قبيلة الكيكويو يحصل أهلُها على أفضل الوظائف. وبذلك فاضت الحكومة بالدسائس والمؤامرات. وقال نائب الرئيس الذي يُدعى أودينجا، الذي كان ينتمي لقبيلة لوو، إن الحكومة ازدادت فسادًا. وبدلًا من خدمة مَن حاربوا في سبيل تحقيق الاستقلال أخذ السياسيون الكينيون مكان الاستعماريين البِيض واشترَوا كل الشركات والأراضي التي كان يجب إعادة توزيعها على الشعب. حاول أودينجا الشروع في تكوين حزبه السياسي إلا أنه حُكِم عليه بالإقامة الجبرية في منزله باعتباره شيوعيًّا. بالإضافة إلى أن وزيرًا بارزًا آخرَ ينتمي لقبيلة لوو — وهو توم مبويا — اغْتِيل رميًا بالرصاص على يد قاتلٍ محترف من قبيلة الكيكويو. وهكذا بدأ أهل قبيلة لوو يتظاهرون في الشوارع. واتخذت الشرطة الحكومية إجراءات صارمة ردًّا على ذلك. وقُتل الناس. وبالطبع غرس كلُّ ذلك شكًّا أكبر بين القبائل. صمت معظم أصدقاء أبي وسطَ هذه الأحداث ولم يُحرِّكوا ساكنًا وتعلموا التعايش معها. لكنَّ أبانا بدأ في التحدُّث. وأخبر الناس بأن النظام القبلي في طريقه إلى تخريب البلد وأن أفضل الوظائف باتت تُمنح لغير الأَكْفاء. حاول أصدقاؤه تحذيره من المجاهرة بهذه الأقوال، لكنه لم يهتمَّ بالأمر. وكان دائمًا ما يعتقد أنه يعرف الأفضل. وعندما تخطَّى المسئولون ترقيته تذمَّر علنًا. وقال لأحد الوزراء: «كيف يمكن أن تكون رئيسًا عليَّ، مع أنني أُعلِّمك كيف تؤدي مهام وظيفتك كما ينبغي؟» وصل الأمر إلى كينياتا في صورة أن والدنا من مُختلِقي المشكلات، واستُدعِيَ بالتالي لمقابلة الرئيس. وطبقًا لما قُصَّ عليَّ، فإن كينياتا قال لأبينا إنه لن يعمل في أي مكانٍ حتى يمشي حافيَ القدمَين. في الواقع لا أعلم مدى صحة هذه التفاصيل. لكنني متأكدة من أن الأحوال كانت سيئة للغاية مع والدي في علاقته مع الرئيس بوصفه عدوًّا. حيث طُرد من الحكومة ووُضع اسمه على القائمة السوداء. ولم تَعرِض عليه أيٌّ من الوزارات العمل فيها. وعندما اتجه إلى الشركات الأجنبية ليعمل فيها جرى تحذير هذه الشركات من مغبَّة تعيينه. ولذا بدأ يبحث عن عملٍ خارج البلاد إلى أن وافقوا على تعيينه في بنك التنمية الأفريقي في أديس أبابا، لكن قبل أن يعمل فعليًّا سحبت الحكومة جواز سفره ولم يستطِع مغادرة كينيا. في نهاية الأمر اضطُر إلى قبول العمل في وظيفةٍ متواضعة في وزارة الري، ولم ينل هذه الوظيفة إلا بعد تدخُّل أحد أصدقائه الذي أشفق عليه. وفي الحقيقة ساعدت هذه الوظيفة في توفير الطعام والشراب، لكنها كانت له بمنزلة الضربة القاضية. بدأ والِدُنا يُفرِط في شرب الخمر، وتوقَّف كثيرون من معارفه عن زيارته لأن رؤيتهم معه أصبحت من الأمور الخطيرة آنذاك. وأخبروه أن حياته ستتحوَّل للأفضل إذا ما اعتذر وغيَّر من مواقفه. لكنه رفض واستمرَّ في قول كلِّ ما يخطر بباله. فهمتُ معظم هذه الأمور عندما كبِرت. وفي هذا الحين أدركتُ أن الحياة في المنزل أصبحت صعبةً للغاية. فوالدنا لم يكن يتحدَّث مع روي أو معي على الإطلاق إلا إذا كان يريد توبيخنا. وكان يأتي إلى المنزل في وقتٍ متأخِّر جدًّا وهو مخمور، وكنتُ أسمعه وهو يصيح في وجه روث يأمُرها أن تُعِدَّ له الطعام. ونتيجةً لذلك شعرت روث بمرارةٍ كبيرة؛ فقد تغيَّر والدُنا معها، وفي بعض الأحيان عندما يكون خارج المنزل كانت تقول لروي ولي إن والدَنا مجنون، وإنها مُشفقة علينا لأن لنا أبًا كهذا. ومع ذلك فلم أكن ألومُها، بل بالعكس كنت أحيانًا أوافقها الرأي. لكنني لاحظتُ أكثرَ من أيِّ وقتٍ آخر أنها كانت تُعاملنا بأسلوبٍ مختلف عن أسلوب معاملة ابنَيها. وكانت تقول إننا لسنا طفلَيها، وإنها ليس بيدِها شيء تفعله لنا لمساعدتنا. فبدأتُ أنا وروي نشعر بأنه ما من أحدٍ يهتمُّ بأمرنا. وعندما تركَتْ روث والدنا لم يكن شعورنا هذا بعيدًا بكثيرٍ عن الحقيقة. تركَتْ روث المنزل عندما كنتُ في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري، بعد أن تعرَّض أبي لحادث سيارة خطير. وعلى ما أعتقد كان مخمورًا، ومات في هذا الحادث سائق السيارة الأخرى الذي كان مزارعًا من البِيض. ظل أبونا في المستشفى فترةً طويلةً بلغت السنة، وعشتُ أنا وأخي روي بصفةٍ أساسية معتمِدَين على أنفسنا. وعندما خرج من المستشفى ذهب لزيارتك أنت وأُمك في هاواي. وأخبرَنا حينها أنكما — أنت وأمك — ستعودان معه وسنعيش جميعًا كأسرة بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى. لكنكما لم تأتيا معه عندما رجع وظللتُ أنا وروي نعيش معه بمفردنا. بسبب الحادث بالطبع فقدَ أبونا وظيفته في وزارة الري، ولم يَعُد لدَينا مكانٌ نعيش فيه. ولفترة من الوقت أخذنا نتجوَّل بين الأقارب لكنهم في النهاية قرَّروا طردنا لأن لدَيهم ما يكفي مِن المشكلات. بعد ذلك وجدنا منزلًا حالته سيئة للغاية في جزءٍ خطير من المدينة مشهور بالجرائم الكثيرة التي تحدُث فيه، واستقررنا هناك سنواتٍ عديدة. كانت أيامًا عصيبة. ذلك لأن أبانا لم يكن يملك من النقود سوى القليل؛ لذا كان مُضطرًّا إلى الاقتراض من الأقارب لمجرد توفير الطعام. وهذا ما جعله أكثر خجلًا من نفسه — على ما أعتقد — وازدادت طباعه حدَّة. ومع كل هذه المشكلات التي تعرَّضنا لها فإنه لم يعترف إطلاقًا لي أو لروي بأن الأمور ليست على ما يُرام. وأعتقد أن هذا هو ما جرحه لأقصى درجة؛ أي الأسلوب المتعجرِف الذي كان لا يزال يُخبرنا به بأننا أبناء الدكتور أوباما. كانت خزانات الطعام فارغة، لكنه كان يتبرع للجمعيات الخيرية حفاظًا على المظاهر! كنتُ أناقِشه في هذا الأمر في بعض الأحيان، لكنه لم يكن يقول شيئًا سوى إنني فتاة حمقاء صغيرة لا أفهم ما يفعله. كان الأمر أسوأ مع روي. فقد كانا يتشاجران مشاجراتٍ عنيفة. مما أدَّى بروي في نهاية الأمر إلى ترْك المنزل والعيش مع آخرين. لذا ظللتُ بمفردي مع والدي. وأحيانًا كنتُ أظل مُستيقظة لمنتصف الليل في انتظار مجيئه وهو يفتح الباب، قلقةً من أن يكون قد حدث له مكروه. ومع الوقت اعتاد المجيء مُترنحًا من كثرة شرب الخمر، وكان يدخل غرفتي ويوقظني بحجةِ أنه يريد الجلوس في صحبةِ أحد أو تناول الطعام. وكان يتحدَّث معي بخصوص شعوره بالتعاسة وكيف تعرَّض للخيانة. لكنني في هذه الأحيان كنتُ أشعر بنعاسٍ شديد فلا أفهم شيئًا مما كان يقوله. وبدأتُ بيني وبين نفسي أتمنى أن يظلَّ بالخارج إلى الأبد ولا يعود على الإطلاق. الشيء الوحيد الذي أنقذني من هذه المأساة كان التحاقي بمدرسة كينيا الثانوية. إنها مدرسة للبنات كانت فيما مضى مخصَّصة للبريطانيات. وكانت هذه المدرسة صارمة القواعد للغاية وكانت ما زالت عنصرية، فلم يكن يُسمَح للمدرسين الأفارقة بالتدريس إلا في الوقت الذي التحقتُ بها فيه بعد رحيل معظم الطالبات البيضاوات. لكن مع كل هذه الأشياء فقد كنتُ طالبة نشطة. ولأنها كانت مدرسة داخلية فكنتُ أظل فيها في فترة الدراسة بدلًا من المكوث مع أبي. وفي الواقع عرفتُ من هذه المدرسة معنى النظام. كما عرفتُ معنى أن يكون لدَيك شيء تتمسَّك به. في إحدى سنواتي الدراسية لم يستطِع أبي دفع مصاريف المدرسة، ولذا طُرِدتُ منها. وكنت حينها غايةً في الخجل وبكيتُ طوال الليل. ذلك لأنني لم أكن أعرف ماذا أفعل. لكنني رغم كل هذا كنتُ محظوظة. إذ سمِعَتْ إحدى المديرات بالمدرسة عما حلَّ بي وأعطتني منحةً دراسية سمحت لي بالبقاء في الدراسة. وعلى الرغم من قدْر رعايتي لأبي وقلقي عليه فمن المؤسِف أن أقول إنني كنتُ سعيدة لعدم اضطراري إلى العيش معه. لذا تركتُه بمفرده وتركتُ الماضي خلف ظهري. في السنتَين الأخيرتَين في المدرسة الثانوية تحسَّنت أحوال أبي. كان ذلك عندما مات كينياتا وأصبح أبي قادرًا إلى حدٍّ ما على العمل مرةً أخرى في الحكومة. فحصل على وظيفة في وزارة المالية وبدأ ينعم بالمال من جديد إلى جانب السلطة. إلا أنني أعتقد أنه لم يتغلَّب أبدًا على الشعور بالمرارة لما حدث له، خاصةً عند رؤية زملائه الذين من عمره وهم يعملون في مناصبَ أعلى من منصبه حيث كانوا يتمتَّعون بالقدْر الكافي من الذكاء السياسي الذي مكَّنهم من الوصول إلى هذه المناصب. بعد كل ذلك كان الوقت قد فات لجمعِ شتات عائلته. وظل فترةً طويلة يعيش وحيدًا في غرفةٍ بأحد الفنادق حتى بعدما أصبح يستطيع ماديًّا شراء منزل. وكانت له علاقات عابرة مع نساء أوروبيات وأفريقيات إلا أن علاقته بأيٍّ منهن لم تدُم طويلًا. لم أكن ألتقي به تقريبًا، وحتى عندما يتصادف ونتقابل لم يكن يعرف كيف يتعامل معي. أصبحنا كالغرباء لكنه كان لا يزال لدَيه الرغبة في التظاهر بأنه أبٌ مثالي يوجِّه ابنته للتصرُّفات الصحيحة. أذكر أنني عندما حصلتُ على المنحة الدراسية للدراسة في ألمانيا كنتُ خائفة من أن أُخبره. واعتقدتُ أنه ربما يقول إنني صغيرة جدًّا عن أن أذهب للدراسة في الخارج ويتدخَّل لإلغاء تأشيرتي كطالبةٍ التي كان لا بدَّ من أن تُصدِّق عليها الحكومة. لذا سافرتُ دون أن أُودِّعه. ولم أبدأ في التخلُّص من بعض الغضب الذي كنتُ أشعر به نحوه إلا بعدما سافرتُ إلى ألمانيا. فمن بعيدٍ استطعتُ التفكير جيدًا فيما تعرَّض له وكيف أنه لم يستطِع فهْم أحدٍ بالفعل حتى نفسه. وفي نهاية المطاف — بعد كل هذه الفوضى التي سبَّبها لحياته — أعتقد أنه ربما كان على وشك الشروع في تغيير نفسه بالفعل. ذلك لأنني آخِر مرة رأيته كان في رحلةِ عملٍ مُمَثِّلًا كينيا في مؤتمرٍ دولي في أوروبا. كنت قلقةً للغاية من مقابلتنا لأننا لم نكن قد تحدَّثنا منذ زمنٍ بعيد. لكنه عندما وصل إلى ألمانيا بدا متحررًا بالفعل من التوتر العصبي بل ميالًا للهدوء. وقضينا وقتًا طيبًا حقًّا. والواقع أنه كان جذَّابًا حتى في أسوأ حالاته! اصطحبني معه إلى لندن حيث مكثنا في فندقٍ فاخر، وهناك عرَّفني على جميع أصدقائه في النادي البريطاني. كان أبي يجذب لي المقعد لأجلس ويهتم بي اهتمامًا عظيمًا، مخبرًا جميعَ أصدقائه كم هو فخور بي. وفي رحلة العودة من لندن لفت انتباهي في الطائرة كأس زجاجية صغيرة كان أبي يحتسي فيها الويسكي، ولأنها أعجبتني أخبرته بأنني سوف أسرقها، لكنه قال لي: «لا داعي لمثل هذه الأشياء.» واستدعى المضيفة وطلب منها، وكأنه يمتلك الطائرة، إحضار طقم كامل من هذه الكئوس. وعندما أعطتني المضيفة إيَّاها شعرتُ بأنني عُدت إلى الطفولة من جديد. أو بالأحرى شعرت بأنني أميرته المدلَّلة. في اليوم الأخير لزيارته لي في ألمانيا اصطحبني لتناول الغداء وتحدَّثنا عن المستقبل. وسألني إن كنتُ في حاجةٍ إلى المال وأصرَّ على منحي بعض المال. وأخبرني أنه بمجرد عودتي إلى كينيا سيجد لي زوجًا صالحًا. كم كان مُؤثِّرًا ما حاول فعله … كما لو كان بوسعه تعويض كل الأوقات الضائعة. كان قد أصبح عندئذٍ أبًا من جديد لطفلٍ يُدعى جورج أنجبه من سيدةٍ شابة كان يعيش معها. لذا قلتُ له: «إنني وروي كبِرنا بالفعل. وكلٌّ منا لدَيه حياته الخاصة وذكرياته، وما حدث بيننا جميعًا من الصعب محوه من الذاكرة. أما جورج الرضيع فهو كالصفحة البيضاء التي لم يَخُطَّ فيها قلم. وإن لدَيك الفرصة لتُعامله معاملةً حسنة حقًّا.» لم يفعل شيئًا سوى هزِّ رأسه، كما لو كان … أقصد كما لو أنه …» لبرهة من الوقت، حملقَتْ أوما في صورة أبي الفوتوغرافية بغير تركيزٍ في الضوء الخافت. وبعدها وقفت واتَّجهت ناحية النافذة وأدارت ظهرَها لي. قبضت أوما على جسدِها وتسلَّلَت يداها ببطءٍ شديد تجاه كتفَيها المنحنيتَين. وبدأت ترتعِد بصورةٍ عنيفة. فنهضتُ من مكاني وذهبت خلفها ولففتُ ذراعيَّ حولها وهي تبكي، والحزن يأخذ طريقه إليها في صورةِ موجاتٍ بطيئة وعميقة. وقالت لي بين عَبَراتها: «أرأيتَ يا باراك؟» وتابعت قائلة: «كنتُ في بداية معرفتي به. وكنا قد وصلنا إلى المرحلة التي … التي ربما استطاع فيها توضيح نفسه وتفسير تصرُّفاته. وفي بعض الأحيان أعتقد أنه ربما تجاوز المرحلة الحرجة بالفعل وبدأ في التحول نحو الأفضل. لكن بعدما مات شعرت بأنني … مخدوعة للغاية. وهو الشعور الذي لا بدَّ وأن يكون راودَك.» في الخارج سمعنا صوتًا مُرتفعًا لسيارةٍ عند زاوية الشارع ورأينا رجلًا يعبر الشارع وحيدًا في ظل الضوء الأصفر الصادر عن أعمدة الإنارة. وعلى حين غِرة اعتدلَت قامة أوما وانتظم تنفُّسها — كما لو كانت قوة إرادتها هي التي دفعتها لفعل ذلك — ومسحت عينَيها بكُمِّ قميصها. وقالت وهي تبتسم ابتسامةً سرعان ما اختفت من وجهها: «انظر إلى ما فعلتَهُ بأختك.» استدارت نحوي. وقالت: «أتعرف، اعتاد أبونا أن يتحدَّث عنك كثيرًا! وكان يستعرض صورتك أمام الجميع مُتباهيًا ويُخبرنا عن مدى مهارتك في المدرسة. وأظن أنه ووالدتك اعتادا تبادل الخطابات. وهذه الخطابات — حسب اعتقادي — كانت تُريحه دون شك. وفي الأوقات العصيبة — عندما توقَّف الجميع عن مساعدته — كان أبي يُحضِر خطاباتها إلى غرفتي ويقرؤها بصوتٍ عالٍ. كان يُوقظني ويُصِرُّ على أن أسمع، وعندما ينتهي من القراءة يمسك بالخطابات في يدِه ويذكر إلى أي مدًى كانت أُمك طيبة القلب وحنونًا. وكان يقول: «أترين؟» ويتابع كلامه: «على الأقل هناك أناس يهتمُّون بأمري بإخلاص.» كان يقول ذلك لنفسه مراتٍ ومراتٍ عديدة …» أعددتُ الأريكة لأوما لتنام عليها في حين كانت هي تُنظِّف أسنانها. وسرعان ما استغرقَت في سباتٍ عميق تحت البطانية وهي مُنكمِشة على نفسها. أما أنا فظللتُ مستيقظًا، متكئًا على مقعدٍ في ضوء مصباح المكتب، وأخذتُ أنظر إلى هدوء وجهها وأستمع إلى إيقاع تنفُّسها، محاولًا فَهْم ما قالته واستيعابه. شعرتُ أن حياتي انقلبت رأسًا على عقب، تمامًا كما لو أنني استيقظتُ من النوم فوجدتُ الشمس زرقاء وسط سماءٍ صفراء، أو كما لو أنني سمعتُ الحيوانات تتحدَّث مثلَنا نحن بني البشر. إنني طيلةَ حياتي حملتُ في ذاكرتي صورةً واحدة لأبي، أتمرَّد عليها في بعض الأحيان لكن دون أن أُناقِشها، صورةً حاولت أن أتخذها لنفسي فيما بعد. صورة المثقف الذكي والصديق السخي، والقائد المستقيم … ففي والدي اجتمعت كل هذه الصفات. أقول كل هذه الصفات وأكثر لأنه لولا زيارته القصيرة لي في هاواي لم يكن ليظهر في حياتي إطلاقًا لينتقِص من هذه الصورة لأنني لم أرَ ما يراه معظم الرجال في مرحلةٍ ما في حياتهم، مثل رؤية جسد أبيهم وهو يتضاءل، أو آماله وهي تتبخَّر، أو علامات الحزن والندم وهي تكسو وجهه. نعم، لقد رأيتُ مراحل الضَّعف هذه في شخصياتٍ أخرى؛ في جَدي وشعوره بالإحباط، وفي لولو والتنازلات التي قدَّمها. لكنَّ هذَين الرجلَين أصبحا عِبرةً لي، ربما أحببتُهما لكنني لم أحاول إطلاقًا تقليدهما، الأبيض منهما أو الأسمر اللذَين لم ينطبق مصيرهما على مصيري. كانت الصورة التي رسمتها لأبي — الرجل الأسود ابن القارة الأفريقية — متضمنةً كل الصفات التي سعيتُ لأن أتَّسِم بها؛ سمات مارتن ومالكولم ودوبواز ومانديلا. وإذا كنتُ بعد ذلك رأيتُ أن الرجال السود الذين عرفتهم — فرانك أو راي أو ويل أو رفيق — فشلوا في الارتقاء إلى هذه المعايير السامية، وإذا ما تعلمتُ احترامهم من أجل كفاحهم الذي خاضوه والاعتراف بأنهم بمنزلةِ أهلٍ لي، فإن صوت والدي ظلَّ مع ذلك لم يمسَسْه سوء، مُلهِم وموبِّخ، يُوافقني على أفعالي أو يمتنع عن منحي هذه الموافقة. فكنتُ كأني أسمعه أحيانًا يقول لي: «إنك لا تعمل بجِدٍّ كافٍ يا باري. لا بد أن تساعد زملاءك في كفاحهم. انتبه أيها الرجل الأسود!» والآن — بعدما جلستُ في ضوء المصباح الكهربائي متأرجحًا قليلًا على مقعدٍ صلب الظهر — تلاشت هذه الصورة عن أبي على حين غِرة وحلَّت محلها … ماذا؟ شخص سِكِّير؟ زوج بذيء اللسان؟ موظف حكومي مهزوم ووحيد؟ اعتقدتُ أنني طوال حياتي كنتُ أُكافح من أجل شيءٍ ليس أكثر من شبح! وللحظةٍ شعرتُ بدوار، وإن لم تكن أوما في الغرفة كنتُ سأضحك بصوتٍ عالٍ. لقد خُلِعَ الملك عن عرشه. ونُحِّيَتْ جانبًا الستائر الخضراء الزمردية. وباتت حشود الغوغاء داخل عقلي لها مُطلق الحرية في أن تتجاوز جميع الحدود؛ أي يمكنني فعلُ ما يخطر ببالي ويُسعدني. فلا أحد لدَيه السلطة — ما عدا أبي — لأن يَنهني عن ذلك. ومهما أفعل من سوء فلن يكون أسوأ مما فعله هو نفسه. انقضى الليل ببطءٍ شديد وحاولتُ أن أستعيد توازُني في ظل شعوري بعدم الرضا كثيرًا عن تحرُّري الذي ما لبثتُ أن اكتشفتُه. فماذا سيقف في طريق خضوعي للهزيمة نفسها التي أطاحت بوالدي؟ ومَن ذا الذي سيحميني من الشكِّ أو يُحذِّرني من جميع الأشراك الدفينة في روح رجل أسود؟ إن الصورة الخيالية التي رسمتُها لأبي ساعدت على الأقل في إبعادي عن الشعور باليأس. لكنَّه الآن مات، حقيقةً لا خيالًا. ولم يَعُد في مقدوره إخباري كيف أعيش. ربما كان كلُّ ما يستطيع إخباري به هو ما حدث له بالفعل. وخطر ببالي أنني مع كل هذه المعلومات الجديدة فإنني لا أزال لا أعرف الرجل الذي كان أبًا لي. ما الذي حلَّ بقُوَّته والتزامه في الحياة؟ ما الذي شكَّل طموحاته؟ لقد تخيلتُ مجددًا المرة الأولى والأخيرة التي تقابَلْنا فيها، واكتشفتُ أن الرجل الذي عرفته بعد سرد كل هذه الحقائق لا بد أنه كان مُتخوفًا من المستقبل مثلما كنت، كان رجلًا عاد إلى هاواي ليُنعم النظرَ في ماضيه وربما يحاول أن يستعيد أفضل جزءٍ في كيانه؛ الجزء الضائع. لم يكن عندئذٍ قادرًا على إخباري بمشاعره الحقيقية مثلما لم أستطِع التعبير عن رغباتي وأنا في العاشرة من عمري. لقد تبلَّدت مشاعرنا عند رؤية أحدنا الآخر، وعجزنا عن الفِرار من الشكوك التي كانت أرواحنا في حاجةٍ إليها إذا ما نظرنا إلى الأمر عن قرب. والآن بعد ١٥ سنة نظرتُ إلى وجه أوما النائم ورأيتُ الثَّمن الذي دفعناه مقابل هذا الصمت. ••• بعد ١٠ أيام جلستُ أنا وأوما على المقاعد البلاستيكية الصلبة في صالة المغادرة في المطار، لنُشاهد الطائرات من الجدار الزجاجي المرتفع. وسألتُها عما تُفكِّر فيه فابتسمت ابتسامةً رقيقة. وقالت: «كنتُ أفكِّر في أليجو، في ميدان هوم.» وتابعت: «أرض جَدي التي لا تزال الجَدة تعيش فيها. إنها أجمل بقعةٍ يا باراك. عندما أكون في ألمانيا ويكون الطقس باردًا في الخارج وأشعر بالوحدة أغمض عينيَّ في بعض الأحيان وأتخيَّل أنني هناك. في الأرض الفسيحة جالسة ومن حولي الأشجار الكبيرة التي زرعها جَدُّنا. أتخيَّل الجَدة وهي تتحدَّث وتخبرني بأشياءَ مُسلِّية، وأسمع البقرة وهي تمشي خلفنا، ونقر الدجاج على حدود الحقل، وأشمُّ رائحة النار في أكواخ إعداد الطعام. وتحت شجرة المانجو — بالقُرب من حقول الذرة — ترقد جثة أبينا …» كانت الطائرة قد بدأت استقبال الركَّاب. لكننا ظللنا جالسَيْن وأغمضَتْ أوما عينَيها وشدَّت على يدي. وقالت: «علينا أن نذهب إلى بلدنا» وتابعت: «علينا أن نعود إلى وطننا يا باراك ونراه هناك.»
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/12/
الفصل الثاني عشر
بذل رفيق كلَّ ما في وسعه لجعلِ المكان أنيقًا ومُنظمًا. ووُضِعت لافتة جديدة أعلى المدخل، وتُرك الباب مفتوحًا قليلًا للسماح بنفاذ ضوء الربيع إلى الداخل. ونُظِّفت الأرضيات وأُعيد ترتيب الأثاث في المكان. وكان رفيق يرتدي حلةً سوداء ورابطة عنقٍ جلدية سوداء، وكان حذاء الكونغوفو الذي يرتديه لامعًا لأقصى درجة. ولبضع دقائق ظلَّ شغله الشاغل هو طاولة طويلة قابلة للطيِّ موضوعة في أحد أركان الغرفة وهو يُوضح لبعضٍ من رجاله كيفية ترتيب الكعك وشراب البنش، أخذ يُحرِّك صورةَ هارولد المعلَّقة على الحائط يمينًا ويسارًا. سألني قائلًا: «أتبدو لك الصورة في وضعٍ مُستقيم؟» «نعم يا رفيق.» كان العمدة سيأتي لقصِّ شريط مركز خدمات مكتب العمدة للتدريب والتوظيف في روزلاند وافتتاحه. وبالطبع اعتُبر ذلك إنجازًا عظيمًا، ولمدة أسابيع ظلَّ رفيق يُطالب ببدء النشاط في هذا المبنى الذي كان يملكه. لكنه لم يكن الوحيد الذي طلب ذلك. فقد قال عضو مجلس المدينة إنه سيكون سعيدًا باستضافة العمدة في مكتبه. أما عضو مجلس الشيوخ عن الولاية — الذي كان أحد التابِعين السياسيين القُدامى الذي ارتكب خطأ عندما ساند أحد المرشحين البِيض في انتخابات العمدة السابقة — فقد وعد بأن يُساعدنا في الحصول على الأموال اللازمة لتنفيذ أيِّ مشروعٍ نُريده إذا جعلناه يشترك في برنامج الحفل. بالإضافة إلى ذلك اتصل القس سمولز ليقول إننا يمكن أن نساعد أنفسنا عن طريق السماح له بتقديم صديقه «الصالح هارولد». وكلما دخلتُ مكتب مشروع التنمية المحلية أعطتني السكرتيرة مجموعةً من أحدث الخطابات التي تلقَّتها. وقبل أن يرنَّ جرس الهاتف من جديدٍ قالت لي: «لقد أصبحتَ شخصيةً مشهورة بالفعل يا باراك.» نظرتُ إلى الجماهير الكبيرة التي تجمَّعت داخل مخزن رفيق — وكان أغلبهم من السياسيين والعالة الطفيليين — ووجدتُ أن جميعهم يختلِسون النظر إلى الباب كلَّ بضع دقائق، في حين أن رجال الشرطة المرتدِين ملابسَ مدنية يتحدَّثون في أجهزة اللاسلكي ويتفقَّدون المكان. وبينما أُجاهد لأشقَّ طريقي إلى الغرفة وجدتُ ويل وأنجيلا فانتحيتُ بهما جانبًا. «مستعدان؟» فأومآ برأسيهما بالإيجاب. «تذكَّرا أن عليكما إقناع هارولد بحضور اجتماعنا الحاشد في الخريف. على أن يكون ذلك في حضور المسئول عن جدول أعماله. وأخبِراه بكل المجهودات التي نبذلها هنا ولماذا …» في هذه اللحظة، تهامس الحضور وبعدَها خيَّم الصمت فجأةً على الجميع. وتوقَّف صفٌّ من السيارات وفُتح باب سيارة ليموزين، ومن وراء كتيبةٍ من رجال الشرطة رأيتُ هارولد ذاته. كان يرتدي حُلة زرقاء ومعطفًا مُجَعَّدًا واقيًا من المطر، أما شعره الأشيب فقد بدا أشعثَ بعض الشيء، وكانت قامته أقصر مما توقَّعت. ومع ذلك فقد كان شخصيةً ذات حضور طاغٍ، وكانت ابتسامته ابتسامةَ رجلٍ في أوج عظَمته. وفي الحال بدأ الجميع يهتفون: «هارولد! هارولد!» وحينها استدار العمدة نحوهم ورفع يده إطراءً لهم. وبدأ هارولد — بعد أن سبقته السيدة ألفاريز ورجال الشرطة في ملابسهم المدنية — في شقِّ طريقه عبر الجمهور المحتشِد. فمرَّ بجانب عضو مجلس الشيوخ وعضو مجلس المدينة. ثم مرَّ بجانب رفيق ثم بجانبي. ثم تجاوز يدَ القس سمولز الممدودة له. حتى توقَّف في النهاية أمام أنجيلا مباشرةً. قال لها «السيدة رايدر.» وحينها أخذ بيدِها وانحنى انحناءة بسيطة. واستكمل كلامه قائلًا: «تشرفتُ بلقائك. لقد سمعتُ أخبارًا ممتازة عن عملك.» بدت أنجيلا وكأنها على وشك فقدان الوعي. وعلى الفور سألها العمدة هل ستُعرِّفه على شركائها، ضحكت وارتبكت قبل أن تستجمِع رِباطة جأشها وتأخذه ليتعرَّف على القادة. وكانوا جميعًا يقفون وقفةً عسكرية وكأنهم فريق كشافة. وتعلو وجوههم الابتسامة العريضة نفسها. وعندما انتهى من التعرُّف عليهم مدَّ العمدة يدَه لأنجيلا واتجها معًا نحو الباب ولاحقتهما الجماهير. همست شيرلي لمنى في أذنها قائلةً: «أتُصدِّقين ما يحدث يا عزيزتي؟» استمرَّت هذه المراسم ١٥ دقيقة. وأغلقت الشرطة مبنَيين في شارع ميشيجان، ونُصبت منصة صغيرة أمام المكتب الذي كان سيُفتتح فيه المركز التابع لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب بعد قليل. عرَّفت أنجيلا هارولد على كل أعضاء الكنيسة الذين كان لهم دور في المشروع، إلى جانب السياسيين الموجودين بين الحضور. وبعدها ألقى ويل كلمةً عن مشروع التنمية المحلية. هنَّأنا العمدة على مشاركتنا المدنية، في حين كان عضو مجلس الشيوخ والقس سمولز وعضو مجلس المدينة يحاولون الوقوف في أماكنَ متميزة خلف العمدة وهم يبتسِمون ابتساماتٍ عريضة أمام عدسات المصورين الذين استأجروهم. وبعد أن قُص الشريط وانتهى الأمر أسرعت السيارة الليموزين إلى الحدث التالي، وتفرَّقت الجماهير على الفور، ولم يتبقَّ سوى بعض منَّا يقف في الشارع المليء بالقاذورات. اتجهتُ إلى أنجيلا وهي مشغولة بالتحدُّث مع شيرلي ومُنى. وكانت تقول لهما: «عندما سمعتُه يقول «السيدة رايدر» أُقسِم لكما إنَّني كنتُ على وشك الموت.» هزَّت شيرلي رأسها. وقالت: «إنني أعرف هذا الشعور.» قالت مُنى وهي ترفع لأعلى كاميراتها من طراز إنستاماتيك: «إن لدَينا الصور التي تشهد على صحة هذا الحدث.» حاولتُ أن أُقاطع حديثهنَّ. قلت: «هل حددتنَّ ميعادًا للاجتماع الحاشد؟» «بعد ذلك أخبرَني بأنني أبدو أصغرَ من أن تكون لديَّ ابنة عمرها ١٤ عامًا. أتتخيَّلون؟» كررتُ سؤالي مرةً أخرى: «هل وافق على حضور اجتماعنا الحاشد؟» نظر إليَّ الثلاثة بفراغ صبر. وقلن: «أي اجتماع حاشد؟» شعرتُ باليأس من هذا الردِّ وأخذتُ أمشي عبر الشارع بخطواتٍ غاضبة سريعة. وعندما وصلتُ إلى السيارة سمعت ويل آتيًا من خلفي، وقال: «إلى أين ستذهب بهذه السرعة؟» «لا أعرف، إلى أي مكان.» حاولت إشعال سيجارة لكنَّ الرياح ظلت تطفئ عود الثقاب. رميت علبة الكبريت على الأرض بغضبٍ عارم واستدرت إلى ويل. قلت: «أتعرف يا ويل؟» «ماذا؟» «إننا تافهون. نعم، إننا كذلك. فقد كانت لدَينا فرصة لأن نُوضح للعمدة أن لنا أنشطة حقيقية في المدينة، وأنه ينبغي له أن يأخُذ أمرَنا مأخذَ الجِد. لكن ماذا نفعل؟ إننا نتصرَّف وكأننا مجموعة من الأطفال المولَعِين بذوي الشهرة. حيث نقف ونبتسِم للمصورين ونضحك ونقلق في النهاية هل التُقِطت لنا صور معه أم لا …» «أتعني أنك لم تُلتقَط لك صورة معه؟» ابتسم ويل بابتهاجٍ وصوَّرَني بكاميرا فورية، ثم وضع يدَه على كتفي. وقال: «أتمانع أن أقول لك شيئًا يا باراك؟ إنك تحتاج إلى أن تهدأ قليلًا. إن ما تُسمِّيه تفاهةً كان ممتعًا لأقصى حدٍّ لأنجيلا وغيرها. ومن الآن حتى ١٠ سنوات قادمة سيظللنَ يتفاخرنَ به. ذلك لأنه أشعرهنَّ بأهميتهنَّ. وكنتَ أنت السبب في ذلك. لذا ماذا إذا نسينَ دعوة هارولد إلى الاجتماع الحاشد؟ سنتَّصِل به مرةً أخرى لنعرض عليه الأمر.» قفزتُ إلى سيارتي سريعًا وأنزلتُ زجاج النافذة. وأنا أقول: «فلتنسَ الأمر يا ويل. إنني مُحبط.» «نعم، أرى ذلك بوضوح. لكن عليك أن تسأل نفسك عن سبب شعورك الزائد بالإحباط.» «ما هو هذا السبب في اعتقادك؟» هزَّ ويل كتفيه. وقال: «أعتقد أنك لا تريد إلا أن تُنجِز عملًا ذا قيمة. لكنني أعتقد أيضًا أنك لا تشعر بالرضا إطلاقًا. فإنك تريد أن يحدث كل شيءٍ بسرعة. تريد ذلك كما لو أن لديك شيئًا تريد إثباته.» «إنني لا أريد إثبات أي شيءٍ يا ويل.» أدرتُ محرك السيارة وبدأتُ أبتعِد عنه إلا أنني لم أنطلِق بها بالسرعة التي تجعلني لا أسمع كلمات وداعِه. «ليس عليك أن تُثبت أيَّ شيءٍ لنا يا باراك. إننا نُحبك. والرب أيضًا يُحبك!» ••• انقضى قرابة عام منذ وصولي إلى شيكاغو وبدأ يؤتي جهدنا أخيرًا ثماره. وازداد عدد مجموعات ويل وماري التي تُعقَد اجتماعاتها في زوايا الشوارع إلى أن بلغ عددها ٥٠ مجموعة، إلى جانب أن هذه المجموعات نظَّمت حملاتٍ لتنظيف الأحياء، ورَعَتْ أيام المهنة (التي تُطرح فيها الوظائف للعاطِلين عن العمل) لشباب المنطقة، وحصلت على موافقات من عضو مجلس المدينة لتحسين خدمات الصرف الصحي. وفي أقصى الشمال طالبت السيدة كرينشو والسيدة ستيفينز هيئة إدارة المتنزَّهات بشيكاغو بتحسين وتجميل المتنزَّهات الخربة، وقد بدأ العمل في ذلك بالفعل، وجرى إصلاح الشوارع وبالوعات الصرف الصحي، وبدأ تشغيل برامج مراقبة الجريمة. وأُسِّس مركز خدمات التوظيف الجديد الذي كان فيما سبق مخزنًا فارغًا غير مُستخدَم. مع الوقت ازدادت الثقة بالمؤسسة وبي أنا شخصيًّا. وبدأتُ أتلقَّى دعواتٍ لحضور المناقشات العامة وإدارة ورش العمل، وعرف السياسيون المحليون اسمي وإن كانوا لم يُفلحوا في نُطقه كما ينبغي. وفيما يخصُّ قيادتنا فإنني لم أكن أُخطئ إلا قليلًا. وفي إحدى المرات سمعتُ شيرلي تُخبر قائدًا جديدًا عني ذات يوم قائلةً له: «كان يجب أن تراه عندما حضر لأول مرةٍ إلى هنا.» وتابعت قائلة: «كان مجرد صبي. لكنك عندما تنظر إليه الآن ستعتقِد أنه شخص مختلف.» كانت شيرلي تتحدَّث وكأنها أمٌّ فخورة بابنها، وبذلك أصبحتُ الابن البديل الذي عاد إلى رُشده بعد فترة من السلوك السيئ. إن الحصول على تقديرِ مَن أعمل معهم والتحسُّن الملموس الذي أراه في الحي من الأشياء التي يمكنني الاعتزاز بها. كان ينبغي أن يكون كافيًا. لكنَّ ما قاله ويل كان صحيحًا لأنني لم أرضَ بكل ذلك. ربما كان الأمر مُتعلقًا بزيارة أوما والأخبار التي أحضرتها معها عن أبي. ومع أنني شعرتُ ذات مرة بالحاجة إلى أن أعيش طبقًا لتوقُّعاته، فإنني شعرتُ في هذا الوقت كما لو كنت مُضطرًّا إلى أن أصلح كلَّ أخطائه. وكانت طبيعة هذه الأخطاء لا تزال غير واضحة في عقلي؛ فقد كنتُ لا أستطيع بَعْدُ قراءةَ معالم الطريق التي تُحذِّر من المنعطفات الخاطئة التي سلكها. وبسبب هذا الاضطراب ولأن الصورة التي رسمتُها له بقِيَت متناقضة للغاية — في بعض الأحيان تُوحي بشيءٍ وفي أحيان أخرى بشيءٍ آخر، دون أن تجمع بين الشيئين في آن — فإنني وجدتُ نفسي في لحظاتٍ مختلفة من اليوم أشعر كما لو كنت أعيش حياةً مُقدَّرة سلفًا كنتُ قد تخيلتُها من قبل، كما لو كنتُ أتَّبع أبي في طريق الخطأ وأنا سجين مأساته. إلى جانب كل ذلك كانت لديَّ مشكلاتي مع مارتي. فقد فصَلنا رسميًّا مجهوداتنا الذاتية أحدنا عن الآخر ذلك الربيع. ومنذ ذلك الحين كان يقضي معظم أوقاته في كنائس الضواحي، حيث اتضح أن الأبرشيين — السود منهم والبِيض على حدٍّ سواء — كانوا مُهتمِّين بموضوع التوظيف بصورةٍ أقل من اهتمامهم برحيل البِيض من الأحياء التي يقطنها السود، ومسألة انخفاض قِيَم العقارات التي سادت الجانب الجنوبي منذ عقد من الزمان. اتصفت هذه المسائل بصعوبتها؛ إذ كانت تحفل بالعنصرية والحساسية الزائدة التي كان يرى مارتي أنها مذمومة. لذا قرَّر أن يوقف هذا النشاط ويبدأ نشاطًا آخر من جديد. فعيَّن مُنظمًا آخر لأداء مُعظم المهام اليومية في الضواحي وأصبح مشغولًا بإنشاء منظمةٍ جديدة في جاري، وهي مدينة انهار فيها الاقتصاد منذ زمنٍ بعيد وكانت الأوضاع فيها سيئة للغاية — طبقًا لقول مارتي — لدرجةِ أنه لم يهتمَّ أحد هناك بلَون المنظِّم، وفي أحد الأيام طلب منِّي مارتي أن أذهب معه. «إن هذا التدريب ليس جيدًا لك. فالجانب الجنوبي شاسع للغاية، ومليء بعناصر التشتت، لكن ليس هذا خطأك. كان عليَّ أن أتفهَّم الموضوع بصورةٍ أفضلَ من ذلك.» «لا أستطيع أن أترك الأمر يا مارتي. لقد بدأتُ بالفعل من هنا.» نظر إليَّ بصبرٍ شديد. وقال: «اسمع يا باراك. إن إخلاصك مُثير للإعجاب. لكنك الآن في موقفٍ لا بد أن تهتمَّ فيه بأمر نجاحك الشخصي. وإن بقِيتَ هنا فسيكون مصيرك الفشل لا محالة. وقبل أن تُحقق أيَّ إنجازٍ حقيقي ستتخلَّى عن العمل التنظيمي.» كان مارتي قد خطَّط لكل شيء في عقله، مثل الوقت الذي ستستغرقه مسألة تعيين وتدريب مُنظِّمٍ بديلٍ عني، والحفاظ على ميزانية معقولة دون صرفها. وبينما كنتُ أستمع إليه وهو يعرض خططه خطر ببالي أنه لم تكن له أية صلةٍ شخصية بالناس أو بالمكان في سنواته الثلاث التي قضاها في المنطقة، وأن الشعور بالأُلفة والمودة لم يكن يحصل عليه إلا من زوجته الفاتنة وابنه الوسيم. وفي عمله كان ما يدفعه هو مجرد الفكرة التي يرمز إليها المصنع المغلق، لكنَّ الأمر كان أكبر من المصنع، وأكبر من أنجيلا أو ويل أو القساوسة الشاعرين بالوحدة الذين وافقوا على أن يعملوا معه. ربما كانت هذه الفكرة ستنطلق في أي مكان، لكن من وجهة نظر مارتي كان الأمر ببساطة مُتعلقًا بإيجاد الدمج الملائم للظروف والمزيج المناسب للعناصر. «مارتي.» «نعم؟» «لن أذهب إلى أي مكان.» في نهاية الأمر توصَّلنا إلى اتفاقٍ ينصُّ على أن يقدِّم لي الاستشارة التي كنت ما زلت في حاجة إليها إلى حدٍّ بعيد، وفي مقابل هذا العمل الاستشاري يحصل على أجرٍ يساعده في توفير الدعم المادي لعمله في مكانٍ آخر. وفي اجتماعاتنا الأسبوعية كان يُذكِّرني باختياري هذا وبأن إنجازاتي المتواضعة لا تشتمل على أية مخاطرة، وبأن الرجال الذين يرتدون ملابسَ أنيقة وسط المدينة لا يزالون في السلطة يُمارسون أنشطتها ويتخذون القرارات. وكان يقول: «إن الحياة قصيرة يا باراك.» ويتابع كلامه قائلًا: «وإن لم تحاول تغيير الأمور من حولك تغييرًا حقيقيًّا فربما تنساها.» نعم. التغيير الحقيقي! بدا هذا الأمر كهدفٍ سهل تحقيقه أيام الجامعة، وكامتداد لإرادتي الشخصية وإيمان أُمِّي، مثل زيادة متوسط درجاتي أو الإقلاع عن شُرب الخمور؛ إنها مسألة تحمُّل المسئولية وتحديد مهامها. والآن فقط — بعد مرور عام على بدء نشاط التنظيم — لم يبدُ أن هناك شيئًا واحدًا بسيطًا وسهلًا. من كان المسئول عن مكانٍ مثل ألتجيلد؟ هكذا وجدتُ نفسي أتساءل. لم يكن هناك رجال بِيض ماضغو تبغٍ من أمثال عضو الحزب الديمقراطي بول كونور، ولا مجرمون أقوياء لاحقَتْهم هيئة بنكرتون للأمن. لم يكن هناك سوى مجموعة صغيرة من الرجال والسيدات السُّود المتقدِّمين في العمر الذين اتصفوا بالخوف والقليل من الطمع أكثرَ من اتصافهم بالحقد أو القدرة على التخطيط للأمور عن عمد. ربما اشتملت هذه المجموعة على أفرادٍ مثل السيد أندرسون — مدير مشروع ألتجيلد — الأصلع المتقدم في العمر الذي لم يتبقَّ له سوى عامٍ واحد على التقاعد. أو السيدة ريس الممتلئة الجسم ذات الوجه المفتوح المسامِّ التي كانت رئيس مجلس المستأجِرِين الرسمي، وقضت معظم حياتها وهي تحاول الحفاظ على استمرار المميزات التي تحصل عليها من عملها؛ الراتب الذي كانت تتقاضاه بصفة شهرية ومقعد في المأدبة التي كانت تُقام سنويًّا، إلى جانب حصول ابنتها على شقةٍ رائعة وابن أخيها على وظيفةٍ في هيئة الإسكان بشيكاغو. أو القس جونسون — قس السيدة ريس ورئيس الكنيسة الكبيرة الوحيدة في ألتجيلد — الذي أوقفني عن الحديث عند رؤيتي للمرة الأولى والأخيرة عندما ذكرت كلمة «تنظيم». قال القس الجليل: «إن المشكلة لا تكمن في هيئة الإسكان بشيكاغو.» وتابع: «بل تكمن في الأساس في أن الفتيات هنا ينخرطنَ في كل أنواع الفجور.» قال لي بعض المستأجرين في ألتجيلد إن السيد أندرسون لم يُصلِح شققَ أحدٍ ممن يُعارضون السيدة ريس وقائمة المرشحين في أثناء انتخابات المكتب الاستشاري المحلي، وإن السيدة ريس كانت بذلك تابعةً للقس جونسون، وإن القس كان يملك مكتبًا لتقديم خدمات الحراسة الأمنية بموجب عقدٍ أُبرم مع هيئة الإسكان بشيكاغو. لم أستطِع تحديد هل ما قيل صحيح أم لا، أو هل سيُحدِث الأمرُ برمَّته فرقًا أم لا. إن هؤلاء الأفراد الثلاثة عكسوا آراء وتصرفات مُعظم مَن كانوا يعملون في ألتجيلد؛ المدرسين وإخصائيي علاج الإدمان ورجال الشرطة. كان المال هو السبب الذي دعا البعض للذهاب إلى ألتجيلد في حين كان للبعض الآخر رغبة حقيقية في تقديم يد المساعدة. وأيًّا كانت دوافعهم فإنهم اعترفوا في مرحلةٍ مُعينةٍ بشعورهم الجماعي بالملل الذي نخر في عظامهم. وفقدوا ثقتَهم السابقة بقُدرتهم على تغيير حالة التدهور التي رأوها في كل شيءٍ حولهم. وفي ظلِّ فقدان الثقة شعروا بفقدان القدرة على التمرُّد على كلِّ ما حدث لهم. وببطءٍ شديد تلاشت فكرة المسئولية — عن أنفسهم وعن الآخرين — وحلَّ محلها تواضُعُ توقعاتهم وكوميديا نابعة من المواقف السوداوية التي تعرَّضوا لها. كان ويل مُحقًّا إلى حدٍّ ما؛ فإنني شعرتُ أن هناك شيئًا لا بد من إثباته: إلى أهل ألتجيلد، إلى مارتي، إلى أبي، وإلى نفسي. ما فعلتُه كان له أهمية أثَّرت على أشياء أخرى. ولم أكن ساعيًا بجنونٍ وراء أوهامٍ يستحيل تحقيقُها. وفيما بعدُ عندما حاولتُ شرح بعض هذه الأمور إلى ويل ضحك وهزَّ رأسه مُفضِّلًا أن يعزو موقفي الغاضب يوم قصِّ الشريط إلى غيرةٍ صبيانية. وقال لي: «أرى أنك مثل الدِّيك الصغير يا باراك، وهارولد مثل الديك الكبير. فما حدث أن الدِّيك الكبير عندما حضر التفَّت جميع الدجاجات حوله ومنحْنَه كلَّ الاهتمام. مما جعل الدِّيك الصغير يُدرك أن عليه تعلُّم أشياء لم يكن يعرفها.» بدا ويل مُستمتعًا بالمقارنة التي عقدَها، وضحكتُ أنا أيضًا معه عندما ذكرَها. لكن بيني وبين نفسي علمتُ أنه أساء فهْم طموحاتي وأساء استيعابها. إن أكثرَ ما أردتُه في الواقع هو نجاح هارولد، ومثله مثل أبي الحقيقي، فإن العمدة — وإنجازاته — بدا وكأنه قد أوضح نطاقَ ما كان ممكنًا فعله، وأما مواهبه ونفوذه فكان لهما الفضل في تقييم آمالي. وفي أثناء سماعي له وهو يتحدَّث إلينا في هذا اليوم، وهو في قمة بهائه ومَرحِه، لم أستطِع فعْل أيِّ شيءٍ سوى التفكير في القيود المفروضة على هذا النفوذ. ربما استطاع هارولد أن يجعل الخدمات في المدينة أكثرَ عدلًا وإنصافًا. فقد حصل المتخصِّصون السُّود، الحاصلون على درجات علمية عالية، على حصصٍ أكبرَ من الأعمال في المدينة. وأصبح هناك مشرفون سُود على المدارس، ومأمور شرطة أسود ومدير أسود لهيئة الإسكان. وهكذا فإن وجود هارولد في السلطة قدَّم المواساة للناس، مِثلما فعل تديُّنُ ويل وقوميةُ رفيق. لكن بين طيات تألُّق النصر الذي حقَّقه هارولد في ألتجيلد أو أي مكانٍ آخر، لم يبدُ أن شيئًا واحدًا قد تغيَّر. لقد تساءلتُ هل فكَّر هارولد — بعيدًا عن دائرة الضوء — في هذه القيود. وهل شعر — مثل السيد أندرسون أو السيدة ريس أو أي عددٍ من المسئولين السود الآخرين الذين يتولَّون الآن مسئولية حكم الضواحي الفقيرة المكتظة بالسكان — بأنه مُقيَّد مثله مثل مَن يحكمهم، وبأنه وريث تاريخٍ بائس، وجزء من نظامٍ مُنغلق ليس به إلا القليل من العوامل المحفِّزة؛ نظام ظلَّ يفقد حماسَه كلَّ يومٍ وينحدِر إلى حالةٍ مُنخفضة المستوى من الثبات. تساءلتُ هل شعر هو أيضًا بأنه سجين القدَر. ••• كانت الدكتورة مارثا كوليار هي الشخص الذي تمكَّن في النهاية من انتشالي من حالة الجُبن التي عِشتُها. والجدير بالذكر أن مارثا كانت مديرة مدرسة كارفر — التي كانت إحدى المدرستَين الابتدائيتَين في ألتجيلد. وعندما تحدَّثت معها للمرة الأولى هاتفيًّا لتحديد موعدٍ معها لم تطرح عليَّ الكثير من الأسئلة. «يُمكنني أن أستغلَّ أية مساعدةٍ أحصل عليها.» وتابعت: «أراك في الثامنة والنصف.» كانت المدرسة على الحد الجنوبي لألتجيلد، واشتملت على ثلاثة مبانٍ ضخمة من الطوب صنعَت شكلَ حدوة حصان أحاطت بساحةٍ كبيرة مشتملة على حفرٍ مليئة بالقاذورات. عندما دخلتُ المدرسة أرشدني الحارس إلى المكتب الرئيسي الذي كانت فيه سيدة سوداء قوية البنية في منتصف العمر ترتدي زيًّا أزرقَ اللون وتتحدَّث إلى سيدةٍ أصغر سنًّا منها كانت عصبية وفي حالةٍ يُرثى لها. قالت الدكتورة كوليار وهي تضع ذراعها فوق كتف السيدة: «اذهبي الآن إلى المنزل واستريحي قليلًا. وأنا سأُجري بعض المكالمات الهاتفية، وأرى إن كان في مقدورنا اتخاذ الإجراءات الضرورية لتسوية الأمر.» أوصلَتِ السيدة إلى الباب واستدارت نحوي. قالت: «لا بد أنك أوباما. فلتتفضَّل هنا. أتشرب قهوة؟» قبل أن تُعطيني الفرصة لأن أردَّ اتجهت ناحية السكرتيرة. وقالت لها: «أعدي فنجانًا من القهوة للسيد أوباما. ألم يصِل عاملو طلاء الجدران بعد؟» هزَّت السكرتيرة رأسها وعبست الدكتورة كوليار. وقالت وأنا أتبعها إلى مكتبها: «امنعي أية مكالمات هاتفية عدا ما تستقبلينه من مهندس المباني عديم القيمة. أودُّ إخباره صراحة برأيي فيه.» كان مكتبها مفروشًا بأثاثٍ بسيط، وجُدرانه عارية إلا من بعض جوائز خدمات المجتمع القليلة المعلَّقة وصورة كبيرة لطفلٍ أسود مكتوب عليها «الربُّ لا يخلق أنجاسًا». سحبت الدكتورة كوليار مقعدًا وقالت لي: «إن الفتاة التي غادرت مكتبي الآن أمٌّ لأحد أبنائنا هنا في المدرسة. مدمن للمخدرات، وصديقها أُلقِي القبض عليه الليلة الماضية، لكنها غير قادرة على دفع الكفالة المطلوبة لإطلاق سراحه؛ لذا أخبِرني بما يمكن أن يفعله عملك التنظيمي لشخصٍ مثلها.» دخلت السكرتيرة ومعها القهوة التي طلبتها لي. قلتُ لها: «كنتُ آمُل أن تكون لديك بعض الاقتراحات.» «ليس لديَّ أيُّ اقتراحات سوى الإطاحة بهذا المكان وإعطاء الناس فرصةً ليبدءوا من جديد.» عمِلَت هذه السيدة مُدرسةً ٢٠ عامًا ومديرة مدرسة ١٠ أعوام، وكانت معتادة على المناقشات الحادة مع رؤسائها — الذين كانوا من البِيض فيما مضى وأصبح مُعظمهم من السود الآن — بخصوص الاعتمادات المالية والمناهج وسياسات التعيين. ومنذ أن تعيَّنَت في مدرسة كارفر أنشأت مركزًا لتعليم الأُمهات والأبناء، وظيفته تعليم الأمهات الشابَّات مع أبنائهنَّ في فصلٍ واحد. أوضحت دكتورة كوليار هذا الأمر بقولها: «تريد معظم الأمَّهات هنا الأفضل دائمًا لأبنائهنَّ.» وتابعت قائلة: «لكنهنَّ لا يعرفن كيف يوفِّرن ذلك لهم. لذا نُقدِّم لهنَّ الاستشارات الخاصة بالتغذية والرعاية الصحية وكيفية التعامُل مع التوتر. ونحن نُعلِّم منهنَّ مَن لا تستطيع القراءة حتى يتمكنَّ من القراءة لأطفالهنَّ في المنزل. وقدْر استطاعتنا نُساعِدهنَّ في الحصول على شهادةٍ تُعادل الثانوية العامة، أو نُعيِّنهن مساعداتٍ للمدرسين.» ارتشفَت دكتورة كوليار رشفة من فنجان القهوة. وأضافت: «إن ما لا نستطيع فِعْله هو تغيير البيئة التي يعود إليها هؤلاء الفتيات وأبنائهنَّ بعدما يخرجون من المدرسة يوميًّا. وعاجلًا أو آجلًا سيترك الأطفال المدرسة وتتوقَّف الأمهات عن الحضور …» رنَّ جرس هاتفها ليُخبرها بحضور عامل طلاء الجدران. قالت دكتورة كوليار وهي تنهض من مقعدها: «اسمع يا أوباما.» وتابعت: «فلتحضُر الأسبوع التالي لتتحدَّث مع مجموعة الأمهات. وحاول أن تعرِف ما يدور بعقولهنَّ. إنني لا أُشجِّعك على فعل ذلك الآن. لكن إذا ما اختلفت آراء الأمهات مع آرائك واحتججنَ بغضبٍ عارم فلن أستطيع إيقافهنَّ، أليس كذلك؟» ضحكتْ بابتهاجٍ ومشت معي حتى أوصلتني إلى المدخل، حيث كان هناك صفٌّ غير مُنتظم من الأطفال في الخامسة والسادسة من أعمارهم يقفون استعدادًا لدخول الفصل. لوَّح بعضهم لنا وابتسموا، وأخذ اثنان منهم كانا يقفان بالقُرب من مؤخرة الصف يدوران حول نفسيهما وذراعاهما قريبتان جدًّا من جانبيهما، وحاولت فتاةٌ صغيرة ضئيلة الحجم أن تنزع سترتها عنها وتُخرِجها من رأسها إلا أنها واجهت صعوبةً في إخراج ذراعَيها من كُمَّي السترة. وبينما كان يحاول المدرس أن يقودهم لصعود السُّلَّم فكَّرت في قدْر السعادة والثقة بالآخرين اللتَين بدَوا مُتَّسِمين بهما، وأنه على الرغم من المصاعب والمآسي التي عانوها — مثل الولادة المبكرة أو التعرُّض للإدمان وتجربة معظمهم القاسية للفقر — فإن السعادة التي وجدوها في تنقُّلهم من مكانٍ لآخر، والفضول الذي أظهروه عند التطلُّع إلى أي وجهٍ جديد كانا مماثِلَين لسعادة وفضول جميع الأطفال في شتَّى الأماكن. لقد جعلوني بالفعل أتذكَّر الكلمات التي قالتها ريجينا منذ سنوات في مكانٍ وزمان مختلفَين: «إن الأمر ليس متعلقًا بك.» قالت دكتورة كوليار: «أليسوا لُطفاء؟» «نعم إنهم كذلك بالفعل.» «إن التغيير سيحدُث لاحقًا. في غضون خمس سنوات، مع أن حدوثه يبدو وشيكًا في جميع الأحيان.» «ما هذا التغيير؟» «عندما تتوقَّف أعينهم عن الضحك. يمكن أن تظلَّ أصواتهم مسموعة، لكن إذا نظرتَ إلى الأعيُن فستجد أنها تُخبِّئ شيئًا ما داخلها.» ••• بدأتُ أقضي ساعاتٍ عديدة أسبوعيًّا مع هؤلاء الأطفال وآبائهم. كانت أمهاتهم جميعًا قد اقتربنَ من بلوغ سِن العشرين أو تجاوزنها بقليل، قضى معظم هؤلاء الأمهات حياتهنَّ في ألتجيلد وتربَّين على يدِ أمهاتٍ في سن المراهقة. لقد وَصَفنَ بغير حرجٍ الحملَ في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، وترْكَهنَّ مقاعد المدرسة، والروابط الضعيفة التي تربطهن بآباء أطفالهن والذين يَظهرون ويختفون من حياتهن وقتما شاءوا. وأخبرنني أيضًا عن تعايُشهن مع نظام الحياة الذي اشتمل في معظم حالاته على الانتظار؛ الانتظار لرؤية الإخصائي الاجتماعي، والانتظار في المكاتب لكي يصرفوا شيكات الرعاية الاجتماعية، والانتظار لركوب الأتوبيس للذهاب إلى أقرب سوبر ماركت يبعُد بمسافةِ خمسةِ أميالٍ لشراء حفَّاضات للأطفال بسعرٍ أرخص. برعَ هؤلاء الأمهات في استخدام ما يُساعدهنَّ في البقاء على قيد الحياة في عالمهنَّ المفروض عليهنَّ ولم يتذمَّرنَ من ذلك. مع أنهنَّ لم يكنَّ ساخرات؛ وهذا ما فاجأني. ولا يزال لديهنَّ طموحات. كانت المدرسة تضم فتياتٍ مثل ليندا لوري وبيرناديت لوري، الأختَين اللتين ساعدتهما الدكتورة كوليار في الحصول على شهاداتٍ تعادل الثانوية العامة. والآن كانت بيرناديت تُدرِّس في الجامعة المحلية، أما ليندا فإنها حملت مرةً أخرى ومكثت في المنزل لتعتني بابن بيرناديت — تايرون — وابنتها جويل، لكنها قالت إنها ستلتحِق بالجامعة هي الأخرى بمجرد أن يُولَد ابنها الجديد. بعد ذلك قالتا إنهما ستبحثان عن وظيفتَين في مجال إدارة الأغذية أو ربما السكرتارية. وبعدها ترحلان عن ألتجيلد. وذات مرةٍ عندما ذهبتُ إلى شقة ليندا أرتْني الأختان ألبومَ صور مليئًا بقصاصاتٍ مأخوذة من مجلة «بيتر هومز آند جاردنز». وأشارتا إلى المطابخ البيضاء البرَّاقة والأرضيات المصنوعة من الخشب الصلب، وأخبرتاني أنهما ستعيشان في منزلٍ كهذا في أحد الأيام. كما قالتا إن تايرون سوف يتلقَّى دروسًا في السباحة وجويل سترقُص البالية. في بعض الأحيان، وأنا أستمع إلى مثل هذه الأحلام البريئة، كنتُ أجد نفسي أحاول مقاومة الرغبة العارمة في أن أضمَّ هاتَين الفتاتَين وابنَيهما بين ذراعيَّ، وأن أتشبَّث بهم جميعًا ولا أسمح لأيٍّ منهم بالابتعاد عني. وفي الواقع أعتقد أن الفتاتَين شعرتا برغبتي هذه، وكانت ليندا بجمالها الأسمر المبهر ترتسِم على وجهها ابتسامة وهي تنظر إلى بيرناديت وتسألني عن سبب عدم زواجي حتى الآن. وكنتُ أردُّ عليها قائلًا: «أعتقد أنني لم أجد الزوجة المناسبة.» وكانت بيرناديت تمازح ليندا بالضرب على ذراعها وهي تقول: «توقَّفي عن قول ذلك! إنك تجعلين وجنتَي السيد أوباما تحمرَّان خجلًا.» وتضحكان معًا، وأُدرك حينها أنني بأسلوبي الخاص أبدو دون شكٍّ بريئًا لهما كما تبدوان كلاهما لي. كانت خُطتي بسيطة لمثل هؤلاء الأمَّهات. فلم نكن نملك بعدُ القوة لتغيير سياسة الرعاية الاجتماعية أو توفير وظائف محلية أو جلب أموالٍ أكثر لتمويل المدارس. لكن ما نستطيع فعْله هو البدء في تحسين الخدمات الأساسية في ألتجيلد، مثل إصلاح الحمامات والمدافئ والنوافذ. تخيلتُ أنه بتحقيق بعض النجاحات هناك يمكن أن يُكوِّن هؤلاء الأمَّهات بالفعل القاعدةَ الرئيسية لمؤسسةٍ مُستقلة للمستأجِرين. وفي ضوء هذه الاستراتيجية التي فكَّرت فيها وزَّعت مجموعةً من استمارات الشكاوى في اجتماع الأمهات التالي، وطلبتُ من كلٍّ منهنَّ أن يحصلنَ على آراء جيرانهنَّ في المبنى السكني الذي يَسكُنَّ فيه. ووافقنَ على هذه الخطة، لكن عندما انتهى الاجتماع اقتربت مني إحدى الأمهات — تُسمَّى سادي إيفانز — حاملةً في يدِها قصاصةً صغيرة من جريدة. قالت: «رأيتُ هذا الخبر في الجريدة بالأمس يا سيد أوباما.» وأضافت: «لا أعرف ماذا يعني لكنني أردتُ أن أعرف رأيك فيه.» كان هذا الخبر إشعارًا قانونيًّا منشورًا في القسم المبوَّب بالجريدة بخطٍّ صغير. وفحواه أن هيئة الإسكان بشيكاغو تطلُب من المقاولين المؤهلين تقديمَ عروضهم لإزالة مادة الأسبستوس من مكتب الإدارة في ألتجيلد. سألتُ الأمهات هل أُبلِغَت إحداهن بالتعرُّض المحتمل للأسبستوس. فهززنَ رءوسهنَّ بالنفي. سألَتْ ليندا: «أتعتقِد أن شُقَقنا بُنِيَت باستخدام هذه المادة؟» «لا أعرف. لكن بإمكاننا كشْف النقاب عن الأمر. مَن منكنَّ تريد الاتصال بالسيد أندرسون في المكتب الإداري؟» نظرتُ في أرجاء الغرفة، لكن لم يرفع أحدٌ يدَه. «فلتتطوَّع إحداكنَّ. لا أستطيع أن أجري الاتصال الهاتفي بنفسي. ذلك لأنني لا أعيش هنا.» وأخيرًا رفعت سادي يدَها. وقالت: «سأتصل أنا.» لم أكن أُفضِّل أن تكون سادي هي مَن تقوم بهذه المهمة. فهي سيدة قصيرة ضئيلة الحجم صوتها رفيع تبدو معه خجولة. كانت ترتدي فساتين لا يتجاوز طولُها ركبتَيها، وتحمل معها أينما ذهبت إنجيلًا له غلاف من الجلد. وعلى عكس الأُمهات الأُخريات كانت متزوجةً من شابٍّ كان يعمل موظفًا في أحد المتاجر نهارًا ويتدرَّب ليُصبح خادمًا في الكنيسة، ولم يكن للزوجَين تعامُلات مع أحدٍ خارج كنيستهما. كل هذه الأشياء جعلتها غيرَ مناسبةٍ من بين مجموعة الأمهات ولم أكن متأكدًا من أنها ستكون جادةً بصورة كافية للتعامُل مع هيئة الإسكان بشيكاغو. لكنني عندما عُدت إلى المكتب ذلك اليوم أخبرتني السكرتيرة بأن سادي حدَّدت موعدًا بالفعل مع السيد أندرسون وأنها اتصلت بالأمَّهات كافةً لإخبارهنَّ بهذا الأمر. وفي صباح اليوم التالي وجدتُ سادي واقفة بالخارج أمام مكتب إدارة ألتجيلد، تبدو كاليتيمة، بمفردها في الضباب الرطب. قالت لي وهي تنظر إلى ساعتها: «إنك لا تنتظِر مجيء أحدٍ يا سيد أوباما، أليس كذلك؟» «ناديني باراك. استمعي إليَّ، ألا تزالين تُريدين فعْل هذا الأمر؟ إن لم تكوني تشعرين بالارتياح بخصوصه يمكننا إعادةُ تحديد ميعادٍ آخر للاجتماع إلى أن نجد أُمًّا أخرى تقوم به بدلًا منك.» «لا أعرف، هل تعتقد أنه يمكن أن تُواجهني أية مشكلات؟» «أعتقد أن لدَيك الحقَّ في سرْد المعلومات التي يمكن أن تؤثِّر على صحتك. لكنَّ ذلك لا يعني أن السيد أندرسون سيُفكِّر بهذه الطريقة. سأقف بجانبك وكذلك سائر الأمهات، لكن عليكِ فعْل ما يبدو منطقيًّا لكِ.» جذبت سادي مِعطفها إلى الأمام ونظرت مرةً أخرى إلى ساعتها. وقالت وهي تتَّجه فجأة ناحية الباب: «يجب ألا نجعل السيد أندرسون ينتظر أكثرَ من ذلك.» كان واضحًا من التعبير المرسوم على وجه السيد أندرسون عندما دخلْنا مكتبه أنه فوجئ بمجيئي. طلب منا الجلوس وسألَنا هل نُريد احتساء قهوة. قالت سادي: «لا شكرًا كثيرًا.» وتابعت: «إنني أقدِّر فعليًّا موافقتك على مقابلتنا في غضون هذا الوقت القصير.» أخرجت سادي — وهي لا تزال ترتدي معطفها — الإشعار القانوني وقدَّمته بحذرٍ على مكتب السيد أندرسون. وقالت: «رأت بعض الأمهات في المدرسة هذا الخبر وكنَّا قلقِين … حسنًا أردْنا أن نعرف إن كانت مادة الأسبستوس قد استُخدِمت في بناء شُقَقنا.» ألقى السيد أندرسون نظرةً متعجلة على الخبر، ووضعه جانبًا. قال: «لا داعي للقلق يا سيدة إيفانز. وتابع: «إننا نُجدِّد هذا المبنى وبعد أن أزال المقاولون أحد الجدران وجدوا الأسبستوس في الأنابيب. وقد أُزيلت المادة كإجراءٍ وقائي.» «حسنًا … ألا يجب أن يُتَّخذ الإجراء الوقائي ذاته في شُقَقنا، أعني ألا تُوجَد مادة الأسبستوس في شُقَقنا أيضًا؟» وهكذا نُصب الفخ وتلاقت عينا السيد أندرسون مع عينيَّ. وقلتُ لنفسي إن التعتيم يمكن أن يحظى بشهرةٍ مماثلة للشهرة التي تُثيرها قضية الأسبستوس. ولا شك في أن الشهرة ستجعل مهمتي أسهل. ومع ذلك، فإنني عندما رأيتُ السيد أندرسون يتململ على مقعده محاولًا تقدير الموقف أردتُ أن أُسدي إليه النصيحة بأن يتوقَّف عما سيحاول فعْله. لقد كان لديَّ شعورٌ ما بأن روحه مألوفة لي؛ روح رجل مُتقدِّم في السن خدعته الحياة وكانت له نظرة كثيرًا ما رأيتُها في عينَي جَدي. وإلى حدٍّ ما أردتُ أن يعرف السيد أندرسون أنني فهمتُ المأزق الذي وقع فيه، وأردتُ أن أُخبره بأنه ليس عليه إلا أن يشرح أن المشكلات في ألتجيلد كانت موجودة قبل وصوله، ويعترف بأنه هو أيضًا في حاجةٍ إلى المساعدة، فربما يظهر عندئذٍ أيُّ حلٍّ لهذه المشكلة. على أنني لم أتفوَّه ببنت شفة، وانصرف نظر السيد أندرسون عني. وقال لسادي: «لا، سيدة إيفانز.» وتابع: «لا يُوجَد الأسبستوس في الوحدات السكنية. ذلك لأننا وضعنا هذه الوحدات تحت الاختبار بصورةٍ كاملة.» قالت سادي: «حسنًا، هذا أمرٌ مريح. شكرًا لك. أشكرك كثيرًا.» بعد ذلك نهضت من مقعدها وصافحت السيد أندرسون وتوجَّهت ناحية الباب. لكنها عادت إليه مرةً أخرى عندما كنتُ على وشك قول شيء. قالت سادي: «عذرًا.» وتابعت: «نسيتُ أن أسألك عن شيء. إن الأمهات الأخريات … حسنًا … يُردن الاطلاع على نسخةٍ من هذه الاختبارات. أقصد النتائج. والهدف من ذلك أن نجعل الجميع مُطمئنين على الأطفال.» تلعثم السيد أندرسون وهو يقول: «إنني … إن النتائج جميعها موجودة في مكتب وسط المدينة.» وتابع: «محتفظ بها في الأرشيف هناك.» «أتعتقد أن باستطاعتك إحضار نسخةٍ منها الأسبوع القادم؟» «نعم، حسنًا … بالطبع. سأرى ما الذي أستطيع فعله. موعدنا الأسبوع القادم.» عندما خرجنا من المكتب أخبرتُ سادي أنها أحسنَت صنعًا. «هل تعتقد أنه يقول الحقيقة؟» «لا أعرف. سنرى قريبًا.» ••• مرَّ أسبوع. واتصلَتْ سادي بمكتب السيد أندرسون وأُخبرت بأن إحضار نتائج الاختبارات سيستغرق أسبوعًا آخر. مرَّ أسبوعان ولم يردَّ أحدٌ على مكالمات سادي. حاولنا الاتصال بالسيدة ريس ثم مدير المقاطعة لهيئة الإسكان بشيكاغو، ثم أرسلنا خطابًا إلى المدير التنفيذي لهيئة الإسكان بشيكاغو، إلى جانب نسخةٍ أخرى منه إلى مكتب العمدة. ولم نحصل على أي رد. سألت بيرناديت: «ماذا سنفعل الآن؟» «سنذهب إلى وسط المدينة. إذا لم تأتِ النتائج إلينا فسنذهب نحن لإحضارها.» في اليوم التالي خطَّطنا لما سنقوم به. وكتبْنا خطابًا آخر إلى المدير التنفيذي لهيئة الإسكان بشيكاغو نُخبره فيه بأننا سنكون في مكتبه بعد يومَين للحصول على إجاباتٍ وافية بخصوص الأسئلة المطروحة بشأن الأسبستوس. ثم أصدرنا بيانًا صحفيًّا مُقتضبًا. وعاد أطفال مدرسة كارفر إلى منازلهم بمنشورٍ ملصق في ستراتهم يحثُّ أمهاتهم على الاشتراك معنا في الأمر. وقضت سادي وليندا وبيرناديت معظم ساعات المساء يتَّصلنَ هاتفيًّا بجيرانهنَّ. وعندما جاء يوم الحساب لم أجد سوى ثمانية أشخاص في الأتوبيس الأصفر الذي كان واقفًا أمام المدرسة. وقفتُ أنا وبيرناديت في موقف السيارات محاولِين اجتذاب أمَّهات أُخريات وقت حضورهنَّ لأخذ أولادهنَّ من المدرسة. لكنهنَّ قُلنَ إن لديهنَّ مواعيدَ مع الأطباء أو لا يستطعنَ إيجاد جليسات أطفال ليجلسنَ معهن وقتَ غيابهنَّ. إلى جانب ذلك لم يهتم بعضهن بإبداء أي اعتذارات، بل مررنَ بجانبنا كما لو كنَّا مُتسولين نستجدي الطعام والمال. وعندما وصلت أنجيلا ومنى وشيرلي لمعرفة كيف تطوَّرت الأمور أصررتُ على أن يركبنَ معنا لتقديم دعم معنوي. حيث بدا الجميع مُحبطًا ما عدا تايرون وجويل اللذَين كانا مشغولين برسم تعبيراتٍ مُضحكة على وجوههما وهما ينظران إلى السيد لوكاس، الأب الوحيد في المجموعة. اتجهت الدكتورة كوليار نحوي ووقفت بجانبي. قلت: «أعتقد أننا اكتملنا.» قالت لي: «أفضل مما توقَّعت.» وتابعت: «إنه جيش أوباما.» «هذا صحيح.» قالت وهي تُربِّت على ظهري: «حظ سعيد.» تحرَّك الأتوبيس ومرَّ بجانب مُستوقد حرق القمامة القديم ومصنع رايرسون ستيل للصلب، واتجه نحو مُتنزَّه جاكسون بارك، ومنه إلى طريق ليك شور درايف. وعندما اقتربنا من وسط المدينة وزَّعتُ نسخةً من الخطة وطلبتُ من الجميع قراءتها بدقة. وفي أثناء انتظاري انتهاءهم من القراءة لاحظتُ أن السيد لوكاس قاطبُ الجبين وعابسٌ. وفي الواقع كان السيد لوكاس رجلًا لطيفًا قصيرَ القامة، وكان يتلعثم قليلًا في حديثه ويعمل في ألتجيلد في وظائف لبعض الوقت، وكان يساعد أمَّ أطفاله قدْر استطاعته. اتجهتُ نحوَه وسألتُه هل ضايقه شيء. قال بهدوء: «لا أُجيد القراءة.» وبعدها نظرنا معًا إلى الصفحة الممتلئة بالكلمات. قلت له: «لا تُوجَد مشكلة.» سرتُ نحو مقدمة الأتوبيس وتابعت: «استمعوا إليَّ جميعًا! سنقرأ الخطة معًا للتأكد من أننا فهمناها على نحوٍ صائب. ما مطلبنا؟» «عقْد اجتماع مع المدير!» «أين؟» «في ألتجيلد!» «ماذا لو قالوا إنهم سيردُّون علينا لاحقًا؟» «إننا نريد الرد الآن!» «ماذا إن فعلوا شيئًا لا نتوقَّعه؟» «إننا يدٌ واحدة!» صاح تايرون: «محتالون!» كان مقرُّ مكتب هيئة الإسكان بشيكاغو في مبنًى رمادي قوي في وسط مدينة شيكاغو. نزل الجميع من الأتوبيس ودخلنا الرَّدهة وازدحم المصعد بنا. وفي الدور الرابع دخلنا قاعة الانتظار المضاءة إضاءةً ساطعة حيث كانت تجلس موظفة استقبال خلف مكتبٍ فخم. قالت وهي لا تكاد ترفع عينَيها من المجلة التي كانت تتصفحها: «هل أستطيع مساعدتكم؟» قالت سادي: «إننا نريد مقابلة المدير من فضلك.» «هل لديكم موعد معه؟» «إنه …» استدارت سادي نحوي، فقلت: «إنه يعلم أننا قادمون.» «حسنًا، إنه ليس بمكتبه الآن.» قالت سادي: «من فضلكِ اعرضي الأمر على نائبه.» نظرت موظفة الاستقبال لنا نظرةً عدائية، لكننا أصرَرْنا على موقفنا. فقالت في النهاية: «تفضلوا بالجلوس.» جلس أولياء أمور الأطفال وعمَّ الصمتُ الجميع. وأشعلت شيرلي سيجارة لكن أنجيلا ضربتها في ضلوعها بمرفقها. «من المفترض أننا مهمومون بأمر الصحة، هل تتذكَّرين؟» همهمت شيرلي بتذمُّر وهي تقول: «فات أوان ذلك لي»، لكنها أعادت علبة السجائر إلى حقيبتها مرةً أخرى. وخرج مجموعة من الرجال في ملابسهم الرسمية من الباب الموجود خلف مكتب موظفة الاستقبال ونظروا إلينا نظرةً سريعة في طريقهم إلى المصعد. همست ليندا في أذن بيرناديت وردت لها الأخرى الهمسة. فقلتُ بصوتٍ مرتفع: «بمَ تتهامسان؟» قهقهتا. وقالت بيرناديت: «أشعر بأنني في انتظار مقابلة مديرة المدرسة.» قلت: «أعيروني أسماعكم.» وتابعت: «إنهم يؤسِّسون هذه المكاتب الكبيرة لغرس الشعور بالخوف بداخلكم. ولكن تذكَّروا أن هذه هيئة «عامة». الناس الذين يعملون هنا مسئولون أمامكم.» قالت لنا موظفة الاستقبال بصوتٍ عالٍ يُطابق علو صوتي: «عذرًا.» وتابعت: «لقد أُخبرتُ بأن المدير لن يكون قادرًا على مقابلتكم اليوم. عليكم إخبار السيد أندرسون في ألتجيلد بأية مشكلاتٍ تُعانونها.» قالت بيرناديت: «استمعي إليَّ.» وتابعت: «لقد قابلنا السيد أندرسون بالفعل. وإذا لم يكن المدير موجودًا الآن فإننا نريد مقابلة نائبه.» «إنني آسفة لكن هذا غير ممكن.» وتابعت: «إذا لم تُغادروا المكتب الآن فسأُضطر إلى استدعاء الأمن.» في هذه اللحظة، فُتحت أبواب المصعد ودخل العديد من مصوري التليفزيون والعديد من الصحفيين. وسألني أحدُهم قائلًا: «هل هذا هو احتجاج بشأن الأسبستوس؟» أشرت إلى سادي. وقلت: «هذه هي المتحدثة الرسمية عنا.» بدأ طاقم المصورين في الاستعداد وأخرج الصحفيون مذكراتهم. واستأذنَتْ منهم سادي وأخذتني جانبًا. قالت: «لا أريد التحدُّث أمام الكاميرات.» «لماذا؟» «لا أعرف. لكنني لم أظهر في التليفزيون من قبل.» «ستُبلين بلاءً حسنًا.» وفي غضون بضع دقائق بدأتِ الكاميرات تُصوِّر وعقدت سادي بصوتها المرتعد قليلًا أول مؤتمرٍ صحفي لها. وعندما بدأت الرد على الأسئلة أسرعت سيدة — ترتدي حلةً حمراء وتضع بإفراط زينة على رموشها — تجاه منطقة الاستقبال. ابتسمَت هذه السيدة بتحفُّظ لسادي وقدَّمت نفسها على أنها الآنسة برودناكس، مساعدة المدير. وقالت: «إنني آسفةٌ جدًّا لعدم وجود المدير. وتابعت قائلة: «تفضَّلوا معي وأنا متأكدة من أننا سنحلُّ هذا الأمر.» صاحت صحفية: «هل تحتوي الوحدات السكنية التي تُقدِّمها هيئة الإسكان بشيكاغو على الأسبستوس؟» «هل سيقابل المدير الأمهات؟» صاحت الآنسة برودناكس من خلف الصحفية: «إننا معنيون بالمحصلة النهائية الأفضل للقاطنين هناك.» بعد ذلك تَبِعناها إلى غرفةٍ كبيرة بها العديد من المسئولين العابسين الذين كانوا جالِسين بالفعل حول طاولة اجتماعات. علَّقت الآنسة برودناكس على مدى لُطف الأطفال وعرضت على الجميع احتساءَ القهوة وتناوُلَ الكعك. قالت ليندا: «لا نريد تناول الكعك.» وأردفت: «إننا نُريد إجابات عن أسئلتنا.» وهكذا كان الحال. دون أن أنطق بأيةِ كلمةٍ اكتشف أولياء الأمور أنه لم يُجْرَ أيُّ اختبار، ووُعِدوا بأن الاختبارات ستبدأ فعليًّا بنهاية هذا اليوم. بالإضافة إلى ذلك اتفقوا على عقد اجتماع مع المدير وحصلوا على مجموعةٍ من بطاقات التعارُف، وشكروا الآنسة برودناكس على منحهم وقتَها. أُعلن عن يوم الاجتماع إلى الصحافة قبل أن يزدحِم بنا المصعد للنزول لأسفل لركوب الحافلة. وعندما خرجنا إلى الشارع أصرَّت ليندا على أن أدعو الجميع — بما فيهم سائق الحافلة — على فشار بالكراميل، وعندما بدأ الأتوبيس يتحرَّك حاولتُ تقييم خُطتنا، موضحًا أهمية الإعداد وكيف تكاتف الجميع في عملٍ جماعي كفريق. قالت: «هل رأيتم وجهَ السيدة عندما رأت الكاميرات؟» «وهل رأيتموها وهي تتعامل بلطفٍ مع الأطفال؟ كلُّ ما هنالك أنها تحاول أن تكون لطيفةً معنا حتى لا نطرح أيَّ سؤال.» «ألم تكن سادي رائعة؟ لقد جعلتِ كلًّا منا يشعر بالفخر يا سادي.» «اتصلتُ بابنة عمِّي للتأكُّد من أن جهاز الفيديو الخاص بها يعمل. إننا سنظهر على شاشة التليفزيون.» حاولتُ أن أمنع الجميع من أن يتحدثوا فورًا، لكنَّ مُنى شدَّتني من قميصي. وقالت لي: «توقَّف عن ذلك يا باراك. أسمعت؟» وأعطتني كيس فشار. وقالت: «تناوله.» جلستُ بجانبها. وحمل السيد لوكاس الأطفال على حجره لمشاهدة نافورة باكينجهام. وفي حين كنتُ أمضغ حبَّات الفشار الصلبة وأنظر إلى البحيرة — الهادئة الفيروزية اللون — حاولت استدعاء لحظةٍ أكثرَ إرضاءً لذاتي. ••• لقد تغيَّرتُ نتيجةً لهذه الرحلة تغيُّرًا جوهريًّا. كان تغيُّرًا مُهمًّا ليس لأنه غيَّر ظروفي المادية الملموسة بطريقةٍ أو بأخرى (حيث الثروة والأمان والشهرة)، لكن لأنه أشار ضمنًا إلى ما يمكن أن يكون مُتاحًا، ومِن ثَم دفعني وقدَّم لي الدعم والتشجيع الكافِيَين — بصرف النظر عن الشعور الحالي بالفرحة البالِغة وأي شعورٍ تالٍ بالإحباط — لاستعادة شيءٍ كان في حوزتي من قبل، حتى ولو لبرهةٍ قصيرة. كان الطريق الذي سلكناه بالحافلة هو ما شجَّعني على الاستمرار. وأعتقِد أنه ربما لا يزال يُشجعني. كانت الشهرة أمرًا لطيفًا دون شك. وفي مساء اليوم التالي لعودتنا من مكتب هيئة الإسكان بشيكاغو كان وجه سادي يظهر على جميع شاشات التليفزيون. واكتشفَتِ الصحافة — التي اشتمَّت رائحة المشكلات — أن مشروعًا آخرَ بالجانب الجنوبي استُخدِمت فيه أنابيب مبطنة بالأسبستوس الفاسد. وبدأ أعضاء مجلس المدينة يُطالبون بإجراء تحقيقات فورية. واتصل المحامون للإعداد لرفع دعوى قضائية جماعية. على النقيض من ذلك، فإن الأمر، من وجهة نظري، كان بعيدًا كلَّ البعد عن هذه الجوانب، في أثناء إعدادنا للاجتماع مع مدير هيئة الإسكان بشيكاغو بدأتُ أُلاحظ حدوث أشياء رائعة. فقد بدأ أولياء الأمور يتحدَّثون عن أفكارٍ مُتعلقة بحملاتٍ مستقبلية. واشترك بالفعل أولياء أمور جُدد. ووُضِع الاستفتاء الذي خطَّطنا له فيما سبق موضعَ التنفيذ، وبدأت ليندا — التي اقتربت من وضْع طفلِها — تتهادى في مِشيَتِها وهي مُنتفخة البطن من منزلٍ لآخر لتجميع استمارات الشكاوى، وشرَح السيد لوكاس لجيرانه كيف يملئون هذه الاستمارات بصورةٍ صحيحة، مع أنه هو نفسه كان يعجز عن قراءة هذه الشكاوى. حتى إن هؤلاء الذين عارضوا مجهوداتنا بدءوا يُغيِّرون آراءهم ويشتركون معنا؛ فقد وافقت السيدة ريس على دعم الحدث وسمح القس جونسون لبعض أعضائه بالإعلان عن حملتنا في خدمة الأحد. وهكذا فجَّرت خطوات سادي المحدودة والصادقة ينابيع الأمل لتسمح للناس في ألتجيلد باستعادة سلطةٍ كانت في حوزتهم من البداية. كان من المقرَّر أن يُعقَد الاجتماع في صالة الألعاب الرياضية بكنيسة أوار ليدي لأنها كانت المبنى الوحيد في ألتجيلد الذي كان بمقدوره استيعاب ٣٠٠ شخصٍ أملنا في حضورهم. وصل القادة إلى مكان الاجتماع مبكرًا عن الموعد بساعةٍ وراجعنا مطالبنا للمرة الأخيرة، التي تمثلت في أن تتعاون مجموعة من السكان مع هيئة الإسكان بشيكاغو لضمان استمرار مراقبة وجود الأسبستوس وعدم انتشار استخدامه، وأن تضع الهيئة جدولًا زمنيًّا صارمًا لإجراء الإصلاحات. وفي أثناء مناقشة مجموعةٍ من التفاصيل في اللحظات الأخيرة لفت نظري عامل الصيانة هنري إلى نظام تكبير الصوت. «ما المشكلة؟» «إن النظام لا يعمل. يبدو أن هناك اختلالًا في تشغيل الدائرة الكهربية أو ما شابه.» «إذن أليس لدَينا ميكروفون؟» «نعم. وبذلك ستُضطر إلى استخدام هذا.» أشار عامل الصيانة إلى مُكبِّر صوت واحد بحجم حقيبة سفر صغيرة ملحق به ميكروفون حالته سيئة مُعلَّق بسلكٍ واحد يكاد أن ينقطع. جاءت سادي وليندا بجانبي وحملقتا في الصندوق البدائي. وقالت ليندا: «لا بد أنك تمزح.» ضربتُ على المايك. وقلت: «سيفي بالغرض، وليس عليكما إلا أن تتحدَّثا فيه.» بعد ذلك قلت وأنا أنظر إلى مكبِّر الصوت: «لكن حاوِلا ألا يمسك المدير بالميكروفون أكثرَ من اللازم. وإلا فإنه سيتحدَّث لساعات. امسكا به حتى لا يتحدَّث إلا بعد أن تطرحا عليه الأسئلة. تمامًا مثل أوبرا وينفري.» قالت سادي وهي تنظر إلى ساعتها: «إن لم يأتِ أحد فلن نحتاج إلى ميكروفون.» حضر الناس. حضروا من جميع المناطق في الجاردنز؛ الشيوخ والمراهقون والأطفال. وفي تمام السابعة كان قد وصل ٥٠٠ شخص، وفي السابعة و١٥ دقيقة وصل عدد الحضور إلى ٧٠٠ فرد. وبدأ أعضاء أطقم العمل في التليفزيون يضعون كاميراتهم وطلب منَّا السياسيون المحليُّون الحاضرون أن نُعطيهم فرصةً لإثارة حماسة الجمهور. أما مارتي الذي جاء لمشاهدة الحدث فإنه لم يستطِع الاحتفاظ بهدوئه وعدم التحدُّث. قال: «لقد حققتَ شيئًا هنا بالفعل يا باراك. وهؤلاء الناس جاهزون للتحرك.» كان كل شيءٍ على ما يُرام ما عدا مشكلة واحدة، وهي أن المدير لم يكن قد وصل بعد. وقالت الآنسة برودناكس إنه عالق بالطريق؛ لذا قررْنا أن نبدأ بأول جزءٍ من برنامج العمل المحدَّد. وبعد انتهاء المناقشة التمهيدية كانت عقارب الساعة قد أعلنت تمام الثامنة. وسمعتُ الناس يتذمَّرون وهم يحرِّكون الهواء حول وجوههم في هذا المكان الحار الخالي من الهواء النقي. بالقُرب من الباب رأيتُ مارتي وهو يحاول قيادة الجمهور في أنشودة. وانتحيتُ به جانبًا: «ماذا تفعل؟» «إنك تفقد الناس. ولا بد من فعلِ شيء للإبقاء على حماسِهم.» «اجلس من فضلك.» كنتُ على وشك إلغاء الاجتماع والتحدُّث مع الآنسة برودناكس بهذا الخصوص، عندما علت الضوضاء من الجزء الخلفي لصالة الألعاب الرياضية ودخل المدير من الباب ومن حوله عددٌ من المساعِدين. كان رجلًا أسودَ اللون أنيقًا متوسط البنية في بداية الأربعينيات من عمره. أخذ يُعدِّل رابطة عنقه ويتَّجه نحو مقدمة الغرفة وعلى وجهه ملامح الجِدية. قالت سادي في الميكروفون: «مرحبًا.» وأضافت: «إن لدَينا جمهورًا كبيرًا في حاجةٍ إلى التحدُّث معك.» صفَّق الحضور وسمعنا بعض صيحات الاستهجان. ودارت أضواء التليفزيون. قالت سادي: «إننا مجتمعون هنا الليلة للتحدُّث بشأن مشكلةٍ تهدِّد صحة أطفالنا. لكن قبل أن نتحدَّث عن الأسبستوس نحتاج إلى التعامُل مع المشكلات التي ننصهِر معها يوميًّا في بوتقةٍ واحدة. ليندا؟» سلَّمَت سادي الميكروفون إلى ليندا التي استدارت ناحية المدير وأشارت إلى مجموعة استمارات الشكاوى. «السيد المدير، إننا لا نتوقَّع جميعنا في ألتجيلد حدوث معجزات. لكننا نتوقَّع الحصول على الخدمات الأساسية. هذا هو كلُّ ما في الأمر. الخدمات الأساسية. والآن فإن هؤلاء الناس أتعبوا أنفسهم في ملء هذه الاستمارات بنظامٍ ووضوح شديدَين لذِكر الأشياء التي طالما طالبوا هيئة الإسكان بشيكاغو بإصلاحها، لكنَّ يد الإصلاح لم تطُلها قط. لذا فإن سؤالنا الآن هو: هل تقبل التعاون معنا — هذه الليلة أمام كل هؤلاء السكان — لإجراء هذه الإصلاحات؟» في الواقع، الأحداث التي جرت في اللحظات التالية مختلطة في ذاكرتي وغير واضحة. لكن حسبما أتذكَّر فإن ليندا قدَّمت الميكروفون إلى المدير ليُدلي بإجابته، وعندما اقترب من الميكروفون أخذته ليندا مرةً أخرى. وقالت: «فلتكن إجابتك بنعم أو لا من فضلك.» ذكر المدير شيئًا أوحى بأنه سيرد بأسلوبه الخاص ومدَّ يدَه مرةً أخرى لأخْذِ المايك. لكنَّ ليندا سحبَتْه تجاهها هذه المرة أيضًا، وفي هذه المرة فقط بدا الأمر وكأنه استهزاءٌ ما بالرجل مثله مثل حركة الطفل الذي يغيظ أحدَ أقرانه ببسكويت الآيس كريم. حاولتُ أن أُلوِّح إلى ليندا لتتغاضى عما قُلته قبل الاجتماع بخصوص الميكروفون وتُعطيه للمدير، لكنني كنتُ واقفًا في المؤخرة بعيدًا جدًّا عنها. وفي الوقت نفسه أمسك المدير بسلك المايك وللحظةٍ نشأ نزاعٌ بين المسئول الشهير والسيدة الحامل التي كانت ترتدي بلوزةً وبنطلونًا ضيقَين. ومن خلفهما وقفت سادي ثابتة دون حراك، وجهها لامع وعيناها واسعتان. بدأ الجمهور — وهم غير فاهمين ما يحدث — في الصياح، بعضهم في وجه المدير والبعض الآخر في وجه ليندا. بعد ذلك … حدث هرجٌ ومرَج. أخلى المدير سبيل سلك الميكروفون، واتَّجه نحو باب الخروج. وأسرع الناس الجالسون بالقُرب من الباب وراءه لكنَّه انطلق سريعًا. جريت وراءه، وعندما تمكنتُ من الخروج بشِقِّ الأنفس كان المدير قد أمَّن نفسه وركب سيارته الليموزين التي أحاطتها أعدادٌ كبيرة من الناس، الذين وضع بعضهم وجوههم أمام زجاج النوافذ الملوَّن وضحك بعضهم الآخر، وتذمَّر آخرون ووقف معظمهم في أماكنهم مذهولين. أخذت السيارة تتقدَّم ببطءٍ شديد، بمقدار بوصةٍ في كل حركة إلى الأمام، إلى أن فُتح الطريق أمامها، وأسرعت — متحركةً بصعوبة فوق الشارع المليء بالحفر — وتخطَّت الرصيف إلى أن اختفت عن الأنظار. عُدت إلى صالة الألعاب الرياضية ماشيًا وأنا في حالةٍ من الذهول والاضطراب وأمامي جماهير غفيرة عائدة إلى منازلها. وبالقُرب من الباب تجمَّع الناس في دائرةٍ صغيرة حول شابٍّ يرتدي سترةً جلدية بُنية اللون، عرفتُ أنه مساعد عضو مجلس المدينة. كان هذا الشاب يقول للناس من حوله: «إن هذا من عمل فردولياك. لا بد أنكم رأيتم الرجل الأبيض وهو يُثير الناس. إنهم يحاولون تشويه صورة هارولد.» بعد هذا التجمُّع ببضعة أقدامٍ رأيتُ السيدة ريس والعديد من مُساعديها وهي تتحدَّث. أشارت إليَّ بكلماتٍ لاذعة: «أرأيتَ ما فعلت!» وتابعت: «إن هذا ما يحدث عندما تحاول إشراك هؤلاء الشباب في الأمر. إنك تسبَّبتَ في إحراج أهل الجاردنز في التليفزيون وكل وسائل الإعلام. ورآنا ذوو البشرة البيضاء ونحن نتعامل مثل الزنوج الحمقى! تمامًا مثلما توقَّعوا منَّا.» لم يتبقَّ داخل مكان عقد الاجتماع سوى بعض أولياء الأمور. ووقفَتْ ليندا في أحد الأركان تبكي بحرقة. اتجهتُ نحوَها ووضعتُ ذراعي حول كتفها. وقلت: «هل أنت بخير؟» قالت وهي تحاول إرجاع دموعها: «إنني مُحرجة للغاية.» وتابعت: «لا أعرف ماذا حدث يا باراك. في ظل حضور كل هؤلاء الناس … يبدو أنني دائمًا ما أُفسد الأمور.» قلتُ لها: «إنك لا تفسدين الأمور. وإذا كان هناك مَن فعل ذلك فلا بد أنه أنا.» جمعتُ الآخرين حولها وحاولتُ أن أُشجِّعهم. وقلتُ إن عدد الحضور كان هائلًا، وهذا يعني أن الناس كانوا مُستعدِّين للمشاركة وأن معظمهم لا يزالون يدعمون مجهوداتنا. ولا بد أن نتعلَّم من أخطائنا. قالت شيرلي: «ومِن المؤكَّد أن المدير الآن يعرِف مَن نكون.» أثارت هذه الجملة بعض الضحكات الواهنة. وقالت سادي إنها مُضطرة للعودة إلى المنزل، أما أنا فقد أخبرتُ المجموعة أن باستطاعتي ترتيبَ المكان. وعندما شاهدتُ بيرناديت وهي تحمل تايرون نائمًا بذراعٍ واحدة وتشعُر بالتعب من ثقل وزنه وهي تتجوَّل في المكان، شعرتُ بتقلُّصٍ في معدتي. ربَّتت دكتورة كوليار على كتفي. وسألتني: «إذن مَن يستطيع أن يخفِّف عنك ما تشعر به؟» هززتُ رأسي. «لقد أقبلتَ على المخاطرة أملًا في تحقيقِ ما تريد، وستتحسَّن الأحوال بين الحين والآخر.» «لكنَّ النظرات التي تعلو وجوههم …» قالت كوليار: «لا تقلق.» وتابعت: «إنهم صامدون. لكن ليس كما يبدو — بما فيهم أنت ونحن جميعًا. وهم سيتغلبون على المشكلة. ذلك لأن حدوث شيءٍ كهذا يُعَدُّ جزءًا من بلوغ مرحلة النضج. وفي بعض الأحيان تكون هذه المرحلة مؤلمة.» ••• كان يمكن أن تصبح النتائج العكسية أسوأ. لكن لأننا بدأنا الاجتماع في وقتٍ مُتأخِّر عن الوقت المحدَّد له فلم تستطِع سوى محطة تليفزيونية واحدة إعادة عرض تلك الحرب بين ليندا والمدير. وعلَّقت إحدى الصحف صباحًا على الإحباط الذي شعر به السكان نتيجةَ استجابة هيئة الإسكان البطيئة لمشكلة الأسبستوس وتأخَّر المدير مساء الاجتماع. وفي الواقع فإنه كان باستطاعتنا أن نُعلن أن الاجتماع كان نصرًا من نواحٍ عدة؛ ففي الأسبوع التالي رأى البعض في منطقة الجاردنز رجالًا يرتدون ملابسَ واقية وأقنعة يمنعون تسرُّب الأسبستوس الذي هدَّد بإلحاقِ مخاطرَ فورية. وأعلنت هيئة الإسكان بشيكاغو أنها طالبت وزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأمريكية بإيداع عدة ملايين من الدولارات في صناديق التمويل الطارئة لعمليات الإصلاح. ساعدت هذه الامتيازات في رفع الروح المعنوية لبعض أولياء الأمور، وبعد بضعة أسابيع من تضميد جراحنا والخروج من حالة الإحباط التي عشنا فيها بدأنا تنظيم اجتماعٍ آخرَ للتأكد من أن هيئة الإسكان أوفت بالتزاماتها. وعلى الأقل في ألتجيلد فقط، لم أستطِع أن أزعزع شعورهم بأن نافذة الاحتمالات التي لم تكد تُفتَح إلا لوقتٍ وجيز أُغلِقت وبعنفٍ مرةً أخرى. استمرت ليندا وبيرناديت والسيد لوكاس في العمل في مشروع التنمية المحلية، وإن كان على مضض، إخلاصًا منهم لي أكثر من إخلاصهم بعضهم لبعض. أمَّا عن السكان الآخرين الذين اشتركوا معنا في الأسابيع السابقة للاجتماع فإنهم أقلعوا عن المشاركة. ورفضت السيدة ريس التحدُّث معنا نهائيًّا. وفي حين لاحظ بعض الناس اتهاماتها لنا ولأساليبنا ودوافعنا فإن الشجار الذي حدث فقط هو الذي أكَّد الشكَّ بين السكان في أن المشاركة النشطة مهما كان قدْرها لن تُغيِّر أحوالهم، إلا أنها ربما تُسبِّب مشكلاتٍ هم في غنًى عنها. بعد قُرابة شهرٍ من عمليات الإصلاح المبدئية تقابلنا مع وزارة الإسكان والتنمية الحضرية لمحاولة إقناع المسئولين بشأن طلب الميزانية الخاصة بهيئة الإسكان بشيكاغو. وإلى جانب صناديق التمويل الطارئة لعمليات الإصلاح طالبت هيئة الإسكان بشيكاغو المسئولين الفيدراليِّين بأكثر من مليار دولار لإجراء الإصلاحات الأساسية على المشاريع في جميع أنحاء المدينة. وأخذ رجلٌ أبيضُ طويلُ القامة حازمٌ يعمل في وزارة الإسكان والتنمية الحضرية يقرأ المبالِغ المُطالب بها. «دعوني أكن واضحًا معكم.» وتابع: «إن هيئة الإسكان بشيكاغو ليست أمامها أية فرصة في الحصول حتى على نصفِ ما طالبت به. ولا نستطيع أن نفعل شيئًا إلا إزالة الأسبستوس من المباني. أو تركيب مواسير جديدة وبناء أسطح للمنازل عند الحاجة. لكن في الواقع لا يمكنكما الحصول على المطلبَين.» قالت بيرناديت: «إذن فإنك تُخبرنا أننا بعد كل ذلك سنكون في حالٍ أسوأ مما كنَّا عليها.» «حسنًا، ليس بالضبط. لكن تلك هي الأولويات المتاحة أمامنا للميزانية القادمة من واشنطن هذه الأيام. أنا آسف.» رفعت بيرناديت تايرون على حجْرها. وقالت: «أخبِره بذلك.» قرَّرت سادي ألا تشترك معنا في هذا الاجتماع. واتصلت بي لتُخبرني أنها قرَّرت أن تتوقَّف عن العمل في مشروع التنمية المحلية. «لا يعتقد زوجي أنها فكرة جيدة؛ أن أقضي كلَّ هذا الوقت في العمل بدلًا من أن أعتني بعائلتي. ويقول إن الشهرة جعلتني مُتكبرة … وإنني أصبحت مُتعجرفة.» اقترحتُ عليها أنها لا بد أن تظلَّ معنا ما دامت عائلتها تعيش في الجاردنز. لكنها قالت: «لن يتغيَّر شيءٌ يا سيد أوباما.» وتابعت: «إننا لن نُركِّز إلا على ادخار أموالنا حتى نستطيع الانتقال من هنا سريعًا قدْرَ استطاعتنا.»
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/13/
الفصل الثالث عشر
«ما الدنيا إلا مكان.» «ماذا؟ أتقول ما الدنيا إلا مكان؟» «نعم هذا هو ما أقوله.» عُدنا إلى السيارة بعد تناول العشاء في الهايد بارك وكان جوني في حالةٍ مزاجية سعيدة دفعَته للتحدُّث دون تحفُّظ. وعادةً ما يكون كذلك خاصةً بعد تناول وجبة رائعة واحتساء الخمر. في أول لقاء لي به — عندما كان لا يزال يعمل مع إحدى جماعات المجتمع المدني في وسط المدينة — بدأ يشرح لي العلاقة بين موسيقى الجاز والأديان الشرقية، وبعدها انحرف فجأةً للحديث عن مؤخرات السيدات السوداوات، ثم انتقل بعدها الحديث لسياسة البنك المركزي الأمريكي. في هذه اللحظات كانت تتَّسِع عيناه وتتسارع وتيرة حديثه ويتألق وجهه المستدير الملتحي بدهشةٍ طفولية. وكان ذلك جزءًا من سببِ تعييني لجوني؛ المتمثل — حسب اعتقادي — في فضوله وتقديره للأشياء المُنافية للعقل. لقد كان فيلسوفَ المآسي. قال لي جوني: «سأضرب لك مثلًا.» وتابع: «منذ بضعة أيام ذهبتُ لحضور اجتماعٍ في مقر ولاية إلينوي. وبالطبع إنك تعلم كيف أن هذا المبنى مفتوح من المنتصف، أليس كذلك … بالإضافة إلى شكل الرَّدهة الكبيرة وما إلى ذلك. حسنًا، تصادف تأخُّر الرجل الذي كان من المفترض أن أقابله، فحدث — وأنا واقف أنظر إلى القاعة من الطابَق الثاني عشر ومتمعِّن في الفن المعماري الذي استُخدِم في البناء — أن طارت جثةٌ أمام عينيَّ على حين غِرة ساقطة على الأرض. كان حادث انتحار.» «إنك لم تذكر لي شيئًا بخصوص هذا الأمر.» «نعم، لا أعرف كيف أقول لك، إن هذا الحادث أثَّر فيَّ بصورةٍ كبيرة. تخيَّل أنني في هذا الارتفاع استطعتُ سماعَ صوت ارتطام الجثة بالأرض وكأنني بجانبها تمامًا. كم كان رهيبًا ذلك الصوت! وبعدما سقطت الجثة، وسرعان ما اندفع موظفو المبنى إلى درابزين السُّلَّم لرؤيةِ ما حدث. وكنا جميعًا ننظر لأسفل فتأكَّدنا أن الجثة راقدة على الأرض، منكمشة حول نفسِها وبلا حراك. وبدأ الناس يصرخون ويُغطُّون أعيُنَهم بأيديهم. لكنَّ الشيء الغريب هو رجوعهم إلى الدرابزين مرةً أخرى للنظر من جديد. ثم يصرخون ويغطُّون أعيُنهم من جديد. والسؤال هو لماذا يفعلون ذلك؟ وماذا كانوا يتوقَّعون أن يجدوا عندما عادوا لينظروا في المرة الثانية؟ لكن كما تعلم فالناس غرباء. ونحن لا نستطيع التحكُّم في أنفسنا في مثل هذه المواقف المروعة … على أية حال، جاء رجال الشرطة وطوَّقوا المكان وأخذوا الجثة بعيدًا. وبدأ عمال النظافة في المبنى يُنظِّفون المكان بالمكنسة. هذا دون استخدام أية أدوات خاصة؛ فقط مكنسة وممسحة. كانوا يكنسون حياة. وفي قرابة خمس دقائق انتهت عملية النظافة. وبدا الأمر منطقيًّا على ما أعتقد … أقصد أن الأمر بدا وكأنهم ليسوا في حاجةٍ إلى أية معدَّات أو سترات خاصة أو شيء من هذا القبيل. لكنَّ هذا جعلني أُفكِّر في شعوري لو كنتُ واحدًا من هؤلاء العمَّال وأنا أُنظِّف المكان من أشلاء أحد الأشخاص. لا بد أن يُنظِّف أحد الأشخاص المكان، أليس كذلك؟ لكن ماذا سيكون شعورك وأنت تتناول عشاءك في المساء بعدما أدَّيتَ هذه المهمة؟» «مَن قفز؟» «هذا موضوع آخر يا باراك!» أخذ جوني نفَسًا من سيجارته وتصاعدت دوائر الدخان من فمه. وقال: «كانت فتاة بيضاء صغيرة، ربما في السادسة أو السابعة عشرة من عمرها، وكانت تُشبه عازفي موسيقى البانك روك، إلى جانب أن شعرها كان أزرقَ اللون وكانت تضع حلقةً في أنفها. بعد فترةٍ تساءلتُ عما كانت تُفكِّر فيه عندما كانت في المصعد. أقصد أنه لا بد أن أفرادًا آخرين كانوا بجانبها وهي في طريقها لأعلى. ربما أمعنوا النظر إليها واستخلصوا أنها غريبة الأطوار، ثم عادوا إلى التفكير في شئونهم الخاصة. هذه الشئون تشمل الترقِّي الوظيفي أو في مباراة فريق شيكاغو بولز لكرة السلة أو غير ذلك. وفي كل هذه الأثناء كانت الفتاة واقفة بجانبهم، وكل هذا الألم يعتصِرها. لا بد أن ما بداخلها كان ألمًا هائلًا لأنها قبل أن تقفز مباشرةً حتمًا كانت تنظر لأسفل وتعرف أن ما ستفعله سيؤلمها.» أطفأ جوني السيجارة. وقال: «إذن هذا هو ما أقوله يا باراك. تمثَّلت بانوراما الحياة بأكملها في هذا الحدث. أشياء مجنونة تحدُث من حولنا. وتجد نفسك تتساءل: هل تحدث هذه الأشياء في مكانٍ آخر؟ وهل كانت لها سابقة من قبل؟ ألم تسأل نفسك هذه الأسئلة إطلاقًا؟» أعدتُ ترديد عبارته الأولى: «ما الدنيا إلا مكان.» «انظر هناك! إنه أمرٌ جِديٌّ حقًّا.» كنا قد وصلنا تقريبًا إلى سيارة جوني عندما سمعنا فرقعةً صغيرة لم تستمر وقتًا يُذكر، مثل فرقعة البالون. نظرنا في اتجاه الصوت ورأينا شابًّا يظهر من أحد الأركان ويتقدَّم في اتجاهنا في خطٍّ مائل. لا أتذكَّر بوضوحٍ ملامحه وماذا كان يرتدي، مع أني لاحظتُ أن عمره لا يتخطى الخامسة عشرة. ولا أتذكَّر إلا أنه جرى بخطواتٍ يائسة ودبَّت قدماه بحذائه الخفيف على الرصيف بلا صوت تقريبًا وتحرَّكت أطرافه الطويلة الرفيعة بقوة وعنف وتضخَّم صدره كما لو كان يحاول التحرُّر من حبلٍ وهمي ملفوف حوله. انبطح جوني على أرضٍ عشبية أمام إحدى الشقق، وسرعان ما حذوتُ حذوه. وبعد ثوانٍ قليلة ظهر صبيَّان آخران في الركن نفسه يجريان بأقصى سرعة. لوَّح أحدهما بمسدسٍ صغير، وكان قصير القامة وإلى حدٍّ ما مُمتلئ القوام ويرتدي بنطلونًا مطويًّا حول الكاحلَين. أطلق هذا الصبيُّ ثلاث طلقات نارية في اتجاه الصبي الأول دون أن يتوقَّف محاولًا أن يُصيبه. وبعد أن أدرك أنه لم يُصِبْه مشى ببطءٍ واضعًا السلاح تحت قميصه. وبجانبه جاء زميله النحيف الكبير الأذنين. قال الصبي النحيف: «حقيرٌ غبي!» ثم بصق بارتياح، وضحك الاثنان معًا قبل الاستمرار في المشي إلى أسفل الشارع، وكان لجسدَيهما ظلَّان قصيران ممتلئان على الأسفلت. ••• جاء الخريف التالي والشتاء الذي تلاه. وتعافيتُ من الشعور باليأس والإحباط الناتج عن حملة الأسبستوس وتعاملتُ مع قضايا أخرى وقادة آخرين. وساعد وجود جوني في التخفيف عني من ضغط العمل وكانت ميزانيتنا مُستقرة، وبذلك فإن ما أضعته في حماسة الشباب استطعتُ تعويضه بالخبرة العملية. وفي الواقع ربما كانت الألفة المتزايدة مع المكان — إلى جانب خبرة الزمان — هي التي منحتني الشعور بأن هناك شيئًا مختلفًا يحدث لأطفال الجانب الجنوبي في ذلك الربيع عام ١٩٨٧م؛ جرى تخطِّي حدودٍ خفية، وعادت تظهر صفحة من صفحات القُبح. لم يكن هناك شيء مُحدَّد استطعتُ الإشارة إليه أو إحصائيات حاسمة، فلم يكن هناك شيء مختلف عن حوادث إطلاق النار من السيارات المتحركة، وصافرات عربات الإسعاف، والأصوات الصادرة ليلًا من الأحياء التي هجرها ساكنوها وتركوها أرضًا خصبة للمُخدِّرات وحروب العصابات والسيارات الهاربة بسرعة الريح، والتي نادرًا ما كانت الشرطة أو الصحافة تتجرأ على دخولها حتى يُعثَر على جثةٍ مُلقاة على الرصيف، وبِرك الدم المبعثر بغير انتظام. في أماكنَ مثلَ ألتجيلد تتناقل سجلات السجون من الآباء إلى الأبناء على مدارِ أكثرَ من جيل، وفي أوائل أيامي في شيكاغو رأيتُ جماعاتٍ صغيرة من الصبية — في الخامسة أو السادسة عشرة من عمرهم — يعيشون في زوايا شارع ميشيجان أو شارع هولستيد، مُغطِّين رءوسهم وأعناقهم، وأحذيتهم مفكوكة الرباط ويضربون بأرجلهم الأرض في إيقاعٍ غيرِ مُنظَّم في شهور السنة الباردة، وفي الصيف يرتدون قمصانًا، ويتصلون من الهواتف العامة على مَن يتصل بهم على أجهزة الاستدعاء التليفوني الخاصة بهم، على أن هذه الجماعة الصغيرة سرعان ما ينفرط عِقدها عندما تَعبر سيارات الشرطة بجانبهم بِصمتِها المباغِت. كان التغيُّر الذي شعرتُ به أكثرَ من تغيُّرٍ في الحالة العامة، مثله مثل الشعور بالكهرباء الصادرة من عاصفةٍ على وشْك أن تهُبَّ. وقد شعرتُ به وأنا عائد إلى المنزل ذات مساء عندما رأيت أربعة صبيةٍ طوال القامة يمشون بجانب مبنًى سكني محاط بالأشجار بكسلٍ شديد ويقطعون صفًّا من الشتلات الصغيرة التي كان زوجان مُسنَّان قد انتهيا للتوِّ من زراعتها أمام منزلهما. شعرت به كلما نظرت إلى أعين الشباب الجالسين على كراسي متحركةٍ الذين بدءوا يظهرون في الشوارع في هذا الربيع؛ هؤلاء الشباب الذين أصابهم الشلل وهم في ريعان الشباب والذين إذا نظرت إلى أعيُنهم وجدتها خاليةً من أيِّ دليل على التأثُّر بحالهم، كانت نظرات أعينهم هادئة وقاسية وتخيف أكثرَ مما تُلهِم. وهذا هو الشيء الجديد؛ أعني التوصُّل إلى توازنٍ من نوع جديد بين الأمل والخوف، الشعور الذي يشترك فيه الكبار والشباب على حدٍّ سواء بأن بعض أولادنا — إن لم يكن معظمهم — كانوا ينحرفون عن بَرِّ الأمان. حتى إن أمضوا كلَّ حياتهم في الجانب الجنوبي مثل جوني فقد لاحظوا هذا التغيير. قال لي في أحد الأيام ونحن جالسان في شقته نحتسي الجِعَة: «إنني لم أرَ شيئًا مثل ذلك مطلقًا يا باراك.» وتابع: «أقصد أن الظروف كانت قاسية وأنا في مراحل نُضجي، لكن كانت هناك حدود. كنا نُسيء التصرُّف ونتشاجر، لكن في حضور الآخرين في المنزل إذا رآك شخصٌ أكبرُ سنًّا وأنت تتحدَّث بصوتٍ مرتفعٍ أو تسيء التصرُّف كانوا يوبِّخونك. وكان مُعظمنا يستمِع إليهم ويحترمهم. أتفهم ما أعني؟ ولكن الآن، في ظل انتشار المخدرات والأسلحة اختفى كل ذلك. لا تظن أن الصبية كلهم يحملون مُسدسات. فربما لا يحملها إلا واحد منهم أو اثنان. وفي هذا التجمُّع يقول أحدهم للآخر شيئًا فيرد عليه آخر برصاصةٍ ويُرديه قتيلًا! وعندما يسمع الناس قصصًا من هذا القبيل لا يصنعون شيئًا حتى محاولة التحدُّث إلى هؤلاء الصبية. وبذلك بدأنا نُعمِّم في حديثنا عنهم مثلما يفعل البِيض. وعندما نراهم مُتمركزين في أحد الأماكن نتخذ طريقًا آخرَ بعيدًا عنهم. حتى إن الأطفال المتميزين يبدءون بعد فترةٍ يُدركون أنه لن يَعتني بهم أحد. لذا يقومون هم بهذه المهمة ويعتنون بأنفسهم. وخلاصة القول إنه سيكون لديك أطفال في الثانية عشرة من عمرهم يضعون قوانينهم الخاصة.» احتسى جوني رشفةً من الجِعَة وتجمَّعت الرغوة فوق شاربه. وأكمل حديثه: «إنني لا أعرف يا باراك. أحيانًا أخاف منهم. لا بدَّ للمرء أن يخشى من شخصٍ لا يهتمُّ بأي شيء. لا بد أن يفعل ذلك مهما كان صغيرًا.» بعد أن عُدتُ إلى شقتي فكَّرتُ فيما قاله جوني. هل كنتُ أخاف منهم؟ لمْ أعتقد ذلك … على الأقل ليس بالطريقة التي قصدها جوني. وعند تفكيري في ألتجيلد وأحوال المناطق الأخرى التي من العسير العيش فيها، كانت مخاوفي دائمًا تعتمِل داخل نفسي، مخاوفي القديمة المتعلقة بعدم الانتماء. ولم تخطر ببالي مُطلقًا فكرة الإيذاء البدني. والأمر نفسه انطبق على الفرْق الذي قدَّمه جوني بين الأطفال المتميزين والأطفال العدوانيين لأن هذا الفرْق لم يبدُ منطقيًّا لي. وبدا الأمر مُعتمدًا على افتراض تَعارُضٍ مع تجربتي مُتمثِّل في أن الأطفال ربما يكونون إلى حدٍّ ما قد وضعوا شروط تطورهم. فكَّرتُ في ابن بيرناديت البالغ من العمر خمسة أعوام وهو يجري مُسرعًا فرحًا في شوارع ألتجيلد غير المستوية بين مبنى معالجة مياه الصرف الصحي ومقلب النفايات. أين موقعه في دائرة الخير؟ إذا انتهى به الأمر وهو عضو في عصابة أو مسجون، هل هذا سيُثبِت وجوده إلى حدٍّ ما أم سيُعتبر خارجًا عن القانون، أم سيكون ذلك نتيجةً للبيئة غير الملائمة التي عاش فيها؟ وماذا عن كايل: كيف كان يمكن لأحدٍ تفسيرُ ما مرَّ به؟ اتكأتُ إلى الخلف على كرسيي مُفكِّرًا في ابن روبي الذي أتمَّ السادسة عشرة فقط. ولم يزِدْه العامان التاليان لوصولي إلى شيكاغو سوى العديدِ من البوصات طولًا وكُبْرِ حجمٍ وظهورِ أثرٍ قليل فوق شفته العُليا تمهيدًا للشارب. كان لا يزال مُؤدبًا في تعامُله معي ولا يزال مُستعدًّا للتحدُّث معي بخصوص فريق شيكاغو بولز لكرة السلة. وقال لي إن هذا العام قاد جوردن الفريق إلى النهائيات. لكن كلما ذهبتُ لزيارتهما أجِدْه قد غادر المنزل للتوِّ أو خرج مع أصدقائه. وفي بعض الليالي كانت روبي تتصل بي في المنزل للتحدُّث عنه وتُخبرني كيف أنها لم تَعُد تعرف أين يذهب، وكيف أصبحت درجاته تنخفض في المدرسة، وكيف يفعل أشياء ويُخفيها عنها، وأن باب غرفته كان دائمًا مغلقًا. كنتُ أطمئنها دائمًا بقولي: «لا تقلقي، كنتُ أسوأ بكثير عندما كنتُ في مثل عمره.» لكنني لا أعتقد أنها صدَّقت هذه الحقيقة، على أن مجرد سماع هذه الكلمات كان يبدو وكأنه يجعلها تشعر بحالٍ أفضل. وفي أحد الأيام حاولتُ معرفةَ ما يفكِّر فيه كايل وما ينوي فعْله، فدعوته ليُصاحبني للعب كرة السلة في صالة الألعاب الرياضية بجامعة شيكاغو. كان هادئًا في معظم الطريق إلى هايد بارك محاولًا منعي طرْح أيِّ سؤالٍ بإصدار أصواتٍ مُتذمِّرة أو هز كتفيه. لكنني سألته ألا يزال يُفكِّر في الالتحاق بالقوات الجوية، فهزَّ رأسه وقال إنه سيظل في شيكاغو ويبحث عن وظيفةٍ ويحصل على مركزٍ مرموق في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك سألته لماذا غيَّر رأيه فقال إن القوات الجوية لن تسمح أبدًا لرجلٍ أسودَ بقيادة طائرة. نظرتُ إليه بغضب. وقلت له: «مَن أخبرك بهذا الهراء؟» هزَّ كايل كتفَيه: «لستُ في حاجةٍ لأن يُخبرني أحدٌ بذلك. الأمر دومًا ما يسير على هذا النحو.» «هذا تفكير خاطئ. إن بوسعِكَ فعْل ما تريد إذا كنتَ مُستعدًّا لأن تبذلَ ما في استطاعتك لفعله.» ابتسم كايل ابتسامةً مصطنعة، وأدار وجهه ناحية النافذة وتركَتْ أنفاسه بصمات على الزجاج. وقال: «حسنًا، كم عدد الطيارين السود الذين تعرفهم؟» لم تكن صالة الألعاب الرياضية مزدحمةً عندما وصلنا، واضطُرِرنا إلى انتظار انتهاء مباراة واحدة قبل أن ندخل إلى الملعب. وكان ذلك بعد أن مرَّ على الأقل ستة أشهر على آخر مرةٍ لعبتُ فيها كرة السلة وأصبح للسجائر تأثيرها علي؛ في الشوط الأول من المباراة نجح اللاعب الذي يُراقبني في انتزاع الكرة مني دون مخالفة إلا أنني طالبتُ الحكَم بأن يحتسب مخالفةً مما جعل اللاعبين الجالِسين على حدود الملعب يَصيحون بسخرية. وفي الشوط الثاني مشيتُ على خط مُنتصف الملعب وأنا أشعر بدوار خفيف. حتى أتجنَّب التعرُّض لإحراجٍ أكثرَ من ذلك قرَّرتُ أن أخرج في الشوط الثالث وأشاهد كايل وهو يلعب. لم يكن أداؤه سيئًا، لكنه كان يُراقب لاعبًا يتجاوزني في العمر ببضع سنوات، كان يعمل ممرِّضًا في مُستشفًى، وكان قصير القامة، لكن أداءه في الملعب عنيف وسريع جدًّا. وبعد بضع لعبات أصبح واضحًا أن الرجل عرف طريقةَ لعبِ كايل. وبعد أن أحرز ثلاث نقاط على التوالي بدأ يتحدَّث معه الحديث المعتاد. «ألا تستطيع أن تلعب أفضل من ذلك أيها الصبي؟ كيف ستسمح لرجلٍ كبير مثلي بأن يجعل صورتك بهذا السوء؟» لم يردَّ كايل عليه لكن اللعب بينهما أصبح عنيفًا. وعندما تحرَّك الرجل تجاه السلة ارتطم به كايل بشدة فوقع الرجل على الأرض. وبعدها ألقى الرجل الكرة تجاه صدر كايل، ثم استدار ناحية أحد زملائه. وقال: «أترى؟ هذا الوضيع لا يستطيع الدفاع …» على حين غِرة ودون سابق إنذار استدار كايل. ولَكَمَ فَكَّ الرجل بقبضة يدِهِ وأسقطه على الأرض. جريتُ إلى الملعب بعد أن أبعد اللاعبون الآخرون كايل بالفعل عن الرجل. كانت عيناه مُتَّسِعتَين وصوته مرتعدًا وهو يشاهد محاولة وصول الممرِّض إلى قدمَيه بصعوبةٍ وهو يبصق قدرًا كبيرًا من الدماء. همهم كايل بتذمُّر: «لست وضيعًا.» وأعادها قائلًا: «لست وضيعًا.» كنا محظوظين لأنه حين اتصل أحد الحضور بضابط الأمن في الطابق السفلي لم يعترف الممرِّض بالحادث لشعوره بالإحراج. وفي طريق عودتنا أعطيتُ كايل محاضرة طويلة عن الاحتفاظ بهدوئه، وعن العنف، وعن المسئولية. بدت كلماتي سخيفةً وخالية من أيِّ معنًى وجلس كايل دون أن يردَّ عليَّ بكلمةٍ واحدة، وكان لا ينظر إلا إلى الطريق. وعندما انتهيتُ استدار ناحيتي وقال: «لا تقُل لأمي شيئًا، اتفقنا؟» اعتقدتُ وقتئذٍ أن هذا مؤشر طيب. وقلتُ إنني لن أذكرَ لروبي شيئًا مما حدث ما دام أنه لن يتحدَّث معها بشأنه ووافق على مضض. كان كايل صبيًّا حسنًا لأنه كان لا يزال مهتمًّا بشيءٍ ما. لكن هل كان هذا كافيًا لإنقاذه؟ ••• بعد أسبوع من مغامرتي أنا وجوني في هايد بارك، قرَّرتُ أنه حان الوقت للتعامل مع المدارس العامة. بدا هذا الموضوع منطقيًّا لنا. ولم يَعُد الفصل العنصري يثير اهتمامنا كثيرًا؛ فقد تخلَّى البِيض عن نظام المدارس العامة. ولم تَعُد مدارس البِيض أو السود مكتظة بالطلاب، على الأقل في المدارس الثانوية بأحياء السود لأن نصف الطلاب الجدد فقط كانوا يضطرون إلى البقاء في المدارس لحين التخرُّج. وخلافًا لذلك، فقد ظلت مدارس شيكاغو في حالةٍ من الأزمات الدائمة؛ فعجزُ الميزانية السنوية يصل إلى مئات الملايين من الدولارات، وهناك نقص في الكتب المدرسية وورق الحمَّامات، واشتراك نقابة المعلمين في إضرابٍ مرة كل سنتين على الأقل، والتعامل من منطلق بيروقراطية قاسية وتشريع دولة غير مبالٍ. وكنتُ كلما ازدادت معرفتي بالنظام ازداد اقتناعي بأن إصلاح المدارس هو الحل الممكن الوحيد لمأساة الشباب الذين رأيتهم في الشارع، وأنه في ظلِّ عدم وجود عائلات مُستقرة أو احتمالات للعمل في وظائفَ مهنيةٍ معتمِدة على المجهود البدني، يكون التعليم هو آخِر أملٍ لهم. لذا ففي شهر أبريل — في أثناء عملي في قضايا أخرى — وضعتُ خطة عملٍ للنشاط التنظيمي وبدأتُ أُوزِّعها على القادة. على أن هذه الخطة لم تترك في نفوسهم انطباعاتٍ قوية مؤثرة. كان سبب ذلك إلى حدٍّ ما ينبع من مشكلةِ عدم وجود مصلحةٍ شخصية وعدم توافق الآراء. فمثلًا أخبرني أعضاءُ كنيسةٍ مُسنُّون أنهم بالفعل ربَّوا أبناءهم، أما أولياء الأمور الأصغر سنًّا — مثل أنجيلا وماري — فقد أرسلوا أطفالهم إلى المدارس الكاثوليكية. ولم يتحدَّث أحدٌ عن أكبر مصدر للمقاومة إلا نادرًا، وهو في الواقع يتمثَّل في الحقيقة المُرة التي فحواها أن كل كنيسةٍ من كنائسنا كانت مليئةً بالمدرسين ومديريها ومراقبيها. ولم يُرسِل من هؤلاء المعلِّمين أطفاله إلى المدارس العامة إلا قليل لأنهم كانوا يَعلمون كثيرًا عن هذا الأمر. لكنهم كانوا يُدافعون عن الحالة الراهنة بالمهارة والحماسة نفسها التي كان أقرانهم من البِيض يدافعون بها عنها منذ عقدَين. وكانوا يقولون لي إنه لم يكن هناك مواردُ مالية كافية لإجراء الإصلاح كما ينبغي (وكانوا بالفعل مُحقِّين في ذلك.) كانت مجهودات الإصلاح — مثل اللامركزية أو الحد من البيروقراطية — جزءًا من مجهوداتٍ بذلَها البِيض لاستعادة السيطرة من جديد (وهذا أمرٌ غير صحيح مائة بالمائة.) أما الطلاب فقد كانوا صِعابَ المِراس. كانوا كسالى. كانوا عنيدِين. كانوا بطيئين. لكن ربما لم يكن ذلك خطأهم، ومن المؤكد أنه لم يكن خطأ المدارس أيضًا. في الواقع لم يكن هناك أيُّ أطفال سيئين لكنَّ المؤكَّد أنه كان هناك العديد من الآباء السيئين. في مخيِّلتي كانت هذه المحادثات رمزًا للتسوية غيرِ المعلنة التي توصَّلنا إليها منذ ستينيات القرن العشرين، والتي سمحت لنصف أطفالنا بإحراز تقدُّمٍ حتى إن لم يستطِع النصف الآخر فعْل ذلك. والأكثر من ذلك أن المحادثات أغضبتني وبسبب الدعم الفاتر المفتقد للحماسة الذي تلقيناه من القيادة قرَّرتُ أنا وجوني أن نُعالج الأمرَ ونبدأ بزيارة بعض المدارس في المنطقة على أمل تجميع أصوات تدعمنا بخلاف أولياء الأمور الشباب في ألتجيلد. بدأنا حملتنا بمدرسة كايل الثانوية التي كانت تنعم بأفضل سُمعة في المنطقة. وكانت المدرسة تتكوَّن من مبنًى واحد جديدٍ نسبيًّا لكنه مُفتقِر للمسات الشخصية والجمالية، حيث كان مشتملًا على أعمدةٍ صلبةٍ جرداء وممراتٍ عارية طويلة ونوافذ زجاجها ضبابي لا يمكن فتحها، مثلها مثل النوافذ في الصوبات الزجاجية. قال لنا المدير — وكان رجلًا كَيِّسًا حسن المظهر اسمه دكتور لوني كينج — إنه كان مُتحمسًا للعمل مع مجموعاتٍ مجتمعيةٍ مثل مجموعتنا. بعد ذلك ذكر أن أحد المستشارين في مدرسته — وكان يُدعى السيد أسانتي موران — كان يحاول بدء برنامجٍ إرشادي للشباب في المدرسة واقترح أن نُقابله. اتبعنا المسار الذي أشار علينا به دكتور كينج إلى أن وصلنا إلى مكتبٍ صغير بالقُرب من مؤخرة المبنى. وكان المكتب مُزينًا ببعض اللمسات الأفريقية مثل: خريطة للقارة وصور لملوك وملكات أفريقيا القدماء، ومجموعة من الطبول، وأوانٍ من نبات القرع، وقطعة من القماش منسوجة يدويًّا بألوانٍ مبهجة مُعلَّقة على الحائط. وخلف المكتب كان يجلس رجلٌ طويل القامة مهيب له شارب طويل كثيف ملفوف لأعلى وفكٌّ بارز. كان الرجل يرتدي زيًّا أفريقيًّا وسوارًا من شَعر الفيل حول معصمه السميك. وقد بدا في بادئ الأمر غيرَ سعيد حيث كان أمامه على المكتب كومةٌ متراصة من امتحانات القبول في الجامعات. لذا شعرتُ أن اتصال دكتور كينج به كان مقاطعةً لعملِه غيرَ مرحَّب بها. على العكس من ذلك طلب منا الجلوس وأخبرنا أن نُناديه باسمه دون ألقاب، وعندما أصبحَت قضيتُنا أكثرَ وضوحًا بدأ يشرح لنا بعض أفكاره. قال لنا وهو ينظر إليَّ وإلى جوني تباعًا: «إن أولَ شيء عليكما إدراكه هو أن نظام المدارس العامة لا يهتم بتعليم الأطفال السُّود. ولم يكن كذلك على الإطلاق. والمدارس التي تقع في قلب المدينة شغلُها الشاغل هو الانضباط الاجتماعي الذي لا يُطبَّق إلا في أثناء الحصة الدراسية. انتهى الأمر. وفي الواقع فإن هذه المدارس تعمل كأنها حظيرة؛ أو بالأحرى سجون صغيرة. وعندما يبدأ الأطفال السُّود في الخروج من الحظيرة بعد انتهاء الحصص ومضايقة البِيض لا يهتم المجتمع إطلاقًا بقضية تعليم هؤلاء الأطفال. لا تُفكِّرا إلا فيما يمكن أن يشتمل عليه التعليم الحقيقي لهؤلاء الأطفال. في مُستهل الأمر لا بد أن يبدأ التعليم بتعريف الطفل بنفسه وبعالمه وبثقافته وبمجتمعه. وتلك هي نقطة البداية لأية عمليةٍ تعليمية لأن هذا هو ما يجعل الطفل مُستعدًّا وبحماسٍ لأن يتعلم، والذي يدفعه لذلك هو الوعد الذي يتلقَّاه بكونه جزءًا من شيءٍ ما وبقُدرته على السيادة والتحكُّم في بيئته. لكن فيما يتعلَّق بأي طفلٍ أسود فإن كل الموازين تتغير. فمن يومه الأول في المدرسة، ماذا يتعلم؟ يتعلم تاريخًا غيرَ تاريخه. ويتعلَّم ثقافةً غيرَ ثقافته. ليس ذلك فقط، بل إن الثقافة التي من المفترض أن يتعلَّمها هي الثقافة نفسها التي رفضته — بكلِّ ما في الكلمة من معنًى — وأنكرت إنسانيته.» اتكأ أسانتي للخلف على مقعده وشبَّك يدَيه أسفلَ صدره، وطرح علينا السؤال الآتي: «هل من المثير للدهشة أن يفقد الطفل الأسود اهتمامه بالتعليم؟ بالطبع لا. إن الأمر أسوأ للأولاد عن البنات لأن البنات على الأقل لديهنَّ أمهاتٌ يستطعن التحدُّث معهنَّ، على عكس الأولاد الذين ليس لديهم مَن يتحدثون إليه. ونصفهم لا يعرف أحدًا حتى آباءهم، ولا يُوجَد مَن يُرشدهم في مرحلة البلوغ … ليشرح لهم معنى الرجولة. وهنا تكمُن الكارثة لأنه في كل مجتمعٍ يكون للشباب ميولٌ عنيفة. وهذا سواءٌ أكانت هذه الميول موجَّهة ومنظَّمة في مسارات إبداعية أم في مسارات تهديمية للشباب أنفسهم أو المجتمع أو لكليهما. لذا فإن هذا هو الأمر المفترض التركيز عليه هنا. وحيثما أكون أحاول ملء هذه الفجوة. فأشرح التاريخ الأفريقي للطلاب والجغرافيا والتقاليد الفنية الأفريقية. إنني أحاول منحهم مبادئَ قويمة مختلفة عما تعلَّموه؛ شيئًا يدحض تأثيرات المادية والفردية والإشباع الفوري التي يتجرعونها على مدار ١٥ ساعة خارج المدرسة. إنني أُعلِّمهم أن الأفارقة جزءٌ من المجتمع. كما أُعلِّمهم أنهم يحترمون مَن يكبرهم سنًّا. وفي الواقع شعرَ زملائي الأوروبيون بالخطر من تعاليمي هذه، لكنني أخبرتهم أن الأمر ليس متعلقًا بتشويه سمعة ثقافتهم، بل إن الغرض الفعلي هو منحُ الشباب قاعدةً يستندون إليها طوال حياتهم. وإن لم ينغمسوا في تقاليدهم الخاصة فلن يصبحوا قادرين إطلاقًا على تقديرِ ما تُقدِّمه الثقافات الأخرى …» في هذه اللحظة سمعنا طرْقًا على الباب، وعندما فُتح نظر شابٌّ نحيف طويل القامة نظرةً سريعة إلى الداخل. اعتذر لنا أسانتي قائلًا إن لدَيه موعدًا آخرَ ورأى أنه سيكون سعيدًا إذا قابلَنا مرةً أخرى لمناقشة برامج الشباب الممكنة في المنطقة. بعدها سألني أسانتي عن اسمي وهو يُوصلني أنا وجوني إلى الباب، وأدليتُ له بمعلوماتٍ قليلة عن تاريخي. عندما سمع حديثي ابتسم أسانتي وقال: «اعتقدتُ ذلك بالفعل!» وأضاف: «أتعلم، كانت أولى رحلاتي للقارة الأفريقية إلى كينيا. وكان ذلك منذ ١٥ عامًا لكنني أتذكَّر الرحلة كما لو لم تكن إلا أمس. لقد غيَّرت هذه الرحلة حياتي للأبد. وفي الواقع كان أهل كينيا ودودِين ورحَّبوا بي ترحيبًا حارًّا. وأرضها جميلة لم أرَ مثلها قط. وبالفعل شعرتُ أنها وطني.» تلألأ وجهه بذكراه هناك. وسألني: «متى كانت آخِر مرة ذهبتَ فيها إلى كينيا؟» تردَّدت. قلت: «في حقيقة الأمر لم أذهب إلى هناك مطلقًا.» بدا أسانتي مرتبكًا للحظة. وقال بعد لحظاتِ صمت: «حسنًا … إنني متأكد من أنك عندما تذهب إلى هناك ستتغير حياتك أنت أيضًا.» وبذلك تصافحنا ولوَّح للشاب الجالس في قاعة الانتظار وأغلق الباب وراءه. خيَّم علينا الصمت أنا وجوني في معظم طريق عودتنا إلى مكتبنا. وبعد أن قطعنا مسافة كبيرة استدار جوني تجاهي وقال: «هل أستطيع أن أطرح عليك سؤالًا يا باراك؟» «بكل تأكيد.» «لماذا لم تذهب إلى كينيا من قبل؟» «لا أعرف. ربما أكون خائفًا مما سأجده هناك.» «فهمت.» أشعل جوني سيجارةً وأنزل زجاج النافذة لإخراج الدخان. وقال: «كم كان غريبًا تفكيري في أبي بعد سماعي حديثَ أسانتي هناك! لا أقصد أن أبي كان مُتعلمًا أو شيئًا من هذا القبيل. لكني أقصد أنه لا يعرف شيئًا عن أفريقيا. بعد أن ماتت أُمي كان مُضطرًّا لأن يُربيني أنا وإخوتي بالاعتماد على نفسه. فعمِل لمدة ٢٠ عامًا سائقًا لسيارةِ بضائع بشركة سبيجال. لكنَّ الشركة سرَّحته عن العمل قبل أن يحصل على معاشه كاملًا؛ لذا ظلَّ يعمل لدى شركة أخرى في الوظيفة نفسها. هذه الوظيفة هي نقل الأثاث. لم يبدُ أبي مُستمتعًا بالحياة على الإطلاق، أتفْهَم ما أقصد؟ إنه في أيام العطلات كان يظلُّ في المنزل وكان يزورنا بعضُ أعمامي لاحتساء الخمر وسماع الموسيقى. وكانوا يشكون مما فعلَه رؤساؤهم في العمل هذا الأسبوع. هذا فعل كذا. وهذا فعل كذا. لكن ما إن يبدأ أحدهم في التحدُّث عن شيءٍ آخر مختلف بالفعل أو طرح فكرة طيبة حتى يُحبطه الآخرون. فمثلًا يقول أحدهم: «كيف لزنجيٍّ عديم الفائدة مثلك أن يبدأ مشروعًا بنفسه؟» ويقول آخر: «خذ هذه الزجاجة من أمام جيمي؛ يبدو أن الخمر ذهبت بعقله.» وكانوا جميعًا يضحكون، لكنني أرى أنهم لم يكونوا يضحكون من قلوبهم. وفي بعض الأحيان، عندما أكون بالمنزل، كان أعمامي يقولون لي: «من المؤكد أن عقلك ناضج أيها الصبي، تبدو كرجلٍ أبيض بحديثك المنمَّق اللبِق.» أخرج جوني من فمه تيارًا مُتدفقًا من الدخان إلى الهواء المليء بالضباب الكثيف. وأضاف: «عندما كنتُ في المدرسة الثانوية كنتُ أشعر بالخجل منه. أقصد والِدي. فقد كان يعمل كثيرًا ويجلس في المنزل ويشرب الخمر هو وإخوته. لذا أقسمتُ أنني لن ينتهيَ بي الحال وأُصبح مثله. لكنني عندما فكَّرت في هذا الأمر فيما بعدُ أدركتُ أن أبي لم يسخر قطُّ عندما كنت أتحدَّث عن رغبتي في الالتحاق بالجامعة. أقصد أنه لم يقُل شيئًا عن الأمر، لكنه كان يتحقَّق دائمًا من أنني وأخي استيقظنا للذهاب إلى المدرسة، وأننا لم نُضطر إلى العمل، وأن معنا مصروف الجيب الصغير. ويوم تخرُّجي أتذكَّر أنه حضر مُرتديًا سترةً ورابطةَ عنقٍ وصافحني فقط. هذا كل ما هنالك … صافحني وبعدها عاد للعمل …» توقَّف جوني عن الكلام وخلا الطريق أمامنا. وبدأتُ أُفكِّر في هذه الصور المعلَّقة في مكتب أسانتي — صور الملكة نفرتيتي الداكنة اللون في عرشِها الذهبي، وشكل زولو القوي الأبيِّ في ردائه الطويل المصنوع من جلد النمر — وفكَّرتُ في اليوم الذي ذهبت فيه إلى المكتبة منذ سنوات قبل أن يأتي والدي لزيارتي في هاواي بحثًا عن مملكتي السحرية وحقي المجيد المكتسب بالولادة. وتساءلتُ عن الفارق الذي يمكن أن تُحدثه هذه الصور على طفلٍ غادر لتوِّه مكتب أسانتي. وظننتُ أن تأثير هذه الصور على الطفل يفوق تأثير أسانتي نفسه. في الواقع كان أسانتي رجلًا حسنَ الاستماع. وكانت لدَيه القدرة على مدِّ يد العون لأي شاب. قلتُ لجوني بعد ذلك: «كان هناك.» «مَن؟» «والدك. كان هناك من أجلِك.» حكَّ جوني ذراعه. وقال: «نعم يا باراك أعتقد أنه كان هناك.» «ألم تُخبره قط بهذا؟» «لا، لأننا لم نَعْتَدِ التحدُّث معًا.» نظر جوني من النافذة، ثم استدار لي: «ربما عليَّ أن أتحدث معه.» قلتُ له وأنا أهز رأسي: «نعم جون ربما يتعين عليك فعْل ذلك.» ••• على مدار الشهرَين التالِيَين ساعدنا أسانتي ودكتورة كوليار في إعداد اقتراح مقدَّم إلى شبكةِ نصحِ الشبابِ لتوفير الخدمات التعليمية الخاصة والإرشادية إلى المراهقين المعرَّضين للخطر، ولإشراك أولياء الأمور في عمليةٍ تخطيطية طويلة المدى للإصلاح. وكان هذا المشروع مُثيرًا للحماسة بصورةٍ كبيرة، لكنني لم أُركِّز عليه كليةً لأنني كنتُ مشغول البال بشيءٍ آخر. وعند انتهاء تقديم الاقتراح أخبرتُ جوني بأنني سأبتعِد عن العمل لبضعة أيام على أن يتولَّى هو مسئولية حضور بعض الاجتماعات التي خطَّطنا لها لبدء الإعداد لخطة دعمٍ أكبر. سألني جوني: «إلى أين ستذهب؟» «لزيارة أخي.» «لم أكن أعلم أن لك أخًا.» «لم أكن أعرفه كلَّ هذه الفترة.» في صباح اليوم التالي ركبتُ الطائرة إلى مدينة واشنطن عاصمة الولايات المتحدة حيث كان يعيش أخي روي في هذه الفترة. كنا قد تحدَّثنا لأول مرةٍ خلال زيارة أوما إلى شيكاغو وحينها أخبرتْني بأن روي تزوَّج من سيدةٍ أمريكية كانت تعمل في برنامج «فيلق السلام» وانتقل للعيش في الولايات المتحدة. وفي أحد الأيام اتصلنا به للاطمئنان عليه، وكان سعيدًا للغاية بهذه المكالمة، وكان صوته مُنخفضًا وهادئًا كما لو كنَّا تحدَّثنا معه أمسِ. وفي هذه المكالمة قال لنا إن وظيفته وزوجته وحياته الجديدة في أمريكا وكل شيء «جميل». نطق روي هذه الكلمة ببطءٍ وخرجت المقاطع اللفظية على نحوٍ هادئ فقال «جميييل»، بالطريقة نفسها التي أخبرني بها أنَّ زيارتي له ستكون «رااائعة» وأن بقائي معه ومع زوجته في منزلهما لن «يُسبِّب أيَّ مشششكلة». وبعد أن وضعنا سماعة الهاتف وانتهت المكالمة أخبرتُ أوما أنه يبدو في حالةٍ طيبة، إلا أنها نظرت إليَّ بارتياب، وقالت: «لا، إنك لا تعرف روي؛ إنه دائمًا لا يُظهِر مشاعره الحقيقية، وهو في هذا الأمر مثله مثل أبينا. وفي الواقع ومع أنهما لم يكونا على وفاقٍ معًا فهو يُذكِّرني به في كثيرٍ من الأمور، على الأقل كان ذلك عندما كان يعيش في نيروبي حيث إنني لم أرَه منذ جنازة ديفيد؛ لذا ربما يكون الزواج قد جعلَه يعيش حياة مُستقرة هادئة.» لم تستطرد أوما أكثرَ من ذلك، وإنما قالت فحسب إنه من الأفضل أن تتعرَّف عليه بنفسك. لذا رتَّبت مع روي أن أزوره، فأسافر إلى واشنطن العاصمة أثناء عطلة نهاية الأسبوع الطويلة وزيارة المعالم السياحية، وفكَّرتُ أننا سنقضي وقتًا رائعًا. لكن عندما وصلتُ إلى مطار رونالد ريجان القومي بحثتُ عنه عند بوابة المطار إلا أنني لم أجده في انتظاري، فاتصلتُ بمنزله وردَّ على الهاتف مُعتذرًا: «اسمع يا أخي، هل يمكنك الإقامة في أي فندقٍ هذه الليلة؟» «لماذا؟ هل حدث مكروه؟» «لا، لم يحدث شيء خطير. إن الأمر مُتعلِّق بي وبزوجتي فقد تشاجرنا؛ لذا فإن حضروك الليلة إلى المنزل لن يكون أمرًا مُستساغًا. أتفهمني؟» «بكل تأكيد. إنني …» «اتَّصلْ بي عندما تجد فندقًا للمبيت، اتفقنا؟ سنتقابل الليلة ونتناول عشاءنا معًا. سأمرُّ عليك في تمام الثامنة.» أقمتُ في أرخصِ غرفةٍ وجدتُها في الفندق وانتظرتُ بها، وفي الساعة التاسعة سمعتُ طرْقًا على الباب. وعندما فتحته وجدت رجلًا ضخمًا يقف أمامي واضعًا يدَيه في جَيْبَيْه وعلى وجهه الشديد السواد ابتسامةٌ عريضة أظهرت أسنانه المستوية. قال لي: «أهلًا أخي، كيف حالك؟» في صور روي التي كانت لدي، كان نحيفًا للغاية ومرتديًا زيًّا أفريقيًّا، إلى جانب أنه كان له شارب ولحية صغيرة وكان مُصفِّفًا شعره على الطريقة الأفريقية، لكنَّ الرجل الذي عانقني عندما فتحت الباب كان وزنه أكبر، يصل تقريبًا إلى مائتي رطل [٩٠٫٧ كيلوجرامًا] — على ما أعتقد — وكانت وجنتاه مُكتنزتَين لحمًا أسفل نظارته السميكة. والآن لم تَعُد له لحية وتغيَّر القميص الأفريقي ليحل محله جاكيت رمادي اللون وقميص أبيض ورابطة عنق. كانت أوما على حق؛ فتشابُه أخي مع أبي كان مُثيرًا للقلق. عندما نظرتُ إلى أخي شعرتُ كأنني عُدت طفلًا في العاشرة من عمري. قلتُ له في أثناء مشينا تجاه سيارته: «أرى أن وزنك ازداد.» نظر روي لأسفل إلى بطنه المنتفخة وربَّت عليها، وقال: «نعم، إنها الوجبات السريعة. إنها موجودة في كل مكان؛ ماكدونالدز وبرجر كينج. إنك لستَ مضطرًّا إلى الخروج — حتى من سيارتك — لشرائها؛ إذ أطلب وأنا في السيارة: فطيرتَين باللحم والصوص الخاص والخس والجبن أو ساندوتش الهامبورجر العملاق بالجبن.» ثم هزَّ روي رأسه وأضاف: «فيرد عليَّ العامل ستحصل على ما تريد في الحال. إنه لأمر رائع!» أرجع روي رأسه للخلف وهو يضحك، وسرى بداخله صوتٌ ساحر جعل جسده كلَّه يهتز كما لو كان لا يستطيع تصديق العجائب التي تُقدِّمها له هذه الحياة الجديدة. كانت ضحكاته مُعدية؛ لذا فإنني ضحكتُ إلا أنني لم أضحك في أثناء طريقنا لتناول العشاء. كانت سيارته التويوتا صغيرةً على أن تستوعب حجمه — كان كطفلٍ يجلس في إحدى سيارات الملاهي في العيد — ولم يبدُ بارعًا في تحريك ذراع ناقل الحركة أو الإلمام بقواعد الطريق بما فيها حدُّ السرعة المسموح به. وفي طريقنا كنا على وشك الاصطدام مرتَين بالسيارات القادمة من الاتجاه المقابل، وعند أحد المنعطفات حادت السيارة عن طريقها وصعدت فوق رصيف مرتفع. صِحتُ بصوتٍ أعلى من الصوت الهادر للموسيقى المنبعثة من شريط الكاسيت الذي يديره: «هل تقود السيارة دائمًا بهذه الطريقة؟» ابتسم روي ونقل السرعة إلى المستوى الخامس وقال: «قيادتي ليست حسنة، أليس كذلك؟ فدائمًا ما تشكو ماري زوجتي من هذا الأمر أيضًا، خاصةً بعد الحادث …» «أيُّ حادث؟» «لم يكن خطيرًا؛ فأنا لا أزال حيًّا أُرزق!» ضحك مرةً ثانيةً وهزَّ رأسه كأن السيارة تعمل أوتوماتيكيًّا دون أن يقودها، وكان وصولنا الآمن سيكون مثالًا آخر على نِعَم الرب الوفيرة. كان المطعم المفترَض أن نتناول العشاء فيه مكسيكيًّا، وكان بجانب مرفأ صغير. اخترنا طاولة عشاءٍ تطلُّ على المياه مباشرةً، وطلبتُ جِعَة وطلب روي كأسًا من كوكتيل المارجريتا، وتحدثنا بعض الوقت عن عملي وعمله محاسبًا في إحدى الشركات الكبرى للتمويل العقاري. أكل روي باستمتاع شديد واحتسى كأسًا أخرى من المارجريتا، إلى جانب أنه ضحك ومزح عند حديثه على مغامراته في أمريكا. لكن ما إن نفد الطعام حتى بدأت آثار المجهود الذي بذله تظهر عليه، وفي النهاية سألته لماذا لم تَصحبنا زوجته على العشاء، فتلاشت ابتسامته وقال: «أعتقد أننا على وشك الطلاق.» «أنا آسف لسماعي هذا الخبر.» «قالت لي إنها سئمت من بقائي خارج المنزل لساعةٍ متأخِّرة من الليل، وإنني أُفرِط في شرب الخمر، بالإضافة إلى أنها أخبرتني أنني أصبح تدريجيًّا نسخةً من أبي.» «وما رأيك في ذلك؟» «ما رأيي؟» أدنى رأسه، ثم نظر إليَّ بشجنٍ فرأيتُ في عدستَي نظارتِه لهبَ الشموع يتراقص كمشاعل الاحتفالات الصغيرة. قال لي وهو يتكئ بجسده للأمام: «الحقيقة هي أنني أعتقد أنني أكره نفسي، وأنني ألوم أبي في ذلك.» على مدار الساعة التالية قَصَّ عليَّ روي جميع الصِّعاب التي تحدثَت عنها أوما من قبل؛ عن انتزاعِه من أمِّه وكلِّ شيءٍ اعتاده، وعن فقر أبينا المفاجئ، وعن المشاجرات والمشكلات، وعن رحلته الأخيرة. أخبرني عن حياته بعد أن ترك منزل أبينا مُتنقلًا بين منازل أقاربه واحدًا تلو آخر وكيف جرى قبول التحاقه بجامعة نيروبي ثم حصوله فيما بعدُ على وظيفةٍ في مكتب محاسبة محلي بعد التخرُّج، وكيف علَّم نفسه الانضباط في العمل؛ فكان يصل إلى عمله مبكرًا ويُكمل المهام المنوط به أداؤها بصرف النظر عن سهره طويلًا خارج المنزل في الليلة السابقة. شعرتُ وأنا أستمع إليه بالإعجاب نفسه الذي شعرتُ به عند سماعي أوما وهي تتحدَّث عن حياتها وعن قدرتهما على الاحتمال التي أظهراها في الأوقات العصيبة، وعن العِند نفسِه الذي أخرجهما من ظروفهما الصعبة. على أنني شعرت أن أوما — وليس روي — مُستعدة لأن تترك الماضي وراء ظهرها، وأن لدَيها إلى حدٍّ ما المقدرةَ على أن تُسامح، إن لم يكن من الضروري أن تنسى. أما روي فقد بدت ذكرياته عن أبينا أكثرَ تعلقًا بحاضره وأشدَّ سخرية، وظل الماضي عنده جرحًا لم يندمِل. أثناء رفع الأطباق من على المائدة في المطعم قال لي روي: «لم يكن — أبي — يُعجبه شيء، وكان ذكيًّا ولم يكن ليسمح لك بالإهمال إطلاقًا. وإن عُدتَ يومًا إلى المنزل تحمِل شهادةً تفيد حصولك على ثاني أفضل درجات في الفصل يسألك لماذا لم تُحرز الدرجات النهائية، وكان يقول «إنك من عائلة أوباما، وعليك أن تكون الأفضل دائمًا.» وكان يُصدِّق ذلك بالفعل. بعد ذلك كنتُ أراه مخمورًا ولا يملك مالًا ويعيش حياة المتسوِّلين. فكنتُ أسأل نفسي: كيف يمكن لأحدٍ بمثل هذا الذكاء الحاد أن تنهار حياته بهذا الشكل المأساوي؟ لم يبدُ هذا منطقيًّا لي على الإطلاق. وبعد أن أصبحتُ أعيش معتمدًا على نفسي، حتى بعد مماته، كنت أحاول حلَّ هذا اللغز كما لو كنتُ لا أستطيع الهروب منه. إنني أتذكَّر أنه كان علينا نقْل جثتِه إلى أليجو لإقامة الجنازة، ولأنني كنتُ الابن الأكبر سنًّا كنتُ مسئولًا عن ترتيبات الجنازة، وقد أرادت الحكومة أن يكون الدفن طبقًا للشريعة المسيحية، لكنَّ العائلة أرادت أن يتم طبقًا للشريعة الإسلامية. حضر الناس إلى ميدان هوم من كل مكان، وكان علينا أن ننتحِب عليه طبقًا لتقاليد قبيلة لوو، وأن نحرق الخشب ثلاثة أيام، ونستمع إلى بكاء الناس وعويلهم. لم أكن أعرف نصف هؤلاء الناس النائحين الذين كانوا يريدون تناول الطعام واحتساء الجِعَة. وتهامس البعض بأنَّ أبانا تسمَّم وأنني لا بدَّ من أن آخُذ بثأره، وسرق بعضهم أشياء من المنزل. بعد ذلك بدأ أقاربنا يتشاجرون على إرث أبي، من ضمنهم آخِرُ صديقة له أم أخينا الرضيع جورج التي كانت تريد الحصول على كل شيءٍ ووقف في جانبها البعض ومنهم العمة سارة، وانحاز البعض الآخر إلى أُمي. كان الأمر برمَّته ضربًا من ضروب الجنون، وبدا الخلل في كل شيء. بعد انتهاء الجنازة لم تكن لديَّ رغبةٌ في مصاحبة أحد؛ فالإنسان الوحيد الذي كنتُ أثِق به كان ديفيد أخانا الصغير. اسمح لي أن أقول لك إن هذا الرجل كان حسنًا، وكان يُشبهك قليلًا لكنه كان يصغرك سنًّا … إذ كان في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره. حاولَتْ أمُّه روث أن تُربيه طبقًا لأسلوب الحياة الأمريكية، لكن ديفيد تمرَّد عليها؛ فقد أحبَّ الجميع وترك منزله كي يأتي ويعيش معي. وعندما طلبتُ منه العودة إلى المنزل مرةً أخرى رفض وقال لي إنه لا يريد أن يُصبح أمريكيًّا؛ كان ديفيد أفريقيًّا من عائلة أوباما بحق. عندما مات ديفيد كانت الضربة القاضية لي. وكنتُ متأكدًا من أن العائلة بأكملها شقِيَت لسماع هذا الخبر. فبدأتُ أشرب الخمر وأتشاجر ولم أعُدْ أهتمُّ بأي شيء. قلت لنفسي إن كان أبي وديفيد قد ماتا فإنني حتمًا سأموت. في بعض الأحيان كنتُ أتساءل عما كان يمكن أن يحدُث إن بقِيتُ في كينيا. في هذه الأثناء فكَّرتُ في نانسي، الفتاة الأمريكية التي كنتُ على علاقةٍ بها والتي كانت عندئذٍ قد عادت إلى أمريكا؛ لذا اتصلتُ بها ذات يوم وقلت لها إنني أريد أن أذهب إليها. وعندما وافقَتِ اشتريتُ تذكرة وركبت أول طائرة متجهة إلى الولايات المتحدة. لم آخُذ أمتعتي أو أخبِر المكتب الذي كنتُ أعمل به أو أودِّع أحدًا أو أي شيء. فكَّرتُ في هذا الوقت أنَّ باستطاعتي أن أبدأ من جديد. لكنني الآن مُوقن من أنني لا أستطيع إطلاقًا أن أبدأ من جديد. ليس في واقع الأمر. يعتقد المرء أن لدَيه القدرة على التحكم في حياته، لكنه في الواقع مثل السمكة في شبكة شخصٍ آخر. في بعض الأحيان أُفكِّر أن هذا هو سبب تعلُّقي بوظيفة المحاسبة. ذلك لأنني طوال اليوم أتعامل مع الأرقام. أُضيفها وأضربها، وإن كنتُ دقيقًا في حساباتي فسيكون لديَّ حلٌّ دائم لأية مشكلة. فالعملية برمَّتها قائمة على التسلسل والترتيب. لذا مع الأرقام يستطيع المرء التحكم …» احتسى روي رشفةً أخرى من مشروبه وأبطأ من وتيرةِ حديثه على حينِ غِرة كأنه سقط بعيدًا في أعماق مكانٍ آخرَ أو كأن روح أبينا قد تملَّكته. وقال: «إنني أكبر إخوتي، كما ترى. وطبقًا لتقاليد قبيلة لوو فإنني الآن رب المنزل. أنا مسئول عنك وعن أوما وعن كل الإخوة الأصغر سنًّا. ومسئوليتي هي تقويمُ الأمور جميعها. ودفع مصاريف المدرسة لإخوتي. والتأكُّد من ارتباط أوما بزوج صالح. وبناءُ منزل مُلائم ولمُّ شمل العائلة من جديد.» مددتُ يدي على الطاولة ولمستُ يده. وقلتُ له: «ليس عليك أن تفعل ذلك بمفردك يا أخي.» وتابعت: «يمكننا أن نشترك معًا في هذه المسئولية.» لكن بدا لي أنه لم يَسمعني. وحملق فقط في النافذة، وبعد ذلك لوَّح للنادل فجأة كما لو كان قد استيقظ من حالةِ لاوعي. «أتريدُ شرابًا آخر؟» «لماذا لا نطلب الحساب الآن؟» نظر إليَّ روي وابتسم. «أستطيع أن أقول إنك شخصٌ كثير القلق يا باراك. وتلك هي مشكلتي أيضًا. أعتقد أننا في حاجةٍ إلى تعلُّم كيف نتقبَّل الأوضاع كما هي ونرضى بالأمر الواقع. أليس هذا ما تقولونه في أمريكا؟ فقط تقبَّل الأوضاع وارضَ بالأمر الواقع …» ضحك روي مجددًا بصوتٍ عالٍ استدار تجاهه الجالسون على المائدة المجاورة لنا. لكنها كانت ضحكةً بلا روح فبدت جوفاء غير صادقة، كما لو كانت آتية من مسافةٍ شاسعة ومن مكانٍ لا حياة فيه. ••• سافرتُ على طائرة اليوم التالي؛ لا بد أن روي كان يريد قضاء بعض الوقت مع زوجته ولم يكن لديَّ المال الذي أدفعه لقضاء ليلةٍ أخرى في الفندق. تناولنا الفطور معًا وفي الصباح بدا أفضل حالًا. وعند بوابة المطار تصافحنا وتعانقنا ووعدَني بأن يزورني بمجرد أن تستقر الأمور. في أثناء رحلة العودة إلى شيكاغو وعلى مدارِ ما تبقَّى من عطلة نهاية الأسبوع لم أستطِع أن أُخلِّص نفسي من الشعور بأن روي في خطرٍ ما، وأن شياطين ذكرياته القديمة تقوده إلى الجحيم، وفكَّرتُ أنني إذا تصرفتُ كما ينبغي أن يتصرف الأخ فسوف أمنع سقوطه في هوة الجحيم. عندما دخل جوني مكتبي في وقتٍ متأخر بعد ظهر يوم الإثنين كنتُ لا أزال أفكِّر في روي. قال جوني: «عُدت مبكرًا. كيف كانت الرحلة؟» «كانت جميلة. وكان من الرائع أن أرى أخي.» أومأتُ برأسي وأنا أطرق على حافة المكتب برفق. قلت: «إذن ماذا حدث أثناء غيابي؟» جلس جوني على أحد المقاعد. وقال: «حسنًا، تقابلنا مع عضو مجلس الشيوخ عن الولاية. وقد تعهَّد بتقديم مشروع قانون للحصول على التمويل اللازم لبرنامج التطوير للنظام المدرسي. ربما لن يصِل إلى النصف مليون دولار بأكملها لكنه سيفي بالغرض.» «رائع. وماذا عن مديري المدارس الثانوية؟» «عُدتُ للتوِّ من اجتماعٍ مع دكتور كينج، مدير المدرسة التي يعمل بها أسانتي. ولم يردَّ سائر المديرين على اتصالاتي.» «ممتاز. وماذا قال دكتور كينج؟» قال جوني: «ابتسم طوال الوقت. وقال إنه أُعجب بالاقتراح بالفعل. وسعد للغاية عندما سمع أن هناك إمكانيةً للحصول على التمويل. وقال إنه شجَّع المديرين الآخرين على التعاون معنا وأننا سنحصُل على دعمه الكامل. وقال: «لا يُوجَد شيء أكثر أهميةً من إنقاذ شبابنا.»» «رائع.» «نعم. رائع. وعندما كنتُ على وشك مغادرة مكتبه أعطاني هذه فجأة.» أمسك جوني حقيبته وأخرج ورقةً منها وأعطاني إيَّاها. قرأتُ سطورًا قليلة قبل أن أُعطيها له مرةً أخرى. «سيرة ذاتية؟» «ليست أية سيرةٍ ذاتية يا باراك. إنها تخصُّ زوجته. يبدو أنها سئِمَت البقاء في المنزل، ويعتقد دكتور كينج أنها ستكون مديرةً «رائعة» لبرنامجنا. وفي هذا الصدد يجب ألا نُسيء فهْمَه فنظن أنه يضغط علينا. وبمجرد تخصيص التمويل سيكون هناك اعتبارات أخرى، من المؤكد أنك تعلم ما أقصد.» «أعطاك السيرة الذاتية الخاصة بزوجته …» «ليس فقط الخاصة بزوجته.» أمسك جوني مرةً أخرى بحقيبته وأخرج ورقةً أخرى ولوَّح بها في الهواء. وقال: «أعطاني السيرة الذاتية الخاصة بابنته أيضًا. وأخبرني أنها ستكون مستشارة رائعة …» «لا …» «إنني متأكدٌ يا باراك من أنه خطَّط لكل شيء. أتعلم؟ بالإضافة إلى أنه طوال وقت حديثنا لم يشعر بالخجل إطلاقًا. كان يتصرف وكأن ما يفعله هو أكثر شيءٍ طبيعي يحدُث في العالم. أمرٌ لا يُصدِّقه عقل.» هزَّ جوني رأسه، ثم فجأةً صاح وكأنه واعظ. وقال: «نعم! إنه الدكتور لوني كينج! مثال الجرأة والبسالة! الشجاع المقدام! صاحب الأفكار الجريئة! لم يبدأ البرنامج بعد، وها هو ذا يُفكِّر فيه مستقبلًا.» بدأتُ أضحك. أضاف قائلًا: «إنه لا يريد وظيفةً واحدة فقط! بل اثنتَين! اذهب وتحدَّث معه عن بعض الأطفال وسيُعطيك السير الذاتية الحمقاء لعائلته بأكملها …» صِحتُ صيحةً قلَّدتُه فيها. قلت: «دكتور لوني كينج!» قهقه وهو يقول: «نعم! دكتور لوني كينج!» مما جعلني أضحك أكثرَ وبلغ بنا الضحك مبلغًا جعلنا ننحَني لأعلى ولأسفل ونحن نقهقه، ولا نلبث أن نلتقط أنفاسنا حتى نعود لتكرار هذه العبارة مرةً أخرى «دكتور لوني كينج!» كما لو كانت تشتمل على أوضح الحقائق على الإطلاق أو أكثر العناصر أهمية من بين الأربعة عناصر المكونة للعالم المادي. ظللنا نضحك إلى أن توهَّجَت وجوهنا وآلمتنا ضلوعنا وسالت الدموع من أعيُننا وشعرْنا بأننا لم نَعُد نستطيع الضحك لأكثر من ذلك، وقرَّرْنا أن نرتاح الوقت المتبقي بعد ظهر هذا اليوم دون عمل ونحتسي الجِعَة. ••• في هذه الليلة قريبًا من منتصف الليل توقَّفت سيارة أمام المبنى الذي أقطنه وبها مجموعة من المراهقين وسماعات مُكبِّرة للصوت تُصدِر أصواتًا عالية للغاية لدرجةِ أن أرضية الشقة بدأت تهتز. في مثل هذه المواقف اعتدتُ تجاهُل هذه الأشياء المزعِجة والتساؤل: إلى أين سيذهبون إن غادروا هذا المكان؟ لكن في هذا المساء على وجه التحديد كان في المبنى ضيفٌ جديد؛ فقد عرفتُ أن جاريَّ في الشقة التي بجواري أنجبا طفلًا جديدًا وأحضراه إلى المنزل؛ لذا ارتديتُ شورتًا واتجهتُ لأسفل لأتحدَّث مع زوار الليل الواقِفين أسفل المبنى. وعندما اقتربتُ من السيارة توقَّف مَن بداخلها عن الحديث ونظر جميعهم تجاهي. «استمعوا إليَّ، إننا نحاول أن ننام. لماذا لا تذهبون إلى مكانٍ آخر؟» لم يقُل أيٌّ من الصبية الأربعة الجالسين في السيارة كلمةً واحدة، بل لم يتحركوا على الإطلاق. أفاقتني الرياح من نعاسي وعلى حين غِرة شعرتُ أنني مُتجرِّد من ملابسي مع أنني كنتُ أقف على الرصيف في منتصف الليل مُرتديًا شورتًا. لم أستطِع رؤيةَ وجوههم وهم داخل السيارة، وكان الظلام دامسًا فلم أستطِع تحديد أعمارهم، وهل كانوا في وعيِهم أم ثمِلين، أخيارًا أم أشرارًا. ربما كان كايل واحدًا منهم. أو روي. أو جوني. ربما كنتُ أنا نفسي واحدًا منهم. وأنا واقف في مكاني حاولتُ أن أتذكَّر الأيام التي كنتُ فيها جالسًا في سيارةٍ كهذه وروحي تعجُّ بالاستياء المكتوم وبالإحباط حتى أُثبِت فقط أنني موجود في هذا العالم. تذكَّرتُ الشعورَ بالغضب المبرَّر عندما كنتُ أصرخ في وجه جَدي لأي سببٍ كان. كما تذكَّرتُ المشاجرات الدامية في المدرسة الثانوية. وتذكَّرت تبجُّحي وأنا ذاهب إلى الفصل المدرسي في حالةِ سُكْر جلية أو حالةٍ من النشوى نتيجة تعاطي المخدرات مع عِلمي بأن مُدرسِيَّ سيشمون رائحة الجِعَة أو الماريجوانا عندما أتنفَّس، منتظرًا أن ينبس أحدهم ببنت شفة. بدأتُ أُصوِّر نفسي عبر أعين هؤلاء الشباب ووجدتُ صورةً للسلطة الطائشة وبدأتُ أعرف المقاييس التي يعيشون طبقًا لها، وأنه إن لم يستطِع أحدهم النجاح في التخلُّص مِني فسينجح الأربعة بالتأكيد في ذلك إذا ما اجتمعوا معًا. عندما حاولتُ اختراق الظلام لمعرفةِ ما يدور بخَلدهم داخل السيارة، فكَّرتُ في أنه مع كون هؤلاء المراهقين أضعفَ أو أقوى منِّي عندما كنتُ في عمرهم، فإن الفرق الوحيد بيننا يتمثل في أن العالَم الذي عشتُ فيه أوقاتي العصيبة كان أكثر تسامحًا من عالمهم. لم يملك هؤلاء الشباب أيَّ هامش للخطأ؛ إذا حملوا أسلحةً فإنها لن توفِّر لهم الحماية من هذه الحقيقة. وفي الواقع فإن هذه الحقيقة — التي يشعرون بها بالتأكيد لكنهم لا يستطيعون الاعترافَ بها ولا بد من أن يرفضوها حتى يعيشوا يومًا آخر — هي التي أجبرتهم، وأجبرت غيرهم من أترابهم، في النهاية على إغلاق الطريق أمام أي شعورٍ بالتعاطف شعروا به من قبل. علاوةً على أن رجولتهم العنيدة غير المقيدة بأي ضوابط لن تُكبح — على عكس ما انتهى الأمر بي — بأي شعور بالحزن على جرح كبرياء مَن يكبرهم سنًّا. ولن تهدأ ثورة غضبهم باعترافي بالخطر الذي ربما يُداهمني إذا تسبَّبتُ في جرح شَفَة أحدهم، أو انطلقتُ بسيارتي بأقصى سرعة على الطريق السريع وقد ذهبَتِ المُسكِرات بعقلي. في الواقع وجدت نفسي وأنا واقف مكاني أُفكِّر في أننا دائمًا يدور داخلنا حوار بين شعورنا بالذنب والتعاطف وبين شعورنا الدفين بأن هناك حاجةً إلى نظامٍ ما، ليس بالضرورة أن يكون هذا النظام هو النظام الاجتماعي الموجود بالفعل، بل أقصد نظامًا أكثرَ أهمية وأشدَّ إلحاحًا؛ شعور آخر بأن لكلٍّ منا دورًا يجب أن يؤدِّيَه في النظام، ورغبة لا تنتهي مهما بدا عدم ثبات النظام في بعض الأحيان. إنني أظن أن هؤلاء الشباب سيُضطرون إلى البحث لوقتٍ طويل أو الكد للعثور على نظامٍ يتعامل معهم على أنهم ليسوا أشكالًا للخوف أو الازدراء. وهذا الشكُّ يُخيفني لأنني الآن أصبحَتْ لي حياة في العالم الذي أعيش فيه، ولي وظيفة، ومنهج في الحياة أتَّبِعه. وقدْر استطاعتي على التعبير فإنه لا تُوجَد أية صِلة بيني وبين هؤلاء الشباب؛ لأننا فريقان مختلفان يتحدَّث كلٌّ منا لغةً مختلفة ويعيش حياة مختلفة. دار محرك السيارة التي انطلقَتْ بعيدًا مُحدثةً صوتًا حادًّا مُزعجًا. وعُدت إلى شقتي وأنا أعترف لنفسي بأنني كنتُ غبيًّا ومحظوظًا في آنٍ، وأدركتُ أنني خائف بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/14/
الفصل الرابع عشر
كان مبنًى قديمًا في أحد الأحياء العتيقة بالجانب الجنوبي، ومع أنه لا يزال متينًا فإنه في حاجةٍ ماسَّة إلى الترميم وربما إلى سطح جديد. كان الحرم مُظلمًا ومُشتملًا على مقاعدَ خشبيةٍ عديدة، منها ما تصدَّع ومنها ما انكسر، وكانت هناك سجادة حمراء مفروشة على الأرض تنبعث منها رائحة رطوبة عفِنة، وفي أماكنَ مختلفة بدا سطح الأرضية المُغطَّى بالسجادة غيرَ مستوٍ ارتفاعًا وانخفاضًا. أما مكتب القس فيليبس فكان على هذه الحالة الرثة البالية نفسها ولم يكن مضاءً إلا بمصباح مكتبٍ عتيق ألقى بظلاله الكئيبة الصفراء على الغرفة كلها. هذا بالإضافة إلى أن القس فيليبس نفسه كان مُتقدمًا في السن. وعندما فُتح ستار النافذة بدا القس — وهو مُحاط بأكوام الكتب القديمة المتراصَّة — ملتصقًا بالحائط دون أية حركةٍ فصار كبرواز مُعلَّق عليها، ولم يكن ظاهرًا منه بوضوح سوى شعره الناصع البياض وصوته الجهوري الروحاني الذي كان له صدًى كالصوت المسموع في الأحلام. تحدثنا لما يقرُب من ساعة، ودار معظم حديثِنا عن الكنيسة. لكننا لم نتحدَّث عن كنيسته بقدرِ ما تحدَّثنا عن الكنيسة بوجهٍ عام؛ التطور التاريخي لكنائس الأمريكيين من أصلٍ أفريقي (الكنائس السوداء) والكنيسة بوصفها مؤسَّسةً والكنيسة بوصفها فكرةً. كان رجلًا مطلعًا واسعَ المعرفة وبدأ حواره معي بالحديث عن تاريخ ديانة العبيد؛ أخبرني عن الأفارقة — الذين حطوا رحالهم على شواطئ عاتية لم تستقبلهم بالتَّرحاب — أنهم كانوا يجلسون في حلقاتٍ حول نارٍ مُوقدة يخلطون في أحاديثهم بين الأساطير الجديدة وإيقاعات الماضي، وأصبحت أغانيهم وكأنها سفينة تحمل أجمل الأفكار؛ البقاء والحرية والأمل. استمر القس في حديثه مُتذكرًا الكنيسة الموجودة في الجانب الجنوبي في شبابه وقال إنها كانت مكانًا صغيرًا من الخشب المدهون باللون الأبيض بُنِيَت بعَرق المزارعين المستأجِرين وبقروشهم القليلة التي كانوا يدَّخِرونها، واستطرد قائلًا إنه مكانٌ كانت تختفي فيه في صباح أيام الآحاد الحارة المشرقة كلُّ مشاعر الذُّعر وتندمِل فيه جراح الأسبوع بأسْرِها بفعل الدموع وصيحات الشكر والامتنان وتصفيق الأيادي والتلويح بها للحثِّ على الأفكار العنيدة نفسها؛ البقاء والحرية والأمل. تحدَّث القس عن زيارة مارتن لوثر كينج إلى شيكاغو والغيرة التي لاحظَها كينج بين بعض خدام الكنائس وخوفهم من اغتصاب سُلطتهم، ثم استطرد في حديثه عن ظهور المسلِمين قائلًا إنه تفهَّم غضبهم؛ فقد كان هذا الغضب غضبه هو نفسه، الغضب الذي لم يتوقَّع أن يهرب منه كليةً إلا أنه تعلَّم كيفية التحكُّم فيه عن طريق الصلاة، وحاول ألا يُورِّث هذا الغضب أطفاله. شرح القس بعد ذلك تاريخ الكنائس في شيكاغو. وقد كان بالمدينة عندئذٍ آلاف الكنائس وبدا هو وكأنه يعرفها جميعًا؛ فقد تحدَّث عن الكنائس الصغيرة التي تُنشأ أمام المتاجر والكنائس الضخمة المبنية بالحجارة، ثم حدثني عن المصلِّين الأفروأمريكيين ذوي البشرة الفاتحة الذين كانوا يجلسون جِلسةً عسكرية وهم يُنشدون ترانيمهم المتشدِّدة، وأولئك المصلين الذين يتعبَّدون بحماسٍ بالِغٍ وتهتز أجسادهم وهم يتفوَّهون بلغةٍ غير مفهومة. أوضح القس فيليبس أن معظم الكنائس الكبيرة في شيكاغو كانت مزيجًا من هذَين النمطَين من المصلين، وأنها مثال على النِّعم الخفية للفصل العنصري، ومثال على الطريقة التي فرضت على المحامي والطبيب أن يعيشا ويتعبَّدا بجانب الخادم والعامل الأجير. كانت الكنيسة كقلبٍ هائل الحجم ينبض بالحياة؛ إذ كانت تُوزِّع السلع وتروِّج المعلومات والقِيَم والأفكار ذهابًا وإيابًا؛ بين الغنيِّ والفقير، بين المتعلم والأُمِّي، بين المذنب ومَن نال الخلاص. قال القس فيليبس إنه لا يعرف كم من الوقت يمكن أن تستمر كنيسته في أداء دور القلب هذا. فمعظم رعاياها الأكثر ثراءً انتقلوا إلى أحياء أكثرَ نظافةً وعاشوا حياة سكان الضواحي. على أنهم لا يزالون يحضُرون الصلاة في أيام الآحاد إخلاصًا منهم أو ربما من باب الاعتياد. لكنَّ طبيعة ارتباطهم بالكنيسة طرأ عليها التغيُّر؛ فكانوا مُتردِّدين في التطوُّع لعملِ أي شيء — مثل الاشتراك في برنامجٍ تعليمي أو الزيارات المنزلية — ربما يضطرُّهم إلى البقاء في المدينة بعد حلول الظلام. أضاف القس أن هؤلاء يحتاجون إلى مزيدٍ من الأمان في المناطق حول الكنيسة، وبناء سياجٍ حول مكان انتظار السيارات لحماية سياراتهم. وتوقَّع القس فيليبس أنه بمجرد أن يموت سيتوقَّف العديد من رعايا الكنيسة عن الحضور إليها وسيُنشئون كنائسَ جديدة مُنسَّقة مثل شوارعهم الجديدة. وكان القس يخشى من أن تتقطَّع في النهاية صِلات الارتباط بالماضي وتختفي من ذاكرة الأطفال الحلقات التي كان يجلس حولها أجدادهم المسيحيون الأفارقة حول النار … بدأ صوته ينخفض تدريجيًّا حتى توقَّف عن الحديث وشعرت أن التعب قد تمكَّن منه؛ لذا طلبتُ منه أن يقترح عليَّ أسماء قساوسةٍ آخَرين ربما يكون لدَيهم اهتمام بالعمل التنظيمي فذَكَر بضعة أسماء، وقال إن القس جيريميه رايت الابن — الشاب النشيط — قس كنيسة المسيح المتحدة للثالوث يستحقُّ أن نتحدَّث معه، حيث إن رسالته ستروق للشباب من أمثالي. أعطاني القس فيليبس رقم هاتفه، وعندما نهضتُ من مكاني لأُغادر مكتبه قلتُ له: «إذا استطعنا جمع شمل ٥٠ كنيسة فقط فسنُصبح قادرين على تغيير بعض الأمور التي حدثتني عنها.» أومأ القس فيليبس برأسه وقال: «ربما تكون محقًّا يا سيد أوباما. إن لديك بعض الأفكار الشائقة. لكن كما ترى اعتادت الكنائس هنا على التصرُّف حسب أهوائها الخاصة. وفي بعض الأحيان ينطبق هذا على رعايا الكنائس أكثرَ مما ينطبق على القساوسة.» فتح الباب لي، ثم صمت. وقال بعد ذلك: «بالمناسبة، إلى أية كنيسة تنتمي؟» «إنني … إنني أحضُر الصلوات في كنائسَ مختلفة.» «لكن ألستَ عضوًا في أية كنيسة؟» «أعتقد أنني لا أزال أبحث.» «حسنًا، أفهم ذلك. على أن كونك عضوًا في كنيسةٍ بعَينها ربما يساعدك كثيرًا في رسالتك. ولا يهمُّ بأية كنيسة ستكون عضوًا. إن ما تطلبه من القساوسة يتطلَّب منا — من أجل مصلحة المسيحية — أن نُنحِّي جانبًا بعض اهتماماتنا الدينية. وهذا يتطلب منا أن يكون لدينا قدْر كبير من الإيمان بداخلنا. وسيجعلنا هذا في حاجة إلى معرفة مصدر استقائك هذا الإيمان. الإيمان هو المهم.» عندما أصبحتُ خارج المبنى ارتديتُ نظارتي الشمسية ومررتُ بجانب مجموعةٍ من الرجال المسنِّين الذين جلسوا على مقاعد على رصيف الشارع يلعبون الورق. كان الطقس في ذلك اليوم رائعًا حيث كانت درجة الحرارة ٢٤ درجة مئوية (٧٥ درجة فهرنهايت) وكان ذلك في أواخر شهر سبتمبر. وبدلًا من أن أقود سيارتي مباشرةً إلى ميعادي التالي قررتُ أن أنتظر وأفتح باب السيارة وأُخرِج ساقي منها وأنا على المقعد لأشاهد العجائز وهم يلعبون الورق. لم يتحدثوا كثيرًا. وذكَّروني بالرجال الذين كان جَدي معتادًا لَعِبَ البريدج معهم، كانوا يشبهونهم إلى حدٍّ كبير؛ نفس الأيادي القوية السميكة، ونفس الجوارب الأنيقة، ونفس الأحذية الصغيرة العجيبة الشكل، ونفس حبات العَرق بين ثنيات أعناقهم أسفل قبعاتهم المسطحة مباشرةً. حاولتُ أن أتذكَّر أسماء هؤلاء الرجال الذين كانوا في هاواي، وماذا كانوا يعملون لكسب قوتِ يومهم، وبدأت أتساءل عما تبقَّى من الأشياء التي تركوها لي وظلَّت عالقة في نفسي. كم كان هؤلاء الرجال السود غامِضين؛ هذا الغموض الذي كان أحد أسباب مجيئي إلى شيكاغو. أما الآن وبينما أغادر شيكاغو فقد وجدت نفسي أتساءل هل فهمتهم فهمًا أفضل من ذي قبل. لم أخبِر أحدًا بقراري هذا ما عدا جوني. وفكَّرت في أن أعلِن للآخرين هذا الخبر فيما بعد. وحتى شهر يناير لم يصلني ردٌّ من أيٍّ من كليات الحقوق التي أرسلتُ إليها أطلب الالتحاق بها. وفي هذا الوقت كان من المفترض بدء نشاط برنامج الشباب الجديد، وكان من المفترض أيضًا أن أجمع ميزانية العام المقبل، وأن أدعو بعض الكنائس الأخرى للمشاركة في العمل التنظيمي. وفي حقيقة الأمر فإنني لم أُخبِر سوى جوني بهذا القرار إلا لأنَّني كنتُ أرغب في معرفةِ هل لدَيه الاستعداد للبقاء في شيكاغو ليحلَّ محلي كمُنظم قائد أم لا، وربما يكون السبب أيضًا أنه صديقي وكنتُ أرغب في أن أُفسِّر له ما يدور بخَلدي وأشرح الأمر له. لكنَّ جوني نفسه لم يكن يرى أن هناك حاجةً إلى أيِّ تفسيرات. ولحظة أن أخبرتُه بكليات الحقوق التي تقدَّمتُ للالتحاق بها — في جامعة هارفارد وجامعة ييل وجامعة ستانفورد — ارتسمت على شفتَيه ابتسامةٌ عريضة وربَّت على ظهري. وصاح قائلًا: «كنتُ أعرف ذلك!» «تعرف ماذا؟» «أن رحيلك عن هنا ليس إلا مسألة وقت. مسألة وقت ليس أكثر.» «لماذا فكَّرتَ بهذه الطريقة؟» هزَّ جوني رأسه وضحك. قال: «اللعنة، تسأل يا باراك؛ لأن لدَيك «خيارات». هذا هو السبب. أقصد أن باستطاعتك أن ترحل عن شيكاغو. إنني أعرف أنك شابٌّ حي الضمير تقوم بعملك كما ينبغي، لكن عندما يكون على المرء الاختيار بين الدراسة في جامعة هارفارد أو جامعة روزلاند لا بد أنه سيختار جامعة روزلاند.» ومرةً ثانيةً هزَّ رأسه. وأضاف: «إنها هارفارد يا رجل! إنني لا أتمنى إلا أن تتذكَّر أصدقاءك عندما تكون جالسًا في المكتب الخلاب وسط المدينة.» لسببٍ أو لآخر جعلتني ضحكات جوني أتَّخذ موقفًا دفاعيًّا. حيث أصررتُ على أنني سأعود مرةً أخرى إلى الحي. وأخبرتُه بأنني لم أُخطِّط للانبهار بالثروة والسلطة التي تعنيها هارفارد، وأكدتُ ضرورةَ ألا ينبهر بهما هو الآخر. صدَّق جوني بمُزاح على كلامي. وقال: «إنك لستَ في حاجة لأن تُخبرني بكل هذا. فلستُ أنا مَن سيترك المدينة.» هدأت انفعالاتي وشعرتُ بالإحراج من ثورتي غير المبرَّرة. وقلت له: «حسنًا … لم أكن أريد أن أقول لك إلا أنني سأعود، هذا كلُّ ما في الأمر. لا أريد أن يُساء فهمي سواء من جانبك أو من جانب القادة.» ضحك جوني برقة. وقال: «لن يُسيء فهْمَك أحدٌ يا باراك. إننا فخورون بأن نراك ناجحًا.» كانت الشمس في هذا الوقت تفرُّ ببطءٍ خلف السحاب، ونهض اثنان من لاعبي الورق وارتدى كلٌّ منهما المعطف الثقيل الذي كان يضعه على ظهر مقعده. أشعلتُ سيجارة وحاولت فكَّ شفرة الحوار الذي دار بيني وبين جوني. تُرى هل ساورته الشكوك في نواياي؟ أم أنني لا أثق بنفسي؟ لقد أمعنتُ النظر في قراري هذا ١٠٠ مرة على الأقل. إنني في حاجةٍ إلى فترة راحة، أردتُ الذهاب إلى كينيا، فأُوما قد عادت بالفعل منذ عام إلى نيروبي لتدرس في الجامعة، وقد يكون هذا وقتًا مثاليًّا للقيام بزيارةٍ طويلة. كانت هناك بعض الأشياء التي ينبغي أن أتعلمها عبر الدراسة في كلية الحقوق ستُساعدني في إحداث تغيير حقيقي. أشياء عن أسعار الفائدة، واندماج الشركات، والعملية التشريعية، والطريقة التي تعمل بها الشركات والبنوك معًا، وكيفية نجاح أو فشل الشركات العاملة في مجال الاستثمار العقاري. بالإضافة إلى ذلك سأتعلَّم الكثير عن أداة القوة بكل تفاصيلها وتعقيداتها، إنها العلم الذي عرَّضني للخطر قبل مجيئي إلى شيكاغو ولكنني الآن سأُعيده إلى المكان الذي هو في مسيس الحاجة إليه؛ سأُعيده إلى روزلاند، وسأعيده إلى ألتجيلد، وسأفعل مثلما فعل بروميثيوس مع النار. تلك هي القصة التي كنتُ أرويها لنفسي، القصة نفسها التي تخيلتُ أبي وهو يرويها لنفسه منذ ٢٨ عامًا عندما ركب الطائرة إلى أمريكا؛ أرض الأحلام. ربما يكون قد اعتقد هو الآخر أنه يؤدي عملًا عظيمًا، وأنه لم يسافر فرارًا من أمورٍ لا تتطابق مع المنطق. وفي الواقع عاد بعدَها إلى كينيا، أليس كذلك؟ بلى، لكنه عاد رجلًا ذا روح ممزقة، وسرعان ما دُفِنَت خُططه وأحلامه … ترى هل سألقى نفس المصير؟ ربما كان جوني مُحقًّا في أنه بمجرد أن يُنحِّي المرء التبريرات جانبًا تُصبح المسألة دائمًا مسألة هروب. هروب من الفقر أو السأم أو الجريمة أو القيود المفروضة بسبب لون البشرة. ربما لا يكون التحاقي بكلية الحقوق إلا تكرارًا لنمطٍ بدأ منذ قرون عندما وطئت أقدام البِيض الشواطئ الأفريقية — بعدما دفعتهم مخاوفهم من أمورٍ لا تتطابق مع المنطق — حامِلين معهم بنادقهم وجوعهم الأعمى حتى يسحبوا المهزومين في قيودهم. أعادت هذه المواجهة الأولى رسم خريطة حياة السود، وأعادت تحديد مركز عالمهم، وخلقت الفكرة الجديدة المتمثلة في الهروب؛ تلك الفكرة التي ظلَّت باقية في نفس فرانك وغيره من السود العجائز الذين وجدوا ملاذًا لأنفسهم في هاواي، وفي نفس جويس الفتاة ذات العينَين الخضراوَين في جامعة أوكسيدنتال التي كانت ترغب في أن تكون إنسانة فحسب، وفي أوما الممزقة المشاعر بين ألمانيا وكينيا، وفي روي الذي اكتشف أنه لن يستطيع أن يبدأ حياته من جديد. وظلت باقية هنا في الجانب الجنوبي من شيكاغو بين رعايا كنيسة القس فيليبس الذين ربما سار بعضهم بجانب الدكتور مارتن لوثر كينج مؤمنين بأنهم يسيرون من أجل تحقيق هدفٍ سامٍ، ومن أجل الحقوق والمبادئ ومن أجل جميع البشر أبناء الرب، على أن هؤلاء الرعايا أدركوا في مرحلةٍ ما أن السلطة مُتعنتة والمبادئ ليست ثابتة، وأنه حتى بعد سَن القوانين وإلغاء تنفيذ حكم الإعدام دون محاكمةٍ استمر أقرب مفهوم للحرية يحمل بين طياته معنى الهروب — الهروب النفسي إن لم يكن المادي — بعيدًا عن أنفسنا وبعيدًا عما عرفناه في رحلةٍ إلى خارج حدود إمبراطورية الرجل الأبيض، أو ربما أقرب من ذلك، إلى قلبها. لم تكن المقارنة دقيقة تمامًا، ولم تكن العلاقة بين البِيض والسود ومعنى الهروب مماثِلَين من منظوري لما كانا عليه من منظور فرانك أو أبي أو حتى من منظور روي. وفي ظل أنين شيكاغو من ضغط الفصل العنصري، وفي ظل التوتر بين الأعراق تسبَّب نجاح حركة الحقوق المدنية على الأقل في خلق بعض التداخُل بين المجتمعات، ومنْح أمثالي مساحةً أكبر للمناورة. فكَّرتُ في أنني يمكنني العمل في المجتمع الأسود كمنظِّمٍ أو محامٍ وفي الوقت نفسه أسكن في وسط المدينة في بناية شاهقة. أو العكس تمامًا؛ العمل في مؤسسة قانونية كبيرة وأسكن في الجانب الجنوبي وأشتري منزلًا كبيرًا وسيارة جميلة وأتبرع ﻟ «الجمعية الوطنية للارتقاء بالملونين» وإلى حملة هارولد الانتخابية، وأُلقي الخُطَب في المدارس الثانوية المحلية، ويُطلقون عليَّ لقب المثل الأعلى لنجاح الرجل الأسود. هل يشوب هذا شائبة؟ من الواضح أن جوني لم يفكِّر بهذه الطريقة. أدركتُ الآن أن الابتسامة التي ارتسمت على شفتَيه لم تكن تعبيرًا عن رأيه فيَّ، ورأيتُ أنه — مثله مثل قادتي — لم يرَ أيَّ خطأ في السعي لتحقيق مثل هذه النجاحات. وكان هذا درسًا من الدروس التي تعلمتُها خلال عامَين ونصف قضيتها في شيكاغو، ألم يكن كذلك؟ تعلمت درسًا فحواه أن معظم السود لم يكونوا مثل صورة أبي التي حلمتُ بها ولم يكونوا مثل الرجل الذي كان بطلًا في القصص التي حكتْها لي أُمي؛ رجل المُثل العليا المتضخمة الذي يُصدِر أحكامه وآراءه سريعًا. على النقيض من ذلك كان معظم هؤلاء السود أشبه بلولو — زوج أمي — حيث كانوا عملِيين للغاية وعرفوا أن الحياة قاسية للغاية فلا ينبغي أن يُصدِر أيٌّ منهم حكمًا عن الآخر، وعرفوا أن الحياة غاية في الفوضوية فلا يمكن العيش فيها طبقًا لمثاليات مجردة. لم يتوقع أيٌّ منهم أن أُضحي بنفسي من أجلهم؛ لم يتوقع ذلك رفيق الذي كان يُلحُّ عليَّ قبل قليل في مساعدته لجمع تبرُّعات من مؤسسات البِيض لتمويل مشروعه الأخير، وكذلك القس سمولز الذي قرَّر أن يُرشِّح نفسه في انتخابات الولاية للحصول على عضوية مجلس الشيوخ، وكان يتوق للحصول على دعمنا. وكان شغلهم الشاغل جميعًا أن لوني الأسمر معيارٌ كافٍ للالتحاق بعضوية المجتمع، وهو ما يُعتبر في حدِّ ذاته أمرًا كريهًا ينبغي أن أتحمَّله. هل كان ما أحضرني إلى شيكاغو الرغبةُ في الحصول على قبول الآخرين؟ هذا أحد الأسباب التي أتت بي إلى هنا، وبكل تأكيد فإن هذا القبول أحد معاني المجتمع. لكن هناك معنًى آخر للمجتمع ودافعًا أكثر إلحاحًا وتأثيرًا. بالطبع كان يمكن أن يكون المرء أسود دون أن يأبَهَ بما يحدُث في ألتجيلد أو روزلاند. أو يأبه بأحوال صِبية مثل كايل وأمَّهات صغيرات مثل بيرناديت أو سادي. أما أن يُحسِّن المرء لنفسه وللآخرين ويُضفي معنًى على معاناة المجتمع بالإسهام في التئام جرحها، فهذا الأمر يتطلَّب ما هو أكثر. إنه يتطلَّب نوعًا من الالتزام مثل ما كانت تقوم به دكتورة كوليار يوميًّا في ألتجيلد، وتضحيات مثل التي كان السيد أسانتي مُستعدًّا لتقديمها لطلَّابه. ويتطلَّب ذلك إيمانًا أيضًا. ألقيتُ نظرة سريعة على النافذة الصغيرة في الطابق الثاني في الكنيسة وتخيلتُ القس العجوز داخلها وهو يكتب مسودة العظة التي سيُلقيها يوم الأحد. لقد سألني عن مصدر إيماني. وعلى حين غِرة خطر ببالي أنني ليس لديَّ إجابة عن سؤاله. وربما أكون في الوقت الراهن لديَّ إيمان بذاتي. لكن إيمان المرء بنفسه لا يمكن أن يكون كافيًا. أطفأتُ سيجارتي وأدرتُ محرك السيارة. ونظرت من المرآة الخلفية وأنا أقود، وشاهدت لاعبي الورق الصامِتين العجائز وهم يختفون عن أنظاري. ••• تقابلت مع عددٍ أكبر من خُدَّام الكنائس السُّود في المنطقة على أملِ إقناعهم بالانضمام إلى عملنا التنظيمي، وكان جوني يدير الأنشطة اليومية الخاصة بهذا العمل. كانت هذه العملية تسير بخطواتٍ بطيئة؛ إذ كان معظم القساوسة السود — على عكس القساوسة الكاثوليكيين — مُستقلِّين بصورةٍ كبيرة ومُنغلقين على أنفسهم في أبرشياتهم غير مبالين ولا يحتاجون كثيرًا إلى أية مساعدات خارجية. وكلما اتصلتُ بهم هاتفيًّا أبدَوا، عادةً، ارتيابهم مني أو راوغوني حائرين من سبب رغبتي في استقطاع بضع دقائق من وقتهم ظانِّين تارةً أنني مُسلم وتارةً، وهو الأسوأ، أنني أيرلندي. أما القساوسة الذين قابلتُهم فقد تطابقَتْ شخصياتهم مع الشخصياتِ التي تظهر في روايات ريتشارد رايت أو خُطَب مالكولم إكس، القساوسة أصحاب اللُّحى الذين شاب شعرهم المتظاهرين بالتقوى وهم يُبشِّرون بالجنة في الحياة الآخرة، أو مُتديِّنين بارعين يجوبون الشوارع للترويج لدينهم راكبين سياراتٍ تلفت الأنظار وأعينهم لا تفارق سلَّة التبرُّعات. وكلما أُتيحت لي الفرصة لمقابلة هؤلاء الرجال وجهًا لوجهٍ انبهرت. ذلك لكونهم — كمجموعة — مُراعين حقوقَ الآخرين ومُثابرين ولدَيهم من الثقة وتحديد الهدف ما جعلهم أفضلَ المنظمِّين على الإطلاق في أحيائهم. كانوا كرامًا في مَنحي أوقاتهم، ومُهتمين بالقضايا، ومُستعدين — بطريقةٍ تبعث على الدهشة — للتحدُّث أمامي عن أنفسهم بكلِّ صراحة. مثلًا تحدَّث أحد الخدَّام ذات مرةٍ عن إدمانه المقامرة فيما مضى. وأخبرَني خادم آخر عن سنواته التي قضاها مديرًا تنفيذيًّا ناجحًا وهو سِكِّير في الخفاء. تحدَّث جميعهم عن فتراتٍ من الشك الديني؛ كانت هذه الفترات تبدأ بالتفكير في فساد العالَم من حولهم وعدم نقاء قلوبهم، ثم السقوط في الهاوية وتحطُّم كبريائهم، وفي النهاية يأتي إحياء النفس من جديد، النفس التي تتحوَّل إلى شيءٍ أكبر، أصرَّ هؤلاء الرجال على أن هذا كان مصدر ثِقتهم؛ ألا وهو سقوطهم الشخصي ثم خلاصُهم فيما بعد. وكان هو ما أعطاهم المرجعية لأن ينشروا تعاليم الإنجيل. وكان بعضهم يسألني: هل سمعتَ الإنجيل؟ هل تعرف مصدر إيمانك؟ عندما طلبتُ أسماء قساوسة آخرين للتحدُّث معهم أعطاني العديد منهم اسم القس رايت الذي كان الخادم نفسه الذي ذكره لي القس فيليبس ذاك اليوم في كنيسته. كان من الواضح أن الخُدَّام الأصغر سنًّا ينظرون إلى القس رايت باعتباره مُعلِّمًا، وإلى كنيسته باعتبارها نموذجًا لما يأمُلون هم أنفسهم في تحقيقه. أما عن القساوسة الأكبر سنًّا فكانوا أكثر احتراسًا عند مدحهم إيَّاه ومنبهِرين بالتطوُّر السريع لأبرشية المسيح المتحدة للثالوث، لكنهم إلى حدٍّ ما يحتقرون شعبيَّتها بين العامِلين الشباب السود. (قال لي أحد القساوسة عنها ذات مرة: «كنيسة المتعلِّمين السود».) في أواخر شهر أكتوبر، سنحت لي الفرصة لزيارة القس رايت ورؤية الكنيسة بنفسي. وعندما ذهبتُ رأيت مبنًى مفعمًا بالحياة في شارع ٩٥ في حيٍّ سكني يبعُد عن مشروعات لودين هوم ببعض المباني. في البداية توقَّعتُ أن أرى مبنًى ضخمًا مهيبًا، لكن اتضح أنه مبنًى مُتواضِع منخفض، مبنيٌّ بالطوب الأحمر، وبه نوافذ بزوايا، ومحاطٌ بأشجارٍ ونباتات خضراء، وشجيرات تبدو وكأن نحَّاتًا بارعًا قد نحتها بيدَيه، ولافتة صغيرة مُثبتة في الأرض المكسوة بالعشب مكتوب عليها بحروف كبيرة «حرِّروا جنوب أفريقيا». أما عن الكنيسة من الداخل فإنها كانت جميلة وتعجُّ بالنشاط. وكان بها مجموعة من الأطفال الصغار المنتظِرين أهلَهم لأخذِهم من دار الحضانة. مرَّت مجموعة من الفتيات المراهقات ترتدي ما كان يُشبه زيَّ الرقص الأفريقي. وظهر أربع سيدات مُتقدِّمات في السن من حرم الكنيسة، وصاحت إحداهنَّ «الرب خيِّر!» وردَّ عليها الأخريات قائلات: «طَوال الزمان!» في نهاية المطاف جاءتني سيدة جميلة ذات أسلوبٍ مرح ومُفعم بالحيوية، وعرَّفتني بنفسها قائلة إن اسمها تراسي وإنها إحدى مساعِدات القس رايت. وقالت إن القس سيتأخَّر بضع دقائق وسألتني هل أرغب في تناول القهوة. وفي أثناء اتِّباعي لها في طريق المطبخ في الجزء الخلفي للكنيسة بدأنا نتحدَّث وكان حديثنا في معظمه عن الكنيسة وإن كانت قد حدَّثَتْني قليلًا عن نفسها. قالت لي إنها مرَّت بعامٍ عصيب؛ فزوجُها تُوفِّي قريبًا، وفي غضون بضعة أسابيع ستنتقل إلى الضواحي. ثم استطردت قائلةً إنها قاومت كثيرًا هذا القرار لأنها عاشت معظم حياتها في المدينة، لكنَّها رأت أن الرحيل سيكون أفضلَ لابنها المراهق. بدأت تشرح لي كيف أن زيادة عدد عائلات السود في الضواحي ستساعد ابنَها في أن يسير بحريةٍ إلى مدرسته دون أن يتعرَّض للمُضايقة، وكيف أن المدرسة التي سيلتحِق بها تشتمِل مناهجُها على حصصٍ للموسيقى وفرقة موسيقية وأنه سيحصل على آلات موسيقية وزيٍّ موحَّد بالمجان. قالت تراسي برِقَّة: «أراد ابني دائمًا أن يكون عضوًا في فرقة موسيقية.» وبينما كنا نتحدَّث لاحظتُ رجلًا في أواخر سنِّ الأربعين يسير تجاهنا. كان شعره وشاربه ولحيته بِيضًا، ويرتدي حُلَّة رمادية من ثلاث قطع. تحرَّك ببطءٍ وبانتظام نحونا كما لو كان يريد الحفاظ على طاقته وعدم إهدارها، كان ينظر بالتتابُع إلى رسائله واحدةً تلوَ الأخرى وهو يمشي ويُهمهِم لنفسه بأحد الألحان. «باراك!» هكذا قال كما لو كنَّا صديقَين قديمين، «دعنا نرَ هل ستسمح تراسي لي بأخذ دقيقةٍ من وقتك.» قالت تراسي وهي تقف وتجذب ثوبها لأسفل: «لا تنتبِه إليه يا باراك.» وتابعت: «كان من المفترَض أن أُحذِّرك من أنَّ القس يُحب المزاح في بعض الأحيان.» ابتسم القس رايت وقادني إلى مكتبٍ صغير يعجُّ بأشياءَ كثيرة مبعثرة، وقال بعد أن دخل وأغلق الباب خلفه: «آسِف على التأخير.» وتابع: «إننا نحاول بناء حرمٍ جديد للكنيسة، وكان عليَّ مقابلة المصرفيين. إنهم دائمًا في حاجةٍ إلى أشياءَ إضافية من المرء. وآخِر ما طلبوه هو بوليصة أخرى للتأمين على حياتي خشيةَ أن أموت غدًا. إنهم يتصوَّرون أن الكنيسة بأكملها ستنهار في عدم وجودي.» «هل هذا صحيح؟» هزَّ القس رايت رأسه. وقال: «إنني لست الكنيسة يا باراك. وإن لقيتُ حتفي غدًا، لا آمُل إلا أن يَدفِنَني رعايا الكنيسة دفنًا لائقًا. وإنني أميل إلى التفكير في أن بعض الدموع ستسيل حزنًا على موتي. لكن بمجرد أن أُدفَن تحت الأرض بستة أقدام فإنهم سرعان ما سيبحثون ما يمكن فعله كي تؤدي الكنيسة رسالتها.» تربَّى القس في فيلادلفيا وكان ابنًا لخادمٍ معمداني. قاوم الرجل نداءه الداخلي للاشتغال بوظيفة أبيه في البداية؛ ولذا التحق بالقوات البحرية بعد تخرُّجه، واهتمَّ بمعرفة الكثير من المعلومات عن تجارة المشروبات الروحية وعن الدين الإسلامي والقومية السوداء في ستينيَّات القرن العشرين. لكنَّ نداء الإيمان في قلبه ظل باقيًا بوضوح، وفي آخِر المطاف التحق بجامعة هاورد، ثم بجامعة شيكاغو حيث قضى ست سنوات يدرُس للحصول على شهادة الدكتوراه في تاريخ الأديان. تعلَّم اللغة العبرية واليونانية وقرأ أعمال تيليش ونيبور وكتابات علماء اللاهوت التحرُّريين السود. أحضرَ القسُّ معه إلى كنيسة الثالوث منذ عَقدَين من الزمن غضَبَ رجلِ الشارع وفكاهته. ومع أنني لم أعرف الكثير عن سيرته إلا فيما بعدُ؛ فقد أصبح من الواضح من لقائي الأول معه — على الرغم من إنكاره المستمر لهذا الأمر — أن موهبته الشاملة وقدرته على توحيد العناصر المتعارضة لتجربة السود، إن لم يكن التوفيق بينها، كانت الأساس للنجاح الذي حققته الكنيسة في النهاية. قال لي القس رايت: «إن لدَينا العديد من الشخصيات المختلفة هنا.» وتابع: «علماء الثقافة الأفريقية من ناحية. والمتمسِّكون بالتقاليد من ناحيةٍ أخرى. وبين الحين والآخر أجد أنه لا مفرَّ لي من أن أتدخَّل وأُهيِّئ الأمورَ قبل أن يختلف الحزبان. لكنَّ هذا نادرًا ما كان يحدُث. وفي المعتاد إن خطرت ببالِ أحدهم فكرةُ استحداث خدمةٍ دينية جديدة أُخبِره بأن يسعى لتطبيقها ولا أُعرقل طريقَهم.» من الواضح أن منهجه في العمل أتى بثماره؛ فقد ازداد عدد أعضاء الكنيسة من ٢٠٠ عضو إلى أربعة آلاف عضو خلال مدة تولِّيه المنصب، وكانت هناك أنشطة تُرضي جميع الأذواق بدءًا من اليوجا وحتى النوادي المبنية على طرازِ تلك الموجودة في جزر البحر الكاريبي. كان القس سعيدًا للغاية بالتقدُّم الذي تُحرزه الكنيسة في زيادة عدد أعضائها مع أنه أقرَّ بأن المشوار أمامهم لا يزال طويلًا. قال القس رايت: «ليس هناك شيء أصعب من الحصول على اشتراك إخوة في مرحلة الشباب مثلك.» وتابع: «في الواقع إنهم يهتمُّون بصفةٍ أساسية بكونهم لطفاءَ غيرَ حادِّي الطباع. ويقلقون بشأنِ ما يقوله عنهم أصدقاؤهم. ويقولون لأنفسهم إن الكنيسة تليق بالسيدات أكثرَ من الرجال، وإنه من علامات الضعف أن يعترف أيُّ رجلٍ بأن لدَيه احتياجات روحانية.» نظر القس إليَّ بعد ذلك نظرةً جعلتني أشعر بالتوتر. لذا قررتُ أن أغيِّر مجرى المحادثة إلى موضوعٍ آخر أكثرَ ألفةً لكِلَينا، فأخبرتُه عن مشروع التنمية المحلية وعن القضايا التي كنا نركز عليها موضحًا الحاجة إلى أن تنضمَّ إلينا الكنائس الكبيرة مثل كنيسته. جلس في صمتٍ وصبْر واستمع إلى كلامي وعندما انتهيتُ أومأ برأسه. وقال لي: «سأحاول مساعدتك إذا استطعت.» واستدرك: «لكن ينبغي لك أن تعرف أن انضمامنا إليك لا يُعدُّ بالضرورة شرفًا لك.» «لماذا؟» هزَّ القس كتفَيه. وقال: «لا يُقدِّر بعضُ رجال الدين زملائي ما نتحدَّث بصدده. فهم يشعرون أننا بذلك سنختلف اختلافًا جذريًّا عنهم. وبالنسبة إلى آخرين فإننا لا نختلف اختلافًا كافيًا. وبعضهم يرانا عاطفِيِّين للغاية. ويرانا آخرون غير عاطفيين بصورةٍ كافية. وتركيزنا على التاريخ الأفريقي وعلى الثقافة …» قاطعتُه بقولي: «يقول بعض الناس إن الكنيسة قادرة على التحوُّل السريع إلى الأفضل.» تلاشت ابتسامة القس. وقال بحدة: «هراء!» وتابع: «الناس الذين يتفوَّهون بهذا الكلام يعكسون اضطرابهم الداخلي. فهم آمنوا بكلِّ الأشياء التي تعوق عملَنا معًا. ونصف هؤلاء يعتقدون أن أفراد العصابات السابقة أو المسلمين السابقين ينبغي ألا يكون لهم علاقة بشئون الكنيسة. ويعتقد النصف الآخر أن أيَّ رجلٍ أسود متعلم أو يعمل في وظيفةٍ أو ينضم إلى كنيسةٍ تحترم الثقافة هو رجلٌ مُشتَبَه فيه إلى حدٍّ ما. إننا لا نؤمن بهذه الانقسامات الزائفة هنا. كما أن الأمر ليس متعلقًا بالدخل المالي يا باراك. فالشرطيون لا يسألون عن حسابي في البنك عندما يُوقفون سيارتهم بجانب الطريق ويجعلونني أقف مباعدًا بين قدميَّ ورافعًا يديَّ لأعلى. هؤلاء الإخوة لا يستوعبون الأمر كما ينبغي، شأنهم شأن ذلك الأستاذ الذي يُدرِّس علم الاجتماع في جامعة شيكاغو ويتحدَّث عن «الأهمية المتناقصة للعِرق.» فهل يعرف هذا الأستاذ في أية دولة يعيش؟» بعد ذلك سألته: أليست الانقسامات الطبقية مسألةً حقيقية؟ وذكرت للقس المحادثة التي كانت بيني وبين مُساعِدته بخصوص مَيل البعض للرحيل من المدينة. فخلع نظارته وحكَّ عينَيه المُتعبتَين. وقال بهدوء: «لقد أبلغتُ تراسي برأيي في مسألة الرحيل من المدينة.» وأضاف: «إن ابنها سيذهب إلى هناك دون معرفة مَن هو أو إلى أين ينتمي.» «من الصعب المخاطرة بأمن طفلك.» «إن الحياة ليست آمنة لرجلٍ أسود في هذا البلد يا باراك. وأبدًا لم تكن كذلك. ومن المُحتمل أنها لن تكون أيضًا.» بعد ذلك اتصل السكرتير ليُذكَّر القس رايت بميعاده التالي. تصافحنا ووافق على أن تُعِدَّ تراسي قائمة بأسماء الأعضاء المفترض أن يُقابلوني. ثم وأنا في مكانِ انتظار السيارات جلستُ في سيارتي أتصفَّح سريعًا صفحات كتيبٍ فضي اللون أخذته من مكتب الاستقبال بالكنيسة. اشتمل هذا الكتيب على مجموعةٍ من المبادئ الإرشادية — مثل نظام قيمة السود — التي تبنَّتها الأبرشية عام ١٩٧٩. وفي أعلى القائمة مكتوب وعد للرب «الذي سيهبنا القوة حتى نتوقَّف عن التواكُل، وحتى نُصبح نشطاء مسيحيين سودًا وجنودًا هدفنا حرية السود وتحقيق كرامة البشرية كلها.» وتلا هذا الوعدَ وعدٌ آخَر تجاه المجتمع الأسود والعائلات السوداء والتعليم وأخلاقيات العمل والنظام واحترام الذات. كانت هذه القائمة صادقةً ومخلصة، لكنني أشكُّ في أنها لم تكن مختلفة عن القِيَم التي يمكن أن يكون القس فيليبس العجوز قد تعلَّمها في كنيسته المطلية باللون الأبيض في الريف منذ ٦٠ عامًا. كانت هناك فقرة بعَينها في كتُيب كنيسة الثالوث تتميز عن غيرها من الفقرات؛ إذ تشتمل على وصيةٍ يظهر في نبرتها وعيٌ أكثرُ بالذات في احتياجها إلى مزيدٍ من التوضيح. عنوان الوصية: «التبرؤ من السعي للانضمام إلى الطبقة المتوسطة.» وبدأ متنها بالعبارة التالية: «في الوقت الذي يُوصى فيه بالسعي للحصول على «دخل متوسط» بكلِّ ما أوتيت من قوة»، فإن هؤلاء الذين أنعم الرب عليهم بموهبة (أو بموفور الحظ) مما ساعدهم على تحقيق النجاح وسط الاتجاه الأمريكي السائد لا بد من أن يتجنَّبوا الوقوع في الفخ النفسي ﻟ «الطبقة المتوسطة» السوداء التي تدفع الناجِحين من الرجال والسيدات دفعًا إلى الاعتقاد في أنهم أفضل من الباقين وتُعلِّمهم كيف يُفكِّرون من منطلق «نحن» و«هم» بدلًا من «جميعنا»!» ••• أعدتُ التفكيرَ مرةً أخرى في هذه الوصية في الأسابيع التي تلت مُقابلتي للقس رايت وقت لقائي بالأعضاء الآخرين لكنيسة الثالوث. رأيتُ أن سلوك القس رايت كان على الأقل مبررًا إلى حدٍّ ما عندما رفض الانتقادات الموجَّهة إلى الكنيسة لأن أغلبية الأعضاء من الطبقة العاملة مثلهم مثل المدرسين وموظفي السكرتارية والعمال الحكوميين في الكنائس السوداء الكبرى في أنحاء المدينة. أما سكان مشاريع الإسكان القريبة فقد جرى اجتذابهم وتوفير الوظائف لهم، وصُمِّمت برامج للوفاء باحتياجات الفقراء — مثل المساعدات القانونية والتعليمية وبرامج علاج الإدمان — وكلها أمور كانت تلتهم قدرًا كبيرًا من موارد الكنيسة. وحتى الآن يعرف الجميع أن عدد المختصِّين السود بالكنيسة غير كافٍ، من مهندسين وأطباء ومحاسبين ومديري شركات. فبعضُهم ترعرع في كنيسة الثالوث وبعضهم انتقل إليها من طوائف مسيحية أخرى. واعترف العديد منهم بأنهم ابتعدوا عن ممارسة الدين لوقتٍ طويل؛ بعض هؤلاء فعل ذلك عن عمدٍ كجزءٍ من وعيٍ فكري أو سياسي، لكن البعض الآخر فعل ذلك لأن الكنيسة بدت غير ملائمة لهم وهم يعملون في مؤسسات البِيض بصفةٍ أساسية. في مرحلةٍ ما أخبروني جميعًا بأن طريقهم الروحاني صار مسدودًا، وهو الشعور — الغامض والمقبِض للصدر من أول وهلة — بأنهم انفصلوا عن ذاتهم. وبصفةٍ متقطعة ثم منتظمة، كانوا يعودون إلى الكنيسة ليجدوا فيها بعضًا من الأشياء نفسها التي يسعى كلُّ دين إلى تقديمها إلى أتباعه؛ الملاذ الروحاني والفرصة كي يرى المرء مواهبه مقدَّرة أيما تقدير بطريقةٍ لا يستطيع المال أن يُوفيها حقَّ قدْرها، والطمأنينة — عندما تتيبس العظام ويشيب الشعر — بأنهم مُنتمون إلى شيء سيبقى بعد زوال حياتهم، وأنه عندما يحين أجلهم سيكون هناك أناس يُحيُون ذكراهم. فكَّرتُ في أن الدافع الديني ليس هو ما يحرِّك هؤلاء الناس جميعًا، وأنهم لم يعودوا للكنيسة من أجل المسيح فقط. وخطر ببالي أن كنيسة الثالوث — بأفكارها الأفريقية وبتركيزها على تاريخ السود — استمرت في أداء الدور الذي وصفه القس فيليبس في البداية كأداة لإعادة توزيع القِيَم وترويج الأفكار. إلا أن عملية إعادة التوزيع لم تَسِر عندئذٍ في اتجاهٍ واحد فحسب من مُدرِّس المدرسة أو الطبيب الذي كان يرى أن المسيحية تُحتِّم عليه مساعدة المُزارع المستأجَر أو الشاب القادم من الجنوب في التكيُّف مع حياة المدن الكبيرة. بل أصبح تيار الثقافة يسير في الاتجاه العكسي أيضًا؛ فعضو العصابات السابق والأم المراهِقة يدَّعِيان أنهما تعرَّضا لقدرٍ أكبرَ من الحرمان ومن ثَمَّ ينبغي التعامل معهما على أساس أنهما مُتساويان مع غيرهما، وهكذا يُصبح وجودهما في الكنيسة عاملًا يزوِّد المحامي أو الطبيب بخبراتٍ مُستقاةٍ من الشوارع. وعن طريق فتح أبوابها أمام الجميع أكَّدت كنيسة الثالوث لأعضائها أن أقدارهم واحدة، وأن كلمة «جميعنا» الجلية لا تزال باقية. كان هذا المجتمع الثقافي برنامجًا فعَّالًا أكثرَ مرونةً من القومية العادية وأكثرَ تحمُّلًا من أيٍّ من برامجي التنظيمية. ولكن لا أزال لا أستطيع التوقُّف عن التساؤل بخصوص هل كان يكفي منْع مزيدٍ من الناس من الرحيل عن المدينة أو إبعاد الشباب عن دخول السجن. وهل الزمالة المسيحية بين مدير مدرسةٍ أسودَ على سبيل المثال، وولي أمرٍ أسودَ لأحد الطلاب، يمكن أن تُغيِّر أسلوب إدارة المدارس؟ وهل يسمح الاهتمام بالإبقاء على هذه الوحدة للقسِّ رايت بأن يُعبِّر عن رأيه في آخِر الاقتراحات المقدَّمة لإصلاح الإسكان العام؟ وإن كان رجالٌ مثل القس رايت قد فشلوا في التعبير عن آرائهم، وإن رفضت الكنائس مثل الثالوث الاشتراكَ بفاعلية في الأمر والمخاطرة بحدوث نزاعٍ فِعلي، إذن ما فرصة الحفاظ على وحدة المجتمع الأكبر؟ في بعض الأحيان كنتُ أطرح هذه الأسئلة على مَن أُقابلهم. وكانوا يُجيبونني بنظرة الارتباك نفسها التي كان ينظر بها لي القسِّ فيليبس والقس رايت. ووجهة نظرهم أن المبادئ الموضحة في كتيب الثالوث مقالات إيمانية لا تزيد عن الاعتقاد في يوم البعث. وقالوا لي إن لدَيك أفكارًا طيبة. وربما إن انضممتَ إلى الكنيسة يمكنك مُساعدتنا في بدء برنامج للمجتمع. لماذا لا تأتي يوم الأحد؟ وما كنتُ أفعله هو أن أهزَّ كتفَي وأُكرِّر السؤال مرةً أخرى، غير قادر على الاعتراف بأنني لم أعُد أستطيع التمييز بين الإيمان والهراء، وبين الإيمان والثبات؛ بمعنى أنني كنتُ أومن بالصِّدق الذي كنتُ أسمعه منهم، وفي نفس الوقت بقِيتُ مُتشككًا في دوافعي الخاصة ومحترسًا من الاهتداء الضروري، وكان كل ذلك بسبب صراعاتي الكثيرة مع مفهوم الرب التي منعتني مِن تقبُّل فكرة أن الخلاص يمكن أن أحصل عليه بمثل هذه السهولة. ••• مات هارولد واشنطن قبل يومٍ واحد من الاحتفال بعيد الشكر. حدث ذلك دون سابق إنذار. وقبل وفاته ببضعة أشهر كان هارولد قد فاز في الانتخابات المعادة فوزًا ساحقًا على فردولياك وبيرن مُحطِّمًا سياج الفشل الذي أحاط بالمدينة على مدار الأربع سنوات السابقة. أدار هارولد حملته الانتخابية هذه المرةَ بمهارةٍ شديدة؛ إذ استعمل حنكته التي حصل عليها بخبرة السنوات وتخلَّى في هذه الحملة عن تلك الحماسة التي اتصف بها عام ١٩٨٣؛ كانت حملة توحيد ودعم، حملة ميزانيات مُتوازنة ومشاريع عامة. استطاع هارولد التواصُل مع بعض السياسيين القدامى — من الأيرلنديين والبولنديين — المستعدِّين لصُنع السلام، وأرسلَتْ إليه الشركات الأموال مُعلِنةً تقبُّلها لوجوده. ومن ثَمَّ فإن سلطته أصبحَت آمِنةً للغاية مع أن أصوات الاستياء علَتْ في النهاية في قاعدته من بين القومِيِّين السود اليائسين بسبب استعداده لتقليل عدد العاملين من البِيض والهيسبانيين، وبين النشطاء المحبطين بسبب فشلِه في التعامل مباشرةً مع الفقر، وبين مَن فضَّلوا الحُلم على الحقيقة، والأهمية على الحلول الوسط. لم يعطِ هارولد اهتمامًا كثيرًا لهذه الانتقادات. ورأى أنه لا يُوجَد سببٌ للمخاطرة والتسرُّع. وقال إنه سيكون العمدة على مدار العشرين عامًا القادمة. ثم حلَّ الموت؛ مفاجِئًا وبسيطًا وحاسمًا، بل سخيفًا في حدوثه بصورةٍ عادية وانتزاعه النبض من قلب هذا الرجل الضخم. كان الجوُّ ممطرًا وباردًا في عطلة نهاية الأسبوع هذه. وخيَّم الصمت على شوارع الحي. وبكى الناس داخل المنازل وخارجها. وأخذت المحطات الإذاعية التي تبثُّ برامجها للسود تُعيد إذاعة خُطَب هارولد — ساعةً بعد أخرى — وكأنهم يحاولون استدعاء روح الميت. وفي مجلس المدينة كانت الصفوف تمتدُّ بطول بضع بنايات حيث الحزانى ذاهبون لزيارة الجثة الراقدة في سلام. وظهر السُّود في كل مكان مذهولِين ومذعورين وخائفين من المستقبل وفي حالةٍ من عدم القدرة على تحديد الاتجاهات. عندما حان وقت الجنازة عزف مؤيدو حكومة واشنطن على ألحان الصدمة الأولى. فبدءوا في مقابلة الناس وإعادة تجميعهم مُحاولين تحديد استراتيجيةٍ للحفاظ على السيطرة ومحاولين أيضًا اختيار وريثٍ عادل لهارولد. لكن في الواقع كان أوان ذلك قد فات. حيث لم يكن هناك أيُّ حزبٍ سياسي أو مبادئ مُعترف بها بوضوح حتى تُتَّبَع. كانت المبادئ السياسية للسُّود قد تركَّزت حول رجلٍ واحد كان مُشرقًا كالشمس الساطعة في السماء. لكنه غاب الآن عن الأنظار ولم يستطِع أحدٌ الاتفاقَ على معنى وجوده السابق. دبَّ النزاع بين مُؤيدي واشنطن. وظهرت الفصائل. وانتشرت الإشاعات. وفي يوم الإثنين — اليوم الذي كان من المقرَّر فيه أن يُحدِّد مجلس المدينة عمدةً جديدًا ليكون في الحكم لحين ميعاد الانتخابات — انفكَّ الائتلاف الذي منح هارولد منصبه. ذهبتُ إلى مجلس المدينة مساء هذا اليوم لأُشاهد الموتَ الثاني؛ حيث إن الناس — وكان أغلبهم من السود — تجمعوا خارجَ قاعاتِ الاجتماع في مجلس المدينة من بعد الظهيرة، كان منهم الشيوخ والفضوليون، رجالًا وسيداتٍ يحملون شعاراتٍ ولافتات. كانوا يصرخون في وجوه أعضاء مجلس المدينة الذين أبرموا صفقةً مع جبهة البِيض. ولوَّحوا بأوراق الدولارات في وجه عضو مجلس المدينة الأسود الهادئ الطِّباع المعسول اللسان الذي كان في السلطة منذ وجود الأحزاب السياسية التي تهدف إلى تحقيق مآربها الشخصية، والذي يدعمه أعضاء مجلس المدينة البِيض. لذا أطلقوا على الرجل لقبَ الخائن وخادم البِيض. وأخذوا يهتفون ويمشون بخطواتٍ غاضبة سريعة ويُقسِمون بأنهم لن يَبرحوا أماكنهم. على الرغم من كل ذلك فقد تمتَّعت السلطة بالصبر، وكانت تعرف ماذا تريد؛ حيث كان بوسعها هزيمةُ اللافتات، والصلوات، وبقاء الناس سهارى في الطريق تحت أضواء الشموع مُعبِّرين عن احتجاجهم. وقرابة منتصف الليل، وقبل أن يبدأ المجلس فعليًّا في أخذ الأصوات، فُتح الباب إلى قاعات الاجتماع لوقتٍ وجيز، ورأيتُ اثنَين من أعضاء مجلس المدينة يَتناقشان بصوتٍ خفيض. كان أحدهما أسودَ من رجال هارولد، والآخر أبيضَ من مُؤيدي فردولياك. وأخذا يتهامسان ويبتسِمان ابتساماتٍ قصيرة، وينظران إلى الحشود التي لا تزال تنشد، مُحاولين سريعًا التوقُّف عن الابتسام، كانا ضخمَي الجثة ممتلئي القوام يرتديان حُلَّتين ذواتَي الصفَّين من الأزرار ورأيتُ في عينَيهما نظرةَ الجوع نفسَها؛ رجُلَين يعرفان النتيجة مُسبقًا. غادرتُ مجلس المدينة بعد ذلك. واخترقتُ الزحام الذي تدفَّق إلى الشوارع ومشيتُ عبرَ طريق دالي بلازا قاصدًا سيارتي. كم كانت الرياح باردةً وحادة مثل شفرة السكين، وأنا في طريقي شاهدتُ لافتة بخط اليد ملقاةً على الأرض بجانبي. كان مكتوبًا عليها: «عاشت روحه» بحروف كبيرة واضحة. وأسفل الكلمات رأيتُ صورة هارولد، الصورة التي رأيتها كثيرًا وأنا أنتظر إخلاء أحد المقاعد في صالون سميتي للحلاقة، حيث الوجه الوسيم الأشهب والابتسامة الرقيقة المتسامحة، والعينان المتلألئتان، رأيت صورته وهي تتطاير في الهواء وكأنها ورقة شجر تُحرِّكها رياح الخريف. ••• مرَّت الشهور بسرعةٍ هائلة وأنا أتذكَّر دائمًا الأشياء التي لم تُنجَز بعد. وعملنا بالتعاون مع تآلُفٍ له شعبيته في المدينة كلِّها من أجل كسب التأييد لبرنامج إصلاح المدارس. وعقدنا مجموعةً من الاجتماعات المشتركة مع المكسيكيين في أقصى الجانب الجنوبي لوضع استراتيجيةٍ بيئية مشتركة للمنطقة. واستشاط جوني غضبًا وأنا أحاول أن أحشوه بكافة الأشياء التي تعلمتُها في ثلاث سنوات. سألته: «إذن مَن قابلته هذا الأسبوع؟» «حسنًا، تقابلتُ مع السيدة بانكس في كنيسةِ ترو فاين هولينيس. ويبدو أن لدَيها إمكانيات فائقة. فهي مُعلِّمة ولها اهتمامات كثيرة بالتعليم. وأعتقد أنها دون شكٍّ ستتعاون معنا.» «ما وظيفة زوجها؟» «نسيتُ في الواقع أن أسألها.» «ما رأيها في نقابة المعلمين؟» «لم يكن لدي سوى نصف ساعة فقط يا باراك …» في شهر فبراير، تلقيتُ خطاب قَبولي للدراسة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وجاء مع الخطاب قدْرٌ كبير من المعلومات. وذكَّرني هذا الأمر بالمعلومات التي تلقيتُها من أكاديمية بوناهو ذلك الصيف منذ ١٤ عامًا. وتذكَّرت كيف كان جَدي يجلس طوال الليل يتصفح الكتيب الدعائي الذي يعرِض لدروس الموسيقى ودورات التأهيل ونوادي الإنشاد الجماعي وشهادة إتمام الدراسة الثانوية؛ تذكَّرتُ كيف كان يُلوِّح بالكتيب ويُخبرني بأنه سيكون ورقتي الرابحة وبأن مَن سأتعرَّف عليهم في أكاديمية بوناهو سيظلُّون معي طوال حياتي، وأنني سوف أكون عضوًا نشطًا في المجتمع وستُتاح لي كل الفرص التي لم تُتَح له. تذكَّرت كيف كان في نهاية المساء يبتسِم ويمسح على شعري وتتلألأ الدموع في عينَيه كما لو كان على وشْك البكاء ورائحة الويسكي تنبعِث من فمه. وكيف كنتُ أبتسِم له وأتظاهر بأني أفهم ما يقوله لكنني كنتُ في الواقع أتمنَّى لو كنتُ لا أزال في إندونيسيا أركض بين حقول الأرز حافيَ القدمَين، منغمسة قدماي في الوحل الرَّطب البارد وأنا واحِدٌ من أفراد ذلك الصف من الأطفال ذوي البشرة السمراء الذين يَجْرون وراء طائرةٍ ورقية ممزقة. راودني هذا الشعور نفسه الآن. رتَّبتُ لدعوة ٢٠ خادم كنيسة — أو ما يقرُب من ذلك — الذين وافقَت كنائسهم على الانضمام إلى المؤسسة على غداء عملٍ هذا الأسبوع في مَكتبنا. وجاء معظم الخُدَّام المدعوِّين ومعظم أفراد القيادة الرئيسيين. وناقشنا معًا استراتيجيات العام القادم والدروس التي تعلمناها من موت هارولد. هذا بالإضافة إلى أننا حدَّدنا فترةَ التدريب واتفقنا على قيمة المشاركة المالية، وتحدَّثنا عن الحاجة المستمرة لانضمام عددٍ أكبرَ من الكنائس. وعند انتهائنا من تحديد كل شيءٍ أعلنتُ أنني سأرحل في شهر مايو وأن جوني سيكون المدير الجديد. لم يفاجَأ أحدٌ بهذا الأمر. وجاءوا جميعهم إليَّ بعد ذلك وقدَّموا تهانيهم. وأكدَّ لي القس فيليبس أنني اتخذتُ قرارًا حكيمًا. وقالت مُنى وأنجيلا إنهما كانتا تعرفان أنني كنتُ سأصبح مهمًّا يومًا ما، وسألتني شيرلي عن مدى استعدادي لمساعدة ابن أخٍ لها وقعَ في إحدى بالوعات الصرف الصحي في الشارع وأراد رفع دعوى قضائية. كانت ماري الوحيدة التي اعتلى وجهَها الحزن. وبعد أن غادر معظم الخدَّام ساعدتني أنا وويل وجوني في ترتيب المكان. وعندما سألتُها إن كانت في حاجة إلى أن أوصلها هزَّت رأسها. قالت وهي تنظر إليَّ وإلى ويل وترتدي معطفها: «ما خطْبُكم أيها الرجال؟» ارتعد صوتها بعض الشيء. وأضافت: «لماذا دائمًا في عجلةٍ من أمركم؟ لماذا لا يُعجبكم شيء؟» ردَدْتُ عليها وفكَّرت في ابنتَيها الجالِستَين في المنزل وفي أبيهما الذي لم تعرفاه مطلقًا. وبعد ذلك مَشيتُ معها إلى باب الغرفة وعانقتُها. وعندما رحلتُ عُدت إلى غرفة الاجتماعات حيث كان ويل ممسكًا بطبقٍ يتناول ما به من بقايا أجنحة الدجاج المقدمة للضيوف. سألني وهو يأكل: «أتُريد بعضًا من الطعام؟» هززتُ رأسي بالنفي وجلستُ على الطاولة. وشاهدني لفترة من الوقت وهو يمضغ بهدوء ويلعق الصوص الحار العالِق بأصابعه. وقال في النهاية: «إن هذا المكان يروق لك، أليس كذلك؟» أومأتُ برأسي بالإيجاب. وقلت: «بلى، هذا صحيح يا ويل.» احتسى رشفةً من المياه الغازية التي أمامه وتجشَّأ. وقال: «ثلاث سنوات ليست فترة طويلة.» «ومَن قال لك إنني سأعود مرةً أخرى؟» قال وهو يُبعِد طبقه بعيدًا عنه: «لا أحد.» وتابع: «إنني أعرف فحسب.» ودون أن يتفوَّه بكلمةٍ أخرى ذهب ليغسل يدَيه قبل أن يركب دراجته ويسير بها في الشارع. ••• استيقظتُ من النوم في السادسة صباح يوم الأحد. وكان الجو لا يزال مظلمًا بالخارج. حلقتُ ذقني ونظَّفتُ حُلتي الوحيدة التي أملكها ووصلتُ إلى الكنيسة في السابعة والنصف. كانت معظم المقاعد مشغولةً بالفعل. وقادني مرشدٌ يرتدي قفازًا أبيضَ إلى الطريق ومررنا بجانب سيداتٍ طاعنات في السن ارتدَين قبعاتٍ كبيرة عليها ريش، ورجال طوال القامة ارتسمت على وجوههم ملامحُ الجِدية يرتدون حُللًا وأربطة عنقٍ وقبعاتٍ مصنوعة من قماش منقوش، وأطفال في كامل أناقتهم كما هو معهود في أيام الآحاد. لوَّح لي وليُّ أمر تلميذٍ يدرُس في مدرسة دكتورة كوليار، كان موظفًا في هيئة شيكاغو للإسكان وكنتُ قد تشاجرتُ معه عدة مرات، ورددتُ على تلويحه بإيماءة جافة. شققتُ طريقي إلى أن وصلتُ إلى وسط أحد الصفوف وجلست بجانب سيدةٍ ممتلئة الجسم تَكبرني سنًّا لم تكن تستطيع التحرُّك بسرعةٍ وعائلة مكونة من أربعة أفراد كان الأب يتصبَّب عَرقًا نظرًا لارتدائه جاكيتًا من الصوف الثقيل والأم تُخبر ابنَيها الجالِسَين بجانبها بأن يتوقَّفا عن ضرب أحدهما الآخر. سمعتُ أحدهما الأصغر سنًّا وهو يسأل أخاه: «أين الرب؟» فأجاب الأخ: «اصمت.» وقالت لهما أمهما: «فلتهدآ الآن.» بدأت الراعية المساعدة لكنيسة الثالوث — وكانت سيدة في منتصف العمر طال الشيب شعرها وتتَّسِم بالجِدية الشديدة — في قراءة نشرة الكنيسة، وقادت بعض الأصوات الحالمة في ترتيل بعض الترانيم التقليدية. بعد ذلك ملأت جوقة المنشِدِين الممشى بين الصفوف، وكان أفرادها يرتدون ثيابًا بيضاء وشيلانًا مصنوعةً من قماش حريري، وكانوا يُصفِّقون ويغنون وهم ينتشرون إلى خلف المذبح على ألحان آلة الأرغن التي تلي قرع الطبول المتسارع: وفي حين اشترك رعايا الكنيسة في الغناء ظهر الشمامسة وبعدهم القس رايت خلفَ الصليب الكبير المعلَّق في عوارض السقف الخشبية. ظل القس صامتًا أثناء تلاوة الصلوات، وكان يُمعن النظر في وجوه مَن يقفون أمامه ومتتبعًا بعينَيه سلةَ التبرعات وهي تنتقل من يدٍ لأخرى. وعندما انتهى رعايا الكنيسة من التبرُّع صعد إلى منبر الوعظ وقرأ أسماء مَن تُوفوا ذلك الأسبوع وأسماء المرضى، وكان يُصاحِب كل اسمٍ يقرؤه همهمات من بعض الحضور دليلًا على معرفتهم به. قال القس: «لنَضُمَّ أيدينا ونحن نركع ونُصلي عند قدم الصليب القديم الصلد …» «نعم …» قال القس: «ربنا، جئنا في البداية لنشكرك على ما قدَّمته لنا بالفعل … جئنا لنشكرك أساسًا من أجل يسوع، ربنا، جئنا من مُختلف الطبقات في المجتمع. البعض من طبقات رفيعة والبعض الآخر من طبقات وضيعة … لكننا جميعًا سواسية عند قدمِ هذا الصليب. نشكرك ربنا يسوع … حامل أثقالنا وشريكنا في حملنا الثقيل، إننا نشكرك …» كان عنوان العظة التي ألقاها القس رايت في ذلك الصباح هو «جرأة الأمل». وبدأ حديثه بقراءة فقرةٍ من سِفر صموئيل التي تتحدَّث عن قصة حِنة؛ السيدة العاقر التي كانت ضرتها تستهزئ بها، والتي بكت وارتعشت في صلاتها أمام ربها. قال القس إن هذه القصة تُذكِّره بعظةٍ ألقاها قسٌّ زميلٌ له في مؤتمرٍ ما منذ بضع سنوات، وفيها وصفَ القس ذهابه إلى أحد المتاحف ومشاهدته لوحةً اسمها «الأمل». شرح القس رايت هذه الحادثة بقوله: «صورت اللوحة سيدةً تعزف على القيثار تبدو من أول وهلة وكأنها جالسة فوق قمةٍ شاهقة لأحد الجبال. على أن المرء إذا أمعن في النظر فسيجد أن السيدة مُصابة بكدمات ومخضَّبة بالدماء، وأنها ترتدي أسمالًا بالية ممزَّقة. وسيكتشف المرء أن أوتار القيثار جميعها مكسورة فيما عدا وترًا واحدًا باليًا. بعد ذلك عندما تنتقل عينُ المرء إلى أسفل المشهد، حيث الوادي الذي يُوجَد عند سفح الجبل، سيجد في كل مكان آثارًا للدمار الذي خلَّفته المجاعة، وقرعًا لطبول الحرب، وعالمًا يئن من الحروب والحرمان.» قلتُ في نفسي: «إنه عالَمنا، عالَمٌ تُلقِي فيه البواخر السياحية في البحر كمياتٍ من الطعام في يومٍ واحد تفوق ما يراه في عام كامل معظمُ سكان مدينة «بورت أوبرنس» عاصمة هايتي، عالَمٌ فيه جشع البِيض يتحكم في سكانه المحتاجين، عالَمٌ تعمُّه التفرقة العنصرية في أحد نصفَيه واللامبالاة في نصفه الآخر … هذا هو العالَم! هذا هو العالَم الذي يكمن الأمل فيه!» هكذا قدَّم القس رايت عظته في سياق تأمُّلي لعالَمٍ منهار. بينما كان الولدان الجالسان بجواري يعبثان بنسخةٍ من النشرة التي تُصدِرها الكنيسة تحدَّث القس رايت عن مذبحة شاربفيل بجنوب أفريقيا والضربة النووية على هيروشيما اللتَين تُعبِّران عن قسوة قلوب صناع السياسة، سواء في البيت الأبيض أو في المجلس التشريعي. وبمجرد أن بدأت العظة تتجلى للذهن أصبحت قصص الحروب أكثرَ مللًا، وأصبح الشعور بالألم أكثرَ تعلقًا بالوقت الحاضر. تحدَّث القس عن الصِّعاب التي يمكن أن تُواجهها الأبرشية في الغد، وألم مَن هم بعيدون عن قمة الجبل الذين ينتابهم القلق من عدم قُدرتهم على دفع فاتورة الكهرباء. وتحدَّث أيضًا عن ألم أولئك القريبين من قمة الجبل المجازية: سيدات الطبقة المتوسطة اللاتي لديهنَّ كل احتياجاتهنَّ الدنيوية إلا أن أزواجهنَّ يُعاملونهنَّ مثل «الخادمات وحارسات المنزل والرفيقات، كل هذا في وقتٍ واحد»، والأطفال الذين يهتم آباؤهم الأثرياء «بملمس الشَّعر أعلى الرأس أكثرَ من اهتمامهم بجودة التعليم داخلها.» «أليس هذا العالَم … هو الذي يعيش فيه كلٌّ منا؟» «نعم!» «مثلنا مثل حِنة، مررْنا بأوقاتٍ عصيبة! ويوميًّا نواجه الرفض واليأس.» «نعم هذا صحيح!» «ومع ذلك، تخيلوا مرةً أخرى الصورة أمام أعينكم. الأمل! مثلها مثل حِنة، عازفة القيثار التي تنظر لأعلى، وتُصدِر من قيثارتها بعض الألحان الواهنة إلى أعالي السماء. إن لدَيها الجرأة على أن تشعر بالأمل … لديها الجرأة … على أن تعزف الموسيقى … وتُسبِّح الرب … بعزفها على الوتَر الواحد … الذي تبقى لها!» بدأ الناس يصيحون وينهضون من مقاعدهم ويصفِّقون ويبكون، وكانت هناك ريح شديدة تحمل صوت القس إلى عوارض السقف الخشبية. وعندما شاهدتُ هذا وسمعته وأنا في مقعدي بدأتُ أسمع كل ألحان السنوات الثلاث المنقضية وهي تدور في دوامة بداخلي. شجاعة روبي وخوف ويل. الزهو بالعِرق وغضب رجالٍ من أمثالِ رفيق. الرغبة في التنفيس عن الغضب، والرغبة في الهروب، والرغبة في الاستسلام إلى إلهٍ قادر على تخليص المرء من اليأس. وبين طيات هذا اللحن المنفرِد — الأمل! — سمعتُ شيئًا آخر؛ عند ذلك الصليب، وداخل آلاف الكنائس في المدينة كلها، تخيلتُ قصص عوام السُّود مندمجةً مع قصة داوود وجالوت، وقصة موسى وفرعون، وقصص المسيحيين الذين أُلقوا في جُبِّ الأُسود، وقصة وادي حزقيال المليء بالعظام اليابسة. أصبحت هذه القصص — قصص البقاء والحرية والأمل — قصصنا نحن، قصتي أنا؛ فالدماء التي أُريقت هي دماؤنا، والدموع التي انهمرت هي دموعنا، إلى أن بدت هذه الكنيسة السوداء في هذا اليوم المشرق كالسفينة تنقل القصة إلى أجيال المستقبل وإلى العالم الفسيح. وأصبحت محاولاتنا وانتصاراتنا فريدةً وعالمية في آنٍ، للسُّود ولغيرهم من بني البشر، وبتأريخ رحلتنا منحتنا هذه القصص والأغاني فرصةً لاستعادة الذكريات التي لم نَعُد في حاجةٍ إلى أن نشعر بالخجل منها، الذكريات التي من السهل استيعابها أكثرَ من ذكريات مصر القديمة، الذكريات التي ربما يتدارَسُها الناس جميعًا وتعلَق طويلًا بأذهانهم والتي في ظلها نستطيع أن نستعيد قوَّتنا. وإذا كان بعض مِنِّي استمر في الشعور بأن هذا العشاء الرباني ليوم الأحد يعرض حالتنا بوضوحٍ في بعض الأحيان، وإن كان في أحيانٍ أخرى يُخفي أو يكبت الصراعات الحقيقية بيننا، هذا العَشاء الذي يَفي بوعدِه من خلال الفعل فحسب، فإنني شعرتُ أيضًا ولأول مرة كيف حملت هذه الروح — الوليدة غير الكاملة — بين طياتها إمكانية انتقالنا إلى ما هو أبعدُ من أحلامنا المحدودة. قال القس: «جرأة الأمل! لا أزال أتذكَّر جَدتي وهي تُغني في المنزل وتقول: «هناك جانب مشرق في الحياة … لا يهدأ لك بالٌ حتى تجده …»» «هذا صحيح!» استطرد القس قائلًا: «جرأة الأمل! تذكَّرت الأوقات التي لم نستطِع فيها دفع الفواتير. وتذكَّرتُ الأوقات التي بدا الأمر فيها وكأنني لن أستطيع إطلاقًا تحقيق أي شيء … في سن الخامسة عشرة وأنا مقبوض عليَّ في حادث سرقةٍ كبيرة خطَّطتُ لها بنفسي … ومع ذلك فقد ظل أبي وأمي يُغنِّيان … ثم قال القس: «ما أبعد هذا الغناء عن المنطق! سألت نفسي لماذا يشكران الرب رغم كل هذه الصِّعاب التي واجهاها؟ على أنني في الواقع لم أكن أنظر إلا إلى البُعد الأفقي في حياتهما! «أخبِراني الآن!» لم أفهم أنهما كانا يتحدَّثان عن البُعد الرأسي! عن علاقتهما بالرب! لم أفهم أنهما كانا يشكرانه مقدَّمًا على جرأة أملهم فيَّ! أشكرك يا رب على أنك لم تتخلَّ عني عندما تخليتُ عنك! أشكرك يا رب …» شعرتُ بلمسةٍ حانية على يدي عندما عادت جوقة المنشِدين للغناء وإثارة الحماسة وعندما بدأتْ جماعة المصلِّين من رعايا الكنيسة في التصفيق لمن اتجهوا نحو المذبح لتلبية نداء القس رايت. نظرتُ لأسفل ورأيتُ الولد الأكبر يجلس بجانبي، وكان وجهه يتوجَّس خِيفةً بعض الشيء عندما أعطاني كيس مناديل ورقية، وكانت أمُّه بجانبه ترمقني وعلى شفتَيها ابتسامة باهتة واستدارت لتعاود النظر إلى المذبح. شعرت بالدموع تنهمِر على وجنتيَّ وأنا أشكر الولد. سمعتُ السيدة العجوز بجانبي تهمس برقَّةٍ وهي تقول: «نشكرك يا يسوع.» وتابعت: «نشكرك على أنك أوصلتنا لما وصلنا إليه.»
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/15/
الفصل الخامس عشر
حلَّقت الطائرة من مطار هيثرو وفوقها سماء عاصفة. وكان هناك مجموعة من الشباب البريطانيين يرتدون ستراتٍ غيرَ مناسبة لأجسامهم يملئون مؤخرة الطائرة، وجلس أحدهم — وهو شابٌّ| طويل نحيف شاحِب الوجه لا يزال حَب الشباب يُزعِج بشرتَه — على المقعد إلى جواري. وقرأ تعليمات الطوارئ مرَّتَين بتركيزٍ شديد، وبمجرد أن ارتفعت الطائرة التفت ليسألني عن وجهتي، فأخبرتُه أنني أتَّجه إلى نيروبي لزيارة عائلتي. «إن نيروبي مكانٌ جميل حسبما أسمع. ولن أُمانع أبدًا في الذهاب إلى هناك يومًا ما. أما أنا فأتَّجه إلى جوهانسبرج.» وشرح لي أن الحكومة البريطانية رتَّبت له ولزملائه — كجزءٍ من برنامجٍ دراسي يؤهل للحصول على درجة علمية في علم الجيولوجيا — العملَ مع شركات تعدين في جنوب أفريقيا لمدة عام. وقال: «يبدو أن لدَيهم نقصًا في الأيدي العاملة المدرَّبة هناك، ومن ثَم إذا كنا محظوظين فسيجعلوننا نعمل لدَيهم في موقعٍ دائم. وهي على ما أظن أفضلُ فرصةٍ لنا للحصول على عمل بأجرٍ لائق، إلا إذا أراد المرء أن يتجمَّد على أحد أرصفة البترول في بحر الشمال. وأنا لا أرغب في هذا، شكرًا لك.» أخبرتُه أنه إذا حصل السُّود في جنوب أفريقيا على الفرصة فإن كثيرًا منهم قد يكون مهتمًّا بالحصول على مثل هذا التدريب. فقال: «أظن أنك على حق.» وتابع: «أنا لا أوافق على سياسة التمييز العنصري هناك. إنها لعارٌ.» ثم فكَّر لدقيقة. وقال: «لكن بقية القارة الأفريقية تتمزَّق الآن، أليس كذلك؟ على الأقل هذا ما أعرفه. فالسُّود في جنوب أفريقيا لا يموتون جوعًا مثلما يحدث لهم في بعض تلك البلاد البائسة. إنهم في موقفٍ لا يُحسدون عليه، ولكن مقارنة ببعض المساكين في إثيوبيا …» جاءت إحدى المضيفات في الممر ومعها سمَّاعات للأذن يمكن تأجيرها أثناء الرحلة، أخرج الشاب محفظته ودفع ثَمن إيجار السماعة. وقال: «بالطبع سأحاول وأبتعِد عن السياسة. أظن أن هذا ليس من شأني. والأمر نفسه يحدث في الوطن؛ فالجميع يحصلون على الإعانة التي تدفعها الحكومة للبطالة، وكبار السن في البرلمان يُردِّدون نفس التفاهات القديمة. أفضل شيء يفعله المرء هو أن يهتمَّ بالحيز الصغير الذي يشغله من العالم، هذا رأيي.» وأخرج سمَّاعات الأذن ووضعها في أُذنَيه. وقال قبل أن يُرجِع مقعده إلى الوراء لينام قليلًا: «هلا توقظني عندما يُحضِرون الطعام.» أخرجت كتابًا من حقيبتي الصغيرة التي أحملها معي داخل الطائرة وحاولتُ أن أقرأ. كان الكتاب وصفًا لعدة دول أفريقية كتبه صحفي غربي قضى عَقدًا من الزمان في أفريقيا، وسيُطلق عليه خبير بأفريقيا، وهو شخص يفتخر على ما يبدو بقُدرته المتزنة على التقدير. ناقشتِ الفصول القليلة الأولى من الكتاب تاريخَ الاستعمار بشيءٍ من التفصيل: استغلال الكراهية القبلية، ونزعة الاستعمار إلى تغيير الحدود، والتهجير، والاعتقالات، وجميع أشكال المهانة. أما الأعمال البطولية في بدايات الاستقلال لرجالٍ مثل كينياتا ونكروما فقد وفَّاها المؤلف حقَّ قدْرها قبل أن ينتقل للحديث بعد ذلك عن انجرافهم إلى الاستبداد وهو ما يُعزى، على الأقل إلى حدٍّ ما، إلى الدسائس الكثيرة للحرب الباردة. وفي الفصل الثالث من الكتاب بدأت صور من الحاضر تطغى على الماضي. المجاعة والأمراض والانقلابات، والانقلابات المضادة التي يُنفِّذها شباب أُميُّون يبرعون في استخدام رشاشات كلاشنكوف «أيه كى-٤٧» وكأنها عصا رعاة الأغنام، وبدا كأن الكاتب يقول لو أن أفريقيا لها تاريخ فإن مدى المعاناة الحالية جعلت هذا التاريخ غير ذي معنًى. حقًّا مساكين. وبلاد بائسة. وضعتُ الكتاب جانبًا، وأنا أشعر بغضبٍ مألوف يجري في عروقي، غضب يُثير جنوني كثيرًا لأنه يفتقد إلى هدف واضح. وإلى جواري يشخر الشاب البريطاني برفق، ونظارته تنزلق قليلًا على أنفه الذي يُشبه زعنفة السمكة. تساءلتُ بداخلي: هل كنتُ غاضبًا منه؟ هل ذنبه أنني — رغم كلِّ ما تلقَّيتُه من تعليم، وما أعرفه من نظريات — لم أكن أمتلك إجاباتٍ جاهزة للأسئلة التي طرحها؟ إلى أيِّ حدٍّ يمكنني أن ألومه لأنه يريد أن يُحسِّن وضعه؟ ربما أشعر بالغضب فقط بسبب أُلفته الشديدة معي، وافتراضه أنني بصفتي أمريكيًّا، بل أمريكيًّا أسودَ، قد أُشاركه بطبيعة الحال نظرته المعتمة عن أفريقيا؛ افتراض يُمثِّل في عالمه على الأقل تطورًا من نوعٍ ما، لكنه في نظري لا يمثِّل إلا تأكيدًا على وضعي غير المستقر؛ فأنا غربي لا يشعر أن الغرب وطنه بحق، وأفريقي في طريقه إلى أرضٍ مليئة بالغرباء. كان هذا الشعور يتملَّكني طوال الفترة التي قضيتُها في أوروبا؛ كنتُ متوترًا ومتحفظًا ومتردِّدًا في التعامُل مع الغرباء. ولم أكن أُخطِّط للأمر بهذا الشكل. فقد كنتُ أفكِّر في التوقُّف المؤقت هناك على أنه ليس إلا اتخاذ طريقٍ غير مباشر للوصول إلى الجهة نفسها، وفرصة لأزور أماكنَ لم أرَها من قبل. ولمدة ثلاثة أسابيع سافرتُ وحدي في أرجاء القارة معظم الأوقات بالحافلة وبالقطار، وفي يدي دليلٌ إرشادي للسياح. احتسيتُ الشاي على ضفاف نهر التيمز، وشاهدتُ الأطفال وهم يُطارد بعضهم بعضًا بين أشجار الكستناء في حديقة لكسمبورج بفرنسا. ومررتُ عند الظهيرة بالضبط بساحة بلازا مايور بإسبانيا ورأيتُ ما بها من ظلالٍ للوحات «دي شيريكو» والعصافير التي تحوم في السماء الفضية اللون، ورأيتُ حلول الظلام على تلِّ بالاتين بإيطاليا مُنتظرًا ظهور النجوم، واستمعتُ إلى صوت الرياح وما يحمله من همساتٍ عن الفناء. وفي نهاية الأسبوع الأول تقريبًا أدركتُ أنني قد اقترفتُ خطأ. لم يكن الأمر أن أوروبا ليست جميلة، بل كان كل شيءٍ كما تخيلتُه بالضبط. لكن المكان لم يكن مكاني. شعرتُ أنني أعيش قصةَ إنسانٍ آخر؛ فقد وقف تاريخي غير المكتمِل حاجزًا بيني وبين الأماكن التي أراها مثل جدارٍ غليظ من الزجاج. وبدأتُ أشكُّ في أن هذا التوقف في أوروبا وسيلة أخرى للتأخير، مجرد محاولة أخرى لتجنُّب التصالح مع أبي. كنتُ مجبرًا — بعد أن تجردتُ من اللغة والعمل والروتين، وتجردت حتى من الهواجس العنصرية التي أصبحتُ معتادًا عليها بشدة والتي أصبحتُ أعتبرها (على العكس) علامةً على النضج — على النظر إلى أعماق نفسي ولم أجد فيها سوى فراغ كبير. فهل ستملأ هذه الرحلة إلى كينيا هذا الفراغ أخيرًا؟ هكذا ظنوا في شيكاغو. إذ قال ويل في الحفل الذي أُقيم بمناسبة رحيلي، سيكون كما في رواية «الجذور». وقال عنها أسانتي إنها رحلة مقدسة. وفي نظرهما، وكذلك في نظري، أصبحَتْ أفريقيا فكرةً أكثرَ من كونها مكانًا حقيقيًّا، أرض ميعاد جديدة، مليئة بتقاليد عتيقة ومشاهد جارفة وصراعات نبيلة وطبول مُعبرة. ونظرًا لتمتُّع أفريقيا ببُعد المسافة عنا أصبحنا نحمِل لها مشاعرَ خاصة، هي نفس المشاعر التي حملتُها لأبي يومًا ما. ماذا سيحدث بمجرد أن أمحو بُعد المسافة؟ كان من الأفضل أن أومن أن الحقيقة ستُحررني بصورةٍ ما، لكن ماذا لو كنتُ مخطئًا؟ ماذا لو كانت الحقيقة مُخيِّبة للآمال، وأن موت أبي لم يكن يعني شيئًا، وتركه لي لم يكن يعني شيئًا، وأن الصلة الوحيدة التي تربطني به، أو بأفريقيا، هي الاسم، أو فصيلة الدم، أو احتقار الرجل الأبيض لكِلَينا؟ أطفأتُ المصباح الموجود فوق رأسي وأغمضتُ عينيَّ، وتركتُ عقلي ينجرف عائدًا إلى شخصٍ أفريقي قابلته وأنا أسافر في أرجاء إسبانيا، رجل آخر يهرب. كنتُ أنتظر حافلة المساء على رصيفٍ إلى جانب الطريق في منتصف المسافة بين مدريد وبرشلونة. وبعض الرجال كبار السن يجلسون إلى طاولات ويحتسون الخمر في أكوابٍ قصيرة غير شفافة. وعلى أحد الجوانب طاولة للعبة البلياردو، ولسببٍ ما نظَّمتُ الكرات وبدأت ألعب وأنا أتذكَّر تلك الليالي مع جَدي في الحانات في شارع هوتيل ستريت بما به من فتيات ليلٍ وقوادين، وجَدي هو الرجل الأبيض الوحيد في الملهى الحقير. وحين كنتُ أنتهي من تنظيم الطاولة ظهر فجأة رجلٌ يرتدي سترةً صوفية خفيفة وسألني هل يمكنه أن يدعوني إلى فنجانٍ من القهوة. لم يكن يتحدَّث الإنجليزية ولُغته الإسبانية ليست أفضل منِّي كثيرًا، لكن لدَيه ابتسامة رائعة ونظرة شخصٍ في حاجةٍ ماسة للصحبة. وأخبرني عندما وقفنا في الحانة أنه من السنغال وأنه يطوف جميع أنحاء إسبانيا جَيئةً وذهابًا يعمل في أعمالٍ موسمية. وأراني صورةً بالية يحتفظ بها في محفظته لشابةٍ لها وجنتان مُستديرتان ناعمتان. وقال إنها زوجته وإنه اضطُرَّ أن يتركها بالسنغال. وقال إن شملهما سوف يجتمع بمجرد أن يدَّخر المال. وعندئذٍ سيكتب لها طالبًا منها الحضور للعيش معه. انتهى بنا الحال مُستقلَّينِ الحافلة إلى برشلونة معًا، ولم يتحدَّث أيٌّ منا كثيرًا، فكان يتلفت إليَّ من حينٍ لآخر يحاول أن يشرح لي دعابات برنامجٍ إسباني يُعرض في التليفزيون المثبت فوق مقعد السائق. وقبل الفجر بقليلٍ نزلنا أمام محطة حافلات قديمة، وأشار صديقي إلى نخلةٍ قصيرة كثيفة زُرعت على جانب الطريق. وأخرج من حقيبة ظهره فرشاةَ أسنانٍ ومشطًا وزجاجةَ مياه أعطاها لي بأدبٍ شديد. واغتسلنا معًا قبل شروق الشمس، قبل أن نحمل حقائبنا على أكتافنا ونتَّجِه إلى المدينة. ماذا كان اسمه؟ لا أتذكَّر الآن، إنه مجرَّد متلهفٍ آخرَ بعيدٍ عن وطنه، واحد من كثيرين من أبناء المستعمرات القديمة، أحد أبناء الجزائر أو الهند الغربية أو باكستان، الذين يخترقون الآن الحواجز التي وضعها أسيادهم القدامى، ويُرتِّبون لغزوهم العشوائي المُنهَك. ومع ذلك فعندما كنَّا نسير في اتجاه شوارع الرامبلا شعرتُ أنني أعرفه بالفعل، ومع أننا نأتي من طرفَين متقابلَين من العالَم فإننا نقوم بالرحلة نفسها. وعندما افترقنا في النهاية ظللتُ في الشارع وقتًا طويلًا جدًّا أُراقب صورة جسده النحيل وساقيه المتقوستَين تبتعِد وتبتعِد، وتمنَّى بعضٌ مِنِّي حينها لو أذهب معه إلى حياةٍ مليئة بالطرقات المفتوحة والأيام المشرقة، في حين أن بعضًا آخر أدرك أن مثل هذه الأمنية قصة، أو فكرة، جزئية كصورتي عن أبي أو عن أفريقيا. حتى استقررتُ على حقيقة أن هذا الرجل القادم من السنغال قد اشترى لي القهوة وقدَّم لي الماء، وهذا حقيقي، وربما يكون هذا هو كلَّ ما يحق لأحدِنا أن يتوقَّعه؛ مجرد مقابلة بالصدفة، وقصة مشتركة، وعمل صغير يدل على الطيبة … اهتزت الطائرة قليلًا ببعض الاضطرابات، وجاء طاقم العمل بالطائرة ليقدِّم لنا العَشاء. أيقظتُ الشاب البريطاني الذي تناول طعامه بدقَّة مُثيرة للإعجاب، وكان يصف وهو يأكل كيف يكون الحال عندما يتربَّى المرء في مانشستر. وفي النهاية رُحت في سباتٍ عميق. وعندما استيقظتُ كانت المضيفة تُوزِّع استمارات الجمارك استعدادًا للهبوط. وفي الخارج كان الظلام لا يزال مُخيمًا، لكن عندما ألصقتُ وجهي في الزجاج استطعتُ رؤية بعض الأضواء المتناثرة، وكانت ناعمة وغير واضحة مثل اليراعات، وبالتدريج بدأت تتجمَّع لتكوِّن شكل مدينة بالأسفل. وبعد بضع دقائق ظهر مُنحَدرٌ من تلالٍ مُستديرة مظلمة في مقابل خيطٍ طويل من الضوء في الأفق الشرقي. وبمجرد أن هبطنا في فجرِ يوم أفريقي رأيتُ سُحبًا رفيعةً عالية تخط السماء وأسفلها يتوهَّج باللون الأحمر. ••• كان مطار كينياتا الدولي خاويًا تقريبًا، ويحتسي المسئولون شاي الصباح وهم يفحصون جوازات السفر، وفي منطقة تسلُّم الحقائب سيرٌ نقَّال يُصدِر صريرًا يُخرِج الحقائب ببطء. لم أرَ أوما في أي مكان؛ لذا جلستُ على حقيبتي التي أحملها معي وأشعلتُ سيجارة. وبعد بضع دقائق جاء أحد حراس الأمن يسير باتجاهي وفي يدِه هراوة خشبية. فنظرتُ حولي بحثًا عن طفاية سجائر، ظنًّا مني أنني في منطقةٍ ممنوع التدخين فيها، ولكن بدلًا من توجيه اللوم إليَّ ابتسم الحارس وسألني هل معي سيجارة أخرى له. قال وأنا أُشعِل سيجارته: «هذه أول رحلة لك إلى كينيا، أليس كذلك؟» «بلى.» «أعلم ذلك.» جلس القرفصاء إلى جواري. وقال: «إنك من أمريكا. لعلك تعرف ابن أخي. اسمه سامسون أوتيينو. إنه يدرُس الهندسة في تكساس.» فأخبرته أنني لم أذهب إلى تكساس قط، فلم تتسنَّ لي فرصة مقابلة ابن أخيه. وقد بدا أن هذا أصابه بالإحباط، فالتقط عدة أنفاس مُتعاقبة من السيجارة في تتابُعٍ سريع. وفي ذلك الوقت كان آخِر الركَّاب في الرحلة التي أتيتُ فيها قد غادر المطار. فسألتُ الحارس ألا يزال هناك المزيد من الحقائب قادمة. فهزَّ رأسه بشك. وقال: «لا أظن هذا، ولكن إذا انتظرتَ هنا فسأجد لك مَن يساعدك.» وانعطف حول ممرٍّ ضيِّقٍ واختفى عن الأنظار، فوقفتُ كي أشدَّ ظهري. وفي ذلك الوقت كان انفعال الترقُّب بداخلي قد جفَّ، وابتسمتُ لذكرى العودة إلى الوطن التي تخيلتُها لنفسي ذات مرة: انقشاع السُّحب، وهروب الشياطين القدامى، وارتجاف الأرض والأجداد يخرجون منها للاحتفال. وبدلًا من ذلك شعرتُ بأنني متعَب ووحيد. كنتُ على وشك البحث عن هاتفٍ عندما ظهر حارس الأمن مرةً أخرى مع سيدة رائعة الجمال سوداء البشرة نحيفة القوام يصل طولها إلى ما يقرب من ستة أقدام [١٨٠ سنتيمترًا]، وترتدي زيَّ العامِلين في الخطوط الجوية البريطانية. وقدَّمت نفسها على أنها الآنسة أومورو، وقالت إن حقيبتي على الأرجح أُرسِلت خطأً إلى جوهانسبرج. قالت: «أعتذر بشدة عن هذا الخطأ.» وتابعت: «هل تملأ من فضلك هذه الاستمارة، ويمكننا الاتصال بجوهانسبرج وإعادتها إلى هنا على متن أول طائرة قادمة.» ملأتُ الاستمارة ونظرتْ إليها الآنسة أومورو نظرةً سريعة قبل أن تعود وتنظر إليَّ. سألتني: «هل تمُتُّ بصلةٍ للدكتور أوباما؟» «نعم، إنه أبي.» فابتسمت الآنسة أومورو في تعاطُف. وقالت: «أنا آسفة للغاية لرحيله. لقد كان والدك صديقًا مقربًا لعائلتي. وكان كثيرًا ما يأتي إلى منزلنا وأنا طفلة.» بدأنا نتحدَّث عن زيارتي، وأخبرتني هي عن دراستها في لندن، وكذلك شوقها للسفر إلى الولايات المتحدة. ووجدتُ نفسي أحاول أن أطيل الحوار، ولم يكن ذلك بسبب جمالها الفتان — فقد ذكرَتْ أنها مخطوبة — بقدرِ ما كان لأنها عرفتِ اسمي. وأدركتُ أن هذا لم يحدث قط من قبل، لا في هاواي ولا إندونيسيا ولا لوس أنجلوس ولا نيويورك ولا شيكاغو. ولأول مرة في حياتي أشعر براحةٍ وثبات الهوية التي قد يُقدِّمها الاسم، وكيف يمكن أن يحمل تاريخًا كاملًا في ذكريات أناسٍ آخرين، حتى إنهم يمكن أن يومئوا برءوسهم، ويقولون: «نعم، أنت فلان ابن فلان.» فلن يسأل أحدٌ في كينيا كيف أتهجَّى اسمي، أو يتلعثم في نطقه لأن لسانه لم يعتَد هذه الأسماء الغريبة. لقد كان اسمي ينتمي إلى هذا المكان، وكذلك أنا، وينجذب إلى شبكةٍ من العلاقات والتحالُفات والضغائن التي لم أفهمها بعد. «باراك!» استدرتُ لأجد أوما تقف هناك تقفز لأعلى وأسفل خلف حارسٍ آخر لم يدعها تمرُّ إلى منطقة الحقائب. استأذنتُ وهُرعت إليها وضحكنا وتعانقنا بنفس الطريقة المضحكة التي تقابلنا بها لأول مرة. وإلى جوارنا سيدة طويلة سمراء البشرة تقف مُبتسمة، فالتفتت أوما وقالت: «باراك، هذه عمتنا زيتوني، أخت والدنا.» قالت زيتوني: «مرحبًا بك في بلدك»، وقبَّلتني على كِلتا وجنتيَّ. أخبرتهما عن الحقيبة وقلتُ إن شخصًا هنا يعرف أبي. لكن عندما نظرتُ إلى حيث كنتُ أقف وجدتُ أن الآنسة أومورو قد اختفت عن الأنظار. سألت حارس الأمن إلى أين ذهبت. هزَّ كتفيه وقال لا بد أنها استأذنت لبقية اليوم. ••• كانت أوما تقود سيارةً قديمة لبنية اللون من طراز فولكس فاجن بيتل. وكانت السيارة تُمثِّل لها مشروعًا استثماريًّا. فنظرًا لأن المواطنين الكينيين الذين يعيشون بالخارج يمكنهم شحن سيارةٍ إلى كينيا بدون دفع رسوم الاستيراد الكبيرة، رأت أنها يمكنها استخدامها خلال السنة التي ستُدَرِّس فيها في جامعة نيروبي، ثم تبيعها بسعر تكلفة الشحن، وربما تجني من ورائها بعض الربح. ولسوء الحظ أُصيبَ المحرك بصدمةٍ عنيفة وسقط كاتم الصوت (الشكمان) في الطريق إلى المطار. وعندما انطلقنا إلى الطريق السريع ذي الحارات الأربع، وأوما تقبِض بكلتا يدَيها على عجلة القيادة، لم أستطِع أن أمنع نفسي من الضحك. وقلت: «هل أخرج وأدفع السيارة من الخلف؟» فعبست زيتوني. وقالت: «لا تقل شيئًا عن هذه السيارة يا باري. إنها سيارة جميلة. لا تحتاج إلا إلى طلاء جديد. وفي الواقع لقد وعدَتْني أوما بالفعل أن أحصُل على هذه السيارة بعد أن ترحل.» هزَّت أوما رأسها. وقالت: «إن عمَّتك تحاول أن تغشَّني الآن يا باراك. كلُّ ما في الأمر أنني وعدتها أن نتحدَّث بهذا الشأن.» فقالت زيتوني وهي تغمز لي: «ما الذي سنتحدَّث بشأنه؟» وتابعت: «إنني سأمنحكِ أفضلَ سعرٍ يا أوما.» بدأت كلتاهما تتحدَّثان في الوقت نفسه وتسألانني كيف كانت رحلتي، وتُخبرانني بالخطط التي جهَّزتاها لي وتسردان قائمةً بالأشخاص الذين يجب أن أراهم. امتدَّت السهول الفسيحة أمامنا على جانبي الطريق، معظمها من حشائش السافانا، ومن حينٍ لآخر تظهر شجرة شوكية في الأفق؛ مناظر بدت قديمة وطبيعية. وبالتدريج بدأ المرور يزدحم، وبدأت الحشود تتدفَّق من الريف في طريقها إلى العمل، وكان الرجال لا يزالون يقفلون أزرار قمصانهم الخفيفة والسيدات مُنتصبات القامة ورءوسهن مُغطاة بأوشحة ملونة بألوان زاهية. والسيارات تسير في خطوطٍ غير منتظمة عبر الحارات والطرق الملتوية، تراوغ لتتجنَّب الحُفَر في الأرض والدراجات والمشاة، في حين توقَّفت حافلات ركاب صغيرة قديمة غير ثابتة، قيل لي إن اسمها «ماتاتو»، دون أي تحذيرٍ كي تحمل المزيد من الركَّاب على متنها. بدا المشهد بأسرِه مألوفًا لديَّ بصورةٍ غريبة وكأنني قد مررتُ في الطريق نفسه من قبل. وحينها تذكَّرتُ أيامي في إندونيسيا وأُمي ولولو يتحدَّثان في المقعدَين الأمامِيَّين للسيارة، وتنبعث رائحة الأخشاب المحترقة والديزل نفسها، والسكون نفسه الذي كان يُخيِّم في فترة الازدحام في الصباح، والنظرة نفسها على وجوه الناس وهم يشقُّون طريقهم لبدء يومٍ جديد لا يدور بمخيلاتهم الكثير من التوقُّعات سوى تمضية اليوم، وربما أمل محدود في أن يتغير حظهم، أو على الأقل يصمد كما هو. ذهبنا لنُوصِّل زيتوني إلى مجمعٍ سكني كبير كئيب يُطلَق عليه «كينيا برويريز» حيث تعمل مبرمجةَ كمبيوتر. وعندما خرجتُ من السيارة انحنت عليَّ مرةً أخرى لتُقبِّلني على وجنتيَّ، ثم لوَّحت بأصبعها لأوما. وقالت: «اعتني بباري جيدًا، واحرصي على ألا نَفقده مرة أخرى.» وعندما عُدنا إلى الطريق السريع سألتُ أوما ماذا تعني زيتوني بفقداني مرةً أخرى، فهزَّت أوما كتفَيها. وقالت: «إنه تعبير شائع الاستعمال هنا.» وتابعت: «عادة ما يعني أن هذا الشخص لم يرَك منذ فترة. فتجده يقول لك «إنك فُقِدت». أو «لا تجعلني أفقدك». وفي بعض الأحيان يكون له معنًى أكبر. على سبيل المثال: فمثلًا ينتقل ابن أو زوج إلى المدينة أو إلى الغرب — مثل عمِّك عمر في بوسطن. هم يَعِدون بالعودة بعد الانتهاء من الدراسة. ويقولون إنهم سيُرسِلون للعائلة بمجرد أن يستقروا. وفي البداية يرسِلون خطابًا كل أسبوع. ثم يُصبح مرةً واحدة كل شهر. ثم يتوقَّفون تمامًا عن إرسال الخطابات. ولا يراهم أحد مرةً أخرى. ومن ثم نقول إنهم فُقِدوا. هذا مع أن الجميع يعلمون أين هم.» ناضلَتِ السيارة لتصعد طريقًا منحدرًا محاطًا ببساتين كثيفة وأشجار الأوكالبتوس والنباتات المعترشة. والمنازل القديمة الأنيقة تقف وراء سياج وأحواض الزهور، وقالت أوما إنها المنازل التي كانت في يومٍ من الأيام خاصةً بالبريطانيِّين فقط، ولكنها الآن خاصة بمسئولي الحكومة والعامِلين بالسفارات الأجنبية. وفي أعلى المنُحدَر انعطفنا يمينًا وأوقفنا السيارة في نهاية طريقٍ مليء بالحصى إلى جوار مبنًى سكني أصفر اللون يتكوَّن من طابقَين استأجَرتْه الجامعة لأعضاء هيئة التدريس. وهناك أراضٍ خضراء شاسعة تنحدِر من المبنى لتلتقِيَ بالأرض المزروعة بأشجار الموز وغابة عالية، وبالأسفل مجرًى مائي ضيِّق وغير نظيف يجري عبر وادٍ واسعٍ مليء بالأحجار. كانت شقة أوما تقع في الطابق الأول وهي شقة صغيرة لكنها مُريحة، بها أبواب على الطراز الفرنسي تجعل ضوء الشمس ينفذ إلى الغُرَف. وهناك أكوام من الكتب في كل مكان، ومجموعة من الصور، صورة فوتوغرافية وأخرى التُقِطت بكاميرا فورية، مُلصقة معًا على لوحٍ واحد ومعلقة على أحد الحوائط، وهو عمل فني من مزيجٍ من صور العائلة صنعته أوما لنفسها. وفوق سرير أوما لاحظتُ وجود صورةٍ كبيرة لامرأةٍ سوداء تنظر بوجهها لأعلى باتجاه زهرٍ يتفتح، وأسفلها طبعت الكلمات «لديَّ حُلم». فسألتُها وأنا أضع حقائبي: «ما حُلمك يا أوما؟» ضحكت. وقالت: «هذه هي أكبر مشكلة لديَّ يا باراك. لديَّ أحلام كثيرة. وأية امرأة لدَيها أحلام لدَيها دائمًا مشكلات.» لا بد أن إنهاكي من الرحلة كان باديًا عليَّ لأن أوما اقترحت أن أنال قسطًا من النوم في حين ذهبَتْ هي إلى الجامعة لتُلقي محاضراتها. سقطتُ على الفراش الصغير الذي أعدَّته لي ورحتُ في سباتٍ عميق على صوت طنين الحشرات خارج النافذة. وعندما استيقظتُ كان وقت الغسق ولا تزال أوما بالخارج. ومن المطبخ لاحظتُ وجود سربٍ من القرود سُود الوجوه يجتمع أسفل شجرة موز. أكبرها سنًّا يجلس بحذرٍ أسفل الشجرة يشاهد بحاجبَين معقودَين والصغار يجرون هنا وهناك عبر الجذور الطويلة الملتوية. غسلتُ وجهي في الحوض ووضعتُ الماء كي يغلي لأصنع شايًا، ثم فتحت الباب الذي يقود إلى الفناء. فتجمَّدتِ القردة في أماكنها، وأعيُنها جميعًا تتجه إليَّ في انسجام. وعلى بُعد بضعة أقدامٍ امتلأ الجو بخفقات جناحَين أخضرَين ضخمَين، وراقبتُ الصعود الحالم لطائرٍ طويل العنق وهو يُصدِر سلسلةً من الأصوات الغليظة ويتَّجِه نحو شجرةٍ بعيدة. ••• قرَّرنا أن نبقى في المنزل تلك الليلة نطهو اليخني ونتبادل أخبارنا. وفي الصباح التالي سِرنا إلى المدينة وتجوَّلنا نُشاهد معالمها دون قصد وجهةٍ مُعينة. وكان مركز المدينة أصغرَ مما توقَّعت، وبه الكثير من الفنون المعمارية الاستعمارية كما هي: فرأيت صفوفًا من المباني المطليَّة بالجص الأبيض من الأيام التي لم تكن فيها نيروبي أكثرَ من مجرد مخفرٍ لخدمة إنشاء السكة الحديد البريطانية. وإلى جانب هذه المباني ظهرت مدينة أخرى، مدينة من المباني الإدارية الشاهقة الارتفاع والمحال الأنيقة والفنادق ذات الرَّدهات التي لا تختلف كثيرًا عن نظيراتها في سنغافورة وأطلنطا. إنه مزيج مُثير ومحيِّر؛ تناقض يبدو أنه يتكرَّر في أيِّ مكان نذهب إليه؛ فأمام أحد مُوزعي سيارات مرسيدس بنز رأينا طابورًا من نساء قبيلة ماساي يمر في طريقِه إلى السوق ورءوس النساء حليقة خالية تمامًا من الشعر وأجسادهن النحيلة مُغطاة بالشال الأحمر الذي يُطلق عليه «شوكا» وشحمة الأذن على جانب وجوههن طويلة ومحاطة بخرزٍ لامع، وعند مدخل مسجدٍ في الهواء الطلق رأينا مجموعةً من موظفي البنوك يخلعون أحذيتهم بحرصٍ ويغسلون أرجُلَهم قبل الانضمام إلى الفلاحِين وعمال الحفر في أداء صلاة العصر. كانت تلك المشاهد كما لو أن تاريخ نيروبي رفض أن يستقرَّ في طبقاتٍ منتظمة، وكما لو أن الماضي والحاضر قد اصطدما تصادمًا مُستمرًّا مُزعجًا. تجوَّلنا إلى داخل السوق القديمة، وهي مبنًى ضخم يُشبه الكهوف من الداخل تنبعث منه رائحة الفاكهة الناضجة ومحل جزارة قريب. كان الممرُّ في مؤخرة المبنى يقود إلى متاهةٍ من الأكشاك في الهواء الطلق حيث يُنادي التجار على بضائعهم من المنسوجات والسلال والحلي النحاسية والتحف الأخرى. توقَّفتُ أمام أحد هذه الأكشاك حيث تُعرض مجموعة من الأعمال النحتية الخشبية الصغيرة. تعرَّفتُ على أشكال الهدايا التي أهداني إيَّاها أبي قبل وقتٍ طويل: الأفيال والأسود وقارعي الطبول الذين يرتدون غطاءً للرأس على الطراز القبلي. قال لي أبي يومَها إنها أشياء صغيرة. قال الشاب الذي يُدير المحل: «تفضَّل يا سيدي.» وتابع: «لدَينا عِقد جميل لزوجتك.» «إنها أختي.» «أختك جميلة جدًّا. تفضَّل، سيكون هذا جميلًا عليها.» «كم سعره؟» «فقط ٥٠٠ شلن. إنه جميل.» قطَّبَتْ أوما ما بين حاجبَيها وقالت للرجل شيئًا باللغة السواحيلية. ثم فسَّرت قائلة: «إنه يبيعك بسعرٍ عالٍ.» وتابعت: «السعر المخصَّص للرجل الأبيض.» ابتسم الشاب. وقال: «أنا آسِف أيتها الأخت.» وتابع: «السعر للكينيين هو ٣٠٠ شلن فقط.» وداخل الكشك سيدة عجوز تربط خرزًا زجاجيًّا بسلكٍ لتجمعَه معًا وأشارت إليَّ وقالت شيئًا جعل أوما تضحك. «ماذا قالت؟» «تقول إنك تُشبه الأمريكيين.» فقلت وأنا أضرب بيدي على صدري: «أخبريها أنني أحد أبناء قبيلة لوو.» ضحكت العجوز وسألت أوما عن اسمي. وقد دفعت الإجابة السيدة للضحك أكثر، ونادت عليَّ كي أقف إلى جوارها وهي تأخذ بيدي. فقالت أوما: «إنها تقول إنك لا تبدو من أبناء لوو، لكن وجهك طيب. وتقول إن لدَيها ابنة يجب أن تُقابلها، وإذا اشتريتَ لها مياهًا غازية فسيُمكنك الحصول على تحفتَين من الأعمال المنحوتة والعِقد الذي تصنعه مقابل ٥٠٠ شلن.» ذهب الشاب ليشتري لنا جميعًا مياهًا غازية، وجلسنا على كراسي خشبية بلا ظهر أو مساند للذراعَين أخرجَتْها العجوز من خلف خزانة كبيرة. وأخبرتنا عن عملها، والإيجار الذي يجب أن تُسدِّده للحكومة لاستخدام الكشك، وكيف التحق ابنها الآخر بالجيش لأنه لم يَعُد هناك أرض ليعمل بها في قريتهم. وعلى الجانب الآخر سيدة أخرى تغزل خُوصًا ملوَّنًا وتحوِّله إلى سلال، وإلى جوارها رجل يقطع جلدًا إلى شرائط طويلة لاستخدامه في صُنْع أحزمة الحقائب. راقبتُ تلك الأيدي الرشيقة وهي تحيك وتقطع وتغزل، واستمعتُ إلى صوت السيدة العجوز يعلو فوق صوتِ العمل والمقايضات، ولوهلةٍ بدا العالَم كلُّه واضحًا أمامي. فبدأتُ أتخيَّل إيقاعًا ثابتًا للأيام، يعيشها المرء على أرضٍ ثابتة حيث يُمكنه الاستيقاظ كلَّ صباح وهو يعلَم أن كل شيءٍ كما كان في اليوم السابق، ويرى فيها كيف صُنِعت الأشياء التي يستخدِمُها، ويمكنه أن يسرد قصةَ حياة الأشخاص الذين صنعوها، ويمكنه أن يُصدِّق أن جميعهم يُكوِّنون وحدةً مُتماسِكة دون أجهزة إدخال البيانات إلى الكمبيوتر أو أجهزة الفاكس. كل هذا وموكب ثابت من الوجوه السوداء يمرُّ أمام أعيُننا؛ وجوه الأطفال المستديرة ووجوه العجائز المجعَّدة، جميعها وجوه جميلة جعلتني أفهم التحوُّل الذي زعمَتْ أسانتي والأمريكيون السود الآخرون أنهم مرُّوا به بعد زيارتهم الأولى لأفريقيا. وعلى مدار أسابيع أو شهور يمكنك الشعور بالحرية التي يولِّدها إحساس المرء بأنه ليس تحت المراقبة، حرية الإدراك أن شعرك ينمو كما ينبغي أن ينمو، وأنَّ رِدفك يتمايل بالطريقة التي ينبغي أن يتمايل بها. ويمكنك أن ترى رجلًا يتحدَّث إلى نفسه ولا شك أنه مجنون، أو تقرأ عن الجرائم في الصفحات الأولى للجرائد اليومية وتُفكِّر في فساد قلب الإنسان دون أن تُضطرَّ إلى التفكير فيما إذا كان المجرم أو المجنون يقول شيئًا عن مصيرك أنت. هنا العالم أسود، ومن ثم فلا تكون سوى نفسك، ويمكنك اكتشاف جميع الأشياء الخاصة بحياتك فقط دون أن تعيش في كذبةٍ أو ترتكِب خيانة. وفكَّرتُ كم من المغري أن أهرُب بعيدًا بهذه اللحظة كما هي. وأن أُغلف هذا الشعور بالراحة بإتقانٍ مثلما يُغلِّف الشاب عِقد أوما، وأصطحبه عائدًا إلى أمريكا كي أتدثَّر به كلما فترتْ روحي. ولكن بالطبع لم يكن هذا ممكنًا، فقد انتهينا من تناول المياه الغازية، ودفعنا النقود، وغادرنا السوق، وهربَتْ منا تلك اللحظة. انعطفنا إلى شارع كيماثي، الذي يحمل اسم أحد قادة ثورة ماو. كنتُ قد قرأت كتابًا عن كيماثي قبل أن أُغادر شيكاغو وتذكَّرتُ صورة له يظهر فيها بين عدة رجال يُطلِقون شعرهم على الطراز الأفريقي يعيشون في الغابة وينشرون قَسَمًا سِريًّا بين السكان الأصليين، أي النموذج المعتاد لمقاتلي حرب العصابات. وقد اختار لنفسه زيًّا ذكيًّا (فقد خدم كيماثي والقادة الآخرون لثورة ماو في الكتائب البريطانية في أوقاتٍ سابقة من حياتهم) وهي صورة استغلَّت جميع المخاوف من الغرب الاستعماري، النوع نفسه من الخوف الذي استحضره نات ترنر في يوم من الأيام في الجنوب قبل الحرب الأهلية الأمريكية، والذي يُثيره الآن اللصوص الذين ذهب الكوكايين بعقولهم في أذهان البِيض في شيكاغو. بالطبع ترقد ثورة ماو في ماضي كينيا. فقد أُلقي القبض على كيماثي وأُعدِم. وأُطلِق سراح كينياتا من السجن وتُوِّج أولَ رئيسٍ لكينيا. وقد سارع بالتأكيد إلى البِيض الذين كانوا مشغولين بحزْمِ أمتعتهم ليُطمئنَهم أن شركاتهم لن تُؤمَّم، وأن ملكية الأرض لن تُمسَّ ما دام الرجل الأسود هو الذي يمسك بزمام الحكومة. وأصبحت كينيا أكثرَ تلميذٍ مخلص للغرب في أفريقيا، ونموذجًا للاستقرار، وتُمثِّل تناقُضًا عمليًّا للفوضى التي تعمُّ أوغندا، والاشتراكية الفاشلة في تنزانيا. وعاد مقاتلو الحرية السابقون إلى قُراهم أو انضمُّوا إلى الأعمال المدنية، أو رشَّحوا أنفسهم للحصول على مقعدٍ في البرلمان. وأصبح كيماثي اسمًا على لافتة، اسمًا لشارع هُيِّئَ تمامًا من أجل السيَّاح. انتهزتُ الفرصة لدراسة هؤلاء السياح عندما جلستُ أنا وأوما لتناول الغداء في المقهى الخارجي لفندق نيو ستانلي. كان السياح — ألمانًا ويابانيين وبريطانيين وأمريكيين — في كل مكانٍ يلتقطون الصورَ ويلوِّحون لسيارات الأجرة، ويبعدون عنهم الباعة المتجوِّلين في الشارع، والكثير منهم يرتدون سترات سفاري مثل الكومبارس أثناء تصوير فيلم. وفي هاواي، عندما كنَّا صغارًا، كنتُ أنا وأصدقائي نضحك على سيَّاح مثل هؤلاء، بالحروق الشمسية في جلودهم وسيقانهم النحيفة الشاحبة ونستمتِع بمشاعرِ تفوُّقِنا الواضح. أما هنا في أفريقيا فلم يبدُ السياح مُضحِكين. فقد شعرتُ بصورةٍ ما أن وجودهم تَعدٍّ على حقوق الآخرين، ووجدت براءتهم مهينة بصورةٍ غامضة. وطرأ على ذهني أنه في افتقادهم التام لإدراك الذات كانوا يُعبِّرون عن حريةٍ لم أستطِع أنا ولا أوما أن نشعُر بها قط، ثقة جوهرية بضيق أفق تفكيرهم، ثقة مُدَّخرة فقط لأولئك الذين وُلِدوا بين أحضان ثقافة إمبريالية. وفي تلك اللحظة لاحظتُ أن عائلةً أمريكية تجلس على بُعد بضع طاولات منا. وعلى الفور قفز نادلان أفريقيان للعمل، وكلاهما ترتسِم على وجهه ابتسامة ملء وجهه. ونظرًا لأنه لم يكن أحدٌ قد تقدَّم ليعرف طلباتنا أنا وأوما بدأتُ ألوِّح للنادلَين اللذَين يقفان عند المطبخ، وأنا أظنُّ أنهما لم يرَيانا بصورةٍ ما. ولبعض الوقت نجحا في تجنُّب إشاراتي، لكن استجاب لنا في النهاية رجل مُتقدِّم في السن له عينان ناعِستان وأحضر لنا قائمتَين للطعام. كان يبدو ممتعضًا، وبعد عدة دقائق أخرى لم يبدُ عليه أنه ينوي العودة على الإطلاق. بدأ الغضب يظهر على وجه أوما، ومرةً أخرى لوَّحتُ للنادل، الذي استمرَّ على صمته وهو يدوِّن طلباتنا. وفي ذلك الوقت حصلَتِ العائلة الأمريكية على طعامها بالفعل، ونحن لم يُصنع لنا شيء حتى إعداد الطاولة لوضع الطعام عليها. وسمعتُ طفلة تعقص شعرها الأشقر خلف ظهرها على شكل ذيل حصانٍ تشتكي من أنه لا يُوجَد كاتشب، فنهضت أوما. قالت: «هيا بنا.» وبدأت تتَّجه نحو باب الخروج، ثم فجأةً استدارت وعادت إلى النادل الذي كان يُحدِّق فينا بنظرةٍ جامدة. قالت له أوما وصوتها يرتجف: «يجب أن تشعر بالخِزي من نفسك.» وتابعت: «يجب أن تشعر بالخزي.» أجاب عليها النادل بلهجةٍ فظة باللغة السواحيلية. فقالت له: «لا أُبالي بعدد الأفواه التي يتحتَّم عليك إطعامها، ولكن لا يمكنك أن تُعامِل شعبك مثل الكلاب. انظر …» وفتحت حقيبتَها وأخرجت منها ورقةً نقدية متجعدة فئة ١٠٠ شلن وصاحت: «أترى!» وتابعت: «يُمكنني أن أدفع ثَمن الطعام اللعين.» وألقت الورقة على الأرض، ثم اتجهت نحو الشارع. ولعدة دقائق أخذنا نتجوَّل دون وجهةٍ مُحدَّدة، حتى اقترحتُ أنا في النهاية أن نجلس على مقعدٍ بجوار مكتب البريد المركزي. ثم سألتها: «هل أنت بخير؟» فأومأت برأسها. وقالت: «كان ذلك غباءً منِّي، أقصد إلقاء النقود على الأرض بهذا الشكل.» وضعَتْ حقيبتها إلى جوارها وأخذنا نُراقِب حركة المرور. ثم قالت: «أتدري، لا يمكنني الذهاب إلى النادي في أيٍّ من هذه الفنادق إذا كنتُ بصحبة سيدة أفريقية.» وتابعت: «سيطردنا رجال الشرطة للخارج ظانِّين أننا عاهرات. والأمر نفسه ينطبق على هذه المباني الإدارية الضخمة؛ إذا لم تكن تعمل هناك، وأنت أفريقي، فسيُوقِفونك حتى تُخبرهم ماذا تريد. ولكن إذا كنت بصحبة صديق ألماني فستجد الابتسامات على وجوههم. وهم يسألونك: «مساء الخير يا آنسة، كيف حالك اليوم؟» وهزَّت أوما رأسها. وقالت: «لهذا كينيا هي أضحوكة باقي أفريقيا، مهما كان إجمالي الناتج القومي لها، وبصرف النظر عن الأشياء التي يُمكنك شراؤها هنا. إنها عاهرة أفريقيا يا باراك. تفتح ساقَيها لكلِّ مَن يدفع.» أخبرتُ أوما أنها قاسية للغاية على الكينيين وأن الأمر نفسه يحدُث في جاكرتا أو مكسيكو سيتي، إنها مسألة اقتصادية فحسب. ولكن عندما بدأنا نسلك طريقنا عائدَين إلى المنزل كنت أعلم أن كلماتي لم تفلح على الإطلاق في التخفيف من حدةِ ما تشعُر به من مرارة. فظننتُ أنها على حق؛ فليس جميع السياح في نيروبي جاءوا لمشاهدة الحياة البرية. بعضهم أتى لأن كينيا تعرض عليهم دون خجلٍ العودةَ للعصر الذي كانت فيه حياة البِيض على الأراضي الأجنبية تقِف شامخةً على أعناق الأجناس السوداء؛ عصر من البراءة قبل أن ينشر رجال مثل كيماثي، والرجال الآخرون الغاضبون في سويتو أو ديترويت أو دلتا الميكونج، الجريمةَ والثورة في الشوارع. وفي كينيا كان لا يزال بإمكان الرجل الأبيض أن يسير في منزل إيزاك دينسين، ويتخيَّل قصة حبٍّ مع بارونة شابة غامضة، أو يحتسي الخمر أسفل مراوح السقف في فندق لورد ديلامير، ويُعجَب بصورة هيمنجواي وهو يبتسِم بعد رحلة صيد ناجحة، محاطًا بالوجوه المتجهمة للعمال الآسيويين البُلَهاء. يمكن أن يخدمه رجل أسود دون خوف أو شعور بالذنب، ويتعجَّب من سعر الصرف، ويترك بقشيشًا كبيرًا؛ وإذا شعر بعُسْر هضم عند رؤيته لمتسولين مُصابين بالجذام خارج الفندق فيمكنه دائمًا أن يأمر بإحضار دواء منشط. ومع ذلك فقد جاء عهد السود. هذا بلدُهم، ونحن مجرد زوَّار. هل كان النادل يعلم أن عصر السود قد أتى؟ هل يعني ذلك أيَّ شيءٍ له؟ وفكَّرتُ في نفسي ربما سيعرف ذلك يومًا ما. هذا عندما تتقدَّم سنُّه فتسمح له أن يعرف الاستقلال وصيحات الحرية باللغة السواحيلية ورفع الأعلام الجديدة. لكن مثل هذه الذكريات قد تبدو له الآن خيالية وبعيدة وساذَجة. لقد تعلَّم النادل أن مَن كانوا يحكمون الدولة قبل الاستقلال لا يزالون يحكمونها، وهو لا يزال لا يمكنه أن يأكل في المطاعم أو يُقيم في الفنادق التي بناها الرجل الأبيض. ويرى أموال المدينة تدور فوق رأسه والتكنولوجيا التي تلفظ بضائع من فمها الآلي. وإذا كان طموحًا فسيبذل قصارى جهده ليتعلَّم لُغة الرجل الأبيض، ويستخدِم ماكينات الرجل الأبيض محاولًا أن يجعل الغايات تتلاقى بالطريقة نفسها التي يفعل بها مَن يُصلِح أجهزة الكمبيوتر في نيوآرك أو سائق الحافلة في شيكاغو، بموجاتٍ متعاقبة من الحماس أو الإحباط، لكن غالبًا باستكانة. وإذا أخبرتَهُ أنه يخدم بهذا مصلحةَ الاستعمار الحديث أو شيئًا من هذا القبيل، فسيكون ردُّه أنه يوافق على فعْل ذلك إذا كان هذا هو المطلوب. فالمحظوظون هم مَن يخدمون، أما غير المحظوظين فينجرفون في تيار المهن غير الشريفة أو الغريبة المعتمة، والكثير منهم سيغرقون. وقد لا يكون هذا هو كلَّ ما يشعر به النادل. ربما لا يزال جزء منه يتمسَّك بقصص ماو، الجزء نفسه الذي يتذكَّر صمت الليل في القرية أو صوت أُمِّه وهي تطحن الذرة أسفل مطحنة حجرية. ولا يزال شيء بداخله يُخبره أن طُرق الرجل الأبيض ليست طرقه، وأن الأشياء التي قد يَستخدمها كلَّ يومٍ ليست من صُنْعه. ويتذكَّر وقتًا وطريقةً لتخيُّل نفسه، يتركهما فقط كي يُعاني. فلا يمكنه الهروب من قبضة ذكرياته، ومن ثَم فإنه يُباعد بين عالَمين لا يشعر بالثقة في أيٍّ منهما، ودائمًا يكون غير متوازن، ويلعب أية لعبةٍ تدرأ عنه الفقر المدقِع الذي لا ينتهي، وهو حريص على أن يترك غضبَه ينصبُّ على الذين في مثل حالته فقط. وهناك صوت يقول له نعم لقد حل التغيير، وتدمَّرت الطرق القديمة، ويجب أن تجد طريقةً بأسرعِ ما يمكنك كي تكسب قوتَ يومِك وتمنع الرجل الأبيض من الضحك عليك. صوت يقول له لا، إنك ستحرق الأخضر واليابس في وقتٍ أقرب. ••• في ذلك المساء اتجهنا بالسيارة شرقًا إلى ضاحية كارياكو، وهي مجمع سكني شاسع مُحاط بأراضٍ تتجمَّع فيها القمامة. وكان القمر قد اختفى خلف سُحبٍ كثيفة، وبدأت أولى خيوط الضوء تنبثق. وعندما كنا نصعد السلَّم المظلم وثب شابٌّ من أمامنا إلى الرصيف المحطَّم واختفى في الظلام. وفي الطابَق الثالث دفعت أوما بابًا كان مفتوحًا قليلًا. «باري! أخيرًا وصلت.» احتضنتني بقوةٍ عند منطقة الخَصْر سيدةٌ قصيرة مُمتلئة الجسد لها وجه مُبتهج أسمر اللون. ومن خلفها كان هناك ما يقرب من ١٥ شخصًا، جميعهم يبتسِمون ويلوِّحون مثل حشدٍ في عرض عسكري. نظرت السيدة القصيرة إلى الأعلى تجاهي وقطَّبت ما بين حاجبَيها. وسألت: «إنك لا تتذكَّرني أليس كذلك؟» «أنا …» «أنا عمَّتك جين. أنا التي اتصلت بك عندما تُوفي والدك.» وابتسمت وأخذت يدي. وقالت: «تعالَ. يجب أن تُقابِل الجميع هنا. لقد قابلتَ زيتوني بالفعل. وهذه …» قالتها وهي تقودني إلى سيدة جميلة مُتقدِّمة في العمر ترتدي زيًّا مزركشًا: «هذه أختي، كيزيا. وهي والدة أوما وروي أوباما.» التقطَتْ كيزيا يدي ونطقَت اسمي ومعه بضع كلمات باللغة السواحيلية. فقالت جين: «إنها تقول إن ابنها الآخر قد عاد إلى الوطن أخيرًا.» كرَّرَت كيزيا باللغة الإنجليزية وهي تُومئ وتجذبني إلى حضنها. قالت: «ابني عاد إلى الوطن.» استكمَلْنا رحلة التعارُف في جميع أرجاء الغرفة وأنا أُصافح عماتي وأولادهن وأولاد وبنات إخوتي. وقد حيَّاني الجميع بفضول مُبتهج، لكن دون علاماتٍ قوية على الارتباك كما لو أن لقاء أحد أقربائهم للمرة الأولى أمرٌ يحدُث كلَّ يوم. كنتُ قد أحضرتُ علبةً من الشيكولاتة للأطفال، وتجمَّعوا حولي في فضولٍ مُهذَّب والكبار يحاولون أن يشرحوا لهم مَن أنا. لاحظت أن هناك شابًّا في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره يقف مستندًا إلى الحائط وعلى وجهه تعبير مُتحفِّظ. فقالت أوما: «هذا أحد إخوتك.» وتابعت: «اسمه برنارد.» تقدَّمتُ باتجاه الفتى وتصافَحنا، فحص كِلانا وجه الآخر. ووجدتُ نفسي غير قادر على التفوُّه بكلمة، لكني استطعتُ أن أسأله كيف حاله. فأجاب برفق: «بخيرٍ على ما أظن»، مما دفع الجميع إلى الضحك. وبعد أن انتهى التعارُف قادتني جين إلى منضدة صغيرة عليها أطباق من لحم الماعز والخضراوات والسَّمك المقلي والكرنب والأرز. وفي أثناء تناول الطعام سألوني عن عائلتي في هاواي وحاولتُ أن أصف لهم حياتي في شيكاغو وعملي مُنظِّمًا للمجتمع الأهلي. وقد أومئوا برءوسهم بأدب، ولكن بدت الحيرة على وجوههم قليلًا؛ لذا أخبرتُهم أنني سأدرس القانون في جامعة هارفارد في الخريف. قالت جين وهي تلتقِط عظمةً من طبق اللحم والخضراوات: «هذا رائع يا باري.» وتابعت: «لقد درس والدُك في جامعة هارفارد أيضًا. إنك ستجعلنا جميعًا فخورين بك، تمامًا كما فعل هو. أترى يا برنارد، يجب أن تجتهد مثل أخيك.» قالت زيتوني: «يظن برنارد أنه سيُصبح نجمًا في كرة القدم.» فالتفتُّ إليه. وقلتُ: «هل هذا صحيح يا برنارد؟» فقال وعدم الارتياح يبدو عليه لأن الأنظار التفتت إليه: «كلَّا.» وتابع: «كلُّ ما في الأمر أنني اعتدتُ لعب الكرة.» «حسنًا … ربما يمكننا اللعب في وقتٍ ما.» فهزَّ رأسه. وقال بجدية: «أنا الآن أُحب لعب كرة السلة.» وتابع: «مثل ماجيك جونسون.» خفَّفت الوجبة بعضًا من الإثارة التي كانت في البداية، واتجه الأطفال بعد ذلك لمشاهدة تليفزيون كبير يعرض الصورة باللونين الأبيض والأسود كان يبثُّ سلسلة من علامات سخاء الرئيس: الرئيس يفتتح مدرسة، الرئيس يشجب الصحفيين الأجانب ومختلف العناصر الشيوعية، الرئيس يُشجِّع الأمة على متابعة السير في طريق التقدُّم. ذهبتُ مع أوما لأرى باقي أجزاء الشقة التي كانت تتكوَّن من غرفتَي نومٍ مُتخمتَين بمراتب قديمة. فسألتها: «كم عدد مَن يعيشون هنا؟» فقالت أوما: «لا أدري ما العدد الآن.» وتابعت: «إنه يتغيَّر دائمًا. فجين لا تعرف كيف تقول لشخصٍ لا، ومن ثم فكلَّما انتقل أحد أقربائنا إلى المدينة أو فقد عمله انتهى به الحال هنا. وفي بعض الأحيان يمكثون فترةً طويلة، أو يتركون أطفالهم هنا. وقد ترك أبي وأمي برنارد هنا كثيرًا. وعمليًّا جين هي التي ربَّته.» «وهل تستطيع هي الإنفاق على كل هذا؟» «في الواقع لا، إنها تعمل عاملة هاتف، ولا تتلقَّى راتبًا كبيرًا. ومع ذلك فهي لا تشتكي. ولأنها لا تُنجِب فهي ترعى أطفال الآخرين.» عُدنا إلى غرفة المعيشة، وجلستُ على أريكة قديمة، وفي المطبخ كانت زيتوني تتولى توجيه السيدات الأصغر سنًّا في غسيل الأطباق، وعدد قليل من الأطفال يتجادلون حول الشيكولاتة التي أحضرتها. تركتُ عينَي تتجوَّلان في المشهد؛ الأثاث المتهالك، ونتيجة الحائط التي تعود لعامَين، والصور الباهتة، والتماثيل الخزفية الزرقاء لأطفالٍ بأجنحة موضوعة على مناديل صوفية. وأدركتُ أنه هو المشهد نفسه في شقق ألتجيلد. السلسلة نفسها من الأمهات والبنات والأطفال، وضوضاء النميمة والتليفزيون، والحركة المستمرة في الطهي والتنظيف ورعاية الأطفال تُثقل كاهل الجميع. والغياب نفسه للرجال. ودَّعنا الجميع الساعة العاشرة مساء تقريبًا ووعدْنا بزيارة كلِّ فردٍ على حدة. وفي طريقنا إلى الباب جذبَتْنا جين جانبًا وخفضت صوتها وهمست لأوما. قالت: «يجب أن تأخُذي باري ليرى عمَّتك سارة.» ثم التفتت إليَّ: «سارة هي شقيقة والدك الكبرى. أول واحدة وُلِدت. وتريد أن تراك بشدة.» فقلت: «بالطبع.» وتابعت: «لكن لماذا لم تكن هنا الليلة؟ هل تقطن بعيدًا عن هنا؟» نظرت جين إلى أوما ودار بينهما حوار صامت. وفي النهاية قالت أوما: «تعالَ يا باراك.» وتابعت: «سأشرح لك في السيارة.» كانت الشوارع خالية وزلِقة من المطر. وقالت ونحن نمر من أمام الجامعة: «إن جين على حق يا باراك.» وتابعت: «يجب أن تذهب وترى سارة. لكنني لن أذهب معك.» «ولمَ لا؟» «الأمر يتعلق بالإرث الذي تركه أبي. فسارة أحد الأشخاص الذين عارضوا وصيَّتَه. فكانت تُخبِر الجميع أنني وروي وبرنارد لسنا أولاده.» ثم تنهَّدت. وأكملت: «لا أعلم. جزء منِّي يتعاطف معها. فقد عاشت حياةً صعبة. ولم تحظَ أبدًا بالفُرَص التي أُتيحت لأبي مثل الدراسة والسفر إلى الخارج. وقد جعلها هذا تشعر بالمرارة، فتظن بشكلٍ ما أنني وأُمي السبب في حالتها.» «ولكن بِكَم يقدَّر هذا الإرث؟» «ليس كثيرًا. ربما معاش حكومي صغير. وقطعة أرض ليست لها قيمة. وأنا أحاول أن أبقى بعيدًا عنها. ومهما كان الميراث فإنه على الأرجح أُنفِق على المحامين الآن. ولكن الجميع يتوقَّع الكثير من أبي. فقد جعلهم يظنُّون أنه يملك كلَّ شيء، حتى وهو لا يملك شيئًا. والآن بدلًا من أن يستمروا في حياتهم، ينتظرون ويتجادلون فيما بينهم ظنًّا منهم أن أبي سيُنقِذهم وهو في قبره. وقد تعلَّم برنارد هذا الانتظار. إنه ذكي حقًّا يا باراك، لكنه يجلس هناك طوال اليوم ولا يفعل شيئًا. وقد ترك المدرسة وليست لدَيه فُرَص كثيرة في الحصول على عمل. وقد أخبرتُه أنني سأساعده كي يلتحِق بمدرسةٍ تجارية، أو أي شيءٍ يريد، فقط حتى يفعل أيَّ شيء. فيقول حسنًا، ولكن عندما أسأله هل حصل على أيِّ استمارات تَقدُّم أو تحدَّث إلى ناظر المدرسة، أجد أنه لم يفعل شيئًا. وفي بعض الأحيان أشعر أنني لو لم أَخْطُ معه كل خطوةٍ فإن شيئًا لن يحدث.» «ربما يمكنني المساعدة.» «نعم. ربما يمكنك التحدُّث إليه. ولكن الآن بما أنك هنا وقادم من أمريكا، فإنك جزء من الميراث. لهذا تود سارة أن تراك كثيرًا. إنها تظن أنني أُخفيك عنها لأنك الشخص الذي يملك كل شيء.» عادت الأمطار تهطل مرةً أخرى ونحن نوقف السيارة. كان المصباح الوحيد الذي يبرُز من جانب المبنى يُلقي بظلالٍ شبكية مُترقرقة على وجه أوما. وقالت هي برفق: «لقد سئمتُ الأمر برمَّته يا باراك.» وتابعت: «لن تُصدِّق كم كنتُ أشتاق إلى كينيا عندما كنتُ في ألمانيا. كلُّ ما كنتُ أفعله هو التفكير في العودة إلى الوطن. وفكَّرتُ كيف لا أشعر بالوحدة أبدًا هنا؛ العائلة في كل مكان، ولا أحد يُرسِل والدَيه إلى دارٍ لرعاية المسنين، أو يترك أطفاله مع غرباء. ثم أعود إلى هنا وأجد الجميع يطلبون منِّي المساعدة، وأشعر أنهم جميعًا يتمسَّكون بي وأنني سأغرق. كما أني أشعر بالذنب لأنني كنتُ أسعد حظًّا منهم. فقد التحقتُ بالجامعة. ويمكنني الحصول على عمل. لكن ماذا بوسعي أن أفعل يا باراك؛ فأنا مجرد فردٍ واحد.» أمسكتُ يدَ أوما ومكثنا في السيارة عدةَ دقائق نستمع إلى صوت هطول المطر. وقالت في النهاية: «لقد سألتَني عن حلمي.» وتابعت: «في بعض الأحيان يُراوِدني حلم أنني سأبني منزلًا جميلًا على أرض جَدنا. منزلًا كبيرًا حيث يُمكننا جميعًا البقاء وإحضار عائلاتنا. ويمكننا زراعة أشجار فواكه مثل جَدنا، وسيعرف أطفالنا الأرض ويتحدَّثون بلغةِ قبيلة لوو ويتعلَّمون تقاليدنا من الكبار. وستكون ملكًا لهم.» «يمكننا أن نفعل كل هذا يا أوما.» هزَّت رأسها. وقالت: «دعني أُخبرك ما بدأتُ أفكر فيه. أفكر فيمن سيعتني بالمنزل إذا لم أكن أنا موجودة؟ مَن يمكنني الاعتماد عليه كي أتأكَّد أن الترسيب سيُصَلَّح أو أن السياج سيُرَمَّم؟ أعرف أن هذه أنانية رهيبة. وكلُّ ما أستطيع فعله عندما أفكر بهذا الشكل أن أشعر بالغضب تجاه أبي لأنه لم يبنِ لنا هذا المنزل. نحن الأبناء يا باراك. لماذا علينا الاعتناء بكل فرد؟! كل شيء مقلوب رأسًا على عقب، كل شيء في حالة جنون. فكان عليَّ أن أعتني بنفسي، بالضبط مثل برنارد. والآن اعتدتُ أن أعيش حياتي الخاصة مثل الألمان. كل شيء منظَّم. وإذا احتاج شيء إلى إصلاح فأنا أصلحه. وإذا فسد شيء فهذا خطئي أنا. وإذا كانت لدي نقود فإني أُرسِلها إلى العائلة وهم يفعلون بها ما يريدون وأنا لا أعتمد عليهم، ولا هم يعتمدون عليَّ.» «يبدو أنك وحيدة.» «أعلم هذا يا باراك. لهذا أعود دائمًا إلى الوطن. ولهذا لا أزال أحلم.» ••• بعد مرور يومَين لم أكن قد استعدتُ حقيبتي بعد. أخبرنا مكتب شركة الطيران في وسط المدينة أن نتَّصِل بالمطار، ولكن كلما حاولنا ذلك وجدنا الخطوط مشغولة. اقترحَت أوما في النهاية أن نذهب إلى هناك بأنفسنا. وفي مكتب الخطوط الجوية البريطانية وجدْنا شابَّتَين تتحدَّثان عن ملهًى ليلي افتُتِح لتوِّه. قاطعتُ حوارهما كي أسأل عن حقيبتي فقلبَتْ واحدة منهما بلا مبالاة كومةً من الأوراق. ثم قالت: «ليس لدَينا أي أوراق عنك يا سيدي؟» «تأكَّدي مرةً أخرى من فضلك.» هزَّت كتفَيها. وقالت: «إذا أردتَ يمكنك العودة في منتصف الليل. فهناك رحلة قادمة من جوهانسبرج في هذا التوقيت.» «قيل لي إن حقيبتي ستُرسَل إليَّ.» «آسِفة، ليس لديَّ أيُّ ذِكر لحقيبتك هنا. إذا أردتَ يمكنك ملء استمارةٍ أخرى.» «هل الآنسة أومورو هنا؟ إنها …» «أومورو في إجازة.» أزاحتني أوما جانبًا. وقالت: «مَن غيرك هنا يُمكننا التحدُّث إليه بما أنك لا تعرفين شيئًا؟» أجابتها بأسلوب فظ قبل أن تعود لاستكمال حديثها: «اذهبي إلى وسط المدينة إذا أردتِ التحدُّث إلى شخصٍ آخر.» كانت أوما لا تزال تغمغم ساخطة عندما دخلنا إلى مكتب الخطوط الجوية البريطانية في وسط المدينة. كان المكتب في مبنًى عالٍ يُعلِن فيه المصعد رقم كل طابقٍ إلكترونيًّا بنبرة فخمة واضحة، وكانت هناك موظفة استقبال تجلس أسفلَ صورٍ لأشبالِ أسُود وأطفالٍ يرقصون. وقالت لنا مرة أخرى إنه علينا التأكُّد من المطار. قلتُ لها وأنا أحاول ألا أصرخ: «أريد التحدُّث إلى المدير من فضلك.» «أنا آسفة، السيد مادوري في اجتماع.» «اسمعي يا آنسة، لقد أتينا للتوِّ من المطار حيث أخبرونا أن نأتي إلى هنا. وقبل يومَين قيل لي إن حقائبي ستُرسَل إليَّ. والآن تقولون لي إنه لا أحد يعلم حتى أنها مفقودة. أنا …» توقَّفت في منتصف الجملة. وانسحبَت موظفة الاستقبال وراء قناع حجري، وهو مكانٌ لا تصل إليه المناشدات أو الصياح الغاضب. ويبدو أن أوما رأت الشيء نفسه، فلم تنبس ببنت شفة هي الأخرى، وسقطنا معًا إلى كُرسِيَّين مُريحَين لا نعرف ماذا نفعل بعد ذلك، عندما ظهرت يدٌ فجأة على كتف أوما. فالتفتت أوما لتجد أنها يدُ رجلٍ أسود نحيف يرتدي سترة زرقاء. «عماه! ماذا تفعل هنا؟» قدَّمَتْني أوما للرجل الذي كان قريبًا لنا في نسبٍ لم أستطِع تعقُّبه. وسألنا هل نخطط للقيام برحلة، فأخبرَتْه أوما بما حدث. فقال عمُّنا: «اسمعا، لا تقلقا.» وتابع: «إن مادوري صديق مُقرَّب لي. في الحقيقة أنا الآن على وشك تناول الغداء معه.» والتفت إلى موظفة الاستقبال التي كانت تُراقِب حديثنا باهتمامٍ كبير. وقالت مبتسمة: «السيد مادوري يعرف بالفعل أنك هنا.» كان السيد مادوري رجلًا قصير القامة ممتلئ الجسد له أنف ضخم وصوت أجش. وبعد أن أعدنا قصتنا على مسامعه أخذ سماعةَ الهاتف على الفور وقال: «مرحبًا؟ نعم أنا مادوري. مَن المتحدث؟ اسمعي لديَّ الآن السيد أوباما الذي كان يبحث عن حقيبته. نعم، أوباما. إنه ينتظر وصول حقيبته منذ وقتٍ طويل. ماذا؟ نعم ابحثي الآن من فضلك.» وبعد بضع دقائق انطلق رنين الهاتف. «نعم … حسنًا، أرسليها إلى …» ومنح مُحدِّثَتَه عنوان مكتب أوما، ثم أغلق الهاتف وأخبرنا أن الحقيبة ستُرسَل إلى هناك بعد ظهر هذا اليوم. وقال: «اتصل بي إذا واجهتْكَ أية مشكلات أخرى.» شكرنا الرجُلَين بشدة واستأذنا للانصراف على الفور خوفًا من أن يتغير حظنا في أية لحظة. وفي الأسفل توقَّفتُ أمام صورة كبيرة لكينياتا مُعلَّقة على نافذة مكتب. كانت عينا الرجل تشعَّان ثقةً ومكرًا، ويدُه القوية التي يرتدي بها المجوهرات تقبض على عصا زعيم قبيلة كيكويو المنقوشة. فجاءت أوما ووقفت إلى جواري. وقالت: «من هنا يبدأ كل شيء.» وتابعت: «الرجل الكبير. ثم مساعده أو عائلته أو صديقه أو قبيلته. الأمر نفسه ينطبق سواء أكنتَ تريد هاتفًا أو تأشيرة سفر أو عملًا. مَن أقرباؤك؟ مَن معارفك؟ فإذا كنتَ لا تعرف أحدًا فانْسَ الأمر. وهذا ما لم يفهمه أبي قط. لقد عاد إلى هنا وهو يظن أنه نظرًا لأنه تلقى تعليمًا راقيًا ويتحدَّث لغةً إنجليزية صحيحة ويفهم خرائطه ورسومه البيانية فإن كلَّ شخصٍ سيودُّ أن يُوليه المسئولية. ونسي الشيء الذي يربط كل الأشياء بعضها ببعض هنا.» فقلت بهدوء: «لقد تاه.» وفي طريقنا عائدَين إلى السيارة تذكَّرتُ قصة كانت أوما قد أخبرتني بها عن أبي بعد أن أفل نجمه. مساء أحد الأيام أخبرها أن تذهب إلى المتجر وتشتري له بعض السجائر. فذكَّرته أنهم لا يمتلكون نقودًا، لكن أبي هز رأسه بنفاد صبر. وقال: «لا تكوني سخيفة.» وتابع: «فقط أخبري صاحب المتجر أنك ابنة الدكتور أوباما وأنني سأدفع له فيما بعد.» فذهبت أوما إلى المتجر، وكرَّرت ما قاله لها والدُها. فضحك صاحب المتجر وصرفها. ولخوفها من العودة إلى المنزل ذهبت إلى أحد أقاربها كان والدها قد ساعده في الحصول على عمل، وأقرضها الشلنات القليلة التي كانت تحتاج إليها. وعندما عادت إلى المنزل أخذ أبي السجائر ووبَّخها على التأخير. قال لها وهو يفتح العلبة: «أرأيتِ!» وتابع: «لقد أخبرتُك أنك لن تُواجهي أية مشكلة. فالجميع هنا يعرفون أوباما.» شعرتُ بوجود أبي وأنا أقطع مع أوما الشارع المزدحم. أراه في وجوه التلاميذ الذين يَجْرون من أمامنا، وسيقانهم السوداء النحيلة تتحرك مثل عصا المكابس بين أرجل السراويل الزرقاء والأحذية التي يفوق حجمها مقاس أرجلهم. أسمعه في ضحكات طلاب الجامعة الذين يرتشفون الشاي المُحلَّى الكريمي ويأكلون سمبوسة في مقهى الشاي ذي الإضاءة الخافتة. أشم رائحته في دخان سجائر رجل الأعمال الذي يُغطي إحدى أُذنَيه ويصرخ في الهاتف الذي يعمل بالعملة، وفي عَرق العامل الذي يعمل باليومية في تحميل الحصى على عجلاتٍ تُدفع باليد، ووجهه وصدره العاري مُغطَّيان بالغبار. وفكَّرت في نفسي: أبي هنا، مع أنه لا يقول لي شيئًا. إنه هنا ويطلُب مني أن أفهم.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/16/
الفصل السادس عشر
قرع برنارد جرس الباب في تمام العاشرة. كان يرتدي شورتًا أزرق اللون وقميصًا ضيقًا للغاية، وفي يدَيه كرة سلة برتقالية اللون يحملِها في يدَيه كما لو أنه يحمل هدية. سألني: «هل أنت جاهز؟» «تقريبًا. امنحنى ثانيةً واحدة كي أرتدي الحذاء.» تبِعَني إلى داخل الشقة واتجه إلى المكتب حيث كنتُ أعمل. وقال وهو يهزُّ رأسه: «كنتَ تقرأ مرةً أخرى يا باري.» وتابع: «ستسأم منك أية سيدة تُرافِقك؛ فأنت تقضي وقتك دائمًا مع الكتب.» جلستُ لأعقدَ رباط حذائي الرياضي. وقلت: «لقد قيل لي هذا.» فقذف الكرة في الهواء. وقال: «أما أنا فلا أهتمُّ بالكتب. أنا رجل أفعال. مثل رامبو.» فابتسمتُ. وقلت له وأنا أنهض وأفتح الباب: «حسنًا يا رامبو.» وتابع: «لِنَرَ أداءك وأنت تركض حتى نصِل إلى الملاعب.» فنظر إليَّ برنارد بشك. وقال: «الملاعب بعيدة للغاية. أين السيارة؟» «استقلَّتها أوما إلى عملها.» وخرجتُ إلى الشرفة وبدأتُ أمارس بعض التمرينات الرياضية البسيطة. «وعلى أية حال، فقد أخبرْتَني أن الملاعب تبعُد ميلًا واحدًا فقط عن هنا. وهذا إحماء جيد لساقَيك الصغيرتَين.» فتبِعَني في أداء بعض التمرينات الرياضية بفتورٍ قبل أن نبدأ السير في الطريق المفروش بالحصى الذي يقود إلى الطريق الرئيسي. كان الجو رائعًا يُخفِّف فيه النسيم المستمر من حدة أشعة الشمس، والطريق خاويًا فيما عدا سيدة تسير على بُعد مسافةٍ منا تحمل فوق رأسها سلةً بها قطعٌ صغيرة من الخشب. وبعد أقلِّ من ربع ميلٍ توقَّف برنارد فجأة وقطرات العَرق تتصبَّب على جبهته الناعمة العالية. وقال وهو يستنشِق الهواء بقوة: «أجريتُ ما يكفي من الإحماء يا باري.» وتابع: «أظن أنه علينا أن نسير الآن.» يحتلُّ حرم جامعة نيروبي مساحةَ بضعةِ أفدنةٍ بالقرب من وسط المدينة. وكانت ملاعب كرة السلة تُوجَد أعلى مضمار ألعاب القوى على منحدرٍ قليل الارتفاع، وأرضيتها الأسفلتية المليئة بالحصى تتخللها الأعشاب. وراقبتُ برنارد ونحن نتبادل الأدوار في قذف الكرة تجاه السلة، وفكَّرتُ كم كان رفيقًا كريمًا ومُريحًا في الأيام القليلة السابقة، وهو يأخذ على عاتقه مهمَّة إرشادي في أرجاء المدينة عندما كانت أوما مشغولةً في تصحيح الاختبارات. وكان يُمسك يدي وكأنه يحميني ونحن نشقُّ طريقَنا عبر الطرُق المزدحمة، وكان صبرُه لا ينفد عندما أتوقَّف لأنظر إلى مبنًى أو أقرأ لافتة يمرُّ هو بها كل يوم، ويبدو أن سلوكياتي الغريبة تُسلِّيه لكن دون أن تبدو عليه أيٌّ من علامات الملل أو الاعتراض الكثيرة التي كنتُ أنا سأبديها وأنا في سنِّه. وهذا اللطف وافتقاره للخداع جعلاه يبدو أصغر كثيرًا من سنوات عمره السبع عشرة. ولكنني كنتُ أُذكِّر نفسي دائمًا أنه في السابعة عشرة من عمره، وهي سنٌّ سيكون فيها تمتُّعه بمزيدٍ من الاستقلالية والحدة في شخصيته مسألةً لا غبار عليها. وأدركتُ أن ذلك الوقت الذي يمنحه لي لم يكن إلا لأنه لم يكن لدَيه شيء أفضل ليقوم به. كما أدركتُ أن صبره لم يكن إلا لأنه ليس لدَيه مكان محدَّد يريد الذهاب إليه. ويجب أن أتحدَّث إليه بهذا الشأن كما وعدتُ أوما أن أفعل، وسيكون حديثَ رجلٍ لرجل … سألني برنارد وهو يستعدُّ لقذف الكرة: «هل رأيتَ ماجيك جونسون وهو يلعب؟» مرت الكرة داخل الحلقة التي لا تحتوي على شبكة، فقذفتُ له الكرة مرةً أخرى. «في التليفزيون فقط.» أومأ برنارد. وقال: «كل شخصٍ في أمريكا لدَيه سيارة. وهاتف.» كانت الجملة إخبارية أكثر من كونها استفهامية. فقلت: «معظم الناس. لكن ليس كل شخص.» قذف الكرة مرةً أخرى فأصدرت صوتًا مُزعجًا وهي تمرُّ فوق الحلقة. وقال: «أظن أن الحياة هناك أفضل.» وتابع: «ربما أُسافر إلى أمريكا، يمكنني أن أُساعدك في عملك.» «ليس لديَّ عمل الآن. ربما بعد أن أنتهي من الدراسة في كلية الحقوق …» «لا بد أنه من السهل الحصول على عمل.» «ليس للجميع. في الحقيقة الكثيرون يُواجِهون أوقاتًا عصيبةً في الولايات المتحدة. ولا سيما السود.» أمسك الكرة. وقال: «ليست عصيبةً مثل هنا.» نظر أحدُنا إلى الآخر، وحاولتُ أن أتخيَّل ملاعبَ كرة السلة في الولايات المتحدة. وكان من بين الصور التي تخيلتُها: صوت الطلقات النارية في الجوار، وتاجر ماريجوانا يُقتَل في بئر السُّلَّم، وصورة أخرى. صوت ضحكات الصبية وهم يلعبون في الفناء الخلفي لمنازلهم في الضواحي، وأمهاتهم تنادي عليهم للدخول وتناول الطعام. كان هذا حقيقيًّا أيضًا. اصطدمت الصورتان وترَكَتاني صامتًا. وصرتُ راضيًا بصمتي، فعاد برنارد إلى قذف الكرة. عندما أصبحتِ الشمس في كبد السماء سِرنا إلى محلٍّ لبيع الآيس كريم على بُعد بضعة مبانٍ من الجامعة. طلب برنارد أيس كريم بالشيكولاتة، وبدأ يأكُله بانتظام، نصف ملعقةٍ في كل مرة. فأشعلتُ سيجارةً واتكأتُ بجسدي إلى الخلف على الكرسي. وقلت: «أخبرتني أوما أنك تُفكِّر في الالتحاق بإحدى مدارس التدريب المهني.» فأومأ برأسه بتعبير غير واضح. «ما نوع الدراسة التي تُثير اهتمامك؟» «لا أعلم.» ثم أخذ قطعة أخرى من الآيس كريم وفكَّر دقيقةً. وقال: «ربما ميكانيكا السيارات. نعم … أظن أن ميكانيكا السيارات مناسبة.» «هل جرَّبتَ الالتحاق بأحد هذه البرامج؟» «كلَّا. ليس بالضبط.» ثم توقَّف ليتناول ملعقةً أخرى. وقال: «يجب أن تدفع مقابلًا لهذا.» «كم عمرك يا برنارد؟» قال بحذَر: «سبعة عشر.» فأومأتُ له: «سبعة عشر.» وأطلقتُ دخان السيجارة في الهواء. ثم قلت: «سبعة عشر، إنك تعرف ماذا يعني هذا، أليس كذلك؟ يعني أنك رجل تقريبًا. أصبحتَ شخصًا ذا مسئوليات. تجاه عائلتك. وتجاه نفسك. ما أحاول أن أقوله لك هو أنه قد حان الوقت لتُقرِّر القيام بشيء يُثير اهتمامك. قد يكون هذا الشيء هو ميكانيكا السيارات. أو قد يكون شيئًا آخر. ولكن مهما يكن هذا الشيء فعليك أن تُحدِّد بعض الأهداف وتسعى لتحقيقِها. يمكن أن أُساعدك أنا وأوما في دفع مصاريف المدرسة، لكن لا يُمكننا أن نعيش حياتك بدلًا منك. عليك أن تبذل بعض المجهود. أتفهمني؟» فأومأ برنارد بالإيجاب. وقال: «أفهمك.» جلسنا يُخيِّم علينا الصمت بعض الوقت نُراقب ملعقة برنارد تدور في الآيس كريم الذي أصبح سائلًا. وبدأتُ أتخيَّل كم تبدو كلماتي جوفاء في نظر أخي، أخي الذي كان كلُّ ما ارتكبه من ذنب هو أنه وُلِد على الجانب الخطأ من عالَم أبي الممزَّق. ولم يبدُ أنه استاء منِّي لهذا. ليس بعد. لا بد أنه يتساءل فقط لماذا أتظاهر أن قواعدي ستنطبق عليه بشكلٍ ما. فكلُّ ما كان يريده بعض التذكارات لعلاقتنا، ربما شرائط بوب مارلي أو حذاء كرة السلة بمجرد أن أرحل. أشياء قليلة للغاية يطلُبها، وأي شيء آخر أُقدِّمه، مثل نصيحة أو توبيخ أو طموحي له، سيبدو أقل شأنًا من هذه الأشياء. أطفأتُ السيجارة واقترحتُ أن نذهب. وعندما خرجْنا إلى الشارع ألقى برنارد ذراعه حول كتفي. وقال قبل أن يُلوِّح مودِّعًا ويختفي في الزحام: «من الجميل أن يكون لي أخٌ كبير قريب مني.» ••• ما معنى العائلة؟ هل هي فقط سلسلة جينية من آباء وذرية، أناس يُشبهونني؟ أم أنها بناء اجتماعي ووحدة اقتصادية هي الوضع الأمثل لتربية الأطفال وتقسيم العمل؟ أم أنها شيء آخر مختلف تمامًا؛ مخزون من الذكريات المشتركة مثلًا؟ نطاق من الحب؟ يدٌ تمتد إليك في الفراغ؟ وضعتُ قائمة بالاحتمالات. ولكني لم أتوصَّل إلى إجابة مُحدَّدة قط، وكنتُ أعي مسبقًا، نظرًا لظروفي، أن مثل هذه المحاولات محكوم عليها بالفشل. وبدلًا من ذلك رسمتُ سلسلة من الدوائر حول نفسي؛ دوائر لها حدود تتغيَّر بمرور الوقت وبتغير الأوجه، ولكنها مع ذلك قدَّمت لي وهمَ السيطرة. فهناك دائرة داخلية وبها الحبُّ مُستمر والحقوق غير خاضعة للنزاع. ثم دائرة ثانية: عالَم من الحب الخاضع للتفاوُض حيث الاختيار الحر للالتزام. ثم دائرة من الزملاء والمعارف مثل السيدة البشوشة الوجه التي كسا الشيب شعرها والتي تُسجِّل البضائع على آلة تسجيل النقود في المتجر في شيكاغو. حتى تتَّسِع الدائرة في النهاية لتضمَّ أُمَّةً أو عِرقًا، أو اتجاهًا أخلاقيًّا مُحدَّدًا، وفيها لا يعود الالتزام مرتبطًا بوجوهٍ أو أسماء، ولكنها في الواقع تكون التزاماتٍ أتعهَّد بها أمام نفسي. وفي أفريقيا انهار على الفور عالم الدوائر الذي رسمته. فقد كانت العائلة في كل مكان: في المتاجر، في مكتب البريد وفي الشوارع وفي الحدائق، جميعهم يتحدَّثون ويتجادلون عن ابن أوباما الذي فُقد لوقتٍ طويل. وإذا ذكرت بصورةٍ عابرة أنني أحتاج إلى كراسة أو كريم حلاقة، يمكن أن تصرَّ واحدة من عمَّاتي على أن تَصحبني إلى ركنٍ ناء في نيروبي كي أشترِيَه بأرخص سعر، بصرف النظر عما تستغرقه الرحلة، أو كم قد تكون غير مناسبة لها. وتجد الواحدة منهن تقول: «آه يا باري … وماذا أهم من مساعدة ابن أخي؟» وإذا اكتشفَ أحد أولاد عمومتي أن أوما قد تركتني أتولَّى أموري بنفسي، فقد يسير مسافة ميلَين إلى شقة أوما لمجرد أن هناك احتمالًا بعيدًا أن أكون هناك وأحتاج إلى رفقة. وتجد الواحد منهم يقول: «آه يا باري … لماذا لم تتَّصِل بي؟ تعالَ معي سأصحبك لتُقابل بعض أصدقائي.» أما الأمسيات فقد استسلمتُ أنا وأوما لعددٍ لا ينتهي من الدعوات التي كانت تُوجَّه إلينا من أعمامنا وأبناء إخوتنا وأولاد أعمامنا أو أولاد عمَّاتنا، وجميعهم يطلبون منا، مخاطِرين بأن نجرح مشاعرهم، أن نجلس ونتناول الطعام، مهما يكن توقيت الزيارة أو عدد الوجبات التي تناولناها بالفعل. وتجدهم يقولون: «آه يا باري … ربما لا يكون لدَينا الكثير هنا في كينيا، لكن ما دمتَ هنا فسيكون لدَيك دائمًا شيء لتأكُله!» في البداية كان ردُّ فعلي على كل هذه الرعاية مثلَ ردِّ فعلِ طفلٍ تجاه حِضن أُمِّه؛ مليء بعرفانٍ تامٍّ وبسيط للجميل. وكان ذلك يتفق مع فكرتي عن أفريقيا والأفريقيين، وهو تناقُض واضح للعزلة المتزايدة في الحياة الأمريكية، وهو تناقُض تفهَّمته في إطارٍ ثقافي وليس عنصريًّا. مقياس لما ضحَّينا به من أجل التكنولوجيا وسهولة الحركة، لكن ذلك المقياس هنا، كما كان الحال في قرى السكان الأصليين خارج جاكرتا أو قرى أيرلندا أو اليونان، ظل في جوهره كما هو: السعادة الشديدة برفقة الأشخاص الآخرين ومتعة دفء العلاقات الإنسانية. ومع ذلك بمرور الأيام أصبح القلق والشك يشوبان سعادتي. ويرجع هذا إلى حدٍّ ما إلى ما تحدَّثَتْ عنه أوما تلك الليلة في السيارة؛ إدراك مُفاجئ وحادٌّ لثروتي الجيدة نسبيًّا، والأسئلة المزعِجة التي تُشير إليها تلك الثروة. ولم تكن المشكلة بالضبط أن أقرباءنا يعانون. فكلٌّ من جين وزيتوني لدَيهما عمل ثابت، وكيزيا تعيش من الدخل الذي يدرُّه عليها بيع الأقمشة في الأسواق. وإذا كان هناك عجز في النقود فيمكن إرسال الأطفال إلى الجزء الداخلي من البلاد لبعض الوقت حيث كان يُقيم هناك، كما قيل لي، أخٌ آخر اسمه آبو، مع عمٍّ في كندو باي حيث يُوجَد دائمًا عمل يَومي للقيام به وطعام على مائدتهم وسقف يظلهم. ومع ذلك فقد كان الحال في نيروبي سيئًا ويزداد سوءًا. فكانت الملابس التي يرتدونها غالبًا مُستعمَلة، والذهاب للطبيب لا يكون إلا في حالات الطوارئ القصوى. وكان معظم أفراد العائلة من الشباب لا يعملون، ومن بينهم الاثنان أو الثلاثة الذين تمكَّنوا من أن يتخرجوا في واحدة من جامعات كينيا رغم ظروف المنافسة الصعبة. وإذا ما أصاب المرض جين أو زيتوني، أو إذا ما أغلقت الشركتان اللتان تعملان بهما أبوابهما أو استغنتا عنهما، فإن الحكومة لن تُقدِّم لهما أيُّ معونة مالية، ولن يبقى سوى العائلة فقط، الأقارب، وهم أشخاص مُثقَلون بصعابٍ مماثلة. ذكَّرتُ نفسي في ذلك الوقت بأنني أصبحتُ جزءًا من العائلة، والآن لديَّ مسئوليات. ولكن ماذا يعني هذا بالضبط؟ في الولايات المتحدة استطعتُ أن أُترجِم هذه المشاعر إلى العمل في السياسة وتنظيم المجتمع وإلى نوعٍ محدَّد من إنكار الذات. أما في كينيا فهذه الاستراتيجيات تبدو أفكارًا مجردة بلا أمل، بل حتى منغمسة في ذاتها. فالالتزام بالعمل على منْحِ السود مكانةً وسلطة في المجتمع لن يساعد في إيجاد عمل لبرنارد. والإيمان بالديمقراطية القائمة على المشاركة لا يمكن أن يشتري لجين طقم ملاءات جديدًا. ولأول مرة في حياتي أجد نفسي أُفكِّر بشدة في النقود؛ افتقاري إليها والسعي للحصول عليها، والسلام البسيط الذي لا يمكن إنكاره والذي بوسعها أن تشتريه. وتمنَّى جزء منِّي لو أنني أستطيع أن أكون أهلًا للصورة التي تخيَّلها أقربائي الجدد لي: محامٍ في شركة أو رجل أعمال أمريكي أضع يدي على الصمام ومُستعِد لأن أُمطر عليهم من ثروات الغرب. ولكني بالطبع لم أكن أيًّا من الاثنَين، وحتى في الولايات المتحدة تتضمَّن الثروة موازنة بين أشياء لا تجتمع معًا لمن لم يُولَد في حِضن هذه الثروة، وهو النوع نفسه من الموازنة التي أرى أن أوما تقوم بها الآن، وهي تحاول، بطريقتِها الخاصة، أن تُحقِّق توقعات العائلة. فكانت في ذلك الصيف تعمل بوظيفتَين؛ تُدَرِّس في دورات لتعليم اللغة الألمانية لرجال الأعمال الكينيِّين إلى جانب وظيفتِها في الجامعة. ولم تكن تُريد أن تستخدِم المال الذي ادَّخرتْه في إصلاح منزل الجَدة في أليجو فحسب، بل أرادت أيضًا أن تشتريَ قطعة أرضٍ حول نيروبي، شيئًا تزداد قيمته بمرور الزمن، وقاعدة تبدأ منها عملية البناء. كان لدَيها خطط وجداول وميزانيات ومواعيد لإنجاز العمل، وهي جميع الأشياء التي تعلَّمَت أنها مطلوبة للتعامُل مع العالم الحديث. المشكلة أن هذه الجداول كانت تعني أيضًا الابتعاد عن شئون العائلة، وميزانيتها تعني الاعتذار عن الطلبات الدائمة للنقود التي كانت توجَّه إليها. وعندما يحدُث هذا — عندما أصرَّت على الذهاب إلى منزلها قبل أن تُقدِّم جين العشاء لأن الاجتماع العائلي بدأ مُتأخرًا ساعتَين عن موعده، أو عندما رفضت أن تترك ثمانية أشخاص يتكدَّسون في سيارتها لأنها مُصمَّمة لاستيعاب أربعة أشخاص فقط، وأن هذا سيُمزِّق المقاعد — تجد نظرات الجِراح الصامتة، التي لا تختلف كثيرًا عن نظرات الاستياء، تبرُق في جميع أنحاء الغرفة. لقد كان قلقُها واستقلالها واستعدادها الدائم لأن تُفكِّر في المستقبل، جميع هذه الأشياء صدمت العائلة على أنها غير طبيعية بطريقةٍ ما. غير طبيعية … وغير أفريقية. إنها المعضلة نفسها التي طرحَها أمامي فرانك العجوز تلك السنة التي تركتُ فيها هاواي، التوتر نفسه الذي قد يشعر به بعض الأطفال في ألتجيلد إذا كانوا يستمتعون بشدة بأداء واجباتهم المدرسية، الشعور الغريب بذنب النجاح نفسه الذي أتوقَّع الشعور به إذا ما حاولتُ كسب النقود والمرور بحشود الشباب السُّود في زوايا الشوارع وأنا أسلك طريقي إلى مكتبٍ في وسط المدينة. فبدون قوة للجماعة، بل جماعة أكبر حتى من العائلة الكبيرة، فإن نجاحنا يُهدِّد دائمًا أن يترك آخرين خلفَنا. وربما تكون هذه الحقيقة هي التي تركتني غير مُستقر — حقيقة أنه حتى هنا في أفريقيا الأنماط نفسها التي تدفع المرء إلى الجنون هي التي تفرض سُلطانها، وأنه لا أحد هنا يستطيع أن يُخبرني ما الذي تتطلَّبه صِلة القرابة، أو كيف يمكن التوفيقُ بين هذه المطالب وفكرةِ اتحاد البشر الأكبر. كان الأمر كما لو أننا، أنا وأوما وروي وبرنارد، نختلِقُها ونحن نتقدَّم في طريقنا. كما لو أن الخريطة التي قد تكون قاست في يومٍ من الأيام اتجاهَ وقوةَ حبِّنا، والشفرة التي من الممكن أن تفتح الحظ الوافر لنا، فُقِدَت قبل وقتٍ طويل، دُفِنَت مع أجدادنا تحت الأرض الصامتة. ••• قربَ نهاية أسبوعي الأول في نيروبي اصطحبَتْني زيتوني لزيارة عمَّتي الأخرى سارة. وظلَّت أوما غير راغبة في الذهاب، ولكن نظرًا لأنه اتضح أن الميكانيكي الذي يُصلح سيارتها يعيش بالقُرب من سارة، فقد عرضت علينا أن تُقلَّنا إلى الورشة، وقالت إنه من هناك يمكننا الذهاب سيرًا. وفي صباح يوم السبت ذهبنا أنا وأوما لاصطحاب زيتوني واتجهنا شرقًا مرورًا بمبانٍ أسمنتية وقِطَع أراضٍ جافة بها قاذورات، حتى وصلنا في النهاية إلى حافة وادٍ واسع معروف باسم «ماثار». أوقفَتْ أوما السيارة ونظرتُ أنا من النافذة لأرى بالأسفل الجزء الفقير من المدينة، والأميال الممتدة من الأسطح المتموِّجة التي تُومِض تحت أشعة الشمس مثل أوراقٍ طافية من نبات زنبق الماء الأبيض وهي تنبعج وتغطس في تسلسل مُستمر عبْر أرض الوادي. فسألتها: «كم عدد الناس الذين يعيشون هناك؟» هزَّت أوما كتفَيها واستدارت إلى عمَّتِنا. وقالت: «كم تظنين يا عمَّتي؟ ربما نصف مليون؟» هزَّت زيتوني رأسها. وقالت: «كان ذلك الأسبوع الماضي. لا بد أن الرقم وصل إلى مليون هذا الأسبوع.» أعادت أوما تشغيل محرك السيارة. وقالت: «لا أحد يعلم عن يقينٍ يا باراك.» وتابعت: «فعدد سكان هذا المكان يزداد طوال الوقت. فالناس يتدفَّقون إلى هنا من الريف بحثًا عن عملٍ وينتهي بهم الحال إلى البقاء هنا للأبد. ولبعض الوقت حاول مجلس المدينة إزالة المستوطنة. وقالوا إن لها مخاطرَ صحية، وإساءة إلى صورة كينيا. وجاءت الجرافات وفقد الناس ما كانوا يملكون من أشياء قليلة. ولكن بالطبع لم يكن لدَيهم مكانٌ آخر يذهبون إليه. وبمجرد أن غادرت الجرافات أعاد الناس بناء كل شيء كما كان.» توقَّفنا أمام كوخٍ مُنحدِر مصنوع من الصفيح ظهرَ منه ميكانيكي وعددٌ من عماله للاعتناء بسيارة أوما. تركتُ أنا وزيتوني أوما في الورشة بعد أن وعدْناها أن نعود في غضون ساعة، وبدأنا نسلك طريقنا في طريق واسع غير مُعبَّد. كان الجو حارًّا بالفعل، والطريق خاليًا تمامًا من أي ظلال، وعلى كِلا جانبيه صفوف من الأكواخ الصغيرة جدرانها مزيج من الأغصان الرقيقة المجدولة والطمي وأجزاء من الورق المقوَّى ورقائق الخشب التي يحصلون عليها من البحث في القمامة. ومع ذلك فالمنازل مُرتَّبة والأرض الترابية أمام كل منزلٍ نظيفة، وفي كل مكانٍ خياطون ومُصلِحو أحذيةٍ ومُصنِّعو أثاثٍ ينخرطون في عملهم خارج أكشاكٍ على جانب الطريق، ونساء وأطفال يبيعون الخضراوات التي يضعونها فوق مناضد خشبية مُتهالِكة. وفي النهاية وصلْنا إلى إحدى حواف وادي ماثار، حيث كانت تقف سلسلة من المباني الخرسانية على طول طريق مُعبَّد. وكان ارتفاع المباني ثمانية طوابق وربما وصل إلى اثني عشر طابقًا، ومع ذلك فهي غير مُكتملة البناء بصورةٍ تُثير الفضول؛ فالدعامات الخشبية والأسمنت الجاف متروكان في العراء كما لو أن هذه المباني تعرَّضت لقصفٍ جوي. دخلنا أحد هذه المباني وصعدنا سلالم ضيقة، ثم وجدنا أنفسنا في نهاية رواقٍ طويل غير مضاء، وفي الطرف الآخر رأينا فتاةً مُراهقة تُعلِّق الملابس كي تجفَّ في شرفةٍ أسمنتية صغيرة. ذهبت زيتوني لتتحدَّث إلى الفتاة التي قادتنا دون أن تتفوَّه ببنت شفة إلى بابٍ مُنخفض مُتهالك. طرقنا الباب فخرجت سيدة سوداء في منتصف العمر قصيرة القوام ولكن قوية البنيان، لها عينان لامعتان قاسِيتان تستقرَّان في وجهها الكبير النحيف، وقد أمسكت يدي وقالت شيئًا بلغة قبيلة لوو. فترجمَتْ زيتوني قائلة: «إنها تقول إنها تشعر بالخجل لأن ابن أخيها يراها هنا في مثل هذا المكان البائس.» دلفنا إلى غرفةٍ صغيرة مساحتها ١٠ × ١٢ قدمًا لكنها تستوعب فراشًا وخزانة ذات أدراجٍ وكرسِيَّين وماكينة خياطة. اتخذتُ أنا مقعدًا وزيتوني المقعد الآخر، وعادت الشابَّة التي أدخلتْنا إلى غرفةِ سارة ومعها كوبان من المياه الغازية الدافئة. جلست سارة على السرير وانحنت للأمام لتتفرَّس ملامح وجهي. وكانت أوما قد أخبرَتْني أن سارة تعرف بعض الإنجليزية ولكنها كانت تتحدَّث بلغة قبيلة لوو معظم الوقت. وحتى دون ترجمة زيتوني استطعتُ أن استشف أنها غير سعيدة. شرحت زيتوني قائلة: «إنها تريد أن تعرف لماذا استغرقتَ كل هذا الوقت كي تأتي لزيارتها.» وتابعت: «إنها تقول إنها أكبر أولاد جَدك حسين أونيانجو، وكان يجب أن تأتي لزيارتها أولًا.» قلتُ وأنا أنظر إلى سارة لكن دون أن أكون واثقًا ماذا تفهم: «أخبريها أنني لم أقصد إظهار عدم الاحترام.» وتابعت: «لقد كنتُ مشغولًا للغاية منذ وصولي، وكان من الصعب أن آتي قبل الآن.» أصبحَتْ نبرة سارة حادَّة. فقالت زيتوني: «إنها تقول إن مَن تمكث لدَيهم يُخبرونك بأكاذيب.» «أخبريها أنني لم أسمع شيئًا يُسيء إليها. وأخبريها أن النزاع حول الميراث الذي تركه أبي جعل أوما لا تشعر بالارتياح لفكرةِ قدومِها معي إلى هنا.» أصدرت سارة صوتًا يُعبِّر عن ازدرائها بعد الترجمة، وبدأت تتحدَّث من جديد بصوتٍ صاخبٍ تُردِّده الجدران القريبة. وفي النهاية عندما توقفت ظلت زيتوني صامتة. «ماذا قالت يا زيتوني؟» ظلت عينا زيتوني مُعلَّقة على سارة وهي تُجيب سؤالي. «تقول إن المحاكمة ليست خطأها. بل خطأ كيزيا، والدة أوما. وتقول إن الأطفال الذين يدَّعون أنهم أولاد أوباما ليسوا أولاده. وتقول إنهم أخذوا كل شيءٍ وتركوا أهله الحقيقِيِّين يعيشون مثل المتسوِّلين.» أومأت سارة برأسها وبدأت عيناها تشتعلان غضبًا. ثم قالت فجأة بالإنجليزية: «نعم يا باري.» وتابعت: «أنا التي اعتنيتُ بأبيك وهو صبي صغير. ووالدتي أكومو هي أيضًا والدة أبيك. أكومو هي جَدتك الحقيقية وليس تلك التي تخاطبها بلقب الجَدة. أكومو هي المرأة التي منحت والدَك الحياة، ويجب أن تساعدها. وأنا أختُ والدك، انظر كيف أعيش. لماذا لا تُساعدنا بدلًا من مساعدة أولئك الآخرين؟» قبل أن أتمكَّن من الرد، بدأت زيتوني وسارة تتناقشان بلغة لوو. وفي النهاية نهضت زيتوني وعدَّلت من هندامها. وقالت: «يجب أن نذهب الآن يا باري.» شرعتُ في النهوض من على مقعدي، لكن سارة أمسكت يدي بكلتا يدَيها، وبدأ صوتها يرق. قالت: «ألن تعطيني شيئًا؟ من أجل جَدتك؟» أخرجتُ محفظتي وشعرتُ بعينَي السيدتَين تُراقِبانني وأنا أعُدُّ النقود التي كانت معي، ربما ما يساوي ٣٠ دولارًا من الشلنات. ووضعتُهم في يد سارة الجافة المشقَّقة، فأسرَعَت هي بوضعِها في صدر قميصها قبل أن تعود وتُمسك بيدي مرة أخرى. وتقول: «ابقَ هنا يا باري. يجب أن تُقابل …» ولكن زيتوني قاطعتها قائلة: «يمكنك أن تعود مرةً أخرى يا باري.» وتابعت: «هيا بنا.» وفي الخارج كان هناك ضوء أصفر غائم يُنير الطريق، وكانت ملابسي شبْهَ مُبتلة على جسدي في ذلك الجو الحار الذي يفتقر إلى الهواء. كانت زيتوني هادئة، والغضب واضح على ملامحها؛ فقد كانت سيدة تعتزُّ بنفسها ولا بد أن ذلك المشهد مع سارة قد أحرجَها. ثم إنها، على حسب عِلمي، كان يمكنها الانتفاع بالثلاثين دولارًا … سِرْنا لمدة ١٠ دقائق قبل أن أسأل زيتوني عما كانت تتجادل هي وسارة بشأنه. فقالت: «لا شيء يا باري. هذا ما يحدث مع السيدات العجائز اللائي يعِشْن دون أزواج.» وحاولَتْ أن تبتسِم ولكن التوتُّر منع شفتَيها من الانفراج. «أخبريني الحقيقة يا عمتي.» هزَّت زيتوني رأسها. وقالت: «أنا لا أعلم أساسًا ما الحقيقة. أو على الأقل لا أعلم الحقيقة كاملة. فأعرف أنه حتى عندما كبرنا، كانت سارة دائمًا أقربَ إلى أُمِّها الحقيقية أكومو. أما باراك فقد كان يهتمُّ فقط بوالدتي أنا، التي تُخاطبها بلقَب الجَدة، التي ربَّتهم بعد أن رحلَتْ أكومو.» «ولماذا رحلت أكومو؟» «لا أدري. يجب أن تسأل الجَدة عن هذا.» أشارت زيتوني كي نعبر الشارع، ثم استأنفت الحديث. قالت: «أتعرف، كان والدك وسارة مُتشابِهَين للغاية، مع أنهما لم يكونا مُتفقَين دائمًا. كانت ذكيةً مثلَه. وكانت مُستقلة. واعتادت أن تُخبرني عندما كنا أطفالًا أنها تريد أن تتعلم حتى لا تُضطرَّ للاعتماد على أي رجل، ولهذا انتهى بها الحال إلى الزواج من أربعة رجال، ولم يستمرَّ أحد منهم معها. فقد مات الأول أما الثلاثة الآخرون فقد تركتهم لأنهم كانوا كسالى أو حاولوا استغلالها. وأنا مُعجبة بها من أجل هذا. فمعظم الكينيات يتكيَّفنَ مع أي وضع. أنا فعلتُ هذا وقتًا طويلًا. لكن سارة أيضًا دفعت ثَمن استقلال شخصيتها.» مسحت زيتوني العَرق من على جبينها بظهر يدِها. واستأنفت: «على أية حال، بعد موت زوج سارة الأول قرَّرَتْ أن والدك يجب أن يتولى الإنفاق عليها هي وطفلها نظرًا لأنه هو مَن حظي بفرصة التعليم. ولهذا تكره كيزيا وأطفالها. فكانت تظن أن كيزيا مجرد فتاة جميلة تريد أن تأخذ كل شيء. ويجب أن تفهم يا باري أنه في عادات قبيلة لوو الذكَر يرِث كلَّ شيء. وخشِيَتْ سارة أنه بمجرد أن يموت جَدك فإن كل شيءٍ سيئول إلى باراك وزوجاته، وهي لن تحصل على شيء.» هززتُ رأسي. وقلت: «ولكن هذا ليس مُبرِّرًا للكذب فيما يخصُّ أبناء أبي.» «إنك على حق. ولكن …» «ولكن ماذا؟» توقَّفت زيتوني عن السير. والتفتت إليَّ. وقالت: «بعد أن رحل أبوك ليعيش مع زوجته الأمريكية روث … نعم، كان يذهب إلى كيزيا في بعض الأحيان. ويجب أن تفهم أنها طبقًا للعادات كانت لا تزال زوجته. وفي أثناء إحدى تلك الزيارات أصبحت كيزيا حاملًا في آبو، الأخ الذي لم تُقابله. والمشكلة أن كيزيا عاشت مع رجلٍ آخر وقتًا قصيرًا في ذلك الوقت. لذا عندما أصبحت حاملًا مرةً أخرى، هذه المرة في برنارد، لم يكن أحد واثقًا مَن يكون …» توقَّفت زيتوني وتركت الفكرة تُكمِل نفسَها. «وهل يعرف برنارد هذا؟» «نعم، إنه يعرفه الآن، ومثل هذه الأشياء لم تُشكِّل فارقًا مع أبيك. فكان يقول إنهم جميعًا أولاده. فأبعد ذلك الرجل الذي كانت كيزيا تعرفه، وكان يمنح كيزيا النقود لتُنفِق على الأطفال كلَّما استطاع. ولكن بمجرد أن تُوفي لم يكن هناك شيء يُثبِت أنه قد اعترف بهم بهذه الطريقة.» انعطفنا عند زاويةٍ إلى طريقٍ أكثرَ ازدحامًا. وأمامنا رأينا مِعْزاة حاملًا كانت تُصدر صوت ثغاء وهي تبتعِد مسرعةً عن طريق عربة ماتاتو. وعلى الجانب الآخر من الطريق كانت هناك فتاتان صغيرتان ترتديان زي مدرسةٍ لونه أحمر باهت، ورأساهما المستديران شبه خالِيَين من الشعر، وتمسك كلتاهما بيد الأخرى وتُغنِّيان وهما تقفزان فوق بالوعة. وأشارت لنا سيدة مُتقدمة في العمر تغطي رأسها بشالٍ باهت اللون كي نذهب ونرى بضائعها التي تتكوَّن من علبتَين تحتويان على فاصوليا مجفَّفة، وكومة منظمة من الطماطم وسمك مُجفَّف يتدلى من سلكٍ يُشبه سلسلةً من العملات الفضية. نظرتُ إلى وجه السيدة العجوز الذي يختبئ أسفل الظلال. وتساءلت مَن تكون هذه السيدة؟ جَدتي؟ شخص غريب؟ وماذا عن برنارد، هل يجب أن تختلف مشاعري تجاهه الآن؟ ثم نظرتُ إلى محطة الحافلة حيث كانت جموع من الشباب تتدفَّق إلى الشارع، وجميعهم طوال القامة وسُود البشرة ونحيفو القوام، وعظامهم بارزة من ثيابهم. وفجأة تخيلتُ وجه برنارد عليهم جميعًا، يتضاعف على مرمى البصر، وعبر القارات. جميعهم رجال جياع مُكافحون يائسون وجميعهم إخوتي … «لعلك ترى الآن ما الذي عاناه والدك!» «ماذا؟» مسحتُ عيني ورفعت بصري لأجد أن عمتي تُحدِّق فيَّ. وكررَتْ: «نعم يا باري، لقد عانى والدك.» وتابعت: «وأنا أقول لك إن مشكلته أن قلبه كان كبيرًا أكثرَ مما ينبغي. عندما كان حيًّا كان يُعطي أيَّ شخصٍ يطلُب منه. وجميعهم كانوا يطلبون. أتعرف لقد كان من أوائل مَن درسوا في الخارج في المنطقة كلها. والناس هنا في أرض الوطن لم يعرفوا أيَّ شخصٍ استقلَّ طائرة من قبل. لذا فقد توقَّعوا كلَّ شيءٍ منه. وكانوا يُردِّدون: «باراك، لقد أصبحت رجلًا عظيم الشأن الآن يجب أن تمنحني شيئًا. يجب أن تُساعدني.» ودائمًا مثل هذه الضغوط من العائلة. ولم يستطِع أن يقول لا، فقد كان كريمًا للغاية. حتى أنا كان عليه أن يعتني بي عندما أصبحتُ حاملًا، بعد أن خابت آماله فيَّ. فقد أرادني أن ألتحق بالجامعة. لكنني لم أُطِعْه، وبدأتُ علاقتي بزوجي. ومع ذلك فعندما أصبح زوجي عنيفًا وعليَّ أن أتركه وأنا لا أملك نقودًا ولا عملًا، مَن تظن أنه تولى رعايتي؟ نعم، إنه أبوك. لهذا بصرف النظر عما يقوله عنه الآخرون في بعض الأحيان فسأظلُّ ممتنةً له دائمًا.» كنا نقترب من الورشة، ورأينا أوما تتحدَّث إلى الميكانيكي وسمِعنا صوت محرك السيارة القديمة يئن. وإلى جوارنا ولدٌ صغير عاري الجسد، ربما في الثالثة من عمره، يتجوَّل خلف صفٍّ من براميل الزيت، وقدَماه مُغطَّاتان بما يُشبِه القطران. ومرة أخرى توقَّفَت زيتوني، هذه المرة كما لو أنها مريضة، وبصقت على التراب. وقالت: «عندما تغيَّر حظ أبيك، نسِيَه أولئك الذين كان يُساعدهم، وضحكوا عليه. حتى أفراد العائلة رفضوا أن يَستضيفوه ليمكث في منازلهم. نعم يا باري! رفضوا! وقالوا لباراك إن هذا أمر خطير جدًّا. وكنتُ أعلم أن هذا يجرح مشاعِره ولكنه لم يكن يلوم أحدًا. فوالدك لم يشعر بالضغينة قطُّ تجاه أحد. وفي الحقيقة عندما استردَّ أبوك اعتباره وعادت حياته تسير على ما يُرام مرةً أخرى، اكتشفتُ أنه يساعد أولئك الذين تخلَّوا عنه. ولم أفهم لماذا يفعل هذا. فكنتُ أقول له: «باراك يجب أن تعتني بنفسك وأطفالك فقط! هؤلاء الآخرون عاملوك معاملةً سيئة. إنهم مجرد كسالى لا يودُّون العمل بأنفسهم»، وهل تعلم ماذا كان يقول لي؟ كان يقول: «وكيف تعرفِين أن هذا الشخص لا يحتاج إلى هذا الشيء البسيط أكثرَ منِّي؟» استدارت عمَّتي مُبعِدةً وجهها ولوَّحت لأوما وهي تُجبر نفسها على الابتسام. وعندما بدأنا نتقدَّم مرة أخرى، أضافت: «إنني أُخبرك بهذا حتى تعرف الضغط الذي تعرَّض له والدك في هذا المكان. حتى لا تكون قاسيًا في الحكم عليه. ويجب أن تتعلَّم من حياته. تتعلَّم أنه إذا كان لدَيك شيء فإن الجميع سيُريدون جزءًا منه. لذا عليك أن تضع حدودًا. فإذا كان الجميع من عائلتك فلا عائلة لك. وأظن أن والدك لم يفهم هذا قط.» ••• أتذكَّر حوارًا دار في شيكاغو عندما كنتُ لا أزال أعمل في تنظيم المجتمع. كان الحوار مع سيدةٍ نشأت في عائلة كبيرة من منطقة ريفية في جورجيا. وأخبرتني أنهم كانوا خمسة إخوة وثلاث أخوات، جميعهم يحتشدون تحت سقفٍ واحد. وأخبرتني عن مجهودات أبيها غير المجدية لزراعة قطعةٍ صغيرة من الأرض، وزراعة والدتها للخضراوات، والخنزيرين اللذَين كانا يُربيانهما في الفناء، والرحلات مع إخوتها للصيد في المياه الموحِلة لنهرٍ قريب. وعندما استمعتُ إليها وهي تتحدَّث بدأتُ أُدرك أن اثنتَين من الأخوات الثلاث تُوفِّيتا عند ميلادهما، لكنهما ظلَّتا في عقل تلك السيدة دائمًا، أرواح بأسماء وأعمار وشخصيات؛ أختان كانتا معها وهي تسير إلى المدرسة أو تقوم بالأعمال المنزلية، تُخفِّفان عنها عندما تبكي وتهَدِّئان من روعها. فلم تكن العائلة عند تلك السيدة أبدًا كيانًا يضم الأحياء فقط. بل إن الأموات أيضًا لديهم حقوق، وأصواتهم تشكِّل مسار أحلامها. وهكذا كان الأمر لي في ذلك الوقت، فأذكر أنه بعد أيام قليلة من زيارتي لسارة، صادفت أحد معارف أبي من بنك باركليز في الخارج. وفهمتُ أن أوما لم تكن تذكر اسمه؛ لذا فقد مددتُ يدي لأُصافحه وقدَّمتُ نفسي. فابتسم الرجل وقال: «يا إلهي، لقد أصبحتَ طويلًا للغاية. كيف حال والدتِك؟ وأخوك مارك، هل تخرَّج في الجامعة بعد؟» في البداية شعرتُ بالحيرة. فهل كنتُ أعرف هذا الشخص؟ ثم شرحَتْ له أوما بصوتٍ مُنخفض أنني أخٌ غير ذلك الذي يتحدَّث عنه، وأن اسمي باراك ونشأتُ في أمريكا وأنني ابن أمٍّ أخرى. ديفيد قد تُوفي. وأصبح الموقف غريبًا لجميع الأطراف، فأومأ الرجل برأسه (وقال: «أنا آسِف، لم أكن أعلم») ولكن عاد ونظر إليَّ مرةً أخرى كما لو أنه يتأكد أن ما سمعه حقيقي، وحاولَتْ أوما أن تبدو كما لو أن الموقف، مع أنه حزين، من الأمور المأسوية الطبيعية، أما أنا فوقفتُ على الجانب أتساءل كيف يشعر المرء بعد أن يُخطئ الآخرون ويظنُّوه شبحًا. وبعد ذلك عندما عُدنا إلى الشقة سألتُ أوما متى كانت آخِر مرةٍ رأت فيها مارك وروث. فأمالت رأسها على كتفي ونظرَتْ إلى السقف. وقالت: «في جنازة ديفيد.» وتابعت: «مع أنهما في ذلك الوقت كانا قد توقَّفا عن التحدُّث إلينا منذ وقتٍ طويل.» «لماذا؟» «أخبرتُك أن طلاق روث من أبي كان شيئًا مريرًا. وبعد انفصالهما تزوَّجَت من رجلٍ تنزاني وجعلت مارك وديفيد يحمِلان اسمه. وأرسلَتْهما إلى مدرسةٍ دولية وتربَّيا مثل الأجانب، وأخبرَتْهما أنهما يجب ألا تربطهما أية علاقةٍ بجانبنا من العائلة.» ثم تنهَّدت أوما. واستأنفت: «لا أعلم، ربما لأن مارك كان أكبر سنًّا، أصبح يُشارك روث موقفها ولم يكن له أي اتصالٍ بنا بعد ذلك. ولكن لسببٍ ما، بمجرد أن أصبح ديفيد مراهقًا بدأ يثور على روث. وأخبرَها أنه أفريقي، وبدأ يُطلِق على نفسه أوباما. وفي بعض الأحيان كان يتسلَّل من المدرسة لزيارة أبي وباقي أفراد العائلة، وكانت هذه هي الطريقة التي عرفناه بها. وأصبح الأخ المفضَّل للجميع. فقد كان لطيفًا للغاية ومرحًا، وإن كان طائشًا في بعض الأحيان. حاولت روث أن تُلحِقه بمدرسة داخلية، على أمل أن ذلك سيجعله يستقر. ولكن انتهى الأمر بديفيد هاربًا ولم يرَه أحد لأشهُر. وبالصدفة التقى به روي في مباراة رجبي. كان قذِرَ الهيئة نحيف الجسد يتسوَّل النقود من الغرباء. وعندما رأى روي أخذ يضحك ويتفاخَر بحياته في الشوارع، يبيع الحشيش مع أصدقائه. وقد أخبره روي أن يعود إلى المنزل لكنه رفض؛ لذا فقد اصطحبه إلى شقتِهِ وأرسل لروث يُخبرها أن ابنها بأمانٍ وأنه يمكث عنده. وعندما سمِعَت روث بهذا شعرت بالارتياح لكنها استشاطت غضبًا أيضًا، وترجَّت ديفيد أن يعود، وعندما رفض مرة أخرى قبلت ضمنيًّا الاتفاق مع روي على أملِ أن يُغيِّر ديفيد رأيه في النهاية.» ارتشفت أوما من كوب الشاي الخاص بها. واستأنفت: «وفي ذلك الوقت تُوفي ديفيد. عندما كان يعيش مع روي. وقد فطر موته قلبَ الجميع، ولا سيما روي. فقد كانا مُقرَّبَين حقًّا. لكن روث لم تفهم ذلك قط. فظنَّت أننا أفسدْنا ديفيد. وسرقْنا ابنها منها. ولا أظن أنها قد سامحتنا قطُّ على ذلك.» قررتُ أن أتوقَّف عن الكلام عن ديفيد بعد ذلك، ورأيتُ أن تلك الذكريات كانت أليمةً للغاية على أوما. لكن بعد أيامٍ قليلة عُدت أنا وأوما إلى المنزل ووجدنا سيارةً تنتظرنا خارج المبنى، وسلَّمَها السائق الأسمر البشرة — الذي تبرز تفاحة آدم من عنقه بشدَّة — خطابًا. سألتُها: «ما هذا؟» فأجابت: «إنها دعوة من روث.» وتابعت: «فقد عاد مارك من أمريكا لقضاء الصيف. وتريد أن تدعونا على الغداء.» «أتُريدين الذهاب؟» هزَّت أوما رأسها وظهرت نظرة ازدراء على وجهها. وقالت: «إن روث تعرف أنني هنا منذ نحو ستة أشهر. وهي لا تهتمُّ بي. السبب الوحيد في دعوتها لنا أنها تشعر بفضولٍ تجاهك. وتريد أن تُقارنك بمارك.» فقلت بهدوء: «أظنُّ أنه ربما يجب أن أذهب.» نظرت أوما إلى الدعوة مرة أخرى، ثم أعادتها إلى السائق وقالت له شيئًا باللغة السواحيلية. ثم قالت: «سنذهب نحن الاثنَين»، ثم دخلنا إلى الشقة. كانت روث تعيش في ويستلاندز وهي مقاطعة من المنازل الباهظة يفصل بينها مساحة كبيرة من الأعشاب والحواجز التي تتولى حراسةَ كلٍّ منها نقطة حراسة بها حراس يرتدون زيًّا بُنيًّا موحدًا. كانت السماء تمطر ونحن ذاهبون بالسيارة إلى المنزل، وتُرسِل رذاذًا رقيقًا عبر الأشجار الكبيرة المورِقة. وقد ذكَّرتني تلك البرودة بالشوارع حول بوناهو ومانوا وتنتالوس، وهي الشوارع التي كان يقطن بها بعض زملائي الأثرياء في هاواي. وفكَّرتُ وأنا أُحدِّق من نافذة سيارة أوما في مشاعر الحسد التي كنتُ أشعر بها تجاه أولئك الزملاء كلما دعوني للعبِ في الأفنية الخلفية الواسعة لمنازلهم أو للسباحة في حمَّامات السباحة الخاصة بهم. وإلى جانب ذلك الحسد هناك انطباع مُختلف: إحساس اليأس الهادئ الذي كانت تحويه تلك المنازل الجميلة الكبيرة. وصوت شقيقة أحدِهم تبكي برفقٍ خلف الباب. ومشهد إحدى الأمَّهات وهي تحتسي خلسةً كأسًا من الخمر القوي بعد الظهر. والتعبير على وجه الأب وهو يجلس وحدَه في غرفته، وملامحه المتحفزة وهو يُقلِّب بين مباريات كرة القدم بين الجامعات التي تُعرض في التليفزيون. إنه انطباع بالوحدة الذي من المحتمل ألا يكون صحيحًا، فربما يكون إسقاطًا من داخلي فقط، لكنه في كلتا الحالتَين كان يجعلني أشعر برغبةٍ في الهروب، مثلما فعل ديفيد الذي كان المحيط يفصل بيني وبينه، عائدًا إلى السوق والشوارع المزدحمة، عائدًا إلى الفوضى والضحكات التي تؤدِّي إليها تلك الفوضى، عائدًا إلى نوع الألم الذي يستطيع صَبي أن يفهمه. وصلْنا إلى أحد المنازل المتواضِعة في المجمع، وأوقفنا السيارة عند مُنحنى طريقٍ دائري. خرجت سيدة بيضاء، لها فكٌّ واسع وشعر بدأ في المشيب، من المنزل لتستقبلنا. وخلفها رجل أسود البشرة في مثل طولي ولون بشرتي، وشعره كثيف يُطلِقه على النمط الأفريقي، ويضع نظارةً لها إطار بارز. قالت روث: «تفضَّلا، تفضَّلا!» تصافَحْنا نحن الأربعة بجفاء. ودخلنا إلى غرفة معيشة كبيرة حيث كان هناك رجل أسود أصلع مُسنٌّ يرتدي سترة سفاري ويهدهِد صبيًّا صغيرًا على حِجره بقذفِه لأعلى. قالت روث: «هذا زوجي، وهذا جوي أخو مارك الصغير.» قلتُ وأنا أنحني لأُصافح الطفل: «مرحبًا يا جوي!» كان صبيًّا جميلًا له بشرة بلون العسل وسنتَّاه الأماميَّتان مفقودتان. داعبَتْ روث شَعره الكبير المعقوص، ثم نظرت إلى زوجها وقالت: «ألستُما في طريقكما إلى النادي؟» نهض الرجل وقال: «نعم، تعالَ يا جوي.» وتابع: «تعالَ يا جوي … كان من اللطيف مُقابلتكما.» نهض الصبيُّ بسرعةٍ وحدق فيَّ وفي أوما بابتسامةٍ مشرقة فضولية حتى التقطه أبوه وحمله مُتجهًا إلى الباب. قادتنا روث إلى الأريكة وصبَّت لنا عصير الليمون. وقالت: «حسنًا، ها نحن.» وتابعت: «يجب أن أقول إنها كانت مفاجأة حقًّا أن نعرف أنك هنا يا باري. فأخبرتُ مارك أننا يجب أن نرى ما أصبح عليه ابن أوباما الآخر. اسمك أوباما، أليس كذلك؟ ولكن والدتُك تزوَّجَت مرة أخرى. لا أدري لماذا جعلتْك تحتفظ باسمك؟» ابتسمتُ كما لو أنني لم أفهم السؤال. وقلتُ وأنا ألتفتُ إلى أخي: «مارك، سمعت أنك في بيركلي.» فصحَّح لي قائلًا: «بل ستانفورد». كان صوته عميقًا، ويتحدَّث بلكنةٍ أمريكية صحيحة. وقال: «أنا في عامي الأخير من دراسة الفيزياء هناك.» فقالت أوما: «لا بد أنه صعب.» فهزَّ مارك كتفَيه. وقال: «ليس في الواقع.» فقالت روث: «لا تكن شديد التواضُع يا عزيزي. الأشياء التي يدرُسها مارك معقدة للغاية وعدد قليل للغاية فقط من الناس يفهمونها حقًّا.» وربَّتت على يد مارك ثم التفتت إليَّ. قالت: «سمعتُ أنك ستلتحِق بجامعة هارفارد يا باري. بالضبط مثل أبيك. لا بد أنك تتمتع بذكائه. ولكن آمُل ألا تكون ورِثتَ عنه بقية صفاته. أنت تعلم أن أوباما كان مجنونًا إلى حدٍّ ما، أليس كذلك؟ واحتساء الكحول جعل الأمور أسوأ. هل قابلتَه قط؟ أعني أوباما؟» «مرة واحدة. عندما كنتُ في العاشرة من عمري.» «لقد كنتَ محظوظًا إذن. وعلى الأرجح هذا يُفسِّر السبب وراء نجاحك.» هكذا مرَّت الساعات التالية وروث تتبادل رواية قصصٍ عن فشل أبي وقصص عن إنجازات مارك. وكانت الأسئلة تُوجَّه إليَّ، تاركةً أوما تتناول بعصبيةٍ وصمت اللازانيا التي قدَّمتْها روث. وأردتُ أن أغادر بمجرد أن تنتهي الوجبة، لكن روث اقترحت أن يُرينا مارك ألبوم العائلة وتُحضِر هي الحلويات. قال مارك: «أنا واثِق أنهما غير مُهتمَّين بهذا الأمر يا أمي.» فقالت روث: «إنهما مُهتمَّان بالطبع.» ثم أصبح صوتها بعيدًا بشكلٍ غريب عندما قالت: «إنه يحتوي على صور لأوباما، منذ صغره …» تبِعنا مارك إلى خزانة الكتب وجذبَ ألبوم صورٍ كبيرًا. وجلسنا معًا على الأريكة نتصفح الصور. شاهدنا صورًا لأوما وروي، ببشرتهما السوداء وأجسادهما النحيلة الطويلة وسيقانهما وعيونهما الكبيرة، يحملان الطفلَين الصغيرَين بحرصٍ بين ذراعَيهم. ثم صور لأبي وروث يُذاكران على شاطئ في مكانٍ ما. وصور للعائلة بأكملها وهي ترتدي ملابس السهرة لقضاء الأمسية في الخارج بالمدينة. كانت جميعها مشاهد سعيدة ومألوفة بصورةٍ غريبة، كما لو أنني كنتُ ألمح عالمًا بديلًا وُجِد وانتهى وأنا غير موجود. أدركتُ أنها كانت انعكاسات للأوهام التي كانت تستقرُّ في نفسي منذ زمنٍ بعيد، أوهام ظلَّت أسرارًا حتى عن نفسي. وهْم أن أبي اصطحبَني أنا وأُمي معه إلى كينيا. وأُمنِية أن يكون الأب والأم والإخوة والأخوات جميعًا في منزلٍ واحد. وفكَّرتُ في نفسي أنني أرى بعينَي ما كان من الممكن أن يحدُث. وقد جعلني إدراك مدى السوء الذي وصلَتْ إليه الأمور والدليل القاسي على النهج الحقيقي الذي سارت عليه الحياة بالفعل حزينًا للغاية، حتى إنني بعد بضع دقائق أبعدتُ ناظرِيَّ. وفي طريق العودة اعتذرتُ لأوما لأنني وضعتُها في مثل هذا المأزق. لكنها تجاهلت المسألة. وقالت: «كان من الممكن أن تكون الأمور أسوأ.» وتابعت: «ومع ذلك فإنني أشعر بالأسف تجاه مارك. إنه يبدو وحيدًا للغاية. أتعرف، ليس من السهل أن تكون طفلًا لأبوَين من عِرقَين مختلفَين في كينيا.» نظرتُ من النافذة، وفكَّرتُ في أُمي وجَدتي وجَدي، ومدى شعوري بالامتنان تجاههم من أجلِ ما كانوا عليه والقصص التي رَوَوْها لي. ثم استدرتُ إلى أوما مرة أخرى وقلت: «إنها لم تتغلب على فراقِه بعد، أليس كذلك؟» «مَن؟» «روث. لم تتغلَّب على فكرة فراق أبي.» فكَّرَتْ أوما لدقيقة. وقالت: «كلَّا يا باراك. لا أظن هذا. مثل بقِيَّتنا.» ••• في الأسبوع التالي، اتصلتُ بمارك واقترحتُ عليه أن نخرج ونتناول الغداء معًا. وقد بدا مُترددًا في البداية لكنه وافق في النهاية على أن يُقابلني في مطعمٍ هندي في وسط المدينة. كان أكثر ارتياحًا هذه المرة من لقائنا الأول، وألقى بعض الدعابات التي ينتقِد فيها نفسه، وأبدى ملاحظاته عن كاليفورنيا والصراع الأكاديمي الداخلي. وسألتُه ونحن نتناول الطعام ما شعوره عندما عاد لقضاء فترة الصيف. فقال: «رائع. من اللطيف أن أرى أُمِّي وأبي بالطبع. وجوي أيضًا، إنه طفل رائع.» قطع مارك قطعة من السمبوسة ووضعها في فمه. واستأنف: «أما باقي أجزاء كينيا فلا أشعر بارتباطٍ شديد تجاهها. إنه مجرد بلد أفريقي فقير آخر.» «ألم تُفكِّر قطُّ في الاستقرار هنا؟» شرب مارك من مياهه الغازية. وقال: «لا.» وتابع: «أعني لا يُوجَد هنا مجال كبير أمام فيزيائيٍ للعمل في بلد لا يملك فيه المواطن العادي هاتفًا.» كان يجب أن أتوقَّف في الحديث عند هذا الحد، لكن شيئًا آخر، ربما الثقة بصوت هذا الأخ، أو الشبَه غير الواضح بيننا، مثل النظر إلى مرآة غائمة، جعلني أُريد أن أستمرَّ في الحديث. سألته: «ألم يُراوِدك شعور قط أنك تفتقِر إلى شيء.» وضع مارك السكين والشوكة لأول مرة في تلك الأمسية ونظر إلى عينيَّ مباشرة. قال بصراحة: «أنا أفهم ما ترمي إليه.» وتابع: «إنك تظنُّ أنني بشكلٍ ما أقطع جذوري وأشياء من هذا القبيل.» ومسح فمه ووضع المنديل على الطبق. وقال: «حسنًا، معك حق. ففي وقتٍ ما اتخذتُ قرارًا بألَّا أُفكِّر فيمن هو أبي الحقيقي. لقد كان ميتًا في نظري حتى عندما كان لا يزال على قيد الحياة. كنتُ أعرف أنه رجل سِكِّير ولا يهتمُّ بزوجته وأطفاله. وكان هذا كافيًا.» «أثار جنونك.» «لم يُثِر جنوني. ولكنه جعلني لا أشعُر تجاهه بأية مشاعر.» «وهذا لا يُقلِقك؟ أعني ألا تشعُر بشيء؟» «تجاهه، لا. فهناك أشياء أخرى تُحركني. منها سيمفونيات بتهوفن وقصائد شكسبير. أعلم أن هذا ليس مما ينبغي أن يَهتمَّ به رجل أفريقي. ولكن مَن المفترض أن يخبرني بما أهتمُّ وبما لا أهتم؟ افهمني جيدًا، إنني لا أشعر بالخِزي لأني نِصف كيني. كلُّ ما في الأمر أنني لا أطرح على نفسي الكثير من الأسئلة عما يَعنيه هذا. أسئلة عمن أكون حقًّا.» ثم هزَّ كتفيه. وقال: «لا أعلم. ربما يجب أن أفعل. وأنا أعترف أنه من الممكن إذا نظرتُ بحرصٍ أكبرَ إلى نفسي، فإنني …» شعرت لوهلة بتردُّد مارك، مثل مُتسلِّق الجبال الذي انزلقَتْ قدمُه. ثم على الفور استعاد رِباطة جأشه ولوَّح للنادل كي يُحضِر ورقةَ الحساب. وقال: «مَن يدري؟» وتابع: «الشيء المؤكد هو أنني لا أحتاج إلى هذا الضغط. فالحياة قاسية بما يكفي دون كل هذه الأشياء.» نهضنا لنُغادر، وأصررتُ على دفع الفاتورة. وفي الخارج تبادلنا عناويننا ووعد كِلانا أن يُراسِل الآخر؛ كانت وعودًا زائفةً جعلت قلبي يتألَّم. وعندما عُدتُ إلى المنزل أخبرتُ أوما كيف سار اللقاء. فنظرت بعيدًا للحظة ثم انفجرَتْ في ضحكةٍ قصيرة مريرة. «ما المضحك؟» «كنتُ أفكِّر فقط في مدى غرابة الحياة. أتعرف بمجرد أن مات أبي اتصل المحامون بكلِّ مَن قد يكون له حقٌّ في الإرث. وعلى عكس أُمي كان لدى روث جميع المستندات اللازمة لإثبات مَن هو والد مارك. ولهذا فمِن بين جميع أولاد أبي، مارك هو الوحيد الذي لا غبار على حقِّهِ في الميراث.» ومرةً أخرى ضحكت أوما، فنظرتُ أنا إلى الصورة المعلَّقة على الحائط، وهي الصورة نفسها الموجودة في ألبوم روث، صورة لثلاثة إخوة وأُخت يبتسِمون ابتساماتٍ عذبة أمام عدسة الكاميرا.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/17/
الفصل السابع عشر
قربَ نهاية أسبوعي الثاني في كينيا ذهبتُ أنا وأوما في رحلة سفاري. لم تكن أوما مُتحمِّسة للفكرة. فعندما أريتُها الكُتيب الدعائي أول مرة تجهَّم وجهها وهزَّت رأسها. فهي، على غرار معظم الكينيين، تربط بين محميَّات الحياة البرية وبين الاستعمار. وسألتني: «كم تظنُّ عدد الكينِيِّين الذين يمكنهم تحمُّل نفقات الذهاب إلى رحلة سفاري؟» وتابعت: «ولماذا تُخصَّص كلَّ هذه المساحة من الأرض للسياح، في حين أنه يمكن استغلالها في الزراعة؟ أولئك الرجال البِيض يهتمُّون بفيلٍ ميتٍ أكثرَ من اهتمامهم بحياة ١٠٠ طفلٍ أسود.» ولعدة أيام ظلَلْنا نراوغ. فقلتُ لها إنها تجعل أفكار الآخرين ومواقفهم تمنعها من رؤية بلدِها. وهي قالت إنها لا تريد إهدار النقود. وفي النهاية وافقت، ولم يكن ذلك بسبب قُدرتي على الإقناع ولكن لأنها كانت تُشفِق عليَّ. قالت: «إذا التهمك حيوانٌ ما هناك فإنني لن أُسامح نفسي أبدًا.» وعلى ذلك في الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء شاهدْنا سائقًا قويَّ البنية من قبيلة الكيكويو اسمه فرانسيس يحمل حقائبنا على سقف سيارة ميني فان بيضاء. وكان بِصُحبتنا طاهٍ طويل ونحيل اسمه رافائيل، وإيطالي أسود الشعر اسمه ماورو، وزوجان بريطانيان في بداية الأربعينيَّات من عمرهما يُطلق عليهما السيد ويلكرسون وزوجته. انطلقَتِ السيارة في طريقها إلى خارج نيروبي بسرعةٍ معتدلة، وسرعان ما مرَّت بالريف والتلال الخضراء وطرقٍ من التراب الأحمر، وقِطعٍ صغيرة من الأراضي المزروعة محاطة بحقول الذرة الذابلة التي تفصل بينها مسافات كبيرة. ولم يتفوَّه أحد بكلمة، فساد صمت مُحيِّر ذكَّرني بلحظاتٍ مماثِلة هناك في الولايات المتحدة، الصمت الذي كان في بعض الأحيان يصاحب دخولي إلى حانةٍ أو فندق. وقد جعلني هذا أُفكِّر في أوما ومارك وجَدي وجَدتي، في هاواي ووالدتي التي لا تزال في إندونيسيا والأشياء التي أخبرَتْني بها زيتوني. «إذا كان الجميع من عائلتِك فلا عائلة لك.» هل زيتوني على حق؟ لقد جئتُ إلى كينيا وأنا أظن أنه يُمكنني بشكلٍ ما توحيد العوالم الكثيرة التي أعيش بها في عالمٍ واحد مُنسجِم. وبدلًا من هذا اتضح أن الانقسامات تزايدت أضعافًا مُضاعفة، بل تظهر أثناء أبسط الأعمال. وفكَّرتُ فيما حدث صباح اليوم السابق، عندما ذهبنا أنا وأوما لحجز التذاكر. كانت شركة السياحة ملكًا لآسيوِيِّين؛ إذ إن معظم الأعمال الصغيرة في نيروبي يسيطر عليها آسيويون، وعلى الفور توتَّرت أوما. فهمسَتْ وهي ترى شابةً هندية تأمر موظفيها السُّود جَيئةً وذهابًا: «أترى كم هم مغرورون؟ إنهم يُطلِقون على أنفسهم كينيُّون لكن لا علاقة لنا بهم. وبمجرد أن يُكوِّنوا ثرواتهم يُرسِلونها على الفور إلى لندن أو بومباي.» مَسَّ موقفها وترًا حسَّاسًا داخلي. فسألتُها: «كيف تلومِين الآسيويين لأنهم يرسِلون نقودهم خارج البلاد بعد ما حدث في أوغندا؟» وأخبرتها عن أصدقائي المقرَّبين في الولايات المتحدة الهنود منهم والباكستانيين، أصدقاء يُساندون قضية السود، أصدقاء أقرضوني نقودًا عندما تأزَّمَت حالتي المالية، واستضافوني في منازلهم عندما لم يكن لديَّ مكانٌ لأمكث فيه. لكن موقف أوما لم يتغيَّر. قالت: «عزيزي باراك.» وتابعت: «في بعض الأحيان تكون ساذَجًا للغاية.» ثم نظرتُ إلى أوما ونحن في السيارة ووجهها يتَّجِه نحو النافذة. وتساءلتُ بداخلي: ماذا توقعتُ أن أُحقِّق بتلك المحاضرة القصيرة؟ فمعادلاتي البسيطة عن تضامن العالم الثالث لم تحظَ بالتطبيق في كينيا. فهنا كان الأشخاص من أصولٍ هندية — مثل الصينيين في إندونيسيا والكوريين في الجزء الجنوبي من شيكاغو — مجرَّد غرباء يعرفون كيف يتاجرون، وينطوون على أنفسهم، وفي ظلِّ آلية عمل النظام الطبقي العنصري فإنهم يكونون أكثرَ تميزًا، ومن ثَم أكثر عرضةً للاستياء. وهذا ليس بالضرورة خطأ أحد؛ إنها ليست إلا مسألة تاريخ، حقيقة مأسوية من حقائق الحياة. وعلى أية حال، لم تقف الانقسامات في كينيا عند هذا الحد. فقد كانت هناك دائمًا حدود أدقُّ ينبغي رسمُها. على سبيل المثال بين قبائل الدولة السوداء التي يبلُغ عددها ٤٠ قبيلة. لقد كانوا هم أيضًا حقيقة من حقائق الحياة. ولا يُلاحِظ المرء النزعة القبلية بين أصدقاء أوما من الشباب الكيني الذي يرتاد الجامعات والذي تربَّى في المدارس على فكرة الدولة والعِرق، ومسألة القبيلة هذه لا يُفكِّرون فيها إلا عندما يُفكِّرون في الزواج أو عندما يكبرون ويرَون أنها تعوق حياتهم المهنية أو تدفعها للأمام. لكنهم كانوا هم الاستثناء. فمعظم الكينيين كانوا لا يزالون يُفكرون بخرائط الهوية القديمة، والانتماءات الأقدم. وحتى جين وزيتوني كانتا في بعض الأحيان تقولان أشياء تُفاجئني. فتقولان مثلًا: «أبناء قبيلة لوو أذكياء لكنهم كسالى». أو «أبناء قبيلة كيكويو جشعون لكنهم مُجِدُّون في العمل». أو «أما أبناء قبيلة كالينجين فيُمكنك أن ترى ماذا حلَّ بالبلد منذ أن تولَّوا الحكم.» وعندما كنتُ أسمع عمَّتَيَّ تتحدَّثان دائمًا عن هذه الآراء الشائعة أحاول أن أشرح لهما خطأ هذه الاتجاهات. فكنتُ أقول: «إن مثل هذا التفكير هو الذي يعوقنا عن التقدُّم، إننا جميعًا جزء من قبيلةٍ واحدة. القبيلة السوداء. القبيلة البشرية. انظرا ماذا فعلَتِ النزعة القبلية بأماكنَ مثل نيجيريا أو ليبريا.» فكانت جين تقول: «إنهم في غرب أفريقيا مجانين على أية حال. إنك تعلَم أنهم كانوا من آكِلي لحوم البشر، أليس كذلك؟» وتقول زيتوني: «إنك تتحدَّث مثل أبيك بالضبط يا باري. هو أيضًا كانت لدَيه مثل هذه الآراء عن الناس.» وهو ما يعني أنه هو أيضًا كان ساذَجًا، هو أيضًا كان يُحب أن يجادل في أمور التاريخ. انظر ماذا حدث له … توقفت السيارة فجأة، وأعادتني من أحلام اليقظة التي كنتُ أستغرق فيها. كنا أمام قطعة أرض زراعية صغيرة، وطلب منَّا السائق فرانسيس أن نمكث في أماكننا ولا نتحرَّك. وبعد بضع دقائق خرج من المنزل ومعه فتاة أفريقية صغيرة ربما في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها، ترتدي بنطلون جينز وبلوزة كُوِيَت بإتقان، وتحمل حقيبةً صوفية صغيرة. وقد ساعدها فرانسيس على الدخول إلى مؤخرة السيارة وأشار إليها بالجلوس على المقعد المجاور لأوما. فسألته أوما وهي تُفسِح مكانًا للفتاة: «هل هذه ابنتُك؟» فقال فرانسيس: «كلَّا.» وأوضح: «إنها ابنة شقيقتي. وتودُّ أن ترى الحيوانات ودائمًا ما تلحُّ عليَّ كي أصطحبها معي. وأتمنى ألا يُمانع أحدكم هذا؟» هزَّ الجميع رأسه نفيًا وابتسموا للفتاة التي تحمَّلت التفات الأنظار إليها بشجاعة. سألتْها السيدة ويلكرسون البريطانية: «ما اسمك؟» همست الفتاة: «إليزابيث.» فقالت أوما: «إليزابيث يُمكنك مشاركتي خيمتي.» وتابعت: «فأظن أن أخي يُصدِر شخيرًا وهو نائم.» عبستُ في وجهها. وقلت: «لا تُصدِّقيها»، وأخرجتُ علبة بسكويت. فأخذت إليزابيث قطعةً منها وبدأت تأكُل حوافها. فأخذت أوما العلبة والتفتت إلى ماورو. وسألته: «أتريد بعضًا منها؟» فابتسم الإيطالي وأخذ قطعةً واحدة قبل أن تُمرِّر أوما البسكويت إلى الآخرين. سِرنا في الطريق إلى أن مرَرْنا بتلالٍ أكثرَ برودة حيث كان النساء يَسِرْن حفاةَ القدمَين ويحملنَ مياهًا وأخشابًا للتدفئة والأطفال الصغار يضربون بالسياط الحميرَ التي تجرُّ عرباتهم المتهالكة. وبالتدريج أصبحت الأراضي الزراعية أقل، وحلَّت محلها شجيرات وغابات مُتشابكة، حتى انقطع فجأة وجود الأشجار على يَسارنا دون إنذارٍ سابق وأصبح كلُّ ما نراه هو السماء الشاسعة. أعلن فرانسيس: «هذا هو الأخدود الأفريقي العظيم.» خرجنا من الشاحنة بسرعةٍ ودون نظام، ووقفنا على حافة الأخدود نتطلَّع إلى الأفق الغربي. وعلى بُعد مئات الأقدام بالأسفل، كانت الأحجار وحشائش السافانا تمتدُّ على سهلٍ مُنبسط مُسطح يمتدُّ على طول النظر قبل أن يلتقِيَ بالسماء، ثم يُعيد العين لتنظر عبر السماء الفسيحة. وإلى اليمين جبلٌ وحيد يقف مثل جزيرةٍ في بحرٍ صامت، وخلف الجبل صفٌّ من سلاسل التلال تُلقي بظلالها. ولم يكن هناك سوى إشارتَين واضحتَين على وجود الإنسان: طريق ضيق يتَّجِه غربًا ومحطة أقمار صناعية يتَّجِه طبق استقبالها الأبيض الضخم إلى السماء. وعلى بُعد بضعةِ أميالٍ إلى الشمال تركنا الطريق الرئيسي إلى طريق كان فيه الأسفلت مُكسرًا. وقد شقَقْنا طريقَنا عبره ببطء، وفي بعض الأماكن كانت الحُفَر بعرض الطريق بالكامل، وفي كثير من الأحيان تقترب شاحنات قادمة من الاتجاه المعاكس، مما يُجبر فرانسيس على الصعود بالسيارة على السد الترابي المرتفع بجانب الطريق. وفي النهاية وصلْنا إلى الطريق الذي رأيناه من أعلى، وبدأت السيارة تسير عبر أرض الوادي. كانت المناظر الطبيعية من حولنا جافة، معظمها حشائش طويلة وأشجار شوكية غير مُشذَّبة، وحصًى وقطع من الحجر الصلب الداكن اللون. بدأنا نمرُّ بقطعان صغيرة من الغزلان وظبيةٍ وحيدة من ظباء الثيتل تأكل أسفل شجرة، ولمحنا على مسافةٍ بعيدة حمارًا وحشيًّا وزرافة. ولمدة ساعة تقريبًا لم نرَ إنسانًا، حتى ظَهر أحد الرعاة من قبيلة الماساي على بُعدٍ وكان جسدُه يضاهي العصا التي يحملها في النحافة والاستقامة، يقود قطيعًا من الماشية الطويلة القرون عبر مساحةٍ خاوية من الأرض. لم أقابل الكثيرَ من أفراد قبيلة الماساي في نيروبي، مع أني قرأتُ عنهم كثيرًا. كنت أعلم أن طرُقَهم الرعوية وضراوتهم في الحرب قد أكسبتْهم احترامًا يشوبُه الحقد من جانب البريطانيين، حتى إنه مع أن المعاهدات قد خُرِقت فقد اقتصر وجود أفراد قبيلة الماساي على مناطق مُنفصلة بعَينها، وأصبحت القبيلة أسطورية في هزيمتها، مثل قبيلتَي شيروكي أو أباتشي؛ حيث تظهر صورة البربري النبيل على البطاقات البريدية والكتب ذات الأغلفة الفنية المجلدة. كنتُ أعلم أيضًا أن هذا الافتتان الغربي بقبيلة الماساي كان يُثير حنق باقي الكينيين الذين كانوا يرَون سلوكياتهم مُثيرة للخجل، والذين كانوا يتوقون للاستيلاء على أرض الماساي. وقد حاولت الحكومة أن تفرض نظام التعليم الإجباري على أطفال الماساي، وأيضًا نظام تسجيل ملكية الأراضي بين الكبار في القبيلة. وفسَّر المسئولون ذلك قائلين إنه عبء الرجل الأسود أن يدفع بإخوته الأسوأ حظًّا إلى ركْب التحضُّر. وتساءلتُ ونحن نتوغَّل أكثرَ في وطنهم، كم من الوقت يمكن أن يصمد الماساي. وفي مدينة ناروك، وهي مدينة تجارية صغيرة توقفنا فيها من أجل الغداء وتزويد السيارة بالوقود، أحاط مجموعة من الأطفال يرتدون شورتات كاكي وقمصانًا قديمةً بشاحنتنا وأخذوا يُنادون بالحماس العدواني نفسه الذي يميز نظراءهم في نيروبي على الحلي الرخيصة والوجبات الخفيفة. وبعد ساعتَين، عندما وصلنا إلى بوابة من الطوب اللبن التي تقود إلى المحمية، انحنى رجل طويل من قبيلة ماساي يرتدي قُبعة وتفوح منه رائحة الجِعَة عبر نافذة شاحنتنا واقترح أن نأخذ جولة في محمية تقليدية لقبيلة الماساي. وقال الرجل بابتسامة: «٤٠ شلنًا فقط.» وتابع: «والصور لها تكلفة إضافية.» وبينما كان فرانسيس يقوم ببعض الأعمال في مكتب مدير المحمية خرج بقيتنا وتبعنا رجل قبيلة الماساي إلى مجمعٍ دائري ضخم مُحاط بأعشابٍ شوكية. وعلى طول المحيط الخارجي للمجمع كانت هناك أكواخ صغيرة مَبنية من الطين وروث الحيوانات، وفي منتصف المجمع كان هناك عدد من الماشية وبعض الأطفال العراة يقفون جنبًا إلى جنب في الوحل. ولوَّحت لنا مجموعة من النساء لننظُر إلى أوانيهنَّ المصنوعة من القرع والمغطاة بالخرز، وواحدة منهن وهي أم شابة جميلة تحمل طفلًا على ظهرها، أرتني ربع دولار أمريكي أكرَهَها شخصٌ ما على قبوله ثَمنًا لبضاعتها. ووافقتُ على استبداله بما يُكافئه من الشلن الكيني، ومقابل ذلك دعتْني إلى كوخها. كان مكانًا ضيقًا حالك الظلمة وله سقفٌ يرتفع لمسافة خمسة أقدام. وأخبرتني أن عائلتها تطهو وتنام وتحتفظ بالعجول الحديثة الولادة فيه. وكان الدخان يُعمي العينين، وبعد دقيقةٍ كان عليَّ الانصراف وأنا أقاوم رغبةً جارفة في أن أهشَّ الذباب الذي كوَّن دائرتَين مُتواصلتَين حول عينَي الطفل المنتفختَين. كان فرانسيس في انتظارنا عندما عُدنا إلى الشاحنة. وخرجنا من البوابة نسير في الطريق إلى أعلى مُنحدَرٍ صغير قاحِل. وهناك على الجانب الآخر من المنحدَر رأيت أجملَ بقعةٍ في حياتي؛ تمتدُّ إلى ما لا نهاية، والسهول المسطحة تتموَّج إلى تلالٍ رقيقة قاتمة اللون ولينة كظهر الأسد، مُتجعِّدة بمساحاتٍ كبيرة من الغابات وتنتشِر عليها أشجار شوكية. وعلى يَسارنا قطيع ضخم من الحُمُر الوحشية، تتشابَهُ للغاية في خطوطها بصورةٍ تُثير الضحك وهي تلتهِم الحشائش ذات اللون القمحي، وإلى يميننا قافلة من الغزلان تقفز إلى الحشائش. وفي الوسط آلاف من ظباء الثيتل برءوسها الحزينة وأكتافها المحدَّبة التي بدت ثقيلةً للغاية على أن تحملها أرجُلها النحيفة. بدأ فرانسيس يقود السيارة ببطءٍ شديد وهو يمر بالقطيع، وافترقت الحيوانات أمام السيارة لتُفسِح لها مكانًا ثم تعود لتجتمع من خلفنا مرة أخرى وكأنها سِرب من السمك، وحوافرها تضرب الأرض مثلما تضرب الأمواج الشاطئ. نظرتُ إلى أوما. فوجدتُ أنها تُطوِّق إليزابيث بذراعِها وترتسِم على وجه كلتَيهما ابتسامة صامتة. أقمنا مُخيمًا فوق ضفاف مجرًى مائي مُوحل مُتعرِّج أسفل شجرة تين كبيرة مليئة بطيور الزرزور الزرقاء الكثيرة الضجيج. كان الوقت قد تأخَّر، ولكن بعد أن أقَمْنا الخيام وجمعنا الخشب، كان لدَينا بعض الوقت لأن نقود السيارة ونذهب إلى ينبوع ماء قريب حيث تتجمَّع الظباء والغزلان للشرب. وعندما عُدنا كانت النيران قد اشتعلت، وعندما جلسنا نأكل اليخني الذي أعدَّه رافائيل بدأ فرانسيس يُخبرنا عن نفسه قليلًا، وقال إن لدَيه زوجة وستة أطفال ويعيشون في منزلٍ داخل مزرعة في كيكويولاند. ويرعون أرضًا مساحتها فدان مزروعة بالقهوة والذرة، وفي أيام العطلة يقوم بنفسه بأعمال العزق والغرس الشاقة. وقال إنه يستمتع بعمله في شركة السياحة لكنه لا يُحب أن يبتعِد عن عائلته. وقال: «إذا استطعتُ فقد أُفضِّل الزراعة طَوال الوقت، لكن الاتحاد يجعل هذا مُستحيلًا.» سألته: «أي اتحاد؟» «اتحاد القهوة الكيني. إنهم لصوص. يتحكَّمون في المحاصيل المسموح لنا بزراعتها ومتى نزرعها. ولا أستطيع بيع القهوة إلا لهم، وهم يبيعونها في الخارج. ويُخبروننا أن الأسعار تنهار، لكني أعلم أنهم يحصلون على ١٠٠ ضعف ما يدفعونه لي. فإلى أين يذهب الباقي؟» هزَّ فرانسيس رأسه في اشمئزاز. وقال: «إنه لأمر بشِع أن تسرق الحكومة شعبَها.» قالت أوما: «إنك تتحدَّث بحرية شديدة.» هزَّ فرانسيس كتفَيه. وقال: «ربما إذا تحدَّث المزيد من الناس فقد تتغير الأمور. انظروا إلى الطريق الذي سِرنا فيه هذا الصباح في الطريق إلى الوادي. أتعرفون، من المفترض أنه أُصلح العام الماضي فقط. لكنهم استخدموا حصًى رخوًا؛ لذا جرفته المياه عند أول هطول للأمطار. والنقود التي وفَّروها من هذا ذهبت على الأرجح لبناء منزل أحد الرجال المهمين.» نظر فرانسيس إلى النار وهو يُمشِّط شاربه بأصابعه. وقال بعد وهلة: «أظن أن هذا ليس خطأ الحكومة وحدَها.» وتابع: «فحتى عندما يجري تنفيذ المشروعات كما ينبغي، نحن الكينيين لا نُحب أن ندفع الضرائب. فنحن لا نثِق بفكرةِ أن ندفع نقودنا لأحد. والرجل الفقير لدَيه ما يُبرِّر هذا الشك. لكن الرجال الكبار الذين يملكون الشاحنات التي تَستخدِم هذه الطرق فإنهم يرفضون أيضًا دفع ضرائبهم. إنهم يُفضِّلون أن تتحطَّم معداتهم طوال الوقت بدلًا من التضحية بأرباحهم. هكذا نُحب أن نُفكِّر في الأمور. إننا نعتبرها مشكلةَ شخصٍ آخر.» ألقيتُ عصًا في النار. وقلت لفرانسيس: «هذه الآراء لا تختلف كثيرًا عن الآراء في أمريكا.» فقال: «إنك على حقٍّ على الأرجح.» وتابع: «لكن دولة غنية كأمريكا ربما تستطيع تحمُّل نفقات الغباء.» وفي تلك اللحظة اقترب اثنان من قبيلة الماساي من النار. فرحَّب بهما فرانسيس وعندما جلسا على أحد المقاعد، قال إنهما سيتولَّيان حمايتنا في أثناء الليل. كانا رجُلَين هادئين وسيمَين، يزيد انعكاس النار من وضوح عظام وجنتيهما البارزة، وأطرافهما النحيلة تبرُز من رداءيهما القَبَلي ذي اللون الأحمر القاني، ورماحهما مُثبتة في الأرض أمامهما، وتُلقي بظلالٍ طويلة باتجاه الأشجار. قال أحدهما إن اسمه ويلسون وهو يتحدَّث اللغة السواحيلية، وأخبرنا أنه يعيش في محميةٍ على بُعد أميال قليلة شرقًا. وبدأ رفيقه الصامت يخترق الظلام بضوء مِشعله، وسألَتْهما أوما هل تعرَّض المعسكر لهجومٍ من الحيوانات من قبلُ، فابتسم ويلسون ابتسامة عريضة. وقال: «لا شيء خطير.» وتابع: «لكن إذا احتجتَ الذهاب إلى الحمَّام ليلًا فيجب أن تُنادي أحدنا ليذهب معك.» بدأ فرانسيس يسأل الرجُلَين عن حركة الحيوانات المختلفة، وابتعدتُ أنا عن النار لأشاهد النجوم، فقد مرَّت سنوات منذ أن رأيتها بهذا الشكل بعيدًا عن أضواء المدينة، كانت النجوم كثيفةً ودائرية ومُتوهِّجة كقِطَع من المجوهرات. ولاحظتُ وجود رقعةٍ صغيرة من الضباب في السماء الصافية فابتعدتُ أكثرَ عن النار ظنًّا أن هذا قد يكون دخانًا، ثم قرَّرت في النهاية أنها سحابة. وكنتُ أتعجَّب لماذا لم تتحرَّك السحابة عندما سمعتُ صوت أقدامٍ من خلفي، ثم صوت السيد ويلكرسون. قال وهو ينظر إلى السماء: «أعتقد أن هذه مجرَّة درب التبانة.» «حقًّا.» رفع يده وبدأ يرسم لي بها خطوطًا لمجموعة النجوم، وأوصل خطوطًا بين ألمع أربعة نجوم في كوكبة الصليب الجنوبي. كان رجلًا نحيلًا هادئ الصوت يضع نظارة دائرية وله شعر أشقر ناعم. في البداية ظننتُ أنه قضى حياته بالكامل في أماكنَ مُغلقة وأنه مُحاسب أو أستاذ جامعي. لكني لاحظتُ بمرور اليوم أنه يمتلك جميعَ أنواع المعرفة العملية، الأشياء التي لم أتمكَّن من معرفتها قطُّ لكني تمنيتُ أن أعرفها. فكان يستطيع الحديث مع فرانسيس بالتفصيل عن محرِّكات السيارات من طراز لاند روفر، وأنهى نصْب خيمته قبل أن أضع أنا أول عمود لي، وبدا أنه يعرف أسماء جميع أنواع الطيور والأشجار التي رأيناها. ولم يُفاجئني هذا بعد ذلك عندما أخبرني أنه قضى طفولته في كينيا في مزرعة لأوراق الشاي في وايت هايلاندز. وكان من الواضح أنه لا يودُّ الحديث عن الماضي، كلُّ ما قاله هو أن عائلتَه باعت الأرض بعد حصول كينيا على الاستقلال وعادت إلى إنجلترا لتستقرَّ في ضاحيةٍ هادئة في لندن. وقد التحق بكلية الطب ثم تدرَّب مع هيئة الصحة الوطنية في ليفربول، وهناك قابل زوجتَه التي تعمل طبيبةً نفسية. وبعد بضع سنواتٍ أقنعها بأن تعود معه إلى أفريقيا، لكنهما قرَّرا ألا يستقرَّا في كينيا حيث إن هناك فائضًا في عدد الأطباء مقارنةً بباقي القارة، وبدلًا من ذلك استقرَّا في مالاوي حيث عمِلا معًا بتعاقدٍ مع الحكومة للسنوات الخمس السابقة. قال لي: «أنا أُشرِف على ثمانية أطباء يتولَّون الرعاية الطبية في منطقةٍ تَعداد سكانها نصف مليون.» وتابع: «ولم تتوفَّر لنا قط التجهيزات اللازمة، فنصف مشتريات الحكومة على الأقل ينتهي بها الحال في السوق السوداء. لذا لا يمكننا سوى التركيز على الأساسيات، وهو ما تحتاجه أفريقيا بالفعل. فالناس تموت بسبب جميع أنواع الأمراض التي يمكن الوقاية منها: الدوسنتاريا والجُدري. والآن الإيدز؛ فقد وصل معدل الإصابة في بعض القرى إلى خمسين بالمائة من سكانها. إنه أمرٌ يدفع إلى الجنون.» كانت القصص التي يَرويها قاسية، لكنه عندما واصل إخباري بالمهام التي يقوم بها في حياته: حفر الآبار، وتدريب عمَّال فِرق الوصول إلى المحتاجين لتطعيم الأطفال، وتوزيع الواقي الذكري، لم يبدُ ساخرًا ولا مُتعاطفًا. فسألتُه ما سبب عودته إلى أفريقيا في ظنِّه، فأجاب هو دون توقُّف وكأنه سمع السؤال مرات عديدة. «أظن أنها وطني. الناس، الأرض …» ثم خلع نظارته ومسحَها بمنديلٍ وقال: «أعرف أن هذا مُضحك. فبمجرد أن تعيش هنا لبعض الوقت تبدو لك الحياة في إنجلترا مُقيدة بصورة فظيعة. فالبريطانيون لديهم الكثير، لكنهم يستمتِعون بالأشياء بصورةٍ أقل. وشعرت أنني غريب بينهم.» ثم ارتدى نظارته مرةً أخرى وهزَّ كتفَيه. قال: «بالطبع أنا أعلم أنه على المدى البعيد لا بد أن يحلَّ أحد محلِّي. وهذا جزء من عملي، أن أجعل من نفسي غير ضروري. والأطباء في مالاوي الذين أعمل معهم ممتازون حقًّا، فهم أكفاء. ومُتفانون أيضًا. فقط لو تمكَّنَّا من بناء مُستشفًى تدريبي به بعض المرافق المناسبة فسيُمكننا أن نُضاعف عددَهم إلى ثلاثة أضعاف في وقتٍ قصير للغاية. ثم …» «ثم ماذا؟» اتجه إلى المعسكر وشعرتُ أن صوته بدأ يرتجف. وقال: «ربما لا يمكنني أبدًا أن أدعو هذا المكان وطني.» وتابع: «إنها ذنوب الآباء. وقد تعلمتُ أن أقبل هذا.» وتوقَّف لحظةً ثم نظر إليَّ. وقال قبل أن يبدأ السير عائدًا إلى خيمته: «ومع ذلك فإنني أحبُّ هذا المكان.» ••• حلَّ وقتُ بزوغ الفجر. باتجاه الشرق بدأت السماء تُنير فوق أشجارٍ مُظلمة متشابكة؛ فتحوَّل إلى اللون الأزرق الداكن ثم البرتقالي ثم الأبيض الذي يميل إلى الصفرة. وفقدت السُّحب صبغتها الأرجوانية ببطءٍ ثم تبدَّدت تاركةً وراءها نجمةً وحيدة. وعندما خرجنا من المعسكر رأينا قافلة من الزرافات وأعناقها الطويلة تميل في اتجاهٍ واحد، وتبدو سوداء أمام قرص الشمس الأحمر الذي يصعد ليتبوأ مكانه في السماء، مثل علاماتٍ غريبة قبالة سماء قديمة. استمر الأمر هكذا باقي اليوم، كما لو أنني أرى، بعد أن عُدت طفلًا مرةً أخرى، العالم في كتابٍ تنبثق منه صور مُجسَّمة، أو قصة خيالية، أو لوحة رسمها روسو. ورأيت هناك قطيعًا من الأسود يتثاءب على الأعشاب. ورأيتُ جاموسًا في المستنقعات تبدو قرونها مثل الشعر المستعار الرخيص، والطيور التي تتغذَّى على القرادة تبحث عن طعامها في ظهورها المغطاة بالوحل. وفرس النهر في المجاري المائية الضحلة وعيناه الصغيرتان شبه المغمضة وفتحتا أنفه مثل المرمر وهو يظهر على سطح الماء. والأفيال تُحرِّك أُذنَيها الكبيرتَين كأوراق النباتات على شكل مروحة. والأهم من هذا الهدوء، الهدوء الذي كان يُناسِب العناصر. وفي الشَّفق صادفنا في مكانٍ ليس ببعيدٍ عن معسكرنا قطيعًا من الضباع يتغذَّى على جثمان ظبية ثيتل. وفي ذلك الضوء البرتقالي الخافت بدت وكأنها كلاب شيطانية، أعينُها مثل كتلٍ من الفحم الأسود وذقونها يسيل منها الدماء. وإلى جوارها صفٌّ من النسور ينتظر وعلى وجهه نظراتٌ صبورة وصارمة ويقفز مُبتعدًا مثل شخصٍ أحدب كلما اقترب منه أحد الضِّباع. كان مشهدًا بدائيًّا، مكثنا هناك وقتًا طويلًا نُشاهد الحياة وهي تتغذَّى على نفسها، ولا يقطع الصمت سوى صوت طقطقة العظام أو اندفاع الرياح أو صوت أجنحة النسور وهي تُجاهد لترتفع في الهواء حتى تصل أخيرًا إلى الطبقات العُليا من الهواء، فتعود تلك الأجنحة الطويلة الجميلة لتصبح عديمة الحركة وساكنة مثل ما حولها. وفكَّرتُ في نفسي: هكذا يكون الخلق. السكون نفسه وسحق العظام نفسه. وهناك في الغسق، فوق ذلك التل، تخيلتُ الإنسان الأول وهو يتقدَّم وهو عاري الجسد خشن البشرة يمسك قطعةً من الحجر الصوان في يده الخرقاء، ولم تكن قد ظهرت بعدُ الكلمات المعبِّرة عن الخوف والترقُّب والرهبة التي يشعر بها تجاه السماء، والمعرفة الخاطفة لحقيقةِ أنه مخلوق فانٍ. آه لو استطعنا تذكُّر تلك الخطوة المشتركة الأولى، تلك الكلمة المشتركة الأولى، ذلك الوقت قبل إنشاء مدينة بابل. وفي المساء بعد تناول العشاء تحدَّثنا من جديدٍ مع حارسَينا من قبيلة الماساي. فأخبرنا ويلسون أنه هو وصديقه أصبحا منذ وقتٍ قريب من «الموران»، أي أعضاء في طائفة العزَّاب من المحاربين الشباب الذين تدور حولهم أساطيرُ قبيلة الماساي. وقد قتل كلٌّ منهما أسدًا كي يُثبت رجولته، وشاركا في العديد من غارات سرقة الماشية. لكن في ذلك الوقت لم يَعُد هناك حروب، وأصبح القيام بغارات سرقة الماشية أمرًا صعبًا؛ ففي العام السابق قُتل صديق آخر برصاص صاحب مزرعةٍ من قبيلة الكيكويو. فقرَّر ويلسون أن كونه عضوًا في المارون ليس إلا مضيعة للوقت. فذهب إلى نيروبي بحثًا عن عمل، لكن نظرًا لأنه لم يتلقَّ تعليمًا متميزًا فقد انتهى به الحال إلى العمل حارس أمنٍ في أحد البنوك. وقد كان الملل يدفعه إلى الجنون، وفي النهاية عاد إلى الوادي ليتزوَّج ويربي ماشيته. وحديثًا قتل أسدٌ أحدَ ماشيته، فاصطاد هو وأربعة آخرون الأسد وأخذوه إلى المحمية، مع أن هذا كان غير قانوني. فسألته: «كيف تقتل أسدًا؟» فقال ويلسون: «يحيط به خمسة رجال ويُلقون برماحهم.» وتابع: «وسيختار الأسد واحدًا ليقفز عليه. فيحتمي ذلك الرجل بكامل جسده أسفل درعه حتى يقضي الأربعة الآخرون عليه.» فقلت بغباء: «يبدو أمرًا محفوفًا بالمخاطر.» فهزَّ ويلسون كتفيه. وقال: «عادة لا يُصابون إلا بخدوش. لكن في بعض الأحيان لا يعود سوى أربعة.» لم يبدُ الرجل وكأنه يتفاخر، بل كان أشبهَ بميكانيكي يحاول أن يشرح مشكلةً يصعُب عليه إصلاحها. وربما كان عدم الاكتراث هذا هو ما دفع أوما لأن تسأله أين، في معتقدات الماساي يذهب الإنسان بعد الموت. في البداية لم يبدُ أن ويلسون فهِم السؤال، لكنه في النهاية ابتسم وبدأ يهزُّ رأسه. فقال وهو يضحك تقريبًا: «هذا ليس من ضمن معتقدات الماساي؛ أعني فكرة الحياة بعد الموت. فبعد أن تموت تُصبِح لا شيء. تعود إلى الأرض. وهذا كل شيء.» فسأل مورو: «ما رأيك يا فرانسيس؟» لبعض الوقت كان فرانسيس يقرأ في إنجيلٍ صغير مجلَّد بغلاف أحمر اللون. فرفع رأسه وابتسم ثم قال: «هذان الشخصان من قبيلة الماساي شجاعان.» فسألت أوما فرانسيس: «هل نشأتَ مسيحيًّا؟» أومأ فرانسيس برأسه. وقال: «نعم، اعتنق والداي المسيحية قبل مولدي.» تحدَّث ماورو وهو يُحدِّق في النيران. قال: «أما أنا فقد تركتُ الكنيسة. فبها الكثير من القواعد. ألا تظن يا فرانسيس أن المسيحية تكون في بعض الأحيان غيرَ مناسبة؟ أما في أفريقيا فقد غيَّر التبشيريون كلَّ شيء، أليس كذلك؟ وأحضروا … ماذا تُطلقون عليه؟» قلت: «الاستعمار.» «نعم الاستعمار. ديدن الرجل الأبيض، أليس كذلك؟» وضع فرانسيس الإنجيل على حجره. وقال: «مثل هذه الأمور كانت تُزعجني عندما كنت صغيرًا. فالمبشِّرون بشرٌ وكانوا يخطئون مثل البشر. والآن بعد أن كبرتُ أفهمُ أني أيضًا قد أفشل. لكن هذا ليس فشل الرب. وأذكر أيضًا أن بعض التبشيريين قد أطعموا الناس في الجفاف. وعلَّم بعضهم الأطفال القراءة. وفي هذا أظن أنهم كانوا يعملون عمل الرب. كلُّ ما يمكننا أن نطمح إليه هو أن نعيش مثل الرب، مع أننا سنفشل دائمًا في هذا.» ذهب ماورو إلى خيمته وعاد فرانسيس إلى إنجيله. وإلى جانبه بدأت أوما تقرأ قصة مع إليزابيث. وجلس الدكتور ويلسون وهو يضمُّ ركبتَيه معًا ويُعدِّل من بنطلونه في حين كانت زوجته تُحدِّق في النار إلى جواره. ونظرتُ إلى رجُلَي الماساي والصمت والترقُّب على وجهيهما، وتساءلتُ تُرى ما انطباعهما عنا؟ ورأيتُ أنه من المحتمل أنهما يجدوننا مصدرًا للتسلية. وكنتُ أعلم أن شجاعتهما وصلابتهما تجعلانني أشكُّ في روحي المزعجة. ومع ذلك، عندما نظرتُ حول النار، ظننتُ أني أرى شجاعةً لا تقِلُّ إثارةً للإعجاب في فرانسيس وفي أوما وفي السيد ويلكرسون وزوجته أيضًا. وفكَّرتُ أنه ربما كانت تلك الشجاعة هي التي تحتاجها أفريقيا بشدة. رجال ونساء صادقون ومُهذَّبون لدَيهم طموحات يمكن تحقيقها، والعزم على تحقيق هذه الطموحات. بدأت النيران تخبو، وواحد تلو الآخر، سلك كلٌّ من الآخرين طريقه إلى خيمته، حتى لم يتبقَّ إلا أنا وفرانسيس ورَجُلا الماساي. وعندما نهضتُ بدأ فرانسيس يُنشد ترنيمةً بصوتٍ منخفض بلغة كيكويو بلحنٍ تعرَّفتُ عليه. استمعتُ إليه لبعض الوقت تائهًا في أفكاري. وعندما سِرتُ عائدًا إلى خيمتي شعرتُ أنني أفهم أغنية فرانسيس الحزينة، وأتخيَّل أنها تصعد إلى الأعلى عبر ظلام الليل الواضح، مباشرة إلى الله. ••• اليوم الذي عُدنا فيه من مارا علمتُ أنا وأوما أن روي قد وصل قبل أسبوع من الموعد المتوقَّع لوصوله. فقد ظهر فجأة في كارياكور ومعه حقيبة سفرٍ في يده، ويقول إنه لم يشعر بالارتياح وهو ينتظر في واشنطن العاصمة، وتمكَّن بوسيلةٍ ما من القدوم مبكرًا. وقد شعرت العائلة بإثارة شديدة لوصوله وأجَّلت إقامة الحفل الكبير حتى أعود أنا وأوما. وقد قال برنارد، الذي أعلمنا بالخبر، إنه كان من المتوقَّع وصولنا في وقتٍ سابق، وكان متوترًا في حديثه كما لو أن كل دقيقةٍ بعيدًا عن أخينا الأكبر ما هي إلا توانٍ في أداء الواجب. ولكن أوما، التي كانت لا تزال تتألَّم نتيجة النوم في الخيام اليومَين السابقين، أصرَّت على أن تحظى بوقتٍ للاغتسال أولًا. وقالت لبرنارد: «لا تقلق.» وتابعت: «إن روي يُحب أن يجعل كل شيءٍ يبدو دراميًّا.» عندما وصلنا كانت شقة جين في هرجٍ ومرجٍ. في المطبخ كانت النساء ينظفن الكرنب ونبات اليام، ويُقطِّعن الدجاج ويُقلِّبن «أوجالي» أو عصيدة الذرة الشامية. وفي غرفة المعيشة كان الأطفال إما يُعِدُّون المائدة أو يُقدِّمون المياه الغازية للكبار. وفي وسط كل هذا الصخب كان روي يجلس وهو يَمُدُّ رجلَيه أمامه، ويُلقي بذراعَيه على ظهر الأريكة ويومئ برأسه في استحسان. وقد لوَّح لنا وعانقنا. وبعد ذلك تراجعت أوما التي لم ترَ روي منذ أن انتقل إلى الولايات المتحدة كي تنظُر إليه بتمعُّن. وقالت: «لقد أصبحتَ بدينًا للغاية!» فضحك روي وقال: «بدين؟» وتابع: «الرجل يحتاج إلى شهيةٍ بمثل حجمه.» ثم التفت باتجاه المطبخ. وقال: «وهو ما يذكِّرني … أين زجاجة الجِعَة الأخرى؟» وبمجرد أن خرجتِ الكلمات من بين شفتَيه ظهرت كيزيا ومعها زجاجة جِعَة في يدِها وابتسمت بسعادة. وقالت بالإنجليزية: «باري، هذا هو الابن الأكبر. كبير العائلة.» ظهرت سيدةٌ أخرى لم أرَها من قبل، ممتلئة الجسم وضخمة الصدر تطلي شفتَيها بلونٍ أحمرَ زاهٍ، وسارت إلى جانب روي، وطوَّقته بذراعها. فخفتت ابتسامةُ كيزيا وانسحبت عائدةً إلى المطبخ. قالت تلك السيدة لروي: «هل معك سجائر يا حبيبي؟» «نعم، انتظري …» ثم تحسَّس روي جيبَ قميصه برفقٍ بحثًا عنها. وقال: «هل قابلتِ أخي باراك؟ باراك هذه آمي. وأنت تتذكَّرين أوما.» وجد روي السجائر وأشعل واحدةً لآمي. أخذت آمي نفسًا عميقًا وانحنت إلى الأمام باتجاه أوما، وهي تُطلِق دوائرَ من دخان السجائر وتقول: «بالطبع أتذكَّر أوما. كيف حالك؟ تبدين رائعة. ويُعجبني ما فعلتِه بشَعرك. حقًّا إنه يبدو … طبيعيًّا للغاية.» التقطت آمي زجاجة روي في حين اتجه هو إلى مائدة العشاء. وجذب لنفسه طبقًا وانحنى ليشمَّ الإناء الذي ينبعث منه البخار. ثم صاح متعجبًا: «خبز شباتي!» وهو يضع ثلاثة أرغفة من الخبز في طبقه. ثم صاح بمجرَّد أن رأى أوراق الكرنب: «سوكوما ويكي!» قبل أن يغرف بالملعقة مقدارًا كبيرًا في طبقه. وعاد وصاح مرةً أخرى: «أوجالي!» وهو يقطع قطعتَين كبيرتَين من كعكة الذرة. قلَّد برنارد والأطفال روي في كلِّ ما يفعل، وهم يُكرِّرون كلماته بنبرةٍ أكثرَ تردُّدًا. وحول المائدة كانت وجوه عمَّاتي وكيزيا تُشرق بالرضا. وكان ذلك هو أسعد مشهدٍ رأيتهم فيه منذ وصولي. وبعد العشاء، في حين كانت آمي تساعد عماتي في غسل الأطباق، جلس روي بيني أنا وأوما وأعلن أنه قد عاد وفي ذهنه مشروعات كبيرة. وقال إنه سيؤسِّس شركة استيراد وتصدير، ويبيع التحف الفنية في الولايات المتحدة. وقال: «الطبول. والمنسوجات. والمنحوتات الخشبية، هذه الأشياء ثمينة للغاية هناك. فتُباع في المهرجانات والمعارض الفنية ومحال التحف. وقد اشتريتُ بعض العينات بالفعل لآخُذها معي.» قالت أوما: «هذه فكرة رائعة.» وتابعت: «أرِني ماذا اشتريت.» طلب روي من برنارد أن يُحضِر له عدة حقائب بلاستيكية وردية اللون من إحدى غرفتَي النوم. وبداخل الحقائب كان هناك العديد من المنحوتات الخشبية، تلك التحف البارعة التي تُنتَج بكميات كبيرة وتنفد بسرعة؛ إذ يُقبِل عليها السياح بشدة في وسط المدينة. قلَّبَت أوما التُّحَف في يدِها وارتسمت على وجهها أمارات الارتياب. وسألت: «كم دفعتَ ثمنًا لهذه الأشياء؟» «فقط ٤٠٠ شلن لكلٍّ منها.» «هذا كثير للغاية يا أخي! أظن أنك خُدِعت. لماذا تركته يدفع كلَّ هذا يا برنارد؟» هزَّ برنارد كتفَيه. وبدا أن تعليقها جرح مشاعرَ روي قليلًا. ثم قال وهو يُعيد التحف مرة أخرى إلى غلافها: «قلتُ لك إنها مجرد عينات.» وتابع: «استثمار، حتى أعرف ماذا يريد السوق. فلا يمكنك كسبُ نقود إلا إذا أنفقتَ أولًا، أليس كذلك يا باراك؟» «هكذا يقولون.» وسرعان ما عادت حماسة روي. وقال: «أترى؟ بمجرد أن أعرف متطلبات السوق سأرسل الطلبات إلى زيتوني. وستكبر تجارتنا رويدًا رويدًا. ثم عندما يكون لدَينا نظامٌ ثابت يمكن لبرنارد وآبو العمل في الشركة. أليس كذلك يا برنارد؟ يمكنك أن تعمل معي.» أومأ برنارد برأسه إيماءةً غير واضحة. فنظرت أوما إلى أخيها الصغير نظرةً مُتفحِّصة، ثم عادت إلى روي. وقالت: «ما المشروع الكبير الآخر؟» ابتسم روي. وقال: «آمي.» «آمي؟» «آمي. سأتزوَّجها.» «ماذا؟ كم مضى من الوقت منذ آخِر مرةٍ رأيتها؟» «عامان. ثلاثة أعوام. ما الذي يهم في هذا؟» «إنك لم تحظَ بما يكفي من الوقت لتُفكِّر في هذه المسألة.» «إنها امرأة أفريقية. هذا هو ما أعرفه! وهي ستفهمني. إنها ليست مثل تلك النساء الأوروبيات اللائي يُجادلن أزواجهن دائمًا.» أومأ روي مؤكدًا، ثم قفز من على مقعده كما لو أن خيطًا غيرَ مرئي يسحبه، واتجه إلى المطبخ. ثم رفع زجاجة الجِعَة باتجاه السقف وهو يُمسِك آمي بإحدى ذراعَيه. «اسمعوا جميعًا! بما أننا جميعًا هنا فيجب أن نشرب نَخبًا! نَخب كلِّ مَن ليسوا معنا! ونَخب نهاية سعيدة!» ثم بتعمُّدٍ جادٍّ بدأ يسكب الجِعَة على الأرض. فتناثر نصفها على الأقل على حذاء أوما. صاحت أوما وهي تقفز إلى الخلف: «اللعنة!» وتابعت: «ماذا تفعل؟» فقال روي بسعادة: «يجب أن يشرب الأجداد.» وتابع: «هذه هي الطريقة الأفريقية.» جذبت أوما منديلًا لتمسح الجِعَة من على ساقَيها. وقالت: «هذا في الخارج يا روي! وليس في منزل أحد! في بعض الأحيان تكون شديد الإهمال! مَن سيُنظِّف هذا الآن؟ أنت؟» كان روي على وشك أن يُجيبها عندما ظهرت جين مسرعةً ومعها قطعة قماش قديمة في يدِها. وقالت وهي تمسح الأرض: «لا تقلق، لا تقلق.» وتابعت: «إننا سعداء لأن لدَينا هذا المنزل.» وكان من المقرَّر أن نخرج جميعًا لنرقُص بعد العشاء في ملهًى مجاور. وعندما نزلتُ أنا وأوما قبل الآخرين سمعتُها تتمتم ببعض الكلمات في الظلام. ثم قالت لي: «تبًّا لكم يا أبناء أوباما!» وتابعت: «تفلتون بأي شيءٍ تفعلونه! هل لاحظتَ كيف يُعاملونه؟ ففي نظرهم، لا يمكنه أن يُخطئ. مثل تلك المسألة مع آمي. إنها مجرد فكرة انبثقت في ذهنه لأنه يشعر بالوحدة. أنا لا أحمل أية ضغائن تجاه آمي، ولكنها تُباريه في عدم تحمُّل المسئولية. وعندما يكونا معًا تزداد الأمور سوءًا. ووالدتي وجين وزيتوني، جميعهن يعلمنَ هذا. ولكن هل سيُخبرنَه شيئًا؟ كلَّا. خوفًا من أن يُغضبوه، حتى إذا كان ذلك لمصلحته.» فتحت أوما باب السيارة ونظرت وراءها على باقي أفراد العائلة. كانوا قد ظهروا لتوِّهم من خلف ظلال المبنى السكني، وجسد روي يرتفع فوقهم جميعًا مثل شجرة، وذراعاه مفرودتان مثل أغصان الشجر فوق كتفَي عمتَيه. وقد خفَّفت رؤيته من الحدة على وجه أوما قليلًا. وقالت وهي تُدير محرِّك السيارة: «نعم، أظن أن هذا ليس خطأه.» وتابعت: «أترى كيف يكون معهم. لقد كان الطابع الأُسري يميِّزه عني طيلةَ حياته. فهم لا يشعرون أنه سيُصدِر أي آراء عنهم وهم برفقته.» ••• اتضح أن الملهى، جاردن سكوير، مكان مُنخفض السقف خافت الإضاءة. وكان بالفعل مكتظًّا عندما وصلنا، ورائحة الهواء تفوح بالسجائر. وجميع الزبائن تقريبًا من السود؛ حشد من الموظفين الكبار السنِّ والسكرتارية وموظفي الحكومة تجمَّعوا بعد انتهاء العمل حول مناضدَ متأرجِحة من الفورميكا. ضمَمْنا معًا منضدتَين خاويتَين بعيدًا عن المسرح الصغير وأخذ النادل طلباتنا. وجلست أوما إلى جوار آمي، ودار بينهما هذا الحوار: «آمي. أخبرني روي أنكما تُفكِّران في الزواج.» «نعم، أليس هذا رائعًا! إنه ممتع للغاية! وعندما يستقر يقول إنني يمكنني الذهاب والعيش معه في أمريكا.» «ألا تقلقين من ابتعادكما عن بعض؟ أقصد …» «نساء أخريات؟» ثم ضحكت وغمزت لروي. قالت: «أصدُقُكِ القول إنني لا أهتم.» وألقت بذراعها الممتلئة حول كتف روي. وقالت: «ما دام يُحسِن معاملتي فيمكنه فعلُ ما يريد. أليس كذلك يا حبيبي؟» احتفظ روي بنظرةٍ جامدة على وجهه كما لو أن الحوار لا يُهمُّه. وكان يبدو عليه هو وآمي تأثير احتساء الكثير من الجِعَة، ورأيت جين تختلس نظرة قلقٍ إلى كيزيا. فقررتُ أن أُغيِّر الموضوع وسألت زيتوني هل جاءت لملهى جاردن سكوير من قبل. فقالت زيتوني وهي ترفع حاجبَيها على سؤالي غير المناسب: «دعني أخبرك شيئًا يا باري، إذا وُجِدَ مكان فيه رقصٌ فأنا قد ذهبتُ إلى ذلك المكان. وسيُخبرك الناس هنا أنني بطلة الرقص. ما رأيك يا أوما؟» «زيتوني هي الأفضل.» أمالت زيتوني رأسها بفخر. قالت: «أرأيت؟ حقًّا يا باري عمَّتُك يمكنها الرقص! أتريد أن تعرف مَن كان أفضل شريك لي في الرقص؟ إنه أبوك! ذلك الرجل كان يحب الرقص فعلًا. وقد اشتركنا معًا في الكثير من المسابقات عندما كنا شبابًا. في الحقيقة سأُخبرك قصةً عن رقصه. كان ذلك عندما جاء إلى المنزل في أليجو ذات مرةٍ لزيارة جَدك. وقد وعد في ذلك المساء أن يقوم ببعض الأعمال لأبي، لا أذكر ماذا كانت بالضبط، ولكن بدلًا من تنفيذ عمله، خرج ليُقابل كيزيا ويصطحبها ليرقصا. أتذكُرين يا كيزيا؟ كان ذلك قبل أن يتزوَّجا. وأردتُ أن أذهب معهما، لكن باراك قال إنني صغيرة للغاية على ذلك. على أية حال عادا إلى المنزل في وقتٍ متأخر في تلك الليلة، وكان باراك قد أسرف في احتساء الجِعَة. وحاول أن يُدخِل كيزيا خلسةً إلى كوخه لكن أبي كان لا يزال مُستيقظًا وسمع أصوات أقدامِهما في المجمع. ومع أن جَدك كان كبير السن فقد كانت حاسَّة السمع لدَيه قوية جدًّا. لذا فقد صاح على الفور مُناديًا باراك أن يأتي. وعندما دخل باراك لم يتفوَّه أبي بكلمة. كان فقط ينظر إلى باراك ويتنفَّس بأصواتٍ عالية مثل ثور غاضب. همف، همف! كل هذا وأنا أختلس النظرَ إليهما عبر نافذة منزل أبي؛ لأني كنتُ واثقةً أن أبي سيضرب باراك وكنتُ لا أزال غاضبة من باراك لأنه لم يَدعني أذهب إلى قاعة الرقص. لم أصدِّق عينيَّ فيما حدث بعد ذلك. فبدلًا من أن يعتذِر باراك عن عودته إلى المنزل في ساعةٍ متأخرةٍ اتجه إلى الفونوغراف الخاص بأبي وشغَّل أسطوانة! ثم استدار وصاح مُناديًا على كيزيا التي كانت تختبئ في الخارج. وصاح: «أيتها المرأة! تعالي إلى هنا!» وعلى الفور دخلت كيزيا إلى المنزل وهي ترتعِد خوفًا حتى إنها لم تستطِع الرفض، فأخذَها باراك بين ذراعَيه وبدأ يرقُص ويرقُص معها في منزل أبي، كما لو أنه يرقص في قاعة رقصٍ في قصر.» هزَّت زيتوني رأسها وضحكت. وقالت: «حسنًا … لم يُعامِل أحدٌ جَدَّك بهذه الطريقة قط، ولا حتى باراك. وكنتُ واثقةً بأن باراك سيتلقَّى ضربًا مُبرحًا على فعْلته هذه. ومرَّ وقت طويل دون أن ينبس جَدك ببنت شفة، فقط جلس يُشاهد ابنه. ثم صاح جَدك مثل الفيل بصوتٍ أعلى من صوت باراك. قال: «أيتها المرأة! تعالي إلى هنا.» وعلى الفور هُرِعت أُمي، التي تخاطبونها الآن بلقب الجَدة، من الكوخ الخاص بها حيث كانت تُصلح الملابس. وسألت لماذا يصيح الجميع، فنهض جَدك ومدَّ يده. فهزَّت أُمي رأسها واتهمت جَدَّك بأنه يحاول السخرية منها لكن أبي أصرَّ، وسرعان ما أصبح الأربعة يرقصون في الكوخ، والجِدية جليَّة على وجه الرجُلَين، وكِلا السيدتَين تنظر إلى الأخرى كما لو أنهما واثقتان بأن زوجيهما قد أصابهما مسٌّ من الجنون.» ضحكنا جميعًا على القصة وطلب روي جِعَةً مرة أخرى لنا جميعًا. وبدأتُ أطرح على زيتوني مزيدًا من الأسئلة عن جَدنا، لكن في تلك اللحظة، صعدت الفِرقة على المسرح. كانت تبدو رثَّة الهيئة في البداية، لكن بمجرد أن بدأت العزف تغيَّر حال المكان تمامًا. وعلى الفور بدأ الناس يتدفَّقون على ساحة الرقص يرقصون على أنغام موسيقى السوكوس الأفريقية. وجذبت زيتوني يدي وروي أخذ يدَ أوما، وآمي أخذت يد برنارد، وعلى الفور كنا جميعًا نرقص والأذرع والأوراك والأرداف تتمايل برفقٍ حتى تصبَّبنا عَرقًا، الجميع يرقص؛ طوال القامة شديدو السواد من قبيلة لوو، والسمر من كيكويو، وأفراد من قبائل كامبا وميرو وكالينجين، الجميع يبتسِم ويصيح ويستمتِع بوقته. وألقى روي ذراعَيه على رأسه ليقوم بحركةٍ بطيئة غيرِ عادية حول أوما التي كانت تضحك على حماقة أخيها، وفي تلك اللحظة رأيتُ في وجه أخي النظرةَ نفسها التي رأيتها قبل سنوات طويلة في شقة جَدي وجَدتي في هاواي عندما كان أبي يُعلِّمني الرقص، نفس نظرة الحرية الواضحة المطلقة. وبعد ثلاث أو أربع رقصاتٍ تركت أنا وروي شركاءنا في الرقص وحملنا الجِعَة إلى الفناء المفتوح في الخلف. كان الهواء البارد يُداعِب أنفي وشعرتُ أنني ثَمِلٌ نوعًا ما. وقلت: «إنه لشيء رائع أن أكون هنا.» قال روي: «نعم، مثلما يقول الشعراء.» ضحك روي وهو يرتشِف من كوب الجِعَة الخاص به. «كلَّا، حقًّا أنا أعني هذا. من الرائع أن أكون معك ومع أوما ومع الجميع. كما لو أننا …» وقبل أن أنتهي سمعنا صوت زجاجةٍ تتحطَّم على الأرض من خلفنا. فاستدرتُ ورأيت رَجُلَين على الجانب الآخر من الفناء يدفعان رجلًا ثالثًا أصغر حجمًا على الأرض. وبدا أن الرجل الذي وقع على الأرض يُغطي جرحًا في رأسه بإحدى يدَيه، ويحاول بالذراع الأخرى أن يحمي نفسه من هراوة تتحرَّك يمنةً ويسرة. تقدَّمتُ خطوة للأمام، لكن روي جذبني إلى الخلف. وهمس قائلًا: «لا تتدخَّل فيما لا يخصُّك يا أخي.» «لكن …» «قد يكونان من الشرطة. وأنا أقول لك يا باراك أنت لا تعرف كيف يكون قضاء ليلة في سجن نيروبي.» في ذلك الوقت كان الرجل الذي على الأرض يلتفُّ حول نفسه وجسده يتكوَّر محاولًا حماية نفسه من الضربات التي تنهال عليه عشوائيًّا. ثم فجأة — مثل حيوان أسير وجد ثغرةً ينفذ منها — قفز الرجل فجأة واقفًا على قدمَيه وقفز على إحدى الطاولات ليتسلَّق السياج الخشبي. بدا مُهاجماه كأنهما يفكران في مطاردته، لكن من الواضح أنهما قرَّرا أن الأمر لا يستحق. ولاحظ أحدهما وجودي أنا وروي لكنه لم يقُل شيئًا، وعادا معًا إلى الداخل مرةً أخرى، وفجأة شعرتُ أنني في كامل وعيي ومُتزن تمامًا. قلت: «كان هذا بشعًا.» «حسنًا … إنك لا تعرف ماذا فعل الرجل الآخر أولًا.» حككتُ مؤخرة عنقي. وسألت: «متى دخلتَ إلى السجن؟» ابتلع روي جرعةً كبيرة من الجِعَة وترك جسده يسقط على أحد المقاعد المعدنية. وقال: «الليلة التي تُوفي فيها ديفيد.» جلستُ إلى جواره وأخبرني بالقصة. قال إنهما قد خرجا لاحتساء الشراب والبحث عن صحبة. واستقلَّا دراجة روي البخارية إلى ملهًى قريب، وهناك قابل روي فتاة. أُعجب بها كثيرًا وبدآ يتحدَّثان. واشترى لها جِعَة، لكن قبل أن يمرَّ وقتٌ طويل جاء رجل آخر واعترض طريق روي. وقال إنه زوجها وجذبها من ذراعها. قاومته الفتاة ووقعت على الأرض فطلب روي من الرجل أن يتركَها وشأنها. فتشاجرا. وجاءت الشرطة ولم يكن مع روي أوراق هويته؛ لذا اصطحبوه إلى قسم الشرطة. وألقوا به في زنزانة وتركوه عدة ساعات حتى تمكَّن ديفيد في النهاية من الدخول إليه ورؤيته. قال له ديفيد: «أعطِني مفاتيح الدرَّاجة البخارية وسأذهب لإحضار الأوراق التي تحتاج إليها.» فقال له روي: «كلَّا. عُد إلى المنزل فقط.» «لا يمكنك البقاء هنا طَوال الليل يا أخي. أعطني المفاتيح …» توقَّف روي عن الحديث. وجلسنا نُحدِّق في الظلال وهي مُتضخمة الحجم وباهتة عبر السياج الشبكي. ثم قُلتُ في النهاية: «لقد كان حادثًا يا روي.» وتابعتُ: «إنه لم يكن خطأك. يجب أن تنسى هذا الأمر.» وقبل أن أقول أيَّ شيءٍ آخر سمعتُ آمي تصيح من خلفنا وصوتها يعلو فوق الموسيقى قليلًا. قالت: «أنتما الاثنان! إننا نبحث عنكما في كل مكان!» أشرتُ لها أن تبتعِد لكن روي اندفع ناهضًا من على مقعده مما جعله يسقط على الأرض. قال وهو يُحيط خَصْرها بذراعه: «تعالَي يا امرأة.» وتابع: «هيا لنذهب ونرقص.»
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/18/
الفصل الثامن عشر
في الخامسة والنصف مساءً بدأ القطار يشق طريقه مغادرًا محطة نيروبي القديمة للقطارات متجهًا غربًا إلى كيزيمو. كانت جين قد قرَّرت البقاء في المنزل، لكن باقي العائلة كان على متن القطار: كيزيا وزيتوني وأوما في مقصورة واحدة، وأنا وروي وبرنارد في المقصورة التالية. وبينما انشغل الجميع بوضْع أمتعتِهم هززتُ أنا زجاج النافذة فاتحًا إيَّاها ونظرت إلى الخارج إلى منحنى خطوط السكك الحديدية من خلفنا، وهو خط السكة الحديدية الذي ساعد على بدء تاريخ كينيا مع الاستعمار. كان خط السكة الحديدية أكبرَ عملٍ هندسي في تاريخ الإمبراطورية البريطانية في وقت بنائه، فطوله يصِل إلى ٦٠٠ ميل ويمتدُّ من مومباسا في المحيط الهندي إلى السواحل الشرقية لبحيرة فيكتوريا. وقد استغرق تنفيذ المشروع خمس سنوات، وحصد حياة عدة مئات من العمال الذين أحضرتهم الحكومة من الهند. وعندما انتهى إنشاؤه أدرك البريطانيون أنه لا يُوجَد مسافرون يمكنهم تغطية نفقات غرورهم. ومن ثَم تبِع ذلك دفع المستوطنين البِيض إلى قلب القارة غير المعروفة عن طريق تنفيذ عدة إجراءات مثل تجميع الأراضي التي يمكن أن تُستخدَم في المساعدة على إغراء الوافِدين الجدد، وزراعة المحاصيل النقدية مثل القهوة والشاي، وضرورة وجود جهاز إداري يمتدُّ على طول خط السكة الحديدية. هذا إلى جانب البعثات التبشيرية والكنائس للتخلُّص من المخاوف التي تُولِّدها الأرض المجهولة. بدا ذلك تاريخًا عتيقًا. ومع ذلك كنتُ أعلم أن عام ١٨٩٥م، العام الذي بدأ فيه تنفيذ المشروع، هو أيضًا العام الذي وُلِد فيه جَدي. وقد كنا في تلك اللحظة نُسافر إلى أرض هذا الرجل نفسه: حسين أونيانجو. وقد جعل هذا التفكير تاريخ القطار يعود حيًّا إلى ذهني، وحاولتُ تخيُّل ما شعر به ذلك الضابط البريطاني على متن أول رحلةٍ يقوم بها القطار، وهو يجلس في مقصورته التي يُضيئها مصباحٌ يعمل بالكيروسين، وينظر إلى أميالٍ من الشجيرات التي تتراجع إلى الوراء مع سير القطار. هل تملَّكه إحساس بالنصر وثقة أن منارة الحضارة الغربية قد اخترقت الظلام الأفريقي أخيرًا؟ أم شعر بنذير سوء؛ إدراك مفاجئ أن المشروع بأكمله لم يكن إلا عملًا أحمق، وأن هذه الأرض وشعبها سيصمدان أكثر من الأحلام الاستعمارية؟ وحاولتُ تَخيُّل الإنسان الأفريقي على الجانب الآخر من النافذة الزجاجية وهو يشاهد هذا الثعبان المتلوِّي من المعدن الذي ينبعث منه دخان أسود يمر على قريته للمرة الأولى. تُرى هل كان ينظر إلى القطار بحسدٍ ويتخيَّل نفسه يجلس في يومٍ من الأيام في العربة نفسها التي يجلس فيها الرجل الإنجليزي، ويجد أعباء حياته قد خفَّت بعض الشيء؟ أم أنه قد ارتجف ورؤى الدمار والحرب تُداهِمه؟ لكن مُخيِّلتي خذلتني، وعُدت إلى المشهد الحالي، لم تَعُد هناك شجيرات وإنما أسطح بيوت وادي ماثار تمتدُّ إلى سفوح الجبال وراءها. وعندما مرَرْنا بإحدى الأسواق المكشوفة في الهواء الطلق، رأيتُ صفًّا من الصبية الصغار يلوِّحون للقطار. فلوَّحتُ لهم، وسمعتُ صوت كيزيا تقول شيئًا بلغةِ لوو من خلفي. فجذب برنارد قميصي فجأة. وقال: «إنها تقول إنك يجب أن تُبقي رأسك بالداخل. فهؤلاء الصبية سيقذفونك بالحجارة.» جاء أحد العاملين بالقطار ليأخذ طلباتنا الخاصة بفرش النوم، ويُخبرنا أن الطعام بدأ يُقدَّم؛ لذا ذهبنا جميعًا إلى عربة الطعام وجلسنا على طاولة. كانت العربة صورة للأناقة الذاوية: الألواح الخشبية الأصلية لا تزال كما هي لكنها باهتة، وأدوات المائدة الفضية حقيقية لكنها غير ملائمة تمامًا. والطعام رائع والجِعَة باردة، وبنهاية الوجبة غمرني شعور بالرضا. قلت: «كم يستغرق الوصول إلى هوم سكوير؟» وأخذت أمسح آخِرَ قطعة صلصة في طبقي. فقالت أوما: «طوال الليل إلى كيزيمو.» وتابعت: «ثم نستقلُّ حافلةً أو عربة ماتاتو من هناك، ربما لمدة خمس ساعات أخرى.» ثم قال روي مُوجهًا حديثه إليَّ وهو يُشعل سيجارة: «بالمناسبة، إنها ليست هوم سكوير. إنها هوم سكويرد.» «ماذا يعني هذا؟» ففسَّرت أوما: «إنه شيء اعتاد الأطفال في نيروبي قوله.» وتابعت: «فهناك المنزل المعتاد في نيروبي. ثم هناك منزلك في القرية حيث جذور أهلك. ومنشأ أجدادك. وحتى كبار الوزراء ورجال الأعمال يُفكِّرون بهذه الطريقة. فربما يكون لدى أحدهم قصر في نيروبي، ويبني كوخًا صغيرًا على أرضه في القرية. وقد لا يذهب إلى هناك سوى مرةٍ أو مرتَين في العام. لكن إذا سألته من أين هو، فسيُخبرك أن هذا الكوخ هو وطنه الحقيقي. لذا عندما كنا في المدرسة ونريد أن نُخبر أحدًا أننا سنذهب إلى أليجو، فهي في نظرنا المنزل مُضاعَف ضعفَين (مربَّع). وذاك هو المعنى نفسه الذي يوحي به اسم هوم سكويرد.» ارتشف روي من الجِعَة. ثم قال: «أمَّا أنت يا باراك فيمكنك أن تطلق عليه المنزل المضاعف ثلاثة أضعاف؛ أي هوم كيوبد.» ابتسمت أوما واتكأت للخلف على مقعدها واستمعت إلى إيقاع صوت القطار وهو يسير على قضبانه. وقالت: «هذا القطار يعيد إلى الذهن الكثيرَ من الذكريات. أتذكَّر يا روي كم كنَّا نتطلَّع للذهاب إلى الوطن؟ إنه جميل للغاية يا باراك! ليس مثل نيروبي. والجَدة إنها لطيفة للغاية! ستُحبها يا باراك. فلدَيها حسُّ دعابةٍ رائع.» فقال روي: «يجب أن تتمتَّع بحسِّ دعابةٍ بعد أن عاشت مع المُرْعِب لكل هذا الوقت.» «مَن المرعب؟» فقالت أوما: «هذا هو الاسم الذي اعتدنا أن نُطلِقه على جَدنا. ذلك لأنه كان وضيعًا للغاية.» هزَّ روي رأسه وضحك. وقال: «واو، لقد كان ذلك الرجل وضيعًا حقًّا! فكان يدعوك لتجلس على المائدة لتناول العشاء ويُقدِّم لك الطعام على أطباقٍ من الخزف الصيني مثل رجل إنجليزي. لكن إذا تفوَّهتَ بأي لفظةٍ غيرِ مناسبة، أو استخدمتَ الشوكة على نحوٍ غيرِ مناسب، طخ! يضربك بعصاه. وفي بعض الأحيان عندما يضربك لا تعرف حتى يحلَّ اليوم التالي لماذا ضربك.» أشاحت لهم زيتوني بيدِها مُعبِّرة عن عدم رضاها عن حديثهما. وقالت: «إنكم لم تعرفوه أيها الأطفال إلا عندما كان كبيرًا في السن وضعيفًا. عندما كان أصغر سنًّا كنتُ أنا ابنته المفضَّلة. كان يُدلِّلني. ولكن مع ذلك إذا أخطأتُ كنتُ أختبئ منه طوال اليوم، وكنت أشعر بخوفٍ شديد! أتعلمون كان صارمًا للغاية حتى مع ضيوفه. فإذا زاره أحد يذبح له الكثير من الدجاج تكريمًا له. لكن إذا خالفوا إحدى العادات مثل أن يغسلوا أيدِيَهم قبل شخص أكبرَ سنًّا فلم يكن يتردَّد في ضربهم، حتى الكبار منهم.» فقلت: «لا يبدو أنه كان محبوبًا للغاية.» هزَّت زيتوني رأسها. وقالت: «في الواقع، كان يحظى باحترام الجميع لأنه كان مزارعًا ماهرًا. وكان المجمع الخاص به في أليجو من أكبر المجمعات في المنطقة. وكان شديد المهارة في الزراعة، وبإمكانه زراعة أي شيء. وقد تعلَّم هذه التقنيات من البريطانيين عندما عمل لدَيهم طاهيًا.» «لم أكن أعلم أنه كان طاهيًا.» «كانت لدَيه أرضه الزراعية، لكنه عمل طاهيًا للبِيض وقتًا طويلًا في نيروبي. وعمل لدى أناسٍ مُهمِّين. وفي أثناء الحرب العالمية عمل خادمًا لدى أحد قادة الجيش البريطاني.» طلب روي جِعَةً مرةً أخرى. وقال: «ربما هذا ما جعله وضيعًا بهذا الشكل.» فقالت زيتوني: «لا أدري.» أظن أن أبي كان دائمًا بهذا الشكل. كان شديد الصرامة. لكنه عادل. سأخبركم قصةً أذكرها، وقعت أحداثها عندما كنتُ طفلة صغيرة: في أحد الأيام جاء رجل إلى طرف المجمع الخاص بنا ومعه مِعْزاة يربطها بحبل. وأراد أن يمرَّ من داخل أرضنا لأنه يعيش على الجانب الآخر من القرية، ولم يشأ أن يَستخدِم الطريق الذي يدور حولها. لذا قال جَدكم لهذا الرجل: «عندما تكون وحدَك يمكنك دائمًا المرور من أرضي. لكن اليوم لا يمكنك المرور لأن مِعْزاتك ستأكل زرعي»، ولكن الرجل لم يستمِع إلى حديثه، وأخذ يجادل جَدكم وقتًا طويلًا، قائلًا إنه سيكون شديد الحرص وإن مِعْزاتَه لن تمسَّ شيئًا من الزرع. وظل ذلك الرجل يتحدَّث كثيرًا، حتى إن جَدكم في النهاية نادى عليَّ وقال: «اذهبي وأحضري أليجو». كان يُطلِق اسم أليجو على البانجا الخاصة به.» «المِنْجل.» «نعم، المِنْجل. كان لدَيه مِنْجلان يحتفظ بهما حادَّان للغاية. كان يحكُّهما على حجرٍ طوال اليوم. وكان يُطلِق على أحدهما أليجو. وكان يُطلِق على الآخر كوجيلو. لذا ركضتُ عائدة إلى كوخه، وأحضرتُ له الذي يُطلِق عليه أليجو. وقال جَدكم للرجل: «انظر. لقد أخبرتك بالفعل أنه لا يمكنك المرور، لكنك عنيد للغاية ولا تريد الاستماع إليَّ. لذا سأعقد معك صفقة؛ يمكنك أن تمرَّ مع مِعْزاتك. لكن إذا تأذَّت ورقة عشب واحدة، بل لو نصف ورقة من زرعي، فسأذبح المِعْزاة.» ورغم صِغَر سنِّي في ذلك الوقت عرفتُ أن ذلك الرجل شديد الغباء لأنه قبِل عرْض والدي. وبدأنا نَسير؛ الرجل ومِعْزاتُه في المقدمة، ثم أنا وأبي نتبعه عن قرب. سرنا ربما ٢٠ خطوة عندما مدَّت المِعْزاة رقبتَها وبدأت تقضم ورقة. فجأة، قطع والدي رقبة المِعْزاة! أُصيب صاحب المِعْزاة بصدمةٍ وبدأ يصرخ. أخذ يقول: «مِعْزاتي! مِعْزاتي! ماذا فعلتَ يا حسين أونيانجو؟» وكلُّ ما فعله جَدكم هو أنه مسح المِنْجل وقال: «إذا قلتُ إنني سأفعل شيئًا، يجب أن أفعله وإلا كيف سيعلم الناس أن كلمتي صادقة؟» وبعد ذلك حاول صاحب المِعْزاة أن يُقاضي جَدكم، أمام مجلس كبار القبيلة. وقد شعروا جميعًا بالشفقة على الرجل لأن موت المِعْزاة لم يكن بالشيء الهين. لكن عندما سمعوا قصته صرفوه. فقد علموا أن جَدكم على حقٍّ لأن الرجل تلقَّى ما يكفي من تحذيرات.» هزَّت أوما رأسها. ثم نظرت إليَّ: «هل تتخيَّل يا باراك؟» وتابعت: «أُقسم أنني في بعض الأحيان أظن أنه هو أصل مشكلات العائلة. فهو الشخص الوحيد الذي كان أبي يهتمُّ برأيه. وهو الشخص الوحيد الذي كان يخشاه.» في ذلك الوقت كانت عربة الطعام قد خلت من الركَّاب، وكان النادل يتحرك جَيئةً وذهابًا بنفاد صبر، فقرَّرنا أن نعود إلى الداخل. كانت الأسِرَّة المثبتة في جدران عربتنا في القطار ضيقة، لكن الملاءات لطيفة وجذابة، وقد ظللتُ مُستيقظًا أستمع إلى الإيقاع المرتجف للقطار وإلى أصوات أنفاس إخوتي المنتظمة وأُفكِّر في تلك القصص عن جَدنا. لقد قالت أوما إنه أصل المشكلات. وقد بدا هذا صحيحًا بصورةٍ ما. وفكَّرتُ لو أنني استطعتُ أن أجمع أجزاء قصته معًا، فقد يتَّضِح أي شيء آخر. وفي النهاية غرقتُ في سباتٍ عميق، وحلمتُ أنني أسير في طريق في قرية. والأطفال — الذين كانوا لا يرتدون إلا خيوطًا من الخرز — يلعبون أمام الأكواخ المستديرة، ولوَّح لي العديد من الرجال الكبار السن وأنا أمرُّ. لكن عندما تقدَّمتُ أكثرَ بدأتُ ألاحظ أن الناس ينظرون خلفي بخوف، ويُهرعون بالدخول إلى أكواخهم وأنا أمرُّ. ثم ما لبثتُ أن سمعتُ صوت نَمِر وبدأتُ أركض إلى داخل الغابة وأطأ بقدمَيَّ الجذور والأشجار المقطوعة جذوعها والنباتات المتسلِّقة حتى لم أعُد قادرًا على الركض، وسقطتُ على ركبتيَّ في وسط أرضٍ مشرقة خاوية من الأشجار. استدرتُ وأنا ألهثُ محاولًا التقاط أنفاسي فرأيتُ أن النهار تحوَّل إلى ليل، ورأيتُ جسدًا عملاقًا يَلوح في الأفق يُناهز في طوله الأشجار ولا يرتدي إلا إزارًا وقناعًا مخيفًا. وكانت عيناه الخاليتان من الحياة تخترقانني، وسمعت صوتًا مدويًّا يقول إن الوقت قد حان، وبدأ جسدي بالكامل ينتفِض بعُنف مع الصوت، كما لو أنني أتمزَّق … انتفضت من نومي وأنا أتصبَّب عَرقًا، وارتطمَ رأسي في مصباح الحائط الذي يبرز فوق الفراش. وفي الظلام، بدأ قلبي يستعيدُ توازُنه رويدًا رويدًا، لكني لم أستطِع العودة للنوم مرةً أخرى. ••• وصلنا إلى كيزيمو مع شروق الشمس وقطعنا مسافة نصف ميل سيرًا على الأقدام إلى محطة الحافلات. كانت مزدحمة بالحافلات وعربات الماتاتو التي كانت تطلق نفيرها وتراوغ لاحتلال مكان في المحطة المتربة الموجودة في الهواء الطلق، وقد كُتب عليها بالطلاء أسماء مثل «لص الحب» و«طفل الأدغال». وجدنا حافلة مُزرية الهيئة إطاراتها مُتشقِّقة ومتآكِلة تتجه نحونا. دخلَتْ أوما إلى الحافلة أولًا ثم خرجت مرةً أخرى مُتجهِّمة. وقالت: «لا تُوجَد مقاعد.» فقال روي وسلسلة من الأيدي ترفع حقائبنا إلى سطح الحافلة: «لا تقلقي، هذه أفريقيا يا أوما … وليست أوروبا.» والتفت وابتسم للشابِّ الذي كان يجمع الأجرة. وقال: «يمكنك أن تعثر لنا على بعض المقاعد أليس كذلك يا أخي؟» أومأ الرجل برأسه. وقال: «لا تُوجَد مشكلة. هذه الحافلة درجة أولى.» وبعد ساعةٍ كانت أوما تجلس على حجري، ومعها سلةٌ من نبات اليام وعلى حِجرها طفلة شخص آخر. قلتُ وأنا أمسح خيطًا من اللعاب من على يدي: «إنني أتساءل كيف تبدو حافلات الدرجة الثالثة إذن.» دفعت أوما مرفق أحد الأشخاص الغرباء بعيدًا عن وجهها. وقالت: «لن تمزح هكذا عندما نصل لأول حفرةٍ في الطريق.» ولكن لحُسن الحظ كان الطريق معبَّدًا تعبيدًا جيدًا، وكانت المشاهد الطبيعية على جانبيه غالبًا شُجيرات جافة وتلال منخفضة، وسرعان ما حلَّت الأكواخ الطينية ذات الأسطح المخروطية الشكل المبنية بالقش محلَّ المباني المبنية من كتلٍ أسمنتية التي كانت تظهر من حينٍ لآخر. نزلنا من الحافلة في ندوري وقضينا الساعتَين التاليتَين نشرب المياه الغازية الدافئة ونشاهد الكلاب الضالَّة تنقضُّ بعضها على بعض في التراب، حتى ظهرت عربة ماتاتو أخيرًا لتنقلنا عبر الطريق الترابي نحو الشمال. وعندما كنَّا في طريقنا إلى أعلى المنحدَر الصخري لوَّح لنا أطفال حفاة الأقدام لكنهم لم يبتسِموا، وكان هناك قطيع من الماعز يجري أمامنا ليشرب من مجرًى مائي ضيق. ثم أصبح الطريق أوسع، وتوقَّفنا فجأةً في أرضٍ خالية من الأشجار. وهناك كان شابَّان يستظلَّان تحت ظل شجرة، وبمجرد أن رأونا ارتسمت الابتسامات على وجوههم. فقفز روي من الماتاتو ليضمَّ الرجُلَين بين ذراعَيه. وقال روي بسعادة: «باراك هذان عمَّانا. هذا يوسف» قالها وهو يُشير إلى رجلٍ قوي البنية بعض الشيء ذي شارب. ثم استأنف حديثه وهو يُشير إلى رجلٍ آخر أكبرَ حجمًا حليق الوجه: «وهذا سيد أصغر إخوة أبي.» قال سيد وهو يبتسِم لي: «لقد سمعنا الكثير من الأشياء الرائعة عنك.» وتابع: «مرحبًا يا باري. مرحبًا بك. تفضَّل ودعني أحمل حقائبك.» تبِعْنا يوسف وسيد عبر طريقٍ مُتعامِدٍ على الطريق الرئيسي، حتى عبرنا حاجزًا من السياجات المرتفعة ودخلنا إلى مجمعٍ كبير. وفي وسط المجمع منزل منخفض مستطيل الشكل له سطح من الحديد المضلع وحوائط أسمنتية انهارت من أحد الجوانب، تاركة الأساس المبني من الطمي مكشوفًا. والنباتات المتسلِّقة المعروفة باسم «الجهنمية» الحمراء والقرنفلية والصفراء بأزهارها، تمتدُّ على طول جانبٍ واحد في اتجاه خزان مياه أسمنتي كبير، وعلى الجانب الآخر من الأرض الترابية كوخ صغير مُستدير تصطفُّ به آنيةٌ خزفية حيث تنقر منها بضع دجاجات في أنغامٍ متعاقبة. ورأيتُ كوخَين آخرَين في الفناء العشبي الواسع الذي يمتدُّ خلف المنزل. وأسفل شجرة مانجو طويلة نظرت إلينا بقرتان نحيلتان حمراوان نظرةً سريعة قبل أن تعودا وتنهمِكا في تناول طعامهما. إنها هوم سكويرد. «آه أوباما!» هكذا صاحت سيدة ضخمة الجسد تضع شالًا على رأسها تخرج بخطًى سريعة من المنزل الرئيسي وتُجفِّف يدَيها في جانب جونلتها. كان وجهها يُشبِهُ وجه سيد، هادئًا وبارز العظام ولها عينان متألقتان ضاحكتان. وقد احتضنت أوما وروي بقوة كما لو أنها ستطرحهما أرضًا، ثم استدارت إليَّ وأمسكت يدي وصافحتني مصافحةً حارة. وقالت وهي تُحاول محاكاة الكلمة الإنجليزية: «مرحبًا». فقلت أنا: «مرحبًا» في لغة لوو. فضحِكَت وقالت شيئًا لأوما. قالت أوما: «إنها تقول إنها حلمت بهذا اليوم الذي ستُقابل فيه حفيدها. وتقول إنك أدخلتَ عليها سعادةً كبيرة. وتقول إنك عُدت أخيرًا إلى وطنك.» أومأت الجَدة وجذبَتْني في عناقٍ قبل أن تقودنا إلى داخل المنزل. كان بالمنزل نوافذ صغيرة تسمح بدخول قليلٍ من ضوء النهار، وليس به من الأثاث سوى بضعة مقاعد خشبية ومنضدة قهوة، وأريكة متهالكة. وعلى الجدران بعض إبداعات وذكريات العائلة: شهادة الدبلومة التي حصل عليها أبي من جامعة هارفارد، وصور له ولعمِّي عمر الذي هاجر إلى أمريكا منذ ٢٥ عامًا ولم يَعُد قط. وإلى جانبهما صورتان أقدمُ بدأ لونهما يتحوَّل للَّون الأصفر: الأولى لشابةٍ طويلة تشعُّ من عينَيها مشاعرُ غضبٍ مكبوتة وعلى حجرها طفلٌ ممتلئ الجسد وتقف إلى جوارها فتاة صغيرة، أما الصورة الثانية فلرجلٍ أكبرَ سنًّا يجلس على مقعدٍ له ظهرٌ عالٍ، ويرتدي قميصًا ورداءً قطنيًّا يلتفُّ حول الوسط (كانجا) ويضع إحدى رجلَيه فوق الأخرى مثل رجلٍ إنجليزي، وعلى حِجره ما يُشبه هراوة من نوعٍ ما ورأسها الكبير مُغلَّف بجلد حيوان. وقد منحت عظام وجنتَيه البارزة وعيناه الضيقتان وجهه لمحةً شرقية. وجاءت أوما لتقف إلى جواري. وقالت: «هذا الرجل هو جَدنا. والسيدة التي في الصورة هي جَدتنا الأخرى أكومو. والفتاة هي سارة. أما ذلك الطفل … فهو أبونا.» أمعنت النظر في الصور بعض الوقت، حتى لاحظت صورةً أخيرة على الحائط. صورة لسيدة بيضاء لها شعر أسود كثيف وعينان حالمتان مثل تلك الصور التي كانت تُزيِّن إعلانات كوكا كولا القديمة. وسألتُ ماذا تفعل هذه الصورة على الجدار، التفتت أوما إلى الجَدة التي أجابت بلغة لوو. فترجمت أوما قائلة: «إنها تقول إنها صورة لإحدى زوجات جَدك. وقد أخبر الناس أنه تزوَّجَها في بورما عندما كان في الحرب.» ضحك روي. وقال: «إنها لا تُشبِهُ نساء بورما، أليس كذلك يا باراك؟» هززتُ رأسي نفيًا. فقد كانت تُشبِهُ أُمي. جلسنا في غرفة المعيشة وأعدَّت لنا الجَدة بعض الشاي. وقالت إن الأمور تسير على ما يرام، مع أنها قد منحت قِطَعًا من الأرض إلى الأقارب لأنها هي ويوسف لا يستطيعان تولِّي العمل بها بأنفسهما. وتُعوِّض الدخل الذي كانت ستكسبه من الأرض عن طريق بيع وجبات الغداء للأطفال في المدرسة المجاورة، وتُحضِر البضائع من كيزيمو إلى السوق المحلية كلما توفَّر لديها أموال فائضة. أما مشكلاتها الحقيقية فتتعلَّق بسقف المنزل، وأشارت إلى بعض خيوط أشعة الشمس التي تمرُّ من السقف إلى الأرضية، إلى جانب حقيقةِ أنها لم تسمع أية أخبار عن ابنها عمر منذ ما يزيد عن عام. وسألتني هل رأيته، وأجبتُها بالنفي. فغمغمت قائلة شيئًا بسخط بلغة لوو، ثم بدأت تجمع الأكواب. همست أوما: «تقول عندما تراه أخبِره أنها لا تريد منه شيئًا، سوى أن يأتي ويزور والدته.» نظرت إلى الجَدة ولأول مرة منذ وصولنا كان كِبَر سنِّها واضحًا على ملامحها. وبعد أن أفرغنا أمتعتنا أشار روي إليَّ كي أتبَعَه إلى الفناء الخلفي. وعلى حافة حقل ذرة مجاور وأسفل شجرة مانجو رأيتُ بناءَين مُستطيلَين طويلَين من الأسمنت بارزَين من الأرض مثل تابوتَين خرجا من القبر. وهناك لافتة على أحد القبرين منقوش عليها: حسين أونيانجو أوباما (وُلد عام ١٨٩٥م ومات عام ١٩٧٩م). وكان الآخر مُغطًّى ببلاط أصفر كالذي يُستخدَم في الحمَّامات به فراغ مجرَّد على شاهد الضريح حيث من المفترض أن تُوجَد اللوحة، انحنى روي وأبعد صفًّا من النمل كان يسير على طول القبر. وقال: «ست سنوات.» وتابع: «ست سنوات ولا يزال لا يُوجَد شيء يقول مَن دُفن هنا. سأُخبرك شيئًا يا باراك، عندما أموت تأكَّد أن اسمي مكتوب على القبر.» وهزَّ رأسه ببطءٍ قبل أن يعود إلى المنزل. ••• كيف لي أن أصف مشاعرَ ذلك اليوم؟ يمكنني تذكُّر كل لحظةٍ في ذهني صورةً تقريبًا؛ أتذكَّر انضمامي أنا وأوما إلى الجَدة في سوق بعد الظهيرة، في المكان نفسه الذي أنزلتنا فيه عربة الماتاتو، فيما عدا أنه أصبح مكتظًّا بنساءٍ يجلسنَ على حصائر، وسيقانهم الناعمة سمراء اللون ممتدَّة أمامهنَّ من أسفل الجونلات الواسعة؛ وصوت ضحكاتهن وهن يُشاهدنني أساعد الجَدة في قطع سيقان الكرنب الأخضر الذي أحضرته من كيزيمو، والمذاق الحلو كالعسل لعود القصب الذي وضعَتْه إحدى النساء في يدي. وأتذكَّر حفيف أوراق الذرة، والتركيز على وجه عمَّيَّ، ورائحة عَرقنا ونحن نصلح ثقبًا في السياج الذي يحد الجانب الغربي من المنزل. وأتذكَّر كيف جاء بعد الظهيرة صبيٌّ اسمه جودفري إلى المجمع، وهو صبي قالت أوما إنه يمكث مع الجَدة لأن أُسرته تعيش في قريةٍ ليست بها مدرسة، وأتذكَّر خطوات جودفري المضطربة وهو يطارد ديكًا أسود كبيرًا عبر أشجار الموز والببايا، وتقطيب ما بين حاجبَيه الصغيرَين والطائر يضرب بجناحَيه ليُفلتَ من يدَيه، والنظرة في عينَيه عندما جذبت جَدتي الديك من الخلف بإحدى يديها وجزَّت رقبته بالسكين فجأة، وهي نظرة تذكَّرتها وكأنها نظرتي أنا. ولم يكن ما شعرتُ به في تلك اللحظات مجرَّد سعادة. لكنه إحساس بأن كلَّ ما أفعله، كل لمسة ونفس وكلمة تحمل الثِّقل الكامل لحياتي، وأن دائرةً بدأت تنغلق، حتى إنني ربما يمكنني أخيرًا التعرُّف على نفسي وأُدرك أنني موجود هنا، الآن بالذات في مكانٍ واحد. لم أشعر بتغيُّر هذه الحالة إلا مرةً واحدة بعد ظهر يومٍ ما عندما سبقتنا أوما في طريق عودتنا من السوق كي تُحضر كاميراتها وتركتني أنا والجَدة وحدَنا في منتصف الطريق. وبعد صمتٍ طويل نظرت الجَدة إليَّ. وابتسمَتْ قائلة: «مرحبًا» باللغة الإنجليزية الركيكة. فأجبت تحيَّتها بلغة لوو. وهكذا نفدت الكلمات التي من الممكن أن نتبادلها، فحدَّقنا بأسفٍ إلى التراب حتى عادت أوما في النهاية. ثم التفتت الجَدة إلى أوما وقالت في نبرةٍ استطعتُ أن أفهمها إنه آلمها كثيرًا ألَّا تستطيع التحدُّث إلى حفيدها. فقلت: «أخبريها أنني أودُّ تعلُّم لغة لوو، لكن من الصعب أن أجد وقتًا في الولايات المتحدة.» وتابعتُ: «أخبريها كم أنا مشغول.» قالت أوما: «إنها تفهم هذا» وتابعَت: «لكنها تقول أيضًا إنه لا يمكن أن يكون المرء مشغولًا لدرجةِ ألا يعرف أهله.» نظرت إلى الجَدة، فأومأت إليَّ، وأدركتُ حينها أن السعادة التي كنتُ أشعر بها ستزول في وقتٍ ما، وأن ذلك أيضًا جزء من الدائرة: حقيقة أنَّ حياتي لم تكن أبدًا مُرتَّبة أو ثابتة، وأنه حتى بعد هذه الرحلة ستظلُّ الاختيارات الصعبة مطروحةً دائمًا. أسدل الليل ستائره سريعًا، وكانت الرياح تهبُّ برقةٍ في الظلام. ذهبتُ أنا وبرنارد وروي إلى خزان المياه واغتسلنا في الهواء الطلق، وأجسادنا التي يُغطيها الصابون تلمع تحت ضوء القمر الذي يوشِك أن يكون بدرًا. وعندما عُدنا إلى المنزل كان الطعام بانتظارنا، فأكلنا بشهيةٍ مفتوحة دون أن نتفوَّه بكلمة. وبعد العشاء، غادر روي وهو يُتمتِم أنه يريد زيارة بعض الأشخاص. وذهب يوسف إلى كوخه وأحضر جهاز ترانزستور قديمًا قال إنه كان ملكًا لجَدنا في يومٍ من الأيام. وأخذ يُحرك المؤشر حتى التقط موجةً بصوتٍ مُشوش لإذاعة البي بي سي، إلا أن صوت الإذاعة كان يجيء ويذهب وكانت كأنها هذيانٌ لأناسٍ من عالمٍ آخر. وبعد دقيقة سمعنا صوتَ عويلٍ غريب منخفض النبرة على مسافةٍ بعيدة. قالت أوما: «لا بد أن عدَّائي الليل في الخارج الليلة.» «مَن هم عدَّاءو الليل؟» قالت: «إنهم مثل مُشعوذِين.» وتابعت: «رجال أشباح. عندما كنَّا صغارًا كانت هاتان»، مشيرة إلى الجَدة وزيتوني «تُخبراننا قصصًا عنهم كي نُحسِن السلوك. وقالتا لنا إنه في ضوء النهار يكون عداءو الليل مثل عوام الناس. قد تمرُّ بهم في السوق، أو حتى تدعوهم إلى منزلك لتناول الطعام، ولا تعرف حقيقتهم أبدًا. ولكن ليلًا يأخذون شكل نمور ويتحدَّثون إلى جميع الحيوانات. وأقوى عدائي الليل يمكنهم أن يتركوا أجسادهم ويطيروا إلى أماكن بعيدة. أو يَسحرونك بنظرةٍ سريعة واحدة من عيونهم. وإذا سألتَ جيراننا، فسيُخبرونك أنه لا يزال هناك الكثير من عدائي الليل هنا.» «أوما، إنك تتحدَّثين كما لو أن هذا الأمر غير حقيقي.» وعلى الضوء المتقطِّع للمصباح الذي يعمل بالكيروسين لم أستطِع أن أُحدِّد ما إذا كانت زيتوني تمزح. وقالت: «دعني أُخبِرك أمرًا يا باري. عندما كنتُ صغيرةً سَبَّبَ عداءو الليل الكثير من المشكلات للناس. فكانوا يسرقون المعْز. وفي بعض الأحيان يأخذون حتى الماشية. جَدك كان الشخص الوحيد الذي لا يخاف منهم. أذكر أنه في يومٍ من الأيام سمع مَعْزه تُمأمئ في الحظيرة، وعندما ذهب ليطمئنَّ عليها رأى ما بدا مثل نَمِر ضخم يقف على رجلَيه الخلفيَّتَين مثل رجل. وكان بين فكَّيه مِعْزاة صغيرة، وعندما رأى جَدك، صرخ بلغة لوو قبل أن يهرُب إلى الغابة، فطارده جَدك لمسافةٍ بعيدة في التلال، لكن عندما كان على وشك أن يطعنه بمِنْجله طار عداء الليل ليستقرَّ فوق الأشجار. ولحُسن الحظ سقطت المِعْزاة عندما قفز، ولم تُصَب إلا بكسرٍ في رجلها. أعاد جَدك المِعْزاة إلى المجمع وأراني كيف أصنع جبيرة، وقد اعتنيتُ بتلك المِعْزاة بنفسي حتى استعادت صحتها.» عُدنا إلى هدوئنا مرةً أخرى، وأصبح ضوء المصباح خافتًا وبدأ الناس يأوون إلى فُرُشهم. وأحضرتِ الجَدة أغطيةً وسريرًا مُتنقلًا لشخصَين حتى ننام عليه أنا وبرنارد، واستلقَينا على السرير الضيق قبل أن نطفئ المصباح. كان جسدي يؤلمني من الإرهاق، وكنتُ أسمع غمغمة الجَدة هي وأوما تتحدثان داخل غرفة نوم الجَدة، وتساءلتُ إلى أين ذهب روي، وفكَّرتُ في البلاط الأصفر على قبر أبي. وهنا همس برنارد: «باري.» وتابع: «ألا تزال مُستيقظًا؟» «نعم.» «هل صدَّقتَ ما قالته زيتوني؟ أقصد عن عدائي الليل؟» «لا أعلم.» «أما أنا فلا أظن أن هناك ما يُسمَّى بعدائي الليل. إنهم على الأرجح لصوص يستغلون هذه القصص ليخيفوا الناس.» «قد تكون على حق.» ثم خيَّم علينا صمتٌ طويل. «باري؟» «ماذا؟» «ما الذي جعلك تعود إلى الوطن؟» «لا أدري يا برنارد. شيءٌ ما أخبرني أنه قد حان الوقت.» استدار برنارد على جانبه دون أن يُجيب. وبعد دقيقةٍ سمعتُ صوت شخيره الخافت إلى جواري، ففتحتُ عينيَّ في الظلام منتظرًا عودة روي. ••• في الصباح اقترح سيد ويوسف أن أذهب أنا وأوما في جولةٍ في المنطقة. وعندما تبعناهما عبر الفناء الخلفي ثم طريق ترابي عبر حقول الذرة والدخن استدار يوسف إليَّ وقال: «لا بد أن هذا يبدو شيئًا بدائيًّا لك مقارنةً بالمَزارع في أمريكا.» فأخبرته أنني لا أعرف الكثير عن الزراعة لكن، على حدِّ علمي، الأرض تبدو خصبة. قال يوسف وهو يومئ: «نعم، الأرض جيدة.» وتابع: «المشكلة هنا أن الناس غير مُتعلِّمين. ولا يفهمون الكثير عن التطور. لا يعلمون شيئًا عن التقنيات الزراعية المناسبة وأشياء من هذا القبيل. وأنا أحاول أن أشرح لهم معلوماتٍ عن تطوير رأس المال والري، لكنهم يرفضون الاستماع إليَّ. فأبناء قبيلة لوو عنيدون في هذا الشأن.» لاحظتُ أن سيد عبس في وجه أخيه لكنه لم يقُل شيئًا. وبعد بضع دقائق وصلْنا إلى مجرًى مائي صغير مُوحِل. وحينها صاح سيد مُحذرًا، فظهرت شابَّتان على الضفة المقابلة تُغطيان جسدَيهما برداءيهما وشعرهما لا يزال يلمع من حمَّام الصباح. وابتسمتا بخجلٍ واختَفَتا وراء بقعةٍ من أعشاب المستنقعات محاطة بالماء. وأشار سيد إلى السياجات التي تمتدُّ على طول المياه. وقال: «هنا تنتهي ممتلكاتنا من الأرض.» وتابع: «في الماضي، عندما كان أبي على قيد الحياة، كانت الحقول أكبر. لكن كما قالت أُمي، تركنا جزءًا من الأرض الآن.» قرَّر يوسف أن يعود عند هذه النقطة، لكن سيد قادني أنا وأوما على طول المجرى المائي لبعض الوقت، ثم عبر المزيد من الحقول من أمام مجمع سكني. وأمام بعض الأكواخ رأينا نساء يفرزنَ حبوب الدخن المفروشة على قطعٍ مُربَّعة من القماش، فتوقفنا لنتحدَّث إلى واحدةٍ منهن، وهي سيدة في منتصف العمر ترتدي ثوبًا أحمرَ باهتًا وحذاء خفيفًا أحمرَ اللون بدون رباط. تركت السيدة عملها جانبًا لتُصافحنا، وأخبرتنا أنها تتذكَّر أبانا فقد كانا يرعيان الماعز معًا في طفولتهما. وعندما سألتها أوما كيف حال الحياة هزَّت رأسها ببطء. وقالت بصوتٍ يخلو من المشاعر: «لقد تغيَّرت الحياة.» وتابعت: «فالشباب يرحلون إلى المدينة. لا يبقى هنا سوى الأطفال والعجائز من الرجال والنساء. ورحلت معهم الثروة كلها.» وفي أثناء حديثها جاء رجل عجوز يركب درَّاجة متهالكة إلى جانبنا ثم رجل طويل نحيل تنبعِث من أنفاسه رائحة الكحول. وعلى الفور التقطوا نبرةَ حديث المرأة عن صعوبة الحياة في أليجو والأطفال الذين تركوهم ورحلوا. وسألونا هل بإمكاننا أن نمنحهم شيئًا ليساعدهم على الحياة بعض الوقت، فمنحَتْ أوما كلًّا منهما بضعة شلنات قبل أن نستأذن وننصرف عائدين إلى المنزل. ثم قالت أوما بعد أن أصبحنا بعيدًا عن أسماعهم: «ماذا حدث هنا يا سيد؟ إنهم لم يكونوا يتسولون النقود بهذا الشكل قط.» انحنى سيد وأبعدَ بعض الأغصان الساقطة من بين صفوف الذرة. وقال: «إنك على حق.» وتابع: «أعتقد أنهم تعلَّموا هذا السلوك من سكان المدينة. فالناس يعودون من نيروبي أو كيزيمو ويقولون لهم: «إنكم فقراء.» ومن ثَم أصبح لدَينا هذه الفكرة عن الفقر. لم تكن هذه الفكرة موجودة هنا من قبل. انظر إلى والدتي، إنها لا تطلب شيئًا أبدًا، فدائمًا لديها ما تفعله. ولا شيء مما تفعله يجلُب لها الكثير من النقود، لكنها نقود على أية حال. وهذا يجعلها تشعر بالفخر. أي شخص يمكنه أن يفعل هذا، لكن الكثيرين هنا يُفضِّلون الاستسلام.» قالت أوما: «وماذا عن يوسف؟» وتابعت: «ألا يمكنه فعْل المزيد؟» هزَّ سيد رأسه. وقال: «أخي يتحدث بأسلوب الكتب، لكن يؤسفني أنه لا يحب أن يكون قدوة.» استدارت أوما إليَّ. وقالت: «أتعلم كان أداء يوسف حسنًا للغاية لبعض الوقت. كان أداؤه حسنًا في المدرسة أليس كذلك يا سيد؟ وتلقَّى العديد من فرص العمل الممتازة. لكنني لا أعلم ماذا حدث له. ترك الدراسة. والآن يمكث هنا مع الجَدة يقوم ببعض الأعمال البسيطة لها. كما لو أنه يخاف من محاولة النجاح.» فأومأ سيد. وقال: «أظن أن التعليم لا يُفيدنا كثيرًا إذا لم يكن ممزوجًا بالعَرق.» فكَّرتُ فيما قاله سيد ونحن نتابع السير. ربما يكون على حق، وقد تكون فكرة الفقر جُلِبت إلى هذا المكان؛ مقياس جديد للفقر والحاجة انتقل كالحصبة على يدِي أو يدِ أوما أو من خلال راديو يوسف القديم. وعندما نقول إن الفقر مجرَّد فكرة لا يعني أنه ليس موجودًا؛ فالأشخاص الذين قابلناهم للتوِّ لا يمكنهم إنكار حقيقة أن بعض الناس لديهم حمَّامات بداخل المنازل أو يأكلون اللحم كل يوم، أكثرَ مما يمكن لأطفال ألتجيلد إنكار وجود العربات السريعة أو المنازل المترفة التي تعرضها أجهزة التليفزيون. ولكن ربما يمكنهم مقاومة فكرة عجزهم. وفي ذلك الوقت كان سيد يُخبِرنا عن حياته: عن إحباطه لأنه لم يلتحِق قطُّ بالجامعة مثل إخوته الأكبر منه سنًّا بسبب نقص النقود؛ وعمله في «فيلق الشباب الوطني» وتكليفه بالعمل في مشروعات التنمية في أرجاء البلد، وهي مهمة محدودة عمرها ثلاثة أعوام على وشك الانتهاء. وقد قضى إجازتَيه السابقتَين يطرق أبواب الشركات المختلفة في نيروبي لكن دون نتائج إيجابية حتى ذلك الوقت. ولكن ظروفه لم تفُتَّ في عضده وهو واثق أن المثابرة ستُسبِّب النجاح في النهاية. قال سيد ونحن نقترب من منزل الجَدة: «الحصول على عملٍ هذه الأيام، حتى كموظفٍ بسيط، يتطلَّب أن تكون من ذوي المعارف، أو أن ترشو شخصًا برشوةٍ كبيرة. ولهذا أودُّ أن أؤسِّس عملي الخاص. سيكون شيئًا صغيرًا نعم. لكنه سيكون ملكي. وأظن أن هذا كان خطأ والدِكما. فمع عبقريته لم يكن لدَيه شيء يملكه قط.» ثم فكَّر لدقيقة. وقال: «بالطبع، لا فائدة من إهدار الوقت في الندم على أخطاء الماضي، ألستُ على حق؟ مثل ذلك النزاع على ميراث والدك. منذ البداية أخبرتُ أخواتي أن ينسينَ هذا الأمر. لا بد أن نستمر في حياتنا. ومع ذلك فإنهن لا يستمعنَ إليَّ. وفي الوقت نفسه إلى أين يذهب المال الذي يتنازعنَ عليه؟ إلى المحامين. أعتقد أن المحامين يستفيدون بشدةٍ من هذه القضية. ثمَّة مَثَل يَحضُرني هنا. يقول: عندما تتقاتل جرادتان، يكون الغراب دائمًا هو المستفيد.» فسألتُه: «هل هذا مَثَل تتداوله قبيلة لوو؟» فابتسم سيد ابتسامة خجلى. وقال: «لدَينا تعبيرات مماثلة هنا في لوو، لكن يجب أن أعترف أن هذا التعبير بالذات قرأته في كتابٍ من تأليف شينوا أشيبي، الكاتب النيجيري. فأنا أُحب كُتبه كثيرًا. فإنه يقول الحقيقة عن أزمة أفريقيا. الأزمة النيجيرية أو الكينية، كلها واحد. فإننا نشترك في أشياءَ أكثر من تلك التي تُفرِّقنا.» ••• عندما عُدنا كانت الجَدة وروي يجلسان خارج المنزل ويتحدَّثان إلى رجلٍ يرتدي حُلة ثقيلة. اتضح أن ذلك الرجل هو ناظر المدرسة المجاورة، وقد جاء لينقل لهم أخبار المدينة ويستمتع بتناول يخني الدجاج المتبقي من الليلة السابقة. ولاحظتُ أن روي قد حزم حقيبتَه فسألتُه إلى أين سيذهب. فقال: «إلى كندو باي.» وتابع: «الناظر يتَّجِه إلى هناك؛ لذا فسأذهب معه أنا وأُمي وبرنارد ونُعيد آبو إلى هنا. أنت أيضًا يجب أن تأتي معنا لتُلقي التحيةَ على العائلة هناك.» قرَّرت أوما أن تبقى مع الجَدة، لكنني أنا وسيد ذهبنا لنأخذ بعض الملابس ثم تكدَّسنا في سيارة الناظر العتيقة. واتضح أن الرحلة إلى كندو تستغرق عدة ساعات بالسفر عبر الطريق الرئيسي، وإلى الغرب كانت بحيرة فيكتوريا تظهر من حينٍ لآخر ومياهها الفضية الساكنة تَقلُّ لتتحولَ إلى مستنقعاتٍ خضراء مسطحة. وفي وقتٍ متأخِّر من بعد الظهيرة كنا نسير في الشارع الرئيسي في مدينة كندو باي، وهو شارع واسع مليء بالغبار تصطفُّ على جانبَيه محال مدهونة باللون الأصفر. بعد أن شكرنا الناظر ركبنا عربة ماتاتو، سارت بنا عبر متاهةٍ من الشوارع الجانبية، حتى اختفت جميع العلامات التي تدل على المدنية وعادت البيئة المحيطة بنا مرةً أخرى إلى مراعٍ مفتوحة وحقول ذرة. وعند مفترق أحد الطرق أشارت لنا كيزيا كي ننزل، وبدأنا نسير عبر وادٍ ضيقٍ عميق لونه يميل إلى الرمادي، في أسفله يتدفَّق نهر كبير بُني بلون الشيكولاتة. وعلى ضفة النهر رأينا نساءً يضعنَ ملابسَ مُبتلة على صخورٍ مكشوفة، وعلى سطحٍ منبسط فوقها قطيع من الماعز يأكل في مساحةٍ من الحشائش الصفراء، والعلامات السوداء والبيضاء والكستنائية على أجسادها مثل نبات حزاز الصخر في الأرض. انعطفنا في ممرٍّ أضيق ووصلنا إلى مدخل مجمع مُحاط بسياج. توقَّفَت كيزيا وأشارت إلى ما بدا مثل كومةٍ عشوائية من الصخور والعِصي وقالت شيئًا لروي بلغة لوو. فقال روي: «هذا قبر أوباما.» وتابع: «جَدنا الأكبر. وجميع الأرض الموجودة هنا يُطلَق عليها «أرض أوباما»، ونحن «أبناء أوباما». وقد نشأ أبو جَدنا الأكبر في أليجو، لكنه انتقل إلى هنا في شبابه. وهنا استقرَّ أوباما، ووُلِد جميع أبنائه.» «لماذا إذن عاد جَدنا إلى أليجو؟» التفت روي إلى كيزيا التي هزَّت رأسها. فقال روي: «عليك أن تسأل الجَدة هذا السؤال.» وتابع: أمي تظن أنه ربما لم يتَّفق مع إخوته. في الحقيقة لا يزال أحد إخوته يعيش هنا. إنه عجوز الآن، وربما يُمكننا زيارته.» وصلنا إلى منزلٍ خشبي صغير حيث كانت سيدة طويلة جميلة تكنس الباحة. ومن خلفها كان رجلٌ عاري الصدر يجلس في مدخل المبنى. غطَّت المرأة عينَيها من الضوء بساعدها ولوَّحت لنا، وببطء استدار الشابُّ باتجاهنا. فذهب روي ليُصافح المرأة التي كان اسمها سالينا ونهض الشابُّ لتحيَّتِنا. قال آبو: «أخيرًا جئتم لزيارتي؟» وهو يحتضن كلًّا منا. ومدَّ يدَه ليرتدي قميصه. وتابع: «سمعتُ أنكم قادمون مع باري منذ وقتٍ طويل.» قال روي: «نعم، إنك تعرف كيف تسير الأمور.» وتابع: «فنحن نستغرق بعض الوقت للتنظيم.» «أنا سعيد أنكم أتيتم. فأنا بحاجةٍ للعودة إلى نيروبي.» «إنك لا تُحب الحياة هنا، أليس كذلك؟» «إنها مملَّة للغاية يا رجل، لن تُصدِّق. لا يُوجَد تليفزيون. كما لا تُوجَد نوادٍ. وهؤلاء الناس في القرية أظن أنهم بطيئون. لولا قدوم بيلي لفقدتُ صوابي.» «هل بيلي هنا؟» «نعم، إنه هنا في مكانٍ ما …» ولوَّح آبو بيده بصورةٍ غامضة، ثم استدار إليَّ وابتسم. قال: «حسنًا، يا باري. ماذا أحضرتَ لي معك من أمريكا؟» مددتُ يدي داخل الحقيبة وأخرجتُ أحد أجهزة الكاسيت المحمولة التي أحضرتها له ولبرنارد. فقلَّبه في يدِه وعلى وجهه نظرة إحباط غير مُستترة. وقال: «إنه ليس سوني، أهذا صحيح؟» ثم استعاد سيطرته على نفسه سريعًا وضربني برفقٍ على ظهري. وقال: «هذا رائع يا باري. شكرًا لك! شكرًا لك.» أومأتُ له محاولًا ألا أشعر بالغضب. كان يقف إلى جوار برنارد وكان التشابُهُ بينهما مذهلًا: الطول نفسه، والنحافة نفسها، والملامح الهادئة المتناسِقة نفسها. ليس إلا أن يحلق آبو شاربه حتى يُصبحا توءمًا. فيما عدا شيء واحد … ما هو؟ نعم، إنها النظرة في عينَي آبو. ذاك هو السبب. ليس فقط الاحمرار الواضح الناتج عن تناول المخدرات، بل شيء أعمق، شيء ذكَّرني بالشباب في شيكاغو. نظرة انتباه وربما حذَر، نظرة شخص أدرك في وقتٍ مبكِّر من حياته أنه ظُلِم. تبعنا سالينا إلى داخل المنزل، وأحضرت لنا صينيةً عليها مياه غازية وبسكويت. وعندما وضعت الصينية دخل من الباب شابٌّ ضخم قوي البنية له شارب ويتَّسِم بالقدْر نفسه من جمال سالينا وطول روي، وبمجرد أن دخل صاح. قال: «روي! ماذا تفعل هنا؟» نهض روي وتعانقا. وأجاب: «أنت تعرفني. أبحث دائمًا عن الطعام. يجب أن أطرح عليك السؤال نفسه؟» «أنا أزور والدتي. فإذا لم آتِ إلى هنا كثيرًا تبدأ في الشكوى.» وقبَّل سالينا على وجنتِها وأمسك يدي يُصافحني بقوة. قال: «أرى أنك أحضرتَ معك قريبي الأمريكي! سمعتُ عنك كثيرًا يا باري، ولا أُصدِّق أنك هنا الآن.» ثم التفت إلى سالينا. قال: «هل قدَّمتِ الطعام لباري؟» «حالًا يا بيلي. حالًا.» ثم أخذت يدَ كيزيا والتفتت إلى روي. وقالت: «أترى ما يجب أن تتحمَّله الأمهات؟ كيف حال جَدتك؟» «كما هي.» أومأت برأسها وهي تمعن التفكير. قالت: «هذا ليس سيئًا.» خرجت من الغرفة هي وكيزيا وسقط بيلي على الأريكة إلى جانب روي. وقال: «ألا تزال مجنونًا أيها السيد؟ انظر إلى حالك الآن! إنك بدين مثل الثور الفائز في مسابقة! لا بد أنك تُمتِّع نفسك في الولايات المتحدة.» قال روي: «الوضع على ما يرام.» وتابع: «كيف حال مومباسا؟ سمعت أنك تعمل في مكتب البريد.» هزَّ بيلي كتفَيه. وقال: «الراتب معقول، والعمل ثابت ولا يحتاج إلى مجهودٍ ذهني كبير.» ثم التفت إليَّ. وقال: «دعني أُخبرك شيئًا يا باري، أخوك هذا كان طائشًا! في الحقيقة كنا جميعًا طائشين فيما مضى. قضينا معظم الوقت نصطاد الحيوانات التي لا يصطادها أحدٌ عادة، أليس كذلك يا روي؟» ثم ضرب روي على فخذه، وضحك. قال: «أخبرني، ماذا عن النساء الأمريكيات؟» ضحك روي، لكن بدا أن دخول سالينا وكيزيا بالطعام أراحه. قال بيلي وهو يضع طبقَه على المنضدة المنخفِضة أمامه: «أتعلم يا باري، كان أبوك في مثل عمر أبي. وكانا مُقربَين للغاية. وعندما نشأتُ أنا وروي كنا أيضًا في العمر نفسه؛ لذا فقد أصبحنا بطبيعة الحال مُقربَين للغاية. ودعني أُخبرك شيئًا، كان أبوك رجلًا عظيمًا. وكانت علاقتي به أقوى من علاقتي بأبي. فإذا تعرضتُ لمشكلةٍ كنتُ أذهب إلى عمِّي باراك أولًا. وأنت يا روي كنتَ تلجأ لأبي على ما أعتقد.» قال روي بهدوء: «كان الرجال في عائلتنا رائعِين مع أبناء الغير.» واستدرك: «ولكن مع أبنائهم أرادوا ألا يبدوا ضعفاء.» أومأ بيلي ولعق أصابعه. وقال: «أتعلم يا روي، أظن أن ما تقوله حقيقي. أما أنا فلا أريد ارتكاب الأخطاء نفسها. لا أريد إساءة معاملة عائلتي.» وبيدِه النظيفة أخرج بيلي محفظته من جيبه وأراني صورةً لزوجته وطفلَيه الصغيرَين. وقال: «أُقسِم لك أيها السيد، الزواج يستحوذ على المرء! يجب أن تراني الآن يا روي. لقد أصبحتُ هادئًا للغاية. رجل أُسَرِي. بالطبع هناك حدود لما يجب أن يتحمله الرجل. وزوجتي تعرف ألا تُعارضني كثيرًا، ما رأيك يا سيد؟» أدركتُ أن سيدًا لم يتحدَّث كثيرًا منذ أن وصلنا. وكان قد غسل يدَيه قبل أن يلتفت إلى بيلي. قال: «أنا لم أتزوَّج بعدُ؛ لذا ربما لا ينبغي أن أتحدَّث عن هذا الأمر. لكني أعترف أنني فكَّرتُ في هذه الأمور لبعض الوقت. وقد توصَّلت إلى أهم مشكلات أفريقيا، أتدرون ما هي؟» ثم توقَّف ليُدير عينَيه في الغرفة. واستأنف: «العلاقة بين الرجل والمرأة. فنحن الرجال نحاول أن نصبح أقوياء، لكن قوَّتنا عادة ما تُوضَع في غيرِ محلها. مثل مسألة أن يكون للرجل أكثر من امرأة. لقد كان لدى آبائنا زوجات كثيرة؛ لذا فنحن أيضًا يجب أن يكون لدَينا الكثير من النساء. لكننا لا نتوقَّف وننظُر إلى العواقب. ماذا يحدث لهؤلاء النساء؟ الغيرة تملأ قلوبهن. والأطفال لا يصبحون مقربِين من آبائهم. إنها …» ثم تدارك سيد نفسه فجأة وابتسم. وقال: «بالطبع أنا ليس لديَّ حتى زوجة واحدة؛ لذا ينبغي ألا أستمر في الحديث. فحيثما لا يمتلك المرء الخبرةَ فمن الحكمة أن يصمت.» فسألته: «هل هذا من أقوال أشيبي أيضًا؟» ضحك سيد وأمسك يدي. قال: «كلَّا يا باري. هذا قولي أنا.» عندما انتهَينا من تناول العشاء كان الظلام قد خيَّم، وبعد أن شكرْنا سالينا وكيزيا على الطعام تبِعنا بيلي إلى الخارج إلى ممرٍّ ضيق. وسِرنا أسفل ضوء القمر الذي كان بدرًا، ووصلنا سريعًا إلى منزلٍ أصغر حيث ظلال الفراشات تُرفرِف قبالة نافذة صفراء. طرق بيلي الباب، ففتح رجل قصير القامة على طول جبهته آثار جرح، وعلى شفتيه ابتسامة لكن عينيه تدوران في محجريهما مثل عيني رجل على وشك أن يُضرب. ومن خلفه كان يجلس رجل آخر طويل وشديد النحافة يرتدي ملابس بيضاء وله لحيةٌ صغيرة خفيفة وشارب جعله يُشبه النُّسَّاك الهنود. ومعًا بدأ الرجلان يصافحانا بحماس، ويتحدثان إليَّ بلغةٍ إنجليزية غير صحيحة. «أنا ابن أخيك!» هذا ما قاله الرجل الأبيض الشعر وهو يشير إلى نفسه. ضحك القصير وقال: «شعره أبيض ويدعوك عماه! هه! أتحب لُغته الإنجليزية؟ تفضَّل.» قادانا إلى منضدةٍ خشبية عليها زجاجة لا تحمل علامةَ اسمٍ مليئة بسائلٍ شفاف وثلاثة أكواب. رفع الأبيض الشعر الزجاجةَ وسكب بحرصٍ مقدار كأسَين تقريبًا في كل كوب. وقال بيلي وهو يرفع كوبه: «هذا أفضل من الويسكي يا باري.» وتابع: «إنه يجعل الرجل فحلًا.» وألقى بالشراب في حلقِه وتبِعتُه في ذلك أنا وروي. ثم شعرتُ بصدري ينفجر ويمطر الشظايا في معدتي. أعادوا ملء الأكواب لكنَّ سيدًا أخذ واحدًا؛ لذا رفع الرجل القصير الكوب الآخر أمام عينيَّ ورأيتُ وجهه مشوَّهًا عبر الكوب. قال: «أتريد المزيد؟» قلت وأنا أكتم السعال: «ليس الآن!» وتابعت: «شكرًا لك.» قال الأبيض الشعر: «ربما تكون أحضرتَ لي شيئًا؟» وتابع: «ربما قميصًا؟ أو حذاء؟» «أنا آسف … تركتُ كل شيء في أليجو.» ظل الرجل القصير يبتسِم كما لو أنه لم يفهم، وعرض عليَّ الشراب مرةً أخرى. هذه المرة دفع بيلي يد الرجل بعيدًا. وصاح: «اتركه!» وتابع: «يمكننا أن نشرب المزيد فيما بعد. يجب أولًا أن نرى جَدَّنا.» قادنا الرجلان إلى غرفةٍ خلفية صغيرة. وهناك أمام مصباحٍ يعمل بالكيروسين جلس بلا حَراك أكبرُ رجلٍ سنًّا رأيتُه في حياتي. شعره أبيض كالثلج، وبشرته مثل الورق المصنوع من جلد الماعز. كان بلا حَراك وعيناه مغلقتان وذراعاه النحيفتان تتكآن على ذراعي مقعده. ظننتُ أنه نائم، لكن عندما تقدَّم بيلي استدار رأس الرجل العجوز باتجاهنا، ورأيتُ صورة مطابقة للوجه الذي رأيتُه أمس في أليجو في الصورة الباهتة على حائط منزل الجَدة. شرح له بيلي مَن الحضور، فأومأ الرجل وبدأ يتحدَّث في صوتٍ منخفض مُرتجف بدا أنه يأتي من غرفةٍ تحت الأرض. وترجم روي: «يقول إنه سعيد أنك أتيت.» وتابع: «إنه أخو جَدك. ويتمنَّى أن تكون بخير.» قلتُ إنني سعيد برؤيته، فأومأ الرجل العجوز مرةً أخرى. «يقول إن الكثير من الشباب قد ضاعوا في … بلاد الرجل الأبيض. ويقول إن ابنه في أمريكا ولم يَعُد إلى الوطن منذ سنواتٍ طويلة. ويقول إن هؤلاء الرجال مثل الأشباح. عندما يموتون لن يحزنَ عليهم أحد. ولن يُوجَد أجداد ليُرحِّبوا بهم. ولهذا … يقول إنه من الأفضل أنك عُدت.» رفع الرجل العجوز يدَه فصافحتُه برفق. وعندما نهضنا لنُغادر قال الرجل العجوز شيئًا آخر، فأومأ روي برأسه قبل أن يغلق الباب خلفنا. قال روي: «يقول لك إذا سمعتَ أخبارًا عن ابنه يجب أن تُخبره أن يعود إلى وطنه.» ربما يكون هذا من تأثير الكحول القوي أو حقيقة أن الناس حولي كانوا يتحدَّثون بلغةٍ لم أكن أفهمها. ولكن عندما أحاول أن أتذكَّر باقي تلك الأمسية، يكون الأمر كما لو أني أسير في حلم. والقمر مُنخفِض في السماء، وصور روي والآخرين تندمج مع ظلال الذرة. ودخلنا منزلًا صغيرًا آخر ووجدْنا المزيدَ من الرجال، ربما ستة أو ١٠ رجال، فقد كان العدد يتغير باستمرارٍ بمرور الوقت. وفي منتصف منضدة خشبية خشنة ثلاث زجاجات إضافية، وبدأ الرجال يسكبون الكحول القوي في الأكواب بأسلوبٍ رسمي في البداية، ثم أسرع بإهمالٍ أكثر، وتنتقل الزجاجات الباهتة التي لا تحمل اسمًا من يدٍ ليد. وتوقَّفتُ عن احتساء الكحول بعد كوبَين لكن أحدًا لم يُلاحظ ذلك. الوجوه العجوز والشابة جميعها تتوهَّج مثل نبات القرع المضيء في ضوء المصباح المتغير وهم يضحكون ويصيحون، ويسقطون في أركانٍ مُظلمة، أو يُشيرون بعصبيةٍ من أجل الحصول على سجائر أو مشروب آخر، والغضب أو السعادة يصِلان إلى ذروتهما، ثم يختفيان بالسرعة نفسها، والكلمات بلغةِ لوو أو السواحيلية أو الإنجليزية تتطاير معًا في دوَّاماتٍ لا يمكن تمييزها، وأصوات تُداهِن من أجل الحصول على نقودٍ أو قمصان أو زجاجة الخمر، وأصوات تضحك وتبكي، والأيادي الممتدَّة، والأصوات الغاضبة المرتجفة لشبابي الفاتر، لهارلم والجزء الجنوبي؛ وأصوات أبي. لستُ واثقًا كم من الوقت مكثنا. لكني أعلم أنه عند نقطةٍ مُعينةٍ جاء سيد وهز ذراعي. وقال: «باري، إننا ذاهبون.» وتابع: «برنارد لا يشعر أنه بخير.» فأخبرته أنني سأذهب معهما، لكن عندما نهضتُ انحنى آبو باتجاهي وأمسك بكتفيَّ. وقال: «باري! إلى أين أنت ذاهب؟» «لأنام يا آبو.» «يجب أن تبقى معنا هنا! معي! ومع روي!» نظرتُ لأجد روي نائمًا على الأريكة. وتقابلَتْ عينانا، فأومأتُ باتجاه الباب. وفي تلك اللحظة غرقَتِ الغرفة في الصمت، كما لو أني أشاهد مشهدًا في التليفزيون واختفى الصوت. ورأيتُ الأبيض الشعر يملأ كوب روي، ففكَّرتُ في جذب روي وإخراجه من الغرفة. لكن انزلقَتْ عينا روي مبتعدةً عن عيني، وضحك واجترع الشراب بالكامل بتهليلٍ وابتهاج، تهليل كنتُ لا أزال أسمعه حتى بعد أن غادرتُ أنا وسيد وبرنارد وبدأنا نشقُّ طريقنا إلى منزل سالينا. قال برنارد بوهَنٍ ونحن نسير عبر الحقل: «هؤلاء الناس ثملون للغاية.» أومأ سيد والتفت إليَّ. وقال: «أخشى أن روي يُشبِه كثيرًا أخي الأكبر. أتعرف كان أبوك محبوبًا للغاية في هذه المناطق. كما كان معروفًا في أليجو. وكان كلما عاد إلى الوطن اشترى للجميع الشراب وظلَّ بالخارج حتى وقتٍ متأخِّر. والناس هنا قدَّروا هذا. وكانوا يقولون له: «أنت رجل عظيم الشأن، لكنك لم تنسنا.» وأظن أن تلك الكلمات كانت تُسعِده. أتذكَّر ذات مرةٍ أنه اصطحبني معه إلى مدينة كيزيمو في سيارته المرسيدس. وفي الطريق شاهدنا ماتاتو يُقِلُّ ركَّابًا، فقال لي: «سيد، سنكون سائقي ماتاتو هذا المساء!» وفي محطة الماتاتو التالية التقط الركَّاب المتبقِّين، وأخبرني أن أجمع الأجرة المعتادة منهم. وأظنُّ أننا كدَّسنا ثمانية أشخاص في سيارته. وقد اصطحبهم ليس إلى كيزيمو فقط، بل إلى منازلهم أو أينما أرادوا الذهاب. وكلما خرج أحدُهم من السيارة أعاد إليه نقودَه كاملة. لم يفهم الناس لماذا فعل هذا، وأنا أيضًا لم أفهم في ذلك الوقت. وبعد أن انتهينا ذهبنا إلى الحانة، وأخبر جميع أصدقائه بما فعلناه. وقد ضحك كثيرًا تلك الليلة.» توقَّف سيد وهو يختار كلماته بحرص. ثم استأنف: «هذا ما كان يجعل أخي رجلًا جيدًا، مثل هذه الأشياء. لكني أظن أيضًا أنه بمجرد أن يُصبح المرء شيئًا لا يمكنه التظاهر أنه شيء آخر. كيف يمكنه أن يكون سائق ماتاتو أو يظل خارج المنزل طوال الليل يحتسي الخمر، وهو يضع الخطة الاقتصادية لكينيا؟ فالمرء يخدم شعبَهُ بالقيام بما يُناسبه هو، أليس كذلك؟ وليس بفعلِ ما يظن الآخرون أنه يجب أن يفعله. ولكن أظن أن أخي، مع أنه كان يفخر باستقلال شخصيته، كان يخشى بعض الأشياء. يخشى ما قد يقوله الناس عنه إذا ما غادر الحانة في وقتٍ مبكر. يخشى أنه ربما لم يَعُد ينتمي إلى أولئك الذين نشأ معهم.» فقال برنارد: «لا أريد أن أكون بهذا الشكل.» نظر سيد إلى ابن أخيه ببعض الندم. وقال: «أنا لم أقصد الحديث بهذه الحرية يا برنارد. لا بد أن تحترم مَن هم أكبر منك سنًّا. إنهم هم مَن مهَّدوا الطريق أمامك حتى تكون حياتك أسهل. لكن إذا ما رأيتهم يقعون في شَرَكٍ ما فما الذي يجب أن تتعلَّمه؟» فقال برنارد: «أتجنَّب الوقوع في ذلك الشَّرَك.» «إنك على حق. ابتعِد عن ذلك الطريق، واصنع طريقَك الخاص.» وضع سيد ذراعَه حول كتفَي الشاب الصغير. وعندما اقتربنا من منزل سالينا نظرتُ خلفي. ولا أزال أرى الضوء الخافت لمنزل الرجل العجوز، وأشعر بعينَيه الكفيفتَين تخترقان الظلام.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/19/
الفصل التاسع عشر
استيقظ روي وآبو مصابَين بصداع شديد وظلَّا يومًا آخرَ مع كيزيا في مدينة كندو. وقررتُ أن أقوم برحلة العودة إلى هوم سكويرد — وأنا في حالةٍ صحية أفضل منهما شيئًا ما — بصحبة سيد وبيرنارد بالحافلة، لكنَّه كان قرارًا، سرعان ما ندمتُ عليه. اضطُرِرنا إلى الوقوف في الحافلة طوال الطريق، بالإضافة إلى أننا اضطررنا أيضًا إلى أن نخفض رءوسنا لأن سقف الحافلة مُنخفض. والأسوأ من ذلك أنني نزلتُ من الحافلة وأنا أعاني الإسهال. وكانت معدتي تنقلِب رأسًا على عقب فجأةً مع كل مطبٍّ في الطريق، وتؤلمني رأسي ألمًا عنيفًا مع كل انعطافةٍ هوجاء. ولذا فإنني، عندما رأتني الجَدة وأوما وقت وصولنا، مشيتُ سريعًا بحذرٍ ولوَّحت إليهما بشكلٍ مُقتضَب قبل أن أنطلق بأقصى سرعة عبر الفناء الخلفي للمنزل، مرورًا ببقرةٍ شاردة، إلى المرحاض الخارجي. وبعد ٢٠ دقيقة عُدت، أخذت أفتح عينَيَّ وأغمضهما لا إراديًّا كسجينٍ يخرج من زنزانته ويُقابله ضوء الشمس القوي. كانت السيدات جالساتٍ فوق حصير من القش يَستظللنَ بظلِّ شجرة مانجو؛ الجَدة تضفر شعر أوما، وتضفر زيتوني شعر ابنة الجيران. قالت أوما محاولةً ألا تبتسِم: «هل قضيتَ وقتًا طيبًا؟» قلت لها: «رائع.» وجلستُ بجانبهنَّ وشاهدتُ ما يفعلنَ إلى أن خرجَت سيدة عجوز نحيفة من المنزل وجلست بجانب الجَدة. كانت سيدةً في بداية السبعينيات من عمرها، لكنها ترتدي سترة قرنفلية اللون مُبهجة، وثنت ساقَيها إلى جانبها كأنها تلميذة خجولة. دقَّقت هذه السيدة النظر إليَّ وتحدَّثت مع أوما بلغةِ قبيلة لوو. «إنها تقول إنك لا تبدو في حالةٍ صحية طيبة.» ابتسمَت لي السيدة العجوز وبات من الواضح فقدانها سِنَّتين سُفليتَين من صفِّ أسنانها الأمامي. استطردَتْ أوما قائلةً: «هذه أخت جَدنا، واسمها دورسيلا.» وأضافت: «إنها أصغر أولاد جَدنا الأكبر أوباما. إنها تعيش في قريةٍ أخرى لكنها عندما سمعت … أوه! إنك لمحظوظ يا باراك لعدم تضفير شعرك واضطرارك إلى حلِّه. ماذا كنت أقول؟ نعم تذكَّرت … تقول دورسيلا إنها عندما سمعَت أننا حضرنا قطعَت كلَّ هذه المسافة لترانا. وهي تحمل تحيةَ كل أهل قريتها لنا.» صافحتُ دورسيلا وذكرتُ لها أنني قابلتُ أخاها الأكبر في كندو باي. فأومأتْ برأسِها وتحدثَت مرةً أخرى. ترجمَت لي أوما ما قالته وأخبرتني: «إنها تقول إن أخاها عجوز جدًّا.» وتابعت: «وإنه عندما كان أصغر سنًّا كان يُشبه جَدنا. وإنها في بعض الأحيان لم يكن باستطاعتها حتى التمييز بينهما.» أومأتُ لها وأخرجتُ قدَّاحتي. وبمجرد أن خرج اللهب منها صاحت الجَدة عمة أبينا وتحدَّثَت سريعًا مع أوما. «إنها تريد أن تعرف من أين ينبعث اللهب.» أعطيتُ القداحة لدورسيلا وأوضحتُ لها كيفية عملها وهي لا تزال تتحدَّث. وشرحَت لي أوما قائلة: «إنها تقول إن الأشياء تتغيَّر سريعًا وإن هذا يُربكها كثيرًا. وتقول إنها عندما رأت التليفزيون لأول مرة اعتقدَت أن الناس الموجودين داخله بوسعهم رؤيتها كما تراهم. وجعلها هذا تعتقد أنهم غير مُهذَّبين لأنها عندما تتحدَّث إليهم لا يردُّون عليها إطلاقًا.» ضحكَت دورسيلا ضحكةً خافتة بدعابةٍ واتجهت زيتوني إلى كوخ إعداد الطعام. وبعد دقائق خرجت زيتوني بكوبٍ في يدِها. سألتُها عن سيد وبيرنارد. قالت وهي تعطيني الكوب: «إنهما نائمان.» وتابعَت: «اشرب هذا.» شممتُ المشروب الأخضر المتصاعِد منه البخار. كانت تفوح منه رائحة عفنة. «ما هذا؟» «إنه مشروب مُستخلَص من نبات ينمو هنا. ثِق بي … سيمنع الإسهال في لمح البصر.» ارتشفتُ رشفةً في البداية بتردُّد. وكان مذاق المشروب سيئًا مثل شكله، لكنَّ زيتوني ظلَّتْ تُراقبني إلى أن تجرَّعتُ آخر قطرة. وقالت: «إن هذا المشروب من وصفات جَدك.» وتابعت: «لقد أخبرتُك من قبل أنه كان يعالج الناس بالأعشاب.» أخذتُ نفسًا من سيجارتي واستدرتُ تجاه أوما. وقلتُ لها: «اطلُبي من الجَدة أن تُخبرني مزيدًا من الأشياء عنه.» وتابعتُ: «أقصد عن جَدنا. إن روي يقول إنه نشأ بالفعل في كندو وبعدها انتقل إلى أليجو بمفرده.» أومأت الجَدة ردًّا على ترجمة أوما لمطلبي. وقلتُ لها: «هل تعرف لماذا غادر كندو؟» هزَّت الجَدة كتفَيها. وقالت أوما: «إنها تقول إن أهله في الأصل ينتمون لهذا المكان.» طلبتُ من الجَدة أن تسرد القصة من بدايتها. كيف جاء جَدنا الأكبر أوباما ليعيش في كندو؟ وماذا كان يعمل جَدنا؟ ولماذا هجرته جَدتي؟ وعندما بدأت تُجيب عن أسئلتي شعرتُ بأن الرياح هدأت ثم خبت كليةً بعد ذلك. وعندئذٍ عبرت مجموعة من السُّحب البعيدة فوق التلال. وأسفل الظل الظليل لشجرة المانجو — كانت الأيادي تضفر الشعور المتجعدة السوداء في صفوفٍ متساوية — سمعتُ كل أصواتنا تنسجم معًا؛ ثلاثة أجيال تتردَّد أصواتهم بانسيابية بعضهم مع بعض كتيارات نهرٍ يجري ببطء، وكانت أسئلتي شبيهةً بالصخور المعترضة لتيارات المياه، والأحداث التي تخلَّلَتِ الذكريات تفصل هذه التيارات بعضها عن بعض لكنَّ الأصوات دائمًا تعود إلى مجراها الوحيد لتسرد قصةً واحدة … في البدء كان ميويرو. ولا يُعرف مَن كان قبله. أنجب ميويرو سيجوما، وأنجب سيجوما أويني، وأنجب أويني كيسودهي، وأنجب كيسودهي أوجيلو، وأنجب أوجيلو أوتوندي، وأنجب أوتوندي أوبونجو، وأنجب أوبونجو أوكوث، وأنجب أوكوث أوبيُّو. أما عن السيدات اللاتي أنجبن كل هؤلاء، فإن أسماءهنَّ صارت في طي النسيان، وكان هذا معهودًا في أهلنا. عاش أوكوث في أليجو. لكن قبل ذلك كانت العائلات تقطع مسافاتٍ بعيدة من الجهة المعروفة الآن بأوغندا إلى أليجو، ومثلنا مثل قبيلة الماساي كنا نهاجر بحثًا عن الماء والمراعي لرعي قطعان الماشية. استقرَّ الناس في أليجو وبدءوا يزرعون المحاصيل. واستقرَّ آخرون من قبيلة لوو بجانب البحيرة وتعلَّموا صيد السمك. وفي الحقيقة كانت هناك قبائل أخرى تتحدَّث بلُغاتِ البانتو تعيش بالفعل في أليجو عندما انتقلت قبيلة لوو إلى المكان، ومِن ثَمَّ نشأت حروب هائلة بين القبائل. وكان جَدنا الأكبر أويني مشهورًا بأنه مُحارب عظيم وقائد لشعبه. لذا ساعد في هزيمة جيوش المجموعات العِرقية المتحدِّثة بلغات البانتو إلا أنه سُمح لهم باستمرار العيش في أليجو والزواج من قبيلة لوو، بالإضافة إلى أنهم علَّمونا أشياءَ كثيرة عن الزراعة وما يتعلَّق بالأرض الجديدة التي وطئتها أقدامنا. بمجرد أن بدأ الناس يستقرون ويزرعون الأرض اكتظَّت أليجو بالسكان. ولم يكن أوبيُّو — ابن أوكوث — أكبر أبنائه، وربما يكون هذا هو سبب قراره الانتقال إلى مدينة كندو باي. وعندما انتقل إلى هناك لم يكن يملك أرضًا، لكن في تقاليدنا كان بوسع أيِّ شخصٍ وضْع يدِه على أية أراضٍ غير مُستخدَمة؛ فالأراضي التي لم يكن يستخدمها أحد تعود ملكيتها إلى القبيلة؛ لذا لم تكن هناك أية مشكلة فيما فعله أوبيُّو. فعمل في مجمعات سكنية يملكها الغير ووضع يده على الأرض ليُقيم عليها مزرعته. إلا أنه مات قبل أن تُقبِل عليه الدنيا، مات في ريعان شبابه تاركًا زوجتَين وعددًا من الأطفال. تزوَّج أخو أوبيُّو إحدى زوجتَيه طبقًا للأعراف المتبعة عندئذٍ فأصبحت زوجة أخيه زوجته وأطفالها أطفاله. لكنَّ الزوجة الأخرى ماتت أيضًا وأصبح ابنها الأكبر — أوباما — يتيمًا وهو لا يزال صبيًّا. عاش أوباما أيضًا مع عمِّه لكنَّ الحالة المادية للعائلة كانت مُتعسرة لذا فعندما كبِر أوباما بدأ يعمل عند الآخرين كما فعل أبوه من قبله. كانت العائلة التي عمل لدَيها ثريةً وتملك ماشية كثيرة. ومع ذلك فإنهم أُعجبوا بأوباما لأنه كان مقدامًا ومزارعًا ماهرًا للغاية. وعندما تقدَّم إليهم للزواج من أكبر بناتهم وافقوا وقدَّم الأعمام في هذه العائلة المهر المطلوب. وعندما ماتت وافقوا على أن يتزوج أوباما الابنة الأصغر منها واسمها «نياوكي». فأصبح لأوباما في النهاية أربع زوجات أنجبنَ له أبناء كثيرين. امتلك أوباما قطعةً من الأرض وأصبح ناجحًا وثريًّا وأصبح يملك مجمعًا سكنيًّا فسيحًا والكثير من الماشية والمَعْز. وبفضل كِياسته وتحمُّله المسئولية أصبح شيخًا في القبيلة في مدينة كندو يطلب منه الكثيرون النصيحة. أما جَدك أونيانجو فإنه كان الخامس في ترتيب الأبناء الذين أنجبتهم نياوكي. وكانت دورسيلا التي تجلس معنا الآن أصغر أبناء آخر زوجات أوباما. كان ذلك قبل أن يأتي البِيض. وكان لكل عائلة المجمع السكني الخاص بها، لكنَّ العائلات جميعها كانت تعيش طبقًا لقوانين شيوخ القبائل. الرجال يملكون أكواخًا خاصة بهم وهم جميعًا مسئولون عن تنظيف أراضيهم وحرثها، بالإضافة إلى حماية الماشية من الحيوانات البرية وغارات القبائل الأخرى. أما الزوجات فلكل منهنَّ الأرض الزراعية الخاصة بها التي تحرثها هي وبناتها فقط. تطهو الزوجة الطعام لزوجها وتحضر المياه من مصادرها وتحافظ على الأكواخ ونظافتها باستمرار. ويتحكم شيوخ القبائل في المزروعات والمحاصيل كلها. وينظِّمون العائلات في التناوب على عملهم فتساعد كل عائلة الأخرى في فعْل هذه الأشياء، بالإضافة إلى أنهم يوزِّعون الأطعمة على الأرامل أو المبتلين في الأوقات العصيبة، ويوفِّرون الماشية لمن لا يملكها لتقديمها مهرًا حتى يستطيعوا الزواج، وحل كل المشكلات. كانت كلمة هؤلاء الشيوخ قانونًا يُتَّبع بحزم، ومَن يعصِ أوامرهم يُغادر المكان ويبدأ من جديد في قرية أخرى. لم يكن الأبناء يذهبون إلى المدرسة لكنهم كانوا يتعلمون بجانب آبائهم. وتُصاحب الفتيات أمهاتهنَّ ويتعلمنَ طحن الذرة البيضاء لعمل العصيدة، وزراعة الخضراوات، واستخدام الطين لبناء الأكواخ. أما عن الصبية فيتعلمون من آبائهم رعي الماشية واستخدام منجل البانجا والرمي بالرمح. وعندما تموت إحدى الأمهات تهتمُّ أية أم أخرى بطفلها وترعاه وتُرضِعه تمامًا كأحد أبنائها. وليلًا تأكل الفتيات مع الأم ويَتبع الأولاد الأبَ إلى كوخه ويستمعون إلى القصص المختلفة ويتعلمون تقاليد أهلهم. وفي بعض الأحيان يحضر عازف القيثار فيتجمَّع أهل القرية بأكملها للاستماع إلى أغانيه. كان يُنشِد إنجازات الماضي ويحكي عن المحاربين العظماء وشيوخ القبائل الحكماء. هذا بالإضافة إلى الإشادة بالمزارعين الماهرين أو السيدات الجميلات وتوبيخ الكسالى أو قساة القلوب. وتكشف هذه الأغاني عن إسهامات الجميع في القرية — الصالح منهم والطالح — وبهذه الطريقة ظلَّت تقاليد الأسلاف باقيةً في نفوس كلِّ مَن سمعها. وعندما يرحل الأطفال والسيدات من هذه التجمُّعات يجلس الرجال في القرية معًا لتقرير شئون القرية. كان جَدك أونيانجو غريبَ الأطوار منذ صباه. ويُعرف عنه أنه لا يطيق البقاء في مكانٍ واحد. فيَهيم على وجهه وحيدًا لأيامٍ كثيرة، وعندما يعود لم يكن يذكر أين كان. وفي جميع الأحوال كان شخصًا شديد الجِدية فلا يضحك إطلاقًا أو يلعب مع الأطفال الآخرين، ولم يمزح قط. لكنه في الواقع كان دائم الفضول محاولًا معرفةَ أمور الآخرين، وهذا هو سبب تعلُّمه المداواة بالأعشاب. وفي هذا الصدد، ينبغي لك أن تعرف أن المداوي بالأعشاب يختلف عن «الشامان» الذي كان يُطلِق عليه البِيض «الطبيب الساحر». فالشامان يُلقي التعاويذ ويتحدَّث مع العالم الروحي. والمداوي بالأعشاب يعرف النباتات المتنوعة التي تشفي المرضى من أمراضٍ مُعينة أو من الجروح، علاوةً على كيفية صُنْع خليطٍ مُعيَّن يشفي الجروح. كان جَدك في صباه يجلس في كوخ المداوي بالأعشاب في قريته يُشاهده ويستمع إليه بحذرٍ ويلعب مع الأطفال أقرانه، وبهذه الطريقة اكتسب المعرفة. عندما كان جَدك لا يزال صبيًّا بدأنا نسمع أن البِيض حضروا إلى مدينة كيزيمو. وكان يُقال إن هؤلاء البِيض بشرتهم ناعمة كبشرة الأطفال، وإنهم حضروا على ظهر سفينةٍ محدِثة ضجة شديدة كالرعد بسرعة بالغة وبها أعمدةٌ تعلوها النيران. وقبل أن يحدُث ذلك لم يكن أيُّ شخصٍ في قريتنا رأى أيًّا من البِيض ما عدا التجار العرب الذين كانوا بين الفينة والأخرى يأتون لبيع السكر والقماش. لكنَّ حدوث هذا كان نادرًا لأن أهلنا لم يَستخدِموا الكثير من السكر، ولم نكن نرتدي إلا جلود الماعز نستر بها عوراتنا. عندما سمع شيوخ القبائل هذه القصص تباحثوا معًا في الأمر ونصحوا أهلها بأن يظلوا بعيدًا عن كيزيمو إلى أن يُعرف البِيض وتُفهم شخصياتهم. على الرغم من هذا التحذير فإن أونيانجو كان فضوليًّا وقرَّر أنه لا بد أن يرى هؤلاء البِيض بنفسه. فاختفى يومًا ما ولم يعرف أحد إلى أين ذهب. بعد ذلك بأشهرٍ كثيرة، بينما أبناء أوباما الآخرون يعملون في الأرض عاد أونيانجو إلى القرية وهو يرتدي قميصًا وبنطلونًا مثل البِيض، وحذاءً يُغطي قدمَيه. فُزع الأطفال لرؤيته ولم يستطِع إخوته تفسير هذا التغيير. لذا استدعوا أوباما الذي خرج من كوخه، وتجمَّعت العائلة وحملق الجميع في مظهر أونيانجو الغريب. سأله أوباما: «ماذا حدث لك؟» وتابع: «ولماذا ترتدي هذه الملابس الغريبة؟» لم ينبس أونيانجو ببنتِ شفة، فقرَّر أوباما أن أونيانجو ارتدى هذا البنطلون لإخفاء أنه أُجريت له عملية ختان وهو الأمر الذي يتناقض مع تقاليد قبيلة لوو. وظنَّ أن قميص أونيانجو يغطي إصابته بطفح جلدي أو التهابات. بعد ذلك استدار أوباما إلى أبنائه الآخرين وقال لهم: «لا تقتربوا من أخيكم، إنه نجس.» وعاد إلى كوخه وضحك الآخرون على أونيانجو وتجنَّبوه، وهذا هو سبب عودة أونيانجو إلى كيزيمو وبقائه منفصلًا عن أبيه لبقية حياته. لم يُدرِك أحد أن البِيض عقدوا العزم على البقاء في المدينة. وظننا أنهم لم يجيئوا إلا من أجل تداول بضائعهم. وسرعان ما أُعجب الناس ببعض عاداتهم، مثل احتساء الشاي. وقد اكتشفنا أننا عند احتسائه نحتاج بالطبع إلى السكر وغلايات الشاي والأكواب. وكنا نحصل على كل هذه الأشياء مقابل جلود الحيوانات واللحوم والخضراوات. بعد ذلك تعلَّمنا التعامُل باستخدام عملات البِيض. لكنَّ مثل هذه الأشياء لم تكن تؤثِّر علينا تأثيرًا كبيرًا لأن البِيض — مثلهم مثل العرب — ظل عددهم قليلًا واعتقدْنا أنهم في النهاية سيعودون إلى بلادهم. غير أن بعض البِيض استقرُّوا في كيزيمو، وجعلوا لأنفسهم رسالةً آمنوا بها. وتحدثوا عن ربٍّ وصفوه بأنه قدير، وتجاهلوا معظم الناس واعتبروا كلامهم هراءً، حتى عندما ظهر البِيض وفي أيديهم البنادق، لم يقاوِم أحد لأن حياتنا لم تكن قد تأثَّرت بعدُ بالموت باستخدام هذه الأسلحة. وظنَّ كثير منَّا أن البنادق مجرد أداة تقليب رائعة للأوجالي. بدأتِ الأحوال تتغيَّر بأول حروب شنَّها البِيض. واستُجلِب عددٌ أكبرُ من البنادق وقدم رجل أبيض أطلق على نفسه «حاكم المقاطعة» وأطلقْنا نحن عليه «بوانا أوجالو» الذي يعني «الطاغية». فرض هذا الرجل ضريبةً على الأكواخ لا بد من دفعها لتدخُل المبالغ في حيازة البِيض. وهذا هو ما أجبر رجالًا كثيرين على العمل بالأجرة، إلى جانب أنه طبَّق نظام التجنيد الإلزامي غير المشروط على الكثير من رجالنا للانضمام إلى جيشه من أجل حمل المؤن وبناء طريقٍ يسمح بمرور السيارات. وقد استطاع هذا الرجل أن يجعل أفراد قبيلة لوو الذين ارتدَوا ملابس شبيهة بملابس البِيض يلتفُّون حوله كنوابٍ عنه وجامعي ضرائب. وعندئذٍ علِمنا أنه أصبح لدينا زعماء، مع أن هؤلاء الرجال لم يكونوا مُنتمِين إلى مجلس شيوخ القبيلة. لقد قاومنا كل هذه الأشياء وبدأ رجال كثيرون يحاربون البِيض. لكن مَن يفعل ذلك يئول مصيره في النهاية إلى الضرب أو القتل. أما الذين لم يتمكنوا من دفع الضرائب فكان جزاؤهم حرْق أكواخهم أمام أعيُنهم. فهربت بعض العائلات إلى مكانٍ أبعد في الريف لبناء قرًى جديدة. لكنَّ معظم الناس ظلُّوا في كيزيمو وتعلموا كيفية التعايُش مع هذا الوضع الجديد مع أننا أدركْنا جميعًا أنه كان من الغباء تجاهل قدوم البِيض. في غضون ذلك عمل جَدك لدى أحد الرجال البِيض. ولم يستطِع التحدُّث بالإنجليزية أو السواحيلية إلا قليلٌ لأن الرجال لم يُفضلوا إرسال أبنائهم إلى مدارس البِيض لتلقِّي التعليم وفضَّلوا بدلًا من ذلك إبقاءهم معهم ليعملوا في الأرض. لكنَّ أونيانجو تعلَّم القراءة والكتابة وفهم النظام الذي يتبعه البِيض نظام السجلَّات الورقية وتسجيل ملكية الأراضي. وهذا هو ما جعله ذا قيمةٍ للرجل الأبيض الذي عمل لدَيه، وخلال الحرب عُيِّن مسئولًا عن فنيي إصلاح الطرق. وفي نهاية الأمر أُرسِل إلى تنجانيقا حيث ظل سنواتٍ كثيرة. وعندما عاد امتلك أرضًا في كندو لكنها كانت بعيدةً عن المجمع السكني لوالده، وكان نادرًا ما يتحدَّث مع إخوته. وفي الواقع لم يبنِ أونيانجو كوخًا مناسبًا لنفسه بل عاش في خيمةٍ ولم يكن الناس قد رأوا شيئًا كهذا من قبل، فاعتقدوا أنه مجنون. وبعد أن أعلن ملكيته للأرض سافر إلى نيروبي حيث بدأ العمل في منزل أحد البِيض. في غضون ذلك لم تستطِع سوى قلة من الأفارقة ركوب القطار؛ لذا رحل أونيانجو إلى نيروبي مشيًا على الأقدام طوال الطريق. واستغرقت هذه الرحلة أكثرَ من أسبوعَين. وفيما بعدُ حكى لنا مغامراته فيها. فكثيرًا ما طارد النمور باستخدام مِنْجل البانجا. وفي ذات مرة هرب من جاموسٍ غاضب يُطارده وتسلَّق إحدى الأشجار واضطُر إلى النوم فوقها يومَين. وفي مرةٍ أخرى وجد طبلةً في أحد الممرات في الغابة وعندما فتحها خرج منها ثعبان مرَّ من بين قدمَيه ومضى في طريقه بين الشجيرات. إلا أنه لم يُصَب بأذًى، وفي نهاية المطاف وصل إلى نيروبي لبدء العمل في منزل رجلٍ أبيض. لم يكن أونيانجو الوحيد الذي رحل إلى المدينة. ذلك لأن أفارقة كثيرين بدءوا يعملون بالأجرة بعد الحرب خاصةً هؤلاء الذين جُنِّدوا تجنيدًا إلزاميًّا أو عاشوا بالقُرب من المدن أو آمنوا برسالة البِيض. أُجبر أفراد كثيرون في أثناء الحرب وبعدَها مباشرةً على الرحيل لأنه تمخَّض عن الحرب بعد انتهائها المجاعات وانتشار الأمراض واستيطان أعدادٍ كبيرة من البِيض الذين سُمِحَ لهم بمصادرة أفضل الأراضي على الإطلاق. لاحظ أفراد قبيلة كيكويو هذه التغيرات أكثرَ من غيرهم لأنهم يعيشون في الأراضي الجبلية حول نيروبي حيث استوطن البِيض بكثافةٍ عالية. لكنَّ قبيلة لوو تأثَّرت أيضًا بحكم البِيض. وأُلزم الجميع بتسجيل أسمائهم في الإدارة الاستعمارية، وزادت الضرائب المفروضة على الأكواخ بمعدلٍ ثابت. وهذا هو ما دفع عددًا أكبرَ من الرجال إلى العمل مقابل الحصول على أجرةٍ في مزارع البِيض الكبيرة. وفي قريتنا أصبحت عائلات أكثر ترتدي ملابسَ البِيض ووافق عددٌ أكبر من الآباء على إرسال أبنائهم إلى إحدى مدارس الإرساليات المسيحية. وبالطبع لم يستطِع أحد فعْل الأشياء التي كان البِيض يفعلونها. حتى مَن التحقوا بالمدرسة عجزوا عن ذلك. واقتصر امتلاك أراضٍ بعَينها على البِيض الذين احتكروا العمل في أنشطةٍ تجارية خاصة. أما عن المشروعات الأخرى فعمل بها الهندوس والعرب طبقًا لأحكام القانون. حاول البعض الاعتراض على هذه السياسات وتقديم الالتماسات والقيام بالمظاهرات. لكنَّ عددهم كان قليلًا ومعظم الناس كافحوا من أجل البقاء على قيد الحياة. أما الأفارقة الذين لم يعملوا بالأجرة فقد ظلوا في قُراهم محاوِلين الحفاظَ على التقاليد والعادات القديمة. لكن ردود الفعل اختلفت في القرى أيضًا. وأصبحت الأراضي مكتظةً بالناس، وفي ظل النظم الجديدة لملكية الأراضي لم يَعُد هناك أية فرصة لامتلاك الأبناء الأراضي الخاصة بهم، لأن كل شيءٍ في حيازة شخصٍ آخر. هذا في حين قلَّ احترام التقاليد ورأى الشباب أن الشيوخ لا يتمتَّعون بأيةِ سلطةٍ حقيقية. والجِعَة التي كانت تُصنع من قبل باستخدام عسل النحل والتي كان الرجال يشربونها بكمياتٍ قليلة أصبحت تأتيهم الآن في زجاجاتٍ وأدمنَها الكثيرون. كما بدأ الكثير منا يُجرِّب حياة البِيض وقرَّرْنا على إثر ذلك أن حياتنا عديمة القيمة مقارنةً بحياتهم. حقَّق جَدك النجاحَ بهذه المعايير. وفي عمله في نيروبي تعلَّم من وظيفته كيفية إعداد طعام البِيض وترتيب منازلهم. ولهذا السبب فضَّله أصحاب الأعمال فعمل في ممتلكات بعض أكثر البِيض نفوذًا لدرجةِ أنه عمل لدى لورد ديلامير. كان من أكبر ملاك الأراضي في كينيا. ادَّخر أونيانجو أُجرته التي كان يتقاضاها من عمله واشترى بها أرضًا وماشية في كندو. وعلى هذه الأرض بنى كوخًا لنفسه في النهاية. لكنَّ الأسلوب الذي حافظ به على كوخه اختلف عن أساليب الناس الآخرين. فكان نظيفًا للغاية وأصرَّ على أن يُنظِّف الناس أقدامَهم أو يخلعوا أحذيتهم قبل الدخول. وكان يأكل وجباته كافةً جالسًا على كرسي وطاولة بالشوكة والسكين أسفل ناموسية. ولا يلمس الطعام ما لم يُغسَل بإتقانٍ ويُغطَّى بمجرد طهوه. وكان يستحمُّ باستمرارٍ ويغسل ملابسه كل ليلة. وإلى أن أدركته المنية استمرَّ على هذا النحو، نظيفًا جدًّا ومُهتمًّا بالصحة، علاوةً على أنه كان يغضب إذا ما وضع أحد أي شيءٍ في غير مكانه أو نظَّف شيئًا بغير إتقان. علاوةً على كل هذا، كان حازمًا جدًّا فيما يتعلق بممتلكاته. إذا طلبتَ منه شيئًا لم يكن يبخل إطلاقًا بإعطائك إيَّاه — مثل طعامه وأمواله حتى ملابسه. لكن إن لمستَ شيئًا يخصُّه دون الاستئذان يغضب غضبًا عارمًا. حتى بعدئذٍ بعد أن وُلد أبناؤه كان يُخبرهم دائمًا بألا يقتربوا من ممتلكات الغير. اعتقد أهل كندو أن عاداته غريبة. كانوا يزورونه لأنه كان كريمًا في تقديمه الطعام الذي لا ينقطع أبدًا عن المنزل. كانوا فيما بينهم يستهزئون به لأنه لم يكن مُتزوجًا ولم يكن لدَيه أطفال. وربما يكون أونيانجو قد سمع هذا الحديث لأنه سرعان ما أدرك أنه ينبغي أن يتزوج. لكنَّ مشكلته تمثَّلت في عدم وجود امرأة باستطاعتها القيام بالواجبات المنزلية بالطريقة التي يتوقَّعها. ومع أنه دفع مهر فتياتٍ كثيرات فإنه كان يضربهن بقسوة كلما رآهنَّ كسالى أو كسرنَ طبقًا. وكان من المعتاد أن يضرب الرجال في قبيلة لوو زوجاتهم إذا ما تصرفنَ بطريقةٍ لا تليق، لكنَّ أفراد القبيلة اعتبروا سلوك أونيانجو قاسيًا، وفي النهاية فرَّت السيدات اللائي اتخذهنَّ لنفسه إلى آبائهنَّ. وبهذه الطريقة أضاع جَدك ماشيةً كثيرة لأن كبرياءه منعه من المطالبة باستعادة المهر الذي دفعه. في نهاية الأمر عثر أونيانجو على زوجةٍ استطاعت العيش معه. كان اسمها «حليمة». لكن أحدًا لا يعرف كيف كان شعورها تجاه جَدك مع أنها كانت هادئة ومُهذبة، والأهم من ذلك أنها استطاعت تحقيق المعايير العالية لإدارة المنزل التي وضعَها جَدك. بنى جَدك لها كوخًا في كندو حيث قضت معظم أوقاتها. وبين الفينة والأخرى يأتي بها إلى نيروبي لتظلَّ في المنزل حيث يعمل. وبعد مرور سنواتٍ اكتشف أن حليمة لا تستطيع الإنجاب. وهذا سببٌ كافٍ للطلاق فيما بين أفراد قبيلة لوو؛ يُرسِل الرجل زوجته العاقر إلى منزل أصهاره ويُطالب باستعادة المهر. مع هذا فإن جَدك فضَّل عدم الاستغناء عن حليمة وعامَلَها معاملةً حسنة. ومع ذلك شعرت حليمة بالوحدة لأن جَدك يعمل طوال الوقت وليس لدَيه وقت للجلوس مع الأصدقاء أو الاستمتاع بحياته. ولا يحتسي الخمر مع الآخرين ولا يُدخِّن. ومصدر سعادته الوحيد الذَّهابُ إلى قاعات الرقص في نيروبي مرةً شهريًّا لأنه يحب الرقص. ذلك مع أنه لم يكن راقصًا ماهرًا؛ وكان عنيفًا ويصطدم بالآخرين ويدوس على أقدامهم. لكنَّ أحدًا لم يقُل شيئًا بسبب ذلك فهم يعرفون أونيانجو وحِدة طباعه. وفي إحدى الليالي شكا رجل ثمِلٌ من أسلوب أونيانجو المفتقِر إلى الذوق. وتحدَّث بأسلوبٍ فظٍّ وقال لجَدك: «لقد كبرتَ في السن يا أونيانجو. ولديك ماشية كثيرة وزوجة وليس لدَيك أطفال. اصدُقني القول: ألستَ رجلًا؟» سمِع الناس هذه المحادثة وبدءوا يضحكون وضرب أونيانجو هذا الرجل ضربًا مبرحًا. لكنَّ كلمات الرجل الثمِل لا بد أنها أثَّرت في نفس جَدك لأنه في الشهر نفسه شرع في البحث عن زوجة أخرى. فعاد إلى كندو وسأل عن كل السيدات في القرية. وفي النهاية عقد العزم على الزواج من شابة اسمها «آكومو» أُعجِب الجميع بها لجمالها. لكن أباها قدَّم وعدًا بالزواج لرجلٍ آخر أعطاه ستة رءوس من الماشية مهرًا لها ووعد بأن يُعطيه ستة أخرى فيما بعد. ولأن أونيانجو يعرف والد الفتاة فإنه أقنعه بأن يُعيد المواشي الستة له وأعطاه ١٥ في الحال. وفي اليوم التالي أمسك أصدقاء جَدك بآكومو وهي تدخل الغابة وأخذوها إلى كوخ أونيانجو.» جاء الصبي جودفري بطستٍ صغير وغسلْنا أيدِيَنا لتناول الغداء. ووقفَتْ أوما لتفرد قامتها وكان نصف شعرها لم يُحل بعدُ لكنني رأيتُ على وجهها نظرة انزعاج. قالت شيئًا لدورسيلا والجَدة وردَّ عليها الاثنتان ردًّا طويلًا. قالت لي أوما وهي تغرف اللحم بالملعقة في طبقها: «كنتُ أسألهما هل ضاجع جَدنا زوجته آكومو بالعنف.» «ماذا قالتا؟» «إنهما تقولان إن هذا العنف كان من تقاليد قبيلة لوو. وطبقًا لهذه التقاليد فإن السيدة بمجرد أن يدفع الرجل المهر لا بد ألا تُظهِر أنها توَّاقة جدًّا له. لذا فإنها تتظاهر بأنها لا تُريده، من ثم فإن أصدقاء الرجل لا بد من أن يمسكوا بها ويُعيدوها إلى كوخه. وبعد هذه المراسم فقط يُتمِّمون إجراءات الزواج الصحيحة.» أخذت أوما قضمةً صغيرة من طعامها. وأضافت: «لقد قلتُ لهما إنه في هذه الحالة قد لا يكون ما تفعله بعض السيدات تظاهرًا.» غمست زيتوني الأوجالي في اليخني. وقالت: «ليس الأمر على هذه الدرجة من السوء يا أوما. ولا تهرُب الفتاة إلا إذا أساء الزوج التصرُّف معها.» «ولكن كيف سيكون الحال إذا اختار الأب زوجًا آخرَ لها؟ أخبريني ماذا يحدث إذا رفضت امرأة الزواج من رجلٍ اختاره أبوها؟» هزَّت زيتوني كتفَيها. وقالت: «إنها تجلب العار لها ولعائلتها.» استدارت أوما للجَدة وقالت: «أترين؟» وأيًّا كان ما قالته الجَدة ردًّا عليها، فإنه جعل أوما تضرب على ذراع الجَدة على سبيل المزاح. «سألتُها هل كان الرجل يجبِر الفتاة على أن تضاجعه ليلة الإمساك بها وأخبرتني أنه لم يكن أحد يعرف ما يحدث في كوخ الرجل. لكنها سألتني كيف يمكن أن يعرف الرجل مدى رغبته في احتساء طبق الشوربة كله إذا لم يتذوق بعضًا منه في البداية.» سألتُ الجَدة عن عمرها عندما تزوَّجت جَدنا. وفي الواقع أسعدها هذا السؤال كثيرًا حيث إنها كرَّرتْه إلى دورسيلا التي قهقهت على إثره وضربت الجَدة بمرح على ساقها. قالت أوما: «لقد أخبرتُ دورسيلا أنك أردتَ معرفة متى عاشرها أونيانجو.» غمزت لي الجَدة بعَينها ثم أخبرتنا أن عمرها كان ١٦ عامًا عندما تزوجَت وقالت إن جَدنا كان صديقًا لأبيها. بعدئذٍ سألتُها هل ضايقها هذا الأمر لكنها هزَّت رأسها بالنفي. «إنها تقول كان من الشائع الزواج من رجل عجوز.» وتابعت: «تقول أيضًا إن الزواج وقتئذٍ كان أمرًا يخصُّ أناسًا بخلاف الزوجَين. ذلك لأنه يجمع العائلات معًا ويؤثِّر على القرية بأكملها. هذا بالإضافة إلى أن الزوجة لم تكن تشكو أو تُفكِّر في الحب. وإن لم تتعلم المرأة أن تُحب زوجها فإنها تتعلم طاعته.» أخذت الجَدة وأوما تتحدثان كثيرًا بعد ذلك، وقالت الجَدة شيئًا أثار ضحكات الآخرين. أضحك الآخرين جميعًا ما عدا أوما التي نهضت من مكانها وبدأت ترصُّ الأطباق فوق بعضها. وقالت بغضب: «استسلمتُ.» «ماذا قالت الجَدة؟» «سألتُها عن سبب تحمُّل السيدات هنا عناء الزواج المخطَّط له مُسبقًا. وكيف يصبرنَ على أخذ الرجال لكل القرارات. وتعرضهنَّ للضرب. وهل تعرف ماذا قالت؟ قالت إنه في أحوال كثيرة تحتاج السيدات إلى الضرب لأنهنَّ دون ذلك لن يفعلنَ كلَّ ما هو مطلوب منهنَّ. أترى ما يحدث لنا؟ إننا نشكو لكننا لا نزال نُشجِّع الرجال على مُعاملتنا أسوأ معاملة. انظر إلى جودفري هناك. أتعتقد أنه لن يتأثَّر عندما يسمع هذه الأشياء من الجَدة ودورسيلا؟» لم تستطِع الجَدة فهْم المعنى المقصود لكلمات أوما، لكن لا بد أنها لاحظت الأسلوب الذي تحدثت به لأن صوتها أصبح جادًّا على حين غِرة. وقالت بلغة لوو: «إن كثيرًا مما تقولينه صحيح يا أوما.» وتابعت: «إن نساءنا حملن عبئًا ثقيلًا بالفعل. وكما يُقال: على قدرِ أهل العزمِ تأتي العزائم. فالمرء لا يعلم سوى ما يعلمه. وربما لو كنتُ شابةً الآن لم أكن لأقبل مثل هذه الأشياء. وربما لن أهتمَّ إلا بمشاعري ووقوعي في الحب. لكنَّ هذه الأمور مختلفة عن العالم الذي تربيتُ فيه. لم أعرف فيه سوى ما رأيتُه بعيني. وما لم أرَه لم يُحزنني على الإطلاق.» اتكأتُ للخلف على الحصير وفكَّرت فيما قالته الجَدة. وظننتُ أنه انطوى على حكمةٍ مُعينة؛ لقد تحدثت عن زمانٍ ومكانٍ مختلفَين. كما أنني فهمتُ إحباط أوما وأدركتُ — وأنا أستمع إلى قصة شباب جَدنا — أنني أيضًا تعرضت للخيانة. كانت الصورة التي في مخيلتي عن أونيانجو — والتي لا تزال غامضة — أنه رجل استبدادي وربما قاسٍ. لكنني تخيلتُه أيضًا رجلًا مُستقلًّا متعاطفًا مع أهله ومعارضًا للبِيض. لقد أدركتُ عندئذٍ أنه لا يُوجَد أساس فعلي لهذه الصورة؛ لم يكن لديَّ سوى الخطاب الذي أرسله إلى أبي يقول له فيه إنه لا يريد أن يتزوج ابنه من سيدة بيضاء. واعتنق الإسلام الذي ارتبط في ذهني بأمة الإسلام في الولايات. إن ما قالته الجَدة شوَّش الصورة التي في مخيلتي تمامًا وأدَّى إلى التأكيد على بعض الصفات غير الحميدة عنه في ذهني. مثل خادم البِيض. والمتواطئ. والإمعة. حاولتُ شرح بعض هذه الأمور إلى الجَدة وسألتها هل كان جَدُّنا قد عبَّر عما يشعر به تجاه البِيض. وحينئذٍ خرج سيد وبيرنارد من المنزل بأعينٍ نعسانة ووجَّهتهما زيتوني إلى الأطباق التي خصَّصتها لهما. ولم تَعُد الجَدة إلى سرد قصتها إلا بعد أن جلسا لتناول الطعام وعادت أوما وابنة الجيران إلى مكانهما أمام السيدتَين لتكملةِ تصفيف شعرهما. «لم أستطِع دائمًا فهْم ما كان يفكر فيه جَدك. وكان أمرًا من الصعوبة بمكان لأنه لم يكن يُحب أن يعرفه الناس عن قُرب. حتى إن تكلم معك نظر إلى اتجاهٍ آخر خوفًا من أن تعرف فيمَ يُفكِّر. وبالطبع انطبق الأمر نفسه على شعوره تجاه البِيض. ففي أحد الأيام يقول شيئًا وفي اليوم التالي يبدو وكأنه قال شيئًا آخر. لكنني أعرف أنه كان يحترم البِيض لسُلطتهم وآلاتهم وأسلحتهم وطريقة تنظيم حياتهم. وكان يقول إن البِيض دائمًا يُطوِّرون من أنفسهم لكن الأفارقة مُتشكِّكون دائمًا من أي شيءٍ جديد. وفي بعض الأحيان يقول: «إن الأفارقة أغبياء ولا بد من ضربهم حتى يفعلوا أيَّ شيء.» ومع ذلك فلا أظنُّ أنه اعتقد أن البِيض وُلِدوا أسمى وأرفع مقامًا من الأفارقة. وفي الواقع، إنه لم يحترم الكثير من أساليب البِيض أو عاداتهم. بل اعتقد أن كثيرًا من الأشياء التي فعلوها حمقاء أو غير عادلة. لم يكن يسمح للرجل الأبيض أن يضربه. ولهذا ترك عمله كثيرًا. فعندما يجد أن الرجل الأبيض الذي يعمل لدَيه بذيء يَسبُّه ويلعنه، يترك العمل عنده ويبحث عن وظيفةٍ أخرى. وفي إحدى المرات حاول أحد أصحاب الأعمال ضربه بالعصا لكن جَدك انتزع منه العصا وضربه بها. وأُلقِي القبض عليه لهذا السبب، لكنه عندما أوضح ما فعله أطلقَت السلطات سراحه بغرامةٍ وحذَّرته من أن يفعل فعلته هذه مرةً أخرى. إن ما كان جَدك يحترمه هو القوة. كما كان يحترم النظام. وهذا سببُ تمسُّكه الشديد بتقاليد قبيلة لوو مع أنه تعلَّم الكثير من سلوكيات البِيض. هذا إلى جانب احترام شيوخ القبيلة. واحترام السلطة. واحترام النظام والأعراف في كل شئونه. وهذا أيضًا هو سببُ رفضه اعتناق الدين المسيحي على ما أعتقد. هذا مع أنه لوقتٍ وجيز دان بالمسيحية وغيَّر اسمه إلى جونسون. فإنه لم يستطِع فهْم أفكار مثل الرحمة بالأعداء أو أن المسيح باستطاعته محو خطايا الناس. وكان هذا لجَدك عاطفة حمقاء وشيئًا من شأنه تفريج الهم عن السيدات. لذا فإنه دان بالإسلام لأنه اعتقد أن تعاليمه مُتوافقة بصورةٍ أكبر مع معتقداته. في الواقع إن قسوة جَدك هي التي سبَّبت الكثير من المشكلات بينه وبين آكومو. وعندما عشتُ معه أنجبت آكومو له طفلَين. أولهما سارة. وبعد ثلاث سنوات أنجبت أباك باراك. إنني لم أعرف آكومو معرفةً وثيقة لأنها عاشت هي وطفلاها مع حليمة في المجمع السكني لجَدك في كندو في حين بقيتُ أنا معه في نيروبي لمساعدته في عمله هناك. لكن كلما ذهبتُ مع جَدك إلى كندو رأيتُ آكومو تعيسة. فروحها كانت مُتمردة ورأيها في أونيانجو أنه كثيرُ المطالب. وهو أيضًا يشكو منها دومًا أنها لم تستطِع الحفاظ على نظافة البيت وترتيبه. وهو حازم معها فيما يتعلق بتربية طفلَيها. يطلُب منها أن تضعهما في السريرَين الخاصَّين بهما وتُلبِسهما ثيابًا رائعة أحضرها معه من نيروبي. وأيًّا كان الشيء الذي يلمسه الرضيعان لا بد أن يكون أنظف من أيِّ وقتٍ مضى. وفي الواقع حاولت حليمة مساعدة آكومو ورعاية الطفلَين كما لو أنهما طفلاها، لكنَّ هذا الأمر لم يكن ذا جدوى. كانت آكومو أكبر مني بسنواتٍ قليلة والضغط عليها شديدًا، وربما كانت أوما على حق … ربما كانت لا تزال تُحب الرجل الذي كان من المفترض أن تتزوَّجه قبل أن ينتزِعها منه أونيانجو. أيًّا كان السبب فإنها حاولت لأكثر من مرةٍ هجرَ أونيانجو. مرة بعد ولادة سارة ومرة أخرى بعد ولادة باراك. وبرغم كبريائه فإن أونيانجو ذهب إليها يسألها العودة للحياة معه في المرتَين لأنه كان يعتقد أن الطفلَين في حاجةٍ إلى أُمهما. وفي كلتا المرتَين ساندته عائلة آكومو، ومن ثَم لم يكن أمامها أي خيار آخر إلا العودة إليه. وفي نهاية الأمر تعلمت فعْل كلِّ ما كان مُتوقعًا منها. لكنها بينها وبين نفسها كانت تشعر دائمًا بالمرارة. أصبحت الحياة أفضل لها عندما نشبت الحرب العالمية الثانية. كان جَدك قد غادر البلاد ليعمل طاهيًا للقبطان البريطاني، وانتقلتُ لأعيش مع آكومو وحليمة وأساعدهما في تربية الأبناء وزرع المحاصيل. لم نرَ أونيانجو لبعض الوقت. ذلك لأنه سافر إلى بلادٍ كثيرة مع أفواج الجنود البريطانية؛ إلى بورما وسيلان وجزيرة العرب وإلى أماكنَ ما في أوروبا. وبعد أن عاد بعد ثلاث سنواتٍ أحضر معه فونوغراف وصورة امرأة زعم أنه تزوَّجها في بورما. تلك الصورة التي تراها معلقةً على جدار المنزل التُقِطت له آنذاك. عندئذٍ كان أونيانجو يبلغ من العمر ٥٠ عامًا تقريبًا. وزاد بشدة تفكيره في ترك العمل لدى الرجل الأبيض والعودة إلى زراعة الأرض. لكنه رأى أن الأرض المحيطة بكندو مزدحمة وجرداء؛ لذا فكَّر في أليجو، الأرض التي تركها جَده. وذات يومٍ جاء إلى زوجاته وأخبرنا أن علينا إعداد أنفسنا للرحيل إلى أليجو. وفي حقيقة الأمر كنتُ امرأة شابَّةً ولديَّ القدرة على التكيف سريعًا لكن حليمة وآكومو تلقَّتا هذا الخبر بصدمة. ذلك لأن عائلتيهما عاشتا في كندو ولأنهما اعتادتا العيشَ هناك، وخافت حليمة بصفةٍ خاصة من شعورها بالوحدة في هذا المكان الجديد لأنها كانت في عمر أونيانجو ولم يكن لدَيها أبناء؛ لذا رفضت الذهاب معنا. أما آكومو فإنها رفضت الرحيل في البداية لكن عائلتها أقنعَتْها مرة أخرى بأنها لا بد من أن تتبع زوجها وتعتني بأطفالها. عندما وصلْنا إلى أليجو كانت معظم الأراضي الزراعية التي تراها الآن بورًا والمعيشة صعبة علينا جميعًا. لكنَّ جَدك درس أساليب الزراعة الحديثة عندما كان في نيروبي، ومن ثَم طبَّق أفكاره على هذه الأرض. فكان باستطاعته زراعة أي محصول، وفي أقل من عامٍ زرعَ ما يكفي من المحاصيل لبيعها في السوق. ومهَّد الأرض وحوَّلها إلى هذه الحديقة الواسعة ونظَّف الحقول حيث نمَت المحاصيل وأصبحت وافرة الثمار. وزرع أشجار المانجو والموز والباوباو التي تراها الآن من حولك. علاوةً على كل ذلك، فإنه باع معظم ماشيته لأنه قال إن رعيَها جعل تربة الأرض فقيرةً وتسبَّب في تدميرها. وبالأموال التي باع بها الماشية بنى أكواخًا كبيرة لآكومو ولي ولنفسه. وكان قد أحضر معه من إنجلترا جهاز راديو لاسلكيًّا وضعه على أحد الأرفُف وكان يُشغِّل نوعًا غريبًا من الموسيقى على الفونوغراف الخاص به في ساعة مُتأخِّرة من الليل. وعندما أنجبتُ طفلَي الأوَّلين عمر وزيتوني، اشترى لهما سريرَين وملابس وناموسيتَين، تمامًا مثلما فعل مع باراك وسارة. وفي كوخِ إعداد الطعام بنى فرنًا يخبز فيه الخبز والكعك وكان مذاقهما مثل الذي يُباع في المتاجر. لم يرَ جيرانه في أليجو مثل هذه الأشياء قط. وفي بادئ الأمر ارتابوا فيه، واعتقدوا أنه أحمق خاصةً عندما باع ماشيته. لكنهم سرعان ما أصبحوا يحترمون كرمَه وما علَّمهم إيَّاه عن الزراعة والأعشاب الطبية. بالإضافة إلى أنهم تفهَّموا طِباعه لأنهم اكتشفوا أن باستطاعته حمايتهم من السحر. وفي هذه الأيام كان الناس يلجئون إلى الشامانات في أحوالٍ كثيرة، بل يخافونهم خوفًا عظيمًا. وكان يُقال إن باستطاعتهم إعطاءك مشروبًا إذا أعطيته لأيةِ امرأةٍ ترغبها وشربَتْ منه فإنها ستقع في هواك، ومشروبات أخرى تُميت أعداءك. لكن لأن جَدك سافر إلى أماكنَ كثيرةٍ وقرأ الكتبَ لم يؤمِن بصحة هذه الأشياء. واعتقد أنهم مُحتالون يسرقون أموال الناس. حتى الآن في الوقت الراهن، يمكن أن يُخبرك الكثيرون في أليجو عن اليوم الذي جاء فيه أحد الشامانات من مقاطعةٍ أخرى لقتل أحد جيراننا الذي تودَّد لإحدى الفتيات في الجوار واتفقت العائلتان على أن يزوِّجوهما. لكن رغِب آخر في الزواج منها؛ لذا ففي غمرة شعوره بالغَيرة دفعَ مالًا لشامانٍ لقتل غريمه. عندما سمع جارنا هذه الخطة خاف خوفًا عظيمًا وجاء إلى أونيانجو طالبًا منه النصيحة. فاستمع جَدك إلى قصة الرجل ثم أخذ مِنجل البانجا الخاص به وسوطه المصنوع من جلد فرس النهر، وخرج لانتظار الشامان في عرض الطريق. بعد قليلٍ رأى أونيانجو الشامان يقترِب حاملًا في يده حقيبةً صغيرة مليئة بالمشروبات السحرية. وعندما أصبحتِ المسافة بينهما قصيرة وقف جَدك في وسط الطريق وقال: «عُد إلى حيث جئت.» لم يعرف الشامان مَن كان أونيانجو وتظاهر بأنه يتقدَّم بخطواته، لكنَّ أونيانجو اعترض طريقه وقال: «إذا كنتَ قويًّا كما تزعم فلا بد أن تصعقني بالبرق الآن. وإذا لم تكن كذلك فالأفضل لك أن تفرَّ من هنا؛ لأنك إن لم تترك هذه القرية الآن سأُضطر إلى ضربك.» الشامان تصرَّف كما لو كان سيمرُّ عبر الطريق، لكن قبل أن يمشي خطوةً أخرى ضربه أونيانجو وطرحه أرضًا وأخذ حقيبته وعاد بها إلى المجمع السكني الذي يقطنه. حسنًا، كان هذا أمرًا غاية في الخطورة خاصة عندما رفض جَدك إرجاع المشروبات السحرية الخاصة بالشامان. وفي اليوم التالي اجتمع مجلس الشيوخ تحت ظل شجرةٍ لحل النزاع، وكانوا قد أخبروا كلًّا من أونيانجو والشامان بأن يحضرا ويوضِّحا حقائق وملابسات الموقف. وفي البداية وقف الشامان وأخبر الشيوخ أنه إن لم يُعِدْ أونيانجو الحقيبةَ فورًا فإن اللعنة ستحلُّ على القرية بأكملها. وبعدها وقف أونيانجو وكرَّر ما قاله من قبل. قال: «إن كان لهذا الرجل سحر قوي دَعُوه يحل عليَّ اللعنة الآن فأخرَّ صريعًا.» ابتعد الشيوخ عن أونيانجو خوفًا من أن تخطئ الأرواح الهدف. لكنهم سرعان ما أدركوا أنه لم يحدُث شيء؛ لذا عاد أونيانجو إلى الرجل الذي استأجر الشامان وقال له: «فلتذهب لتبحثَ عن امرأة جديدة واترك هذه السيدة تتزوج الرجل الذي اتفق على الزواج بها.» وقال أونيانجو للشامان: «اذهب إلى حيث جئت، لن يُقتَل أحد في هذا المكان.» وافق شيوخ القبيلة على كلِّ ما قيل. لكنهم أصروا على ضرورة أن يعيد أونيانجو حقيبة الشامان لأنهم لم يُريدوا المخاطرة. ووافق أونيانجو أيضًا، ووقت انفضاض الاجتماع دعا الشامان إلى كوخه. وطلب منِّي ذبح دجاجةٍ ليأكل الشامان، وأعطاه أموالًا حتى لا تكون رحلته إلى أليجو بلا فائدة. لكن قبل أن يسمح جَدك برحيل الشامان جعل الرجل يُريه محتويات حقيبته ويشرح خصائص كل مشروب حتى يعرف كل الخدع التي يُنفذها الشامان. حتى إن استخدم أونيانجو أحد هذه المشروبات مع آكومو فلا أظن أنه كان بإمكانه إسعادها. وبصرف النظر عن كثرة ضربه لها فقد كانت تُجادله بغضب. وكانت متكبرة وتحتقرني، وفي أحيان كثيرة ترفض تقديم المساعدة في الأعمال المنزلية اليومية. أنجبت طفلةً ثالثة — اسمها أوما مثل أوما الجالسة معنا الآن — وبينما كانت ترضع هذه الطفلة الجديدة خطَّطت سرًّا للهروب. وفي إحدى الليالي وسارة في الثانية عشرة من عمرها وباراك في التاسعة، نفَّذت خطتها. فأيقظت سارة وقالت إنها ستهرب إلى كندو. وأخبرتها بأنها رحلة شاقَّة للغاية على الأطفال لأن يقوموا بها ليلًا لكنها قالت لها إنهما — هي وأخوها — ينبغي لهما اتباعها سريعًا عندما يكبران. ثم اختفت بابنتها الرضيعة في الظلام. عندما اكتشف أونيانجو ما حدث استشاط غضبًا. وفي البداية فكَّر في أن يترك آكومو وشأنها، لكن عندما رأى أن باراك وسارة لا يزالان صغيرَين وأنني شابة — ولديَّ طفلان — ذهب مرةً أخرى إلى عائلة آكومو في كندو، وطلب من أهلها عودتها. لكنَّ العائلة رفضت هذه المرة. وفي الواقع، كانوا قد قبِلوا بالفعل مهرَ زواج آكومو من رجلٍ آخر وكانت آكومو وزوجها الجديد قد رحلا بالفعل للعيش في تانجانيكا. لم يكن هناك شيءٌ يستطيع أونيانجو فعْله؛ لذا عاد إلى أليجو. وقال لنفسه: «إن الأمر لا يهم»، وأخبرني بأنني الآن أم أولاده كافة. لم نكن نعرف — أنا وهو — زيارة آكومو الأخيرة لسارة. لكنَّ سارة تذكَّرت تعليمات والدتها ومرَّت أسابيع قبل أن تُوقِظ باراك في منتصف الليل تمامًا كما فعلت معها أمُّها. وطلبت منه أن يصمت، وساعدته في ارتداء ملابسه، وبدآ معًا رحلتهما إلى كندو مشيًا على الأقدام. ولا أزال مندهشةً إلى الآن من أنهما بقِيا على قيد الحياة. غابا عنا أسبوعَين تقريبًا مشيا خلالهما أميالًا كثيرة يوميًّا؛ يختبئان من المارِّين بجوارهما في الطريق، وينامان في الحقول ويستجديان الطعام. لكنهما تاها بالقُرب من كندو، وفي آخر المطاف رأتهما سيدة وأشفقت عليهما؛ فقد كانا مُتضوِّرين جوعًا وقميئَي الهيئة؛ لذا استضافتهما في منزلها وأطعمتهما وسألتهما عن اسميهما، وعندما عرفت ماهيتهما أرسلت طلبًا لجَدك. وعندما ذهب لإحضارهما ورأى حالتهما المتدهورة بكى وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي رآه أحدٌ وهو يبكي. لم يحاول الطفلان الهرب إطلاقًا مرةً أخرى. لكنني لا أعتقد أنهما نَسِيا هذه الرحلة. وبعدئذٍ تعاملت سارة مع أونيانجو بتحفُّظ شديد وظلَّ قلبها معلقًا بآكومو لأنها كانت أكبر من أخيها، وربما رأت كيف عامل أمَّها. وأظن أيضًا أنها كانت مُستاءة مني لأخذي مكان والدتها. أما باراك فكان له ردُّ فعل مختلف. فلم يستطِع أن يُسامح أمَّه على التخلِّي عنه، وكان يتصرف وكأن آكومو لم تكن موجودة. بل أخبر الجميع أنني والدته، ومع أنه كان يُرسِل أموالًا إلى آكومو عندما كبر وأصبح رجلًا فإنه حتى نهاية حياته تعامل معها بفتور دائمًا. الشيء الغريب أن سارة كانت تُشبِه أبيها إلى حدٍّ بعيد من حيث الشخصية. الحزم والمثابرة وسهولة الشعور بالغضب. وكان باراك طائشًا وعنيدًا مثل آكومو. لكن دون شكٍّ لا يرى الشخص عيوبه. وبالطبع كان أونيانجو شديد الحزم مع أطفاله تمامًا كما قد تتوقَّع. جعلهم يعملون بجِد واجتهاد، ولم يسمح لهم باللعب خارج المجمع السكني؛ لأنه قال إن الأطفال الآخرين وقِحون وسيئو التربية. وكلما ابتعد أونيانجو عن المجمع تجاهلتُ هذه التعليمات لأن الأطفال لا بد أن يلعبوا مع أقرانهم تمامًا كما لا بد من تناول الطعام والنوم. لكنني لم أخبِر جَدك قطُّ بما فعلتُه، وكنتُ أُضطر إلى تنظيف الأطفال قبل أن يحضر جَدك إلى المنزل. لم يكن هذا الأمر سهلًا خاصةً مع باراك. ذلك لأنه كثير الشغب! في وجود أونيانجو يبدو حسَن التربية ومُطيعًا، ولا يردُّ بوقاحةٍ عندما يطلُب منه والده أن يفعل شيئًا. لكن من وراء ظهره يفعل كلَّ ما يحلو له. وعندما يكون أونيانجو في الخارج في العمل يخلع باراك ملابسه الأنيقة وينصرف إلى الأولاد الآخرين لمشاجرتهم أو السباحة في النهر أو لسرقة الفاكهة من أشجار الجيران أو ركوب أبقارهم. كان الجيران يخافون من الذهاب مباشرةً إلى أونيانجو فيأتون إليَّ ويشكون من كل هذه الأشياء. لكنني لم أكن أغضب من باراك، بل دومًا أُخفي تصرفاته الحمقاء عن أونيانجو؛ لأنني أحببتُه كما لو أنه ابني. أُعجب جَدك أيضًا كثيرًا بباراك — مع أنه لم يُحب إظهار ذلك — لأنه كان ولدًا ماهرًا جدًّا. وفي صغره علَّمه أونيانجو حروف الهجاء والأرقام، ولم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا إلى أن تفوَّق الابن على أبيه في هذه الأشياء. وفي الواقع أسعد هذا الشيء قلب أونيانجو؛ لأن المعرفة كانت مصدر سلطة البِيض من وجهة نظره؛ لذا فإنه أراد التأكُّد من أن ابنه مُتعلم كأي رجلٍ أبيض. كان أقلَّ اهتمامًا بتعليم سارة مع أنها سريعة التعلُّم مثل باراك. معظم الرجال كانوا يعتقدون أن تعليم بناتهم مَضيعة للأموال. وعندما أنهت سارة تعليمها في المدرسة الابتدائية جاءت إلى أونيانجو مُستجديةً منه مصاريف المدرسة للالتحاق بالمدرسة الثانوية. لكنه قال لها: «ما الذي يدفعني إلى إنفاق أموال على مصاريف التحاقك بالمدرسة وأنت ستتزوَّجين وتعيشين في منزل رجلٍ آخر؟ الأفضل أن تُساعدي أمك وتتعلَّمي كيف تُصبحين زوجة مثالية.» خلق هذا خلافًا أكبرَ بين سارة وأخيها الأصغر خاصةً لأنها علمت أن باراك لم يكن جادًّا دائمًا في دراسته. وكل شيءٍ أراده حصل عليه بسهولة بالغة. في البداية التحق بإحدى مدارس الإرساليات المجاورة، لكنه عاد بعد يومِه الأول فيها وأخبر والده أنه لم يستطِع الدراسة هناك لأن مَن يُدرِّس له في الفصل امرأة، وأنه يعلم كل شيءٍ تُعلِّمه إياه. لقد تعلم باراك هذا الاتجاه الفكري من والده؛ لذا فإن أونيانجو لم يستطِع قول أيِّ شيء. وكانت أقرب مدرسة تبعُد بمسافة ستة أميال؛ ولذا فإنني كنتُ أصطحبه إليها كل صباح. وكان المدرِّس فيها رجلًا، لكنَّ باراك اكتشف أن هذا لم يحُلَّ المشكلات التي كان يُعانيها. فهو دومًا يعرف الإجابات، وفي بعض الأحيان يُصحِّح أخطاء المدرِّس أمام الفصل بأكمله. وكان المدرس يوبِّخ باراك على غطرسته، لكنَّ باراك كان يرفض التوقُّف عما يفعله. وتسبَّب هذا في تعرُّض باراك كثيرًا للضرب بالعصا على يد مدير المدرسة. لكنه تعلَّم درسًا منه لأنه في العام التالي عندما انتقل إلى فصلٍ آخر به مُدرِّسة لاحظتُ أنه لم يشكُ. مع ذلك كان لا يزال يشعر بالملل من المدرسة، وعندما أصبح أكبر سنًّا كان يتوقَّف عن الذهاب إليها لمدة أسابيع في كل مرة. وقبل الامتحانات بأيام قليلة يبحث عن زميلٍ له في الفصل ويبدأ في استذكار دروسه. وفي خلال بضعة أيام يستطيع تعليم نفسه كلَّ شيء. وعندما تظهر النتيجة يكون الأول دائمًا على أقرانه. وفي المرات القليلة التي لم يكن الأول فيها كان يعود إليَّ والدموع قد ملأت عينَيه لأنه اعتاد أن يكون الأفضل دائمًا، لكنَّ هذا لم يحدث سوى مرةٍ واحدة أو مرتَين؛ كان عادةً ما يعود إلى المنزل ضاحكًا مُفتخرًا بمهارته. لم يفتخر باراك بنجاحه بصورةٍ يمكن أن تجرح شعور الآخرين؛ فإنه كان دائمًا دمث الأخلاق في تعامُله مع زملائه، ويساعدهم عندما يطلبون المساعدة. كما أن افتخاره بنجاحاته شبيه بافتخار طفلٍ اكتشف أن بإمكانه الجريَ سريعًا أو الصيد بمهارة. لذا فإنه لم يدرك أن الآخرين ربما يستاءون من تلقائيته. حتى إنه عندما أصبح رجلًا لم يفهم هذه الأشياء. وعندما يرى زملاءه في المدرسة — الذين أصبحوا رجال دين أو رجال أعمال — في إحدى الحانات أو المطاعم يقول لهم أمام الجميع إن أفكارهم سخيفة. وكان يقول لأحدهم مثلًا: «إنني أتذكَّر أنني علمتُك ذات مرة أشياءَ في علم الحساب، إذن كيف يمكن أن تكون مهمًّا الآن؟» بعد ذلك يضحك ويدعو هؤلاء الرجال إلى الجِعَة لأنه مُعجَب بهم. لكنَّ هؤلاء الرجال يتذكرون أيام المدرسة ويكتشفون أن ما قاله باراك صحيح، ومع أنهم لم يُظهِروا ذلك فإن كلماته تجعلهم يشعرون بالغضب. عندما أصبح والدك في مرحلة المراهقة كانت الأحوال تتغيَّر سريعًا في كينيا. حيث حارب الكثيرُ من الأفارقة في الحرب العالمية الثانية. وحملوا الأسلحة وفعلوا ما جعلهم مشهورين بالمحاربين العظماء في بورما وفلسطين. ورأوا البِيض وهم يحاربون البِيض من أمثالهم، وماتوا بجانبهم وقتلوا الكثيرَ منهم بأنفسهم. بالإضافة إلى أنهم اكتشفوا أن الأفريقي بوسعه العمل على آلات البِيض، وقابلوا السود من أمريكا الذين قادوا الطائرات وأجرَوا العمليات الجراحية. وعندما عادوا إلى كينيا تحمَّسوا لمشاركة هذه المعرفة الجديدة مع الجميع، ولم يعودوا راضين عن سيطرة البِيض عليهم. بدأ الناس عندئذٍ يتحدَّثون عن الاستقلال. وعُقدت الاجتماعات ونُظِّمت المظاهرات وقُدمت الالتماسات إلى الإدارة لعرض شكواهم من مصادرة الأراضي وسلطة الرؤساء الذين يطبِّقون نُظُم العمل الخالية من العمولات لإتمام المشروعات الحكومية. حتى إن الأفارقة الذين تعلموا في المدارس الداخلية تمرَّدوا على كنائسهم واتهموا البِيض بتشويه المسيحية للحط من قدرِ أي شيء أفريقي. وكما كان الوضع سابقًا فإن معظم هذه الأنشطة تمركزت في أرض كيكويو لأن هذه القبيلة حملت عبء البِيض أكثر من أيِّ مكانٍ آخر. لكنَّ قبيلة لوو أيضًا كانت مُضطهَدة ومصدرًا أساسيًّا للعمل بالإكراه. لذا فإن الرجال في منطقتنا بدءوا يشاركون في مظاهرات كيكويو وقُبِضَ على كثيرٍ منهم من جرَّاء ذلك. وفي وقت لاحق، عندما أعلنت بريطانيا حالة الطوارئ، لم يُر الكثيرون مرةً أخرى منذ ذلك الحين. وأبوك مثل أقرانه تأثَّر بالمفاوضات الأولى المتعلقة بالاستقلال، وكان يعود أدراجه من المدرسة إلى المنزل ويتحدَّث عن الاجتماعات التي رآها. أما جَدُّك فإنه أيَّد الكثير من مطالب الأحزاب الأولى مثل الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني (كانو)، لكنه ظلَّ مُتشككًا من أن حركة الاستقلال ستؤدي إلى أي شيء؛ لأنه اعتقد أن الأفارقة لن يفوزوا إطلاقًا على جيوش البِيض. وكان يقول لباراك: «كيف يمكن للأفريقي هزيمة البِيض وهو لا يستطيع صناعة الدراجة التي يركبها؟» وكان يقول إن الأفارقة لا يستطيعون تحقيق الفوز على البِيض لأن السود يريدون العمل فقط مع عائلاتهم أو عشيرتهم في حين يعمل البِيض معًا لزيادة سُلطتهم. وقال أونيانجو: «إن الرجل الأبيض بمفرده مثله مثل النملة.» وتابع: «ومن السهولة بمكانٍ تحطيمه. لكن لأنه كالنملة فإنه وأقرانه يعملون معًا ويتعاونون. ومن وجهة نظره فإن أُمَّته وعمله أكثرُ أهمية من نفسه. وهو يتبَع قادته، ولا يُناقش الأوامر الموجهة إليه. على النقيض من ذلك فإن السود لا يسيرون على هذه الوتيرة. حتى إن أكثر السود حماقة يعتقدون أنهم يفهمون أكثرَ من الحكماء. وهذا هو سبب خسارة السود دائمًا.» ومع موقف جَدك هذا فإنه اعتُقل ذات مرة. وأصل الحادث أن رجلًا أفريقيًّا يعمل لدى حاكم المقاطعة شعر بالغيرة من جَدك بسبب أراضيه. وفي إحدى المرات وبَّخ جَدك هذا الرجل لأنه كان يجمع ضرائب زائدة عن المفترض تحصيلها ويستولي على هذه الأموال لنفسه. خلال فترة الطوارئ وضع هذا الرجل اسم أونيانجو في قائمة مؤيدي الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني وأخبرَ الرجل الأبيض أن أونيانجو من المخرِّبين. ولذا فإن عساكر الرجل الأبيض ألقوا القبض على أونيانجو واحتُجز في معسكر اعتقال. وفي النهاية استُدعي إلى جلسة استماعٍ وأُثبتت براءته. لكنَّه ظل في المعسكر لما يزيد عن ستة أشهر، وعندما عاد إلى أليجو كان نحيفًا للغاية وقذرَ الهيئة. وكان يجد صعوبة في المشي ورأسه مليء بالقمل. وبالطبع أدَّى هذا إلى شعوره بالخجل الشديد، فرفض دخول منزله أو إخبارنا بما حدث. وإنما ناداني لتسخين بعض الماء له وإحضار موس حلاقة. فحلق شعره وساعدتُه في الاستحمام لوقتٍ طويل حيث تجلس الآن. ومنذ ذلك اليوم أدركتُ أنه عجوز. لم يكن باراك موجودًا وقتئذٍ ولم يعلم شيئًا عن اعتقال والده إلا فيما بعد. ذلك لأنه كان قد قدَّم في اختبارات المقاطعة وقُبل في مدرسة ماسينو الداخلية التي تبعُد بما يقرب من ٥٠ ميلًا جنوبًا بالقُرب من خط الاستواء. لا بد أن هذا الحدث كان شرفًا عظيمًا لباراك؛ لأن القليل من الأفارقة فقط كان يُسمَح لهم بالحصول على تعليمٍ ثانوي، والطلاب الأكثر مهارةً فقط هم الذين كانوا يلتحقون بالماسينو، لكنَّ تمرُّد أبيك وعدم التزامه بالقواعد سبَّبا مشكلاتٍ كثيرة مع المدرسة. فكان يتسلَّل إلى غُرَف الفتيات ويتحدث معهنَّ بكلامٍ معسول ويتعهد لهنَّ بتحقيق كلِّ ما حلُمن به. ويُغير هو وأصدقاؤه على المَزارع المجاورة لأخذ الدجاج ونبات اليام لأنهم لا يُحبون طعام المدرسة. وفي الواقع تغاضى المدرسون في المدرسة عن مثل هذه الأفعال غير اللائقة لأنهم كانوا على درايةٍ بمدى ذكائه. لكن في نهاية الأمر تمادى باراك في فعْل هذه الأشياء الدالة على سوء السلوك فطُرِدَ من المدرسة. غضب أونيانجو غضبًا عارمًا عندما عرف بالأمر، ولذا ضرب باراك بالعصا إلى أن أدمى ظهره. لكنَّ باراك رفض الهروب أو الصراخ أو حتى شرح موقفه لأبيه. وفي النهاية قال أونيانجو لباراك: «إن لم تستطِع التصرُّف بأسلوبٍ لائق في بيتي فإنني لا أريدُك هنا!» وفي الأسبوع التالي أخبر أونيانجو باراك بأنه رتَّب له السفر إلى الساحل حيث سيعمل موظف أعمالٍ كتابية. وقال له: «إنك هناك ستعلم قيمة التعليم.» وتابع: «سأرى بنفسي كيف ستستمتع بوقتك وأنت تكسِب قوتَ يومك.» لم يكن لدى باراك أيُّ خيار سوى طاعة والده. لذا فإنه ذهب إلى مومباسا وحصل على الوظيفة في مكتبِ تاجرٍ عربي. لكن بعد فترةٍ وجيزة تشاجر مع الرجل العربي وترك العمل دون أن يأخذ أجره. لكنه وجد وظيفةً أخرى فعمل موظف أعمالٍ كتابية مرة أخرى لكن بأجرٍ أقلَّ بكثير. وكان لدَيه من الكبرياء ما منعه من أن يطلب مساعدة أبيه أو يعترف بأنه أخطأ. ومع ذلك فقد علم أونيانجو بالأمر، وعندما عاد باراك للمنزل في زيارةٍ صاح فيه والده قائلًا له إنه لن يُصبح ذا قيمة. حاول باراك أن يخبِر أونيانجو أن الوظيفة الجديدة تُقدِّم له أجرًا أعلى بكثيرٍ من الوظيفة التي وفَّرها له، وقال إنه يحصل منها شهريًّا على ١٥٠ شلنًا. لذا قال أونيانجو له: «دعني أطَّلع على سجل الأجور الخاص بك إن كنتَ بالفعل ثريًّا.» وعندما لم ينبِس باراك ببنت شفة علم أونيانجو أن ابنه كذب عليه. لذا فإنه ذهب إلى كوخه وأخبر باراك أن يبتعِد عن المكان لأنه ألْحقَ العار بأبيه. انتقل باراك إلى نيروبي وعمل موظفَ أعمالٍ كتابية في السكة الحديدية، لكنَّه شعر بالملل وألهاه اهتمامه بسياسات البلد عن العمل. ووقتئذٍ بدأت قبيلة الكيكويو حربها في الغابات. وانتشرت في كل مكانٍ الاحتشادات الجماهيرية المُطالبة بإطلاق سراح كينياتا من المعتقل. فبدأ باراك يحضر الاجتماعات السياسية بعد العمل وأصبح على علاقةٍ ببعض أفراد القيادة في الكانو. وفي أحد الاجتماعات حضرت الشرطة وأُلقي القبض على باراك لخرق قواعد الاجتماع. وبالتالي سُجن وأَرسَل إلى والده رسالةً طالبًا منه المال لدفع الكفالة، لكنَّ أونيانجو رفض إعطاء باراك المال الذي طلبه، وقال لي إن ابنه في حاجةٍ لأن يتعلم هذا الدرس على نحوٍ ملائم. لأن باراك لم يكن قائدًا في الكانو أُطلِق سراحه بعد أيام. لكنَّه لم يشعر بأي قدرٍ من السعادة لإطلاق سراحه لأنه بدأ يُدرك أن ما قاله والده ربما يكون صحيحًا؛ أنه لن يُصبح ذا قيمة. كان باراك عندئذٍ في العشرين من عمره، لكن ماذا حقَّق بالفعل؟ لقد طُرد من وظيفته في السكة الحديدية. وتشاجر مع والده ولم يَعُد يتحدَّث معه إلى جانب أنه ليس لدَيه مال أو احتمالات نجاح. لكنه تزوَّج ولدَيه طفل. قابل باراك كيزيا وهو في الثامنة عشرة من عمره. وكانت تعيش في كندو مع عائلتها وقتئذٍ. ولأنه تُيِّم بجمالها قرَّر الزواج منها بعد علاقةٍ لم تدُم طويلًا. وحتى يستطيع الزواج منها أدرك أن والده لا بد أن يُساعده لدفع المهر، فطلب منِّي أن أتوسَّط له عند أبيه وأتحدَّث نيابةً عنه. في بداية الأمر رفض أونيانجو هذه الزيجة وكذلك سارة التي عادت إلى أليجو بعد أن مات زوجها الأول. وقالت لجَدك إن كيزيا تريد أن تحصل على ثروة العائلة فقط. لكنني قلتُ لأونيانجو إنه من غير اللائق لباراك أن يستجدي المهر من أقارب آخرين والجميع يعرفون أنه ابن رجلٍ ذي سعة من المال. بذلك أدرك أونيانجو أن لديَّ حقًّا فيما أقوله ورَقَّ لحاله ووافق. وبعد عامٍ واحد من زواج باراك وكيزيا وُلِدَ روي. وبعد عامَين أنجبا أوما. اضطُر باراك إلى العمل في أية وظيفة وجدَها حتى يستطيع توفير ما يساعد عائلته على المعيشة، وفي آخرِ المطاف أقنع رجلًا عربيًّا آخر — اسمه سليمان — بتعيينه عاملًا لدَيه. لكنَّ باراك ظل يشعر بالحزن الشديد وأصبح قاب قوسَين أو أدنى من اليأس. فالكثير ممن في عمره والذين عرفهم من مدرسة ماسينو — والذين لم يكونوا نابغين مثله — ينتقِلون بالفعل من كينيا للالتحاق بجامعة ماكاريري في أوغندا. وبعضهم ذهبوا إلى لندن للدراسة. ومن ثَمَّ فهم يتوقعون العمل في وظائف مهمة عند عودتهم إلى كينيا بعد تحريرها. أما باراك فإنه رأى أنه لم ينتهِ الأمر به إلا موظف أعمالٍ كتابية لدَيهم لبقية حياته. بعدئذٍ لعب الحظ لعبته في صورة سيدتَين أمريكيتَين. كانتا تدرُسان في نيروبي وأعتقد أنهما كانتا على صلةٍ بإحدى المنظَّمات الدينية، وفي ذات يومٍ حضرتا إلى المكتب الذي يعمل فيه باراك. وبدأ يتحدَّث معهما إلى أن أصبح الثلاثة أصدقاء. فأخذتا تُعِيرانه كتبًا ليقرأها وتدعوانه إلى منزلهما، وعندما أدركتا أنه على درجةٍ كبيرة من الذكاء قالتا له إن عليه الالتحاق بالجامعة. شرح باراك لهما أنه لا يملك مالًا ولم يحصل على شهادةٍ من المدرسة الثانوية، لكنهما قالتا له إنهما سترتِّبان له كلَّ شيءٍ فيدرس عن طريق المراسَلة ويحصل على الشهادة التي يحتاجها. وأضافتا أنهما ستحاولان مساعدته في الالتحاق بأية جامعة في أمريكا إن أثبت نجاحه. تحمَّس باراك للغاية وأرسل على الفور طلبَ التحاق بالدراسة عن طريق المراسلة. ولأول مرة في حياته عمِل بجِد. وكل ليلة وحتى أثناء تناوله غداءه كان يُذاكر في كُتبه ويحل واجباته المدرسية. وبعد بضعة أشهُر امتحن في مقر السفارة الأمريكية. استغرق الأمر شهورًا طويلة قبل أن تظهر النتيجة، وخلال هذه الفترة كان باراك غايةً في العصبية ونادرًا ما يأكل. الأمر الذي أدَّى به إلى النحافة البالغة لدرجةِ أننا اعتقدنا أنه سيموت. وذات يومٍ تسلَّم الخطاب. ولم أكن هناك لرؤيته وهو يفتحه، لكنه كان لا يزال يصيح من الفرحة بأعلى صوته عندما قال لي هذه الأخبار. وضحكتُ معه لأن الموقف مماثل لما كان يحدث منذ سنوات كثيرة عندما يأتي إلى المنزل متفاخرًا بدرجاته العالية. كان باراك لا يزال مُفتقرًا إلى المال، ولم تكن أية جامعة قد وافقت بالفعل على قبوله. وعندما رأى أونيانجو أن ابنه أصبح أكثرَ شعورًا بالمسئولية لانَ تجاهه، لكنه لم يستطِع توفير المال الكافي لدفع مصروفات الجامعة والانتقال خارج البلاد. كان الكثيرون في القرية على استعدادٍ لمدِّ يدِ المساعدة، لكنَّ العديد منهم كانوا خائفين من ألا يرَوا باراك مرةً أخرى إن رحل بأموالهم. لذا فإن باراك راسل الجامعات في أمريكا مرارًا وتكرارًا. وأخيرًا ردَّت عليه جامعة في هاواي بأن الجامعة ستُقدِّم له منحةً دراسية. لم يعرف أحد وقتئذٍ أين يقع هذا المكان، لكنَّ باراك لم يبالِ. وأخذ ابنه وزوجته الحامل وتركهما عندي ورحل في أقل من شهر. لا أستطيع أن أقول لكم ما حدث في أمريكا. لكنني أعرف أنه بعد أقلِّ من عامَين تلقَّينا خطابًا من باراك يقول لنا فيه إنه قابل فتاة أمريكية اسمها آن وإنه يريد الزواج منها. والآن يا باري لقد سمعتَ أن جَدك عارض هذه الزيجة. هذا صحيح، لكنَّ هذه المعارضة لم تكن للأسباب التي قُلتها. إن أونيانجو كما رأيتَ لم يعتقد أن والدك يتصرف بمسئولية. لذا فإنه ردَّ على خطاب باراك وقال له: «كيف تتزوَّج من هذه السيدة البيضاء ولدَيك مسئوليات أخرى هنا؟ هل ستعود معك هذه السيدة وتعيش هنا كسيدة من قبيلة لوو؟ وهل ستقبل بوجود زوجة وطفلَين؟ إنني لم أسمع قطُّ عن بِيض يتفهَّمون هذه الأشياء؛ فنساؤهم تُعميهن الغيرة وهنَّ اعتدنَ التدليل. لكن إن كنتُ مخطئًا فيما قلتُه فاجعل والد الفتاة يحضر هنا إلى كوخي لنُناقش الأمر بصورة ملائمة. ذلك لأن مناقشة هذه الأمور من شأن الكبار وليس الصغار.» بالإضافة إلى أنه كتب أيضًا خطابًا إلى جَدك ستانلي وذكر له في الخطاب الكثير من هذه الأشياء نفسها أيضًا. استمر أبوك — كما تعلم — في إتمام الزواج ولم يُخبِر أونيانجو بما حدث إلا بعد ولادتك. إننا جميعًا سعداء بهذه الزيجة لأننا لولاها لم نكن لنراك هنا معنا الآن. لكنَّ جَدك غضب غضبًا عارمًا عندئذٍ وهدَّد بأن يجعل السلطات تُلغي تأشيرة سفر باراك. ولأنه عاش مع البِيض بالفعل، ربما كان على درايةٍ بعادات البِيض أكثر من باراك. ومن ثَم عندما عاد باراك في نهاية المطاف إلى كينيا اكتشفنا أنك وأُمك بقيتما حيث أنتما، تمامًا كما حذَّر أونيانجو. بعد أن عاد باراك بوقتٍ وجيز وصلت إلى كيزيمو سيدةٌ بيضاء تبحث عنه. وفي البداية اعتقدنا أن هذه السيدة لا بد أنها أمُّك آن. لكنَّ باراك أوضح لنا أنها سيدة أخرى تُدعى روث. وقال إنه قابلها في هارفارد وإنها تبِعَتْه إلى كينيا دون معرفته بالأمر. لم يُصدِّق جَدك هذه القصة واعتقد مرةً أخرى أن باراك خرج عن طاعته. لكنني لم أكن متأكدة لأن باراك بدا مُترددًا في الزواج من روث في البداية. ولستُ متأكدة من السبب الذي حمله في النهاية على الاقتناع بالزواج منها. ربما شعر أن روث كانت مناسبةً أكثر لحياته الجديدة. وربما يكون قد سمع إشاعات عن أن كيزيا فعلت ما يحلو لها في أثناء غيابه مع أنني أخبرته أن هذه الشائعات ليست صحيحة. وربما يكون قد أُعجِب بروث أكثرَ مما أحبَّ أن يُظهِر. أيًّا كان السبب، فأنا أعرف أنه بمجرد أن قرَّر باراك الزواج من روث فإنها لم تستطِع تقبُّل كيزيا زوجةً أخرى. وبهذا ذهب الطفلان ليعيشا مع والدهما وزوجته الجديدة في نيروبي. وعندما أحضر باراك أوما وروي لزيارتنا رفضت روث مصاحبة زوجها ولم تسمح له بأن يُحضِر ديفيد أو مارك. لم يناقِش أونيانجو هذا الأمر مباشرةً مع باراك. لكنه قال لأصدقائه بطريقةٍ ما لجعل باراك يسمعه: «إن ابني رجل مهم، لكنه عندما يرجع إلى بلده لا بد أن تُعِدَّ له والدته وليس زوجته الطعامَ.» هناك مَن أخبرك بالطبع بما حدث لوالدك في نيروبي. لقد كنا نراه نادرًا ولم يكن يظل في المعتاد إلا وقتًا وجيزًا، وكلما جاء أحضر لنا هدايا غالية الثمن وأموالًا وذُهِلَ الناس جميعًا بسيارته الكبيرة وملابسه الأنيقة. لكنَّ جَدك استمرَّ في التحدُّث معه بقسوة كما لو كان صبيًّا. وفي هذه الأثناء كان أونيانجو طاعنًا في السن. كان يمشي بالتوكؤ على عصًا وأعمى تقريبًا، بالإضافة إلى أنه لم يكن يستحمَّ إلا بمساعدتي، وهو الأمر الذي سبَّب له في اعتقادي الشعور بالخجل. لكنَّ شيخوخته لم تُخفِّف من حدة طباعه. عندما فقد باراك سلطته فيما بعدُ حاول إخفاء مشكلاته عن أبيه. فاستمر في إحضار الهدايا التي لم يَعُد قادرًا على دفع ثَمنها مع أننا لاحظنا أنه يأتي في سيارة أجرة وليس في سيارته الخاصة. ولم يكن يثِق بأحدٍ سواي لإخباره عن تعاسته وشعوره بالإحباط. وأخبرتُه بأنه عنيد إلى حدٍّ بعيد في تعامُله مع الحكومة. وتحدَّث معي عن مبادئه، فقلتُ له إن هذه المبادئ تؤثِّر سلبًا على أطفاله. لكنه قال إنني لا أفهم الموقف مثلما قال لي والده. لذا توقفتُ عن إسداء النصيحة وأصبحتُ أستمع فقط. أعتقد أن هذا هو أقصى ما كان باراك يحتاجه؛ أيْ شخص يستمع إليه. حتى بعد أن تحسَّنَت الأحوال من جديد وبنى هذا المنزل لنا، ظل حزينًا. وفيما يخص أطفاله فإنه كان يُعاملهم بالطريقة نفسِها التي عامله أونيانجو بها. وكان يعلم أنه يُبعِدهم عنه لكنه لم يكن بوسعه فعْل شيء. كان باراك لا يزال محبًّا للتفاخُر والضحك وشُرْب الخمر مع الآخرين. لكنَّ ضحكاته لم تكن من قلبه. إنني أتذكَّر آخِر مرة زار أونيانجو قبل أن تُدركه المنية. جلس الاثنان على كرسيين، أحدهما في وجه الآخر، يأكلان الطعام دون كلمةٍ واحدة. وبعد ذلك بأشهُرٍ عندما مات أونيانجو ولحِق بأسلافه عاد باراك إلى الوطن لتنفيذ الإجراءات. كان قليل الكلام وقتئذٍ وكان نحيفًا للغاية ولم أرَه يبكي إلا بعد أن أنعم النظر إلى مُقتنيات أبيه. وقفَت الجَدة ونظَّفَت ثوبها من العشب. في هذه الأثناء خيَّم على الفناء الصمت الذي لم يقطعه سوى شدو طائرٍ قلِق. وقالت: «إن السماء ستُمطر»، فجمعنا الحصائر والأكواب وحملناها جميعًا إلى داخل المنزل. بمجرد أن دخلنا سألتُ الجَدة هل كانت تحتفظ بأي شيء من مُقتنيات أبينا أو جَدنا. دخلَت غرفة نومها وأنعمَت النظر إلى محتويات حقيبة قديمة من الجلد. ثم خرجت بعد دقائق ومعها كتاب أحمر اللون في حجم جواز السفر إلى جانب بعض الأوراق المختلفة الألوان المُثبتة معًا والمتآكِلة من إحدى الزوايا. وقالت لأوما: «إنني آسفة، لم أستطِع العثورَ إلا على هذا.» وتابعت: «لقد وصلتِ الفئران إلى الأوراق قبل أن تتسنَّى لي الفرصة لوضعها في المكان المناسب.» جلستُ أنا وأوما ووضعنا الكتاب والأوراق على المنضدة المنخفِضة أمامنا. كان تجليد الكتاب الأحمر مُفكَّك الأجزاء مع أن الغلاف لا يزال مقروءًا ومكتوبًا عليه «السجل الشخصي للخادم المنزلي» وبخطٍّ أصغر «أُصدِر بموجب قانون تسجيل الخدم المنزلي، ١٩٢٨، مُستعمرة ومحمية كينيا.» وفي الصفحة الأولى وجدْنا طابعًا بقيمة شلنَين أعلى بصمتَي إبهام أونيانجو اليُمنى واليسرى. وكانت دوائر البصمتَين لا تزال واضحةً مثل طبعات المرجان المتروكة على الصخر. وكان مُربَّع الصورة — الذي اشتمل عليها فيما سبق — فارغًا. ذُكر في الجملة الافتتاحية للكتاب: «الهدف من هذا القانون هو منْح كل شخصٍ يعمل في الخدمة المنزلية سجلًا لهذه الوظيفة، وحماية مصالحه/مصالحها إلى جانب حماية أصحاب العمل من توظيف أشخاصٍ أثبتوا أنهم غير مُناسِبين لهذا العمل.» عُرِّفَت كلمة خادم بأنه كل: «طاهٍ، خادم منزلي، نادل، كبير خدم، مرضعة، خادم خصوصي، مساعد ساقي خمر، خادم لفتح أبواب السيارات والوقوف على الموائد، أو سائق، أو عامل لغسل الملابس وكَيِّها.» أمَّا عن القواعد التي تفرض حمْل هذه السجلات فإنها تتمثل في أن الخدم المضبوطين وهم يعملون دون حمْل هذه الكتب، أو يهملون فيها بطريقةٍ أو بأخرى «يُصبحون مسئولين قانونيًّا عن دفع غرامة لا تزيد عن ١٠٠ شلن أو السجن لمدة لا تزيد عن ستة أشهر أو كلتا العقوبتَين.» ومن ثم فإن البيانات التفصيلية للخادم المُسجَّل المشار إليه آنفًا مُلئت بخطِّ اليد بأسلوبٍ مُتأنِّق كتبَه أحد الموظفين بتأنٍّ: الاسم: حسين الثاني أونيانجو. العِرق أو القبيلة: لوو. محل الإقامة في حالة عدم العمل: كيزيمو. الجنس: ذكر. العمر: ٣٥ عامًا. الطول وبنية الجسم: ٦ أقدام، متوسط البنية. البشرة: داكنة. الأنف: أفطس. الفم: كبير. الشعر: مجعَّد. الأسنان: ست أسنان مفقودة. آثار جروح، أو علامات قبلية مميزة، أو مميزات أخرى: لا يُوجَد. بالقرب من نهاية الكتاب وجدنا بيانات التوظيف مُوقَّعة ومُصدَّقًا عليها من قِبل أصحاب عمل مُختلفين. قال القبطان سي هارفورد وهو عضو في دار الحكومة في نيروبي إن أونيانجو «نَفَّذَ ما كُلِّف به بصفته خادمًا شخصيًّا بجِدٍّ واجتهاد.» بالإضافة إلى أن السيد إيه جي ديكسون ذكر أن طهوَه ممتاز وقال إنه «يستطيع القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية وطهو كافة أنواع الأطعمة … وبصرف النظر عن الأشياء الأخرى فإن المعجنات التي يصنعها ممتازة.» لكنه لم يَعُد في حاجةٍ إلى خدمات أونيانجو؛ إذ «لم أعُدْ أخرج في رحلات سفاري.» أما دكتور إتش شيري فقال إن أونيانجو «طاهٍ بارع لكنَّ هذه الوظيفة لا يراها أونيانجو مهمةً بالقدرِ الكافي.» مع أن السيد آرثر دبليو إتش كول الموظَّف بشركة «إيست أفركا سيرفاي جروب» قال إن أونيانجو بعد العمل «لمدة أسبوع في الوظيفة وُجِد أنه غير كفء، ولا يستحقُّ بكل تأكيدٍ أن يتقاضى أجرًا قدره ٦٠ شلنًا شهريًّا.» انتقلْنا بعد ذلك إلى تصفُّح مجموعة الخطابات. كان قد كتبَها أبونا وكانت مرسلةً إلى جامعاتٍ مختلفة في الولايات المتحدة. وكان أكثر من ٣٠ خطابًا منها موجَّهًا إلى رؤساء جامعة مورجان، ومعهد سانتا باربرا، وجامعة ولاية سان فرانسيسكو. بدأ أحد الخطابات بعبارة «سيدي كالون رئيس الكلية». ثم كان نصُّه كالتالي: «لقد سمعت عن كُليتكم من السيدة هيلين روبرتس من مدينة بالو ألتو بكاليفورنيا والتي تقطن الآن هنا في نيروبي، ولمعرفتها بقدرِ رغبتي في استكمال دراساتي في الولايات المتحدة الأمريكية نصحتني السيدة روبرتس بأن أرسل طلب التحاقي بكليتكم الجديرة بالاحترام. وبناءً عليه فإنني سأسعد كثيرًا إذا ما تكرَّمتم وأرسلتم لي استمارة طلب الالتحاق والمعلومات الخاصة بإمكانية الحصول على مِنَحٍ دراسية طبقًا لمعرفتكم.» أُلحِقَت بخطاباتٍ كثيرة تزكيات من الآنسة إليزابيث مووني، وهي مُدرِّسة من ولاية ميريلاند. كان مكتوبًا فيها: «من غير الممكن استخراج شهادات مدرسية للسيد أوباما لأنه تخرَّج في المدرسة منذ سنوات.» لكنها عبَّرت عن ثِقتِها بمواهب والِدِنا وكتبت أنها لاحظتْهُ وهو «يستخدِم الجبر والهندسة.» وأضافت أن كينيا في حاجةٍ ماسَّة إلى مُدرِّسين بارعين مُتفانين في العمل وأنه «يجب إعطاء السيد أوباما الفرصة ربما لمدة عامٍ واحد طبقًا لرغبته في خدمة بلده.» فكَّرتُ بيني وبين نفسي أن هذا هو ما عليه الحال. هذا هو إرثي. رتَّبتُ الخطابات أحدَها فوق الآخر بطريقةٍ منظمة ووضعتُها أسفل كتاب تسجيل الوظائف. ثم خرجتُ إلى الفناء الخلفي ووقفتُ أمام القبرَين، وعندئذٍ شعرتُ بأن كلَّ ما حولي — حقول الذرة وشجرة المانجو والسماء — يقترب مِني ويُحيط بي إلى أن أصبحتُ بمفردي مع سلسلة صورٍ ذهنية ونَبَضت قصص الجَدة بالحياة. رأيتُ جَدي واقفًا أمام كوخ أبيه، رأيته صبيًّا نحيفًا مُتجهِّم الوجه ويبدو مضحكًا ببنطلونه الكبير وقميصه الخالي من الأزرار. وشاهدتُ أباه وهو يُدير ظهره إليه وسمعتُ إخوته وهم يضحكون. وشعرتُ بالسخونة المتصاعِدة من جبينه وتوتُّر عضلات أطرافه ونبضات قلبه القوية المفاجئة. وعندما استدار وبدأ يشقُّ طريق الرجوع على الأرض الحمراء أدركتُ أن مسار حياته الآن قد تغيَّر بصورةٍ كاملة على نحوٍ لا يمكن إرجاعه. سيُضطَر جَدي إلى أن يغيِّر من نفسه تمامًا في هذا المكان القاحل المنعزل. وبقوة الإرادة سيخلق حياةً مِن فتاتِ عالمٍ مجهول وذكريات عالمٍ بات مهجورًا. ومع ذلك فإنني أعرف أنه، وهو جالس بمفرده في كوخه النظيف؛ أبٌ ابيضَّت عيناه، لا يزال يسمع أباه وإخوته يضحكون من وراء ظهره. ويسمع صوت القبطان البريطاني المتقطِّع، وهو يُوضح للمرة الثالثة والأخيرة النسبة الصحيحة للتونيك إلى سائل الجِن الكحولي. فتتوتَّر أعصاب رقبتِهِ وغضبه يحتدم ويمسك بعصاه لتحطيم شيء، أي شيء. إلى أن تخرَّ قواه في النهاية بإدراكه أنه برغم القوة التي يمتلكها وقوة الإرادة فإن ضحِكه وتوبيخه لن يئولا إلى زوالٍ بعد مماته. يضعُف الجسد ولا يقوى على النهوض من على مقعده ويعلم الجَد أنه لن يعيش أطولَ من قدَرِه الساخر وينتظر الموت وحيدًا. تلاشت هذه الصورة وحلَّت محلَّها صورة صبيٍّ في التاسعة من عمره … هو أبي. جوعانُ، متعبٌ، مُتشبثٌ بيد أُخته، يبحث عن الأم التي فقدَها. يتضوَّر جوعًا ويقتله التعَب إلى أن ينقطع الحبل الرفيع الذي يربطه بأمِّه ويُرسِل صورتها لتُحلِّق بعيدًا في الفراغ. وبعدها يبكي ويُحرِّر يدَه من قبضة يد أخته. ويريد العودة إلى الوطن، يصرخ للعودة إلى منزل أبيه. وهناك سيجد أمًّا جديدة. وينغمس في الألعاب ويكتشف قوة عقلِه. لكنه لن ينسى اليأس الذي شعر به ذاك اليوم وبعد ١٢ عامًا سيرفع عينَيه عن الملفات وهو جالس خلف مكتبه الضيق لينظر إلى السماء المتقلِّبة ويشعر بالخوف نفسه يعود إليه. وسيُضطر أيضًا إلى تغيير نفسه. ورئيسه خارج المكتب يُنحِّي الملفات جانبًا ويُخرج قائمة عناوين من خزانة الملفات القديمة. ويجذب الآلة الكاتبة تجاهه ويبدأ الكتابة — حرفًا تلوَ الآخر — ويكتب على الأظرُف ثم يُغلقها بإحكام، مثل الرسائل داخل الزجاجات ويُلقيها في مُحيطٍ واسع وربما تسمح له بالهرب من جزيرة الخزي الذي ألحقَه بأبيه. كم شعر أنه محظوظ عندما رست سفينته وبدأت تؤتي ثمار رحلتها! لا بد أنه عرف عندما تسلَّم الخطاب من هاواي أنه اختير رغم أي شيء؛ وأنه حلَّت عليه بركةُ اسمه الذي يعني بركةَ الرب. وبحصوله على الشهادة وارتدائه رابطة العنق وزواجه من امرأة أمريكية وامتلاكه سيارة وتحدُّثه بكلماتٍ مُنتقاة ومعرفته الحساب وحمله محفظة جيب ومعرفته نسبة التونيك إلى الجن وتعامُله بكِياسة وثقته بنفسه والحرص على كمال كل شيء وتلقائيته وتركه عشوائيةَ ماضيه وإهماله … تُرى ما الذي سيقف في طريقه؟ لقد نجح إلى حدٍّ ما بطريقةٍ لم يأمُل فيها والده إطلاقًا. وبعدئذٍ، بعد أن سافر كما بدا إلى أماكنَ بعيدةٍ اكتشف أنه لم يستطِع الهرب في النهاية! اكتشف أنه ظل حبيسًا في جزيرة أبيه بكلِّ ما تشتمل عليه من جراح غضب وشكٍّ وهزيمة وأن هذه الأحاسيس لا تزال موجودة تحت السطح، لا تزال عنيفة ومتوهجة وحية، وأُمُّه بعيدة عنه … ارتميتُ على الأرض ومسحت بيدي على بلاط القبر الأصفر الناعم. وبكيت: أبتاه! ليس هناك ما يدعوك إلى الخزي من حيرتك. مثلما لا يُوجَد ما يدعو أباك من قبلك إلى الخزي من حيرته. ليس هناك خزيٌ في شعوره بالخوف أو شعور أبيه من قبله. وإنما في الصمت المتمخِّض عن الخوف. الصمت الذي خاننا. الصمت الذي لولا وجوده لكان جَدك سيقول لأبيك إنه لن يستطيع إطلاقًا الهرب من نفسه أو تغيير نفسه بمفرده. وكان سيُعلِّمك أبوك هذه الدروس نفسها. وكنتَ ستُعْلِم أباك أن هذا العالم الجديد الذي جذبكم جميعًا اشتمل على أشياءَ تجاوزت السكك الحديدية والحمَّامات الداخلية في المنازل وقنوات الري والفونوغراف؛ تلك الوسائل غير النابضة بالحياة التي أصبحت جزءًا من الأساليب القديمة. ربما كنتَ ستُخبِره أن هذه الوسائل اشتملت على قوةٍ خطيرة وأنها تطلَّبت أسلوبًا مختلفًا لرؤية العالم. ربما كنت ستُخبره أن هذه القوة كان من الممكن استيعابها جنبًا إلى جنب مع إيمانٍ خلَّفته الصِّعاب؛ إيمان لم يكن جديدًا، لم يكن أسود أو أبيض أو مسيحيًّا أو مسلمًا، بل إيمان نبض في قلب أول قرية أفريقية وأول مُستعمرة في كانساس، كان إيمانًا في أناسٍ آخرين. قتل الصمت إيمانك. ونظرًا لنقص الإيمان لدَيك تشبَّثت بالاثنين كثيرًا وقليلًا جدًّا بماضيك. تشبَّثت كثيرًا بصرامته وشكوكه وقسوته الذكورية. وتشبَّث قليلًا جدًّا بالضحكة في صوت الجَدة والابتهاج بالصحبة وقت رعي الماعز، وهمهمة السوق، والقصص حول حلقات النار. الولاء الذي يمكن أن يعوِّض عن عدم وجود الطائرات أو البنادق. كلمات التشجيع. الاحتواء والحب الصادق القوي. ومع امتلاك جميع مواهبك — سرعة البديهة ومهارات التركيز والجاذبية — فإنك لم تستطِع إطلاقًا صُنْع نفسك بالتخلِّي عن هذه الأشياء … جلست وقتًا طويلًا بين القبرَين وبكيت. وعندما انهمرت دموعي في النهاية انتابني شعورٌ قوي بالسكينة والطمأنينة على حين غِرة. وشعرت بأن الدائرة أخيرًا أُغلقت. وأدركت حينئذٍ أن ماهيتي واهتماماتي لم تَعُد مجرد أشياء لها علاقة بالذكاء أو المسئولية ولم تَعُد مجرد كلمات. ورأيت أن حياتي في أمريكا — بين السود وبين البِيض، وشعوري بأنني جرى التخلي عني وأنا صبي، والإحباط والأمل اللذين شعرتُ بهما في شيكاغو — مرتبطة بكلِّ ما فيها بهذه الأرض الصغيرة السحيقة، ووجدتها مُرتبطة بأكثرَ من مصادفةِ رسمي بهذا الاسم أو لون بشرتي. وكان الألم الذي شعرتُ به ألم أبي. ومشكلاتي مشكلات إخوتي. وكفاحهم حق مولدي. بدأت السماء تمطر مطرًا خفيفًا ونزلَت قطراتها على أوراق الشجر. وعندما أوشكتُ على إشعال سيجارة شعرت بيدٍ على ذراعي. واستدرتُ لأجد بيرنارد جالسًا القرفصاء بجواري محاولًا أن تشملنا معًا مظلة قديمة مُنثنية. قال لي: «طلبوا مني أن أطمئن عليك.» ابتسمت. وقلت: «أنا بخير.» أومأ برأسه وحدَّق بعينَين شبه مُغمضتَين في السُّحب. ثم استدار لي وقال: «أعطني سيجارة وسأجلس وأُدخِّن معك.» نظرتُ إلى وجهه الداكن الناعم وأعدت السيجارة إلى علبتها. وقلت له: «أريد الإقلاع عن التدخين.» وتابعت: «هيا، دعنا نتمشَّى.» نهضنا واتجهنا نحو مدخل المجمع السكني. وكان جودفري واقفًا بجوار كوخ إعداد الطعام متكئًا بإحدى ساقَيه على الجدار الطيني. بدا مثل طائر الغرنوق. فنظر إلينا وابتسم بتحفُّظ. قال بيرنارد وهو يلوِّح للصبي: «تعالَ!» وتابع: «فلتَسِر معنا.» وهكذا مشى ثلاثتنا على الطريق الممتدِّ غير المُعَبَّد محاوِلين لمسَ أوراق الشجر المزروعة بطول الطريق ونحن نشاهد الأمطار تُغرِق أوديةً كثيرة.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/53080380/
أحْلامٌ مِنْ أبِي: قِصَّةُ عِرْقٍ وإِرْث
باراك أوباما
نشر «باراك أوباما» هذه المذكرات المشحونة بالعواطف، التي تهزُّ المشاعر هزًّا، قبل أن يُصبح الرئيسَ الأمريكي المنتخَب الرابع والأربعين بسنوات. يحكي هذا الكتاب سعيَ «أوباما» الدَّءُوب لفَهم القوى التي أسهمَت في تشكيله بوصفه ابنًا لأبٍ أفريقي أسود وأُمٍّ أمريكية بيضاء، وهو السعيُ الذي انطلق به من قلب الولايات المتحدة إلى مسقطِ رأس جَدَّته في قرية «أليجو» الأفريقية الصغيرة. يحمل الكتاب في طيَّاته تأمُّلًا استقصائيًّا لمعنى الهُوِية في أمريكا، ويسلِّط الضوءَ على الصعاب التي كابَدها أحد زعماء الولايات المتحدة في رحلةِ بحثه عن الهُوِية قبل أن يشغل أعلى منصب في البلاد، في عالمٍ تملؤه الاضطرابات والتوتُّرات.
https://www.hindawi.org/books/53080380/20/
الخاتمة
بقيتُ في كينيا أسبوعين آخرين. وعُدنا جميعًا إلى نيروبي حيث المزيد من حفلات العشاء والمحادثات والقصص. أقامت الجَدة في شقةِ أوما، وكنتُ أنام كل ليلةٍ وأنا أسمع همس أصواتهما. وذات يوم تجمَّعنا عند استديو للتصوير الفوتوغرافي لأخذ صورةٍ عائلية، ومن ثَم ارتدت السيدات جميعهنَّ عباءاتٍ أفريقية مُنسابة برَّاقة ألوانها خضراء وصفراء وزرقاء، أما الرجال فكانوا طِوال القامة حالقي وجوههم ومُرتدين ملابسَ مكويةً على نحوٍ مُتقن، وعلَّق المصور — الذي كان هندي الجنسية رفيع القوام ذا حاجبَين كثيفَين — على روعة الصورة التي التقطها لنا. عاد روي إلى واشنطن العاصمة بالطائرة بعد ذلك بوقتٍ وجيز، وعادت الجَدة إلى هوم سكويرد. وعلى حين غِرة خيَّم الهدوء على الأيام وتملَّكتني أنا وأوما حالةٌ من الكآبة كما لو كنَّا قد استيقظنا من حُلم. وربما كان الشعور بأننا أيضًا سنعود قريبًا إلى حياتنا الأخرى — حيث العزلة والانفراد بالذات من جديد — هو الذي جعلنا نُقرِّر ذات يوم زيارة جورج؛ آخر أبناء أبينا. لقد اتضح أنه أمرٌ محرِج رُتِّبَ له بعجلةٍ ودون عِلم الأم؛ ركبنا السيارة مع زيتوني ووصلنا إلى مدرسةٍ صغيرة نظيفة من طابقٍ واحد حيث يلعب مجموعة من أطفال المدرسة في ملعب واسع مُغطًّى بالعشب. وبعد محادثةٍ قصيرة مع المدرِّس المشرف وقتَ الراحة بين الحصص جاءت زيتوني بأحد الأطفال إلينا؛ كان وسيمًا مُستدير الرأس تعلو وجهه نظرة احتراس. انحنت زيتوني لأسفل وأشارت نحوي ونحو أوما. وتحدَّثت إلى الولد: «هذه أختك التي اعتدت اللعب معها على رُكبتَيها. وهذا أخوك الذي قطع مسافةً شاسعة من أمريكا ليراك.» صافَحَنا الولد بشجاعة، لكنه ظلَّ ينظر بين الفينة والأخرى إلى الألعاب التي ما لبث أن تركها. وعندئذٍ أدركتُ أننا أخطأنا. وسرعان ما خرجت مديرة المدرسة من مكتبها لتقول لنا إن لم يكن لدَينا إذنٌ من الأم فلا بد من أن نُغادر. بدأت زيتوني تجادل هذه السيدة لكنَّ أوما قالت: «لا يا عمتي، إنها على حق. يجب أن نذهب.» ونحن جالسون في السيارة شاهدنا جورج وهو يعود إلى أصدقائه، وكان من المُستحيل تمييزه سريعًا عن الأطفال الآخرين المستديري الرءوس البارزي عظام الركبة الذين يجرون على العشب وراء كرةِ قدم قديمة. وعلى حين غِرة وجدتُ نفسي بعدئذٍ أتذكَّر لقائي الأول بأبي والشعور بالخوف وعدم الراحة الذي تمخَّض عن وجوده، الأمر الذي أجبرني لأول مرةٍ على التفكير مليًّا في غموض حياتي الخاصة. وشعرت بالراحة لحقيقة أن جورج أيضًا يومًا ما عندما يكون أكبرَ سنًّا ربما يريد معرفة ماهية أبيه وإخوته وأخواته، وأنه إذا لجأ إليَّ يومًا فسيَجِدني دون شك لأخبره القصة التي أعرفها. في هذا المساء سألتُ أوما هل تعرف أيًّا من الكتب الجيدة التي تتحدَّث عن قبيلة لوو، واقترحَتْ عليَّ أن نزور مُدَرِّسة تاريخ قديمة كانت تُدرِّس لها، وهي سيدة طويلة ممشوقة القوام اسمها دكتورة «رقية أوديرو» كانت صديقة أبي. عندما وصلنا إلى منزلها كانت الدكتورة أوديرو على وشك الجلوس لتناول عشائها؛ لذا أصرَّت على أن نشاركها العشاء. وأثناء تناولنا سمَك البُلطي والأوجالي أصرَّت المُدرِّسة على أن أُناديها بِرُقية، ثم استفسرت منِّي عن انطباعاتي عن البلد. وسألتني: هل شعرت بالإحباط؟ قلت لها إنني لم يراودني هذا الشعور مع أنني سأغادر ولديَّ أسئلةٌ بعددِ ما لديَّ من إجابات. قالت رقية وهي تضبط نظارتها فوق قصبة أنفها: «هذا حسن، وهذا هو أسلوبنا نحن المؤرخين لكسبِ قوَّتنا. إننا طَوال اليوم نُحاول إثارةَ أسئلة جديدة. وهذه مسألة في الواقع باعثة على الملل الشديد. هذا بالإضافة إلى أنها تتطلَّب شخصًا ذا طبيعةٍ بوسعها احتمال مُضايقة الغير. تعلم أن الشباب الأمريكيين السود يميلون إلى التفكير في أفريقيا من منطلق رومانسي. لكنني وأباك عندما كنَّا شبابًا فعلنا العكس تمامًا، حيث توقَّعنا إيجاد كل الإجابات في أمريكا. في حي هارلم. وفي شيكاغو. ولدى الكاتِبَين لانجستون هيوز وجيمس بولدوين. من كل هذا استقطبنا الإلهام. ومن عائلة كيندي … وكانت لهذه العائلة شعبية عريضة. كانت فرصة الدراسة في أمريكا غاية في الأهمية. كانت وقتًا مفعمًا بالأمل. وبالطبع عندما عُدنا أدركنا أن تعلمينا لم يُفِدنا دائمًا على نحوٍ ملائم. وكذلك مَن أرسلونا إلى أمريكا. لقد كان لدَينا كل هذا التاريخ الفوضوي لنتعامل معه.» سألتُ رقية عن سببِ اعتقادها أن الأمريكيين السود عرضةٌ للشعور بالإحباط عند زيارتهم لأفريقيا. فهزَّت رأسها وابتسمت. ثم قالت: «لأنهم يأتون إلى هنا باحِثين عن الأصل. وهذا سببٌ مؤكَّد للشعور بالإحباط. انظر إلى هذه الوجبة التي نتناولها. إن كثيرين سيُخبرونك أن أفراد قبيلة لوو من آكلي السمك. لكنَّ هذا ليس صحيحًا لجميع أفراد القبيلة. بل ينطبق هذا فحسب على مَن يعيشون بجانب البحيرة. وحتى هؤلاء لا يصحُّ هذا الأمر معهم دائمًا. ذلك لأنهم قبل أن يستقِرُّوا حول البحيرة كانوا رعاةَ غنم مثل أفراد قبيلة ماساي. والآن، إن تصرفتَ أنت وأُختك بأسلوبٍ لائق وتناولتما قدرًا مناسبًا من هذا الطعام فإنني سأُقدِّم لكما الشاي. والكينيون — كما تلاحظ — فخورون إلى حدٍّ بعيد بجودة الشاي المصنوع لدَيهم. لكننا بالطبع اكتسبنا هذه العادة من الإنجليز لأن أسلافنا لم يشربوا هذا المشروب. هذا إلى جانب التوابل التي نَستخدِمها لطهي هذا السمك. فهي تأتينا أساسًا من الهند أو إندونيسيا. وحتى في هذه الوجبة البسيطة ستجد أنها من الصعوبة بمكانٍ أن تكون أصلية … مع أن الوجبة دون أدنى شك أفريقية.» لفَّت رقية كرةً من الأوجالي في يدِها وغمستها في اليخني الخاص بها. وقالت: «يمكنك بالكاد إلقاء اللوم على الأمريكيين السود بكل تأكيد لاحتياجهم ماضيًا لم يمسَسْه سوء بعد كل الوحشية التي عانوها — ولا يزالون يُعانونها — طبقًا لما أقرؤه في الصحف. ولكن ليس هم فقط مَن يرغبون ذلك. فالأوروبيون يريدون الشيء نفسه. وكذلك الألمان والإنجليز … إنهم جميعًا يزعمون أن أثينا وروما بلادهم مع أن أسلافهم في الواقع دمَّروا الثقافة الكلاسيكية. لكنَّ هذا حدث منذ وقتٍ طويل؛ لذا فإن مُهمتهم أسهل. في مدارسهم نادرًا ما تقرأ عن شقاء الفلاحين الأوروبيين على معظم صفحات التاريخ. كم هو مخزٍ رؤية كيف عامل الأوروبيون ذويهم معاملةً أقل من معاملة الملونين في ظل فساد الثورة الصناعية واستغلالها والحروب القبلية غير المبرَّرة! لذا فإن هذه الفكرة عن عصرٍ ذهبي لأفريقيا تبدو طبيعية فقط قبل أن يأتي البِيض.» قالت أوما: «ما الحل إذن؟» قالت رقية وهي تبتسِم: «عادةً ما تكون الحقيقة هي الحل الأفضل.» وتابعت: «في بعض الأحيان أُفكِّر أن أسوأ شيءٍ فعله الاستعمار هو ضبابية رؤيتنا لماضينا. فبدون البِيض ربما كنا سنُصبح قادرين على استخدام تاريخنا استخدامًا أفضل. وربما كنا سنُعيد النظر في كثيرٍ من ممارساتنا القديمة ونُقرِّر أنها تستحقُّ الإبقاء عليها. وفي ممارساتٍ أخرى سنُقرر ضرورة الإقلاع عنها. ولسوء الحظ جعلَنا البِيض نتصرَّف بعدم ثقةٍ بالمرة. وانتهى بنا الأمر ونحن مُتشبِّثون بجميع الأشياء التي ظلت موجودة بعد نفاد فوائدها. مثل تعدُّد الزوجات. والملكية الجماعية للأراضي. هذه الأشياء كانت مُلائِمة في وقتها إلا أنها الآن أصبحت وسائل للممارسات الفاسدة. من قِبل الرجال. ومن قِبل الحكومات. ومع ذلك فإننا إذا قُلنا ذلك نكون مُصابين بعدوى الأيديولوجيا الغربية.» قالت أوما: «إذن كيف يُمكننا تغيير هذا الوضع؟» هزَّت رُقية كتفَيها. وقالت: «إنني أترك الإجابة عن مثل هذه الأسئلة لصنَّاع السياسة. فأنا لستُ إلا مؤرخة. لكنني أظنُّ أننا ليس بوسعنا التظاهر بأن نقيض موقفنا ليس له وجود. وكلُّ ما نستطيع فعْله هو الاختيار. فمثلًا لا يزال ختان الإناث من العادات المهمة السائدة في قبيلة كيكويو. وكذلك في قبيلة ماساي. ويحدث ذلك في الوقت الذي نشعر فيه في أيامنا هذه أن هذا الأمر همجي. ربما يُمكننا الترتيب لإجراء هذه العمليات كافة في المستشفيات وتقليل معدل الوفاة. وربما يمكننا تقليل النزيف لأدنى حد. لكن لا يمكنك إجراء عملية الختان بشكلٍ لا يؤثِّر كثيرًا على أنوثة الفتاة. ذلك لأن هذا الأمر من شأنه ألا يُرضي أحدًا. إذن لا بدَّ من الاختيار. والأمر نفسه ينطبق على مبدأ سيادة القانون وفكرة التحقيق المستقل؛ فهذه الأشياء ربما تتعارض مع مشاعر الولاء للقبيلة. لا يمكن أن تكون هناك سيادة قانون وبعدئذٍ تُعفي أفرادًا مُعيَّنِين في عشيرتك. ولكن ماذا عساك أن تفعل؟ الاختيار مُجددًا. وإذا أسأتَ الاختيار فستتعلَّم إذن من أخطائك. وتصل إلى الاختيار الصحيح.» لعقتُ أصابعي وغسلتُ يدي. وقلت: «لكن ألم يتبقَّ شيء أفريقي خالص؟» قالت رقية: «لا أظن ذلك، أليس كذلك؟» وتابعَت: «ويبدو بكل تأكيدٍ أن هناك شيئًا مختلفًا بخصوص هذا المكان. إلا أنني لا أعلم ما هو. ربما يكون للأفارقة وجهة نظر فريدة عن الوقت نظرًا لسفرِهم إلى أماكنَ بعيدةٍ بسرعةٍ شديدة. أو ربما يكون هذا الشيء هو أننا تعرَّضنا للمعاناة أكثرَ من أي شعبٍ آخر. وربما يكون الأرض نفسها. لا أعرف. ربما أكون أنا الرومانسية. كما أنني أعرف أنني لا أستطيع أن أظلَّ بعيدةً عن هنا لوقتٍ طويل. إن الناس لا يزالون يتحدَّثون بعضهم مع بعض هنا. لكنني عندما أذهب إلى الولايات المتحدة فإنها تبدو مُوحِشة إلى حدٍّ بعيد …» على حين غِرة انطفأت جميع الأنوار في المنزل. وتنهَّدَت رقية وقالت إن انقطاع التيار الكهربي أصبح أكثر شيوعًا، فأعطيتُها قدَّاحتي لإشعال الشموع التي كانت محتفظةً بها أعلى رف الموقد. تذكَّرتُ وأنا جالس في الظلام القصص التي سردتها لنا زيتوني وقلتُ إن عدَّائي الليل لا بد أنهم بالخارج. وأشعلَتْ رقية الشموع وكشفَتْ أضواؤها عن وجهها الضاحك. وقالت: «إذن إنك تعرف مَن هم عدَّاءو الليل! نعم إنهم يكونون أقوياء جدًّا في الظلام. وقد اعتاد الناس وجودَ الكثير منهم في منطقتِنا في أرض الوطن. وقيل إنهم يمشون مع فرس النهر ليلًا. وأتذكَّر ذات مرة …» مثلما انطفأت الأنوار على نحوٍ مفاجئ، أُضيئت المصابيح فجأةً أيضًا ولكن للحظةٍ واحدة. ولذا أطفأت رقية الشموع وهزَّت رأسها. وقالت: «وا حسرتاه! يعود التيار الكهربائي وتُضاء المصابيح في المدينة عاجلًا أو آجلًا. إن لديَّ ابنة تستهزئ بعدَّائي الليل. ولُغتها الأولى ليست لغة قبيلة لوو. أو حتى لغة السواحيلية. إنما لُغتها الإنجليزية. وعندما أستمع إليها تتحدَّث مع صديقاتها يبدو لي حديثهنَّ مُبهمًا. ذلك لأنهنَّ يستعنَّ في الحديث بكلمات من جميع اللغات؛ الإنجليزية والسواحيلية والألمانية ولغة لوو. وفي بعض الأحيان يفيض بي الكيل بسبب هذا الأمر. وأقول لهنَّ: تعلمن التحدُّث بصورةٍ صحيحة بلغة واحدة.» وبعدئذٍ ضحكت بينها وبين نفسها. واستطردت قائلةً: «لكنني بدأتُ أتقبَّل الأمرَ ما دام لا يُوجَد شيء يمكن فعْله حياله. إنهنَّ يعشن في عالمٍ مضطرب. وأعتقد أن هذا لا يُسبِّب لي أية مشكلة. ففي نهاية الأمر إنني لا أهتم بأن تكون لدي ابنة أفريقية حتى النخاع بقدْر اهتمامي بأن تكون لها شخصيتها المستقلة.» تأخَّر الوقت وشكرْنا رقيةَ على استضافتها لنا ومضَينا لحال سبيلنا. لكنَّ كلماتها ظلت معي وسلطتِ الضوء على ذكرياتي وتساؤلاتي الدائمة. وفي إجازة نهاية الأسبوع الأخيرة لزيارتي أخذتُ أنا وأوما القطار إلى الساحل، وأقَمْنا في فندقٍ قديم بالقُرب من الشاطئ في مومباسا وكان من الفنادق التي يُفضِّلها أبي. كان الفندق نظيفًا ومُتواضعًا وفي شهر أغسطس كان يكتظ في الأغلب بالسائحين الألمان والبحارة الأمريكيِّين وقتَ السماح لهم بمغادرة سفُنهم والذهاب حيث يريدون لمدةٍ محدودة. وفي هذه الفترة لم تكن لنا أنشطة كثيرة إلا أننا كنَّا نقرأ ونسبح ونمشي على الشاطئ ونحن نشاهد سرطانات البحر الشاحبة اللون وهي تنطلق مسرعةً كالأشباح إلى جحورها الرملية. وفي اليوم التالي زُرنا مدينة مومباسا القديمة وصعدنا على السلالم البالية لقلعة المسيح التي بناها البرتغالِيُّون لأول مرةٍ من أجل تعزيز السيطرة على الطرق التجارية بطول المحيط الهندي، والتي اجتاحتها فيما بعدُ الأساطيل العمانية السريعة ثم أصبحت بعدها رأس جسر للبريطانيين عند انتقالهم إلى الجزء الداخلي من البلاد بحثًا عن العاج والذهب، إلا أنها الآن ليست سوى إطار حجري فارغ مُقشَّرة جدرانه الضخمة مثل ورق اللصق المُقطَّع إلى مستطيلاتٍ برتقالية اللون باهتة وخضراء ووردية، ومشيرةٌ مَدافعه غير المستخدمة إلى بحرٍ هادئ رمى فيه صياد وحيد شبكتَه. في طريق العودة إلى نيروبي قرَّرتُ أنا وأوما أن نبذر بعضَ الأموال في شراء تذكرتَين لركوب حافلة تُحجَز مقاعدها. إلا أن الشعور بالرفاهية لم يستمرَّ طويلًا حيث ضغط على رُكبتَي راكب أراد أن يستردَّ قيمة أمواله التي دفعها من خلال المقاعد المتحركة الظهر، بالإضافة إلى الأمطار الثقيلة المفاجئة التي تدفَّقَت من الشقوق الموجودة في سقف الأتوبيس والتي حاولنا — دون جدوى — أن نَسُدَّها باستخدام المناديل الورقية. في نهاية الأمر توقَّف هطول الأمطار ووجدنا أرضًا تمرُّ على أنظارنا؛ قاحلة ويسكنها الحصى والشجيرات وشجرة الباوباب التي كانت فروعها العارية الممعِنة النظر إلى السماء مُزينة بالأعشاش الدائرية للطائر النسَّاج. تذكَّرت أنني قرأتُ في أحد الكتب أن شجرة الباوباب يمكن أن تظل سنوات دون إزهار، وأنها تعيش على هطول الأمطار الشحيحة، وعند رؤيتي الأشجار في هذا المكان في الضوء الغائم بعد الظهر عرفت سبب إيمان الناس بأنهم يملكون قوةً من نوع خاص؛ أنهم يكنُّون بداخلهم أرواح أسلافهم الخيرة والشريرة وأن الجنس البشري ظهر لأول مرة أسفل هذه الشجرة. لم يكن الأمر مُتعلقًا بمجرد غرابة شكلها أو هيئتها العتيقة المواجهة للسماء. قالت أوما: «تبدو هذه الأشجار وكأن لكلٍّ منها القدرة على سرد قصة»، وكان ذلك صحيحًا فكل شجرة بدت وكأن لها شخصيتها المستقلة، ليست خيرة أو قاسية، إلا أنها باقية وبها أسرار لم أستطِع إطلاقًا سبر أغوار أعماقها وحكمة لم أتمكَّن مطلقًا من استيعابها. على أن هذه الأشجار جعلتني أشعر بالانزعاج والراحة معًا؛ هذه الأشجار التي بدت وكأنها ستجتث نفسها من فوق الأرض وتمشي بعيدًا ببساطة لولا حقيقة أن أي مكان على وجه البسيطة لا يختلف كثيرًا عن أي مكان آخر؛ حقيقة أن اللحظة الواحدة تحمل بين جنباتها كلَّ ما حدث فيما مضى. ••• مرت ستُّ سنواتٍ منذ الرحلة الأولى إلى كينيا وتغيَّرت أحوال كثيرة في العالم. كانت هذه الفترة هادئة نسبيًّا فيما يتعلَّق بي؛ فقد اشتملت على أوقات اكتشافٍ أقلَّ من أوقات تقوية النفس وفعل الأشياء التي نُخبر أنفسنا أننا لا بد من أن نفعلها في النهاية لنطوِّر أنفسنا. التحقتُ بكلية الحقوق بجامعة هارفارد وقضيتُ أغلب سنوات الدراسة الثلاث في مكتباتٍ سيئة الإنارة، مُتمعنًا في دراسة القضايا والقوانين. وأحيانًا يمكن أن تبعث دراسة القانون على الشعور بالإحباط باعتبارها عملية تطبيق قوانين ضيقة النطاق وإجراءات يصعب فهمها على حقائق لا تُقدِّم المساعدة للآخرين؛ فهي نوع من التسوية الرفيعة المستوى تُنظِّم شئون ذوي السلطة وتسعى دائمًا إلى تقديم تفسيرات إلى غير ذوي السلطة متعلقةٍ بالحكمة النهائية لحالتهم وعدالتها. لكنَّ القانون ليس ذلك فقط. إنه ذاكرة وتسجيل لمحادثات جدالية بين أُمَّةٍ وضميرها استمرت فتراتٍ طويلة. أتذكَّر الكلمات الواردة في وثيقة إعلان الاستقلال: «إننا نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية.» أسمع فيها أصوات دوجلاس وروزفلت وجيفرسون ولينكولن وأشعر بكفاح مارتن لوثر كينج ومالكولم إكس والمعارِضين المغمورين المطالِبين بوضع هذه الكلمات حيزَ التنفيذ. وأسمع أصوات العائلات اليابانية التي اعتُقلت خلف أسلاكٍ شائكة، وأصوات شباب اليهود الروس الذين كانوا يقصُّون القماش لتصنيع الموديلات في المصانع الاستغلالية في لور إيست سايد، وأصوات المزارعين أثناء العواصف الترابية — التي ضربت الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين — الذين حمَّلوا شاحناتهم بأشلاء حياتهم المدمرة. أسمع أصوات الناس في ألتجيلد جاردنز وأصوات مَن وقفوا خارج حدود البلد؛ هؤلاء المتعَبون الجوعى مَن عبروا نهر ريو جراند. أسمع كل هذه الأصوات المناشدة بالاعتراف بها، ولجميعهم مطالبُ واحدة شكَّلت حياتي وهي المطالب نفسها التي أجدني أحيانًا في ساعة مُتأخِّرة من الليل أُطالب بها أبي. ما ماهية مجتمعنا؟ وكيف يمكن أن يتوافق مع حُريتنا؟ وإلى أي مدًى ستصل مسئولياتنا؟ وكيف يمكننا تحويل السلطة المجردة إلى عدالة، والعاطفة المجردة إلى حُب؟ إن الإجابات التي وجدتها في كتب القانون لم تكن لترضيني على الدوام، وفي كل قضية تمييز عنصري بين البِيض والسود، في التعليم أجد مجموعةً من القضايا يلقى فيها الضمير حتفَه على يد النفعية أو الطمع. ومع ذلك فإنني أجد نفسي في المحادثة نفسها — في اتحاد الأصوات — مُشجعًا بتواضُع على إيماني بأن ما يجمعنا معًا ربما يلقى القبول في النهاية ما دامت المطالب لا تزال تُنشَد. كان هذا الإيمان — المختلف اختلافًا شاسعًا عن البراءة — من الصعوبة بمكان الإبقاء عليه أحيانًا. وعند عودتي إلى شيكاغو وجدتُ دلالات الفساد مُتزايدة في الجانب الجنوبي بأكمله، حيث ازدادت الأحياء سوءًا وازداد توتر الأطفال وصعوبة التحكم فيهم وانتقلت عائلات أكثر من الطبقة المتوسطة إلى الضواحي واكتظت السجون بالشباب الغاضب، وانعدمت آمال وتوقعات إخوتي. وكان من النادر جدًّا سماعي الناس يتساءلون عما فعلناه لنجعل قلوب أطفالٍ كثيرين قاسيةً لهذا الحد، أو عمَّا يُمكننا فعله بيدٍ واحدة لتقويم الوازع الأخلاقي أو القيم التي لا بد من أن نتَّخذها أساسًا في حياتنا. إنما رأيتُ أننا نفعل ما كنا نفعله باستمرار؛ التظاهر بأن هؤلاء الأطفال ليسوا أطفالنا. حاولت أن أُسهِم إسهامًا بسيطًا في عكس هذا التيار. وفي ممارستي القانونية تعاملتُ بصفة غالبة مع الكنائس والاتحادات المجتمعية والرجال والسيدات الذين تمكَّنوا من بناء محلات بقالةٍ وعيادات دون إحداث أية مشكلات في قلب المدينة إلى جانب تجمُّعات سكنية للفقراء. ومن وقتٍ لآخر كنتُ أتعامَل مع إحدى قضايا التمييز العنصري لوكلاء كانوا يأتون إلى مكتب المحاماة الخاص بي بقصصٍ نُفضِّل أن نُخبر أنفسنا بأنها لم تَعُد موجودة. وكان معظم هؤلاء العملاء يُحرَجون إلى حدٍّ ما بسببِ ما حدث لهم، مثل رفض زملائهم في العمل من البِيض الإدلاءَ بشهادتهم لمصلحتهم لأنهم لا يُريدون أن يُعرَف عنهم أنهم من مختلِقي المشكلات. ومع ذلك فإنه في مرحلةٍ ما يجد كلٌّ من المدعي والشاهد أن القواعد في خطر الإخلال بها، وأنه مع كلِّ ما حدث فإن هذه الكلمات التي نُحِتت في المستندات منذ ٢٠٠ عام لا بد أن يكون لها معنًى في النهاية. ومن ثم فإن البِيض والسود يُطالبون بالمجتمع الذي نطلق عليه أمريكا. هم يختارون تاريخنا الأفضل. ••• أعتقد أنني خلال السنوات القليلة الماضية تعلمتُ أن أكون أكثرَ صبرًا مع نفسي ومع الآخرين. وإن صح هذا فإن ذلك أحد التطوُّرات الإيجابية الكثيرة في شخصيتي التي أعزوها إلى زوجتي ميشيل. إنها إحدى بنات الجانب الجنوبي تربَّت في منزلٍ مَبنيٍّ من طابق واحد قضيتُ فيه أوقاتًا كثيرة في عامي الأول في شيكاغو. في الواقع لا تستطيع ميشيل دائمًا معرفة كيف يمكن فهم شخصيتي وكانت قلِقة، مثلها مثل جَدي وأبي، من أن أكون حالمًا في دُنيا الخيال. إنها تُذكِّرني في الحقيقة — بطبيعتها العملية الباهرة واتجاهاتها المشابهة لاتجاهات الجزء الأوسط الغربي من الولايات المتحدة — بجَدتي إلى حدٍّ بعيد، وأتذكَّر أن جَدي في أول مرةٍ أخذتُ ميشيل إلى هاواي وَكَزني بمرفقه في ضلوعي وقال إنها «جذابة» للغاية. مع أن جَدتي وصفت عروسي المرتقبة بأنها «فتاة بالِغة الحساسية»، وهي الصفة التي فهمتها ميشيل على أنها أفضل صيغة مدح من جَدتي لها. بعد خطبتنا أخذتُ ميشيل إلى كينيا لمقابلة النصف الآخر من عائلتي وأُعجب بها أفراد العائلة هناك أيضًا. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنها سرعان ما تعلَّمَت عددًا من كلمات لغة قبيلة لوو فاق ما تعلمتُه. لقد قضَينا وقتًا طيبًا في أليجو ونحن نساعد أوما في مشروع الفيلم الذي كانت تُعِدُّه ونستمع إلى المزيد من القصص التي ترويها لنا الجَدة، ونُقابل أقاربنا الذين لم أستطِع مُقابلتهم في زيارتي الأولى. وبعيدًا عن الريف بدت الحياة في كينيا وقتئذٍ أصعب. ساءت الأحوال الاقتصادية جنبًا إلى جنب مع ارتفاع معدلات الفساد وجرائم الشوارع المصاحبة لسوء أحوال الاقتصاد. وظلَّت قضية إرث أبي مُعلَّقة دون حلٍّ وكانت سارة وكيزيا لا تزالان على خلاف، ولم يكن بيرنارد وآبو وسيد قد وجدوا عملًا ثابتًا بعدُ مع أنهم ظلُّوا مُفعمين بالأمل، وكانوا يتحدثون عن تعلُّم قيادة السيارات وربما الاشتراك جميعًا في شراء سيارة ماتاتو مُستعملة. حاولنا مرةً أخرى زيارة جورج — أخينا الأصغر — لكنَّ محاولاتنا باءت بالفشل. وأُصيب بيلي ابن عمنا القوي البنية الودود الذي قابلتُه لأول مرة في كندو باي بمرض الإيدز. ولذا كان هزيلًا وضعيفًا عندما رأيتُه وكان يمكن أن ينام فجأةً في غمرة الحديث معه. ومع ذلك بدا هادئًا وسعيدًا لرؤيتي وطلب منِّي أن أُرسل له صورة التُقِطت لي وله قبل الإصابة بالمرض. إلا أنه مات وهو نائم قبل أن أُرسِل الصورة له. في العام نفسه كانت هناك حالات وفاة أخرى. مات والد ميشيل — وكان رجلًا صالحًا ومهذبًا تمامًا مثلما عرفتُه — قبل أن يُزوِّج ابنته. ومات جَدي بعد ذلك بأشهُر بعد صراعٍ طويل الأمد مع سرطان البروستاتا. ولأنه كان محاربًا قديمًا في الحرب العالمية الثانية كان من حقِّه أن يُدفَن في مقابر بانشباول ناشونال سيميتري فوق هضبة تُطلُّ على هونولولو. وكانت مراسم الدفن بسيطةً ولم يكن موجودًا فيها سوى القليل من رفقائه الذين كانوا يلعبون معه الجولف والبريدج وأُطلِقت ثلاثة أعيرة نارية تبجيلًا له ونُفخ في البوق. مع كل هذه الأحزان قرَّرتُ أنا وميشيل أن نبدأ تنفيذ إجراءات الزواج وكان الراعي جيرميه إيه رايت الابن هو مَن أقام قُداس الزفاف في حرم كنيسة المسيح المتحدة للثالوث في شارع ٩٥. بدا الجميع سعيدًا وقت الحفل وأُعجبت عمَّاتي الجديدات بالكيك وأُعجب أعمامي الجدد بأنفسهم وهم مُرتدون حللَ السهرة التي استأجروها. كان جوني من بين الحضور وأخذ يضحك مع جيف وسكوت — صديقيَّ القديمين من هاواي — وحسن رفيق الحجرة أيام الجامعة. وكانت أنجيلا وشيرلي ومنى في الحفل أيضًا ومدحنَ أُمي لتربيتها لي. (وردَّت عليهنَّ أُمي وهي تضحك قائلةً: «إنكنَّ لا تعرفن أهم ما في هذه القصة.») رأيت مايا وهي تمنع تقرُّب بعض الرجال إليها الذين اعتقدوا أنهم مُتحدثون بارعون إلا أنهم كانوا في الواقع أكبرَ منها بكثير، وكان ينبغي أن يكون لديهم من الإدراك ما يجعلهم يتجنَّبون فِعْل ذلك، لكنني عندما بدأتُ أتذمَّر طلبَت منِّي ميشيل أن أهدأ وأخبرتني أن أختي الصغيرة باستطاعتها التعامُل مع الأمر بمفردها. وبالطبع كانت على حق، حيث إنني نظرتُ إلى أختي الصغيرة ورأيت فيها امرأةً ناضجة جميلة ذكية تبدو كأنها كونتيسة لاتينية ببشرتها ذات اللون الأسمر الفاتح وشعرها الأسود الطويل وردائها الأسود كإشبينة للعروس. وقفت أوما بجانبها وبدت جميلة مثلها مع أن عينَيها كانتا منتفِختَين قليلًا، وما أدهشني أنها الوحيدة التي بكت خلال القداس. وعندما بدأت الفرقة الموسيقية العزف أخذت أختاي تبحثان عن ابني عم ميشيل البالِغَين من العمر خمس وست سنوات واللذين كانا يحملان خاتمي الزواج بطريقةٍ مثيرة للإعجاب. وبينما أشاهد هذين الولدين وهما يتقدَّمان أختيَّ إلى صالة الرقص اعتقدتُ أنهما يشبهان أميرَين أفريقِيَّين بقُبعتَيهما الصغيرتَين المنقوشتَين وحزامي الخَصر المتماشِيَين مع القُبعتَين ورابطتَي العنق (البابيون). كان روي هو أكثر الأشخاص الذين فخرتُ بهم في الحفل. وفي الواقع إننا نُناديه الآن باسم آبونجو، وهذا هو اسمه بلغة قبيلة لوو، ومنذ عامَين قرَّر التمسُّك بأصله الأفريقي. واعتنق الإسلام وتوقَّف عن تناول لحم الخنزير وأقلع عن التبغ والكحوليات. إلا أنه لا يزال يعمل في مكتب المحاسبة لكنه يُفكِّر في العودة إلى كينيا بمجرد أن تتوفَّر لدَيه الأموال الكافية. في الواقع عندما تقابلنا في هوم سكويرد كان مشغولًا ببناء كوخ لنفسه ولأمه بعيدًا عن المجمع السكني الخاص بجَدنا طبقًا لتقاليد قبيلة لوو. وبعدئذٍ أخبرني أنه أحرز نجاحًا في نشاطه التجاري الخاص بالاستيراد، وأنه يأمُل في أن يؤتي ثماره قريبًا بصورةٍ تكفي لتوظيف بيرنارد وآبو بدوام كلي. وعندما ذهبنا معًا لنقف على قبر أبينا لاحظت أنه وُضعت أخيرًا لوحة باسم والِدنا فوق الشاهد الأسمنتي العاري. إن نظام الحياة الجديد الذي اتبعه آبونجو جعله نحيفًا ونافذ البصيرة، وفي الحفل بدا جديرًا بالاحترام في زيِّه الأفريقي الأسود المزيَّن بحلية بيضاء وقبعته المتماشية مع الزيِّ لدرجة أن بعض الضيوف اعتقدوا خطأ أنه والدي. ودون شكٍّ كان الأخ الأكبر يومئذٍ وأخذ يتحدَّث معي في غمرة شعوري بالقلق قبل الزواج ويُخبرني بطول أناةٍ خمس أو ست مراتٍ أن خاتم الزواج لا يزال معه عندما كنتُ أسأله، بالإضافة إلى أنه دفعني إلى خارج الباب بعد أن قال لي إنني إذا ما قضيتُ وقتًا أطول من ذلك أمام المرآة فلن يهم مظهري لأننا سنكون دون شك متأخِّرين. لم تحدُث كلُّ هذه التغيرات لروي دون أن يشعر بتوتر. كثيرًا ما كان يُعلن عن حاجة أي رجل أسود لأن يُحرِّر نفسه من التأثيرات المدمرة للثقافة الأوروبية عليه ويوبِّخ أوما على ما أطلق عليه «أساليبها الأوروبية في الحياة». ذلك لأن الكلمات التي كان ينطقها لم تكن كلماته بصفة كاملة، وفي تحوُّله من حالةٍ لأُخرى كان يبدو أحيانًا متكلفًا ومتحيزًا لآرائه. إلا أن سِحر ضحكته بقِيَ وكان يمكن أن نختلف معًا لكن دون أية ضغينة. كما أن تغيُّر عقيدته منحه منطقًا قويًّا يستند إليه وكبرياء بمكانته في العالم. ومن هذا المنطلق رأيته يبني ثقته؛ فبدأ يخاطر بالانتقال إلى كينيا ويطالب بأشياءَ أصعبَ منالًا ويطرح القواعد والشعارات جانبًا ويقرِّر الأفضل له. إلا أنه لم يستطِع مساعدة نفسه في فعْل ذلك لطيبة قلبه وخفة ظلِّه ونُبله مع الناس وتَسامحه لدرجةٍ جعلت من الصعب عليه إيجاد حلول بسيطة للغز كونه رجلًا أسود. قرب انتهاء حفل الزفاف رأيتُه يبتسِم ابتسامةً عريضة أمام كاميرا الفيديو وقد مدَّ ذراعَيه الطويلتَين فوق كتفَي أُمي وجَدتي اللتين لم تكد رأساهما تبلغان صدره. وقال لي وأنا مُتجه إليهم: «انظر يا أخي، يبدو أن لي أُمَّين جديدتَين الآن.» ربَّتت جَدتي على ظهره. وقالت: «وأصبح لدَينا ابنٌ جديد»، مع أنها عندما حاولت قول «آبونجو» فإن لهجة كانساس التي تتحدَّثها جعلتها تنطق الاسم بصورةٍ غير سليمة تمامًا. وعندئذٍ بدأت أُمِّي تبكي مرةً أخرى ورفع آبونجو كأس عصير الفاكهة الخاصة به. وقال: «نَخب مَن هم ليسوا معنا.» وقلت: «نَخب نهاية سعيدة.» سكبنا ما في كأسَينا ببطءٍ على الأرضية المكسوة ببلاط على هيئة مربعات. وفي هذه اللحظة على الأقل شعرت بأنني أكثرُ الرجال حظًّا على وجه البسيطة.
باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز». باراك أوباما: الرئيسُ الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، وأولُ رئيس لها من أصولٍ أفريقية، فاز بالانتخابات الرئاسية في الرابع من نوفمبر عام ٢٠٠٨م، بعد أن حقَّق انتصارًا ساحقًا على خَصمه «جون ماكين»، وذلك بفوزه في بعض مَعاقِل الجمهوريين مثل ولايتَي أوهايو وفيرجينيا. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩م نظيرَ جهوده في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. من مُؤلَّفاته كتاب «أحلام من أبي»، وكتاب «جُرأة الأمل: أفكار عن استعادة الحُلم الأمريكي» الذي تصدَّر قائمةَ أفضل الكتب مَبيعًا التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز».
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/0.2/
شكر وتقدير
ترجع معرفتي بنظرية الكَمِّ إلى أكثرَ من عشرين سنةً مضت منذ أيام الدراسة، وذلك عندما اكتشفتُ الطريقة السحرية التي فسَّر بها الجدول الدوري للعناصر نموذجَ الأغلفة الإلكترونية في الذرة، والمفترض بذلك أنه يُفسِّر كلَّ الكيمياء التي ناضلتُ من أجلها وتحملتُ الكثيرَ من الدروس المضجرة. وبتتبُّع هذا الاكتشاف بمساعدة كتبٍ من المكتبة تَدَّعي أنها «متقدمة أكثر من اللازم» بالنسبة إلى المستوى الدراسي المتواضع الذي كنتُ عليه، اكتشفتُ في الحال البساطةَ الرائعة التي تفسِّر بها نظريةُ الكَمِّ الطيفَ الذري، وقد اكتشفتُ بنفسي للمرة الأولى أن أفضلَ الأمور في العلم تتمتَّع بمزيجٍ من الجمال والبساطة، وهي الحقيقة التي يُخفيها كثيرٌ جدًّا من المعلمين عن تلاميذهم، إما عن قصدٍ وإما عن غير قصد. وقد شعرتُ بنفس شعور بطل رواية «البحث» للكاتب سي بي سنو — التي قرأتُها بعد ذلك بكثير— والذي اكتشفَ الشيء نفسه: لقد شاهدتُ مزيجًا من الحقائق المبعثرة تتَّخذ نسقًا منظَّمًا ومرتَّبًا … فقلت لنفسي: «لكنه مزيجٌ حقيقي.» «إنه جميل جدًّا وحقيقي.» يرجع السبب جزئيًّا إلى هذا الكشف فيما اتخذته من قرار بالتخصُّص في مادة الفيزياء أثناء دراستي الجامعية. وفي غضون فترةٍ وجيزة، تَحقَّق الطموح وأصبحتُ طالبًا جامعيًّا في جامعة ساسكس في برايتون. غير أن بساطة الأفكار الأساسية هناك وجمالها قد اختنقا في فيضٍ من التفاصيل والصيغ الرياضية المتعلِّقة بحل مسائلَ بعينِها بمساعدة معادلات ميكانيكا الكَمِّ. ويبدو أن تطبيق هذه الأفكار في عالَم الفيزياء اليوم أمرٌ يتعلَّق بالحقيقة والجَمال، شأنه شأن قيادة طائرة طراز ٧٤٧ مقارنةً بالطيران الشراعي، ومع ذلك فإن ما توصلتُ إليه من كشفٍ مبدئي ظل يمارس تأثيره الجوهري في حياتي المهنية، فقد أهملتُ عالَم الكَمِّ فترةً طويلة، ورُحت أستكشف مناحيَ علميةً أخرى. توقَّدت جذوة هذا الاهتمام الأول على أثرِ عدة عوامل مجتمعة. في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين، بدأت تظهر كتبٌ ومقالات تحاول تقديمَ عالَمِ الكَمِّ الغريب إلى جمهورِ غير المختصين علميًّا، وذلك بدرجاتٍ متفاوتة من التوفيق. وكان بعض الكتب التي تزعم أنها «تبسِّط العلم وتُروِّج له» مفرطًا في الخيال ومبتعِدًا عن الصدق، لدرجةِ أنني أتصوَّر أن أيَّ قارئ لا يمكن أن يكتشف حقيقةَ العلم وجماله بقراءة هذه الكتب، وبدأ يحدوني شعورٌ نحو إنجاز هذه المهمة على النحو اللائق. في الوقت نفسه، بدأت ترِدُ أنباءٌ حول سلاسل التجارب المستمرة التي أثبتت حقيقةَ عددٍ من أكثر السمات غرابةً في نظريةِ الكَمِّ، وقد حمَّستني هذه الأنباء أن أعود إلى ارتياد المكتبات للتنقيب والبحث وإنعاش استيعابي لهذه الأفكار الغريبة. وأخيرًا وفي أحد أعياد الميلاد طلبت مني قناة «بي بي سي» الإخبارية أن أشارك في برنامجٍ إذاعي كنوعٍ من الاتجاه المقابل لاتجاه مالكولم موجريدج الذي أعلن حديثًا تحوُّله إلى المذهب الكاثوليكي، وكان هو الضيف الرئيسي خلال هذا الموسم. وبعد أن أدلى هذا الرجل الشهير بدلوه مؤكدًا وجودَ جوانبَ ملغزةٍ في المسيحية، استدار ناحيتي وقال: «غير أنه يوجد هنا رجل يعرف كل الإجابات أو يدَّعي أنه يعرفها.» وخلال الوقت المحدود الذي أُتيح لي، حاولتُ أن أجيب بهدوء، مشيرًا إلى أن العلم لا يدَّعي معرفةَ جميع الإجابات، وأن الدِّين — وليس العلم — هو الذي يعتمد بالأساس على الإيمانِ المطلَق والقناعة المطلَقة بأن الحقيقة معروفة. وقلت: «أنا لا أومن بأي شيء»، وكنت بصدد الاستطراد في شرح هذه الفلسفة بينما انتهى وقت البرنامج. وقد احتفى بي الأصدقاء والمعارف طَوال أيام عيد الميلاد المجيد بترديد تلك الكلمات، وأمضيتُ ساعاتٍ في تفسيرِ ما مفاده أن عدمَ إيماني المطلَق بأي شيء لم يمنعني من ممارسة الحياة بصورةٍ عادية، مستفيدًا من الفرضيات المنطقية السارية مثل احتمال عدم اختفاء الشمس فجأةً. بلورت هذه العمليةُ أفكاري حول ماهية العلم، وتضمَّنت الكثيرَ من النقاشات بشأن الحقيقة الكامنة وراء عالَمِ الكَمِّ وواقعيته أو عدم واقعيته، وذلك بما يكفي لإقناعي بأنني كنت في الواقعِ مستعدًّا لكتابة الكتاب الذي بين أيديكم الآن. وأثناء إعداد الكتاب راجعتُ الكثير من الحجج والأسانيد الدقيقة في مساهماتي العلمية المنتظمة في البرامج الإذاعية التي استضافني فيها تومي فانس والتي بثَّتها خدمة الإذاعة التابعة للقوات البريطانية، وسرعان ما كشفتْ أسئلة توم الاستقصائية جوانبَ الخلل والقصور في طرحي، وأدَّت بدورها إلى تنظيمٍ أفضلَ لأفكاري. كانت مكتبة جامعة ساسكس المصدرَ الرئيسي للمادة المرجعية المستخدمة في إعداد الكتاب؛ ذلك حيث تضمُّ المكتبةُ واحدةً من أفضل مجموعات الكتب التي تناولت نظريةَ الكَمِّ في أي مكان، وقد جمعَ لي ماندي كابلين من مجلة «نيو ساينتست» عددًا من أكثرِ المراجع المغمورة، وهو يملك طريقةً مقنعة فيما يتعلَّق برسائل التلكس، وصحَّحتْ كريستين ساتون بعض مفاهيمي الخاطئة حول فيزياء الجسيمات ونظرية المجال. وأما عن زوجتي، فلم تزوِّدني بالدعم الأساسي فيما يتعلَّق بالبحث النظري وتنظيم المادة فقط، بل عالجت أيضًا كثيرًا من المشكلات وذلَّلت الكثير من العقبات. وأنا ممتنٌّ أيضًا للبروفيسور رودولف بيرلز الذي تجشَّم عناءَ الشرح التفصيلي للجوانب الصعبة في تجربة «الساعة في الصندوق» و«مفارقة إي بي آر». ومن ثَم، فإنَّ أي إطراء على جودة هذا الكتاب يجب أن يُرفع إلى كتب الكيمياء «المتقدمة» التي نسيتُ أسماءها الآن، والتي عثرتُ عليها في مكتبة مقاطعة «كِنت» وأنا في السادسة عشرة من العمر، وإلى الكتب «المبسطة» المضلِّلة وما نُشر عن أفكارِ الكَمِّ، الأمر الذي أقنعني بأنني أستطيع تناول الموضوع بصورةٍ أفضل، وأخصُّ بالشكر هنا مالكولم موجريدج وهيئةَ الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، ومكتبةَ جامعة ساسكس، وتومي وخدمةَ الإذاعة التابعة للقوات البريطانية (بي أف بي إس)، وماندي كابلين وكريستين ساتون، وأتوجَّه بشكرٍ خاصٍّ إلى مين. أما أي شكوى تتعلَّق بمواضعِ القصور في الكتاب فمرجعُها بالطبع إليَّ.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/0.3/
مقدمة
لو وُضعتْ كلُّ الكتب والمقالات التي كُتبتْ حول نظرية النسبية لغير المختصين جنبًا إلى جنب، فإنها قد تعانق عَنان السماء. و«الجميع يعرف» أن نظرية النسبية لأينشتاين هي أعظمُ إنجازٍ علمي في القرن العشرين، ولكن الجميع يجانبهم الصواب في ذلك. أما إذا وُضعت كلُّ الكتب والمقالات المكتوبة عن نظريةِ الكَمِّ لغير المختصين جنبًا إلى جنب، فإنها بالكاد تغطي سطح المكتب الذي أجلس إليه. ولا يعني ذلك أن نظريةَ الكَمِّ ليست معروفة خارج القاعات الأكاديمية. بل في الواقع أصبحت ميكانيكا الكَمِّ ذاتَ شعبيةٍ جارفة في بعض الأوساط؛ حيث استُعينَ بها لتفسيرِ ظواهرَ مثل التخاطر وانثناء الملاعق، وقدَّمت مادةً خصبة من الأفكار لرواياتٍ عديدة من روايات الخيال العلمي. وتُعرَف ميكانيكا الكَمِّ في الأساطير الشائعة، بقدرِ ما هي معروفة بأية حال، بالخفيانية والإدراك الحسي الخارجي، وهو فرعٌ غريب وخفي من العلوم لا يفهمه أحدٌ، وليس له أي استخدامٍ عملي. إنَّ الغرض من هذا الكتاب هو التصدي لهذا الموقف تجاهَ ما هو في واقع الأمر أهم المجالات وأرسخها في الدراسة العِلمية. وقد قادت عدةُ عواملَ مجتمعة في صيف عام ١٩٨٢ إلى تأليف الكتاب. وأول هذه العوامل هو أنني كنت قد انتهيت لتوِّي من تأليف كتابٍ عن النسبية بعنوان «تحدُّب الفضاء»، وشعرت أنه من المناسب أن أقتحم الفرع العظيم الآخر من علوم القرن العشرين وأحاول فكَّ طلاسمه. والعامل الثاني هو أنني أصبحت مستاءً بصورةٍ متزايدة من المفاهيم الخاطئة المتداولة تحت اسم نظريةِ الكَمِّ في الأوساط غير العلمية. وقد أفرزَ كتاب «الطاوية والفيزياء» الرائع لمؤلِّفه فريتيوف كابرا عددًا من المقلِّدين الذين لم يفهموا الفيزياء ولا الطاوية، لكنهم توهَّموا إمكانيةَ تحقيقِ كسبٍ مادي من خلال ربط العِلم الغربي بالفلسفة الشرقية. أما العامل الأخير، فهو ورود أنباءٍ من باريس في أغسطس ١٩٨٢ عن نجاحِ فريقٍ علمي في إجراءِ اختبارٍ حاسمٍ يؤكِّد دقة وجهة نظر ميكانيكا الكَمِّ عن العالَم، وذلك للذين لا يزالون يشكِّكون في نظريةِ الكَمِّ. لا تبحث هنا عن «التصوُّف الشرقي» أو انثناء الملاعق أو الإدراك الحسي الخارجي. بل عليك أن تبحث هنا عن القصة الحقيقية لميكانيكا الكَمِّ، وهي حقيقة أغرب بكثير من أي قصةٍ خياليةٍ مختلَقة. وهكذا هو حال العلم؛ فهو لا يحتاج إلى أن نضعه في رداء فلسفةِ شخصٍ آخر؛ ذلك أنه مليء بمواضع الاستحسان الخاصة به وله أسراره ومفاجآته. والسؤال الذي يعالجه هذا الكتاب هو «ما الواقع؟» وقد تفاجئك الإجابة (أو الإجابات)، وقد لا تصدِّقها. ولكنك ستكتشف كيف يرى العِلمُ المعاصر العالَم.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/0.4/
تمهيد
إنَّ القِطة المتضمَّنة في عنوان هذا الكتاب حيوانٌ خرافي، أما شرودنجر فشخصيةٌ حقيقية. كان إرفين شرودنجر عالِمًا نمساويًّا ساعد في منتصف عشرينيات القرن العشرين في وضْع معادلات فرعٍ من العلوم معروف الآن باسم ميكانيكا الكَمِّ. بيدَ أن تعبير «فرع من العلوم» ليس بالتعبير الصحيح هنا؛ لأن ميكانيكا الكَمِّ توفِّر الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة. تصف هذه المعادلات سلوكَ الأجسام المتناهية الصِّغر — التي في حجم الذرات أو أصغر — وتزوِّدنا أيضًا بالطريقة الوحيدة لفهْم عالَم الأشياء المتناهية الصِّغر. ومن دون هذه المعادلات لم يكن للفيزيائيين أن يُصمِّموا محطات الطاقة النووية العاملة (أو القنابل النووية)، أو أن يحصلوا على أشعة الليزر، أو حتى أن يفسِّروا كيف تحتفظ الشمس بسخونتها. ولولا ميكانيكا الكَمِّ لظلَّت الكيمياء في عصورها المظلمة، ولولا ظهورُ علم البيولوجيا الجزيئية لما فهمنا قط الحمضَ النووي أو الهندسة الوراثية. تمثِّل ميكانيكا الكَمِّ أعظمَ إنجازات العلم، وهي أهم بكثير من النظرية النسبية، وذات استخداماتٍ مباشرة وعملية أكثر منها. ومع ذلك، فقد قدَّمت بعض التنبؤات الغريبة للغاية. وفي الواقع، تتسم ميكانيكا الكَمِّ بالغرابة الشديدة، لدرجةِ أن ألبرت أينشتاين وجدها مبهمةً وغير مفهومة، ورفض أن يتقبَّل كل النتائج والآثار التي ساقها شرودنجر وزملاؤه بشأن النظرية. وجدَ أينشتاين وعلماءُ كثيرون غيره أنه من الأسلم الاعتقاد أن معادلات ميكانيكا الكَمِّ تمثِّل ببساطة نوعًا من الحِيَل الرياضية، الأمر الذي تصادف أنه قدَّم سبيلًا عمليًّا معقولًا يرشدنا إلى سلوك الجسيمات الذرية ودون الذرية، لكنه يخفي حقيقةً أعمقَ تتوافق بصورةٍ أقربَ مع إدراكنا المعتاد للواقع. ذلك أن ميكانيكا الكَمِّ تنادي بأنه لا يوجد شيءٌ حقيقي، وبأننا لا يمكننا أن ندلو بدلونا في سلوك الأشياء ما دمنا لا نشاهدها بأعيننا. وقد استُخدِمت قِطة شرودنجر الخرافية لتوضيح الفرْق بين العالَم الكمومي والعالَم اليومي المعتاد. في عالَم ميكانيكيا الكَمِّ، تتوقَّف قوانين الفيزياء المألوفة في حياتنا اليومية عن العمل. وتتحكَّم الاحتمالات في الأحداث عوضًا عن ذلك. فقد يحدث، على سبيل المثال، أن تتفكك ذرةٌ مُشعَّة وتطلق إلكترونًا، أو قد لا يحدث. ومن الممكن وضْع تجربة بحيث يكون هناك احتمال بنسبة ٥٠٪ أن تتفكَّك إحدى الذرات في كميةٍ كبيرة من مادةٍ مشعة في غضونِ فترةٍ زمنيةٍ معينة، ويسجِّل كاشِفٌ ما تفكُّكها في حال حدوثه حقًّا. وقد حاول شرودنجر — الذي كان استياؤه من نتائج نظريةِ الكَمِّ يضاهي استياء أينشتاين تمامًا — أن يوضِّح استحالةَ هذه النتائج وتعذُّرها، وذلك حيث تخيَّل أن مثل هذه التجربة قد أُجريت في غرفةٍ مغلقة، أو صندوقٍ مغلق، يوجد فيها أيضًا قِطةٌ حية وقِنِّينة بها سُمٌّ، واتخذت التدابير اللازمة بحيث إذا حدث وتفكَّكت الذرة المشعة فإن قِنِّينة السُّم تنكسر؛ ومن ثَم تموت القِطة. في عالَم الحياة اليومية، يوجد احتمال بنسبة ٥٠٪ أن تموت القطة، ومن دون النظر داخل الصندوق، يمكن القول بكل راحة إن القطة إما حية أو ميتة. ولكننا الآن نقف في مواجهةٍ مباشرة مع غرابة عالَمِ الكَمِّ. طبقًا للنظرية، لا يمكن لأيٍّ من الاحتمالَين الجائزِ حدوثُهما للمادة المشعة، ومن ثَم للقطة، أن يحدث في الواقع إلا إذا شاهدناه بأعيننا. لن يكون معروفًا هل حدث التفكُّك الذري أم لم يحدث، وهل قُتلت القطة أم لم تُقتَل حتى ننظر داخل الصندوق لنرى ما حدث. يقول المنظِّرون الذين يقبلون بالنسخة التجريدية الخالصة من ميكانيكا الكَمِّ إن القطة موجودةٌ في حالةٍ غير محدَّدة؛ فهي ليست حية ولا ميتة، حتى ينظر شخصٌ داخل الصندوق ليرى ما يجري. لا وجودَ لشيءٍ حقيقي حتى نشاهده بأعيننا. رأى أينشتاين وآخرون غيره أن هذه الفكرة بغيضةٌ ومحرَّمة. وقال: «إنَّ الرب لا يلعب النرد.» مشيرًا إلى النظرية التي تنادي بأن العالَم تحكمه مجموعة النتائج المترتِّبة على «اختياراتٍ» عشوائية بالأساس لاحتمالاتٍ على المستوى الكمومي. وفيما يتعلَّق بعدم حقيقة الحالة التي عليها قطة شرودنجر، فقد رفضها أينشتاين؛ حيث افترض أنه لا بد من وجود «آليةٍ منضبطة» تعزِّز حقيقة الأشياء. وقد قضى سنواتٍ عديدة في محاولة تصميم اختباراتٍ يمكن بواسطتها الكشف عن هذه الحقيقة الكامنة عمليًّا، لكنه مات قبل أن يتسنَّى له إجراءُ مثل هذا الاختبار. وربما أنه بالأحرى لم يمتد به العمر ليرى نتائج الحجة المنطقية التي ساقها بنفسه. في صيف سنة ١٩٨٢ وفي جامعة جنوب باريس بفرنسا، أكمل فريقٌ يقوده آلان أسبكت سلسلةً من التجارب المصمَّمة لاكتشاف الحقيقة الكامنة وراء العالَم الكمومي غير الواقعي. وقد أطلقوا على الحقيقة الكامنة — الآلية المنضبطة — اسم «المتغيرات الخفية»، ورصدت التجربة سلوك فوتونَيْن أو جسيمَيْن من الضوء ينطلقان مبتعدَين أحدهما عن الآخر في اتجاهَين متضادَّين من مصدرٍ للضوء. وقد وُصِفَت التجربة بالتفصيل في الفصل العاشر، لكن يمكن تخيُّلها في الأساس كاختبار للحقيقة. ويمكن مشاهدة الفوتونَين المنطلقَين من المصدرِ نفسِه بواسطة كاشِفَين يقيسان خاصيةً تسمَّى الاستقطاب. وتبعًا لنظرية الكَمِّ، فإن هذه الخاصية لا تُعدُّ موجودةً حتى يتم قياسها. وتبعًا لفكرة المتغير الخفي، فإنه يكون لكل فوتون استقطابٌ «حقيقي» منذ اللحظة التي نشأ فيها. ونظرًا لأن الفوتونَين قد انطلقا معًا، فإن استقطابَيهما يكونان مترابطَين. ولكن تختلف طبيعة الارتباط المقيس بالفعل تبعًا لمنظورَي الحقيقة. تتسم نتائجُ هذه التجربة الحاسمة بأنها قاطعة ولا الْتباس فيها. ذلك حيث لا يوجد نوع الارتباط الذي تنبأت به نظريةُ المتغير الخفي، بينما يوجد نوع الارتباط الذي تنبَّأت به ميكانيكا الكَمِّ، والأكثر من ذلك أنه طبقًا لما تنبأت به ميكانيكا الكَمِّ أيضًا فإنَّ القياس المستخدَم مع أحد الفوتونَين يكون له تأثيرٌ لحظي على طبيعة الفوتون الآخر. ويربط تفاعلٌ ما بين كلا الفوتونَين على نحوٍ معقَّد، على الرغم من اندفاعهما بعيدًا أحدهما عن الآخر بسرعة الضوء، وعلى الرغم مما تخبرنا به نظرية النسبية عن أنه لا يمكن لأي إشارة أن تنتقل بسرعة تفوق سرعة الضوء. أثبتت التجارب أنه لا توجد حقيقةٌ كامنة وراء العالَم. و«الحقيقة» بالمفهوم المعتاد ليست بطريقةٍ جيدة للتفكير في سلوك الجسيمات الأساسية التي يتكوَّن منها العالَم، ولكن في الوقت نفسه، تبدو هذه الجسيمات مرتبطةً على نحوٍ لا ينفصم في كلٍّ لا يتجزأ، بحيث يدرك كل جسيم منها ما يحدث للجسيمات الأخرى. لم يكن البحث عن قطة شرودنجر سوى بحثٍ عن الحقيقة الكمومية. وقد يبدو من هذا العرْض الموجز أن البحث غير ذي جدوى؛ حيث لا توجد حقيقة بالمفهوم المتداول للكلمة. غير أن هذه ليست نهاية القصة، وقد يقودنا البحث عن قطة شرودنجر إلى فهمٍ جديدٍ للحقيقة يتجاوز التفسير المتعارف عليه لميكانيكا الكَمِّ ولكنه يشمله. بيد أن الطريق طويل، ويبدأ بعالِم ربما يفوق أينشتاين في استيائه من الإجابات التي لدينا الآن عن الأسئلة التي حيَّرته وأمعن التفكير فيها. لم يكن لدى إسحاق نيوتن عندما عكف على دراسة طبيعة الضوء منذ ثلاثة قرون، أدنى فكرة بأنه كان بالفعل على الدرب الذي من شأنه أن يقوده إلى قطة شرودنجر.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/1/
الضوء
استحدث إسحاق نيوتن الفيزياء، وجاءت كل العلوم لتعتمد عليها. ولا شك أن نيوتن قد أسَّس أبحاثه على أبحاثِ آخرين غيره، إلا أن نشر قوانينه الثلاثة عن الحركة ونظرية الجاذبية منذ أكثر من ثلاثمائة سنة هو الذي وضع العِلم على الطريق الذي أدَّى إلى انطلاق رحلات الفضاء، واكتشاف أشعة الليزر، والطاقة الذرية، والهندسة الوراثية، وتكوين فهمٍ للكيمياء، وبقية العلوم كافة. على مدى مائتَي عام، سادت فيزياء نيوتن (التي تسمَّى الآن «الفيزياء الكلاسيكية») بقوةٍ وتصدَّرت القمة، وفي القرن العشرين ظهرت آراءٌ ثوريةٌ جديدة أخذت الفيزياء إلى ما هو أبعد كثيرًا من نيوتن، إلا أنه من دون هذين القرنَين من التقدُّم العلمي لم يكن لهذه الآراء الجديدة أن تتحقَّق. لا يرصد هذا الكتاب تاريخ العلوم، وهو معنيٌّ بالفيزياء الجديدة — فيزياء الكَمِّ — أكثر من تلك الأفكار الكلاسيكية. إلا أنه حتى في أبحاث نيوتن منذ ثلاثة قرون كانت هناك إشارات عن التغيرات التي ستحدث لاحقًا، والتي لم تنشأ عن دراساته لحركة الكواكب ومداراتها، ولا عن قوانينه الثلاثة الشهيرة، ولكن عن أبحاثه حول طبيعة الضوء. تُعزى أفكار نيوتن عن الضوء كثيرًا إلى أفكاره عن سلوك الأجسام الصلبة ومدارات الكواكب. أدرك نيوتن أن خبراتنا اليومية عن سلوك الأجسام قد تكون مضلِّلة، وأن جسمًا ما — وليكن جُسيمًا — غيرَ خاضع لأي قوًى خارجيةٍ لا بد أن يختلف كثيرًا في سلوكه عن جسيمٍ موجود على سطح الأرض. وتدُلنا خبرتنا اليومية على أن الأشياء تميل إلى البقاء في مكانٍ واحد ما لم تتعرَّض للدفع، وأنه بمجرد توقُّفك عن دفعها فإنها ستتوقف قريبًا. إذن لماذا لا تتوقَّف أجسامٌ مثل الكواكب أو القمر عن الحركة في مداراتها؟ وهل يدفعها شيءٌ ما؟ أبدًا على الإطلاق. الكواكب بطبيعتها لا تكون خاضعةً لأي تدخُّلٍ خارجي، ولكنها تتدخَّل في الأجسام التي على سطح الأرض. إذا حاولتُ أن أجعل قلمًا ينزلق على سطح مكتبي، فإن دفعي القلمَ يقاومه احتكاكُ القلم بسطح المكتب، وهذا ما يجعل القلم يتوقَّف عن التدحرج عندما أتوقَّف عن دفعه. أما إذا لم يكن هناك احتكاك، فإن القلم يظل في حركةٍ دائمة. وينص القانون الأول لنيوتن على أن الجسم يظل في حالةِ سكون، أو يتحرك بسرعةٍ ثابتة، ما لم تؤثِّر عليه قوةٌ خارجية. ويخبرنا القانون الثاني بمدى التأثير الذي تمارسه قوةٌ خارجية — قوة دفع — على جسمٍ ما. فهذه القوة تغيِّر من سرعة الجسم، ويسمَّى التغيُّر الحادث في السرعة التسارع؛ وبقسمة القوة على كتلة الجسم الذي تؤثِّر فيه القوة الخارجية، يكون الناتج هو التسارع الناشئ عن تأثير القوة على الجسم. وعادة ما يُصاغ القانون الثاني بطريقةٍ مختلفة نوعًا ما: القوة تساوي حاصل ضرب الكتلة في التسارع. ويخبرنا قانون نيوتن الثالث بشيءٍ عن ردِّ فعلِ الجسم حال دفعه: لكل فعل ردُّ فعل مساوٍ له في المقدار ومضادٌّ له في الاتجاه. إذا ضربتُ كرة تنس بمضربي، فإن القوة التي يدفع بها المضرب كرة التنس تساوي تمامًا القوة التي تدفع المضرب إلى الخلف، والقلم الموجود على سطح مكتبي المنجذب لأسفل بفِعل الجاذبية تؤثِّر فيه قوة دفعٍ مساوية تمامًا لرد الفعل الذي يمارسه سطح المكتب نفسه، وقوة المادة المتفجرة التي تدفع الغازات إلى خارج غرفة الاحتراق في الصاروخ تُنتِج قوةً ذات ردِّ فعلٍ مساوٍ في مقداره ومضاد في اتجاهه لرد فعل الصاروخِ نفسِه، مما يدفعه في الاتجاه المضاد. قدَّمت هذه القوانين، مع قانون الجاذبية لنيوتن، تفسيرًا لمدارات الكواكب حول الشمس ومدار القمر حول الأرض. وعندما يؤخَذ الاحتكاك في الاعتبار، فإن هذه القوانين تفسِّر كذلك سلوك الأجسام على سطح الأرض، وتكون بذلك قد شكَّلت أساس الميكانيكا. غير أنها اشتملت أيضًا على تضميناتٍ فلسفيةٍ محيِّرة. فتبعًا لقوانين نيوتن، يمكن التنبؤ بسلوك جُسَيمٍ ما بدقةٍ على أساس تفاعلاته مع الجسيمات الأخرى والقوى التي تؤثِّر عليه. ولو كان من الممكن معرفة موضعِ كلِّ جُسيم في الكون وحركته، لأصبح من الممكن إذن التنبؤ بدقةٍ تامةٍ بمستقبل كل جُسيم؛ ومن ثَم بمستقبل الكون. فهل يعني ذلك أن الخالق قد سيَّر الكون بوتيرةٍ منتظمة وأتمَّه وحرَّكه في مسارٍ يمكن التنبؤ به بدقةٍ تامة؟ أيَّدت الميكانيكا الكلاسيكية لنيوتن هذه النظرة الحتمية للكون ودعمتها كثيرًا، وهي نظرة لم تدَعْ للإنسان سوى القليل من حرية الإرادة أو المصادفة. فهل يمكن في الواقع أن نكون جميعًا دمًى نسير في مساراتنا المحدَّدة سلفًا في حياتنا، من دون أيِّ اختيارٍ حقيقي على الإطلاق؟ كان معظم العلماء مقتنعين بترك هذه المسألة للفلاسفة يتجادلون بشأنها. غير أن الأمر تغيَّر؛ فعادت هذه المسألة بقوة في صميم الفيزياء الجديدة في القرن العشرين. على ضوءِ ما حقَّقته فيزياء نيوتن عن الجُسيمات من نجاح، فإنه من غير المستغرَب تمامًا أن نيوتن عندما حاول تفسير سلوك الضوء قد فسَّره من حيث الجُسيمات. ففي النهاية، يُلاحَظ أن أشعة الضوء تنتقل في خطوطٍ مستقيمة، والطريقة التي يرتدُّ بها الضوء عن سطح المرآة تشبه كثيرًا الطريقةَ التي ترتدُّ بها الكرة عن جدارٍ صلب. وقد بنى نيوتن أول تلسكوبٍ عاكس، وفسَّر الضوء الأبيض على أنه تراكبٌ من كل الألوان في قوسِ قُزَح، وأجرى الكثير من الدراسات عن علم البصريات، إلا أن نظرياته ظلت تستند إلى افتراض أن الضوء يتألَّف من تدفُّقٍ من دقائقَ صغيرة، تُسمَّى الجسيمات. تنكسر أشعة الضوء عندما تجتاز السطح الفاصل بين مادتَين، إحداهما قليلة الكثافة والأخرى كثيرة الكثافة، كأن تمرَّ من الهواء إلى الماء أو الزجاج (ولهذا السبب يبدو عودُ مزجِ المشروبات وكأنه مثنيٌّ عند وضعه في شراب الكوكتيل)، وتفسِّر نظرية الجسيمات هذا الانكسار بجلاء، شريطة أن تتحرَّك الجسيمات الدقيقة بسرعةٍ أكبرَ في المادة ذات «الكثافة الضوئية» الأكبر. ومع ذلك، فحتى في عهد نيوتن كانت هناك طريقةٌ بديلة لتفسير كل ذلك. كان الفيزيائي الهولندي كريستيان هوجنس من معاصري نيوتن، لكنه كان يكبره بثلاثة عشر عامًا حيث وُلد سنة ١٦٢٩. وقد استحدث فكرة أن الضوء ليس تدفقًا من الجسيمات لكنه موجة، أقربُ شبهًا بالموجات التي تتحرَّك على سطح بحر أو بحيرة، إلا أنها تنتشر عبر مادةٍ غير مرئية تسمَّى «الأثير الناقل للضوء». وعلى غرار الموجات التي تحدثها حصاةٌ أُلقيت في بِركة، فإن موجات الضوء يمكن تصوُّرها على أنها تنتشر من مصدر الضوء في جميع الاتجاهات. وقد فَسَّرت النظريةُ الموجية الانعكاسَ والانكسار تمامًا مثل نظرية الجسيمات. وعلى الرغم مما قيل عن أن موجات الضوء تتحرك أبطأ خلال المادة ذات الكثافة الضوئية الأكبر بدلًا من أن تتحرك بسرعةٍ أكبر، فإنه لم تكن هناك وسيلةٌ متاحةٌ لقياس سرعة الضوء في القرن السابع عشر، ومن ثَم لم يستطِع هذا الاختلاف أن يحل التعارض بين النظريتَين. غير أن الفكرتَين تختلفان على نحوٍ ملحوظ في تنبؤاتهما، وذلك في جانبٍ أساسيٍّ واحد. فعندما يجتاز الضوء حافةً حادَّة، فإنه يُنتِج ظلًّا ذا حافةٍ حادة. وهذه هي بالضبط الطريقة التي يُفترض أن تسلكها تدفُّقات الجسيمات التي تنتقل في خطوطٍ مستقيمة. أما الموجة فإنها تنكسر، أو تحيد، متخذة طريقها خلال الظل (تذكَّر الموجات المتكوِّنة على سطح البِركة حال انكسارها حول الحصاة). منذ ثلاثمائة سنة مضت، كان هذا الدليل يصبُّ بوضوح في صالح نظرية الجسيمات، واستبعدت النظرية الموجية، وإن كانت لم تُنسَ. ولكن، بحلول القرن التاسع عشر، انعكس الوضع تمامًا بالنسبة إلى النظريتَين. استخدم يونج معرفتَه بطريقة تحرُّك الموجات على سطح بِركة ليصمِّم تجربةً لاختبارِ ما إذا كان الضوء ينتشر بالطريقةِ نفسِها أم لا. ونحن نعرف جميعًا شكلَ موجات الماء، وإن كان من المهم أن نفكِّر في التموُّجات بدلًا من الموجات المتكسِّرة الكبيرة ليكون التشبيه دقيقًا. وما يميز الموجات هو أنها ترفع مستوى الماء إلى أعلى قليلًا ثم تخفضه بمرور الموجة، ويسمَّى ارتفاعُ قمَّة الموجة فوق مستوى الماء غير المضطرب سعةَ الموجة، وفي حالة الموجة المثالية تكون هذه السعة مساويةً تمامًا لمقدار الانخفاض في مستوى الماء عند مرور الموجة. وعلى غرار التموُّجات الناتجة عن إلقاء حجرٍ في البِركة، تتتابع التموُّجات واحدةً تلو الأخرى بمسافةٍ منتظمة، تسمَّى طول الموجة، ويُقاس بين قمتَين متتاليتين. وتنتشر الموجات على شكل دوائر حول النقطةِ التي سقطت فيها الحصاة في الماء، غير أن موجات البحر أو التموُّجات التي تحدث على سطح بحيرةٍ بفعل هبوب الرياح، قد تنتشر على شكل سلسلةٍ من خطوطٍ مستقيمة من موجاتٍ متوازية الواحدة تلو الأخرى. وفي كلتا الحالتين، فإن عدد قمم الموجات التي تعبُر نقطةً ثابتةً معينة — صخرة مثلًا — في كل ثانية يخبِرنا بتردُّد الموجة. والتردُّد هو عدد الأطوال الموجية التي تمرُّ كل ثانية، وبذلك فإن سرعة الموجة، أو السرعة التي تتقدَّم بها كل قمة، تساوي طول الموجة مضروبًا في التردُّد. تبدأ التجربة الحاسمة بموجاتٍ متوازية، تشبه بالأحرى خطوطَ الموجات التي تتقدَّم نحو الشاطئ قبل تكسُّرها. ويمكنك تخيُّل هذه الموجات على أنها كالموجات الناتجة عن إلقاءِ جسمٍ كبير جدًّا في الماء على مسافةٍ كبيرة. تشبه «التموُّجات» المنتشرة في دوائرَ متناميةِ الموجات المتوازية أو المستوية إذا كنتَ بعيدًا بما يكفي عن مصدر التموُّجات؛ لأن من الصعب اكتشافَ انحناء الدوائر الكبيرة للغاية التي يقع مركزها في الموضع الذي يمثِّل بداية الاضطراب. ومن السهل التحقُّق مما يحدث لهذه الموجات المستوية في خزان مياهٍ عند وضع حاجزٍ في مسارها. إذا كان الحاجز صغيرًا، فإن الموجات ستنحني حوله وستملأ ما وراءه بواسطة الحيود، تاركةً «ظلًّا» صغيرًا جدًّا، أما إذا كان الحاجز كبيرًا جدًّا مقارنةً بالطول الموجي للتموُّجات، فإنها تنحني قليلًا باتجاه الظل المتكوِّن خلف الحاجز تاركةً مجالًا من المياه غير المضطربة. وإذا كان الضوء موجة، فلا يزال من الممكن الحصول على ظلالٍ ذات حوافَّ حادة، شريطة أن يكون الطول الموجي للضوء صغيرًا جدًّا مقارنةً بحجم الجسم الذي يلقي بظله. والآن لنشرحِ الفكرة من ناحيةٍ أخرى. تخيَّل مجموعةً جيدة من الموجات المستوية تتقدَّم عبْر خزانِ مياه وتقترب، لا من حاجزٍ صغيرٍ محاطٍ بالماء، بل من جدارٍ كامل يسدُّ مسارها، وبه فتحة في المنتصف. إذا كانت الفتحة أكبرَ كثيرًا من الطول الموجي للموجة المضطربة، فإن جزء الموجة المواجهَ لهذه الفتحة هو فقط ما سيمرُّ؛ حيث ينتشر إلى حدٍّ ما تاركًا معظم الماء على الجانب الآخر من الحاجز دون أي اضطراب، مثل الموجات التي تضرب حاجزَ الأمواج في الموانئ وتدخل من فتحة الميناء. أما إذا كان الثقب في الجدار صغيرًا جدًّا، فإن الثقب سيكون بمثابةِ مصدرٍ جديد للموجات الدائرية، كما لو أن الحصى قد أُلْقِيَ في الماء عند هذا الموضع. وعلى الجانب الأبعد من الجدار، تنتشر هذه الموجات الدائرية (أو بتعبيرٍ أدقَّ نصف الدائرية) عبر سطح الماء دون أن تترك جزءًا دون اضطراب. تبدو الأمور واضحةً حتى الآن. والآن نصل إلى تجربة يونج. لنتخيلِ التجربة بنفس النسق السابق، وهو خزان مياه تتحرَّك فيه موجاتٌ متوازية باتجاه حاجز، لكنه هذه المرة حاجزٌ به ثقبان صغيران. سيكون كل ثقب بمثابةِ مصدرٍ جديد للموجات نصف الدائرية في جزء الخزان الواقع خلف الحاجز، ولأن هاتين المجموعتَين من الموجات قد ولَّدتهما الموجاتُ المتوازية نفسُها على الجانب الآخر من الحاجز، فإنهما ستتحرَّكان في تناغمٍ أو في الطَّور نفسه. عندنا الآن مجموعتان من التموُّجات المنتشرة عبر المياه، الأمر الذي ينتج عنه نسقٌ أكثرُ تعقيدًا من التموُّجات على السطح. بما أن كلتا الموجتَين ترفع سطح الماء إلى أعلى، فإننا نحصل على قمةٍ أكثرَ وضوحًا، وبما أن إحدى الموجتَين تحاول إنشاء قمة والأخرى تحاول إنشاء قاع، فإنهما تتلاشيان ويبقى مستوى الماء غير مضطرب. ويطلق على هذين التأثيرَين التداخل البنَّاء والتداخل الهدَّام، ومن السهل رؤيتهما بطريقةٍ أبسطَ إذا ألقيتَ بحصاتَين في بِركة ماء في نفس اللحظة. إذا كان الضوء موجة، فإنه يمكن من خلالِ تجربةٍ مكافئة إثباتُ حدوثِ تداخلٍ مماثل بين الموجات الضوئية، وهذا بالضبط ما اكتشفه يونج. سلَّط يونج ضوءًا على حائلٍ يعترض مسار الضوء وبه شقَّان رفيعان. خلف الحائل، انتشر الضوء من الثقبَين وتداخل. وعلى افتراض أن تشبيه الضوء بموجات الماء صحيح، لا بد أن يتكوَّن نسقُ تداخلٍ خلفَ الحائل يتضمَّن على التناوب مناطقَ شديدةَ الإضاءة وأخرى معتمة، وهو ما يرجع إلى التداخل البنَّاء والتداخل الهدَّام للموجات المارة عبْر كل شق. وهذا بالضبطِ ما شاهده يونج عندما وضع شاشةً بيضاء اللون خلف الشقَّين؛ حيث انتشرت نطاقاتٌ متناوبة من الضوء والظل على طول الشاشة. غير أن تجربة يونج لم تُشعِل حماس عالَم العلوم، لا سيَّما في بريطانيا. فقد كانت المؤسَّسة العلمية هناك تنظر إلى معارضةِ أي فكرة من أفكارِ نيوتن على أنها ربما تكون ضربًا من الهرطقة، وأنها بالتأكيد خيانةٌ للولاء الوطني. مات نيوتن سنة ١٧٢٧، وسنة ١٧٠٥ — أي قبل أن يُصرِّح يونج باكتشافه بأقلَّ من مائة عام — أصبح أولَ عالِمٍ يحصل على لقب «فارس». وكان من السابق لأوانه أن يُخلَع هذا الشخص المبجَّل لدى شعبه عن عرشه في إنجلترا، ومن ثَمَّ ربما كان من المناسب في عصر حروب نابليون أن يتبنَّى رجلٌ فرنسي، وهو أوجستين فرينل، هذه الفكرةَ «غير الوطنية» ويضع في نهاية المطاف التفسير الموجي للضوء. ومع أنه لم يفصِل بين أبحاث فرينل وأبحاث يونج سوى بضع سنوات، فإنها كانت أكثرَ اكتمالًا؛ حيث قدَّمت تفسيرًا موجيًّا لكل الجوانب تقريبًا المتعلقة بسلوك الضوء. على سبيل المثال لا الحصر، فسَّر فرينل ظاهرةً مألوفة لنا جميعًا اليوم، وهي الانعكاسات الملوَّنة الجميلة التي تحدُث عند سقوط الضوء على طبقةٍ رقيقة من الزيت. ويرجع السبب مجددًا في هذه الظاهرة إلى تداخل الموجات. ينعكس بعض الضوء من السطح العلوي لطبقة الزيت، بينما ينفُذ البعض الآخر وينعكس على السطح السفلي لطبقة الزيت. ومن ثَم، فهناك شعاعان مختلفان ينعكسان ويتداخلان أحدهما مع الآخر. ونظرًا إلى أن كل لون من ألوان الضوء يقابله طولٌ موجيٌّ مختلِف، والضوء الأبيض يتألَّف من تراكبٍ من كل ألوان قوسِ قُزَح، فإن انعكاس الضوء الأبيض من طبقة الزيت سيولِّد كتلةً من الألوان؛ لأن بعض الموجات (الألوان) تتداخل على نحوٍ هدَّام، بينما يتداخل بعضها الآخر على نحوٍ بنَّاء، وذلك تبعًا للنقطة التي تنظر منها إلى طبقة الزيت. وعندما توصَّل عالِمُ الفيزياء الفرنسي ليون فوكو — الذي اشتهر بالبندول الذي يحمل اسمه — في منتصف القرن التاسع عشر إلى أن سرعة الضوء أقلُّ في الماء عنها في الهواء، على عكس تنبؤات نيوتن في نظرية الجسيمات، لم يزِد ذلك عما توقَّعه أيُّ عالِم حَسن السمعة. وبحلول ذلك الوقت، كان «الجميع يعرف» أن الضوء شكلٌ من أشكال الحركة الموجية تنتشر خلال الأثير، أيًّا كان ما يعنيه الأثير. ومع ذلك، ربما كان من الجيد معرفة الشيء الذي «يسلك سلوك الموجة» في شعاع الضوء. وفي فترتَي الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر، بدا أن نظرية الضوء قد اكتملت أخيرًا عندما أثبت عالِم الفيزياء الاسكتلندي العظيم جيمس كلارك ماكسويل وجود موجات تتضمَّن مجالاتٍ كهربيةً ومغناطيسيةً متغيرة. وقد تنبَّأ ماكسويل بأن هذه الإشعاعات الكهرومغناطيسية تتضمَّن أنماطًا من مجالاتٍ كهربية ومغناطيسية أقوى وأضعف بالطريقة نفسِها التي تتضمَّن بها موجات الماء قممًا وقيعانًا في منسوب الماء. وقد نجح هاينريش هيرتز سنة ١٨٨٧ في بث واستقبال إشعاع كهرومغناطيسي على هيئة موجات راديو، تشبه موجات الضوء لكنها ذات أطوالٍ موجيةٍ أطول. وأخيرًا اكتملت النظرية الموجية للضوء، في فترةٍ انقلبت فيها المفاهيم من جرَّاء الثورة العظمى التي شهدها التفكير العلمي منذ عهد نيوتن وجاليليو. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن ليقترح أحد أن الضوء عبارة عن جُسيمات إلا إن كان عبقريًّا أو أحمق. وكان اسم هذا الشخص ألبرت أينشتاين، ولكن قبل أن نفهم السبب الذي دفعه إلى اتخاذ هذه الخطوة الجريئة، لا بد لنا من معرفة المزيد عن أفكار الفيزياء في القرن التاسع عشر.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/2/
الذرات
ومع أن الإنجليزي روبرت بويل قد استخدم مفهوم الذرات في أبحاثه في مجال الكيمياء في القرن السابع عشر، وأخذها نيوتن في الاعتبار في أبحاثه في مجال الفيزياء والبصريات، لم تصبح الذرات جزءًا من التفكير العلمي إلا في القسم الأخير من القرن الثامن عشر، عندما درس الكيميائي الفرنسي أنطوان لافوازييه سببَ احتراق الأشياء. وقد حدَّد لافوازييه عناصرَ حقيقيةً عديدة، وهي موادُّ كيميائيةٌ نقية، لا تتفكَّك إلى موادَّ كيميائيةٍ أخرى، وقد تحقَّق لافوازييه من أن الاحتراق هو ببساطة العملية التي يتَّحد من خلالها أكسجين الهواء الجوي مع العناصر الأخرى. وفي السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، تمكَّن جون دالتون من بلورة دور الذرات في الكيمياء ووضعه على أساسٍ راسخ. فقد ذكر أن المادة تتكوَّن من ذراتٍ غيرِ قابلة للانقسام، وأن ذرات كل عنصر متماثلة، ولكنَّ للعناصر المختلفة أنواعًا مختلفة من الذرات (ذات أحجامٍ وأشكالٍ مختلفة)، وأن الذرات لا تُستحدَث من العدم ولا تفنى، لكن يُعاد تنظيمها بواسطة التفاعلات الكيميائية، وأن المركَّب الكيميائي الذي يتكوَّن من عنصرَين أو أكثر، يتكوَّن من جزيئات، كلٌّ منها يتكوَّن من عددٍ بسيطٍ ثابت من ذرات كل عنصر من العناصر الداخلة في تركيب المركَّب. ومن ثَم، لم يأتِ المفهوم الذري للعالَم المادي إلى حيز الوجود، بالصورة التي يُدرَّس بها في الكتب الدراسية، إلا منذ ما يقرب من مائتَي عام. لم يكن هذا المقالُ سوى واحدٍ من ثلاثة مقالات نشرها أينشتاين في العددِ نفسِه من مجلة «أنال دي فيزيك» سنة ١٩٠٥، وأي مقال منها كفيلٌ بحجز مكانٍ له في سجل تاريخ العلوم. تناول أحدُ المقالات نظرية النسبية الخاصة، وهي خارج نطاق الكتاب الحالي، وعُني مقالٌ آخرُ بالتفاعل بين الضوء والإلكترونات، وقد أُقرَّ هذا المقال فيما بعدُ كأولِ بحثٍ علمي يتناول ما نسميه الآن ميكانيكا الكَمِّ، وقد نال عنه أينشتاين جائزة نوبل سنة ١٩٢١. أما المقال الثالث فقدَّم تفسيرًا بسيطًا بدرجةٍ خادعة لأُحجية حيَّرت العلماء منذ عام ١٨٢٧، وقد أثبت هذا المقال، بقدرِ ما تسنى لأي ورقةٍ بحثيةٍ نظرية، حقيقة وجود الذرات. وكان من دواعي المفارقة أن نُشِر هذا المقال باللغة الألمانية (في مجلة «أنال دي فيزيك») لأنها كانت الجبهة المعارِضة لرواد العلماء المتحدثين بالألمانية مثل إرنست ماخ فيلهلم أوستفالد، الأمر الذي أقنع بولتزمان أن صوته كان صرخةً في وادٍ لم يستجِب لها أحد. وفي الحقيقة، مع بداية القرن العشرين كان هناك الكثير من الأدلة على حقيقة وجود الذرات، حتى لو قلنا إن هذه الأدلة يمكن بالأحرى وصفها بأنها ثانوية أو عَرَضية؛ وقد أيَّد علماء الفيزياء البريطانيون والفرنسيون النظريةَ الذرية باقتناعٍ أكثرَ بكثير من نظرائهم الألمان، وكان الإنجليزي جيه جيه طومسون هو مَن اكتشف الإلكترون — الذي نعلم الآن أنه أحد مكوِّنات الذرة — سنة ١٨٩٧. دار كثيرٌ من الجدل والنقاش في أواخر القرن التاسع عشر بشأن طبيعة الإشعاع الناتج من سلكٍ يمرُّ به تيارٌ كهربي في أنبوبٍ مفرَّغ من الهواء. قد تكون أشعةُ الكاثود تلك — كما كانت تُسمَّى — صورةً من الإشعاع، ناتجةً من ذبذبات الأثير لكنها مختلفة في خواصها عن الضوء وعن موجات الراديو المكتشَفة حديثًا، أو قد تكون تدفُّقاتٍ من جسيماتٍ دقيقة. أيَّد معظم العلماء الألمان فكرةَ موجات الأثير، بينما رأى معظم العلماء البريطانيين والفرنسيين أن أشعة الكاثود لا بد أن تكون جُسيمات. وازداد الوضع تعقيدًا مع الاكتشاف العَرضي للأشعة السينية (أشعة إكس) على يد فيلهلم رونتجن سنة ١٨٩٥ (حصل رونتجن سنة ١٩٠١ على أول جائزة نوبل في الفيزياء على هذا الاكتشاف)، ولكن تبيَّن أن ذلك لم يكن سوى مسألةٍ ثانويةٍ زائفة يُراد بها صرفُ الانتباه عن المسألة الحقيقية. وعلى الرغم من أهمية هذا الاكتشاف — كما ثبت سريعًا بعد ذلك — فإنه كان يوجد من قبلُ إطارٌ نظري للفيزياء الذرية يمكن أن تندرج تحته أشعة إكس. وسوف نتحدَّث عن أشعة إكس مرةً أخرى في سياقٍ أكثرَ منطقية أثناء تقدُّمنا في الكتاب. لم يكن هذا الاكتشاف بمحض المصادفة مثلما حدث في اكتشاف أشعة إكس، لكنه كان نتاج التخطيط الجيد والتجارب المصمَّمة بمهارة. أنشأ ماكسويل مختبرَ كافنديش، لكنه لم يصبح مركزًا رائدًا في مجال التجريبية — وربما المعمل الرائد عالميًّا في الفيزياء — إلا في عهد طومسون وتحت قيادته؛ حيث كان يشكِّل جوهر الاكتشافات التي أدَّت إلى الفهْم الحديث للفيزياء في القرن العشرين. وكما حصل طومسون نفسُه على جائزة نوبل، حصل أيضًا سبعة ممن عملوا تحت قيادته في مختبر كافنديش على الجائزةِ نفسِها في الفترةِ ما قبل سنة ١٩١٤. ولا يزال هذا المختبر مركزًا عالميًّا للفيزياء حتى يومنا هذا. اتضح أن أشعة الكاثود، الناتجة عن لوحٍ سالبِ الشحنة في أنبوبٍ مفرَّغ من الهواء، عبارة عن جسيماتٍ سالبة الشحنة، وهي الإلكترونات. أما الذرات فهي متعادلة كهربيًّا، ومن المنطقي تمامًا أن تكون هناك نظائرُ موجبةُ الشحنة للإلكترونات، والتي انفصلت عن الذرات المحتوية على جسيمٍ سالبِ الشحنة وقُذِفت خارجها. وقد كان فيلهلم فيين من جامعة فورتسبورج من أوائل مَن درسوا هذه الأشعة الموجبة سنة ١٨٩٨، وتوصَّل إلى أن الجسيماتِ المكوِّنة لهذه الأشعة أثقلُ كثيرًا من الإلكترونات، كما يُفترض بنا أن نتوقَّع ما إذا كانت هذه مجرَّدَ ذراتٍ فقدت إلكترونًا. وبعد أبحاثه على أشعة الكاثود أخذ طومسون على عاتقه تحدياتِ دراسة هذه الأشعة الموجبة في سلسلة من التجارب الصعبة امتدت حتى عشرينيات القرن العشرين. ويُطلَق على هذه الأشعة اليومَ ذراتٌ متأيِّنة، أو ببساطة «أيونات»، أما في أيام طومسون فكانت تُسمَّى الأشعةَ القنوية، وقد درس طومسون هذه الأشعةَ باستخدامِ أنبوبِ أشعةِ كاثود معدَّل، والذي كان يحتوي على قليل من الغاز الذي خلَّفته مضخة التفريغ. كانت الإلكترونات التي تتحرَّك خلال الغاز تتصادم مع ذراته، وتقذف إلكتروناتٍ أخرى خارجها تاركةً الأيونات الموجبة الشحنة، التي يمكن التعامل معها بالمجالَين الكهربي والمغناطيسي بالطريقةِ نفسِها التي تعامل بها طومسون مع الإلكتروناتِ نفسِها. وبحلول سنة ١٩١٣ كان فريق طومسون يُجري قياساته على حيود الأيونات الموجبة للهيدروجين والأكسجين وغازاتٍ أخرى. وكان غاز النيون أحدَ الغازات التي استخدمها طومسون في هذه التجارب، ووجد أن مقدارًا ضئيلًا من النيون في الأنبوب المفرَّغ الذي يمرُّ خلاله تيارٌ كهربي يتوهَّج بشدة، ومن ثَمَّ كان جهاز طومسون رائدًا لأنبوب النيون الحديث. ولكن ما اكتشفه طومسون كان أهم بكثير من مجرد اكتشافِ نوعٍ جديد من اللافتات الإعلانية. تصوَّر طومسون الذرةَ شيئًا أشبهَ بالبطيخة، كرة كبيرة نسبيًّا تنتشر خلالها الشحنة الموجبة، والإلكترونات الصغيرة مضمَّنة داخلها مثل البذور، ويحمل كلٌّ منها مقدارًا ضئيلًا من الشحنة السالبة خاصًّا به. وقد اتضح خطؤه، لكنه قدَّم للعلماء هدفًا يوجِّهون إليه أبحاثهم، وقد أدَّت تجاربهم البحثية حول هذا الهدفِ إلى فهمٍ أكثرَ دقةً لتركيب الذرة. وحتى نرى كيف حدث ذلك، علينا أن نرجع خطوةً إلى الوراء في تاريخ العلوم، ثم نتقدَّم خطوتَين. اتضح أن المدخل إلى معرفةِ سرِّ تركيبِ الذرة هو اكتشاف النشاط الإشعاعي سنة ١٨٩٦. وعلى غرار اكتشاف أشعة إكس قبل هذا العام ببضعة أشهر، كان هذا الاكتشاف مصادفةً موفَّقة، وإن كان في كلتا الحالتَين مصادفةً موفَّقةً تحتَّم إجراؤها في مختبرٍ للفيزياء في غضون هذه الفترة. كان فيلهلم رونتجن يُجري تجاربَه على أشعة الكاثود مثل كثيرين من علماء الفيزياء في تسعينيات القرن التاسع عشر. وقد تبيَّن بالمصادفة أنه عند اصطدام هذه الأشعة — الإلكترونات — بجسمٍ مادي، فإن التصادم ينتج عنه أشعةٌ ثانوية. وهذه الأشعة غيرُ مرئية إلا أنه يمكن الكشف عنها من خلال تأثيرها في الألواح الفوتوغرافية أو الأفلام، أو من خلال تأثيرها في قطعةٍ من جهازٍ تسمَّى الشاشة الفلورسنتية، تُصدِر شررًا من الضوء عندما تصطدم بها الأشعة. وقد تصادف أن رونتجن كانت لديه شاشة فلورسنتية موضوعة على طاولة بالقرب من تجربته بأشعة الكاثود، وسرعان ما لاحظ أن هذه الشاشة تتوهَّج عندما يبدأ أنبوب التفريغ في تجربة أشعة الكاثود في العمل. وقد أدَّى به ذلك إلى اكتشاف الأشعة الثانوية التي أطلَق عليها «إكس»؛ لأن إكس يرمُز عادةً إلى الكَمِّية المجهولة في المعادلات الرياضية. وسرعان ما تبيَّن أن أشعة إكس تسلك سلوكَ الموجات (نحن نعرف الآن أنها صورة من الإشعاع الكهرومغناطيسي، تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ موجاتِ الضوء، لكن أطوالها الموجيَّة أقصرُ منه بكثير)، وقد ساعد هذا الاكتشاف الذي تمَّ التوصُّل إليه في مختبرٍ ألماني في تأكيد وجهة نظر معظم العلماء الألمان في أن أشعة الكاثود لا بد أن تكون أيضًا موجات. أُعلن عن اكتشاف أشعة إكس في ديسمبر سنة ١٨٩٥ وأحدث ذلك ثورةً في المجتمع العلمي. وقد حاول باحثون آخرون إيجادَ طرقٍ أخرى لإنتاج أشعة إكس أو أشكالٍ ذات صلة من الإشعاع، وكان أولَ مَن نجح في ذلك هو هنري بيكريل في باريس. وكانت أكثر السمات المثيرة للاهتمام في أشعة إكس هي الطريقة التي تمرُّ بها دون أي عوائقَ خلال الكثير من المواد المعتمة، مثل الورقة السوداء، لينتج عنها صورةٌ على لوحٍ فوتوغرافي لم يتعرَّض للضوء. وكان بيكريل مهتمًّا بظاهرة الفسفرة، أو الوميض الفسفوري، التي تعني انبعاث الضوء بواسطة مادةٍ سبق لها أن امتصَّت الضوء. ولا تبعث الشاشة الفلورسنتية — على غرار تلك التي وردت في اكتشاف أشعة إكس — بالضوء إلا إذا «أُثيرت» بواسطةِ إشعاعٍ ساقطٍ عليها؛ ذلك حيث يكون للمادة الفسفورية القدرةُ على اختزان الأشعة الساقطة عليها ثم إطلاقها على شكل ضوء، يخفت ببطء ويتلاشى، على مدى ساعات بعد وضعها في الظلام. وكان من الطبيعي البحث عن علاقةٍ بين ظاهرة الفسفرة وأشعة إكس، إلا أن ما اكتشفه بيكريل لم يكن متوقَّعًا، تمامًا مثلما حدث مع اكتشاف أشعة إكس. في فبراير ١٨٩٦، غطَّى بيكريل لوحًا فوتوغرافيًّا بورقٍ أسودَ مزدوج السماكة، ثم غلَّف الورق بأملاح ثاني كبريتات اليورانيوم والبوتاسيوم، ثم عرَّضَ هذا كلَّه للشمس عدةَ ساعات. وعندما حُمِّضَ اللوح، ظهر إطار الطبقة الخارجية للعناصر الكيميائية. اعتقد بيكريل أن أشعة إكس قد جرى توليدُها في الطبقة الخارجية — أحد أملاح اليورانيوم — بفِعل ضوء الشمس، تمامًا كما في حالة الفسفرة. وبعد يومَين حضَّر لوحًا آخر بالطريقةِ نفسِها بغرض تكرار التجربة، إلا أن السماء كانت ملبَّدة بالغيوم في هذا اليوم واليوم الذي تلاه، فظل اللوح الذي أعدَّه بيكريل محفوظًا داخل خزانة. وفي الأول من مارس، حمَّض بيكريل اللوحَ على أية حال، فوجد مرةً أخرى الإطار الخارجي لملح اليورانيوم. وأيًّا كان الأمر الذي تسبَّب في تضبيب اللوحَين، فإنه لا علاقة له بضوء الشمس أو الفسفرة، ولكنه كان شكلًا غيرَ معروف مسبقًا من الإشعاع الذي اتضح أنه يصدُر من اليورانيوم نفسِه تلقائيًّا دون أيِّ مؤثرٍ خارجي. وتسمَّى الآن هذه القدرةُ على انبعاث الإشعاع تلقائيًّا بالنشاط الإشعاعي. شرع علماءُ آخرون في دراسة النشاط الإشعاعي بعد أن أثار اكتشاف بيكريل اهتمامهم، وسرعان ما أصبحت ماري كوري وبيير كوري اللذان يعملان في السوربون خبيرَين في هذا الفرع الجديد من العلم. وقد حصلا على جائزة نوبل في الفيزياء سنة ١٩٠٣ عن أبحاثهما في مجال النشاط الإشعاعي وعن اكتشافِ عناصرَ مشِعَّةٍ جديدة، وحصلت ماري على جائزة نوبل ثانية، في الكيمياء، سنة ١٩١١ وذلك عن أبحاثها اللاحقة في المواد المشعة (كما حصلت إيرين، ابنة ماري كوري وبيير كوري، على جائزة نوبل عن أبحاثها في مجال النشاط الإشعاعي في ثلاثينيات القرن العشرين). وفي بداية العَقد الأول من القرن العشرين كانت الاكتشافات التجريبية في مجال النشاط الإشعاعي متقدمةً كثيرًا عن النظرية، مع حدوث سلسلةٍ من التطورات الجديدة التي لم يتم تضمينها في الإطار النظري إلا فيما بعدُ. وقد لمع اسم أحدِ العلماء خلال هذه الفترة في دراسة النشاط الإشعاعي، وهو اسم إرنست رذرفورد. كان رذرفورد عالِمًا نيوزيلنديًّا عمل مع طومسون في مختبر كافنديش في تسعينيات القرن التاسع عشر. وفي عام ١٨٩٨ عُيِّن أستاذًا للفيزياء في جامعة ماكجيل في مدينة مونتريال، وهناك أثبت هو وفريدريك سودي سنة ١٩٠٢ أن النشاط الإشعاعي ينطوي على تحوُّل العنصرِ المشعِّ إلى عنصرٍ آخر. وكان رذرفورد هو مَن اكتشف إنتاج نوعَين مختلفَين من الإشعاع بفِعل هذا «الانحلال» أو «الاضمحلال» الإشعاعي كما يُسمَّى الآن، وقد أطلَق عليهما أشعةَ ألفا وأشعة بيتا. وعندما اكتُشِف نوع ثالث من الإشعاع فيما بعدُ، كان من الطبيعي أن يُطلَق عليه أشعةُ جاما. وقد ثبت أن أشعَّة ألفا وأشعَّة بيتا جسيماتٌ سريعةُ الحركة، وسرعان ما اتضح أن أشعة بيتا ما هي إلا إلكترونات، وهي المكافئ الإشعاعي لأشعة الكاثود، واتضح بعد فترةٍ وجيزة أن أشعة جاما شكلٌ آخرُ من الإشعاع الكهرومغناطيسي مثل أشعة إكس، لكنه ذو أطوالٍ موجيةٍ أقصرَ كثيرًا. ولكن تبيَّن أن جسيمات ألفا شيءٌ مختلِف تمامًا؛ فهي جسيمات تفوق في كتلتها ذرةَ الهيدروجين بمقدار أربع مرات تقريبًا، وتحمل شحنةً كهربية تساوي في مقدارها ضِعفَ شحنة الإلكترون، ولكنها موجبة وليست سالبة. حتى قبل أن يعرف أحدٌ ماهيةَ جسيم ألفا بدقة، أو كيفية إطلاقه بسرعةٍ هائلة من ذرة بما يجعلها تتحوَّل أثناء هذه العملية إلى ذرةِ عنصرٍ آخر، تمكَّن باحثون من أمثال رذرفورد من استخدامه. ذلك حيث يمكن استخدامُ مثل هذه الجسيمات العالية الطاقة — التي هي نفسها نتاجُ تفاعلاتٍ ذرية — كمجسات لدراسة تركيب الذرات، وقد اكتُشف مصدر جسيمات ألفا في المقام الأول في بحثٍ علميٍّ دوريٍّ ومثير. انتقل رذرفورد سنة ١٩٠٧ من مونتريال ليصبح أستاذًا للفيزياء في جامعة مانشستر بإنجلترا، وحصل على جائزة نوبل في الكيمياء سنة ١٩٠٨ عن أعماله في مجال النشاط الإشعاعي، وهي الجائزة التي كان لها وقعٌ ساخر في نفسه. فمع أن لجنة نوبل كانت تَعتبر دراسةَ العناصر تندرج تحت الكيمياء، فإن رذرفورد كان يَعتبر نفسه فيزيائيًّا وليس له علاقة بالكيمياء إلا في أضيق الحدود، وكان يعتبرها فرعًا من العلوم أدنى كثيرًا. (ومع الفهم الجديد للذرات والجزيئات الذي زوَّدتنا به فيزياءُ الكَمِّ، فإن العبارة القديمة التي كان يردِّدها علماء الفيزياء من أن الكيمياء هي ببساطة فرعٌ من الفيزياء أصبحت صحيحةً بنسبةٍ تزيد كثيرًا عن ٥٠ في المائة). وسنة ١٩٠٩ أجرى كلٌّ من هانز جايجر وإرنست مارسدن، أثناء عملهما في قسم رذرفورد في مانشستر، تجاربَ وُجِّه فيها شعاعٌ من جسيمات ألفا على طبقةٍ رقيقة من فلزٍّ ما ليمرَّ خلالها. وانطلقت جسيمات ألفا من ذراتٍ ذاتِ نشاطٍ إشعاعيٍّ طبيعي؛ إذ لم يكن متاحًا في ذلك الوقت معجَّلٌ صناعي للجسيمات. وقد حُدِّد مصير الجسيمات الموجَّهة على رقاقة الفلز بواسطة العدادات الوميضية، وهي شاشات فلورسنتية تُصدِر وهجًا عندما يصطدم بها مثل هذا الجسيم. عبَرت بعضُ الجسيمات رقاقةَ الفلز في خطٍّ مستقيم، وانحرف البعض الآخر وخرج مكوِّنًا زاويةً مع الشعاع الأصلي، والمفاجأة كانت أن البعض ارتدَّ من الرقاقة عائدًا إلى الوراء على الجانبِ نفسِه الذي تسقط منه الأشعة، فكيف يمكن حدوث ذلك؟! جاء رذرفورد بالإجابة. كتلة كل جسيم من جسيمات ألفا أكبرُ بمقدار ٧٠٠٠ مرة من كتلة الإلكترون (في الحقيقة جسيم ألفا يماثل ذرةَ هليوم أُزيل منها إلكترونان)، ويمكنه أن يتحرَّك بسرعةٍ تقارب سرعة الضوء. إذا اصطدم هذا الجسيم بأحد الإلكترونات، فإنه يزيحه جانبًا ويستمر في مساره دون أن يتأثَّر. ولا بد أن السبب وراء حدوث الحيود هو وجود شحناتٍ موجبة في ذرات رقاقة الفلز (تتنافر الشحنات المتشابهة، وكذلك الأقطاب المغناطيسية المتشابهة)، ولكن إذا كان نموذج البطيخة لطومسون صحيحًا لما ارتدت بعض الأشعة إلى الخلف. وإذا كانت كرة الشحنة الموجبة تملأ الذرة، فإن جسيمات ألفا كانت حتمًا ستمرُّ خلالها دون أن تنحرف، بما أن التجربة قد أثبتت أن معظم الجسيمات قد مرَّت في خطوطٍ مستقيمة خلال الرقاقة. وإذا كان نموذج البطيخة قد سمح بمرورِ جسيمٍ واحد، فلا بد أن يسمح لكل الجسيمات بذلك. ولكن إذا تركَّزت كل الشحنة الموجبة في حيزٍ صغير جدًّا وأصغر كثيرًا من الذرة ككل، فإن جسيم ألفا سيصطدم في بعض الأحيان فقط بهذا التركيز الدقيق للمادة وترتدُّ الشحنة مباشرةً إلى الخلف، بينما ستمر معظم جسيمات ألفا سريعًا خلال الفراغ الموجود بين هذه التركيزات المتناهية الصغر للمادة. وهذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن تتنافر فيها أحيانًا الشحنةُ الموجبة للذرة مع جسيماتِ ألفا الموجبة الشحنة بما يجعلها ترتد في مساراتها، وفي بعض الأحيان تجعلها تحيد قليلًا عن مسارها الأصلي، وفي أحيانٍ أخرى تتركها تعبُر دون اعتراض مسارها تقريبًا.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/3/
الضوء والذرات
استندت المفارقة التي أثارها نموذج رذرفورد إلى الحقيقة المعروفة بأن الشحنة الكهربية المتحركة بتسارعٍ تشعُّ طاقةً على شكلِ إشعاعٍ كهرومغناطيسي؛ قد يكون في صورة ضوء، أو موجات راديو، أو شيءٍ من هذا القبيل. إذا كان الإلكترون يقبع دون حركة خارج نواة الذرة، فلا بد له من السقوط داخل النواة، وبذلك لن تصبح الذرة ثابتةً ومستقرة. وبانهيار الذرة، فإنها لا بد أن تطلِق حزمةً مفاجئةً من الطاقة تشبه الانفجار. والطريقة الواضحة للرد على ميل الذرة إلى الانهيار هي أن نتصوَّر أن الإلكترونات تدور في مداراتٍ حول النواة، مثل الكواكب التي تدور في مداراتها حول الشمس في مجموعتنا الشمسية. غير أن الحركة المدارية (الحركة في مدارات) تنطوي على تسارعٍ مستمر. وقد لا تتغير سرعة الجسم الذي يدور في مداره، إلا أن الاتجاه الذي يتحرَّك فيه يتغير، ويحدِّد كلٌّ من السرعة والاتجاه السرعةَ المتجهة، وهو الأمر الذي يعنينا. ومع تغيُّر السرعة المتجهة للإلكترونات، فإنها لا بد أن تشعَّ طاقة، ونظرًا لما تفقده من طاقةٍ من جرَّاء ذلك، فإنها لا بد أن تسقط في مسارٍ حلزوني إلى داخل النواة. ولم يستطِع الباحثون في الجانب النظري استبعاد احتمالية انهيار ذرة رذرفورد حتى بافتراض حدوث الحركة المدارية. وعندما نُقِّح هذا النموذج، بدأ الباحثون في الجانب النظري من صورة الإلكترونات وهي تدور في مداراتٍ حول النواة، وحاولوا إيجادَ طرقٍ للاحتفاظ بهذه الإلكترونات في مداراتها دون أن تفقد طاقةً وتنهارَ في مسارٍ حلزوني إلى داخل النواة. ولم تكن تلك سوى نقطة بداية طبيعية تتواءم على نحوٍ جيدٍ مع التشبيه الواضح بالمجموعة الشمسية. إلا أن ذلك كان خطأً. وكما سنرى فيما بعدُ، فإن ذلك لا يختلِف عن التفكير في الإلكترونات على أنها تقبع دون حركةٍ في الفضاء على مسافةٍ معينةٍ من النواة، ولا تدور حولها. وتظل المشكلة قائمة: كيف نوقِف سقوطَ الإلكترونات إلى الداخل؟ ولكن الصورة التي أثارها هذا التساؤل في الأذهان مختلِفة جدًّا عن صورة الكواكب التي تدور حول الشمس، وهو أمرٌ جيد تمامًا. وكانت الحيلة التي استخدمها الباحثون النظريون لتفسير عدم سقوط الإلكترونات واحدةً، سواء استخدمنا تشبيهَ الحركة المدارية للكواكب أم لا، وهو تشبيهٌ متكرِّر ومضلِّل. فالصورة التي لا يزال معظمُ الناس يحتفظون بها في أذهانهم، سواء من الدراسة أو من المقالات المبسَّطة، هي أن الذرة تشبه بالأحرى المجموعةَ الشمسية؛ حيث تتكوَّن من نواةٍ دقيقة في المركز تدور حولها الإلكترونات في مداراتٍ دائرية. وبناءً على هذا الافتراضِ ينبغي لنا أن نتخلَّص من تلك الصورة، ونحاول الاقتراب من العالَم الغريب للذرة — عالَم ميكانيكا الكَمِّ — بعقلٍ متفتِّح. لنفكِّرْ ببساطة في النواة والإلكترونات الموجودَين معًا في الفراغ، ونسأل: لماذا لا يتسبَّب التجاذب بين الشحنات الموجبة والسالبة في انهيار الذرة وإطلاق طاقةٍ في هذه الأثناء؟ في هذا الوقت الذي بدأ فيه الباحثون النظريون محاولاتهم لحل هذه المفارقة في العَقد الثاني من القرن العشرين، حدثت الاكتشافات الحاسمة التي قدَّمت لهم نموذجًا منقَّحًا للذرة. وقد اعتمدوا في ذلك على دراساتهم للطريقة التي تتفاعل بها المادة (الذرات) مع الإشعاع (الضوء). وفي بداية القرن العشرين كانت أفضل وجهة نظر علمية حول العالَم الطبيعي تتطلَّب فلسفةً مزدوجة. فمن الممكن وصف الأجسام المادية بمدلول الجسيمات أو الذرات، لكن الإشعاع الكهرومغناطيسي، الذي يتضمَّن الضوء، لا بد من وصفه بمدلول الموجات. ومن ثَم، قدَّمت الطريقةُ التي يتفاعل بها الضوءُ والمادةُ أفضلَ فرصةٍ فيما يبدو لتوحيد الفيزياء في بداية القرن العشرين. غير أن النقطة التي انهارت عندها الفيزياء الكلاسيكية، التي كانت قد نجحت في كل مجالٍ آخر تقريبًا، هي محاولة تفسير الطريقة التي يتفاعل بها الإشعاع مع المادة. إنَّ أبسطَ طريقة لمشاهدة الكيفية (حرفيًّا) التي تتفاعل بها المادة مع الإشعاع هي النظرُ إلى جسمٍ ساخن. يشع الجسم الساخن طاقةً كهرومغناطيسية، وكلما كانت حرارة الجسم أعلى أطلق كميةً أكبرَ من الطاقة، بأطوالٍ موجية أقصر (تردُّدات أعلى). وهكذا فإن عصا المدفأة الساخنة لدرجةِ الاحمرار تكون أقلَّ سخونة من تلك الساخنة لدرجة البياض، وعصا المدفأة الباردة للدرجة التي لا تشعُّ عندها ضوءًا مرئيًّا ربما لا تزال دافئة؛ وذلك لأنها تطلِق أشعةً تحت حمراء منخفضة التردُّد. وحتى في نهاية القرن التاسع عشر كان من الواضح إلى حدٍّ ما ضرورة الربط بين الإشعاع الكهرومغناطيسي وحركة الشحنات الكهربية الدقيقة. كان الإلكترون نفسُه قد اكتُشِف حديثًا في ذلك الوقت، لكن كان من السهل رؤية الكيفية التي يتذبذب بها جزءٌ مشحون من ذرة (فيما نعرِّفه الآن بالإلكترون) للأمام وللخلف لينتج تدفقًا من الموجات الكهرومغناطيسية، بطريقةٍ لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي يمكنك بها صنْع تموجاتٍ مائية بتحريك إصبعك للأمام وللخلف في حوض الاستحمام. وكانت المشكلة أن أفضل النظريات الكلاسيكية — الميكانيكا الإحصائية والفيزياء الكهرومغناطيسية — تنبَّأت بشكلٍ من أشكال الإشعاع مختلِفٍ جدًّا عن النوع الذي شوهِد فعليًّا انبعاثه من الأجسام الساخنة. للتوصُّل إلى مثل هذه التنبؤات، استخدم الباحثون النظريون، كعادتهم دائمًا، مثالًا نموذجيًّا خياليًّا، وهو في هذه الحالة ماصٌّ أو باعث للإشعاع. ويُسمَّى مثل هذا الجسم ﺑ «الجسم الأسود»؛ لأنه يمتص كل الإشعاع الذي يسقط عليه. ولكنه اختيارٌ غير موفَّق للاسم؛ إذ يتضح أن الجسم الأسود هو أيضًا الأكثر كفاءة في تحويل الطاقة الحرارية إلى إشعاعٍ كهرومغناطيسي، كما أن الجسم الأسود يمكن أن يكون ساخنًا لدرجةِ الاحمرار أو البياض، وفي بعض الأحوال يكون سطحُ الشمس نفسُه بالأحرى بمثابةِ جسمٍ أسود. ولكن على عكس الكثير من المفاهيم المثالية للباحثين النظريين، فإن من السهل تحضيرَ جسمٍ أسود في المختبر. كلُّ ما عليك هو أن تأخذ كرةً مجوَّفة أو أنبوبًا مغلقًا من طرفَيه، وتصنع ثقبًا صغيرًا في جانب الكرة أو الأنبوب. فإذا دخل أي إشعاع، كضوء مثلًا، من خلال الثقب، فإنه سيُحتجَز بالداخل، وسيرتدُّ على الجدران حتى يُمْتص، ومن المستبعد أن يرتد الشعاع ليخرج من الثقب الذي دخل منه، وبذلك فإن الثقب يصبح في الواقع جسمًا أسود. ومن ثَم، صيغ الاسم الألماني البديل للإشعاع وهو إشعاع التجويف. ومع ذلك، فإن ما يعنينا بالقدْر الأكبر هو ما يحدث للجسم الأسود عند تسخينه. ومثلما يحدث مع عصا المدفأة، فإنه يسخن أولًا ثم يتوهَّج لدرجةِ الاحمرار أو البياض حسب درجة حرارته. ومن الممكن دراسة طيف الإشعاع المنبعث — كمية الإشعاع عند كل طولٍ موجي — في المختبر، بملاحظةِ ما يصدر عن ثقبٍ صغير في جانبِ وعاءٍ ساخن، وقد أثبتت مثل هذه الدراسات أن الأمر يعتمد فقط على درجة حرارة الجسم الأسود. ويوجد القليل جدًّا من الإشعاع عند الأطوال الموجية الشديدة القصر (تردُّدات عالية)، والقليل جدًّا عند الأطوال الموجية المفرطة الطول، وستقع معظم الطاقة المنبعثة في نطاقٍ متوسط من التردُّدات. وتُزاح النهاية العظمى للطيف (أي ذروته) تجاه الأطوال الموجية الأقصر كلما ازدادت سخونة الجسم وحرارته (من تحت الحمراء، إلى الحمراء، إلى الزرقاء، إلى فوق البنفسجية)، إلا أنه دائمًا ما يوجد انقطاع في الطيف عند الأطوال الموجية القصيرة للغاية. وهذا ما جعل قياسات إشعاع الجسم الأسود التي جرت خلال القرن التاسع عشر تتعارض مع النظرية. وعلى الرغم من غرابة الأمر، فإن أفضل التنبؤات تبعًا للنظرية الكلاسيكية تتفق على أن التجويف المملوء بالإشعاع لا بد أن يحتوي دومًا على كميةٍ لا نهائية من الطاقة عند أقصر الأطوال الموجية؛ أي إنه بدلًا من النهاية العظمى في طيف الجسم الأسود والانخفاض إلى المستوى صفر من الطاقة عند طولٍ موجيٍّ مقداره صفر، من المفترض أن تزيد قيمُ القياسات زيادةً كبيرةً للغاية عند الطرف الخاص بالأطوال الموجية القصيرة. وقد صيغت العمليات الحسابية بناءً على الافتراض الذي يبدو طبيعيًّا في ظاهره بإمكانية التعامل مع موجات الإشعاع الكهرومغناطيسي في التجويف بالطرقِ نفسِها التي تُعامَل بها الموجات على الأوتار، كأوتار الكمان، وأنه من الممكن أن توجد موجات بجميع الأحجام؛ أي بأي طولٍ موجي أو تردُّد. ونظرًا لوجودِ أطوالٍ موجية (أنماط تذبذب) كثيرة للغاية للتعامل معها، فلا بد من الاستعانة بقوانين الميكانيكا الإحصائية والانتقال بها من عالَم الجسيمات إلى عالَم الموجات للتنبؤ بالمظهر العام للإشعاع في التجويف، الأمر الذي يؤدي مباشرةً إلى استنتاجِ أن الطاقة المشعَّة عند أي تردُّد تتناسب طرديًّا مع ذلك التردُّد. والتردُّد هو معكوس الطول الموجي، وبذلك فإن الأطوال الموجية القصيرة للغاية تكون ذات تردداتٍ عالية للغاية. وعليه، فإن كل إشعاعات الجسم الأسود لا بد أن تنتِج كمياتٍ ضخمةً من الطاقة العالية التردد، في المنطقة فوق البنفسجية وما بعدها. فكلما زاد التردُّد زادت الطاقة. ويطلَق على هذا التنبؤ «الكارثة فوق البنفسجية»، وهي توضِّح أنه لا بد من وجودِ خطأ ما في الافتراضات التي بُنيت عليها هذه التنبؤات. غير أنه لم يثبت خطأ كل شيء. فعلى الجانب الخاص بالترددات المنخفضة في منحنى الجسم الأسود، جاءت المشاهدات متوافِقةً بصورةٍ جيدة جدًّا مع التنبؤات القائمة على النظرية الكلاسيكية، المعروفة باسم قانون رايلي-جينز. وعلى الأقل، فإن النظرية الكلاسيكية ليست صحيحةً تمامًا. وتكمُن المشكلة في أنَّ طاقةَ التذبذبِ عند التردُّدات العالية لا تكون كبيرةً للغاية، بل إنها في الواقع تنقطع وتصبح صفرًا عندما يزداد تردُّد الإشعاع. وقد اجتذبت هذه المشكلة اهتمامَ كثيرٍ من الفيزيائيين في العَقد الأخير من القرن التاسع عشر. وكان أحد هؤلاء الفيزيائيين هو ماكس بلانك، وهو عالِمٌ ألماني من المدرسة القديمة. كان بلانك في أعماقِ نفسِه من أنصار الاتجاه المحافظ في العلم، وليس الثوري، وكان مجتهدًا ودقيقًا جدًّا في عمله. وكان اهتمامه الخاص ينصبُّ على الديناميكا الحرارية، وكان أمله الأكبر في ذلك الوقت أن يحُلَّ الكارثة فوق البنفسجية بتطبيق قواعد الديناميكا الحرارية. وفي أواخر العَقد الأخير من القرن التاسع عشر كانت هناك معادلتان تقريبيتان معروفٌ عنهما أنهما تقدِّمان فيما بينهما تمثيلًا تقريبيًّا لِطَيف الجسم الأسود. تعاملت نسخةٌ مبكِّرة من قانون رايلي-جينز مع الأطوال الموجية الطويلة، ووضع فيلهلم فيين صيغةً توافقت تقريبًا مع المشاهدات المتعلِّقة بالأطوال الموجية القصيرة، و«تنبأت» كذلك بالطول الموجي الذي تقع عنده النهاية العظمى للمنحنى عند أي درجة حرارة. كانت نقطة الانطلاق التي بدأ منها بلانك هي النظر في الكيفية التي تشعُّ بها المذبذبات الكهربية الصغيرة وميضَ الموجات الكهرومغناطيسية وتمتصُّه، وهو نهجٌ مختلِف عما اتبعه رايلي في بداية القرن العشرين وجينز بعده بقليل، لكنه كان النهج الذي أعرب بدقةٍ عن المنحنى القياسي الذي اكتمل بالكارثة فوق البنفسجية. وقد عمل بلانك من سنة ١٨٩٥ وحتى سنة ١٩٠٠ على هذه المشكلة ونشر العديد من المقالات البحثية المؤثِّرة التي أرست العلاقة بين الديناميكا الحرارية والديناميكا الكهربية، لكنه لم يكن قد توصَّل بعدُ إلى حلٍّ للغز طيف الجسم الأسود. وسنة ١٩٠٠، أحدث طفرةً وأحرز تقدُّمًا مفاجئًا في هذا الصدد، ولم يكن ذلك نتيجةَ بصيرةٍ علمية تتسم بالتميز والرصانة والمنطقية، بل كان ذلك نتاج شعور باليأس امتزج فيه الحَظُّ والبصيرةُ مع ما حالفه به الحظُّ من فهمٍ خاطئ لواحدة من الأدوات الرياضية التي كان يستخدمها. ولا شك أنه لا أحد اليوم يستطيع أن يجزم بصورةٍ قاطعة بما كان يدور في ذهن بلانك عندما اتخذ الخطوة الثورية التي أدَّت إلى ظهور ميكانيكا الكَمِّ، إلا أن أبحاثه قد خضعت للدراسة على نحوٍ مفصَّل على يد مارتن كلاين في جامعة يل، الذي كان في ذلك الوقت الذي شهِد نشأةَ نظريةِ الكَمِّ مؤرخًا متخصصًا في تاريخ الفيزياء. وقدَّم كلاين من خلال إعادة صياغته للأجزاء التي أسهم بها كلٌّ من بلانك وأينشتاين في نشأة هذه النظرية، تفسيرًا من أوثقِ التفسيرات التي يمكن الحصول عليها، ووضعَ الاكتشافاتِ في سياقِ تاريخٍ مقنع. جاءت الخطوة الأولى في أواخر صيف سنة ١٩٠٠ ولم يكن للحظ دور فيها على الإطلاق، بل كانت تُعزى برُمَّتها إلى بصيرةِ عالِم فيزياء رياضية متمرِّس. فقد أيقن بلانك أن الوصفَين غير المكتملَين لِطَيْف الجسم الأسود يمكن دمجهما في صيغةٍ رياضيةٍ واحدةٍ بسيطة تصفُ شكل المنحنى بأكمله، وقد استخدم في الواقع قدْرًا ضئيلًا من الخداع الرياضي لسد الثغرة بين الصيغتَين: قانون فيين وقانون رايلي-جينز. وحقَّق في ذلك نجاحًا هائلًا. فقد توافقت معادلة بلانك على نحوٍ رائع مع مشاهدات إشعاع التجويف. ولكن على النقيض من القانونَين غيرِ المكتملَين اللذين بُنيتْ عليهما، لم تكن معادلة بلانك تستند إلى أساسٍ فيزيائي. وقد حاول كلٌّ من فيين ورايلي — بل بلانك أيضًا في السنوات الأربع السابقة على ذلك — وضْعَ نظريةٍ تبدأ من افتراضاتٍ فيزيائية معقولة لتصل في النهاية إلى منحنى الجسم الأسود. وهكذا استطاع بلانك أن يتوصَّل إلى المنحنى الصحيح، ولكن لم يعرِف أحدٌ ما الافتراضاتُ الفيزيائيةُ المرتبِطةُ بهذا المنحنى. وقد اتضح أنها لم تكن معقولةً بدرجةٍ كبيرة على الإطلاق. أُعلنَ عن معادلة بلانك في اجتماعٍ للجمعية الفيزيائية في برلين في أكتوبر ١٩٠٠. وعلى مدى الشهرَين التاليَين، انشغل بلانك كليةً بمسألةِ إيجادِ أساسٍ فيزيائي للقانون؛ حيث حاول الدَّمج بين افتراضاتٍ فيزيائيةٍ مختلفة ليرى أيُّها يناسب المعادلات الرياضية. وقد صرَّح فيما بعدُ بأن هذه الفترة كانت أكثر الفترات التي شهِدت عملًا مكثفًا في حياته كلها. وقد باءت محاولاته العديدة بالفشل إلى أن أصبح بلانك أخيرًا أمامَ بديلٍ واحد فقط، لم يكن موضعَ ترحيب من جانبه. وقد وصفتُ بلانك على أنه فيزيائيٌّ من المدرسة القديمة، وكان كذلك بالفعل. فقد كان في أبحاثه المبكِّرة يعارض تقبُّل الفرضية الجزيئية، وكان يرفض على وجه الخصوص فكرةَ التفسير الإحصائي للخاصية المعروفة بالإنتروبيا (القصور الحراري)، وهو تفسيرٌ أدخله بولتزمان في علم الديناميكا الحرارية. والإنتروبيا مفهومٌ أساسي في الفيزياء، وتتعلَّق في أساسها بالتدفُّق الزمني. ومع أن القوانين البسيطة للميكانيكا — قوانين نيوتن — تقبَل العكس تمامًا فيما يتعلَّق بالزمن، فإننا نعلم أن العالَم الواقعي لا يكون كذلك. لنفترض أن حجرًا سقط على الأرض. عندما يصطدم الحجر بالأرض تتحوَّل طاقة حركته إلى حرارة. لكن إذا وضعنا حجرًا مماثلًا على الأرض وسخنَّاه بنفس المقدار، فإنه لن يقفز في الهواء. فلماذا لا يقفز؟ في حالة الحجر الذي يسقط على الأرض تتحوَّل صورةٌ منسَّقة من الحركة (كل الذرات والجزيئات تسقط في نفس الاتجاه) إلى صورةٍ فوضوية غير منسَّقة من الحركة (كل الذرات والجزيئات يتدافع بعضها تجاه بعض بقوةٍ هائلة ولكن بعشوائية). ويتَّفق ذلك مع أحد قوانين الطبيعة الذي يشترط فيما يبدو أن تزداد الفوضوية وعدم التناسق باستمرار، ويُعرَف عدمُ التناسق بهذا المفهوم بالإنتروبيا أو عشوائية النظام. وهذا القانون هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية، وينصُّ على أن العمليات الطبيعية تتجه دائمًا نحو زيادة الفوضوية وعدم التناسق، أو على أن الإنتروبيا تزداد باستمرار. فإذا وضعت طاقةً حرارية مضطربة في حجر، فإنه في هذه الحالة لا يستطيع استخدام هذه الطاقة لإحداثِ حركةٍ منسقة لكل الجزيئات في الحجر بحيث تقفز معًا إلى أعلى. أم تُرى من الممكن ذلك؟ أدخل بولتزمان تعديلًا مغايرًا في هذا الموضوع. قال بولتزمان إن مثل هذا الحدث الاستثنائي قد يحدث، لكنه بعيد الاحتمال للغاية. وبالطريقة نفسها، ونتيجة للحركة العشوائية لجزيئات الهواء، من الممكن أن يتركَّز هواء الغرفة كلُّه فجأةً في الأركان (لا بد أن يوجد أكثر من ركن؛ لأن الجزيئات تتحرَّك في الفراغ في ثلاثةِ أبعادٍ مكانية)، إلا أنه من المستبعَد أيضًا حدوث هذا الاحتمال حتى إنه يمكن تجاهله فيما يتعلَّق بكل الأغراض العملية. عارض بلانك هذا التفسير الإحصائي للقانون الثاني للديناميكا الحرارية معارضةً شديدةً وطويلة الأمد، واتخذت هذه المعارضة شكلًا علنيًّا كما ضمَّنها في مراسلاته مع بولتزمان. فقد كان القانون الثاني بالنسبة إليه قانونًا مطلقًا؛ إذ يجب أن تزداد الإنتروبيا دائمًا، دون تدخُّل من الاحتمالات في ذلك. وعليه، فمن السهل أن نتفهَّم الإحساس الذي ألمَّ ببلانك قرب نهاية العَقد الأول من القرن العشرين عندما حاول على مضضٍ — بعدما استهلك كلَّ الخيارات الأخرى — أن يُضمِّن نسخةَ بولتزمان الإحصائية للديناميكا الحرارية في حساباته لِطَيْف الجسم الأسود، وتبيَّن له أنها تصلح لذلك. ولكن ازدادت حدةُ المفارقة التي انطوى عليها الوضع بحقيقةِ أنه نظرًا لجهله بمعادلات بولتزمان، فقد طَبَّقها بطريقةٍ متضاربةٍ وغير متسقة. وهكذا حصل بلانك على الإجابة الصحيحة، ولكن للتفسير الخطأ. ولم تتضح الأهمية الحقيقية لأبحاث بلانك إلا عندما تناول أينشتاين الفكرة وتولَّى توضيحها. ويجدُر بنا التأكيد على أن بلانك عندما أثبت أن تفسير بولتزمان الإحصائي لزيادة الإنتروبيا هو أفضل وصف للواقع كان ذلك بمثابةِ تطوُّرٍ كبير في العلوم. وتبعًا لأبحاث بلانك، فإن زيادةَ الإنتروبيا هي في الواقع أمرٌ لا يحتمل الشكَّ مطلقًا، ولكنه لا يمكن أن يؤخَذ على محمل اليقين المطلَق على الرغم من احتماليته الكبيرة في الحقيقة. ولهذا الأمر نتائجُه المهمة في علم الكون، وهو علم دراسة العالَم ككلٍّ؛ حيث نتعامل مع امتدادات شاسعة للزمان والمكان. فكلما اتسع النطاق الذي نتعامل معه، زادت فرص حدوث الأشياء البعيدة الاحتمال في مكانٍ ما، وأحيانًا داخل هذا النطاق. بل من المحتمل أيضًا (وإن كان لا يزال احتمالًا بعيدًا للغاية) أن يمثِّل العالَمُ كلُّه، الذي هو مكانٌ منظَّم على العموم، نوعًا من التأرجحات الإحصائية الديناميكية الحرارية، وهو تراجعٌ هائل ونادر جدًّا أدَّى إلى نشوء نطاقٍ منخفضِ الإنتروبيا آخذ في التقلُّص حاليًّا. ومع ذلك، أوضحَ «خطأُ» بلانك أمرًا أكثرَ أهميةً عن طبيعة الكون. تضمَّن المدخل الإحصائي الذي انتهجه بولتزمان في الديناميكا الحرارية تقسيم الطاقة إلى مقاديرَ صغيرةٍ رياضيًّا، والتعامل مع هذه المقادير الصغيرة على أنها كمياتٌ حقيقية يمكن التعامل معها بواسطة معادلات الاحتمالات. بالنسبة إلى الطاقة التي قُسِّمت إلى أجزاء قبل هذه الخطوة من العملية الحسابية، لا بد من تجميعها (دمجها) بعد ذلك في مرحلةٍ لاحقة، للحصول على الطاقة الكلية؛ وهي في هذه الحالة الطاقة المقابلة لإشعاع الجسم الأسود. وفي منتصف هذه العملية الحسابية، أيقن بلانك أنه قد حصل بالفعل على الصيغة الرياضية التي كان يبحث عنها. وقبل أن يصل إلى مرحلة دمج أجزاء الطاقة ليحصُلَ على الطاقة الكلية المتصلة، كانت معادلة الجسم الأسود قابعةً هناك في الرياضيات. ومن ثَم استخدمها بلانك. وكانت هذه خطوةً متطرِّفة للغاية، وغير مبرَّرة بالمرة في سياق الفيزياء الكلاسيكية. من السهل معرفةُ الكيفية التي حلَّت بها هذه المعالجةُ الكارثةَ فوق البنفسجية. عند التردُّدات المرتفعة للغاية، تكون الطاقةُ اللازمة لإطلاقِ كَمٍّ واحد من الإشعاع كبيرةً جدًّا، ولن يملِك مثل هذه الطاقة الهائلة إلا عددٌ قليل من المذبذبات (تَبعًا للمعادلات الإحصائية)، وبذلك لن ينبعث سوى عددٍ قليل من الكَمَّات العالية الطاقة. أما عند الترددات المنخفضة للغاية (الأطوال الموجية الطويلة)، فتنبعث أعدادٌ كبيرة جدًّا من الكوانتات المنخفضة الطاقة، ولكنَّ كلًّا منها لا يملك إلا مقدارًا ضئيلًا للغاية من الطاقة؛ ومن ثَم فإن مجموعها إذا أُضيف بعضها إلى بعض لا يعطي قيمة تُذكَر. وبالنسبة إلى المذبذبات التي تمتلك طاقةً كافية لانبعاث الإشعاع بمقاديرَ متوسطةِ الحجم، تضاف معًا لينتج عنها النهاية العظمى في منحنى الجسم الأسود، ولا توجد هذه المذبذبات بأعدادٍ وفيرة إلا في النطاق الأوسط من الترددات. ونظرًا لأن أينشتاين هو الشخصية المحورية التالية التي ستدخل إلى مسرح ميكانيكا الكَمِّ، فقد يستحق الأمر أن نتحوَّل بحديثنا قليلًا إليه لنرى ما يعنيه ذلك. تتعامل نظرية النسبية الخاصة مع الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الزمني الواحد على أنها كِيانٌ واحدٌ رباعي الأبعاد، متوالية الزمن الفراغية. وعليه، فإن المشاهدين الذين يتحرَّكون في الفراغ بسرعاتٍ مختلِفة يرون الأشياء بمنظورٍ مختلف؛ فلن يتفقوا — على سبيل المثال — بشأن طول عصًا يقيسونها أثناء عبورها بجوارهم. ولكن يمكن النظر إلى العصا على أنها موجودة في أربعة أبعاد، وتتحرك «خلال» الزمن لتصنع سطحًا رباعي الأبعاد؛ مستطيلًا زائديًّا ارتفاعه هو طول العصا وعرضه هو المدة الزمنية التي قطعها. وتُقاس «مساحة» هذا المستطيل بوحدات الطول × الزمن، وستصبح هذه المساحة هي نفسَها لجميع المشاهدين الذين يقيسونها، حتى مع عدم اتفاقهم بشأن قيم الطول والزمن التي يقيسونها. وبالطريقةِ نفسِها، فإن الشغل (الطاقة × الزمن) هو مكافئ رباعي الأبعاد للطاقة، ويكون الشغل هو نفسه لكل المشاهدين حتى عندما يختلفون بشأن مقدار الطاقة والزمن المكوِّنَين للشغل. وهناك قانون للحفاظ على الشغل في النسبية الخاصة، ويحظى بنفس أهمية قانون الحفاظ على الطاقة تمامًا. ومن ثَم لم يبدُ ثابت بلانك غريبًا إلا لأنه اكتُشِف قبل النظرية النسبية. وربما يؤكِّد ذلك على الطبيعة الشاملة للفيزياء. وعندما ننظر إلى المساهمات العلمية الثلاث الجليلة لأينشتاين المنشورة عام ١٩٠٥، نجد أن نظرية النسبية الخاصة تبدو مختلفةً للغاية عن المساهمتَين الأُخريين، في مجال الحركة البراونية والظاهرة الكهروضوئية. لكنها جميعًا تشكِّل وحدةً مترابطة في إطار الفيزياء النظرية، وعلى الرغم من الشهرة التي حازتها النظرية النسبية، فإن أعظم مساهمات أينشتاين العلمية كانت تتمثَّل في أبحاثه حول نظريةِ الكَمِّ التي انطلقت من أبحاث بلانك عن طريق الظاهرة الكهروضوئية. يتمثَّل التطور الجذري الذي قدَّمته أبحاث بلانك لسنة ١٩٠٠ في أنها أظهرت قصور الفيزياء الكلاسيكية. ولا يهمُّ الكشفُ عن ماهية هذا القصور بالضبط. فمجرَّدُ حقيقةِ وجودِ ظواهرَ لا يمكن تفسيرُها فقط بالأفكارِ الكلاسيكيةِ المبنيةِ على أبحاث نيوتن، كان كافيًا للتبشير بعصرٍ جديدٍ في الفيزياء. ومع ذلك، كانت النسخة الأصلية من أبحاث بلانك، محدودةً على نحوٍ أكبرَ بكثير مما تبدو عليه غالبًا من منظور الروايات الحديثة. هناك مدرسة في أدب المغامرات ينجو فيها البطل بأعجوبة من مواقفَ حابسةٍ للأنفاس في نهاية كل حلقة، فيما يمكن إيجازه في العبارة: «وفجأةً، تحرَّر البطل.» ويمكن قراءة العديد من الكتب المبسَّطة التي تحدَّثت عن نشأة ميكانيكا الكَمِّ على أنها كتاب مغامرات يتحدَّث عن مواقفَ خارقةٍ للعادة. «وصلت الفيزياء الكلاسيكية في نهاية القرن التاسع عشر إلى طريقٍ مسدود. وفجأة، اخترع بلانك الكَمَّ، وتحرَّرت الفيزياء.» ولكن كان الأمر على العكس من ذلك تمامًا. فكل ما هنالك أن بلانك أشار إلى أن المذبذبات الكهربية داخل الذرات يمكن تحديدُ كَمِّها. وكان يعني بذلك أن هذه المذبذبات يمكنها فقط أن تبعث بحِزَم من الطاقة ذات أحجامٍ معيَّنة؛ لأن هناك شيئًا بداخلها يمنعها من امتصاص أو إشعاع كميات الإشعاع الواقعة «بين تلك الأحجام». يشبه هذا كثيرًا فكرةَ عملِ ماكينة الصرَّاف الآلي في البنك. فعندما أُدخِلُ بطاقة الصرَّاف الآلي تُخرِج لي الماكينة أيَّ مبلغٍ ماليٍّ أريده، بشرط أن يكون أحد مضاعفات ١٠ جنيهات إسترلينية. ولكن لا يمكنها إخراجُ المبالغِ المحصورةِ قيَمُها بين هذه المضاعفات (ولا تستطيع إخراجَ ما هو أقل من ١٠ جنيهات إسترلينية)، ولا يعني ذلك أن قيمَ المبالغِ المحصورة بين هذه المضاعفات مثل ١٢٫٤٧ جنيهًا إسترلينيًّا غير موجودة. ومن ثَم فإن بلانك نفسَه لم يقُل إن الإشعاع يمكن تحديدُ كَمِّه، ويبدو أنه كان عليه دائمًا أن يكون متحفِّظًا تجاه الآثار الأعمق لنظريةِ الكَمِّ. في السنوات التالية، ومع تقدُّمِ نظريةِ الكَمِّ أسهم بلانك في العلمِ الذي أسَّسه، لكنه قضى معظم حياته العلمية محاولًا التوفيقَ بين الأفكار الجديدة والفيزياء الكلاسيكية. ولم يكن ذلك عدولًا عن رأيه، لكنَّ كلَّ ما هنالك أنه لم يدرِك قط، بأيِّ حال، إلى أيِّ مدًى كانت معادَلة الجسم الأسود بعيدةً عن الفيزياء الكلاسيكية؛ فقد توصَّل إلى المعادلة عن طريق الدمج بين الديناميكا الحرارية والديناميكا الكهربية، وكلتاهما من النظريات الكلاسيكية. وبدلًا من انتهاجِ نهجٍ آخرَ، كانت جهود بلانك لإيجادِ حلٍّ وسط بين أفكارِ الكَمِّ والنظريات الكلاسيكية، تمثِّل في الواقع حيودًا مدويًا، من وجهة نظره، عن الأفكارِ الكلاسيكية التي شبَّ عليها. غير أن معرفته الأساسية بالأفكارِ الكلاسيكية كانت دقيقةً ومتعمقة بالدرجة التي لم يكن مستغرَبًا معها أن يكون التقدُّم الحقيقي على يدِ جيلٍ جديد من الفيزيائيين الذين لم يتوطَّد موقفهم بعدُ والذين هم أقلُّ التزامًا بالأفكار القديمة، والذين اشتعل حماسهم بالاكتشافات الجديدة في الإشعاع الذري، وكانوا يبحثون عن إجاباتٍ جديدة للأسئلة القديمة والجديدة على حدٍّ سواء. كانت نقطةُ الانطلاق الأخرى لأبحاثه المنشورة سنة ١٩٠٤، وكذلك أبحاث بلانك، هي دراسةَ الظاهرة الكهروضوئية على يد فيليب لينارد وجيه جيه طومسون، اللذين عملا كلٌّ منهما على نحوٍ مستقل عن الآخر، في نهاية القرن التاسع عشر. حصل لينارد، المولود سنة ١٨٦٢ في ذلك الجزء من المجر الذي أصبح الآن جمهورية التشيك، على جائزة نوبل في الفيزياء سنة ١٩٠٥ عن أبحاثه حول أشعة الكاثود. وقد أثبت سنة ١٨٩٩، من خلال التجارب التي أجراها في هذه الأبحاث، أن أشعة الكاثود (الإلكترونات) يمكن أن تتوَّلد بإسقاط ضوء على سطح فلز في الفراغ. وتتسبَّب طاقة الضوء بطريقة أو بأخرى في جعل الإلكترونات تقفز خارج الفلز. تضمَّنت تجارب لينارد استخدامَ أشعةِ ضوءٍ أحادي اللون (ضوء متجانس)، بمعنى أن كل موجات الضوء لها التردد نفسه. وقد فحص الكيفية التي تؤثِّر بها شدة الضوء على الطريقة التي تنطلق بها الإلكترونات خارج الفلز، وتوصَّل إلى نتيجةٍ مفاجئة. باستخدامِ ضوءٍ أشدَّ سطوعًا (حرَّك في الواقع مصدر الضوء بحيث يقترب أكثر من سطح الفلز ليحدث التأثير نفسه) تسقط طاقةٌ أكثر على كل سنتيمترٍ مربَّع من سطح الفلز. وإذا امتص الإلكترون طاقةً أكثر، فإنه ينطلق خارجًا من الفلز بمعدلٍ أسرع، وينفصل عنها بسرعةٍ أكبر. غير أن لينارد قد اكتشف أنه ما دام الطول الموجي للضوء ثابتًا، فإن كل الإلكترونات المقذوفة تنطلق بالسرعةِ نفسِها. وبتقريب مصدر الضوء من الفلز ينطلق عددٌ أكبر من الإلكترونات، غير أن كل إلكترون منها سينطلق بالسرعةِ نفسِها التي تنطلق بها الإلكترونات المتولِّدة عن إسقاطِ شعاعِ ضوءٍ أضعفَ من اللون نفسه. ومن جهةٍ أخرى، تحرَّكت الإلكترونات بسرعةٍ أكبرَ عندما استخدم شعاع ضوء ذا ترددٍ أعلى — الأشعة فوق البنفسجية مثلًا — بدلًا من الأشعة الزرقاء أو الحمراء. وهكذا قضى أينشتاين عامًا حافلًا للغاية. فهناك البحثُ الذي فاز عنه بجائزة نوبل، وبحثٌ آخرُ أثبت فيه بشكلٍ قاطعٍ حقيقةَ وجود الذرات، وبحثٌ ثالث شهِد ميلاد النظرية التي كانت من أكثرِ ما اشتُهر به أينشتاين؛ وهي النسبية. وفي الوقتِ نفسِه من عام ١٩٠٥، وعلى سبيل المصادفة تقريبًا، كان أينشتاين على وشك استكمال جزءٍ آخر من أبحاثه بخصوص حجم الجزيئات، وهو ما قدَّمه في شكل أطروحةٍ لنيل الدكتوراه من جامعة زيورخ. وقد مُنِحَ درجةَ الدكتوراه نفسها في يناير ١٩٠٦. ومع أن درجة الدكتوراه لم تكن تمثِّل نقطة انطلاق لحياةٍ حافلة بالبحث النشط على غرار ما تمثِّله الآن، فلا يزال من اللافت للنظر أن الأبحاث الثلاثة الكبرى لعام ١٩٠٥ منشورةٌ لرجلٍ لا يسعه التوقيع في ذلك الوقت إلا بلقبِ مستر ألبرت أينشتاين. في السنوات القليلة اللاحقة، واصل أينشتاين العملَ على إدخال مفهومِ الكَمِّ لبلانك في مجالاتٍ أخرى من الفيزياء. وقد وجد أن الفكرةَ تفسِّر الإشكاليات الراسخة منذ زمنٍ بعيد فيما يتعلَّق بالحرارة النوعية (الحرارة النوعية لمادةٍ ما هي كمية الحرارة اللازمة لرفعِ درجةِ حرارةِ كميةٍ ثابتةٍ من المادة بمقدارِ درجةٍ واحدةٍ مختارة، وهي تعتمد على طريقة تذبذب الذرات واهتزازها داخل المادة، وقد اتضح أن هذه الذبذبات يمكن تمثيلها كَمِّيًّا). ويُعدُّ هذا الجزء من أبحاث أينشتاين هو الأقل إثارةً، وعادةً ما تغفُل عنه الكتاباتُ التي تتناول أبحاث أينشتاين، إلا أن نظريةَ الكَمِّ للمادة قد حظيت بالقبول أسرعَ كثيرًا من نظريةِ الكَمِّ لأينشتاين في الإشعاع، وبدأت تُقنِع الكثير من الفيزيائيين من أتباع المدرسة القديمة بأنه يجب أخذُ أفكارِ الكَمِّ على محمل الجِد. نقَّح أينشتاين أفكارَه حول الإشعاعِ الكَمِّي على مدى السنوات التالية وحتى سنة ١٩١١؛ حيث أثبت أن التركيبَ الكَمِّي للضوء نتيجةٌ حتميةٌ لمعادلة بلانك، وأشار إلى أن المجتمع العلمي لا يزال غيرَ مهيَّأ بعدُ، حتى إن السبيل إلى فهمٍ أفضلَ للضوء سيتضمَّن الدمج بين نظريتَي الموجات والجسيمات اللتين كانت المنافسة بينهما تدور على أشدِّها منذ القرن السابع عشر. وبحلول عام ١٩١١، تحوَّلت أفكاره إلى أمورٍ أخرى. فقد أقنع نفسه بحقيقةِ وجودِ الكَمِّ، ولم يكن يهمه سوى أفكاره الشخصية. فقد انصبَّ اهتمامه الجديد على مسألة الجاذبية، وعلى مدى السنوات الخمس التالية حتى سنة ١٩١٦ وضع نظريته حول النسبية العامة، وهي أعظم أعماله على الإطلاق. وقد استغرق الأمر حتى سنة ١٩٢٣ لإثبات حقيقة الطبيعة الكَمِّية للضوء بما لا يدَع مجالًا للشك، وقد أدَّى ذلك بدوره إلى جدالٍ جديد حول الجسيمات والموجات، وقد ساعد ذلك في تغيير نظريةِ الكَمِّ من هيئةٍ لأخرى، والإعلان عن النسخة الحديثة من النظرية، وهي ميكانيكا الكَمِّ. والكثيرُ من تلك الأفكارِ كان في محلِّه. جاء أول ازدهارٍ لنظريةِ الكَمِّ في العَقد الذي انصرف فيه أينشتاين عن الموضوعِ وركَّز على أمورٍ أخرى. وكان هذا الازدهار نتيجةَ ما حدث من دمجٍ بين أفكاره ونموذج رذرفورد للذرة، وكان في جزءٍ كبيرٍ منه نتاجَ أبحاثِ عالِمٍ دانماركي يُدعى نيلز بور الذي كان يعمل مع رذرفورد في مانشستر. وبعد أن وضع بور النموذجَ الخاص به للذرة، لم يَعُد أحدٌ يستطيع التشكيك في قيمة نظريةِ الكَمِّ باعتبارها تُقدِّم وصفًا للعالم الفيزيائي في المستوى المتناهي الصغر.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/4/
الذرة لدى بور
بحلول عام ١٩١٢، كانت قِطَع البازل الذري جاهزةً للتركيب بعضها مع بعض. فقد أثبت أينشتاين صحةَ فكرةِ الكَمِّ على نطاقٍ واسع، وأدخل فكرة الفوتون مع أنها لم تكن مقبولةً بشكلٍ عام بعدُ. وبتوسيع نطاق التشبيه الخاص بماكينة الصرف الآلي، فإن ما قاله أينشتاين هو أن الطاقة تأتي فقط في صورةِ حِزمٍ ذات مقدارٍ محدَّد؛ فالصراف الآلي يتعامل فقط بوحدات من مضاعفات ١٠ جنيهاتٍ إسترلينية لأن هذه هي أصغر فئات العملة الموجودة، وليس لأنه أمرٌ يخضع لهوى الشخص الذي برمجَ الآلة. قدَّم رذرفورد صورةً جديدة للذرة؛ حيث توجد لها نواةٌ مركزيةٌ صغيرة تحيط بها سحابة من الإلكترونات، وإن كانت هذه الفكرة لم تحظَ بعدُ بالدعم العام اللازم لها. ولكن، لم يكن من الممكن ببساطة لذرة رذرفورد أن تكون مستقِرةً طبقًا للقوانين الكلاسيكية للديناميكا الكهربية. وكان الحل هو استخدام قوانين الكَمِّ لوصف سلوك الإلكترونات في الذرة. ومرةً أخرى، جاء التقدُّم المفاجئ على يدِ باحثٍ شابٍّ انتهج أسلوبًا جديدًا ومبتكَرًا في التعامل مع المشكلة، وهو موضوع سنتطرق إليه باستمرار خلال سرد قصة تطور نظريةِ الكَمِّ. كان بور صاحبَ عبقريةٍ فَذَّة، وهو ما كان مطلوبًا بالضبط لإحراز التقدُّم في الفيزياء الذرية على مدى السنوات العشر إلى السنوات الخمس عشرة التالية. لم يكن بور يهتمُّ بشرح كل التفاصيل في نظريةٍ واحدةٍ مكتمِلة، لكنه كان على استعدادٍ تامٍّ للتوفيق بين الأفكار المختلِفة لوضع «نموذج» تخيُّلي يتَّفق ولو على نحوٍ تقريبي مع مشاهدات الذرات الحقيقية. وبمجرَّد أن تكوَّنت لديه فكرةٌ تقريبية عما يجري، استطاع التلاعب بها بتركيب الأجزاء معًا على نحوٍ أفضل، والعمل بذلك على إعطاءِ صورةٍ أكثرَ اكتمالًا. وعليه، فقد تناوَل بور صورةَ الذرة على أنها مجموعةٌ شمسيةٌ مصغَّرة، تتحرَّك فيها الإلكترونات في مدارات تبعًا للقوانين الكلاسيكية للميكانيكا والكهرومغناطيسية، وقال إن الإلكترونات لا يمكنها أن تغادرَ تلك المدارات إلى الداخل، بما يجعلها تطلِق إشعاعًا أثناء ذلك؛ لأنه مسموح لها فقط بإطلاقِ أجزاءٍ كاملةٍ من الطاقة — كموم كاملة — وليس إشعاعًا متصلًا كما تستوجب النظرية الكلاسيكية. ويقابل المداراتِ «المستقرة» للإلكترونات كمياتٌ ثابتةٌ معيَّنة من الطاقة، كلٌّ منها هو أحد مضاعفاتِ كَمٍّ أساسي، ولا توجد مداراتٌ بينية؛ لأنها بذلك ستتطلَّب كمياتٍ كسريةً من الطاقة. واسترسالًا مع تشبيه المجموعة الشمسية، فإن ذلك مِثلُ القولِ بأنَّ مدار الأرض حول الشمس مستقِرٌّ، وكذلك مدار المريخ، وأنه لا يوجد مدارٌ آخرُ مستقِرٌّ في أيِّ موضعٍ بينهما. لم يكن ما فعله بور يصلُح للتنفيذ. تقوم فكرةُ المدار بأكملها على الفيزياء الكلاسيكية، أما فكرةُ حالات الإلكترون التي تقابل كمياتٍ محدَّدة من الطاقة — مستويات الطاقة، كما أصبحت تُسمَّى — فتأتي من نظريةِ الكَمِّ. ولم يكن لنموذج الذرة، الذي يجمع بين أجزاءٍ من النظرية الكلاسيكية وأجزاءٍ من نظريةِ الكَمِّ، أن يقدِّم منظورًا حقيقيًّا عمَّا يجعل الذرات تؤدي عملها جيدًا، لكنه في الواقع قدَّم لبور نموذجًا عمليًّا بما يكفي للمضي قُدُمًا. وقد اتضح فيما بعدُ أن النموذج الذي قدَّمه كان يجانبه الصواب من كل النواحي تقريبًا، بيْد أنه قدَّم نموذجًا انتقاليًّا لوضعِ نظريةِ الكَمِّ الحقيقيةِ عن الذرة؛ ومن ثَم كان نموذجًا انتقاليًّا فائقَ القيمة. ولسوء الحظ، ظلَّ هذا النموذج متداولًا ليس فقط في الإصدارات العلمية المبسَّطة ولكن أيضًا في كثير من الكتب المدرسية والجامعية، وذلك بسببِ مزْجِه الرائع والبسيط بين أفكارِ الكَمِّ والأفكار الكلاسيكية، وبسبب التشبيه الجذاب للذرة على أنها مجموعةٌ شمسيةٌ مصغَّرة. وإذا كنتَ قد درستَ أيَّ شيء عن الذرة في مرحلة الدراسة، فإنني على يقين من دراستك لنموذج بور، سواء أكان ذلك تحت هذا الاسم أم لا. ولن أطلب منك إغفالَ كلِّ ما عرفته، لكن عليك أن تهيئ نفسَك للاقتناع بأن ذلك لم يكن الحقيقة الكاملة. وينبغي أن تحاول طرحَ فكرةِ أن الإلكترونات «كواكب» صغيرة تدور حول النواة من ذهنك؛ فقد كانت هذه هي فكرةَ بور في البداية، لكنها في الواقع فكرةٌ مضلِّلة. فالإلكترون ببساطة هو شيءٌ ما يقبع خارج النواة ويمتلك كميةً معيَّنةً من الطاقة وبعض الخصائص الأخرى. ويتحرَّك بطريقةٍ غامضة كما سنرى. يتكوَّن الضوء الأبيض، كما أثبت نيوتن، من كل ألوان قوسِ قُزَح، وهي الطيف. ويقابل كلَّ لونٍ طولٌ موجيٌّ مختلِفٌ للضوء، وباستخدامِ منشورٍ زجاجي لتحليل الضوء الأبيض إلى الألوانِ المكوِّنة له نكون في الواقع بصددِ تحليلِ الطيف بحيث تصطفُّ الموجات ذات التردُّدات المختلِفة بعضها بجوار بعض على شاشةٍ أو لوحٍ فوتوغرافي. يقع كلٌّ من الضوء الأزرق والضوء البنفسجي، وكلاهما ذو طولٍ موجيٍّ قصير، على أحدِ طرفَي الطيف الضوئي، ويقع الضوء الأحمر ذو الطول الموجي الطويل على الطرف الآخر، إلا أن الطيف يمتد على كلا الطرفَين إلى ما أبعد من نطاق الألوان المرئية لعيوننا. وإذا حلَّلنا ضوء الشمس بهذه الطريقة فسيتميَّز الطيف الناتج بوجودِ خطوطٍ معتمة وواضحة للغاية في مواضعَ محدَّدةٍ بدقةٍ في هذا الطيف، وهذه الخطوط تقابل تردداتٍ محددةً بدقَّة. ودون الإلمام بكيفية تكوُّن هذه الخطوط، أثبت باحثون — من أمثال جوزيف فراونهوفر، وروبرت بنزن (الذي خُلِّد اسمُه بإطلاقه على المَوقِد المعروف المستخدَم في المختبرات)، وجوستاف كيرشوف في القرن التاسع عشر — بالتجاربِ أن كلَّ عنصر ينتج فئةً خاصة به من خطوط الطيف. فعند تسخين عنصر (مثل الصوديوم) في لهبِ مَوقِد بنزن، ينتج عن ذلك ضوءٌ ذو لونٍ مميَّز (لون أصفر في هذه الحالة)، وهو ينتج عن انبعاثٍ قوي للإشعاع على شكل خط أو عدة خطوط شديدة التوهُّج في جزءٍ معيَّن من الطيف. وعند مرور الضوء الأبيض خلال سائل أو غاز يحتوي على العنصرِ نفسِه، حتى لو كان العنصر متحِدًا مع عناصرَ أخرى في مركَّبٍ كيميائي، فإن طيف الضوء يُظهِر خطوطَ امتصاصٍ معتمة، مثل تلك الموجودة في الضوء المنبعث من الشمس، وعند التردداتِ نفسِها المميزة لهذا العنصر. ويُفسِّر ذلك وجودَ الخطوط المعتمة في طيفِ الشمس. ولا بد أن تكون هذه الخطوط قد نتجت عن سُحبٍ أكثرَ برودةً من المواد الموجودة في الغلاف الجوي للشمس؛ حيث تمتص الإشعاع عند الترددات المميزة من الضوء العابر خلالها من سطحِ الشمسِ الأكثرِ سخونةً بكثير. وقد قدَّمت هذه التقنية للكيميائيين وسيلةً مفيدةً لتحديدِ العناصر الموجودة في أي مركَّب. إذا ألقيتَ بملح الطعام على النار مثلًا، فإن اللهب سيتوهَّج باللون الأصفر المميز لعنصر الصوديوم (وهو اللون المألوف أيضًا لمصابيح الصوديوم الصفراء في الشوارع حاليًّا). وفي المختبر، يمكن مشاهدة الطيف المميز عن طريقِ غمسِ سلكٍ في المادة موضع الاختبار ثم تعريض السلك للهب مَوقِد بنزن. يعطي كل عنصر النسق الخاص به من خطوط الطيف، وفي كل حالةٍ يظل النسق واحدًا على الرغم من تغيُّر شدته، حتى لو تغيَّرت درجةُ حرارة اللهب. ويتَّضح من حِدة خطوط الطيف ووضوحها أن كل ذرة من ذرات العنصر تبعث الضوء أو تمتصُّه عند التردد نفسه بالضبط، دون حيود أيِّ ذرة منها. وبالمقارنة مع اختبارات اللهب، تمكَّن علماء التحليل الطيفي من تحديد معظم الخطوط في طيف ضوء الشمس، وفسَّروها بأنها راجعةٌ إلى وجود العناصر المعروفة على الأرض. وفي خطواتٍ عكسيةٍ لهذه الطريقةِ اكتشف عالِم الفلك الإنجليزي نورمان لوكير (مؤسِّس مجلة «نيتشر» العلمية) خطوطًا في طيف الشمس لم يتمكَّن من تفسيرها من حيث كونها طيفًا؛ أي عنصرًا معروفًا، وقرَّر أنها لا بد أن ترجع إلى عنصرٍ لم يكن معروفًا من قبلُ، وأسماه عنصر الهيليوم. وبعد فترةٍ وجيزة، اكتُشِف الهيليوم على الأرض، وثبتَ أن له نفسَ الطيف بالضبط الذي يتناسب مع خطوط طيف الشمس. وبمساعدةِ علمِ التحليل الطيفي، يمكن لعلماء الفلك رصدُ المجرَّات والنجوم البعيدة لمعرفةِ الموادِّ المكوِّنة لها. ويمكن لعلماء الفيزياء الذرية حاليًّا اختبارُ التركيب الداخلي للذرة باستخدام الأدوات نفسِها. بعد أن ناقش بور أبحاثَه مع رذرفورد نشر نظريته عن الذرة في سلسلةٍ من الأوراق البحثية سنة ١٩١٣. توافقت النظرية على نحوٍ جيد للغاية مع الهيدروجين، وبدا أن من الممكن تطويرها بحيث تُستخدم أيضًا في تفسير أطياف الذرات الأكثر تعقيدًا. وفي سبتمبر، حضر بور الاجتماع السنوي الثالث والثمانين للجمعية البريطانية لتقدُّم العلوم، وشرح أبحاثه للحضور الذين كان من بينهم الكثيرُ من علماء الفيزياء الذرية البارزين في ذلك الوقت. بوجهٍ عام، لاقى تقريره قبولًا لدى الحاضرين، ووصفه السير جيمس جينس بأنه رائعٌ ومقنع ويحمل فكرة. وظلَّ جيه طومسون ضمن الذين لم يقتنعوا، ولكن بفضل هذا الاجتماعِ سمع الجميعُ ببور وأبحاثه عن الذرة، حتى العلماء الذين لم يقتنعوا بالحجج التي ساقها. بعد ثلاثة عشر عامًا من محاولة بلانك اليائسة في إدخالِ الكَمِّ في نظرية الضوء، أدخل بور الكَمَّ في نظرية الذرة. غير أن الأمر قد استغرق ثلاثة عشر عامًا أخرى لوضعِ نظريةٍ حقيقية عن الكَمِّ. كان التقدُّم في ذلك الوقت يحدث بوتيرةٍ بطيئة على نحوٍ مزعج؛ فكل خطوة للخلف تقابلها خطوتان للأمام، وفي بعض الأحيان خطوتان للخلف لكل خطوة بدت أنها تسير في الاتجاه الصحيح. كانت ذرة بور عبارةً عن مزيج. فقد مزجت هذه الذرة بين الأفكار الكمومية وأفكار الفيزياء الكلاسيكية، مستخدمةً كل مزيج بدا ضروريًّا لمعالجة أي تعارضات والحفاظ على سلامة النموذج واستمراريته. وقد سمح ذلك بعددٍ من خطوط الطيف يفوق كثيرًا ما يمكن مشاهدته في الضوء المنبعث من الذرات المختلفة، ولا بد من تطبيقِ قواعدَ صارمةٍ حتى يمكن القول إن بعض الانتقالات بين مستويات الطاقة المختلفة داخل الذرة «غير مسموح بها». وحُدِّدت خصائصُ جديدة للذرة — الأعداد الكمومية — لتتوافق خصيصى مع المشاهدات، دون أن يكون لها أيُّ أساسٍ نظري مضمون يفسِّر السببَ في ضرورة الاستعانة بهذه الأعداد الكمومية، أو السبب في عدم السماح بحدوث بعض الانتقالات. في خضم ذلك كله، عمَّت الفوضى العالَم الأوروبي باندلاع الحرب العالمية الأولى، في السنة التي تلت إعلان بور لنموذجه الأول للذرة. ومثل أي جانبٍ آخرَ من جوانب الحياة، لم يكن مقدَّرًا للعلم أن يظل كما هو بعد سنة ١٩١٤؛ فقد حالت الحرب دون سهولة انتقال الباحثين من بلدٍ لآخر، بل إنه منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى وجد بعض العلماء في بعض البلدان صعوبة في الاتصال بكل زملائهم في مختلف أنحاء العالم. كما كان للحرب تأثيرٌ مباشر في البحث العلمي داخل المراكز الكبرى حيث كان الفيزيائيون يُحرزون الكثيرَ من التقدُّم في السنوات الأولى من القرن العشرين. فقد ترك العلماء الشبان في الدول المشاركة في الحرب مَعاملَهم، وذهبوا إلى الحرب تاركين وراءهم الأساتذةَ الأكبرَ سنًّا، مثل رذرفورد، ليواصلوا العمل على قدرِ استطاعتهم، وقد لقي الكثيرون من هؤلاء الشبان حتفَهم أثناء القتال، وهم الجيل الذي كان منوطًا به جمع أفكار بور ومعالجتها في السنوات التي تلت سنة ١٩١٣. وقد تأثَّرت كذلك أبحاث العلماء في الدول المحايدة، مع أن بعضهم ربما يكون قد استفاد بطريقةٍ ما من سوء حظ الآخرين. فقد عُيِّن بور نفسُه «أستاذًا» في مادة الفيزياء بجامعة مانشستر، وفي جوتينجن أجرى مواطنٌ هولندي اسمه بيتر ديباي دراساتٍ مهمة عن البنية البلورية، مستخدمًا أشعةَ إكس كمسبار. وقد ظلَّت هولندا والدنمارك في الواقع واحتَين عِلميتَين في ذلك الوقت، وعاد بور إلى الدنمارك سنة ١٩١٦ ليشغل منصب أستاذ الفيزياء النظرية في كوبنهاجن، ثم ليؤسس معهد الأبحاث الذي يحمل اسمه سنة ١٩٢٠. واستطاعت الأخبار التي جاءت من باحثٍ ألماني مثل أرنولد سومرفيلد (أحد الفيزيائيين الذين نقَّحوا نموذج بور الذري لدرجةِ أن النموذج كان يشار إليه أحيانًا باسم ذرة «بور-سومرفيلد») المرور إلى دولة الدنمارك المحايدة، ثم بعد ذلك من بور إلى رذرفورد في إنجلترا. استمر التقدُّم لكنه لم يكن التقدُّم نفسه الذي كان في السابق. بعد الحرب لم يكن العلماء الألمان والنمساويون يُدعون إلى المؤتمرات الدولية لسنواتٍ عديدة، وكانت روسيا تموج بالثورة، وفقد العلمُ بعضًا من عالميته وجيلًا من الشباب. وآل الأمر إلى أن جاء جيلٌ جديد تمامًا ليأخذ نظريةَ الكَمِّ من النموذج الانتقالي الذي قدَّمه مزيج ذرة بور كحلٍّ وسط (وهو ما جرى تنقيحه باعتراف الجميع من خلال الجهود المضنية للعديد من الباحثين بحيث أصبح نموذجًا فعَّالًا على نحوٍ لافت، وإنْ كان متداعيًا) إلى النموذج الرائع الكامل لميكانيكا الكَمِّ. ودوَّت أسماءُ هذا الجيل في عالَم الفيزياء الحديثة: فيرنر هايزنبرج، وبول ديراك، فولفجانج باولي وباسكوال جوردان، وآخرون. كانوا أعضاء في الجيل الأول لمفهومِ الكَمِّ، الجيل الذي وُلد ونشأ في السنوات التي تلت مساهمة بلانك العظمى (وُلِد باولي سنة ١٩٠٠، وهايزنبرج سنة ١٩٠١، وديراك وجوردان سنة ١٩٠٢)، ودخلوا إلى مجال البحث العلمي في عشرينيات القرن العشرين. لم يتلقوا تدريبًا راسخًا في الفيزياء الكلاسيكية ليتغلبوا على تأثيرها، وكانت حاجتهم إلى الاحتفاظِ بجانبٍ من الأفكار الكلاسيكية في نظرياتهم عن الذرة أقلَّ مما نجده في عالمٍ بارعٍ مثل بور حين قدَّم أنصاف حلول. وكان من المناسب تمامًا، وربما الأمر لم يكن من قبيل المصادفة على الإطلاق، أن الزمنَ المستغرَقَ منذ اكتشافِ بلانك معادلةَ الجسم الأسود وحتى ازدهار ميكانيكا الكَمِّ هو ستة وعشرون عامًا فحسب، وهي فترةٌ زمنيةٌ كفيلة لأن يتطورَ جيلٌ من الفيزيائيين الجُدد ويصبحوا علماء باحثين. غير أن هذا الجيل كان قد ورث أمرَين عظيمَين من جيل السلف الذي ما زال فاعلًا، بعيدًا عن ثابت بلانك نفسه. الأمر الأول كان ذرة بور الذي زودهم بمؤشرٍ واضحٍ على أن الأفكارَ الكَمِّيةَ لا بد أن تُدمَج في نظريةٍ مقنعة عن العمليات الذرية، أما الأمر الثاني فقد جاء من عالِمٍ نابغةٍ في عصره، بدا أنه لم يتقيَّد بأفكارٍ في الفيزياء الكلاسيكية، وهو ما كان استثناءً من كل القواعد. سنة ١٩١٦ وفي أوج الحرب كان أينشتاين يعمل في ألمانيا، وقد أدخل مفهومَ الاحتمال في النظرية الذرية. وقد قام بذلك كوسيلة (مساهمة أخرى في المزيج الذي جعل آلية عمل ذرة بور مماثلة لسلوك الذرات الحقيقية المُلاحَظ)، إلا أن هذه الوسيلةَ عاشت فترةً أطولَ من ذرة بور لتصبح الركيزةَ الأساسية لنظريةِ الكَمِّ الحقيقية، وإن كان من دواعي المفارقة أن تبرَّأ منها أينشتاين فيما بعدُ في مقولته الشهيرة: «إن الرب لا يلعب النرد». بالعودة إلى العَقد الأول من القرن العشرين، عندما كان رذرفورد وزميله فردريك سودي يفحصان طبيعةَ النشاط الإشعاعي، اكتشفا خاصيةً مثيرةً وأساسية من خصائص الذرة، أو بالأحرى من خصائص نواة الذرة. لا بد أن يتضمَّن «التحلل» الإشعاعي، كما أصبح معروفًا بهذا الاسم، تغيُّرًا أساسيًّا في الذرة المفردة (معلوم لدينا الآن أنه يتضمَّن انشطار النواة وانطلاق أجزاء منها)، غير أنه فيما يبدو لا يتأثَّر بأيِّ مؤثرٍ خارجي. فسواءٌ جرى تسخين الذرات أو تبريدها، وسواءٌ وُضِعَت في فراغ أو في دلوٍ به ماء، فإن التحلُّل الإشعاعي سيستمر دون أيِّ مقاطعة. ويبدو أنه لا توجد طريقة للتنبؤ الدقيق بأن ذرةً بعينِها في مادةٍ مشعةٍ ما ستتحلَّل، وتبعث بجسيم ألفا أو بيتا وبأشعة جاما، إلا أن التجارب قد بيَّنت أن نسبةً معيَّنة من عددٍ كبير من الذرات النشطة إشعاعيًّا للعنصر نفسِه ستتحلل دائمًا في زمنٍ معيَّن. وعلى وجه التحديد، يوجد زمنٌ مميز لكل عنصرٍ مشع يسمَّى عمر النصف، تتحلل خلاله أنصافُ الذرات بالضبط في أي نموذجِ تحلُّل. يبلغ عمر النصف لعنصر الراديوم، على سبيل المثال، ٦٠٠ سنة، بينما يبلغ عمر النصف لعنصر الكربون-١٤ — وهو أحد نظائر الكربون المشعة — أقلَّ قليلًا من ٦٠٠٠ سنة، وهو ما جعله مفيدًا في التأريخ الزمني للاكتشافات الأثرية، وأخيرًا يبلغ عمر النصف لتحلُّل عنصر البوتاسيوم المشع ١٣٠٠ مليون سنة. ومن دون معرفةِ السبب الذي يجعل ذرةً ما ضمن عددٍ هائل من الذرات تتحلَّل ولا تتحلَّل الذرات المجاورة لها، استخدم رذرفورد وسودي هذا الاكتشاف كأساسٍ لوضعِ نظريةٍ إحصائية عن التحلُّل الإشعاعي، وهي نظرية تَستخدم أساليبَ أكتوارية كالمطبَّقة في شركات التأمين، التي تعرف أن بعض الأشخاص المؤمَّن عليهم سيموتون في سنٍّ مبكرة وأن ورثتهم سيتسلمون من شركةِ التأمين مبالغَ تفوق كثيرًا ما دفعوه، في حين أن عملاء آخرين سيعيشون طويلًا وسيدفعون مبالغَ كافيةً لتعويض ذلك. ودون معرفة الوقت الذي سيموت فيه أيٌّ من العملاء، تتيح الجداول الأكتوارية لموظفي الحسابات ضبطَ الموازنة. وبالطريقة نفسِها، تتيح الجداول الإحصائية للفيزيائيين ضبطَ موازنة التحلل الإشعاعي، بشرط أن يتعاملوا مع مجموعاتٍ كبيرة من الذرات. إحدى السمات اللافتة لهذا السلوك هي أن النشاط الإشعاعي لا يختفي أبدًا من عينةِ أيِّ مادةٍ مشعَّة. ذلك حيث يتحلل نصف ملايين الذرات الموجودة في فترةٍ زمنيةٍ معينة. وعلى مدى عمر النصف التالي — الذي يستغرق الفترةَ الزمنيةَ نفسَها — سيتحلَّل نصف العدد المتبقي، وهكذا. وكلما اقتربنا من الصفر تناقصَ عددُ الذرات المشعة المتبقية دون تحلُّل، ولكن كل خطوة نحو الصفر تقلِّل عمر النصف بما يتناسب مع نصف العدد المتبقي. في تلك الأيام الأولى، كان الفيزيائيون من أمثال رذرفورد وسودي يتصوَّرون أن شخصًا ما سيأتي في النهاية ويكتشف بالضبط السببَ وراء تحلُّل ذرةٍ بعينها، وأن هذا الاكتشاف سيُفسِّر الطبيعةَ الإحصائية للعملية. وعندما طبَّق أينشتاين الأساليبَ الإحصائية على نموذج بور لتفسيرِ تفاصيلِ الطيفِ الذري، استبق الأمر أيضًا بأن الاكتشافات اللاحقة ستلغي الحاجة إلى «الجداول الأكتوارية». وكانوا جميعًا على خطأ. وعلى افتراض أن نموذجَ الذرة لدى بور كان يعني شيئًا على أية حال، فإن هذا التفسير لكيفيةِ إشعاعِ الذراتِ الساخنةِ للطاقة كان ينبغي حتمًا ربطه بقانون بلانك. ولكان ينبغي حتمًا أن يكون طيف إشعاع التجويف (إشعاع الجسم الأسود) ببساطةٍ هو التأثير المشترك لأعدادٍ كبيرة من الذرات التي تشعُّ طاقةً كلما قفزت الإلكترونات من مستوَى طاقةٍ إلى آخرَ. كان أينشتاين، مثله مثل العلماء الذين درسوا النشاط الإشعاعي في ذلك الوقت، يعتقد أن الجداول الأكتوارية ليست كلمة الفَصْل الأخيرة، وأن الأبحاث القادمة ستحدِّد السبب وراء حدوثِ انتقالٍ بعينِه في اللحظةِ التي يحدث فيها بالضبط، وليس في أيِّ وقتٍ آخر. غير أن هذه هي النقطة التي بدأت عندها نظريةُ الكَمِّ تتحرَّر فعليًّا من سيطرة الأفكار الكلاسيكية، ولم يُكتشَف قط أيُّ «سبب كامن» وراء حدوثِ التحلُّل الإشعاعي أو انتقالات الطاقة الذرية حال حدوثها. وفي الواقع، يبدو أن هذه التغيرات تحدث كلها بمحض المصادفة، على أساسٍ إحصائيٍّ ما، وقد بدأ ذلك الأمر في إثارةِ تساؤلاتٍ فلسفيةٍ جوهريةٍ. في العالَم الكلاسيكي لكلِّ شيءٍ سبب. ويمكنك تتبُّع سببَ أيِّ حدث بتسلسلٍ زمنيٍّ عكسي لاكتشافِ السببِ وراء ذلك السبب، والسبب الذي أدَّى إلى ذلك السبب، وهكذا حتى تصل إلى الانفجار العظيم (إذا كنت من علماء الكون)، أو حتى لحظة الخَلْق في السياق الديني، إذا كان ذلك هو النموذج الذي تقبل به. أما في عالَمِ الكَمِّ، فإن هذه السببية المباشرة تأخذ في الاختفاء بمجردِ فحصِ التحلُّل الإشعاعي والانتقالات الذرية. فالإلكترون لا يهبط من مستوًى معيَّن للطاقة إلى مستوًى آخر في زمنٍ معيَّن لأي سببٍ محدَّد. ومستوى الطاقة الأدنى هو الأكثرُ تفضيلًا لدى الذرة، بالمفهوم الإحصائي، ولذا فمن المرجَّح (يمكن قياس مقدار الأرجحية كميًّا) أن يقوم الإلكترون بهذا الانتقال آجلًا أو عاجلًا. ولكن لا توجد وسيلةٌ تخبرنا متى سيحدث هذا الانتقال. فلا يوجد عاملٌ خارجي يدفع الإلكترون، ولا يوجد توقيتٌ داخلي يفرض على الإلكترون القفز في توقيتٍ محدَّد. وكلُّ ما هنالك أن الانتقال يحدث في هذا الحين وليس ذاك دون سببٍ معيَّن. وليس ذلك خروجًا عن السببية الصارمة، ومع أن الكثيرين من علماء القرن التاسع عشر ربما هالتهم الفكرة، فإنني يخامرني الشك في أن يكون أيٌّ من قراء هذا الكتابِ يكترثون كثيرًا لها. ولكن ليست هذه سوى أولِ قطرةٍ في الغيث، وأولِ مفتاحٍ لفك الطلاسم الحقيقية لعالَمِ الكَمِّ، وإن كان جديرًا بالذكر أن أهميتها لم تحظَ بتقدير في ذلك الوقت. وكان مولد الفكرة سنة ١٩١٦ على يد أينشتاين. لعله من المضجر التوسُّع في شرحِ كلِّ التنقيحات المفصَّلة التي شهدها نموذج بور للذرة حتى سنة ١٩٢٦، ولعل الأكثرَ ضجرًا أن يُكتشَف عندئذٍ فقط أن معظم هذه المحاولات لتلمُّس الطريق نحو الحقيقة كان يجانبه الصواب على أيةِ حال. غير أن ذرة بور كانت تغلب على الكتب الدراسية وكتب تبسيط العلوم على نحوٍ لا يمكن إغفاله، وهي تمثِّل في شكلها النهائي آخرَ نموذجٍ للذرة يرتبط بأي صلة بالصور التي اعتدنا عليها في حياتنا اليومية. وقد تبيَّن أن الذرةَ التي رآها القدماء مثل كرة البلياردو ولا تنقسم، قابلةٌ للانقسام وتتكوَّن في معظمها من فراغ، تملؤه جسيماتٌ غريبة تسلك مسلكًا غريبًا. وقد قدَّم بور إطارًا وضع بعض هذه التصورات الغريبة في سياقٍ يحاكي حياتنا اليومية، ومع أنه من الأفضل استبعاد كل الأفكار المتعلقة بحياتنا اليومية قبل الانغماس كليةً في عالَمِ الكَمِّ، فإن معظم الأشخاص يَبدون أكثرَ سعادةً عندما يستعرضون نموذجَ بور قبل هذا الانغماس. الآن وقد بلغنا منتصفَ الطريق بين الفيزياءِ الكلاسيكيةِ ونظريةِ الكَمِّ، دعونا نتوقَّف لنلتقط أنفاسنا ونستريح لوهلةٍ قبل أن ندخل إلى منطقةٍ مجهولة. ولكن دعونا لا نضيِّع الوقت والطاقة في تتبُّع كلِّ الأخطاء وأنصاف الحقائق التي تضمَّنها مزيج الجهود المشتركة لوضع نموذج بور والنواة حتى سنة ١٩٢٦. وبدلًا من ذلك، سأستخدم منظور ثمانينيات القرن العشرين لإلقاءِ نظرةٍ إلى الوراء على ذرةِ بور ولوصفِ نوعٍ من التوليفِ الحديثِ لأفكارِ بور وأفكارِ رفاقه، بما في ذلك بعض قِطَع البازل التي لم تُوضَع حقيقةً في موضعها الصحيح إلا مؤخرًا. لعلك الآن قد استوعبت مدى صِغَر الذرة. وليس المستغرب في الأمر أن نموذج بور للذرة كان تقديرًا تقريبيًّا وسانحًا، ولا أن قوانين الفيزياء للحياة اليومية لا تنطبق على الذرات. المعجزة هي أن نفهم أيَّ شيء عن الذرات، وأن نستطيع إيجاد طرق لاجتياز الفجوةِ ما بين الفيزياءِ الكلاسيكيةِ لنيوتن وفيزياءِ الكَمِّ الذرية. وبقدرِ الصورة الفيزيائية التي يمكن تكوينها لأي شيءٍ متناهي الصِّغَر، فهكذا هو مدى الصِّغر الذي تكون عليه الذرة. وكما أوضح رذرفورد، فإن النواة المتناهية الصِّغر التي تقع في مركز الذرة تكون محاطةً بسحابةٍ من الإلكترونات التي تدور حولها بزخم كالنحل. في البداية، كان الاعتقاد السابق هو أن النواة تتكوَّن من بروتونات فقط، وكل بروتون منها يحمل شحنةً موجبةً بنفس مقدار الشحنة السالبة للإلكترون، وبذلك فإن العدد المتساوي من البروتونات والإلكترونات يجعل كل ذرة متعادلة كهربيًّا، وقد اتضح فيما بعدُ أن هناك جسيمًا أساسيًّا آخرَ في الذرة يشبه البروتون لكنه لا يحمل شحنةً كهربية. إنه النيوترون، وفي كل الذرات باستثناء ذرة الهيدروجين، التي هي أبسط الذرات على الإطلاق، توجد النيوترونات إلى جانب البروتونات في النواة. ولكن عدد البروتونات يكون مساويًا حقًّا لعدد الإلكترونات في الذرة المتعادلة. يحدِّد عددُ البروتونات في النواة نوعَ العنصر الذي تمثِّله هذه الذرة، ويحدِّد عددُ الإلكترونات في السحابة (المساوي تمامًا لعدد البروتونات) الخصائصَ الكيميائية لهذه الذرة، وهذا العنصر. ولكن، نظرًا لأن بعض الذرات التي يتساوى فيها عدد البروتونات والإلكترونات قد تحتوي على عددٍ مختلِف من النيوترونات، فإن العناصر الكيميائية يمكن أن تجيء في صورٍ مختلِفة تُسمَّى النظائر. وقد أدخل سودي هذا الاسم سنة ١٩١٣ مستعيرًا إياه من لفظةٍ إغريقيةٍ تعني «الموضع نفسه»، وذلك بسبب اكتشاف وجود ذرات ذات أوزانٍ مختلفة تنتمي إلى الموضعِ نفسِه في جدول الخصائص الكيميائية؛ الجدول الدوري للعناصر. وقد حصل سودي على جائزة نوبل (في الكيمياء) سنة ١٩٢١ عن أبحاثه حول النظائر. تقدِّم سحابةُ الإلكترونات الجانبَ الخارجي للذرة والوسائل التي تتفاعل بها مع الذرات الأخرى. أما ما يرقد عميقًا في قلب السحابة الإلكترونية، فإنه على الأغلب ليس ماديًّا؛ ذلك أن ما «تراه» ذرة أخرى و«تشعر به» هو الإلكترونات نفسها، والتفاعلات بين سُحب الإلكترونات هي المسئولة عن الخصائص الكيميائية. وبشرح السمات العامة للسحابة الإلكترونية، وضع نموذج بور للذرة الخصائصَ الكيميائية على أساسٍ علميٍّ راسخ. كان الكيميائيون يعرفون بالفعل أن بعضَ العناصر كانت متشابهة جدًّا في خصائصها الكيميائية مع أن لها أوزانًا ذريةً مختلفة. وعندما جرى ترتيب العناصر في جدول تبعًا لأوزانها الذرية (ولا سيَّما عندما سُمِحَ بالنظائر المختلفة)، اتضح أن العناصر المتماثلة كانت تتكرَّر على فتراتٍ منتظمة، وكان أحد هذه الأنماط هو تكرار العناصر بحيث تفصل بينها ثمانية أعدادٍ ذرية. ولهذا السبب، عندما رُتِّبَ الجدول بحيث توضَع العناصر ذات الخصائص المتماثلة في مجموعاتٍ ما، سُمِّي الجدول «الدوري». زار بور جامعة جوتينجن في ألمانيا في شهر يونيو سنة ١٩٢٢، ليلقي سلسلةً من المحاضرات حول نظريةِ الكَمِّ وتركيب الذرة. وكانت جوتينجن على وشك أن تصبح واحدة من ثلاثةِ مراكزَ رئيسيةٍ في تطوير النسخة الكاملة من نظريةِ الكَمِّ، تحت إشراف ماكس بورن، الذي أصبح أستاذًا للفيزياء النظرية هناك سنة ١٩٢١. وُلِد بورن سنة ١٨٨٢، وكان ابنًا لأستاذ تشريح بجامعة بريسلاو، وصار طالبًا في أوائل القرن العشرين عندما ظهرت أفكار بلانك لأول مرة. وقد درس الرياضيات في البداية، ولم يتحوَّل إلى الفيزياء (ويعمل لفترة في مختبر كافنديش) إلا بعد أن أتمَّ رسالةَ الدكتوراه سنة ١٩٠٦. وقد تبيَّن أن ذلك كان تدريبًا مثاليًّا للسنوات القادمة كما سنرى فيما بعدُ. كان بور يتصف دائمًا بالدقةِ الرياضية بوصفه خبيرًا في النسبية، وذلك على نقيضٍ واضح من مزيج التصوُّرات النظرية لبور الذي أسَّسه بمساعدةِ آرائه الثاقبة وحدْسه الفيزيائي، لكنه غالبًا ما يترك للآخرين أمرَ إدراك التفاصيل الرياضية وفهْمها. وقد كان كلا النوعين من النبوغ ضروريًّا للوصول إلى فهْم جديد للذرات. تُعنى الكيمياء بالطريقةِ التي تتفاعل بها الذرات وتتَّحد لتصنع الجزيئات. فلماذا يتفاعل الكربون مع الهيدروجين بحيث ترتبط أربع ذرات من الهيدروجين بذرةٍ واحدة من الكربون لتصنعَ جزيء الميثان؟ ولماذا يوجد الهيدروجين في صورةِ جزيئات، كل جزيء منها يتكوَّن من ذرتَين، بينما لا يكوِّن الهيليوم أيَّ جزيئات؟ وهكذا. جاءت الإجابات ببساطةٍ مذهلةٍ من نموذج الأغلفة. فكلُّ ذرة هيدروجين بها إلكترونٌ واحد، بينما الهيليوم به إلكترونان. يمتلئ الغلاف «الداخلي» الأقرب إلى النواة بإلكترونَين، (ولسببٍ غيرِ معروف) تكون الأغلفة الممتلئة أكثرَ استقرارًا؛ فالذرات «تميل» إلى أن تكون لها أغلفةٌ ممتلئة. عندما تتَّحد ذرتان من الهيدروجين لتكوينِ جزيءٍ ما، فإنهما تتقاسمان الإلكترونَين بحيث تستشعر كلُّ ذرة ميزةَ الغلاف المغلق (الممتلئ). أما الهيليوم، الذي به غلافٌ ممتلئ بالفعل، فإنه لا يكترث بأيِّ عَرَض من هذا القبيل، ويمتنع عن التفاعل كيميائيًّا مع أي شيء. يحتوي الكربون على ستة بروتونات في نواته وستة إلكترونات خارجها. ويشغل اثنان من هذه الإلكترونات الغلافَ الداخلي المغلق، ليتبقى بذلك أربعة إلكترونات مرتبطة بالغلاف التالي، الذي هو نصف فارغ. وتستطيع الذرات الأربع من الهيدروجين طلبَ مشاركة واحد من الإلكترونات الأربعة الخارجية لذرة الكربون والمساهمة بإلكترونها الخاص في هذه العملية. وتنتهي كلُّ ذرة هيدروجين بغلافٍ شبهِ ممتلئ بإلكترونَين داخليين، بينما يصبح الغلاف الثاني لكل ذرة كربون شبهَ ممتلئ بثمانية إلكترونات. ووفقًا لما قاله بور، فإنَّ الذرات تتَّحد بحيث تقرُب قدْر المستطاع من الحصول على غلافٍ خارجيٍّ مغلق. وفي بعض الأحيان، كما في حالة جزيء الهيدروجين، يكون من الأفضل أن نفكِّر في زوجٍ من الإلكترونات تتقاسمه نواتان، وفي حالاتٍ أخرى تكون الصورة المناسبة أن نتخيَّل ذرةً تحتوي على إلكترونٍ زائد في غلافها الخارجي (ربما ذرة الصوديوم مثلًا) وتتخلَّى عن هذا الإلكترون لصالحِ ذرةٍ يحتوي غلافها الخارجي على سبعة إلكترونات وبه مكانٌ شاغر لإلكترونٍ واحد (في هذه الحالة، قد تكون هذه هي ذرة الكلور). وتصبح كل ذرة سعيدة؛ الصوديوم سعيد بفقد إلكترون؛ مما يجعل الغلاف الداخلي الممتلئ «مرئيًّا»، والكلور سعيد باكتساب إلكترون يجعل غلافه الخارجي ممتلئًا. ولكن تكون المحصلة بذلك أن ذرةَ الصوديوم تصبح أيونًا موجبَ الشحنة بفقدها وحدةً واحدة من الشحنة السالبة، بينما تصبح ذرة الكلور أيونًا سالبًا. وحيث إن الشحنات المتضادة تتجاذب، فإن الأيونَين يتَّحد أحدهما بالآخر ليكوِّنا جزيئًا متعادلَ الشحنة من كلوريد الصوديوم؛ ملح الطعام. يمكن تفسير كل التفاعلات الكيميائية بهذه الطريقة؛ إما مشاركة إلكترونات أو مقايضتها بين الذرات بغرضِ الوصول إلى الاستقرار الذي يميِّزه امتلاء الأغلفة الإلكترونية. ويترتَّب على انتقالات الطاقةِ المتضمِّنة للإلكترونات الخارجية بصمةُ الطيف المميِّزة للعنصر، أما الانتقالات المتضمِّنة للأغلفة الداخلية (ومن ثَم المشتمِلة على كميَّةٍ أكبرَ من الطاقة، في جزء أشعة إكس من الطيف)، فلا بد أن تكون واحدة لكل العناصر، كما ثبت بالفعل. ومثل أفضل النظريات، تأكَّد نموذجُ بور بواسطة تنبؤٍ مُوفَّق. فمن خلال ترتيب العناصر في جدولٍ دوري، وحتى سنة ١٩٢٢، كانت هناك فراغاتٌ تُقابل عناصرَ لم تُكتشَف بعدُ بالأعداد الذرية ٤٣ و٦١ و٧٢ و٧٥ و٨٥ و٨٧. وتنبَّأ نموذجُ بور بالخصائص التفصيلية لهذه العناصرِ «الناقصة» واقترح أن يكون للعنصر ٧٢ على وجه التحديد، خصائصُ مماثلة للزركونيوم، وهو التنبؤ الذي يتعارض مع التنبؤات القائمة على النماذج البديلة للذرة. وقد تأكَّدت صحةُ هذا التنبؤ في غضونِ عامٍ واحد مع اكتشافِ الهافنيوم، العنصر ٧٢، الذي اتضح أن له خصائصَ طيفيةً متطابقةً تمامًا مع تلك التي تنبَّأ بها بور.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/5/
الفوتونات والإلكترونات
يضرِب هذا التعليق، الذي قلَّما لاحظه أحدٌ في ذلك الوقت، نظريةَ الكَمِّ الحديثة في الصميم. وقد عبَّر بور في عشرينيات القرن العشرين عن هذا الأساس الجديد للفيزياء بمصطلح «مبدأ المكاملة» الذي ينصُّ على أن النظريتَين الموجية والجسيمية للضوء (في هذه الحالة) لا تستبعد أيٌّ منهما الأخرى، ولكن إحداهما تكمل الأخرى. وكلا المفهومين ضروريٌّ لتقديمِ وصفٍ شامل، ويتضح ذلك بشدةٍ في الحاجة إلى قياس طاقة «جسيم» الضوء من حيث تردُّده، أو طوله الموجي. وحيث إن جسيم الضوء ليست له كتلة سكون، فإن هذه المعادلة تُختزل مباشرةً إلى: وكان هذا البحثُ هو الذي أقنع أينشتاين نفسَه بأن الكَمَّ الضوئيَّ له وجودٌ حقيقي. ولم يظهر مسمَّى «فوتون» للإشارة إلى جسيم الضوء إلا سنة ١٩٢٦ (على يد جيلبرت لويس المقيم في بيركلي بكاليفورنيا)، ولم يُدرَج ضمن المصطلحات العلمية إلا بعد مؤتمر سولفاي الخامس الذي عُقِدَ تحت عنوان «الإلكترونات والفوتونات» سنة ١٩٢٧. لكن مع أن أينشتاين انفردَ سنة ١٩١٧ باعتقاده في حقيقةِ ما يُسمَّى الآن بالفوتونات، يبدو أن هذا هو الوقت المناسب لتقديم الاسم. وقد استلزم الأمرُ ست سنوات أخرى قبل تقديمِ دليلٍ تجريبيٍّ مباشر لا يقبل الجدل على حقيقةِ وجودِ الفوتونات على يد الفيزيائي الأمريكي آرثر كومبتون. وقد شكَّلت العلاقة بين هاتَين النظريتَين الأساسَ الذي تطوَّرت به ميكانيكا الكَمِّ في السنوات المضطربة التالية. وكان التقدُّم يحدث على عدةِ جبهاتٍ مختلِفة في آنٍ واحد، وكانت الأفكارُ والاكتشافات الجديدة لا تأتي بالتنسيق والترتيب اللازمَين لبناء الفيزياء الجديدة. وحتى نقدِّم قصةً مترابطةً ومتسقة، لا بد أن تكون روايتي أكثرَ ترتيبًا عمَّا كان عليه العِلمُ نفسُه في ذلك الوقت، وإحدى الطرق إلى ذلك هي تمهيد الطريق بسردِ المفاهيمِ ذاتِ الصلة قبل وصف ميكانيكا الكَمِّ نفسِها، مع أنَّ نظريةَ الكَمِّ كانت قد بدأت تتطور، ولم تكن بعض هذه المفاهيم قد فُهِمَت بعدُ. كما أن النتائجَ الكاملة لازدواجية الجسيم والموجة لم تكن قد حظيت بتقديرٍ بعدُ عندما بدأت ميكانيكا الكَمِّ في التبلور واتخاذِ شكلٍ واضح، إلا أنه في أي وصفٍ منطقي لنظريةِ الكَمِّ لا بد أن تكون الخطوةُ التالية بعد اكتشاف الطبيعة الازدواجية للضوء هي اكتشافَ الطبيعة الازدواجية للمادة. وُلِدَ دي بروي سنة ١٨٩٢. وكانت تقاليدُ الأسرة تقتضي توجيهه إلى تقلُّد وظيفةٍ في الخدمة المدنية، لكنه عندما التحق بجامعة باريس سنة ١٩١٠ توقَّد داخله اهتمامٌ بالغٌ بالعلوم، ولا سيما ميكانيكا الكَمِّ، وهي العالَم الذي فتحه له جزئيًّا أخوه (الأكبر منه بسبعة عشر عامًا) الذي حصل على الدكتوراه سنة ١٩٠٨، ونَقل إلى لويس أخبارَ أول مؤتمراتِ سولفاي بوصفه أحدَ الأمناء العِلميين لهذا المؤتمر. لكن بعد عامَين توقَّفت دراسته للفيزياء بسبب الخدمة العسكرية الإلزامية سنة ١٩١٣، التي كان من المفترض أن تكون فترةً قصيرة، إلا أنها امتدت حتى سنة ١٩١٩ بسببِ الحربِ العالمية الأولى. وعندما عاود دي بروي نشاطه البحثي بعد الحرب، عاد إلى دراسة نظريةِ الكَمِّ، وبدأ في مواصلة العمل بالنهجِ نفسِه الذي قاده إلى اكتشافِ اتحادِ نظريتَي الجسيمات والموجات الأساسي. وحدث الإنجاز الحقيقي سنة ١٩٢٣ عندما نشر ثلاث ورقاتٍ بحثية حول طبيعةِ الكَمِّ الضوئي في مجلة «كومبت راندو» الفرنسية وكتب ملخَّصًا بالإنجليزية لهذه الأبحاث ظهر في مجلة «فيلوسوفيكال ماجازين» في فبراير ١٩٢٤. ولم تترك هذه المساهماتُ القصيرةُ أثرًا كبيرًا، إلا أن دي بروي بدأ على الفور في ترتيب أفكاره وتقديمها في صورةٍ أكثرَ شموليةً في رسالته للدكتوراه. وعُقِدَ امتحانه في السوربون في نوفمبر ١٩٢٤ ونُشِرَت الرسالةُ في أوائل سنة ١٩٢٥، في مجلة «أنال دي فيزيك». وكانت هذه هي الطريقةَ التي جعلت أساسَ أبحاثه واضحًا، وأحدثت شررَ أول التطورات الكبرى في الفيزياء خلال عشرينيات القرن العشرين. بدأ دي بروي رسالتَه بالمعادلتَين اللتين وضعهما أينشتاين للكَمِّ الضوئي: في هاتَين المعادلتَين، تظهر الخصائصُ التي «تخصُّ» الجسيمات (الطاقة والزخم) إلى اليسار، وتظهر الخصائصُ التي «تخصُّ» الموجات (التردد) إلى اليمين. وقد أشار إلى أن فشلَ التجاربِ في الإقرار القاطع بما إذا كان الضوءُ موجةً أو جسيمًا يرجع حتمًا إلى أن كلا النمطَين من السلوك متداخلٌ على نحوٍ معقَّد؛ فحتى لكي تقيس خاصية الزخم لدى الجسيم، لا بد أن تعرفَ خاصية التردُّد لدى الموجة. ومع ذلك، فإن هذه الازدواجية لا تنطبق على الفوتونات وحدها. كان من المعتقَد في ذلك الوقتِ أن الإلكترونات جسيماتٌ جيدة، تسلُك مسلكًا منضبطًا، باستثناء الطريقةِ الغريبةِ التي تشغل بها مستويات الطاقة المختلِفة داخل الذرة. ولكن، أدرك دي بروي أن حقيقةَ أن الإلكترونات لا توجد إلا في «مداراتٍ» محدَّدة بواسطةِ أعدادٍ كلية (صحيحة) تبدو شبيهةً أيضًا بطريقةٍ أو بأخرى لخاصية الموجات. وقد كتب في رسالته: «إن الظواهر الوحيدة التي تتضمَّن أعدادًا صحيحة في الفيزياء هي تلك المتعلِّقة بالتداخل وبأنماط التذبذب العمودي». ثم أضافَ: «أوحت لي هذه الحقيقةُ بفكرةِ أن الإلكترونات هي الأخرى لا يمكن النظرُ إليها ببساطة على أنها جسيمات، لكنها لا بد أن تتصفَ كذلك بالتشابه الدوري للخصائص.» «الأنماط العمودية للتذبذب» هي ببساطة التذبذبات التي تُحدِث النغمات في وترِ الكمان أو تُحدِث موجةَ الصوت في أنبوب الأرغن. فمن الممكن على سبيل المثال أن يتذبذب وترٌ مشدودٌ بقوةٍ بحيث يكون طرفاه مُثبَّتين بينما يتحرَّك منتصفه ذهابًا وإيابًا. وإذا لمستَ منتصفَ الوتر، فسيهتزُّ كلُّ نصفٍ متذبذبًا بالشكلِ نفسِه، ويَثبُت المنتصف، وهذا «النَّمط» الأعلى من التذبذب يقابل أيضًا نغمةً أعلى، إيقاعًا موسيقيًّا أعلى، للوترِ الكامل غير المتأثِّر. في الحالة الأولى، يكون الطول الموجي ضِعفَ ما هو عليه في الحالة الثانية، ويمكن أن تتوافق الأنماطُ الأعلى من التذبذبات — التي تقابل نغماتٍ أعلى بالتتابع — مع الوتر المهتز بشرط أن يكون طول الوتر دائمًا عددًا صحيحًا من الأطوال الموجية (١ و٢ و٣ و٤ وهكذا). ومن ثَم فإن بعض الموجات فقط، بتردداتٍ معيَّنة، هي التي تتوافق مع الوتر. يشبه هذا الأمرُ في الحقيقة الطريقةَ التي «تتوافق» بها الإلكترونات في الذرة مع الحالات المقابلة لمستويات الطاقة الكمومية ١ و٢ و٣ و٤ وهكذا. وبدلًا من وترٍ مستقيمٍ مشدود، تخيَّل وترًا قد انثنى على نفسِه على شكل دائرة، «مدار» حول الذرة. يمكن لموجةِ ذبذبةٍ ثابتةٍ أن تسري بنجاح على امتداد الوتر، بشرط أن يكون طولُ المحيط عددًا صحيحًا من الأطوال الموجية. وبالنسبة إلى أي موجة لا «تتوافق» بدقةٍ مع الوتر على هذا النحو، فإنها لن تكون ثابتةً وستتلاشى عندما تتداخل مع نفسِها. ولا بد أن يكون طرفا الوتر متماسكَيْن جيدًا، وإلا فسينهار الوتر ويتفكَّك. فهل يفسِّر ذلك إمكانيةَ قياسِ حالات الطاقة في الذرة كميًّا، بحيث تقابل كلُّ حالةِ رنينِ موجةَ إلكترون له ترددٌ معيَّن؟ وعلى غرار التشبيهات العديدة القائمة على ذرة بور — بل في الحقيقة على غرارِ كلِّ التصوُّرات الفيزيائية للذرة — فإن هذا التصوُّرَ بعيدٌ كل البُعد عن الحقيقة، لكنه ساعدَ في التوصُّل إلى فهْمٍ أفضلَ لعالَمِ الكَمِّ. كان دي بروي يفكِّر في الموجات على أنها مرافِقةٌ للجسيمات، وأشار إلى أن جسيمًا مثل الفوتون تُوجِّهه في الحقيقة الموجةُ المرافقة المرتبِط بها هذا الجسيم. وكانت النتيجةُ تقديمَ وصفٍ رياضيٍّ دقيقٍ وتفصيلي لسلوك الضوء، تضمَّن الأدلةَ المستقاة من التجارب التي شملت كلًّا من الموجات والجسيمات. وقد أُعجِبَ المشرفون الذين ناقشوا رسالة دي بروي بالشق الرياضي فيها، لكنهم لم يعتقدوا في وجودِ أيِّ معنًى فيزيائي لاقتراح أن هناك موجةً مشابهةً تكون مرافِقة لجسيمٍ مثل الإلكترون، وقد اعتبروا الأمر مجرَّد مراوغةٍ رياضية. لم يوافق دي بروي على ذلك. وعندما سأل أحدُ المشرفين على الرسالة عمَّا إذا كان من الممكن تصميمُ تجربةٍ للكشف عن موجات المادة، أجابَ بأنه من المفترض أنه يمكن الوصولُ إلى المشاهدات المطلوبة عن طريقِ حيودِ شعاعٍ من الإلكترونات الصادرة من بِلَّوْرة. وهذه التجرِبةُ تشبه تمامًا حيودَ الضوء عبْر مجموعةٍ من الشقوق وليس شقَّين اثنين فقط؛ حيث تكون الفجوات بين الذرات المتباعدة بمسافاتٍ منتظمةٍ في البلورة منظومةً كمجموعةٍ من «الشقوق» الضيقة بما فيه الكفاية لإحداثِ حيودِ موجاتِ الإلكترونات ذات التردُّدات العالية (التي يكون طولها الموجي قصيرًا بالمقارنة مع الضوء أو حتى مع أشعة إكس). كان دافيسون وكونسمان يعتقدان على غرارِ غيرهم من الفيزيائيين أن السببَ وراء تأثير التشتُّت يكمُن في تركيب الذرات التي تُقذَف بالإلكترونات، وليس طبيعةَ الإلكتروناتِ نفسَها. وقد نشر فالتر إلزسار، أحدُ تلاميذ بورن، مذكرةً صغيرةً يشرح فيها نتائجَ هذه التجاربِ بمدلول موجات الإلكترونات سنة ١٩٢٥، إلا أن الباحثين التجريبيين لم يتأثروا بما قُدِّم من إعادةِ تفسير لبياناتهم على يد أحد الباحثين النظريين، لا سيَّما أنه كان طالبًا غيرَ معروف لا يتعدَّى عمره واحدًا وعشرين عامًا. وحتى سنة ١٩٢٥، على الرغم من الدليل التجريبي القائم، ظلَّت فكرةُ موجاتِ المادة مفهومًا مبهمًا ليس إلا. ولم يشعر التجريبيون بالضرورةِ الملِحَّة لاختبار فرضية الموجات والإلكترونات عن طريق تجارب الحيود إلا عندما توصَّل إرفين شرودنجر إلى نظريةٍ جديدةٍ عن تركيب الذرة تتضمَّن أفكارَ دي بروي لكنها تتجاوزها كثيرًا. وعندما أُنجزَت هذه التجارب سنة ١٩٢٧، ثبت أن دي بروي كان على صوابٍ تام؛ فالإلكترونات تحيد بواسطة الشبكة البلورية كما لو كانت شكلًا من أشكال الموجات. واكتُشِف ذلك على يدِ مجموعتَين مستقِلَّتين سنة ١٩٢٧؛ دافيسون ومساعدٍ جديدٍ يُدعى ليستر جيرمر في الولايات المتحدة، وجورج طومسون (ابن جيه طومسون) والطالبِ الباحثِ ألكسندر ريد اللذين كانا يعملان في إنجلترا ويستخدمان تقنيةً جديدة. وقد فوَّت دافيسون فرصتَه في الحصول منفردًا على إكليل المجد، واقتسم جائزة نوبل في الفيزياء لسنة ١٩٣٧ مع طومسون عن دراساتهما المستقلة. وذلك لأنه لم يتقبَّل حسابات إلزسار ويقيِّمها بما تستحق. ويمثِّل ذلك تعليقًا تاريخيًّا جيدًا، كان دافيسون نفسُه ليرحِّب بها، كما أنه يلخِّص بدقةٍ السمات الرئيسية لنظريةِ الكَمِّ. لخَّص سير آرثر إدنجتون الوضع بطريقةٍ رائعة في كتابه «طبيعة العالَم الفيزيائي» المنشور سنة ١٩٢٩. ذلك حيث قال: «لا توجد تصوراتٌ مألوفة يمكن نسجها بخصوص الإلكترون.» وأفضلُ وصفٍ موجَز للذرة هو أن «شئيًا مجهولًا يفعل ما لا نعلمه.» وأشار إلى أن ذلك «لا يبدو نظريةً تنويريةً على وجه الخصوص». غير أن الفكرة هي أنه على الرغم من عدم معرفتنا بما تفعله الإلكترونات داخل الذرات، فإننا نعرف أن عدد الإلكترونات مهم. فإضافة بعض الأعداد كفيلةٌ بأن تضفي معنًى واضحًا على بعض الكلمات التي قد تبدو جوفاء بلا معنًى. هذه ليست ملاحظة على سبيل الطرفة. إذا علمنا أن الأعداد لا تتغيَّر، كما أشار إدنجتون منذ أكثر من خمسين سنة، فإن كلَّ أساسيات الفيزياء يمكن ترجمتها إلى مجرَّد «هذيان وثرثرة فارغة». لن يحدثَ فقدٌ للمعنى، بل من الجائز جني فائدةٍ عظيمة إذا أزلنا الترابط الفطري الذي نصنعه في أذهاننا بين الذرات والكرات الصلبة وبين الإلكترونات والجسيمات الدقيقة. وتتضح الفكرة عن طريق الالتباس الذي يحيط بإحدى خصائص الإلكترون التي تسمَّى «الحركة المغزلية»، ولكنها لا تشبه بأي شكل لُعبة «نحلة الأطفال» (أو الخُذْروف) وحركتها المغزلية، أو دوران الأرض حول محورها أثناء دورانها حول الشمس. يتضمَّن أحد ألغاز التحليل الطيفي الذري، الذي فشلَ نموذج بور البسيط للذرة في تفسيره، انقسامَ خطوطِ الطيف التي كانت «لا بد» أن تكون مفردة إلى عدة خطوط متقاربة. ولأن كلَّ خط من خطوط الطيف يصاحبه انتقالٌ من إحدى حالات الطاقة إلى حالةٍ أخرى، فإن عدد الخطوط في الطيف يوضح عددَ حالات الطاقة الموجودة في الذرة؛ عدد «الدرجات» الموجودة على سُلَّمِ الكَمِّ، وعمقَ كلِّ درجة. وقد توصَّل الفيزيائيون في أوائل عشرينيات القرن العشرين إلى عدة تفسيراتٍ محتمَلة للبنية التعددية لخطوط الطيف، وذلك من واقع دراساتهم للطيف. وكان أفضل تفسيرٍ هو ما قدَّمه فولفجانج باولي، وقد تضمَّن ذلك وصف الإلكترون بأربعة أعداد كمِّية منفصلة. وقد حدث ذلك سنة ١٩٢٤ عندما كان الفيزيائيون لا يزالون يفكِّرون في الإلكترون على أنه جسيم، ويحاولون تفسيرَ الخصائص الكمومية بمصطلحاتٍ مألوفةٍ مستقاةٍ من عالَم الحياة اليومية. وثلاثة من هذه الأعداد كانت متضمَّنة من قبلُ في نموذج بور، وكان الاعتقاد أنها تصف الزخم الزاوي للإلكترون (السرعة التي يدور بها في مداره) وشكل المدار واتجاهه. أما العدد الرابع فكان لا بد أن يرتبط بخاصيةٍ أخرى للإلكترون، وهي خاصية تجيء في احتمالَين اثنين فقط، لتفسيرِ الانقسامِ المُشاهَد في خطوط الطيف. وسرعان ما نُقِّحَت نظرية الإلكترون ذي الحركة المغزلية لتفسِّر نهائيًّا مسألةَ انقسام خطوط الطيف، وبحلول مارس ١٩٢٦ أصبح باولي نفسُه مقتنعًا بها. لكن ما المقصود بالحركة المغزلية؟ إذا حاولت تفسيرَ مفهومها باللغة العادية، فإنه مثل بقيةِ مفاهيمِ الكَمِّ سيراوغك كثيرًا. وقد يُقال لك في أحد «التفسيرات» مثلًا (على نحوٍ صحيح وفقًا للمعلومات المتوفِّرة) أن الحركة المغزلية للإلكترون ليست مثل الحركة المغزلية لِلعبة «نحلة الأطفال»؛ لأن الإلكترون لا بد أن يدور مغزليًّا مرتَين ليعود إلى نقطة البداية. ومرة أخرى، كيف يمكن لموجةِ الإلكترون أن تدور مغزليًّا على أية حال؟ لم يكن هناك مَن هو أسعد مِن باولي عندما تمكَّن بور سنة ١٩٣٢ من التوصُّل إلى أن الحركة المغزلية للإلكترون لا يمكن قياسها بواسطةِ أيِّ تجرِبة كلاسيكية، مثل انحراف أشعة الإلكترونات عن طريق مجال مغناطيسي. ولا تظهر هذه الخاصية إلا في التداخلاتِ الكَمِّية مثل تلك التي ينتج عنها انقسامُ خطوط الطيف، وليس لها أيُّ معنًى كلاسيكي على الإطلاق. وكم كان الأمر سيصبح سهلًا أمام باولي ورفاقه — الذين ناضلوا ليفهموا الذرة في عشرينيات القرن العشرين — لو أنهم تحدَّثوا عن الإلكترون بوصفه يتحرَّك حركةً «حلزونية» بدلًا من «مغزلية» في المقام الأول. وللأسف فإننا ملتزمون الآن بمصطلح «الحركة المغزلية»، ولا تجدي على الأرجح محاولاتُ استخدام المصطلحات الكلاسيكية في فيزياءِ الكَمِّ. ومن الآن فصاعدًا، إذا صادفتك كلمةٌ غيرُ مألوفة في سياقٍ غيرِ مألوف، فما عليك إلا أن تحاول تغييرها إلى كلامٍ أجوفَ ثم تنظر إليها لترى ما إذا أصبحت أقلَّ جلبًا للهلع أم لا. فلا أحد يفهم ما الذي يحدث «حقًّا» داخل الذرات، إلا أن أعدادَ باولي الكَمِّيةَ الأربعة تفسِّر بالفعل بعضَ السمات المهمة لطريقة إدراج «الكلمات الجوفاء» في «سياقاتٍ أوضح». وحتى قبل أن يُسمَّى العددُ الكَمِّي الرابع لباولي «مغزليًّا»، تمكَّن باولي سنة ١٩٢٥ من استخدامِ حقيقة وجود الأعداد الأربعة ليحُلَّ واحدًا من أهم الألغاز في ذرة بور. في حالة الهيدروجين يستقر الإلكترون الوحيد بطبيعة الحال في أدنى حالةٍ متاحة من حالات الطاقة في أسفلِ سُلَّمِ الكَمِّ. فإذا أثيرَ هذا الإلكترون — ربما بتصادمٍ ما — فقد يقفز إلى درجةٍ أعلى من درجات السُّلَّم، ثم يسقط عائدًا إلى الحالة الأرضية مشعًّا كمًّا من الإشعاع أثناء ذلك. لكن عند إضافة المزيد من الإلكترونات إلى هذه المنظومة، وذلك في حالةِ الذرات الضخمة، فإنها لا تسقط كلها عائدةً إلى الحالة الأرضية، ولكنها تتوزَّع على درجاتِ السُّلَّم. كان بور يتحدَّث عن الإلكترونات على أنها تدور في «أغلفة» حول النواة؛ حيث تنتقل الإلكترونات «الجديدة» إلى الغلافِ الأقلِ طاقة حتى يمتلئ، ثم تنتقل إلى الغلاف التالي حتى يمتلئ، وهكذا. وبهذه الطريقة أنشأ بور الجدول الدوري للعناصر، وفسَّر الكثيرَ من الألغاز الكيميائية. لكنه لم يشرح لماذا أو كيف يصبح الغلاف ممتلئًا، ولماذا يحتوي الغلاف الأول على إلكترونَين فقط، بينما يحتوي الغلاف الثاني على ثمانية، وهكذا. يقابل كل غلاف من أغلفة بور فئة من الأعداد الكَمِّية، وقد أدرك باولي سنة ١٩٢٥ أنه بإضافةِ عدده الكَمِّي الرابع للإلكترون، فإن عدد الإلكترونات في كل غلافٍ ممتلئ يقابل عدد الفئات المختلفة للأعداد الكَمِّية التي تخصُّ هذا الغلاف. وقد صاغ ما أصبح معروفًا الآن باسم مبدأ الاستثناء لباولي، الذي ينص على أنه لا يمكن لاثنين من الإلكترونات أن تكون لهما الفئةُ نفسُها من الأعداد الكَمِّية؛ ومن ثَم قدَّم لنا السبب وراء الطريقة التي تمتلئ بها الأغلفة في الذرات كلما ازدادت ثقلًا. تزامَن العملُ على إحصاء بوز-أينشتاين عامَي ١٩٢٤ و١٩٢٥ مع الجلبة التي أُثيرت حول موجاتِ دي بروي، وظاهرة كومبتون، والحركة المغزلية للإلكترون. ويمثِّل هذا الإحصاء آخرَ مساهمات أينشتاين الكبرى في نظريةِ الكَمِّ (بل في الواقع آخر مساهماته الكبرى في البحث العلمي)، وتُمثِّل أيضًا انفصالًا تامًّا عن الأفكار الكلاسيكية. وُلِدَ ساتيندرا بوز في كلكتا سنة ١٨٩٤، وعُيِّن أستاذًا في الفيزياء سنة ١٩٢٤ فيما كان يُعرف وقتَها بجامعة دكا الجديدة. وقد تابعَ أعمال بلانك وأينشتاين وبور وسومرفيلد عن بُعد، وكان مدركًا لافتقار قانون بلانك إلى الأساس السليم؛ ومن ثَم بدأ في توجيه قانون الجسم الأسود في طريقٍ جديد، وكانت البداية افتراض أن الضوء يأتي في صورة فوتونات، وهو الاسم المعروفة به هذه الجسيمات الآن. وقد توصَّل إلى صيغةٍ بسيطة للغاية للقانون تتضمَّن الجسيمات العديمة الكتلة التي تخضع لنوعٍ خاص من الإحصاء، وأرسل نسخةً بالإنجليزية من هذا البحث إلى أينشتاين وطلب منه أن يقدِّمها للنشر في مجلة الفيزياء الألمانية «تسايتشريفت فور فيزيك». انبهر أينشتاين كثيرًا بهذا البحثِ لدرجةِ أنه ترجمه إلى الألمانية بنفسِه وقدَّمه شخصيًّا مشفوعًا بتوجيهٍ قويٍّ منه للنشر، وقد نُشِرَ بالفعل في عدد أغسطس ١٩٢٤. وبإزالة كل عناصر النظرية الكلاسيكية واشتقاق قانون بلانك من مزيجٍ من الكموم الضوئية — معتبِرًا إياها جسيماتٍ نسبيةً عديمةَ الكتلة — والطرق الإحصائية، استطاع بوز أن يفصِل نظريةَ الكَمِّ أخيرًا عن سالفاتها الكلاسيكية وحرَّرها تمامًا. ومنذ ذلك الحين، أصبح من الممكن التعامل مع الإشعاع على أنه غازٌ كَمِّي، وتضمَّنت الإحصاءات حسابَ عدد الجسيمات، وليس حسابَ ترددات الموجات. طوَّر أينشتاين هذه الإحصاءات أكثرَ من ذلك، وطبَّقها على الحالة الافتراضية لمجموعةٍ من الذرات — غاز أو سائل — التي تخضع للقواعدِ نفسِها. وقد اتضح أن هذه الإحصاءات لا تلائم الغازات الحقيقية في درجةِ حرارة الغرفة، ولكنها تصلح تمامًا للتعامل مع الخصائص الشاذة للمائع الفائق من الهيليوم، وهو سائل مبرَّد إلى ما يقرُب من درجة الصفر المطلق؛ −٢٧٣ درجة مئوية. ومع ظهور إحصاء فيرمي-ديراك على الساحة سنة ١٩٢٦، استغرق الأمر بعضَ الوقت حتى يتوصَّل الفيزيائيون إلى تحديدِ أيُّ القواعد يمكن تطبيقُها، وفي أيِّ حالة، وحتى يُقدِّروا أهميةَ الحركة المغزلية التي يكون مقدارها نصف عدد صحيح. ما يعنينا الآن هو التمييز بين الفرميونات والبوزونات بطريقةٍ يسهُل فهمها. ذهبت منذ عدة سنوات لمشاهدةِ مسرحيةٍ بطولة الممثل الكوميدي سبايك ميليجان، وقبل رفع الستار مباشرةً ظهر هذا الممثِّل القدير بنفسه على خشبة المسرح، وألقى نظرةً شاحبة على عددِ المقاعد الشاغرة في الجزء الأغلى سعرًا من صالة العرض بالقرب من خشبة المسرح. وقال: «لن يجدوا أبدًا مَنْ يشتري هذه التذاكر الآن.» وأضافَ «يمكنكم جميعًا أن تتقدَّموا للجلوس في هذه المقاعد حتى أتمكَّن من رؤيتكم.» نفَّذ الجمهور ما اقترحه عليهم، وتحرَّك كلٌّ منهم إلى الأمام لتمتلئ المقاعدُ الشاغرة بالقرب من خشبة المسرح، بينما تُركت المقاعد شاغرةً في نهاية صالة العرض. إن سلوكنا يشبه سلوكَ الفرميونات الطيبة الحسنة السلوك؛ حيث يشغَل كلُّ فردٍ مقعدًا واحدًا فقط (حالة كَمِّية واحدة)، وبذلك تمتلئ المقاعد بدءًا من أكثرِ المقاعد استحسانًا بجوار خشبة المسرح «الحالة الأرضية»، ثم المقاعد الأبعد «إلى الخارج». جاء ذلك على عكسِ ما حدث مع الجمهور في إحدى حفلات بروس سبرنجستين الموسيقية. كانت كلُّ المقاعد مشغولةً إلا أنه كان هنالك فرجةٌ صغيرة بين الصف الأول من المقاعد وخشبة المسرح. وعندما أُطفِئت أضواء المسرح وبدأت الفرقة تعزِف بداية مقطوعة «بُورن تو ران» (وُلِدَ ليجري)، هبَّ الجميع من مقاعدهم وتحرَّكوا إلى الأمام واحتشدوا أمامَ خشبة المسرح. احتشدت كل «الجسيمات» في «حالةِ الطاقةِ» نفسِها على نحوٍ لا يمكن تمييزه، وهذا هو الفرْق بين الفرميونات والبوزونات. فالفرميونات تخضع لمبدأ الاستثناء، بينما البوزونات لا تخضع له.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/6/
المصفوفات والموجات
وُلِدَ فيرنر هايزنبرج في فورتسبرج في ٥ ديسمبر سنة ١٩٠١. والتحقَ سنة ١٩٢٠ بجامعة ميونخ؛ حيث درسَ الفيزياء تحت إشراف أرنولد سومرفيلد، أحدِ علماء الفيزياء الرائدين في ذلك الوقت، الذي كان مشاركًا من كثَبٍ في تطوير نموذج بور للذرة. انهمك هايزنبرج مباشرةً في أبحاثهِ حول نظريةِ الكَمِّ، ووضع نُصب عينيه مهمةَ اكتشاف أعدادٍ كَمِّية يمكنها تفسيرُ بعضٍ من حالات انقسام خطوط الطيف إلى أزواجٍ أو ثنائيات. وقد توصَّل إلى الإجابة خلال أسبوعَين؛ حيث أمكن تفسيرُ النمط بأكمله بمدلولِ الأعدادِ الكَمِّية نصفِ الصحيحة. لقد اكتشف هذا الطالبُ الشابُّ المتفتحُ الذهنِ أبسطَ الحلول للمشكلة، إلا أن زملاءَه ومشرفه سومرفيلد قد راعهم الأمر. بالنسبة إلى سومرفيلد الذي كان منغمسًا في نموذج بور، كانت الأعدادُ الكَمِّية الصحيحة عنده عقيدةً راسخة؛ ومن ثَم سرعان ما استُبعدَت تخمينات الطالب الشاب. وكان السبب وراء تخوُّفات الخبراء أن إدخال أنصاف الأعداد الصحيحة في المعادلات من شأنه أن يفتح الباب لإدخالِ كسورٍ أخرى من العدد الصحيح مثل الرُّبع والثُّمن والستة عشر جزءًا؛ مما ينقض الركائز الأساسية لنظريةِ الكَمِّ. ولكنهم لم يكونوا على صوابٍ في ذلك. خلال بضعة أشهر، توصَّل عالِمُ الفيزياء الأكبرُ سنًّا والأقدمُ خبرة، ألفريد لاندي، إلى الفكرةِ نفسِها ونشرها، وقد اتضح فيما بعد، أن الأعدادَ الكَمِّية نصف الصحيحة ذاتُ أهمية محورية في نظريةِ الكَمِّ الكاملة، وتلعب دورًا رئيسيًّا في وصف خاصية الحركة المغزلية للإلكترونات. تخضع الأجسام التي يساوي مقدار حركتها المغزلية عددًا صحيحًا أو صفرًا، مثل الفوتونات، لإحصاء بوز-أينشتاين، بينما تخضع الأجسام التي يساوي مقدار حركتها المغزلية نصفَ عدد صحيح (٢/١، أو ٢/٣، وهكذا) لإحصاء فيرمي-ديراك. ويرتبط عددُ الكَمِّ المغزلي نصف الصحيح للإلكترون ارتباطًا مباشرًا بتركيب الذرة والجدول الدوري للعناصر. ولا يزال عدمُ تغيير الأعدادِ الكَمِّية إلا بأعدادٍ صحيحة شرطًا قائمًا، بيْد أن الانتقال من ٢/١ إلى ٢/٣ أو من ٢/٥ إلى ٢/٩ جائزٌ تمامًا مثل الانتقال من ١ إلى ٢ أو من ٧ إلى ١٢. وهكذا ضاعت الفرصة على هايزنبرج في الحصول على شرفِ إدخال فكرة جديدة في نظريةِ الكَمِّ، لكن العبرة هنا أنه على غرارِ ما حدث في الماضي حين وضع شبابٌ في الجيل السابق أولَ نظريةٍ للكَمِّ، تكرَّر الأمر مجددًا في عشرينيات القرن العشرين حين أنجزت العقول الشابة غيرُ المثقلة بالأفكارِ «المعروفة للجميع» الخطوةَ التالية. ولا شك أن هايزنبرج قد عوَّض تفويتَ هذه الفرصةِ في أن يكون «أولَ» مَن يُنسَب إليه الفضل في اكتشافٍ علمي صغير، وذلك بأبحاثه في السنوات القليلة التي أعقبت ذلك. وبعد فترةٍ من العمل في جوتينجن تحت إشراف بورن؛ حيث حضرَ «مهرجان بور» الشهير، عاد هايزنبرج إلى ميونخ وأكمل دراسته للدكتوراه سنة ١٩٢٣، ولم يكن قد بلغ الثانية والعشرين من عمره. في ذلك الوقت كان فولفجانج باولي، وهو الصديقُ المقرَّب إلى هايزنبرج، الذي أظهر هو الآخر نبوغًا مبكِّرًا وتتلمذ أيضًا على يد سومرفيلد، قد خرج لتوه من تأثير كونه مساعدًا لبورن في جوتينجن، وحلَّ هايزنبرج مكانه في هذه الوظيفة سنة ١٩٢٤. وقد منحته هذه الوظيفةُ الفرصةَ للعمل بضعةَ أشهر مع بور في كوبنهاجن، وبحلول عام ١٩٢٥ كان هذا الفيزيائي ذو النبوغ الرياضي المبكِّر قد تزوَّد على نحوٍ أفضلَ من أيِّ شخص آخر بالأدوات التي تؤهله للتوصُّل إلى نظريةِ الكَمِّ المنطقية التي كان كل الفيزيائيين يتوقَّعون التوصُّل إليها في النهاية، إلا أن أحدًا لم يتوقَّع التوصُّل إليها بهذه السرعة. أسَّس هايزنبرج اكتشافَه على فكرةٍ كان قد التقطها من مجموعةِ جوتينجن — ولا يعرف أحدٌ اليوم مَن هو أول مَن اقترحها — وهي أن النظرية الفيزيائية لا بد أن تُعنى فقط بالأشياء التي يمكن رصدها فعليًّا عن طريق التجارب. يبدو هذا مبتذلًا، ولكنه في الحقيقة نظرةٌ ثاقبة للغاية. فالتجربة التي «ترصد» الإلكترونات في الذرة، مثلًا، لا تعرِض لنا صورةً بالكُرات الصغيرة الصلبة التي تدور حول النواة، ولا توجد طريقةٌ لمشاهدة «المدار»، وكلُّ ما هنالك أن الأدلة المستقاة من خطوط الطيف تخبرنا عما يحدث للإلكترونات عندما تنتقل من أحد مستويات الطاقة (أو أحد المدارات بلغة بور) إلى مستوًى آخر. ويتعلَّق كلُّ ما يمكن مشاهدته من سمات الإلكترونات والذرات ﺑ «حالتَين» فقط، وجاء ذكْر مفهوم المدار في المشاهدات المرصودة عن طريق تشبيهه بالطريقة التي تتحرَّك بها الأشياء في عالَم الحياة اليومية. وقد تخلَّص هايزنبرج من فوضى التشبيهات المستقاة من الحياة اليومية، وعمل بصورةٍ مكثفة على الرياضيات التي لم تصِف «حالةً» واحدة للذرة أو للإلكترون، ولكن ترافق «أزواج» من الحالات. عادةً ما تُروى قصةُ النوبة الشديدة لحمَّى القش التي أصابت هايزنبرج في مايو ١٩٢٥، وكيف أنه سافر إلى جزيرة هيليجولاند الصخرية بغرضِ التعافي؛ حيث ركَّز بعناية على مهمةِ تفسيرِ ما كان معروفًا عن السلوكِ الكَمِّي في هذه الآونة. تمكَّن هايزنبرج من العملِ بصورةٍ مكثَّفةٍ على هذه المشكلةِ بعد أن تماثل للشفاء من حمَّى القش؛ لأنه لم يكن هناك ما يلهيه على الجزيرة. وفي كتابه الذي يتحدَّث فيه عن سيرته الذاتية «الفيزياء وما بعدها»، وصفَ هايزنبرج مشاعرَه عندما بدأت الأعدادُ تتضح ويُفهَم مغزاها، وكيف أنه في الثالثة صباحًا — حسب قوله — «لم يَعُد لديه شكٌّ في الاتساق والترابط الرياضي لنوعِ ميكانيكا الكَمِّ الذي كانت تشير إليه حساباتي. في البداية، كنتُ مندهشًا بشدة. وكان لديَّ شعورٌ بأنني أشاهد عبْر سطح الظواهر الذرية عالَمًا داخليًّا جميلًا على نحوٍ غريب، ولم أتمالك نفسي عندما فكَّرت أن عليَّ الآن فحصَ هذه الثروة من البِنى الرياضية التي كشفتها الطبيعة أمامي بكرمٍ بالغ، واختبارها». عندما عاد هايزنبرج إلى جوتينجن، استغرق ثلاثة أسابيع في إعدادِ بحثِه في صورةٍ مناسبةٍ للنشر، وأرسل نسخةً من البحث أولًا إلى صديقه القديم باولي، سائله عن رأيه في البحث وإن كان يراه ذا مغزًى. كان باولي متحمسًا، إلا أن هايزنبرج كان منهَكًا من جرَّاءِ ما بذله من جهد، ولم يكن متأكدًا بعدُ من أن البحث جاهزٌ للنشر. ترك البحث لدى بورن ليتصرَّف فيه بما يراه مناسبًا، وغادر في يوليو ١٩٢٥ لإلقاء سلسلةٍ من المحاضرات في ليدن وكامبريدج. ومن سخرية القدرِ أنه لم يتحدث عن بحثه الجديد أمام الحاضرين هناك، وكان عليهم أن ينتظروا حتى تصلهم الأخبارُ عن طريقِ قنواتٍ أخرى. كان بول ديراك يصغُر هايزنبرج ببضعة أشهر فقط؛ فقد وُلِد في ٨ أغسطس سنة ١٩٠٢. ويُعَدُّ ديراك العالِم النظري الإنجليزي الوحيد الذي يمكن أن يُوضَع في مَرتبة نيوتن، وقد قدَّم أكثرَ النسخِ اكتمالًا لما يُعرَف اليوم بميكانيكا الكَمِّ. إلا أنه لم يتجه نحو الفيزياء النظرية إلا بعد تخرُّجه في جامعة بريستول سنة ١٩٢١ وحصوله على بكالوريوس الهندسة. لم يجِد وظيفةً في مجال الهندسة، وعُرِضت عليه فرصة دراسة الرياضيات في كامبريدج، لكنه لم يقبلها نظرًا لقلة المال، وأثناء إقامته في بريستول مع والدَيه حصل على دورةٍ دراسية في الرياضيات مدتُها ثلاث سنوات أنهاها في عامَين فقط بفضل دراسته للهندسة، وحصلَ على بكالوريوس الرياضيات التطبيقية سنة ١٩٢٣. واستطاعَ بذلك التوجُّه إلى كامبريدج لإجراءِ أبحاثٍ مدعمة بمنحة من إدارة البحث العلمي والصناعي، وما إن وصل إلى كامبريدج حتى علِم لأولِ مرةٍ بنظريةِ الكَمِّ. عندما كانت ميكانيكا المصفوفات والجبر الكَمِّي يخطوان أولى خطواتهما على الساحة العلمية دون أن تَلقى الحفاوة والإطراء نسبيًّا، كان هناك الكثير من الأنشطة الأخرى في مجالِ نظريةِ الكَمِّ. ويبدو أن العِلم الأوروبي كان يجيش بخميرةٍ من الأفكار التي حان أوانها، وظهرت فجأةً أفكارٌ مختلِفة في أماكنَ مختلفة، وليست بالضرورة بالترتيب المنطقي المتعارف عليه الآن، والعديد منها «اكتشفه» أناسٌ مختلفون في الفترة الزمنية نفسِها. وبحلول نهاية عام ١٩٢٥، كانت نظرية دي بروي عن موجات الإلكترونات قد ظهرت بالفعل على الساحة، غير أن التجارب الحاسمة التي أثبتت الطبيعة الموجية للإلكترون لم تكن قد أُجريت بعد. وبعيدًا عن أبحاث هايزنبرج ورفاقه تمامًا، أدَّى ذلك إلى اكتشافٍ آخرَ وهو رياضياتُ الكَمِّ القائمة على فكرة الموجات. جاءت الفكرة من دي بروي عن طريق أينشتاين. كان من الممكن أن تظل أبحاثُ دي بروي محجوبةً لسنوات، والنظر إليها بأنها ليست أكثرَ من مراوغة رياضية مثيرة ليس لها وجود فيزيائي، لولا أنها أثارت اهتمام أينشتاين. فقد كان أينشتاين هو مَنْ أخبر بورن بالفكرة، وبذلك أطلق قطار الأبحاث التجريبية التي برهنت على حقيقة موجات الإلكترونات، ثم قرأ إرفين شرودنجر في بحثٍ لأينشتاين منشورٍ في فبراير ١٩٢٥ تعليقَه على بحث دي بروي: «أعتقد أنه يتضمَّن ما هو أكثر من مجرد تشبيه.» كان الفيزيائيون في تلك الأيام يتلقفون كلَّ كلمة ينطق بها أينشتاين، وكانت إيماءة كهذه من أينشتاين كافيةً لحث شرودنجر على دراسة النتائج المترتبة على تقبُّل فكرة دي بروي دون تمحيص. كان شرودنجر هو الاستثناء الوحيد بين الفيزيائيين الذين وضعوا نظريةَ الكَمِّ الجديدة. وقد وُلِد سنة ١٨٨٧ وكان في التاسعة والثلاثين من عمره عندما أكمل أعظم مساهماته في العِلم، وهو عُمرٌ متقدِّم على نحوٍ لافت بالنسبة إلى بحثٍ علمي أصيل على هذا القدْر من الأهمية. حصل على درجة الدكتوراه سنة ١٩١٠، وشغل منذ سنة ١٩٢١ منصبَ أستاذ الفيزياء في زيورخ، وهو منصبٌ جديرٌ بالاحترام العلمي وليس مصدرًا واضحًا لطرح الأفكار الثورية الجديدة. ولكن، كما سنرى، فإن طبيعةَ مساهمته في نظريةِ الكَمِّ كانت على القدْر المتوقَّع منه كواحد من الجيل الأكبر سنًّا في منتصف العشرينيات من القرن العشرين. وعندما جعلت مجموعة جوتينجن، وديراك كذلك، نظريةَ الكَمِّ أكثرَ تجريدًا وفصَلاها عن الأفكار الفيزيائية اليومية، حاول شرودنجر استعادةَ المفاهيم الفيزيائية السهلة الفهم، ووصف فيزياءَ الكَمِّ بلغة الموجات، وهي سمات مألوفة في العالَم الفيزيائي، وظلَّ حتى نهاية حياته يحارب الأفكار الجديدة عن اللاحتمية والانتقال اللحظي للإلكترونات من حالة إلى أخرى. وقد منحَ الفيزياءَ أداة عملية قيمة لحل المشكلات، إلا أن الميكانيكا الموجية الخاصة به كانت بالمعنى المفاهيمي خطوةً إلى الوراء، وعودةً إلى أفكار القرن التاسع عشر. حدَّد دي بروي الطريقَ من خلال فكرته بأن الإلكترونات عبارة عن موجاتٍ تدور «في مدار» حول نواة الذرة لا بد أن تتناسب مع عددٍ صحيح من الأطوال الموجية في كل مدار، وبذلك تكون المدارات البَينية «غير مسموح بها». وقد استخدم شرودنجر رياضيات الموجات لحسابِ مستويات الطاقة المسموح بها في مثل هذا الوضع، وقد أُصيب بالإحباط في البداية لحصوله على إجاباتٍ لا تتفق مع أنماط الطيف الذري المعروفة. وفي الحقيقة، لم يكن هناك خطأ في أسلوبه، والسبب الوحيد وراء فشله الأول هو أنه لم يأخذ في حسبانه الحركةَ المغزلية للإلكترون؛ ولم يكن من المستغرَب ذلك لأن مفهومَ الحركة المغزلية للإلكترون لم يكن قد بزغ بعدُ في ذلك الوقت سنة ١٩٢٥. وعادَ إلى الفكرة عندما طُلِب منه تنظيمُ حلقة دراسية لشرح أبحاث دي بروي، وعندئذٍ اكتشفَ أنه لو تخلَّص من التأثيرات النسبية في حساباته لأمكنه الحصول على توافق جيد مع مشاهدات الذرات في الأوضاع التي لم تكن فيها التأثيرات النسبية مهمة. وكما أوضحَ ديراك فيما بعد، فإن الحركةَ المغزلية للإلكترون هي خاصية نسبية في الأساس (ولا يوجد شيءٌ من قبيل خاصية الحركة المغزلية يرتبط بالأجسام الدوَّارة في عالَم الحياة اليومية). وهكذا نُشِرَت مساهمة شرودنجر الكبرى في نظريةِ الكَمِّ في سلسلةٍ من الأبحاث سنة ١٩٢٦، وذلك في أعقاب أبحاث هايزنبرج وبورن وجوردان وديراك مباشرةً. إنَّ المعادلات في مساهمةِ شرودنجر عن موضوعِ الكَمِّ تندرج ضمن المجموعة نفسِها من المعادلات التي تصفُ موجاتٍ حقيقية في عالَمنا اليومي؛ مثل الموجات على سطح المحيط، أو موجات الصوت التي تحمل الضجيج عبر الغلاف الجوي. وقد رحَّبَ عالَمُ الفيزياء بكل حماسٍ بهذه المعادلات، وذلك على وجه التحديد لأنها بدت مريحة ومألوفة للغاية. ولم يكن لمَدْخلين إلى المشكلة أن يكونا مختلفَين أكثرَ من هَذين. فقد استبعد هايزنبرج متعمدًا أيَّ تصوُّر للذرة، وتعامل فقط بلغة المقادير التي يمكن قياسها بالتجربة، وإنْ كانت نظريته تحوي في صميمها فكرةَ أن الإلكترونات عبارةٌ عن جسيمات. أما شرودنجر، فقد بدأ من تصوُّر فيزيائي واضح للذرة بأنها كِيان «حقيقي»، وكانت نظريته تحوي في صميمها فكرةَ أن الإلكترونات عبارةٌ عن موجات. وقد أنتج المَدْخلان مجموعاتٍ من المعادلات التي وصفت بدقة سلوكَ الأشياء التي من الممكن قياسها في عالَمِ الكَمِّ. ظنَّ شرودنجر أنه قد تخلَّص من الانتقالاتِ الكَمِّية من حالةٍ إلى أخرى بإدخال الموجات في نظريةِ الكَمِّ. وتخيَّل «انتقال» الإلكترون من حالةٍ إلى أخرى من حالات الطاقة بأنه يشبه التغيُّر في اهتزازِ وترِ الكمان من نغمةٍ إلى أخرى، وفكَّر في الموجة في معادلاته الموجية على أنها موجةُ المادة التي جاء بها دي بروي. ولكن مثلما سعى باحثون آخرون لاكتشافِ المغزى وراء المعادلات، تبدَّدت هذه الآمال في إعادة الفيزياء الكلاسيكية إلى مكانة الصدارة لتكونَ محطَّ الاهتمام من جديد. وكان بور، على سبيل المثال، متحيرًا في مفهوم الموجة. فكيف يمكن لموجةٍ، أو لمجموعةٍ من الموجات المتداخلة، أن تجعل عدَّادَ جايجر ينقر كما لو أنه سجَّل جسيمًا مفردًا كان في الواقع «يموج» داخل الذرة؟ والأهم كيف يمكن تفسير طبيعة إشعاع الجسم الأسود من حيث موجات شرودنجر؟ ومن ثَم دعا بور شرودنجر لتمضيةِ بعض الوقت في كوبنهاجن سنة ١٩٢٦؛ حيث تناولا هذه المشكلات وتوصَّلا إلى حلولٍ لم تَرُق كثيرًا لشرودنجر. ولا شك أن تصوُّر الموجات الحقيقية فيزيائيًّا التي تدور حول أنوية الذرات، والتي قادت شرودنجر إلى اكتشافِ المعادلةِ الموجيةِ التي تحمل اسمه، كانت خطأ. ولم تَعُد ميكانيكا الموجات دليلًا على حقيقةِ وجود عالَم الذرة أكثرَ من ميكانيكا المصفوفات، إلا أن ميكانيكا الموجات — على عكس ميكانيكا المصفوفات — تُوهِمنا بوجود شيءٍ مألوف ومريح. وقد صمد هذا التوهُّم الحميم المألوف حتى يومنا هذا، وأخفى حقيقةَ أن عالَم الذرة مختلِف كليةً عن عالمنا اليومي. وكان من الممكن أن تتوصَّل عدةُ أجيال من الطلاب، الذين أصبحوا هم أنفسهم الآن أساتذة، إلى فهْمٍ أعمقَ كثيرًا لنظريةِ الكَمِّ لو كانوا قد اضطُروا إلى التصدي للطبيعة التجريدية لأسلوب ديراك، بدلًا من أن يتصوروا أنَّ ما عرفوه عن سلوك الموجات في العالَم اليومي قدَّم تصوُّرًا لسلوك الذرة. وهذا هو السبب في أنه يبدو لي أنه مع الخطوات الكثيرة التي اتُّخِذَت في تطبيق ميكانيكا الكَمِّ — على طريقة كتبِ الطهي — في كثير من المشكلات المهمة (تذكَّر الملاحظة التي أبداها ديراك عن الفيزيائيين من الدرجة الثانية الذين يُجرُون أبحاثًا من الدرجة الأولى)، فإنه بعد خمسين عامًا من بحث ديراك لم يبلغ الفيزيائيون مكانةً أفضلَ مما بلغها زملاؤهم في أواخر العشرينيات من القرن العشرين فيما يتعلَّق بفهْمنا الأساسي لفيزياءِ الكَمِّ. وقد أدَّى نجاح معادلة شرودنجر كأداةٍ عملية إلى توقُّف الناس عن إمعان التفكيرِ في آلية عمل هذه الأداة وسببِ نجاحها. ولم تتحسَّن الأمورُ إلا بقدرٍ ضئيلٍ للغاية منذ ثمانينيات القرن العشرين، وعلى الرغم من انشغالِ الكثيرِ من الأشخاص الآن بمعنى فيزياءِ الكَمِّ، فلا يوجد بديل مؤكَّد لتفسير كوبنهاجن. اعتمدتْ أساسياتُ فن الطهي الكَمِّي — فيزياء الكَمِّ التطبيقية منذ عشرينيات القرن العشرين — على أفكارٍ وضعها بور وبورن في نهاية هذه الفترة. قدَّم لنا بور الأساسَ الفلسفي الذي يمكن به مراعاةُ الطبيعة الازدواجية (جسيمات/موجات) لعالَمِ الكَمِّ، بينما قدَّم لنا بورن القواعدَ الأساسية التي ينبغي اتباعها في إعدادِ وصفاتِ الكَمِّ. قال بور إن التصورين النظريين، فيزياء الجسيمات وفيزياء الموجات، صحيحان بالدرجةِ نفسِها، وكلاهما يصفان الواقعَ نفسه. وعلى الرغم من أنه لا يوجد وصفٌ منهما كامل في ذاته، فثمَّة حالاتٌ يكون من الأنسب فيها استخدام مفهوم الجسيم، وحالات أخرى يكون من الأنسب فيها استخدام مفهوم الموجات. ولا يُعدُّ كيانٌ رئيسي مثل الإلكترون جسيمًا ولا موجة، لكنه في بعض الأحوال يسلك مسلكَ الموجات، وفي أحوال أخرى يسلك مسلكَ الجسيمات (وهو أمرٌ مراوغ ولا يمكن التحقُّق منه في الواقع). ولكن لا يمكنك في أي حال من الأحوال تصميمُ تجربة تُظهِر الإلكترون وهو يسلك كلا المسلكين في آنٍ واحد. وتُسمَّى فكرة الموجات والجسيمات بوصفهما وجهَيْن متمِّمَيْن لهوية الإلكترون المعقَّدة بالتكاملية. تقيس علاقة عدم اليقين لهايزنبرج مقدارَ التداخل بين الأوصافِ التكميلية للإلكترون أو غيره من الكيانات الأساسية. فالموضعُ من خصائص الجسيم الرئيسية؛ إذ يمكن تحديد موضع الجسيمات بدقة. أما الموجات، على الجانب الآخر، فلا تكون لها مواضعُ دقيقة ولكنها ذات زخم. وكلما زادت معرفتك بالسمات الموجية للموضع، قلَّت معرفتك بالجسيم، والعكس صحيح. فالتجارب المصمَّمة لاكتشافِ الجسيمات دائمًا ما تكتشف جسيمات، أما التجارب المصمَّمة لاكتشافِ الموجات فدائمًا ما تكتشف موجات. ولا توجد تجربةٌ تثبت أن الإلكترون يسلك مسلكَ الموجة والجسيم في آنٍ واحد. أكَّد بور أهميةَ التجارِب في فهمنا لعالَمِ الكَمِّ. ولا يمكننا سبْرُ أغوارِ عالَمِ الكَمِّ إلا بإجراء التجارب، وكل تجربة تَطرح في الواقع سؤالًا عن عالَمِ الكَمِّ. وتصطبغ الأسئلة التي نطرحها إلى حدٍّ كبير بخبراتنا اليومية، حتى إننا نبحث عن خصائص مثل «الزخم» و«الطول الموجي» ولكننا نحصل على «إجابات» نفهمها من منظور هذه الخصائص. والتجاربُ متأصلة في الفيزياء الكلاسيكية، مع أننا نعلم أن الفيزياء الكلاسيكية لا تصلح لوصف العمليات الذرية. علاوةً على ذلك، وحسب ما قاله بور، لا بد أن نتدخَّل في العمليات الذرية حتى يمكننا مشاهدتها بأية حال، وهو ما يعني أنه لا جدوى من التساؤل عما تفعله الذرات عندما لا نكون بصددِ النظر إليها ورصدها. وكلُّ ما نستطيع فعْله، كما شرحَ بورن، هو حسابُ احتمال التوصُّل إلى نتيجةٍ معينة من تجربةٍ معينة. ويُشار إلى هذه المجموعة من الأفكار — عدم اليقين، والتكاملية، والاحتمال، وتأثُّر النظام المرصود بفِعل الرصد — باسم «تفسير كوبنهاجن» لميكانيكا الكَمِّ، مع أنه لا أحدَ في كوبنهاجن (أو في أي مكانٍ آخر) قد صاغ عبارةً محدَّدة على هذا النحو تسمَّى «تفسير كوبنهاجن»، ويُعزى في الواقع أحد المكوِّنات الأساسية — وهو التفسير الإحصائي للدالة الموجية — إلى ماكس بورن في جوتينجن. ويعني تفسير كوبنهاجن الكثيرَ للعديدِ من الأشخاص، إن لم يكن يعني كلَّ شيءٍ للجميع، وهو تفسير مراوغ يتناسب مع عالَم ميكانيكا الكَمِّ المراوغ كذلك. طرحَ بور المفهوم لأول مرة على الملأ في مؤتمرٍ في مدينة كومو بإيطاليا في سبتمبر ١٩٢٧. ودلَّ ذلك على اكتمال نظرية ميكانيكا الكَمِّ المتسقة على النحو الذي يمكن به لأيِّ فيزيائي كفءٍ أن يستخدمها في حل المشكلات التي تتضمَّن الذرات والجزيئات، دون أن يتعيَّن عليه التفكير كثيرًا في الأساسيات، ولكن يكفي فقط السير وفقًا لكتاب الوصفات وتمحيص الإجابات. ومع ذلك، فإن كلَّ هذا النشاط — الاكتشافات الجديدة في ثلاثينيات القرن العشرين، ومنح الجوائز، والتطبيقات الجديدة لنظريةِ الكَمِّ خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية — يجب ألا يخفي حقيقةَ أن عصر التقدُّم الأساسي كان قد انتهى في هذا الوقت. وربما نكون على أعتابِ عصرٍ آخر من هذا القبيل، وأن تقدُّمًا جديدًا سيحدث باستبعادِ تفسير كوبنهاجن والفهم المتوهَّم للدالة الموجية لشرودنجر. ولكن قبل النظر في هذه الاحتمالات المهمة، من الإنصاف أن نوضِّح مقدارَ ما تمَّ إنجازه باستخدام النظرية التي لم تُستكمَل بالأساس إلا قبل نهاية عشرينيات القرن العشرين.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/7/
مطبخ الكَمِّ
كان ديراك أول رئيس طهاةٍ للكَمِّ. تمامًا مثلما كان أول شخص من خارج جوتينجن يفهم ميكانيكا المصفوفات الجديدة ثم يطوِّرها بعد ذلك؛ ومن ثَم كان هو الشخص الذي تناوَل ميكانيكا الموجات لشرودنجر ووضعها على أساسٍ أكثرَ إحكامًا مع تطويرها لأبعد من ذلك. وأثناء تعديل المعادلات بما يتناسب مع متطلبات نظرية النسبية، بإضافة الزمن كبُعد رابع، وجد ديراك سنة ١٩٢٨ أنه لا بد من إدخالِ الحد الذي يُعتبر اليوم أنه يمثِّل الحركة المغزلية للإلكترون، وبذلك قدَّم على نحوٍ غيرِ متوقَّع تفسيرَ الانقسام المزدوج لخطوط الطيف الذي حيَّر العلماء النظريين على مدى عَقدٍ من الزمن. وقد أسفرت عملية تحسين المعادلات عن نتيجةٍ أخرى غيرِ متوقعة، وهي النتيجة التي مهَّدت الطريق أمام التطوير الحديث لفيزياء الجسيمات. لم يكن أحدٌ متأكدًا كيف ستكون وجهات النظر تجاه أبحاث ديراك في البداية. رُفِضَت فكرةُ أنَّ البروتون هو النظير الموجب للإلكترون، ولم يأخذ أحدٌ الفكرةَ على محمل الجِد، إلى أن اكتشف الفيزيائي الأمريكي كارل أندرسون آثارَ جسيم موجب الشحنة أثناء مشاهداته الرائدة للأشعة الكَوْنية سنة ١٩٣٢. والأشعة الكَوْنية عبارة عن جسيماتٍ حاملة للطاقة تصل إلى الأرض قادمةً من الفضاء. وقد اكتشفها النمساوي فيكتور هيس قبل الحرب العالمية الأولى، واقتسم مع أندرسون جائزة نوبل سنة ١٩٣٦. وقد تضمَّنت تجارب أندرسون تتبُّع مسار الجسيمات المشحونة أثناء حركتها في غرفة الضباب، وهي عبارة عن جهازٍ تترك فيه الجسيمات ذيلًا مثل ذيل التكاثف في الطائرات، واكتشفَ أنَّ بعض الجسيمات تنتج مسارات تنحني بفِعل المجال المغناطيسي بالمقدار نفسه الذي ينحني به مسار الإلكترون، ولكن في الاتجاه المضاد. وتكون لهذه الجسيمات نفسُ كتلة الإلكترون، ولكنها موجبة الشحنة، وقد أطلق عليها اسم «بوزيترونات». حصل أندرسون على جائزة نوبل عن هذا الاكتشاف سنة ١٩٣٦؛ أي بعد ثلاث سنواتٍ من حصول ديراك على جائزته، وقد غيَّر الاكتشافُ وجهةَ نظر الفيزيائيين لعالَم الجسيمات. فقد ظنوا لفترة طويلة وجودَ جسيم ذري متعادل، وهو النيوترون، الذي اكتشفه جيمس تشادويك سنة ١٩٣٢ (وحصل عنه على جائزة نوبل سنة ١٩٣٥)، وكانوا متقبلين إلى حدٍّ ما فكرةَ أن نواة الذرة تتكوَّن من بروتونات موجبة ونيوترونات متعادلة، تحيط بها إلكترونات سالبة. إلا أنه لم يكن هناك مكان للبوزيترونات في هذا التصوُّر، وغيَّرت فكرةُ أن الجسيمات يمكن أن تنشأ من الطاقة من مفهوم الجسيمات الأساسية كليًّا. وبما أن البروتونات المكتظة داخل النواة تكون موجبة الشحنة؛ ومن ثَم فإنها تتنافر، فلا بد من وجود صورةٍ أقوى من «غراء» ما يجعلها تتماسك معًا، وهي قوة تعمل فقط عبر النطاقات المتناهية الصغر التي تقابل حجم النواة، وتسمَّى القوة النووية الشديدة (توجد أيضًا القوة النووية الضعيفة، وهي أضعف من القوة الكهربية لكنها تلعب دورًا مهمًّا في بعض التفاعلات النووية). ويبدو الأمر كما لو أن النيوترونات تلعب هي الأخرى دورًا في استقرار النواة؛ وذلك ببساطة لأنه بحساب أعداد البروتونات والنيوترونات في الأنوية المستقرة توصَّل الفيزيائيون إلى تصوُّرٍ أقربَ إلى تصوُّرِ أغلفة الإلكترونات حول النواة. وأكبر عدد من البروتونات الموجودة في أي نواة موجودة طبيعيًّا هو ٩٢، وذلك في اليورانيوم. ومع أن الفيزيائيين قد نجحوا في تصنيعِ أنويةٍ يصل فيها عدد البروتونات إلى ١٠٦، فإن هذه الأنوية غير مستقرة (باستثناء بعض نظائر البلوتونيوم التي يبلغ عددها الذري ٩٤)، وتتفكك هذه الأنوية إلى أنويةٍ أخرى. وإجمالًا، يوجد حوالي ٢٦٠ نواة مستقرة معروفة، ومعرفتنا بهذه الأنوية حتى اليوم أقلُّ توافقًا مما عليه نموذج بور كوصفٍ للذرة، إلا أن هناك إشاراتٍ واضحة إلى وجودِ تركيبٍ من نوعٍ ما داخل الأنوية. إنَّ الأنوية التي تحتوي على أعداد ٢ و٨ و٢٠ و٢٨ و٥٠ و٨٢ و١٢٦ من النيوكليونات (نيوترونات أو بروتونات) تكون مستقرة بوضوح، والعناصر المقابلة لها تكون أكثر وفرةً بكثير في الطبيعة عن العناصر التي تقابل ذراتٍ تختلف قليلًا في أعداد النيوكليونات التي تحويها، ولذا تُسمَّى هذه الأعداد أحيانًا «الأعداد السحرية». لكن البروتونات تستحوذ على تركيب النواة، ويوجد لكل عنصرٍ مدًى محدودٌ من النظائر الممكنة التي تقابل أعدادًا مختلِفة من النيوترونات؛ فالعدد الممكن من النيوترونات يكون عمومًا أكبرَ قليلًا من عدد البروتونات، ويزداد في العناصر الأثقل. والأنوية التي تملك أعدادًا سحرية من كلٍّ من البروتونات والنيوترونات تكون مستقرة بوضوح، ويتوقَّع العلماء النظريون على هذا الأساس أن العناصر الفائقة الثِّقل التي تحتوي أنويتها على حوالي ١١٤ بروتونًا و١٨٤ نيوترونًا لا بد أن تكون مستقرة، إلا أن هذه الأنوية الثقيلة لم تُكتشف قط في الطبيعة ولم تُصنَّع في معجِّلات الجسيمات بتصادم المزيد من النيوكليونات مع أثقل الأنوية الموجودة في الطبيعة. يُعتبر الحديد-٥٦ هو أكثر الأنوية استقرارًا على الإطلاق، و«تميل» الأنوية الأخف منه إلى اكتسابِ نيوكليونات لتصبح حديدًا، أما الأنوية الأثقل منه فإنها «تميل» إلى فقدِ نيوكليونات وتتحرَّك تجاه الصورة الأكثر استقرارًا. وفي داخل النجوم، تتحوَّل أخف الأنوية، وهي الهيدروجين والهيليوم، إلى أنويةٍ أثقلَ في سلسلةٍ من التفاعلات النووية التي تدمج الأنوية الخفيفة معًا لتصنع عناصرَ مثل الكربون والأكسجين على طول الطريق وصولًا إلى الحديد، مع إطلاقِ طاقةٍ نتيجةً لذلك. وعندما تنفجر بعض النجوم كما في المستعرات العظمى، فإن قدرًا كبيرًا من طاقة الجاذبية يدخل في العمليات النووية، مما يدفع عملياتِ الدمج لأبعدَ من الحديد من أجل إنتاجِ عناصرَ أثقل، بما في ذلك اليورانيوم والبلوتونيوم. وعندما تتحرك العناصر الثقيلة باتجاه الصورة الأكثر استقرارًا، وذلك بإطلاق نيوكليونات في صورة جسيمات ألفا أو إلكترونات أو بوزيترونات أو نيوترونات مفردة، فإنها تطلق طاقةً كذلك، وهي الطاقة المختزنة أساسًا منذ انفجار المستعر الأعظم منذ زمنٍ بعيد. وجسيم ألفا هو بالأساس نواةُ ذرة هيليوم ويحتوي على بروتونَين ونيوترونَين. وبإطلاق هذا الجسيم، تتراجع كتلة النواة بمقدارِ أربع وحدات، ويقلُّ عددها الذري بمقدار اثنين. وتفعل الذرة ذلك طبقًا لقواعد ميكانيكا الكَمِّ وعلاقاتِ عدم اليقين التي اكتشفها هايزنبرج. لننسَ الآن النيوكليونات المفردة في أغلفتها، ونفكِّر في النواة كنقطةٍ من سائلٍ ما. تمامًا مثل نقطةِ الماء حين تتذبذب بنمطٍ متغيِّر من الأشكال، فكذلك بعض الخصائص المشتركة للنواة يمكن تفسيرها على أنها تُعزى إلى تغيُّر شكل النواة. ويمكن أن نفكِّر في النواة الكبيرة على أنها تتذبذب جَيئةً وذهابًا، مغيِّرة شكلها من كرةٍ إلى ما يشبه الدمبل الضخم، ثم تعود كرةً مرة أخرى. فإذا أضيفت طاقةٌ إلى مثل هذه النواة، فإن التذبذب قد يصبح هائلًا لدرجةِ أن النواة تنقسم إلى شطرين، فتنطلق نواتان صغريان، وتتناثر قطرات صغيرة جدًّا من جسيمات ألفا وبيتا والنيوترونات. وفي بعض الأنوية، من الممكن أن يُستحَث هذا الانشطارُ بواسطة اصطدام نيوترون سريع الحركة بالنواة، ويحدث تفاعل متسلسل عندما تنتج كل نواة منشطرة بهذه الطريقة عددًا كافيًا من النيوترونات ليضمن انشطار نواتَين أخريين على الأقل في الجوار. وأما اليورانيوم −٢٣٥ الذي يحتوي على ٩٢ بروتونًا و١٤٣ نيوترونًا، فإنه ينتج دائمًا نواتَين غير متساويتَين تتراوح أعدادهما الذرية ما بين ٣٤ و٥٨، بحيث يكون مجموعهما ٩٢، وتتناثر نيوترونات حرة. ويطلق كل انشطار نحو ٢٠٠ مليون إلكترون فولت من الطاقة، ويبدأ كل انشطار عدة انشطارات أخرى بشرط أن تكون كتلة اليورانيوم كبيرة بما فيه الكفاية حتى لا تهرب كل النيوترونات منها. ولو تُركت هذه العملية لتسيرَ بمعدلٍ تصاعدي هائل لتكوَّنت بذلك قنبلة ذرية، أما إذا أبطأنا من المعدَّل الذي تسير به هذه العملية باستخدامِ مادةٍ تمتص النيوترونات لتجعل العملية تسير بمعدلٍ متوسط، فإنه يكون مفاعل انشطار متحكَّم فيه يمكن استخدامه لتسخين الماء وتحويله إلى بخار ولتوليد الكهرباء. ومرة أخرى؛ الطاقة التي نستخلصها هي الطاقة المختزنة من انفجار نجم، منذ زمن طويل وعلى مسافة بعيدة للغاية. مع أن الأمر تطلَّب رئيسَ طهاةٍ متمكِّن مثل ديراك ليكتشفَ وصفاتِ تحضيرِ جسيماتٍ جديدة في مطبخِ الكَمِّ، فإن العمليات النووية تُفهَم بأمورٍ أقلَّ اكتمالًا من نموذج بور للذرة. ومن ثَم، لعله من غير المستغرب إلى حدٍّ كبير أن نجد أن نموذج بور لا يزال له استخداماته. ومن الممكن فهْم واحد من أكثر التطورات العلمية الحديثة غرابةً وإثارة، وهو الليزر، عن طريقِ أيِّ طاهٍ للوجبات الكمية السريعة ذي خبرة يكون قد سمعَ بنموذج بور، ولا يتطلب الأمر عبقرية كبيرة لفهمه. (يُقصَد بالعبقرية هنا تكنولوجيا تصميم الليزر، ولكن لذلك قصة أخرى.)؛ ومن ثَم فإننا مع فائق الاعتذار لكلٍّ من هايزنبرج وبورن وجوردان وديراك وشرودنجر، سنتجاهل كلَّ المهارات الكَمِّية لوهلةٍ، ونتجه للوراء إلى النموذج المنظَّم للإلكترونات التي تدور حول نواة الذرة. تذكَّر أن الذرة عندما تكتسب كمًّا من الطاقة ينتقل أحد الإلكترونات لأعلى إلى مدارٍ مختلِف وفقًا لهذا التصور، وأنه إذا تُرِكَت مثلُ هذه الذرة المثارة وحدَها فإن الإلكترون سيسقط عاجلًا أو آجلًا عائدًا إلى الحالة الأرضية، وسيطلِق كمًّا من الأشعة محدَّدًا بدقةٍ بالغة وذا طول موجي محدَّد. وتسمَّى هذه العملية بالانبعاث التلقائي، وهي عكس الامتصاص. عندما كان أينشتاين يفحص هذه العمليات سنة ١٩١٦ ويضع القواعد الإحصائية الأساسية لنظريةِ الكَمِّ، التي استاء بعد ذلك منها، أيقن أن هناك احتمالًا آخر. فمن الممكن أن تُستحَث ذرةٌ مثارة لتطلِق الطاقةَ الفائضةَ وتعود إلى الحالة الأرضية — إنْ جاز التعبير — إذا وكزها إلكترون يمرُّ بها. وتُسمَّى هذه العملية الانبعاث المُستحَث، وهي لا تحدث إلا إذا كان الطول الموجي للفوتون المار مساويًا تمامًا للطول الموجي الذي تكون الذرة جاهزةً لإشعاعه. وعلى غرار سلسلة النيوترونات الداخلة في تفاعل انشطار نووي متسلسل، يمكننا أن نتخيَّل مصفوفةً من الذرات المثارة التي يمر بها فوتون واحد بالطول الموجي المناسب فيستثير ذرةً واحدة لتشعَّ، ويستثير الفوتون الأول مع الفوتون الجديد الذي انبعث من الذرة ذرتَين أخريين لتشعَّا، وتستثير الفوتوناتُ الأربعة معًا أربعَ ذراتٍ أخرى، وهكذا. ويكون الناتج سلسلةً من الإشعاعات التي لها جميعًا نفسُ التردد بالضبط. وعلاوة على ذلك، فإنه نظرًا للطريقة التي يُستحَث بها الانبعاث تتحرك كلُّ الموجات متوافقةً تمامًا بعضها مع بعض؛ حيث ترتفع كل القمم معًا «لأعلى» وتنخفض كل القيعان معًا «لأسفل» لينتج شعاعٌ نقي تمامًا مما يُسمَّى الإشعاع المترابط. ونظرًا لأن القمم والقيعان لا يلغي أحدهما الآخرَ في مثل هذه الإشعاعات، تظل كل الطاقة المنبعثة من الذرات موجودةً في الشعاع، ويمكن إسقاطها على مساحةٍ صغيرة من المادة التي يوجَّه إليها الشعاع. عندما تُثار مجموعةٌ من الذرات أو الجزيئات بفِعل الحرارة، فإنها تملأ نطاقًا من مستويات الطاقة، وإذا تُركت لحالها فإنها تشعُّ أطوالًا موجية مختلفة من الطاقة بطريقةٍ مضطربة وغير مترابطة، حاملةً بذلك طاقةً أقلَّ فاعلية بكثير مما تطلقها الذرات والجزيئات. ولكن هناك حِيَلٌ يمكن استخدامها لملء نطاقٍ ضيق من مستويات الطاقة على أساسٍ تفضيلي، ثم تحفيز عودة الذرات المثارة في هذا النطاق إلى حالتها الأرضية. ويكون الحافز لسلسلةِ الذرات هو إدخال إشعاع ضعيف بالتردُّد المناسب، ويكون الناتج هو شعاع مضخَّم أقوى كثيرًا بالترددِ نفسِه. وُضِعَت هذه التقنيات لأول مرة في أواخر أربعينيات القرن العشرين على يد فريقَين يعمل كلٌّ منهما على نحوٍ مستقل من الآخر، في الولايات المتحدة وفي الاتحاد السوفييتي، وذلك باستخدام إشعاعٍ في نطاقِ موجات الراديو من الطيف، التي يتراوح طولها الموجي بين ١سم و٣٠سم، فيما يُسمَّى بنطاق الموجات الميكروية، وحصل الرواد على جائزة نوبل عن أبحاثهم سنة ١٩٥٤. ونظرًا لأن الإشعاع في هذا النطاق يُسمَّى بإشعاع الموجات الميكروية (أو إشعاع الموجات الصغرى)، ولأن العملية تتضمَّن تضخيمَ موجات الراديو بواسطة الانبعاث المستحث للإشعاع وفقًا لأفكار أينشتاين سنة ١٩١٧، دمج الرواد بين مسمَّى تضخيم الموجات الميكروية والانبعاث المستحث للإشعاع، ليقدموا اختصارًا لهذه العملية يحمل الأحرف الأولى للإجراءين في الإنجليزية وهو «ميزر». وقد استغرق الأمرُ عشر سنوات قبل أن ينجح أحدٌ في إيجاد طريقةٍ لتطبيق هذه التقنية على الترددات الضوئية من الإشعاع، ثم حدث سنة ١٩٥٧ أن طرأت الفكرةُ نفسُها على ذهن شخصَين في الوقت نفسه تقريبًا. كان الشخص الأول (الذي يبدو أنه أول مَن خطرت له هذه الفكرة) هو جوردون جولد طالب الدراسات العليا وقتها بجامعة كولومبيا، أما الآخر فكان تشارلز تاونز، أحد رواد الميزر الذي اقتسم جائزة نوبل لسنة ١٩٦٤. وقد ظلَّ الجدل حول ماهيةِ كل اكتشافٍ ومَن اخترعه ومتى، خاضعًا لمعركةٍ قانونية بشأن حقوق براءات الاختراع؛ وذلك لأن الليزر، وهو المكافئ الضوئي للميزر (من «تضخيم الضوء …») قد أصبح الآن مجالًا كبيرًا ومصدرًا للأموال الطائلة، لكن لحسن الحظ أننا غير مضطرين إلى الخوض في هذا الموضوع. واليوم، يوجد العديد من أنواع الليزر المختلفة، أبسطُها الليزر الصلب بالضخ الضوئي. في هذا التصميم، يُحضَّر قضيب من المادة (مثل الياقوت) ويُصقَل طرفاه المسطَّحان، ويُحاطان بمصدرِ وهج؛ أنبوب تفريغ غازيٍّ يومض بسرعة وينطفئ مولِّدًا نبضاتٍ من الضوء بطاقةٍ تكفي لإثارة الذرات في القضيب. ويُحافَظ على الجهاز كلِّه باردًا لضمان أقل تداخل من الإثارة الحرارية للذرات في القضيب، وتُستخدَم الومضات الساطعة من المصباح لحث (أو ضخ) الذرات إلى الحالة المثارة. وعند بدء تشغيل الليزر، تنطلق نبضةٌ من ضوء الياقوت الخالص، حاملةً معها كمياتٍ من الطاقة تبلغ آلاف الوحدات من الوات، من طرف الساق المسطَّح. تتضمَّن أنواعُ الليزر الأخرى الليزرَ السائل، وليزر الصبغة الفلورسنتية، وليزر الغاز، وهكذا. وتشترك جميعُها في السماتِ الأساسيةِ نفسِها، وهي إدخال طاقة غير مترابطة وخروج ضوء مترابط في صورةِ نبضةٍ خالصةٍ حاملًا كميةً كبيرة من الطاقة. تُنتِج بعض أنواع الليزر، مثل ليزر الغاز، شعاعًا متصلًا نقيًّا من الضوء يمثِّل النهاية «الحافة المستقيمة» النهائية لأغراض المسح، ويُستخدَم هذا النوع على نطاق واسع في حفلات موسيقى الروك وفي مجال الإعلانات. وتُنتج أنواعٌ أخرى نبضاتٍ قصيرةَ الأجل ولكنها قوية من الطاقة، يمكن استخدامها لحفر الثقوب في الأجسام الصلبة (ولها استخداماتٌ عسكرية). وتُستخدم أدوات القطع بالليزر في حالاتٍ متنوِّعة مثل صناعة الملابس والجراحات الدقيقة، ويمكن أن تُستخدَم أشعة الليزر في نقل المعلومات بكفاءةٍ أعلى من موجات الراديو؛ حيث تزداد كميةُ المعلومات التي يمكن تمريرها في الثانية الواحدة مع زيادة تردُّد الإشعاع المُستخدَم. ويُقرأ الباركود الموجودُ على كثير من منتجات المُجمَّعات التجارية (وعلى غلاف هذا الكتاب) بواسطةِ ماسِح ضوئي يعمل بالليزر، كما أن أقراص الفيديو وأقراص الصوت المُدمَجة التي ظهرت في الأسواق في بداية ثمانينيات القرن العشرين يُجرى لها مسحٌ ضوئي باستخدام الليزر، كما يمكن إنتاج الصور الثلاثية الأبعاد أو الصورة المُجسَّمة (الهولوجرام) بمساعدة الليزر، وهكذا. والقائمة فعليًّا لا حصر لها، حتى قبل إدخال تطبيقات الميزر في مجال تضخيم الإشارات الضعيفة (من أقمار الاتصالات، على سبيل المثال) والرادار وغيرها، ولكنها جميعًا لا تنبُع من نظريةِ الكَمِّ، وإنما من النسخة الأولى لفيزياءِ الكَمِّ. عندما تشتري كيسًا من رقائقِ الذرة ويُجرى له مسح ضوئي بشعاع الليزر في المتجر، أو عندما تذهب إلى حفلٍ لموسيقى الروك بعروض الليزر الملوَّنة المذهلة، أو عندما تشاهد حفلًا موسيقيًّا في التليفزيون عبر رابطِ قمرٍ صناعي ينقل الإشارات حول العالم، أو عندما تستمع إلى حفلٍ لهذه الفرقةِ نفسِها أو تشاهده على أحدثِ أنظمةِ الفيديو، أو تشاهد بإعجابٍ عرضًا ساحرًا لاستنساخِ صور الهولوجرام المجسَّمة، وهو ما يرجع الفضل فيه جميعًا إلى ألبرت أينشتاين ونيلز بور، اللذين وضعا مبادئَ الانبعاث المُستحَث منذ ما يزيد على تسعين عامًا. لا شكَّ أن التأثير الأوسع انتشارًا لميكانيكا الكَمِّ في حياتنا اليومية يقع في مجال فيزياء الجوامد (فيزياء الحالة الصلبة). والاسم «الحالة الصلبة» نفسُه غير عاطفي؛ فحتى لو كنت قد سمعت به، فإنك على الأرجح لا تربطه بنظريةِ الكَمِّ. ومع ذلك، فإنه فرع الفيزياء الذي قدَّم لنا راديو الترانزستور ووُكمَان «سوني» والساعات الرقمية وحاسبات الجيب، والحواسيب الصغيرة والغسالات القابلة للبرمجة. ولا يُعزى تجاهل فيزياء الجوامد إلى كونها فرعًا من العلوم مقصورًا على فئةٍ معينة، ولكن إلى كونها مألوفةً لدرجةِ أننا نأخذها كأمرٍ مسلَّم به. ومرة أخرى، فإننا لم نكن لنتوصَّل إلى أيٍّ من هذه الأجهزة لولا مستوى الاستيعاب المُرضي لما يدور في مطبخِ الكَمِّ. تعتمد كل الأجهزة المذكورة في الفقرةِ السابقة على خصائص أشباه الموصلات، وهي أجسامٌ صلبة ذات خصائص وسيطة بين خصائص الموصلات وخصائص العوازل. ودون الخوض في التفاصيل، العوازل هي موادُّ غير موصلة للكهرباء، والسبب وراء عدم توصيلها للكهرباء أن الإلكترونات في ذراتها تكون مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنواة، بما يتوافق مع قواعدِ ميكانيكا الكَمِّ. أما في الموصلات، مثل الفلزات، فإنه يتصادف أن يوجد في كل ذرة بعضُ الإلكترونات التي ترتبط ارتباطًا ضعيفًا بالنواة وتكون في حالاتٍ مرتفعة من الطاقة قربَ قمَّة بئر الجهد الذري. وعندما تتجمَّع الذرات معًا على صورةِ مادةٍ صلبة، تمتزج قمَّةُ إحدى آبار الطاقة في البئر التي تخصُّ الذرة التالية، وتصبح الإلكترونات في هذه المستويات المرتفعة طليقةً لتتجول من نواة إحدى الذرات إلى نواة ذرة أخرى؛ ومن ثَم فإنها لم تَعُد مرتبطة بأي نواة، ويمكنها أن تنقل تيارًا كهربيًّا عبر الفلز. وفي النهاية، فإن خاصية التوصيل تعتمد على إحصاء فيرمي-ديراك الذي يمنع هذه الإلكترونات الضعيفة الارتباط من السقوط عميقًا في آبار الجهد الذري؛ حيث تكون كل حالات الطاقة للإلكترونات المرتبطة بقوةٍ مشغولةً بالكامل. وإذا حاولتَ ضغط الفلز، فإنه سيقاوم الضغط؛ لأن الفلزات قوية. والسببُ وراء قوة الفلزات ومقاومتها الشديدة للضغط أنه بناءً على مبدأ باولي للاستثناء الخاص بالفرميونات يستحيل ضغط الإلكترونات معًا بقوة. قد تكون أشباه الموصلات الطبيعية مثيرةً للاهتمام بما فيه الكفاية، لا سيَّما بسببِ التشبيه المُحكَم الذي تقدِّمه لنشوء زوجٍ من الإلكترون والبوزيترون. غير أنه من الصعب جدًّا التحكُّم في خصائصها الكهربية، وهو ما جعل هذه الموادَّ على هذه الدرجة من الأهمية في حياتنا اليومية. ويمكن تحقيق التحكمِ بإنشاء أشباه موصلات صناعية؛ نوع تُهيمن عليه الإلكترونات الحرة، وآخر تُهيمن عليه «الفجوات» الحرة. مرةً أخرى، من السهل فهْم الفكرة، ولكن من غير السهل تطبيقها عمليًّا. ففي بلورة من الجرمانيوم، على سبيل المثال، يكون لكل ذرة أربعة إلكترونات في غلافها الخارجي (هذه وصفة سريعة من مطبخِ الكَمِّ، ويناسبها نموذج بور)، و«تتقاسم» كل ذرة هذه الإلكترونات مع الذرات المجاورة لها لتصنع الروابط الكيميائية التي تجعل البلورة متماسكة. وإذا «عُولِج» الجرمانيوم بعاملِ إشابةٍ عبارة عن بضع ذراتٍ من الزرنيخ، فستظل ذرات الجرمانيوم هي المهيمنة على بنية الشبكة البلورية، وعلى ذرات الزرنيخ أن تنضغط على أفضلِ نحوٍ ممكن. وبلغة الكيمياء، فإن الفرق الأساسي بين الزرنيخ والجرمانيوم هو أن الزرنيخ يحتوي على إلكترون خامس في غلافه الخارجي، وأفضل طريقة لانضغاطِ ذرةِ الزرنيخِ نفسِها في الشبكة البلورية للجرمانيوم هي التخلص من الإلكترون الزائد وتكوين أربعة روابط كيميائية، متظاهرًا بأنه ذرة جرمانيوم. وتتجوَّل الإلكترونات الزائدة التي تطلقها ذرات الزرنيخ المنظومة عبر نطاق التوصيل الذي ينشأ لشبه الموصل بهذه الطريقة، ولا توجد فجوات في المقابل. وتُسمَّى مثل هذه البلورة شبه موصل سالب النوع. حتى الخمسينيات من القرن العشرين، كنا نعتمد على جهاز اللاسلكي المزعج القديم في التسلية، وعلى الرغم من اسمه فإنه جهاز مليءٌ بالأسلاك وصِمَامات التفريغ المتوهِّجة التي كانت تؤدي الوظيفةَ نفسَها التي تؤديها أشباه الموصلات الآن. وبحلول نهاية الخمسينيات، بدأت ثورة الترانزستور تلوح في الأفق، وحلَّت الترانزستورات محلَّ الصِّمَامات الكبيرة المتوهِّجة، في حين حلَّت اللوحات التي طُبعت عليها الدوائر الكهربية محلَّ الأسلاك، ولُحِمَت الترانزستورات في هذه اللوحات. ولم تكن الدوائر المتكاملة إلا على بُعد خطوة صغيرة حيث أصبحت كل الدوائر والمكبِّرات وأشباه الموصلات والديودات وغيرها مُجمَّعةً معًا في قطعة واحدة، تُوصَل معًا ببساطةٍ لتشكِّل قلبَ جهاز الراديو، ومشغِّل جهاز التسجيل، أو أي شيء آخر، وفي الوقت نفسِه كانت ثورةٌ مماثلة بصدد الحدوث في صناعة الحواسيب. كانت الحواسيب الأولى مثل أجهزة اللاسلكي القديمة كبيرةً ومزعجة. كانت مليئة بالصِّمَامات وتحتوي على أميال الأسلاك. وحتى عشرين عامًا مضت، وبينما كانت أول ثورة في الحالات الصلبة على أشدها، كان الحاسوب الذي يستطيع القيام بعمل أجهزة الكمبيوتر الصغيرة التي في حجم الآلة الكاتبة، يتطلَّب الطابَق الأرضي من المنزل لاستيعاب الأجزاء الخاصة ﺑ «عقل» الحاسوب، ويتطلب مساحةً أكبرَ لاستيعابِ مكيِّف الهواء المصاحِب له. والثورة التي وضعت ذلك النوع من قوة المعالجة المحاسبية في جهازٍ لوحي محمول باليد تبلغ تكلفته بضع مئات من الدولارات هي نفسُها التي حوَّلت جهاز الراديو اللاسلكي الذي كان أجدادنا يضعونه فوق المنضدة إلى راديو في حجم علبة السجائر، ونقلت ثورة الحالات الصلبة (الجوامد) من الترانزستور إلى الشريحة الإلكترونية. يتعلَّق كلٌّ من العقول البيولوجية والحواسيب الإلكترونية بعمليات التحويل. يحتوي العقل البشري على حوالي ١٠ آلاف مليون محوِّل في صورةِ عصبونات مكوَّنة من الخلايا العصبية، أما الحاسوب فيحتوي على محوِّلات في صورةِ ديودات وترانزستورات. وسنة ١٩٥٠ كان من المفترض لحاسوبٍ يتألَّف من نفس عدد المحوِّلات الموجودة في العقل البشري أن يضاهي في حجمه جزيرةَ مانهاتن، أما اليوم فقد أصبح من الممكن تجميع العديد من المحوِّلات في حيزٍ يضاهي في حجمه العقلَ البشري، وذلك عن طريق لحام شرائح إلكترونية مصغَّرة معًا، ولكن تظل مسألةُ الوصلات السلكية الخاصة بهذه الحواسيب تمثِّل مشكلةً ولم يتم حسمُها بعد. وعلى أية حال، يوضِّح هذا المثال مدى صِغَر الشريحة الإلكترونية، حتى بالمقارنة مع الترانزستور. إنَّ شبه الموصِّل المستخدَم اليوم في الشرائح الإلكترونية المصغَّرة القياسية هو السيليكات، وهو ببساطةٍ الرملُ المتعارف عليه. وإذا حُفِّزَت السيليكات بطريقةٍ سليمة، فإن الكهرباء ستسري خلالها، ولكنها لن تسري دون تحفيز. تُقطَّع البلورات الطويلة من السيليكات بعرضٍ حوالي ١٠سم إلى رقاقاتٍ تشبه الشفرات مكوِّنةً مئات الشرائح الصغيرة المستطيلة الشكل، بحيث تكون كل واحدة منها أصغرَ من رأس عود الثقاب، وتُضغَط كل شريحة منها على الأخرى، طبقات متتالية تشبه الفطائر الإغريقية الهشَّة، مكوِّنة مجموعةً معقَّدة وكثيفة من الدوائر الإلكترونية الدقيقة، المكافئة للترانزستورات والديودات والدوائر المتكاملة مجتمعةً. وتكون الشريحة الإلكترونية الواحدة في واقع الأمر بمثابةٍ حاسوب كامل، وتُعنى كلُّ العمليات الباقية للحواسيب المصغرة الحديثة بإدخال المعلومات إلى الشريحة وخارجها. وتكلفة تصنيعها زهيدة للغاية (بمجرد الوفاء بالتكاليف الخاصة بتصميم الدوائر وإعداد الأجهزة اللازمة لإعادة إنتاجها) حتى إنه يمكن إنتاجها بالمئات، واختبارها والتخلُّص ببساطةٍ من الشرائح التي لا تعمل. يمكن أن تصل تكلفةُ تصنيع شريحة واحدة من الصفر مليونَ دولار، ولكن كلُّ ما يلزم بعد ذلك لتصنيعِ أيِّ عددٍ من الشرائح المماثلة للشريحة الأولى هو بضعة بنساتٍ للشريحة الواحدة. وهكذا، ثمَّة بعض الأمور الأخرى في العالَم اليومي التي يُعزى الفضل فيها إلى الكَمِّ. فقد قدَّمت لنا الوصفات المأخوذة من فصل واحد من كتاب الطهي الكَمِّي الساعات الرقمية، والحواسيب المنزلية، والعقول الإلكترونية التي توجِّه السفن الفضائية في مدارها (بل تقرِّر أحيانًا عدم السماح لها بالتحليق، مهما يكن رأي المشغِّلين البشريين)، والتلفزيون المحمول، والهواتف الجوالة، وأنظمة الاستريو الشخصية وأنظمة الصوت العالية الدقة (هاي فاي) القوية التي من الممكن أن تصيب الإنسانَ بالصمم، والأجهزة المساعدة لتعويضِ الصمم الناتج عن فقدِ السَّمْع. ولقد أصبحت الحواسيب المحمولة باليد أمرًا واقعًا، كما أصبحت الأجهزة الذكية احتمالًا واقعيًّا منطقيَّ الحدوث. وتُعدُّ الحواسيبُ التي تتحكَّم في مركَّبات الإنزال على سطح المريخ ومسابير النظام الشمسي الخارجي أبناءَ العمومة المباشرين للشرائح الإلكترونية التي تتحكَّم في الألعاب التي تعمل بالعُملات المعدنية، وكلُّها تَضرب بجذورها في السلوك الغريب للإلكترونات وفقًا لقواعدِ الكَمِّ الأساسية. ولكن حتى قصة المَيكرو الجبَّار لا تستنفد كلَّ ما تَعِد به فيزياء الحالة الصلبة. للمُوصِّلات الفائقة اسمٌ منطقي على غرار أشباه الموصلات. فالمُوصِّل الفائق هو مادة موصِّلة للكهرباء دون أيِّ مقاومة ظاهرية على الإطلاق. وهذا يجعلنا أقرب إلى الحصول على الحركة الأبدية؛ وليس هذا بشيءٍ نحصل عليه دون مقابل، ولكنه مثالٌ نادر لحصولنا على كلِّ ما ندفع ثمنه في الفيزياء، دون بخسٍ أو نقص. ويمكن تفسير الأمر بحدوث تغيُّر يجعل أزواجًا من الإلكترونات تترافق وتتحرك معًا. ومع أن كل إلكترون له حركة مغزلية مقدارها نصف عدد صحيح؛ ومن ثَم تتَّفق مع إحصاء فيرمي-ديراك ومبدأ الاستثناء. فيمكن في بعض الحالات أن يسلك زوج الإلكترونات مسلكَ جسيمٍ واحد ذي حركة مغزلية صحيحة. ولا يتقيَّد هذا الجسيم بمبدأ الاستثناء، ويخضع لإحصاء بوز-أينشتاين نفسِه الذي يصف سلوك الفوتونات بلغةِ ميكانيكا الكَمِّ. تتأكَّد النظرية بحقيقةِ أن المواد التي تكون موصِّلات جيدة في درجة حرارة الغرفة ليست هي أفضل الموصلات الفائقة. فالموصلات «العادية» الجيدة تسمح للإلكترونات بحرية الحركة؛ ويُعزى ذلك على وجه التحديد إلى أنها لا تتفاعل كثيرًا مع ذرات الشبكة البلورية، ومع ذلك فإنه من دون حدوثِ تفاعلٍ بين الإلكترونات والذرات فلا سبيل إلى اقتران الإلكترونات الذي يؤدي بدوره إلى توصيلٍ فائقٍ فعَّالٍ في درجات الحرارة المنخفضة. ولسوء الحظ، فإنه لا بد من تبريد الموصِّلات الفائقة قبل أن تصبح صالحةً لأداء هذه المهمة؛ ذلك لأن الاستخداماتِ المتوقَّعةَ للموصِّلاتِ الفائقةِ الأكثرِ توافقًا يسهُل تخيُّلها، وأوضح مثالٍ على ذلك ببساطةٍ هو نقل الطاقة على طول الكابلات دون حدوث أي فقدٍ في الطاقة. كما تؤدي الموصِّلاتُ الفائقةُ مهامَّ أخرى. فالفلزات الموصِّلة في حالتها الطبيعية يمكن اختراقُها بواسطةِ مجالٍ مغناطيسي، ولكن الموصِّلات الفائقة تنشئ تياراتٍ كهربية على سطحها تتنافر مع المجال المغناطيسي وتفصله، وهي الحائل المثالي دون حدوث التداخلات غير المرغوب فيها من المجالات المغناطيسية، ولكنها غير عملية ما دام أنه من الضروري تبريدُ الحائل إلى بضع درجات كلفنية. وعند فصل مُوصِّلَين فائقَين بواسطة عازلٍ ما، يمكنك أن تتوقَّع عدمَ سريان أي تيار بينهما، ولكن تذكَّر أن الإلكترون يخضع لقواعدِ الكَمِّ نفسِها التي تسمح للجسيمات بأن تخترق أنفاقًا إلى خارج النواة. فإذا كان الحاجز رقيقًا بما فيه الكفاية، فإن احتمالَ اجتيازِ أزواج الإلكترونات للفجوة يصبح كبيرًا، لكنه لا يعطي نتائجَ منطقية. ولا تُنتِج مثل هذه الوصلات (التي تُسمَّى وصلات جوزيفسون) تيارًا كهربيًّا في حالِ وجودِ فرقِ جهدٍ عبر الحاجز، ولكن يوجد تيار كهربي في حالة انعدام الجهد الكهربائي (الفولتية) من جانبٍ إلى آخر. ويمكن إعداد وصلة جوزيفسون مزدوجة، وذلك بأخذِ قطعتَين من الموصِّل الفائق وتشكيلِ كلٍّ منهما على هيئة شوكةٍ رنَّانة وضغط الطرفَين المزدوجَين معًا مع فصلهما بطبقةٍ بينية من العازل، وذلك لمحاكاة سلوك الإلكترون في تجربة «الشق المزدوج» وفقًا لميكانيكا الكَمِّ، وسنناقش هذه التجربة بالتفصيل في الفصل التالي، وتمثِّل هذه التجربة حجرَ الزاوية لعددٍ من أغربِ سماتِ عالَمِ الكَمِّ. وليست الإلكترونات وحدَها التي تستطيع الارتباط ببعضها لصنْع بوزوناتٍ زائفة تتحدَّى قوانين الفيزياء العادية في درجات الحرارة المنخفضة. ولكن ذرات الهيليوم أيضًا يمكنها القيام بعملٍ مماثلٍ جدًّا، وهذا هو الأساس وراء خاصيةٍ معينةٍ من خصائص الهيليوم السائل تُسمَّى السيولة الفائقة. عندما تُقلِّب فنجانًا من القهوة ثم تتركه لحاله، تتباطأ الحركة الدوامية الدوارة للسائل ثم تتوقَّف، نظرًا لوجود قوة السيولة المكافئة لقوى الاحتكاك أو اللزوجة. جرِّب الأمرَ نفسَه مع الهيليوم المُبرَّد إلى ما دون ١٧٫٢ كلفن ولن يتوقَّف الدوران أبدًا حتى لو تركته تمامًا لحاله، وقد يتحرَّك السائل لأعلى على جانب الإناء وفوق حافة الإناء، وبدلًا من المرور بصعوبةٍ عبر أنبوب ضيق، فإن الهليوم الفائق السيولة يتدفَّق بسهولةٍ أكثرَ إذا ازداد الأنبوب الذي يمر خلاله ضِيقًا. ويمكن تفسيرُ كلِّ هذا السلوكِ الغريب طِبقًا لإحصاء بوز-أينشتاين، ومرةً أخرى، على الرغم من صعوبةِ إيجاد استخدامات عملية لهذه الظاهرة بسبب درجات الحرارة المنخفضة اللازمة، فإن سلوك الذرات عند هذه الدرجات المنخفضة — مثله مثل سلوك الإلكترونات في التوصيل الفائق — يقدِّم فرصةً لرؤيةِ العملياتِ الكَمِّية في أثناء حدوثها. وإذا وُضِع قليلٌ من الهيليوم الفائق السيولة في إناءٍ صغير عرضُه ٢ملم أو نحو ذلك، وجرى تقليب الإناء بحركةٍ دورانية، فإن الهيليوم سيظل ساكنًا في البداية. وعندما تزداد سرعة الدوران، وعند إحدى قيم الزخم الزاوي الحرجة يحدث للهيليوم كله تدفُّق زاوي، ويتغيَّر من حالة كمومية إلى أخرى. ولا يُسمَح بحالةٍ بينية — تقابل نوعًا من الزخم الزاوي البيني — طبقًا لقواعدِ الكَمِّ، ويمكن رؤية المجموعة الكاملة لذرات الهيليوم، وهي كتلة مرئية أكبر كثيرًا من الذرة المفردةِ أو جسيماتِ عالَمِ الكَمِّ، وهي تسلك وفقًا لقواعدِ الكَمِّ. وكما سنرى لاحقًا، يمكن أيضًا تطبيق التوصيل الفائق على أجسامٍ ذات مقاييس بشرية، وليست ذرية. ولكنَّ نظريةَ الكَمِّ ليست محدودةً بعالَم الفيزياء، ولا حتى العلوم الفيزيائية. وكما تذكر، فقد أصبحت الكيمياء كلُّها الآن مفهومةً بلغةِ قواعدِ الكَمِّ الأساسية. والكيمياء هو علم الجزيئات، وليس عالَم الذرات المفردة والوحدات الفرعية من الذرات، ويشمل ذلك أهم الجزيئات في حياتنا جميعًا وهي الجزيئات الحيَّة، بما في ذلك جزيء الحياة، الحمض النووي (اﻟ «دي إن إيه»). كما أن فهْمنا الحالي للحياةِ نفسِها له جذور راسخة في نظريةِ الكَمِّ. بعيدًا عن الأهمية العلمية لنظريةِ الكَمِّ في فهْم كيمياء الحياة، فإن ثمَّة علاقاتٍ شخصية مباشرة بين بعض الشخصيات الرائدة في قصةِ الكَمِّ واكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي؛ جزيء الحياة. اكتشفَ لورانس براج ووالده ويليام القوانين التي تصفُ حيود أشعة إكس من البلورات أثناء عملهما في مختبر كافنديش في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وقد حصلا مناصفةً على جائزة نوبل عن هذا الاكتشاف، وكان لورانس في سنٍّ مبكِّرة في ذلك الوقت (سنة ١٩١٥، عندما كان ضابطًا في الخدمة بفرنسا) وظل على قيد الحياة (مع أنه خدمَ في فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى) ليحتفل باليوبيل الذهبي لهذه المناسبة بعد خمسين سنة. اشتهر براج الأبُ في البداية في الفيزياء بدراساته لأشعة ألفا وبيتا وجاما، وقد أثبت في السنوات الأخيرة من العَقد الأول من القرن العشرين أن أشعة جاما وأشعة إكس تسلكان مسلكَ الجسيمات من بعض النواحي. ومع ذلك، يعتمد قانون براج لحيود أشعة إكس، الذي هو أساس حلِّ ألغاز بنية البلورات، على الخصائص الموجية لأشعة إكس التي ترتد عن الذرات في البلورة. وتعتمد أنماط التداخل الناتجة عن ذلك على مقدار المسافة بين الذرات في البلورة وعلى الطول الموجي لأشعة إكس، وقد تطوَّرت هذه التقنية على أيدٍ خبيرةٍ بحيث تحدِّد مواقع الذرات المفردة حتى في البِنى البلورية المعقَّدة. ثم جاءت الفكرة التي أدَّت إلى قانون براج سنة ١٩١٢، وكانت في الأساس فكرةَ لورانس براج، الذي بحلول أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين كان يشغل منصب أستاذ الفيزياء بمختبر كافنديش في كامبريدج (خَلفًا لرذرفورد الذي تُوفِّي سنة ١٩٣٧) وكان لا يزال منهمكًا في أبحاثه في مجال أشعة إكس، ضِمن أشياء أخرى كثيرة. وشهد هذا العَقد بداية إحراز التقدُّم في علم «الفيزياء الحيوية» الجديد. وقد أسفرَ البحثُ الرائد لجيه دي برنال في تحديد بنية الجزيئات البيولوجية وتكوينها بواسطة حيود أشعة إكس عن دراساتٍ تفصيليةٍ لجزيئات البروتين المعقَّدة المسئولة عن تنفيذ الكثير من وظائف الحياة. وقد اقتسم الباحثان، ماكس بيروتس وجون كندرو، جائزةَ نوبل في الكيمياء لسنة ١٩٦٢ عن تحديد بِنى الهيموجلوبين (الجزيء الذي ينقل الأكسجين في الدم) والميوجلوبين (بروتين العضلات) نتيجةً للأبحاث التي بدأت في كامبريدج قبل الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، فإن الشخصَين اللذين يرتبط اسمهما دائمًا في هذا الاكتشاف بأصول البيولوجيا الجزيئية ونشأتها هما «الشابَّان الثوريان» فرانسيس كريك وجيمس واطسون، اللذان وضعَا النموذجَ الحلزوني المزدوج للحمض النووي في بداية خمسينيات القرن العشرين، وحصَلا على جائزة نوبل في «الفسيولوجيا أو الطب» (واقتسمَاها مع موريس ويلكينس) أيضًا سنة ١٩٦٢. ومن الجدير بالإعجاب تلك المرونة التي أبدتها لجنة نوبل في إدارتها لتكريم الرواد المختلفين في مجال الفيزياء الحيوية، وذلك بمنح الجوائز في السنةِ نفسِها تحت عنوان «الكيمياء» و«الفسيولوجيا»، ولكن مع الأسف حالت القواعد الصارمة التي لا تجيز منْح الجائزة بعد الوفاة دون منحِ جزءٍ من جائزة كريك-واطسون-ويلكينس إلى زميلة ويلكينس روزاليند فرانكلين، التي أنجزت القدرَ الأكبر من بحثِ عِلم البلورات الأساسي الذي اكتُشِفت من خلاله بنية الحمض النووي، بيدَ أنها تُوفِّيت سنة ١٩٥٨ في السابعة والثلاثين من عمرها. وقد أشار واطسون — الناشط النسوي اللاذع — في كتابه «الحلزون المزدوج» إلى دور فرانكلين في هذا الاكتشاف، والكتاب عبارة عن سردٍ شخصي رائع للفترة التي قضاها في كامبريدج، وهو مسلٍّ إلى حدٍّ كبير لكنه لا يقدِّم صورةً منصفة ودقيقة عن زملائه أو حتى عن نفسِه. يُعدُّ هذا هو أساس الهندسة الوراثية. فمن الممكن تخليق أجزاء من المادة الوراثية — الحمض النووي — بواسطةِ مجموعةٍ من التقنيات الكيميائية والبيولوجية، ومن الممكن تحفيزُ الكائنات الدقيقة مثل البكتيريا لالتقاط هذا الحمض النووي من الحساء الكيميائي في الوسط المحيط بها ودمجه في شفرتها الوراثية. وإذا أُعطيَت المعلومات المشفرة عن كيفية صنْع الأنسولين البشري سلالةً من البكتيريا بهذه الطريقة، فإن مصانعها البيولوجية ستؤدي المهمةَ نفسَها بالضبط؛ حيث تُنتِج المادة اللازمة تمامًا لإعانة مرضى السكر على أن يحيَوا حياةً طبيعية. ويُوشك أن يصبح الحُلم حقيقةً في تعديل المادة الوراثية البشرية للتخلُّص من العيوب التي تتسبَّب في مشكلاتٍ مثل مرض السكر في المقام الأول، ولا يوجد سببٌ نظري يحتِّم عدمَ تحقيقه. فقد تمكَّنا بالفعل من استخدامِ تقنيات الهندسة الوراثية في الحيوانات والنباتات الأخرى؛ حيث أنتجنا سلالاتٍ أجودَ من أجل الغذاء وغيره من المتطلبات البشرية. لقد أسهبتُ في هذه النقطة على نحوٍ أكبرَ إلى حدٍّ ما عمَّا كنت لأفعل لو لم أكن عضوًا في كلية جامعة ويلز. وفي مارس ١٩٨٣، أشرتُ في عجالةٍ من خلالِ مقالٍ نقدي في مجلة «نيو ساينتست» أنه «لولا نظريةُ الكَمِّ لما كان هناك وجود للهندسة الوراثية، ولا حواسيب الحالة الصلبة، ولا محطات الطاقة النووية (أو القنابل).» وقد أثار ذلك حفيظةَ أحد المراسلين في هذه المؤسسة الأكاديمية الموقَّرة إلى الحد الذي جعله ضجِرًا برؤية الهندسة الوراثية تُجَر إلى كل سياقٍ بوصفها الكلمة العلمية الرنَّانة الجديدة، والتصريح بأن جون جريبين ينبغي ألا يُسمَح له بالذهاب طليقًا بهذه الملاحظات المفرِطة في الخيال. فماذا عساها أن تكون الصلة المحتمَلة، مهما كانت ضعيفة، بين نظريةِ الكَمِّ وعِلم الوراثة؟ وإنني أود أن تكون الصلة واضحةً هذه المرة. فمن جهة، من الممتع أن نستطيع الإشارةَ إلى حقيقةِ أنَّ تحوُّل كريك إلى الفيزياء الحيوية كان بإيعازٍ مباشر من شرودنجر، وأن البحث الذي أدَّى إلى اكتشاف الحلزون المزدوج للحمض النووي قد جرى تحت الإشراف الرسمي المباشر من لورانس براج، حتى وإن لم يكن موضعَ ترحيب أحيانًا، ومن جهةٍ أعمقَ كان السببُ وراء اهتمام الرواد مثل براج وشرودنجر والجيل التالي من الفيزيائيين أمثال كندرو وبيروتس وويلكينس وفرانكلين بالمشكلات البيولوجية، يُعزى بالطبع إلى أن هذه المشكلات كانت تمثِّل ببساطة نوعًا آخر من الفيزياء — كما أشار شرودنجر — وهو النوع الذي يتعامل مع مجموعاتٍ ذات أعداد كبيرة من الذرات في جزيئاتٍ معقَّدة. وبدلًا من التراجع عن هذا التعليق العابر الذي قلته في مجلة «نيو ساينتست»، فقد وددتُ التأكيد عليه. إذا طلبت من شخصٍ ذكي وواسع الاطلاع — ولكنه ليس عالِمًا — أن يلخِّص أهمَ مساهمات العِلم في حياتنا الحالية، وأن يسرد فوائد التقدُّم العلمي ومخاطره في المستقبل القريب، فسوف تحصل بالتأكيد على قائمةٍ تتضمن تكنولوجيا الحواسيب (الأتمتة، والبطالة، والتسلية، والروبوتات) والطاقة النووية (القنبلة، والصواريخ الجوَّالة، ومحطات الطاقة) والهندسة الوراثية (العقاقير الجديدة، والاستنساخ، وخطر الأمراض المُخلَّقة، وسلالات المحاصيل المُحسَّنة) والليزر (الهولوجرام، وأشعة الموت، والجراحة المجهرية الدقيقة، والاتصالات). ومن المرجَّح أن الأغلبية العظمى من الأشخاص الذين طُلِب منهم ذلك قد سمعوا بنظرية النسبية، التي لا تلعب أيَّ دورٍ في حياتهم اليومية، وقلَّما أدرك أيٌّ منهم أنَّ كلَّ اسم في هذه القائمة له جذوره في ميكانيكا الكَمِّ، وهو فرع العلوم الذي ربما لم يسمع به أحدُهم قط، ولم يفهمه بكل تأكيد. إنهم ليسوا وحدَهم في ذلك. فقد تحقَّقت كل هذه الإنجازات عن طريق فن الطهي الكَمِّي، باستخدام القواعد التي يبدو أنها تنجح على الرغم من أن لا أحد يعلم سببَ نجاحها. وعلى الرغم من الإنجازات التي حدثت خلال العقود الستة الماضية، فمن غير المؤكَّد ما إذا كان أيُّ أحد يفهم «السبب» وراء نجاح فن الطهي الكَمِّي. وسوف نكرِّس بقيةَ الكِتاب لسَبْر أغوار بعض الأسرار الأكثر غموضًا التي يُغض الطرف عن مناقشتها غالبًا، وللنظر في بعض الاحتمالات الواردة والمفارقات.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/8/
الفرصة وعدم اليقين
يُرى اليوم مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج كإحدى السمات المحورية — وربما السمة المحورية الأهم — لنظريةِ الكَمِّ. ولم يستوعب زملاؤه مبدأه على الفور، لكنه استغرق قرابة ١٠ سنوات ليصل إلى هذه المكانة المرموقة. غير أنه منذ ثلاثينيات القرن العشرين ربما يكون هذا المبدأ قد وصل إلى مكانةٍ مرموقةٍ أكثرَ مما يستحق. انبثق هذا المفهوم من زيارة شرودنجر إلى كوبنهاجن في سبتمبر ١٩٢٦، وكانت المناسبة هي تعليقه الشهير الذي قدَّمه بور حول «الوثب الكَمِّي الملعون». تيقَّن هايزنبرج أن أحد الأسباب الرئيسية لما يبدو من تطاحُن بين بور وشرودنجر هو تضارب المفاهيم. فأفكارٌ مثل «الموضع» و«السرعة» (أو الحركة المغزلية فيما بعدُ) لا تعني ببساطة في عالَم الفيزياء الميكروية مثلَ ما تعنيه في الحياة اليومية. فماذا تعني تلك الأفكار، وكيف يمكن ربط هذين العالَمين بعضهما ببعض؟ عاد هايزنبرج إلى المعادلة الأساسية لميكانيكا الكَمِّ: نُشرت هذه النتائج المذهلة في مجلة الفيزياء الألمانية «تسايتشريفت فور فيزيك» سنة ١٩٢٧، فاستقبلها العلماء النظريون مثل ديراك وبور، الملمُّون بالمعادلات الجديدة لميكانيكا الكَمِّ، باستحسانٍ على الفور، لكن معظم التجريبيين رأى نتائج هايزنبرج تحديًا لمهاراتهم. وتخيلوا أنه يدَّعي أن تجاربهم ليست جيدةً بما فيه الكفاية لقياس الموضع والزخم في الوقتِ نفسِه، وحاولوا القيام بتجارب لإثبات خطئه. إلا أن ذلك كان هدفًا غيرَ ذي جدوى لأن هذا لم يكن ما قاله هايزنبرج على الإطلاق. ويظهر أن سوء الفهم هذا، الذي لا يزال مستمرًّا حتى هذه الأيام، سببُه ولو جزئيًّا، الطريقةُ التي غالبًا ما تُدرَس بها فكرة عدم اليقين. وقد استخدم هايزنبرج نفسُه فكرةَ ملاحظة الإلكترون للوصول إلى مبدئه. إننا نستطيع أن نرى الأشياء عندما ننظر إليها، وهو الأمر الذي يتضمَّن ارتداد فوتونات الضوء منها إلى أعيننا. والفوتون لا يؤثِّر كثيرًا على شيء مثل بيت؛ ولذا لن نتوقَّع أن البيت سيتأثر كثيرًا عندما ننظر إليه. ولكن أمر الإلكترون يختلف كثيرًا. فبداية، حيث إن الإلكترون صغيرٌ جدًّا، لا بدَّ أن نستخدم طاقةً كهرومغناطيسية ذات طول موجي قصير حتى يمكن رؤيته على الإطلاق (بمساعدة جهاز تجريبي). وأشعة جاما هذه طاقتها كبيرة، وأي فوتونات لأشعة جاما ترتد عن الإلكترون — ويمكن التعرُّف عليها بجهازنا التجريبي — ستغيِّر بطريقةٍ درامية موقعَ وزخمَ الإلكترون — إذا كان الإلكترون في ذرةٍ ما — ومجرد فعْل الرؤية نفسِه بواسطة ميكروسكوب خاص بأشعة جاما ربما يدفع هذا الإلكترون خارج الذرة كليًّا. وكل ذلك صحيح بما فيه الكفاية ويعطي فكرةً عامة عن استحالة قياس الموضع والزخم للإلكترون معًا بدقة. لكن مبدأ عدم اليقين، ووفقًا للمعادلات الأساسية لميكانيكا الكَمِّ، يدلنا على أنه لا يمكن أن يكون للإلكترون زخمٌ وموقعٌ دقيقان في الوقتِ نفسِه. وهذا حدثٌ غريب في التاريخ. وعلى كلٍّ، فإن المعادلات الأساسية لنظريةِ الكَمِّ تؤدي إلى علاقات عدم اليقين، ولكن إذا بدأنا بعدم اليقين فلن نصل بأي حالٍ من الأحوال إلى المعادلات الأساسية للكَمِّ. والأسوأ من ذلك أن الطريقة الوحيدة لتقديم عدم اليقين من دون المعادلات، تكون باستخدامِ أمثلةٍ مثل استخدام ميكروسكوب أشعة جاما لرصد الإلكترونات، ويجعل هذا الناس على الفور تعتقد أن عدم اليقين يختص بالقيود التجريبية ولا يختص بالحقيقة الأساسية عن طبيعة الكون. وعليك أن تعرف أمرًا واحدًا ومنه تعود لتعرف شيئًا آخرَ ثم تتحرَّك لتكتشف فقط أنك قد توصَّلت إلى ما تعلَّمته في البداية. فالعلم ليس بالضرورة منطقيًّا، وبالمثل مدرسو العلوم. والنتيجة هي أجيال من الطلاب المشوَّشين والمفاهيم الخاطئة المختلطة بشأن مبدأ عدم اليقين؛ تلك المفاهيم الخاطئة التي لا تشارك أنت فيها، لأنك قد اكتشفت أمورًا في ترتيبها الصحيح. وعلى كلٍّ، إذا لم نهتمَّ بالتعقيدات العلمية وأردنا أن ننخرط في غرائبِ عالَمِ الكَمِّ، فإنه من المعقول جدًّا أن نبدأ باكتشافِ هذا العالَم بالأمثلة المذهلة حول طبيعته الخاصة للغاية. وسيكون مبدأ عدم اليقين في الجزء المتبقي من هذا الكتاب، متعلقًا فقط بأقل الأشياء غرابةً من التي ستصادفنا. الأمر المهم المتعلِّق بمبدأ عدم اليقين، الذي لا يلقى الاهتمام الذي يستحقه، هو أن هذا المبدأ لا يعمل بالمنطقِ نفسِه للأمام أو للخلف في الزمن. «تهتم» أشياءُ قليلة جدًّا في الفيزياء بالكيفية التي ينساب بها الزمن، وأحدُ الألغاز الأساسية للكون الذي نعيش فيه أنه من المؤكَّد وجودُ «سهمٍ للزمن» محدَّدٍ، فارقٍ بين الماضي والمستقبل. وتدلنا علاقات عدم اليقين على أننا لا نستطيع معرفةَ الموضع والزخم في الوقتِ نفسه، وعليه فإننا لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل؛ فالمستقبل ليس قابلًا أصلًا للتنبؤ وهو غير مؤكد. ولكنه في داخل نطاق قواعدِ ميكانيكا الكَمِّ من الممكن إجراء تجربة للحساب بطريقةٍ عكسية لنصل إلى موقعِ وزخمِ إلكترون بالضبط عند زمنٍ معيَّن في الماضي مثلًا. والمستقبل أصلًا غيرُ محدَّد وغير مؤكَّد، فنحن لا نعرف بالضبط إلى أين نحن ذاهبون، لكن الماضي محدَّد تمامًا؛ فنحن نعلم من أين جئنا. وباستعارة مقولة هايزنبرج «من الممكن أن نعرف — من حيث المبدأ — الماضي بكل تفاصيله». ويتناسب هذا الأمر تمامًا مع خبرتنا اليومية بطبيعة الزمن، من حيث حركتنا من ماضٍ معروف إلى مستقبلٍ مجهول، وهي سمة أساسية في صميم عالَمِ الكَمِّ. ومن الممكن ربط ذلك بسهم الزمن الذي نلاحظه في الكون على اتساعه، وسنناقش تضميناته الأكثر غرابةً فيما بعد. وفي حين بدأ الفلاسفة يتمسَّكون شيئًا فشيئًا بمثل هذه التضمينات المثيرة لعلاقات عدم اليقين، كانت هذه التضمينات لبور شعاعًا من الضوء ينير الطريقَ للمفهوم الذي كان يحاول الوصولَ إليه لبعض الوقت. وحيث وَجدت فكرةُ التكامل التي تفيد بأن كلًّا من صور الموجة والجسيم ضروريان لفهْم عالَم الكَمِّ (مع أن الإلكترون في الواقع ليس بموجة ولا جسيم) صيغةً رياضيةً في علاقةِ عدم اليقين تُفيد بأن الموقع والزخم معًا لا يمكن معرفتهما بدقة، ولكنها كوَّنت سماتٍ تكاملية للواقع، وبشكلٍ ما يستثني بعضها بعضًا. وفي الفترة ما بين يوليو ١٩٢٥ وسبتمبر ١٩٢٧ لم ينشر بور إلا القليل جدًّا في مجال نظريةِ الكَمِّ، ثم ألقى بعد ذلك محاضرةً في كومو بإيطاليا فيما يُعرف ﺑ «تفسير كوبنهاجن» أمام جمْعٍ غفيرٍ من الحضور قدَّم فيها لفكرةِ التكامل. أشار بور إلى أنه في الفيزياء الكلاسيكية نتصوَّر أن منظومةَ أيِّ جسيمات متداخلة تعمل مثل الساعة بصرف النظر عما إذا كانت مراقبةً أم لا، أما في فيزياءِ الكَمِّ فإن المُشاهد يتفاعل مع المنظومةِ لدرجةِ أن المنظومة لا يُنظر إليها كوجود مستقل. فإذا اخترنا قياس الموقع بدقةٍ فإننا نجبر الجسيم أن يخلق المزيد من عدم اليقين في الزخم والعكس صحيح؛ إذا اخترنا تجربةً لقياس خصائص الموجة فإننا نتغاضى عن سمات الجسيم، ولا توجد تجربة تكشف عن سمات الجسيم والموجة في آنٍ معًا، وهكذا. ويمكننا في الفيزياء الكلاسيكية وصْفُ موقعِ الجسيمات بدقةٍ في الزمكان والتنبؤ بمسلكها بالدقةِ نفسِها، أما في فيزياء الكَمِّ فلا نستطيع، وفي هذا السياق حتى النسبية تُعتبر نظريةً «كلاسيكية». استغرق الأمر وقتًا طويلًا لتتطوَّر هذه الأفكار ويستقر مغزاها. واليوم أصبحت السمات المحورية لتفسير كوبنهاجن أكثرَ سهولةً في شرحها وفهمها بمدلولِ ما يحدث عندما يُجري عالِمٌ عمليةَ رصد تجريبية. أولًا: لا بد أن نسلِّم بأن مجرَّد ملاحظة الشيء تغيِّر منه، وأننا — نحن الملاحظين — جزءٌ حقيقي فعلًا من التجربة، ولا يوجد شيء مثل الساعة التي تدق سواء كنا ننظر إليها أم لا. ثانيًا: كلُّ ما نعرفه هو نتائج التجربة. نستطيع النظرَ إلى الذرة لنرى الإلكترون عند مستوى طاقةِ أ ثم عند النظر ثانية نرى الإلكترون عند مستوى طاقةِ ب. وربما نتخيَّل أن الإلكترون قد قفز من المستوى أ إلى المستوى ب لأننا نظرنا إليه. ولكننا في الواقع لا يمكن أن نجزم بأنه هو الإلكترون نفسُه، بل ولا نستطيع أن ندلي بأي شيء عما يحدث عندما كنا لا ننظر إلى الإلكترون. وما نستطيع تعلُّمه من هذه التجارب أو من معادلات نظريةِ الكَمِّ أنه من المحتمل أن نصل إلى الإجابةِ أ إذا نظرنا إلى نظامٍ ما، وعند النظر مرةً ثانية قد نحصل على الإجابة ب، ولا نستطيع أن نقول شيئًا عما حدث عندما كنا لا ننظر إليه، أو كيف وصل النظام من المستوى أ إلى ب إذا حدث ذلك فعلًا. أما «الوثبُ الكَمِّي الملعون» الذي سبَّب اضطراب شرودنجر فهو التفسير لسببِ حصولنا على إجابتين مختلفتين لنفس التجربة، وهو تفسيرٌ خادع. وقد توجد بعض الأشياء في المستوى أ بعض الوقت، وأحيانًا أخرى في المستوى ب، والسؤال هو: ما الذي يحدث بين الحالتين، أو كيف يحدث الانتقال من مستوًى لآخر، وهو شيء غير ذي معنًى تمامًا؟ وهذه في الحقيقة سمةٌ أساسية لعالَمِ الكَمِّ. ومن المثير أن هناك حدودًا لما نعرفه عما يفعله الإلكترون عندما لا ننظر إليه؛ بل إنه شيء مثير للحَيرة تمامًا عندما نكتشف أنه ليس لدينا أيُّ فكرة عما يحدث عندما لا ننظر إليه. لقد قدَّم إدنجتون في ثلاثينيات القرن العشرين بعضًا من أفضل الأمثلة الفيزيائية حتى الآن بخصوص ذلك في كتابه «فلسفة علم الفيزياء». وقد شدَّد على أن ما ندركه — ما نتعلَّمه من تجاربنا — متأثرٌ بدرجة كبيرة بتوقعاتنا، وقدَّم مثالًا على ذلك، مربِكًا في بساطته، ليسحب بذلك البِساط من تحت هذه الملاحظات. قال: نفترض أن أحد الفنانين أخبرك بأن شكل رأس إنسان «مختبِئ» في صخرةٍ من الرخام. ستقول: «هراء». لكن الفنان يبدأ حينئذٍ في نحت الرخام بشيءٍ ليس أكثرَ من مطرقة وإزميل كاشفًا الشكل المختبئ. فهل هذه هي الطريقة التي «اكتشف» بها رذرفورد النواة؟ قال إدنجتون: «الاكتشاف لا يتجاوز الموجات التي تمثِّل المعرفة التي لدينا عن النواة»؛ حيث إن نواة الذرة لم يرَها أحدٌ بالمرة. وكلُّ ما نراه هو نتائج التجارب التي تؤدي إلى مدلول النواة. لم يجِد أيُّ إنسان البوزيترون إلى أن اقترح ديراك احتمال وجوده، ويدعي الفيزيائيون هذه الأيام معرفةَ عددٍ أكبر لما يسمَّى بالجسيمات الأساسية أكثر من العناصر المعروفة في الجدول الدوري. وكان الفيزيائيون في ثلاثينيات القرن العشرين مفتونين بالتنبؤ بجسيمٍ جديدٍ آخرَ — وهو النيوترينو — مطلوبٍ لتفسير خفايا التفاعلات المغزلية في بعض أنواع الانحلال الإشعاعي. وقال إدنجتون: «لست مرتاحًا لنظرية النيوترينو»، وأضاف: «ولا أعتقد في وجود النيوترينوات». لكن «هل أجرؤ أن أقول إن الفيزيائيين التجريبيين ليس لديهم البراعة الكافية لصنْع النيوترينوات؟» ومنذ ذلك الحين حدث بالفعل «اكتشاف» ثلاثة تشكيلات مختلفة (بالإضافة إلى ثلاثة تشكيلات مضادة مختلفة) كما افترض وجود أنواع أخرى. هل من الممكن حقيقة أخذ شكوك إدنجتون مأخذَ الجِد على ظاهرها؟ وهل من المحتمل أن النواة والبوزيترون والنيوترينو لم تكن موجودةً إلى أن اكتشف التجريبيون نوعَ الإزميل المناسب لكشف أشكالها؟ وتضرب مثل هذه التخمينات على جذور صحة عقولنا، علاوة على مفهومنا عن الواقعية. لكنها أسئلة معقولة تمامًا يمكن طرحُها في عالمِ الكَمِّ. وإذا تتبَّعنا كتاب وصفةِ الكَمِّ بطريقةٍ صحيحة يمكننا القيام بتجربةٍ ينتج منها عدة قراءات نستطيع تفسيرها كمؤشرات على وجودِ نوعٍ معيَّن من الجسيمات. وفي كل مرة نستخدم نفس الوصف غالبًا نحصل على نفس المجموعة من القراءات. ولكن التفسيرات بمدلول الجسيمات كلها في الأذهان، وربما لا تكون أكثرَ من خداع متماسك. ولا تدلنا المعادلات على أي شيء مما تفعله الجسيمات عندما لا ننظر إليها؛ فلم ينظر أحد قط للنواة قبل رذرفورد، وقبل ديراك لم يتخيَّل أحدٌ وجود البوزيترون. فإذا كنا لا نستطيع أن نقول ماذا يفعل الجسيم عندما لا ننظر إليه، ولا نستطيع أن نجزم بوجوده عندما لا ننظر إليه؛ فمن المنطقي أن ندعي أن النواة والبوزيترون لم يكن لهما وجود قبل القرن العشرين؛ لأنه لم يحدث أن رأى إنسانٌ أيًّا منها قبل القرن العشرين. وما تراه في عالَمِ الكَمِّ هو ما تحصل عليه، وليس هناك شيء حقيقي، وأقصى ما نأمُل فيه أن تتوافق مجموعةٌ من الخدع بعضها مع بعض. ولسوء الحظ، حتى هذه الآمال قد تحطَّمت بواسطة بعض التجارب الأكثر بساطة. فهل تذكُر تجارب الشق الطولي المزدوج التي برهنت على الطبيعة الموجية للضوء؟ كيف يمكن تفسيرها بمدلول الفوتونات؟ أحد أفضل المعلِّمين وأفضل المعروفين في ميكانيكا الكَمِّ على مدار العشرين سنة الماضية هو ريتشارد فاينمان من معهد كاليفورنيا للتقنية. وقد قدَّم مرجِعه المؤلَّف من ثلاثة أجزاء والمنشور في أوائل ستينيات القرن العشرين «محاضرات فاينمان في الفيزياء»، وهو مرجعٌ قياسي تُقارن به المراجع الأخرى للطلاب الجامعيين، وقد ألقى محاضراتٍ عامة في الموضوعِ نفسِه مثل تلك الحلقات في تليفزيون «بي بي سي» عام ١٩٦٥ التي نُشرت تحت عنوان «خاصية القانون الفيزيائي». وُلِد فاينمان سنة ١٩١٨، وكان في قمة عطائه كفيزيائي نظري في الأربعينيات من القرن العشرين؛ حيث كان منهمكًا في وضع معادلات نسخةِ الكَمِّ الخاصة بالكهرومغناطيسية، تحت اسم الكهربية الديناميكية للكَمِّ، وحصل على جائزة نوبل سنة ١٩٦٥ عن هذا الإنجاز. ومكانة فاينمان الخاصة في تاريخ نظريةِ الكَمِّ تجعله ممثِّلًا للجيل الأول للفيزيائيين الذين شبُّوا مع كل أسسِ ميكانيكا الكَمِّ، وأرسَوا كلَّ القواعد الأساسية. وكان على هايزنبرج وديراك أن يعملا في بيئةٍ متغيرة؛ حيث الأفكار الجديدة لا تتوالى بالصورة الصحيحة، ولا العلاقة المنطقية بين مفهومٍ وآخر — كما في حالة الحركة المغزلية — تُلاحَظ بالضرورة على التو، أما جيل فاينمان فقد كانت كل أجزاء اللغز متاحةً لهم، ومن الممكن رؤية منطق ترتيبها لأول مرة، وقد لا يكون ذلك في لمحةٍ خاطفة، لكن بالتأكيد بعد قليل من التفكير والجهد الذهني. وهكذا فإن ما يجدُر الإشارة إليه أنه في حين كان باولي وأتباعه يفكِّرون — والموضوع ما زال ساخنًا — أن علاقات عدم اليقين هي المكان المناسب للبدء في مناقشة وتدريس نظريةِ الكَمِّ، توصَّل فاينمان وهؤلاء المعلمون في العقود الحديثة — الذين ينظرون إلى المنطق بأنفسهم بدلًا من إعادة إنتاج أفكار الأجيال السابقة — إلى نقطةِ بدايةٍ مختلفة. قال فاينمان في الصفحة الأولى من مرجِعه الخاص بمحاضراته والمخصَّص لميكانيكا الكَمِّ إن العنصر الأساسي في نظريةِ الكَمِّ هو تجربة الشق الطولي المزدوج. لماذا؟ لأن هذه «ظاهرة مستحيلة، مستحيلة بشكلٍ مطلق لتفسيرها بطريقةٍ كلاسيكية، وبها لبُّ ميكانيكا الكَمِّ. وفي الواقع فإنها تتضمَّن الشيء الوحيد الغامض … والغرائب الرئيسية في كل ميكانيكا الكَمِّ.» تتم التجربة على النحو الآتي. تخيَّل شاشةً من نوعٍ ما — ربما حائط — بها ثقبان صغيران. من الممكن أن يكونا شقَّين ضيقين كما في تجربة يونج الشهيرة للضوء — لكنهما صغيران — وقد يقوم بالمهمةِ نفسِها ثقبان مستديران صغيران. وعلى أحد جانبَي الحائط حائطٌ آخرُ به كشاف معيَّن. فإذا أجريت التجربة مع الضوء، فمن الممكن أن يكون الكشاف سطحًا أيضًا، يمكن عليه رؤية الضوء والحُزَم الداكنة، أو من الممكن أن يكون الكشاف لوحًا فوتوغرافيًّا، يمكن إظهار الناتج عليه ودراسته فيما بعد. وإذا تم العمل في وجود إلكترونات، فقد تبدو الشاشة مغطاةً بترتيبٍ مكوَّن من عددٍ كبير من كاشفات الإلكترونات، أو من الممكن تصوُّر استخدام كشاف متحرك على عجلٍ يمكن تحريكه كما نشاء لإيجاد عدد الإلكترونات التي تصل إلى بقعةٍ معينة على الشاشة. وليست التفاصيل مهمةً ما دامت هناك طريقةٌ ما لرصدِ ما يحدث على الشاشة. وعلى الجانب الآخر من الحائط المحتوي على الثقبين يوجد مصدر للفوتونات أو الإلكترونات أو أي شيء آخر. وقد يكون هذا المصدر مجرد مصباح أو قاذف إلكترونات مثل ذلك الذي يكوِّن الصورة على شاشة تلفزيونك، ومرة ثانية فإن التفاصيل غير ذات أهمية. ما الذي يحدث عند مرور هذه الأشياء خلال الثقبين لتصل إلى الشاشة؛ أيَّ نسق تصنع عندما تصل إلى الكشاف؟ لتصبح: وإذا قمنا بتجربةٍ من نفس النوع مستخدمين جسيماتٍ كبيرةً في حياتنا اليومية (تخيَّل فاينمان بغرابةٍ شديدةٍ تجربةً تتضمَّن مدفعًا رشاشًا يطلق طلقاته خلال الثقوب الموجودة على الحائط، وقد رُصَّت أجولةٌ مملوءة بالرمل عند الكشاف لالتقاط هذه الطلقات)، ولن نجد أيَّ «مدلول للتداخل»، وقد نجد بعد إطلاق عدد كبير من الطلقات خلال الثقوب أعدادًا مختلِفةً من الطلقات في الأجولة المختلفة. وعندما كان ثقبٌ واحد فقط هو المفتوح، فإن نسق انتشار الطلقات حول «الشاشة» ماثلَ تمامًا نسقَ توزيع الشدة لموجات الماء عندما كان ثقبٌ واحد مفتوحًا، ولكن عندما يكون كلا الثقبين مفتوحًا فإن نسقَ توزيع الطلقات في الأجولة يكون بالفعل مساويًا لمجموع التأثير الناتج من الثقبين المنفصلين، ومعظم الطلقات يوجد في المنطقة خلف الثقبين مباشرةً، ثم يتلاشى بهدوء دون وجودِ قممٍ أو قيعان نتيجةً للتداخل. وفي هذه الحالة، وباعتبار أن كل طلقة تمثِّل وحدةَ الطاقة، فإن توزيع الشدة يكون: وأنت تعلم ما سيأتي بعد ذلك. تخيَّل الآن أننا أجرينا التجاربَ نفسَها باستخدام الضوء والإلكترونات. وفي الحقيقة أُجْريَت تجربةُ الشق الطولي المزدوج مرات عديدة باستخدام الضوء، ونتج عن ذلك أنساقُ حيود بالضبط كما في مثال الموجات. لم تُجرَ تجربةُ الإلكترون بالطريقةِ نفسِها — هناك مشكلات عند إجراء التجارب بالنسبة إلى الأشياء الصغيرة — لكن أُجريت تجاربُ مماثلة لتشتُّت أشعة الإلكترونات عن ذرات موجودة في بلورات. وعليه وللمحافظة على عدم تعقيد الأمور سأتمسَّك بالتجربة الخيالية للشق الطولي المزدوج مترجِمًا ذلك إلى لغةِ النتائج غيرِ المبهمة التي نحصل عليها من تجارب الإلكترونات الحقيقية. فالإلكترونات مثل الضوء تمامًا تعطي نسقًا للحيود. إننا نستطيع أن نفهم بسهولةٍ كافية أن الموجة — قد تكون موجة ماء — تستطيع المرور خلال الثقبين في الحاجز. فالموجة شيء منتشر. لكن الإلكترون ما زال يبدو كجسيم حتى لو صاحبته خصائصُ تشبه الموجة. ومن الطبيعي أن نعتقد أن كل إلكترون منفرد «لا بد» وبالتأكيد أن يمرَّ خلال أحد الثقبين. ومن الممكن أن نحاول تجريبيًّا حجْبَ أحد الثقبين، كلٌّ على حدة، دوريًّا. وعندما نفعل ذلك فإننا نحصل على النسق المعتاد على الشاشة لتجارب الثقب الأوحد. أما عند فتح الثقبين معًا، فإننا لن نحصل على النسق الناتج من جمع النسقين معًا كما في حالة طلقات الرصاص. وبدلًا من ذلك فإننا سنحصل على نسق التداخل كما في حالة الموجات، وسنظل نحصل على النسقِ نفسِه حتى لو أبطأنا إطلاق الإلكترونات للدرجةِ التي يمر فيها إلكترون واحد فقط كلَّ لحظة خلال منظومة الثقبين. ونستطيع أن نخمِّن أن إلكترونًا واحدًا سيمر من خلال ثقب واحد ويصل إلى الكشاف ليأتي بعده إلكترون آخر وهكذا. فإذا انتظرنا صابرين ليمر عددٌ كافٍ من الإلكترونات فإن النسق الذي سيتكوَّن على شاشة الكشاف هو نسق حيود الموجات. ومن المؤكد أنه في حالة الإلكترونات والفوتونات إذا أجرينا ألف تجربة مماثلة في ألف معمل مختلِف وجعلنا جسيمًا واحدًا يعبر في كل تجربة، فسنجمع ألف نتيجة مختلفة، لكن بها كلِّها نسقٌ يتماشى مع الحيود تمامًا كما لو كنا قد جعلنا ألف إلكترون يعبرون معًا في واحدة من هذه التجارب. ويخضع الإلكترون المنفرد أو الفوتون المنفرد لقوانين الإحصاء عند عبوره من خلالِ أحدِ الثقبَين على الحائط؛ تلك القوانين التي لا تكون مناسبة إلا إذا «عُرف» أولًا أن الثقبَ الآخرَ مفتوح. وهذا هو الغموض المحوري في دنيا الكَمِّ. نستطيع محاولةَ الخداع، وذلك بغلق أو فتح أحد الثقبين بسرعةٍ في حين يكون الإلكترون في حالةِ انتقال خلال الجهاز. ولن يفيد ذلك؛ فالنسق على الشاشة دائمًا هو «الصحيح» لحالة الثقوب عند لحظة مرور الإلكترون من خلالها. ويمكن أن نختلس النظرَ «لنرى» من أيِّ الثقبين يمر الإلكترون. وعند إجراء تجربة مماثلة لهذه التجربة تأتي النتيجة أكثرَ غرابة. لنتخيل تصميمًا يسمح لنا بتسجيلِ أيُّ الثقبين يعبر الإلكترون من خلاله، ويتركه ليعبر ويصل إلى شاشة الكشاف. وهنا تسلك الإلكترونات مسلكًا عاديًّا كأي جسيمات في الحياة اليومية تحترم نفسها. ونرى الإلكترون دائمًا عند ثقب أو عند الآخر، وليس عند الثقبين أبدًا في آنٍ واحد. والآن فإن النسق الذي يتكوَّن على شاشة الكشاف سيكون مكافئًا تمامًا لنسق الرصاصات دون وجود أيِّ أثر للتداخل. وفي هذه الحالة، لا تعرف الإلكترونات ما إذا كان الثقبان مفتوحين أم لا فحسب، لكنها تعرف إذا كنا نراقبها أم لا، وعليه تُكيِّف من سلوكها وفقًا لذلك. ولا يوجد مثال أوضح من ذلك لتداخل المشاهد مع التجربة. وعندما نحاول النظرَ إلى موجة الإلكترون المنتشرة نجدها تنهار إلى جسيمٍ محدَّد، أما إذا كنا لا ننظر فإنها تتحرك هي نفسُها بكل الاحتمالات. وبمدلول احتمالات بورن فإن الإلكترون قد أصبح مضطرًّا، بناءً على قياساتنا، لاختيار مسارٍ واحد من احتمالات عديدة. فهناك احتمالٌ أكيد أن ينفُذ من أحد الثقبين، وهناك احتمالٌ مكافئ أن يتجه إلى الثقب الآخر، وينتج احتمال التداخل هذا نسق الحيود عند الكشاف. ولكن عندما نكتشف الإلكترون، يكون في مكان واحد مما يغيِّر من نسق الاحتمالية في المستقبل — بالنسبة إلى الإلكترون — ومعروف الآن بالتأكيد أيُّ الثقبين يمر منهما. أما إذا لم ينظر أحد إليه، فحتى الطبيعة نفسُها لا تعرف من أيِّ الثقبين مر الإلكترون. ما نراه هو ما يُعتَد به. فأيُّ مشاهدة تجريبية من التجربة تكون صحيحة فقط في نطاق التجربة ولا يمكن استخدامها لتدلنا على تفاصيلِ أشياءَ لم نشاهدها. ونستطيع القول إن تجربة الشق الطولي المزدوج تدلنا على أننا نتعامل مع موجات، وبنفس القدْر بالنظر فقط إلى النسق على شاشة الكشاف يمكن استنتاج أن بالجهاز ثقبين وليس ثقبًا واحدًا. وكلُّ ما يعنينا هو أن الجهاز والإلكترونات والمشاهد كلَّها مكوِّنات التجربة. ولن نستطيع القول إن الإلكترون يمر من خلال أحد الثقبين دون النظر إلى الثقبين أثناء مروره (وهذه تجربة مختلفة). يترك الإلكترون مصدرَ القذف ويصل إلى الكشاف ويبدو أنه يمتلك كلَّ الإعدادات التجريبية بما فيها المشاهد. وكما شرح فاينمان لمشاهديه في تلفزيون «بي بي سي» سنة ١٩٦٥ أنه إذا كان لديك جهازٌ قادر على أن يدُلك من أي الثقبين سيمر الإلكترون، فإنك تستطيع القول إنه سيمر من خلال ثقب أو من خلال الآخر. ولكن إذا لم يوجد جهاز يحدِّد أيُّ الثقبين قد مرَّ منه الإلكترون فحينئذٍ ليس في الاستطاعة القول إنه مر من ثقبٍ دون الآخر. وقال: «إذا جزمت أن الإلكترون يمر من ثقب وليس من الآخر دون مشاهدة ذلك، فهذا ادعاء خاطئ.» أصبح مصطلح «شامل» كلمة طنانة أسيء استخدامُها؛ الأمر الذي يجعلني مترددًا في استخدامها. إلا أنه ليس هناك تعبيرٌ مناسب أكثر لوصف عالَمِ الكَمِّ. إنه شامل، فيه الأجزاء ترتبط بشكلٍ ما بالكل. ولا يعني ذلك فقط كل إعدادات التجربة. ويبدو أن العالم يحتفظ بكل خياراته وكل احتمالاته متاحة لفترةٍ طويلة بقدرِ الإمكان. وأغرب شيء حول تفسير كوبنهاجن القياسي عن عالَمِ الكَمِّ هو أن رصد منظومة يرغمها على اختيار أحد الخيارات فقط، ويصبح هذا الخيار واقعًا. إن تداخل الاحتمالات في أبسطِ تجارب الثقبين يمكن تفسيره على أن الإلكترون عند تركه مصدرَ القذف يتلاشى ويحل محلَّه مجموعةٌ من الإلكترونات الأشباح يسلك كلٌّ منها مسارًا مختلفًا حتى تصل إلى شاشة الكشاف. تتداخل تلك الأشباح بعضها مع بعض، وعند النظر إلى الطريقة التي تكتشف بها هذه الإلكترونات عن طريق الشاشة، نجد حينئذٍ آثار هذا التداخل حتى لو كنا نتعامل مع إلكترون حقيقي واحد كلَّ مرة. وعلى كلٍّ، فإن وفرة الإلكترونات الأشباح هذه تصفُ الموقف فقط عندما لا ننظر إلى ما يحدث، أما عندما ننظر فتختفي كل الأشباح ما عدا واحدًا فقط، وهذا الواحد من الأشباح يتجسَّد كإلكترون حقيقي. وبمدلول معادلة شرودنجر للموجة فكلُّ واحد من الأشباح يعبِّر عن موجة، أو بالأحرى حزمة من الموجات التي اعتبرها بورن مقياسًا للاحتمالية. ويماثل مشاهدةُ شبح واحد يتبلور من بين إلكترونات عديدة — بمدلول تعبير الميكانيكا الموجية — اختفاءَ مجموعةِ موجات الاحتمالات ما عدا حزمةً واحدة من الموجات التي تصف إلكترونًا حقيقيًّا واحدًا. ويسمَّى هذا «انهيار الدالة الموجية»، ومع غرابة ذلك فإنه يقع في صلب تفسير كوبنهاجن الذي هو نفسه أساسُ طهي الكَمِّ. وعلى كلٍّ، فإن الأمر يدعو للشك، حيث إن العديد من الفيزيائيين ومهندسي الإلكترونيات وآخرين يستخدمون وهم سعداء كتابَ طهي الكَمِّ، مقدِّرين أن القواعدَ التي أثبتت أنه يمكن الاعتماد عليها في تصميم الليزر والحاسوب ودراسة المادة الجينية، تعتمد صراحةً على افتراض أن عددًا وافرًا من الجسيمات الأشباح تتداخل بعضها مع بعض طوال الوقت، وتندمج كلُّها في جسيمٍ وحيد حقيقي كحالة انهيار الدالة الموجية أثناء المشاهدة. وما هو أسوأ من ذلك، أنه في اللحظة التي نتوقَّف فيها عن مشاهدة الإلكترون أو أيِّ جسيمٍ آخرَ ننظر إليه فإنه ينشطر في الحال إلى عددٍ وافرٍ من الجسيمات الأشباح، يسلك كلٌّ منها مسارَه من الاحتمالات من خلال عالَمِ الكَمِّ. لا شيء حقيقي إلا عندما ننظر إليه، ويتوقَّف هذا الشيء عن أن يكون حقيقيًّا في اللحظة التي نتوقَّف فيها عن النظر إليه. الفيزياء مزعجة، لكن الرياضيات نظيفة وبسيطة، ومعادلاتها مألوفة لأي فيزيائي. وما دمتَ تتجنَّب السؤال عما تعنيه فليس هناك أيُّ مشكلة. ولو سألت لماذا العالَم على هذا الشكل، فإن الجواب حتى من فاينمان «ليس لدينا أي فكرة». ولو ظللت تصرُّ على صورةٍ فيزيائيةٍ لما يحدث لوجدتَ كلَّ الصور الفيزيائية تذوب في عالَمٍ من الأشباح تبدو فيه الجسيمات حقيقية فقط عندما ننظر إليها، وحتى خصائص مثل الزخم والموقع هي أشياء من صنْع المشاهدة. وليس من العجيب على الإطلاق أن نجد العديد من الفيزيائيين الأجلاء، ومن بينهم أينشتاين، يقضون العقودَ في محاولةِ إيجاد طرقٍ تدور حول هذا التفسيرِ لميكانيكا الكَمِّ. وقد باءت هذه المحاولات بالفشل، وهي المحاولات التي سنصفها بإيجاز في الفصل القادم. وكانت كل محاولة جديدة لإثباتِ عدمِ صحة تفسير كوبنهاجن تقوي أسسَ صورة عالَم أشباح الاحتمالات، وتمهِّد الطريقَ لما بعد ميكانيكا الكَمِّ، وتطوِّر صورةً جديدة للعالَم الشامل. وأساس هذه الصورة الجديدة هو التعبير الأقصى لمفهوم التكامل، لكن تظل هناك طلقةٌ أخيرة نعَضُّ عليها بالنواجذ قبل أن نتمكَّن من النظر في التضمينات. عادةً ما تمثِّل النسبيةُ العامة وميكانيكا الكَمِّ الانتصارين التوءمين للنظريات العلمية في القرن العشرين، وأن الكأس المقدَّسة للفيزيائيين اليوم هي التوحيد الحقيقي لهاتين النظريتين في نظريةٍ عظمى واحدة. وتدُل مجهوداتهم بكلِّ تأكيد، كما سنرى، على نفاذِ بصيرةٍ بطبيعةِ الكون. ولكن يبدو أن هذه المجهوداتِ لا تأخذ في حُسبانها حقيقةَ أنه بالمنطق الصارم لا يمكن التوفيقُ بين هاتين الصورتين للعالَم. وفي أول عرض لبور سنة ١٩٢٧ لِمَا أصبح معروفًا باسم تفسير كوبنهاجن، ركَّز على التناقضِ بين وصف العالَم من منطلقِ محاورِ الزمكان البحتة والسببية المطلقة من جهة، وبين صورةِ الكَمِّ التي يتداخل فيها المُشاهد ويصبح طرفًا في المنظومة التي يراها من جهة أخرى. وتمثِّل إحداثيات الزمكان الموقع، وتعتمد السببية على معرفةِ أين تتجه الأشياء بالضبط، وبصفة ضرورية معرفة زخمها. وتفترض النظريات الكلاسيكية أنك تستطيع معرفةَ الاثنين في آنٍ واحد، وتوضِّح ميكانيكا الكَمِّ أن الدِّقة في إحداثيات الزمكان تكون على حساب عدم اليقين من الزخم؛ ومن ثَم من السببية. ومن هذا المفهوم فإن النسبية العامة نظريةٌ كلاسيكية ولا يمكن اعتبارها مكافِئةً لميكانيكا الكَمِّ كأساس في وصف الكون. فإذا حدث وكان هناك تناقض بين النظريتين فلا بد من الرجوع إلى نظريةِ الكَمِّ لما بها من وصفٍ أفضلَ للعالَم الذي نعيش فيه.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/9/
المفارقات والاحتمالات
قام كلُّ هجوم على تفسيرِ كوبنهاجن بتعزيزِ مكانته أكثر. وعندما حاول مفكِّرون من أمثال أينشتاين إيجادَ عيوبٍ في النظرية، واستطاع المدافعون عنها التفنيد والرد على دفوع المهاجمين، خرجت النظرية أقوى بعد تلك المحاكمات. ومن المؤكد أن تفسير كوبنهاجن «صحيح» من جهةِ أنه قابل للاستخدام، وأي تفسير آخر لقواعدِ الكَمِّ لا بد أن يتضمَّن تفسير كوبنهاجن كرؤيةٍ قابلة للاستخدام، وأنها تُمكِّن التجريبيين من التنبؤ بنتائج تجاربهم على الأقل بالمعنى الإحصائي — وتُمكِّن المهندسين من تصميمِ أنظمةِ الليزر والكمبيوتر وخلافه. وليس هناك داعٍ للخوض في كل العمل الأساسي الذي أدَّى إلى تفنيد جميع الأطروحات المضادة لتفسير كوبنهاجن؛ فقد اضطلع بهذه المهمة آخرون بشكلٍ جيد. لكن ربما يكون من أهم الآراء المهمة التي ذكرها هايزنبرج سابقًا سنة ١٩٥٨ في كتابه «الفيزياء والفلسفة». حيث ركَّز هايزنبرج على أن كل المقترحات المضادة «مجبرة على أن تضحِّي بالتماثل الأساسي لنظريةِ الكَمِّ (مثلًا بالتماثل بين الموجات والجسيمات أو بين الموضع والسرعة). وعليه فمن الممكن جدًّا أن نقترح أنه لا يمكن تجنُّبُ تفسيرِ كوبنهاجن إذا ظلت خصائص التماثل … سمةً أساسية في الطبيعة، وأن كل تجربة تُجرى حتى الآن تعضِّد هذه الرؤية.» وقد أُدخل تحسينٌ على تفسير كوبنهاجن (ليس هجومًا ولا أطروحة مضادة) ما زال يتضمَّن هذا التماثل الأساسي، وأحسن صورة يمكن تقبُّلها لواقعِ الكَمِّ ستُشرح في الفصل الحادي عشر. وعلى كلٍّ، يكاد يكون غريبًا أن يغفل هايزنبرج عن ذكْرِ ذلك في كتابه المنشور سنة ١٩٥٨، حيث إن تلك الصورة الجديدة كانت قد ظهرت في ذلك الوقت بواسطةِ طالبِ دكتوراه في الولايات المتحدة. وعلى كلٍّ وقبل التطرُّق لهذا، من الصواب أن نقتفي أثرَ مسار اندماج النظرية بالتجربة الذي أُنجز بداية عام ١٩٨٢، وأرسى دون أدنى شكٍّ دقةَ تفسيرِ كوبنهاجن كرؤية قابلة للاستخدام في الواقعِ الكَمِّي. وتبدأ القصة بأينشتاين وتنتهي في معملٍ للفيزياء في باريس بعد ٥٠ عامًا، وهي واحدة من أعظم القصص في العالم. بدأ الجدل الكبير بين بور وأينشتاين حولَ تفسيرِ نظريةِ الكَمِّ عام ١٩٢٧ في مؤتمر سولفاي الخامس واستمر حتى وفاة أينشتاين عام ١٩٥٥. وراسل أينشتاين بورن حول الموضوع، ومن الممكنِ التقاطُ جانبٍ من هذا الجدل من «خطابات بورن-أينشتاين». كان محورُ هذا الجدل حول سلسلةٍ من الاختبارات الخيالية للتنبؤ بتفسير كوبنهاجن، ليست تجاربَ حقيقيةً أُجريت في المعمل، لكنها «تجارب ذهنية». حاول أينشتاين في هذه اللعبة أن يفكِّر في تجربةٍ يمكن فيها نظريًّا قياسُ شيئين مكمِّلين في اللحظة نفسِها — مثل موقع وكتلة الجسيم أو طاقته — بدقةٍ عند زمنٍ محدَّد، وهكذا. وعندئذٍ حاول بور وبورن أن يُظهِرا أن تجربةَ أينشتاين الذهنية لا يمكن ببساطة إجراؤها بالطريقة المطلوبة لسحْب البِساط من تحت أقدامِ النظرية. وتجربة «الساعة في الصندوق» هي أحد الأمثلة التي ستبيِّن كيف أُجريت اللعبة. قال أينشتاين: تخيَّل صندوقًا به ثقبٌ في أحد جدرانه، مغطًّى بحاجزٍ يمكن فتحُه ثم إغلاقه ثانية بتحكُّمٍ من ساعةٍ داخل الصندوق. وبجانب الساعة وآلية فتح وإغلاق الثقب، يكون الصندوق مليئًا بالإشعاع. جهِّز التجربة بحيث يُفتح غطاء الثقب عند لحظة معينة حُدِّدَت مسبقًا بواسطة الساعة ليسمح بمرور فوتون واحد ليهرب قبل أن يغلق ثانية. زنِ الصندوق في البداية ثم اسمح للفوتون بالهرب، ثم زنِ الصندوق ثانية. ولأن الكتلة هي طاقة، فالفرق بين الوزنين سيدُلنا على طاقة الفوتون الذي هرب. وعليه فإننا — من حيث المبدأ — سنعرف كميةَ طاقة الفوتون بالضبط والزمن الذي استغرقه الفوتون للمرور خلال الثقب، داحضين بذلك مبدأ عدم اليقين. وتوجد هذه التفاصيل وتفاصيل تجاربَ ذهنيةٍ أخرى تضمَّنتها مناقشاتُ أينشتاين-بور في كتاب أبراهام باي «خفي هو الرب» … أكَّد باي أنه ليس هناك شيء غريب في إصرار بور على ذكْر الوصف الكامل والتفصيلي للتجارب الخيالية، وفي هذه الحالة تُستخدم صواميل ومسامير لتثبيتِ إطارِ الميزان في موضعه، والزنبرك الذي يسمح بقياس الكتلة لا بد أن يسمح للصندوق بالحركة، وبإضافة الأوزان الصغيرة الضرورية، وهكذا، ولا بد من تفسير نتائج كل هذه التجارب بمدلول مصطلحات اللغة الكلاسيكية؛ لغة الواقع اليومي. ومن الممكن تثبيت الصندوق في مكانه تمامًا، وعليه فلن يكون هناك عدمُ يقين حول الموقع، لكن سيكون من المستحيل قياسُ التغير في الكتلة. وتنشأ معضلةُ عدمِ يقينِ الكَمِّ لأننا نحاول أن نعبِّر عن الأفكار الكَمِّية بلغة حياتنا اليومية، ولذلك أصرَّ بور على استخدام المسامير والصواميل في تجاربه. تقبَّل أينشتاين انتقاداتِ بور لهذه التجربة ولتجاربَ ذهنيةٍ أخرى، وفي أوائل ثلاثينيات القرن العشرين تحوَّل أينشتاين إلى نوعٍ جديد من الاختبارات الخيالية لقواعدِ الكَمِّ. كانت الفكرة الأساسية لهذا المدخل الجديد هي استخدام معلومات تجريبية لجسيم واحد لاستنتاجِ خصائصَ مثل الموضع والزخم لجسيم آخر. ولم يُحَل هذا النوع من الجدل قط في حياة أينشتاين، ولكن جرى اختباره بنجاحٍ الآن، ليس عن طريق التجارب الفكرية المحسنة، بل عن طريقِ تجاربَ حقيقيةٍ في المعمل. ومرة أخرى يفوز بور ويخسر أينشتاين. كانت نقطةُ الجدل، وفقًا لأينشتاين ومساعديه، أن تفسير كوبنهاجن لا بد أن يكون منقوصًا، ولا بد من وجودِ شيءٍ ما يجعل عمل الساعة التي تحرِّك الكون مستمرة، وهذا فقط هو ما يعطي الانطباع بعدم اليقين وعدم التنبؤ على المستوى الكَمِّي خلال التغيرات الإحصائية. قال أينشتاين وبودولسكي وروزين: تخيَّل جسيمين يتداخل كلٌّ منهما مع الآخر ثم يبتعدان أحدهما عن الآخر، ولا يتداخلان مع أي شيءٍ آخرَ إلى أن يقرِّر الشخص الذي يُجري التجربةَ فحصَ أحدِهما. ولكل جسيم زخمٌ خاص به، ويقع كلٌّ منهما في موقعٍ ما في الفضاء، وحتى بالنسبة إلى قواعدِ نظريةِ الكَمِّ فإنه مسموحٌ لنا بقياس الزخم الكلي للجسيمين معًا بدقه، بالإضافة إلى المسافة بينهما عندما كانا قريبين أحدهما من الآخر. وعندما نقرِّر قياسَ الزخم لأحدهما بعد فترةٍ طويلة فإننا نعلم تلقائيًّا ما يجب أن يكون عليه زخمُ الجسيم الآخر؛ حيث إن المجموع يجب ألا يتغيَّر. وبدلًا من ذلك نستطيع قياسَ الموقع الدقيق للجسيم الأول، وبنفس الأسلوب نستنتج موقعَ الجسيم الآخر. والآن قد ندفع بأن القياسات الفيزيائية لزخمِ الجسيم أ تُدمِّر معرفةَ موقعه الخاص، ومن ثم لن نستطيع أن نعرفَ موقعَه بالضبط، وكذلك بالمثل، فالقياسات الفيزيائية لموقع الجسيم أ تتسبَّب في اضطراب زخمه، الذي سيظل غيرَ معلوم، ولكن الأمر قد يبدو مختلفًا تمامًا لأينشتاين ورفاقه ليدفعوا بأن حالةَ الجسيم ب تعتمد على أي من القياسين نختار أن نُجري على الجسيم أ. كيف للجسيم ب أن «يعرف» هل يجب أن يكون له زخم محدَّد بدقة أو موقع محدَّد بدقة؟ ويبدو في عالمِ الكَمِّ أن إجراء قياسات على جسيم «هنا» يؤثِّر على شريكه «هناك»، وهذا يخالف السببية، وهو «الاتصال» التلقائي عبر الفضاء، وهو شيءٌ ما يُدْعى «الفعل عن بُعد». لكن أينشتاين كان رجلًا شريفًا ومستعدًّا دائمًا لتقبُّل الأدلة التجريبية المقنعة. ولو قُدِّر له أن يعيش ليرى الاختباراتِ التجريبيةَ الحديثة التي بيَّنت بجلاءٍ خطأَ تأثير أينشتاين وبودولسكي وروزين، لمالَ إلى الاعتراف بخطئه. فالواقعية الموضوعية ليس لها مكان في الوصف الأساسي للعالَم، لكن الفعل عن بُعد أو اللاسببية لها مثل هذا المكان. ولذلك فإن التحقُّق التجريبي من الأهمية بحيث يستحِقُّ أن نخصِّص له فصلًا قائمًا بذاته. ولكن أولًا، يجب أن نلقي نظرةً على بعض الاحتمالات المتناقضة الموروثة في قواعدِ الكَمِّ؛ الجسيمات التي تسافر إلى الوراء في الزمن، وأخيرًا قطة شرودنجر الشهيرة نصف الميتة. ويمثِّل الخط في شكل فاينمان مسارَ الإلكترون. فالإلكترون الذي يقبع في مكانه ولا يتحرك أبدًا يعطي خطًّا يتحرك إلى أعلى الصفحة معبِّرًا عن حركةٍ في اتجاه الزمن فقط، أما الإلكترون الذي يغيِّر من مكانه ببطء، والذي يتحرك كذلك مع سريان الزمن فيمثِّله خطٌّ بزاويةِ ميلٍ ضئيلة بالنسبة إلى الخط الرأسي، لكن الإلكترون الذي يتحرك بسرعة فإنه يكوِّن زاويةً أكبرَ مع «خط العالم» لجسيمٍ ثابت. ويمكن أن تكون الحركة في الفراغ في أيٍّ من الاتجاهين اليسار أو اليمين، وربما يكون الخط هنا متعرجًا إذا حادَ الإلكترون نتيجةَ التصادم مع جسيماتٍ أخرى. ولكن في عالَمنا اليومي أو في أشكال عالم الزمكان البسيط في النظرية النسبية فإننا لن نتوقَّع لخطِّ العالَم أن يرجع للخلف ويتقدَّم إلى أسفل الصفحة؛ لأن هذا سيعني التحرُّك إلى الوراء في الزمن. ومرةً أخرى، يمكن تمثيل التداخل الكلي ببساطة في شكل فاينمان. فالفوتون الذي يرحل عبْر الزمان والمكان يكوِّن تلقائيًّا زوجًا من إلكترون وبوزيترون، ويتحرك الإلكترون في مساره، ويقابل البوزيترون إلكترونًا آخر ويتلاشيان، ويترك الساحة فوتون آخر. لكن الاكتشاف الدرامي الذي توصَّل إليه فاينمان سنة ١٩٤٩ في وصف الزمكان، هو أن البوزيترون المتحرِّك إلى الأمام في الزمان يكافئ تمامًا الوصفَ الرياضي لتحرُّك إلكترون إلى الخلف في الزمان على مسارِ شكلِ فاينمان نفسِه. ومع أن الفوتونات هي نفسُها جسيماتٌ مضادة، إلا أنه ليس هناك اختلافٌ في هذا الوصفِ بين فوتون يتحرَّك إلى الأمام في الزمان، وآخرَ يتحرَّك إلى الوراء في الزمان. ولكل الأغراض العملية يمكن أن نمحو أسهم مسار الفوتون في الشكل ونعكس مسار البوزيترون لنجعله إلكترونًا. ويدُلنا شكل فاينمان نفسُه على قصة أخرى، عندما يتقدَّم إلكترون عبر الزمان والمكان ويقابل فوتونًا عالي الطاقة، فإنه يمتصه ثم يتشتَّت إلى الخلف في الزمان حتى يطلق فوتونًا نشطًا آخرَ ويرتدُّ بطريقةٍ ما إلى الأمام في الزمان مرة أخرى، وبدلًا من ثلاثة جسيمات، إلكترونين وبوزيترون في رقصة معقَّدة، يصبح لدينا جسيمة واحدة، إلكترون يتحرَّك بشكلٍ متعرِّج عبر الزمان والمكان متصادمًا مع الفوتونات هنا وهناك خلال مساره. وبمدلول هندسة الأشكال فإن هناك تشابهًا واضحًا بين مثال الإلكترون الذي يمتص فوتونًا ذا طاقةٍ منخفضة ويغيِّر من مساره قليلًا ثم ينبعث منه فوتون ويغيِّر من اتجاهه مرةً أخرى، وبين الإلكترون الذي يتشتَّت بعنفٍ عند التداخل مع فوتون يتحرَّك إلى الوراء في الزمن أثناء فترةٍ معينة من حياته. وهناك خطٌّ متعرِّج في كلتا الحالتين له ثلاثةُ مقاطع مستقيمة وزاويتان. والاختلاف هنا فقط أنه في الحالة الثانية تكون الزوايا أكثرَ حدةً عنها في الحالة الأولى. وكان جون ويلر أولَ مَن امتلك البصيرة ليقول إن النمطين المتعرِّجين يمثِّلان النوعَ نفسَه من الأحداث، لكن فاينمان كان أول مَن برهن على التطابق الرياضي المضبوط بين الحالتين. وهناك الكثيرُ مما يمكن استيعابُه أكثر حتى مما تقابله العينُ للوهلة الأولى. لذا دعونا نحلِّل الأمرَ جزءًا جزءًا: أولًا: لقد ألقيت بهذه الملحوظةِ التي تتعلَّق بأن الفوتون هو نفسه جسيمه المضاد، ولهذا نستطيع أن نزيل الأسهم من مسارات الفوتون. فالفوتون الذي يتحرَّك إلى الأمام في الزمان هو نفسه الفوتون المضاد الذي يتحرك إلى الوراء في الزمان، ولكن الفوتون المضاد هو فوتون كذلك، وعليه فإن الفوتون المتحرِّك إلى الأمام في الزمان هو نفسه فوتون متحرِّك إلى الوراء في الزمان. فهل هذا غريب عليك؟ يجب أن يكون الأمر كذلك. وبعيدًا عن أي شيء آخر، فإن هذا يعني أننا عندما نرى ذرةً في حالةٍ مثارة تنبعث منها طاقةٌ وتسقط إلى الحالة الأرضية المستقرة، فإنه يمكن القول هنا إن طاقة كهرومغناطيسية تتحرَّك للوراء في الزمان ووصلت للذرة محدِثةً الانتقال. وهذا ليس من السهل تصوُّره؛ لأننا الآن لا نتكلم عن فوتون بمفرده يتحرَّك في خط مستقيم عبر المكان، بل نتحدَّث عن غلافٍ كروي متمدِّد من الطاقة الكهرومغناطيسية، وجبهة موجة تنتشر من الذرة في جميع الاتجاهات وتتشوَّه وتتشتَّت أثناء سيرها. وينتج عن عكسِ هذه الصورةِ عالَمٌ به جبهةُ موجةٍ كروية الشكل تمامًا متمركزة حول ذرتنا المختارة، لا بد أن تنشأ بواسطة الكون ناتجة من سلسلة من عمليات التشتُّت، تعمل معًا ثم تتجمَّع لتتقارب على هذه الذرة المعنية. لكن ما الذي «يراه» الفوتون نفسُه كسهم للزمن؟ نحن نعرف من النظرية النسبية أن الساعات المتحركة تسير ببطء، وأنها تسير بإيقاعٍ أبطأ عندما تتحرك مقتربةً من سرعة الضوء، وبالفعل عند سرعة الضوء يتوقَّف الزمان ساكنًا فتتوقف الساعة. يتحرك الفوتون طبيعيًّا بسرعةٍ تعادل سرعة الضوء، وهو ما يعني أن الزمن لا يعني شيئًا للفوتون. فالفوتون الذي يترك نجمًا بعيدًا ويصل إلى الأرض قد يستغرق في هذه الرحلة آلاف السنين إذا قيس ذلك بساعات الأرض، ولكنه لا يستغرق أيَّ زمن على الإطلاق بالنسبة إلى الفوتون نفسِه. وقد يكون الفوتون الموجود من الخلفية الإشعاعية الكونية من وجهة نظرنا قد قطع نحو ١٥ ألف مليون سنة من الانفجار الكبير الذي بدأ به الكون الذي نعرفه، لكن الانفجار الكبير وحاضرنا يعنيان الزمانَ نفسَه بالنسبة إلى الفوتون. وليس هناك سهمٌ في مسار الفوتون في شكل فاينمان، ليس فقط لأن الفوتون هو نفسُه جسيمه المضاد، لكن لأن الحركة عبر الزمان بالنسبة إلى الفوتون ليست ذات معنًى، ولهذا فإن الفوتون هو جسيمه المضاد. فشل المتصوِّفون ومبسِّطو الأمور الذين يبحثون في مساواة الفلسفة الشرقية بالفيزياء الحديثة في الوصول إلى هذه النقطة، وهي النقطة التي تخبرنا أن كلَّ شيء في الكون، الماضي والحاضر والمستقبل، متصلٌ بكل شيءٍ آخر بشبكةٍ من الإشعاع الكهرومغناطيسي الذي «يرى» كل شيء في اللحظةِ نفسِها. ومن الطبيعي أن الفوتونات يمكن أن تُخلق وأن تُدمَّر، ولذلك فإن الشبكة ليست مكتملة، لكن مسار الفوتون في الواقع خلال الزمكان ربما يربط بين عيني وبين النجم القطبي. ولا توجد حركةٌ حقيقية في الزمان ترى مسارًا يتطوَّر من النجم إلى عيني، هذا مجرد إدراك حسي من وجهة نظري. وهناك وجهة نظر أخرى لها نفس القدْر من الصلاحية ترى المسارَ سمةً أبدية يتغيَّر حولها الكون، وأحد الأشياء التي تحدُث خلال هذه التغيُّرات في الكون أنه قد توجد عينِي والنجم القطبي عند نهايتين متضادتين للمسار. أجرى فرانك تبلر، عالِم الرياضيات الأمريكي الحساباتِ التي تبرهن على أن مثل هذه الحيلة ممكنةٌ نظريًّا. فمن الممكن تشويه الزمكان بواسطةِ مجالِ جاذبية قوي، وآلة تبلر الخيالية للسفر عبر الزمن هي أسطوانة ذات كتلة كبيرة تحتوي على مادةٍ تعادل ما في شمسنا معبَّأة في حجم طوله ١٠٠كم ونصف قطره ١٠كم وكثيف مثل كثافة النواة في الذرة، ويدور مرتين كل ملِّي ثانية، ويجر من حوله نسيج الزمكان. ويتحرَّك سطح الأسطوانة بسرعةٍ تعادل نصف سرعة الضوء. هذا نوعٌ من الأشياء التي لن يبنيها أكثرُ المخترعين جنونًا في ساحةِ منزله الخلفية، ولكن المقصود هنا أن ذلك مسموحٌ به بواسطة كل قوانين الفيزياء التي نعرفها. وهناك جسمٌ في الكون له كتلة شمسِنا نفسِها وكثافة نواة الذرة ويدور حول نفسِه كل ١٫٥ ملِّي ثانية، لكنه أبطأ ثلاث مرات من آلة تبلر للسفر عبر الزمن. ويُطلق على هذا الجسم «النابض ذو الملِّي ثانية» الذي اكتُشف سنة ١٩٨٢. ومن المستبعَد تمامًا أن يكون هذا الشيء أسطوانيًّا؛ فمن المؤكد أن الدوران الشديد قد جعله مسطَّحًا على شكل فطيرة. ومع ذلك، فلا بد أن يكون هناك تشويه غريب للزمكان بالقرب منه. وربما لا يكون الزمن «الواقعي» للسفر مستحيلًا، لكنه مجرَّد غاية في الصعوبة وغير محتمل للغاية. وهذه النهاية الهشة لما يمكن أن يكون وتدًا صُمِّم ليجعل اعتياد السفر عبر الزمن عند المستوى الكَمِّي، على كل حال، يبدو أكثرَ قبولًا قليلًا. وتسمح نظريةُ الكَمِّ والنظرية النسبية بنوعٍ أو بآخر من السفر عبر الزمن، وأي شيء مقبول لهاتين النظريتين لا بد أن يؤخذ مأخذَ الجِد مع ما يبدو عليه هذا الشيء من تناقض. فالسفر عبر الزمان في الواقع هو جزءٌ لا يتجزأ من بعض السمات الغريبة في عالم الجسيمات؛ حيث يمكن فيها أن تحصل على شيءٍ من لا شيء، إذا كنت سريعًا بما فيه الكفاية. في سنة ١٩٣٥، اقترح هيديكي يوكاوا الذي كان في ذلك الوقت يبلغ من العمر ٢٨ عامًا ويعمل محاضرًا في الفيزياء بجامعة أوساكا، تفسيرًا لكيفية تماسك النيوترونات والبروتونات في نواة الذرة بالرغم من الشحنة الموجبة التي تميل إلى تفجيرِ النواة بواسطة القوى الكهربية. ومن الواضح أنه لا بد من وجودِ قوةٍ أقوى تتغلب على القوى الكهربية تحت الظروف المناسبة. وتحمل الفوتونات القوى الكهربية، وقد أقرَّ يوكاوا بأن هذه القوى النووية لا بد هي الأخرى أن تكون جسيمًا. أصبح الجسيم يُعرف ﺑ «الميزون»، وذلك باستخدامِ قواعدِ الكَمِّ للنواة. والميزونات مثل الفوتونات، هي الأخرى بوزونات لكن بحركةٍ مغزلية مقدارها الوحدة وليس صفرًا، وتختلف عن الفوتونات في أن متوسط عمرها قصير جدًّا، ولهذا السبب فإنها لا تُرى خارج النواة إلا تحت ظروف خاصة. وفي الوقت المناسب، اكتُشفت عائلة من الميزونات ليست بالضبط كما تنبَّأ يوكاوا، لكن قريبة من تنبُّئه بما فيه الكفاية، لتبيِّن أن فكرة تبادل الجسيمات النووية للميزونات كحاملٍ للقوى النووية القوية تعمل بشكلٍ مشابه لتبادل الفوتونات كحامل للقوى الكهربية، وقد نال يوكاوا عن استحقاقٍ جائزةَ نوبل في الفيزياء سنة ١٩٤٩. هذا التأكيد على أن القوى النووية، إضافةً إلى القوى الكهربية، يمكن أن يُنظر إليها استنادًا إلى التفاعلات فحسب بمثابةِ حجر الزاوية لرؤية الفيزيائيين في العالَم اليوم. وتُعدُّ كل القوى الآن تفاعلاتٍ. ولكن من أين تجيء تلك الجسيمات التي تحمل التفاعلات؟ تجيء من لا مكان؛ أي التوصُّل إلى شيءٍ من لا شيء، وفقًا لمبدأ عدم اليقين. وهكذا فإن البروتون هو مركزُ سحابةٍ من النشاط أكثر من الإلكترون. وفي حين يتحرَّك البروتون الحر في مساره عبر المكان (والزمان) فإنه يطلق ويعيد امتصاصَ فوتونات افتراضية وميزونات افتراضية. ولا تزال هناك طريقةٌ أخرى للنظر إلى هذه الظاهرة. تخيَّل أن بروتونًا واحدًا فقط ينبعث منه بيون واحد فقط ويُعاد امتصاصه. أمر بسيط. لكن لتنظر إلى ذلك بطريقةٍ أخرى: أولًا هناك بروتون واحد، ثم بروتون واحد وبيون، وفي النهاية بروتون واحد مرة أخرى. ولأن البروتونات جسيماتٌ لا يمكن تمييز بعضها عن بعض فإننا أحرار لأن نقول إن البروتون الأول قد اختفى وأعطى طاقةَ كتلته علاوةً على القليل الذي اقترضه من مبدأ عدم اليقين ليكوِّن بيونًا وبروتونًا جديدًا. وفور ذلك يتصادم الجسيمان ويختفيان ليكوِّنا في هذه العملية بروتونًا ثالثًا، وتحتفظ بتوازن الطاقة في الكون. ولماذا التوقف هناك؟ ولماذا لا يتنازل بروتوننا الأصلي عن طاقته مع القليل من الزيادة ليكوِّن نيوترونًا وبيونًا موجب الشحنة؟ هذا ممكن. ولماذا حينئذٍ لا يستطيع بروتون أن يتبادل هذا البيون الموجب الشحنة مع نيوترون «ليصبح» نيوترونًا، والنيوترون «يصبح» بروتونًا؟ وهذا أيضًا ممكن تمامًا، مثل إمكانية حدوث العمليات العكسية المتضمَّنة للنيوترونات و«هي تتحوَّل» إلى بروتونات وبيونات سالبة الشحنة. بدأت الأمور تتعقَّد الآن؛ حيث لا يوجد أيُّ سبب للتوقُّف هنا. فبالمثل يمكن لبيون وحدَه أن يتحوَّل إلى نيوترون وبروتون مضاد، وذلك لمدة قصيرة قبل أن يعود مرةً أخرى لحالته الطبيعية، ويمكن أن يحدث هذا لبيون افتراضي، هو نفسُه جزء من نسق فاينمان المكوَّن من بروتون أو نيوترون. ويمكن لبروتون أثناء تقدُّمه في طريقه أن ينفجر لينتج عن ذلك شبكةٌ من الجسيمات الافتراضية تطن وتتفاعل جميعها بعضها مع بعض، ثم تخفت عائدةً إلى ما كانت عليه، ويمكن النظر إلى جميع الجسيمات كناتج اتحاد جسيمات أخرى متضمنة فيما أطلق عليه فريتوف كابرا «الرقص الكوني». ولم تنتهِ القصة بعد. وحتى الآن لم نحصل على شيء من لا شيء، مع أننا قد حصلنا على الكثير مقابل القليل. والآن دعونا ندفع الأمورَ إلى أقصى ما يمكن. إذا كان هناك عدمُ يقين متأصل للطاقة المتاحةِ لجسيمٍ لفترة قصيرة كافية من الزمن، فمن الممكن أن نقول أيضًا إن هناك عدم يقين متأصل عما إذا كان الجسيم موجودًا أم لا في زمنٍ قصيرٍ كافٍ. وشريطة اتباع قواعد معينة مثل الحفاظ على الشحنة الكهربية، والتوازن بين الجسيمات والجسيمات المضادة، ليس هناك ما يوقف ظهورَ مجموعةٍ كاملة من الجسيمات من لا شيء يتَّحد بعضها مع بعض بعدَ ذلك، ثم تختفي قبل أن يلاحظ الكون ككل هذا التعارض. وقد يظهر إلكترون وبوزيترون من لا شيء على الإطلاق بشرطِ أن يختفيا بسرعةٍ كافية، ويمكن لبروتون وبروتون مضاد أن يفعلا الشيء نفسَه. ونستطيع القول بتحفُّظ شديد إن الإلكترون يستطيع فقط القيام بهذه الحيلة بمساعدة فوتون، وكذلك البروتونات بمساعدة ميزون ليقدِّما «التشتُّت» المطلوب. فالفوتون الذي ليس له وجود يكون زوجًا من بوزيترون/إلكترون يتلاشى بعد ذلك ليكوِّن الفوتون الذي كان قد كوَّنهما في بادئ الأمر، ولنتذكر: لا يعرف الفوتون الفرْق بين الحاضر والمستقبل. وكبديلٍ عن هذا، يمكن أن نتصوَّر الإلكترونَ وهو يقتفي أثرَ ذيله في دوامة من الزمن. يظهر أولًا قافزًا من الفراغ كما يخرج الأرنب من قبعة الساحر، ثم يرحل إلى الأمام في الزمن لمسافةٍ قصيرة قبل أن يلاحظ أنه أخطأ، معترفًا بعدم واقعيته فيعود مرة ثانية من حيث أتى — إلى الوراء عبر الزمن إلى نقطة البداية. وهناك يغيِّر من اتجاهه مرةً ثانية، وهكذا تتواصل الحلقة، وبمساعدة التفاعل مع فوتون — حدث تشتُّت عالي الطاقة — عند كل «طرف» من الحلقة. ووفقًا لأفضل نظرياتنا عن سلوك الجسيمات، فإن الفراغ ما هو إلا كتلة مضطربة من الجسيمات الخيالية في حدِّ ذاتها، حتى إذا لم توجد جسيمات «حقيقية». وهذه ليست مجرَّد طنطنة عديمة الجدوى بواسطة المعادلات؛ لأنه من دون السماح لتأثير تلك التقلُّبات الفراغية، فإننا ببساطةٍ لن نصل إلى الحل الصحيح للمشكلات المتضمنة لتشتُّت الجسيمات حيث يشتِّت بعضها بعضًا. وهذا دليل قوي على أن النظرية — المبنية مباشرة على علاقات عدم اليقين، لو نذكر — صحيحة. فالجسيمات الافتراضية وتقلبات الفراغ أمرٌ واقعي كباقي نظريةِ الكَمِّ؛ واقعي كازدواجية الموجة/الجسيم، ومبدأ عدم اليقين، والفعل عن بُعد. وفي عالَمٍ مثل هذا ليس من العدل مطلقًا أن نطلق على لغز قطة شرودنجر أنه تناقض بالمرة. إلا أن المفهوم الذي وراء هذه التجربة الذهنية بسيط جدًّا. اقترح شرودنجر أننا يجب أن نتصوَّر صندوقًا يحتوي على مصدرٍ مشعٍّ وكشاف لتسجيل الجسيمات المشعة (ربما عدَّاد جايجر) وزجاجة تحتوي على سمٍّ مثل السيانيد، وقطة حية. وقد رُتِّبت الأدوات في الصندوق بحيث يمكن تشغيلُ الكشافِ لمدة كافية فقط لتحقق فرصة ٥٠٪ أن تتفكك إحدى الذرات من المادة المشعة، وأن يسجل الكشاف وجود جسيم. وإذا سجَّل الكشاف مثل هذا الحدث فستنكسر الزجاجة وتموت القطة، وإذا لم يحدث فستعيش القطة. وليس لدينا أي وسيلة لمعرفةِ ما حدث في التجربة إلى أن نفتح الصندوق وننظر داخله، ويحدث التفكُّك الإشعاعي بالصدفة البحتة، ولا يمكن التنبؤ به إلا بالمعنى الإحصائي. وطبقًا لتفسير كوبنهاجن الصارم، وتمامًا كما في تجربة الثقبين؛ حيث تكون فرصة الإلكترون في المرور من أحد الثقبين متساوية، وينتج من هذين الاحتمالين المتداخلين تراكبٌ للحالات، وعليه فإنه في هذه الحالة تتساوى فرصة حدوث التفكُّك الإشعاعي وعدم حدوث التفكك الإشعاعي، ويجب أن يؤدي ذلك إلى تراكب الحالات. وتخضع التجربة بأكملها، القطة وخلافه، للقاعدة القائلة بأن التراكب حقيقيٌّ إلى أن ننظر إلى التجربة، وعند هذه اللحظة فقط من المشاهدة تنهار الدالة الموجية إلى إحدى الحالتين. وإلى أن ننظر إلى الداخل فهناك عينة مشعة قد تكون تفكَّكت أو لم تتفكك، وزجاجة بها سمٌّ مكسورة أو سليمة، وقطة حية وميتة، أو لا حية ولا ميتة. يمكن أن نتصوَّر جسيمًا أوليًّا مثل إلكترون ليس هنا أو هناك، لكن في تراكبٍ ما للحالات، لكن يكون الأمر أكثرَ صعوبة أن نتخيل شيئًا مألوفًا مثل قطة في هذا الوضع من الحياة المعلَّقة. فكَّر شرودنجر في هذا المثال ليثبت أن هناك عيبًا في تفسير كوبنهاجن الصارم؛ حيث إنه من الواضح أن القطة لا يمكن أن تكون حية وميتة في آنٍ واحد. ولكن هل هذا أكثرُ «وضوحًا» من «حقيقة» أن الإلكترون لا يمكن أن يكون جسيمًا وموجةً في الوقت نفسه؟ لقد اختُبر الحسُّ السليم بالفعل كدليل للواقعِ الكَمِّي وتبيَّن أنه يُعوِزه الكثير. والشيء المؤكَّد الذي نعرفه هو أن عالِمَ الكَمِّ لا يثق بالحس السليم، ويعتقد فقط في الأشياء التي نستطيع رؤيتها أو تسجيلها بأجهزتنا دون لبْس. فلن نعرف ماذا يدور داخل الصندوق ما لم ننظر فيه. استمر الجدل حول القطة في الصندوق لمدة ٥٠ عامًا. وقد قالت إحدى المدارس الفكرية إنه ليس هناك أيُّ مشكلة لأن القطة قادرة تمامًا على أن تقرِّر هي نفسُها ما إذا كانت حية أو ميتة، وأن وعي القطة كافٍ ليقدح انهيار الدالة الموجية. وفي هذه الحالة، أين سنضع خط النهاية؟ فهل النملة أو البكتيريا على علمٍ بما جرى؟ وإذا تحرَّكنا في اتجاهٍ آخر، وحيث إن هذه التجربة ليست سوى تجربة ذهنية فقط، فلنا أن نتصوَّر إنسانًا متطوعًا قد أخذ مكان القطة في الصندوق (يشار أحيانًا إلى المتطوع «صديق ويجنر» على اسم يوجين ويجنر الذي فكَّر بعمق حول تحويرات في تجربة القطة في الصندوق، وبالمصادفة كان يوجين صهر ديراك). ومن الواضح أن الإنسان في الصندوق ملاحظٌ واعٍ ولديه المقدرة من وجهة نظر ميكانيكا الكَمِّ أن يُحدِث انهيارًا لدالات الموجة. وعندما نفتح الصندوق مفترضين أننا محظوظون بما فيه الكفاية ونجد الإنسان ما زال حيًّا، فإننا سنكون متأكدين تمامًا أنه لن يشير إلى أي خبرة غريبة، بل إن الأمر ببساطة هو أن مصدر الإشعاع قد فشل في إنتاجِ أيِّ جسيم في الوقت المناسب. إلا أنه بالنسبة إلينا نحن الموجودين خارج الصندوق، الشيء الوحيد الصحيح حول ما يجري داخل الصندوق هو تراكب الحالات إلى أن ننظر داخله. وسلسلة الأحداث بلا نهاية. تصوِّر أننا قد أعلنا التجربة مقدمًا إلى العالم الفضولي، ولكن لِنتجنَّب تدخُّل الإعلام أجرينا التجربة خلف الأبواب المغلقة. وحتى بعد فتح الصندوق وترحيبنا بصديقنا أو سحب الجثة من الصندوق إلى الخارج، لن يعرف مندوبو الإعلام في الخارج ما الذي يجري. فبالنسبة إليهم يكون البناء الذي به معملنا ككل في حالةٍ من تراكبٍ للحالات. وهكذا نعود إلى حالة تراجع لا نهائي. لكن لنفرض أننا وضعنا مكانَ صديقِ ويجنر حاسوبًا. يستطيع الحاسوب أن يسجِّل المعلومات عن التفكك الإشعاعي أو عن عدم حدوثه. فهل يستطيع الحاسوب أن يُحدِث انهيارًا للدالة الموجية (على الأقل داخل الصندوق)؟ ولمَ لا؟ إلا أنه وفقًا لوجهةِ نظرٍ أخرى ما يهم ليس الإدراك البشري لما أسفرت عنه التجربة أو حتى إدراك أي مخلوق حي، لكن الحقيقة أن ما نتج عن هذا الحدث على المستوى الكَمِّي قد سُجِّل أو ترك تأثيرًا على العالم الماكروي. وقد تكون الذرة المشعة في تراكبٍ للحالات، لكن بمجرد «نظر» عدَّاد جايجر لناتج التفكك، تصبح الذرة مجبرةً على الوجود في حالة أو في أخرى؛ أي أنها تفكَّكت أو لم تتفكك. وهكذا يكتنف تجربة القطة في الصندوق تناقض، على خلاف تجربة أينشتاين وبودولسكي وروزين الذهنية. فمن المستحيل التوافُق مع تفسير كوبنهاجن الصارم دون قبول «واقع» القطة الحية/الميتة، وقد أدَّى ذلك بويجنر وجون ويلر إلى أن يعتبرا احتمالَ أن العالم ككل ربما يَدين بوجوده «الواقعي» إلى حقيقةِ أنه قد يُشاهد بواسطة الكائنات الذكية فقط، ويرجع ذلك إلى تراجعٍ غيرِ محدودٍ للسبب والأثر. وأغلب تناقضات كل الاحتمالات المتأصلة في نظريةِ الكَمِّ تنحدر مباشرةً من تجربة القطة لشرودنجر التي تقف فجأةً مما يسميه ويلر تجربة الاختيار المتأخر. كانت هناك خطة تآمرية على ألا يتفقوا على الشيء المطلوب تخمينه، لكن كان هناك اتفاقٌ على أن كل شخصٍ عندما يُسأل فعليه أن يعطي إجابةً نزيهة تتعلَّق بشيء حقيقي يدور في ذهنه ويتوافق مع كل الإجابات التي طُرحت من قبل. وكلما استمر الحاضرون في اللعب أصبح الأمر أكثرَ صعوبةً للسائل وللمطروح عليهم الأسئلة. ما علاقة هذا بنظريةِ الكَمِّ؟ مثل مفهومنا عن العالَم الواقعي الموجود هناك عندما لا ننظر إليه، تصوَّر ويلر أن هناك إجابةً واقعية للشيء الذي يحاول التعرُّف عليه. لكن لم تكن هناك إجابة؛ فكلُّ ما كان واقعيًّا هي الإجابات عن الأسئلة، بالطريقة نفسها التي يكون بها الشيء الوحيد الذي نعرفه عن عالَمِ الكَمِّ هو نتائج تجاربنا، وقد نتج جواب السحاب بشكلٍ ما نتيجةَ طرح الأسئلة، وبالمنطق نفسِه فإن الإلكترونات كانت نتيجةَ عمليةِ التحقُّق التجريبي الدقيق. وتُركِّز القصة على أن المحور الأساسي لنظريةِ الكَمِّ هو أنه ليس هناك ظاهرة أولية يقال عنها ظاهرة إلى أن تُسجَّل كظاهرة. وهذه الطريقة في التسجيل من الممكن أن تؤدي حيَلًا غريبة في مفهومنا اليومي للواقع. وليوضِّح ويلر هذه المقولة أجرى تجربةً ذهنية أخرى، وهي تحوير لتجربة الشقين، وفي هذه النسخة من اللعبة ربط الشقين بعدسةٍ لتركيز الضوء المار خلال المنظومة، وجرى استبدال الشاشة القياسية بعدسةٍ أخرى تجعل الفوتونات القادمة من كلا الشقين تتباعد. وكل فوتون يعبر خلال أحد الشقين يتجه إلى الشاشة الثانية، ثم يحيد لوجود العدسة الثانية في اتجاه الكشاف الموجود إلى اليسار، إلى جانب أن الفوتون الذي يعبر خلال الشق الآخر سيتجه إلى الكشاف الموجود ناحية اليمين. وبهذا الإعداد للتجربة، فإننا نعرف أيَّ شق مرَّ خلاله كل فوتون. وبكل تأكيد فإن مثل تلك النسخة من التجربة التي نراقب فيها كل شق، لكي نرى كل فوتون يمر، تمامًا كما في حالة التجربة التي لو سمحنا فيها لفوتون واحد عند زمنٍ معيَّن أن يمر خلال الجهاز، فإننا من دون أي لبْسٍ سنحدِّد المسار الذي يتبعه الفوتون، ولا يوجد هنا تداخل لعدم وجود أي تراكب للحالات. والآن فلنعدِّل في الجهاز مرةً ثانية. نغطي العدسة الثانية بفيلم فوتوغرافي على شكل شرائح طولية كتلك المستخدَمة في النوافذ. ويمكن إغلاق هذه الشرائح الطولية لتكوِّن شاشةً محكمةً تمنع الفوتونات من العبور خلال العدسة والحيود. أو يمكن فتح هذه الشرائح لتسمح للفوتونات بالمرور كما كان في السابق. الآن عندما كانت الشرائح الطولية مغلقة، تصل الفوتونات إلى الشاشة كما في حالة تجربة الثقبين الكلاسيكية. وليس هناك وسيلةٌ تدُلنا من أي الثقبين مرَّ الفوتون، ويوجد الآن نسقُ تداخل كما لو أن كل فوتون منفرد قد مرَّ خلال الثقبين في اللحظةِ نفسها. وهنا تظهر الخدعة في هذه التجربة. فليس من الضروري أن نقرِّر ما إذا كانت الشرائح الطولية مفتوحة أو مغلقة إلا بعد مرور الفوتون خلال الثقبين. فمن الممكن أن ننتظر حتى يمر الفوتون خلال الشقين، وعندئذٍ نقرِّر هل سنجري تجربةً يمر فيها الفوتون خلال ثقب واحد أو خلال الثقبين معًا. وفي تجربة الاختيار المتأخر هذه هناك شيء نفعله له تأثيرٌ لا يمكن تتبُّعه من حيث ما الذي نستطيع قوله عن الماضي. فتاريخ فوتون واحد على الأقل يعتمد على اختيارنا كيفيةَ إجراء القياسات. إلى أي مدًى يمكن الدفع بهذا المفهوم؟ سيخبرك طهاةُ الكَمِّ السعداء، وهم يجهِّزون أجهزةَ الحاسوب، ويتعاملون مع المادة الوراثية، أن كلَّ ذلك ما هو إلا تخمينات فلسفية ليس لها أي معنًى في حياتنا اليومية في العالم الماكروي. ولكن كل شيء في العالَم الماكروي يتكوَّن من جسيماتٍ تخضع لقواعدِ الكَمِّ. فكلُّ ما نطلق عليه واقعًا يتكوَّن من أشياءَ لا نستطيع اعتبارها واقعًا؛ «أي خيار لدينا عدا أن نقول بطريقةٍ ما، ربما سنكتشفها فيما بعد، إن كل الأشياء لا بد أن تُبنى على إحصائيات للمليارات فوق المليارات لمثل أفعال مشاركة المشاهد؟» واصل ويلر غيرَ خائفٍ إطلاقًا ليصل إلى الفقرة الملهِمة الهائلة (تذكَّر رؤيته حول الإلكترون المنفرد الذي ينسج طريقه عبْر الزمان والمكان)، وذهب إلى اعتبار أن الكون ككل دائرةٌ مثارة ذاتيًّا وتشاركية. وبدءًا من الانفجار الكبير حيث يتمدَّد الكون ويبرد، ثم بعد آلاف الملايين من السنوات ينتج كائناتٍ قادرة على مراقبة الكون و«فعل المشاهدة التشاركية — عن طريق آليةِ تجربةِ الاختيار المتأخر — ويعطي هذا بدوره واقعًا متشابكًا للكون، ليس الآن فقط، ولكن منذ بدايته.» وبملاحظة فوتونات الخلفية الإشعاعية الكونية، صدى الانفجار الكبير، ربما نخلق الانفجار الكبير والكون. فإذا كان ويلر على صواب، فإن فاينمان كان أكثر قربًا مما كان يتصوَّر من الحقيقة عندما قال إن تجربة الثقبين «تحتوي على الغموض الوحيد». لقد هِمْنا في عالَم الميتافيزيقيا متتبِّعين ويلر، وإنني لأتخيَّل أن كثيرًا من القراء يعتقدون أن كلَّ ما تم يعتمد على تجاربَ افتراضية ذهنية، وبذا فأنت تستطيع أن تلعب أيَّ لعبةٍ تشاء، وإنه فعلًا لا يَهُمُّ أن تلتزم بأي تفسيرات للواقع. وما نحتاج إليه هو بعض الأدلة القاطعة من تجاربَ حقيقيةٍ نبني عليها حكمنا حول أفضل اختيار للتفسير من بين كل الاختيارات الميتافيزيقية المتاحة، وكانت تجربة أسبكت في بداية ثمانينيات القرن العشرين هي البرهانَ القاطع الذي أمدَّنا به؛ برهانًا على أن غرابةَ الكَمِّ ليست فقط «واقعًا»، بل يمكن مشاهدتها وقياسها.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/10/
الحكم بعد التجربة
وعليه، ماذا يحدث إذا حاولنا قياسَ الحركة المغزلية لأحد الجسيمين المنفصلين؟ فإذا أخذنا في الاعتبار أن الجسيمين منفصلان فقد نتخيَّل أن كل جسيم يمر بتموجاتٍ عشوائية في مكوِّنات حركته المغزلية، التي تشوِّش أي محاولة لقياس الحركة المغزلية الكلية لأيٍّ من الجسيمين. ولكن إذا أخذناهما معًا، فلا بد أن تكون الحركة المغزلية لكلٍّ منهما متساوية، وعكس بعضهما. وعليه فإن التموُّجات العشوائية للحركة المغزلية لأيهما لا بد أن تتوازن وتتساوى وتصبح عكس التموُّجات «العشوائية» في مكونات الحركة المغزلية للجسيم الآخر البعيد جدًّا. وكما هو مذكور في دفوع أينشتاين وبودولسكي وروزين الأصلية فإن الجسيمات ترتبط بعضها ببعض بواسطة الفعل عن بُعد. وقد اعتبر أينشتاين هذه «اللامحلية الشبحية» هراء، مما يعني وجود خلل في نظريةِ الكَمِّ. وقد استعرض جون بل كيف أن التجارب يمكن إعدادها لقياس هذه اللامحلية الشبحية وإثبات أن نظريةَ الكَمِّ صحيحة. تضمَّنت معظمُ التجارب التي أُجريت حتى هذه اللحظةِ لعمل هذا الاختبار استقطابَ الفوتونات بدلًا من الحركة المغزلية للجسيمات المادية، لكن المبدأ هو نفسه. فالاستقطاب خاصيةٌ تحدِّد الاتجاه في الفراغ المرتبط بفوتون أو بشعاع من الفوتونات تمامًا كما أن الحركة المغزلية تحدِّد الاتجاه في الفراغ المرتبط بالجسيمات المادية. فنظارةُ الشمس البولارويد تعمل عن طريق حجْب الفوتونات التي ليس لها استقطاب معيَّن جاعلةً المنظرَ أمام مرتدي النظارة أكثرَ إظلامًا. تصوَّر أن نظارة الشمس مصنوعةٌ من مجموعة من الشرائح مثل الستائر المعدنية، وأن الفوتونات تحمل رماحًا طويلة. كل الفوتونات التي تمسك بالرماح مائلة بعض الشيء عبر صدورها تستطيع أن تمرق خلال الشرائح وتشاهدها بعينيك، وكل الفوتونات التي تحمل الرماحَ متجهة إلى أعلى لن تستطيع العبور خلال الشقوق الضيقة وستُحجب. ويحتوي الضوء العادي على كل أنواع الاستقطاب؛ الفوتونات برماحها الممسوكة بزوايا مختلفة. وهناك أيضًا نوعٌ من الاستقطاب يسمَّى الاستقطابَ الدائري؛ حيث يتغيَّر اتجاه الاستقطاب أثناء تقدُّم الفوتون، وكما أنني أحاول مزْج تماثلاتي، فلنتصوَّر الفتاةَ التي تسير في مقدمة العرض وهي تحرِّك عصاها في حركةٍ دائرية. ويأتي هذا بطريقتين مختلفتين؛ واحدة تجاه اليمين والأخرى تجاه اليسار. ويمكن استخدام ذلك أيضًا في اختباراتِ دقةِ النظريةِ الكَمِّية للعالم. فالضوء المُستقطَب في أحد المستويات الذي به كل الفوتونات تحمل رماحها بالزاويةِ نفسِها يمكن أن ينتج عن طريق الانعكاس في ظل الظروف الصحيحة، أو بإمرار الضوء خلال مادةٍ مثل عدسة بولارويد التي تسمح فقط بمرور استقطابٍ معيَّن. ويُظْهر الضوء المستقطَب في أحد المستويات مرةً أخرى قواعدَ عدمِ اليقينِ الكَمِّي أثناء عملها. إن استقطاب الفوتون في اتجاهٍ أو آخر هي خاصية «نعم/لا» مثل الحركة المغزلية للجسيم على المستوى الكَمِّي. إما أنه يُستقطَب في اتجاهٍ معيَّن — ربما رأسيًّا — أو لا. فالفوتونات التي تمر خلال شاشة معدنية ستُحجَب حتمًا بشاشة أخرى موضوعة بزاوية قائمة. فإذا كان المُستقطِب الأول مثل شاشةٍ معدنية بشرائح أفقية، فالشاشة الثانية ستكون مثل ألواح سور مرصوصة رأسيًّا. والشيء المؤكَّد بما فيه الكفاية أنه عندما يكون هناك قطعتان من المادة المُستقطِبة «متعامدتين» بهذا الشكل فلن يمرَّ أيُّ ضوء. لكن ماذا لو افترضنا أن لوح البولارويد الثاني تُصنع «شرائحه» بزاوية ٤٥ درجة مع شرائح المُستقطِب الأول؟ فالفوتونات التي تصل إلى المُستقطِب الثاني تمثِّل كلها زاويةً قياسها ٤٥ درجة مع المستوى، وبناء على الصورة الكلاسيكية فالفوتونات لا تمر. أما الصورةُ الكَمِّية فهي مختلفة. ومن هذا المنطلق يملك كل فوتون فرصة ٥٠٪ للعبور خلال المستقطِب غير المتوازي مع الأول، وبالفعل تمر نصف الفوتونات. والآن يأتي الأمر الغريب حقًّا. فالفوتونات التي استطاعت العبور صارت بالفعل ملتوية. وقد جرى استقطابها بزاوية ٤٥ درجة بالنسبة إلى المستقطِب الأصلي، وعليه فماذا يحدث إذا قابلت الآن هذه الفوتونات مستقطِبًا آخر يصنع زاويةً قائمة مع المُستقطِب الأول؟ وحيث إن الزاوية القائمة ٩٠ درجة، فإن الفوتونات لا بد أن تكون بزاوية ٤٥ درجة مع هذا المُستقطِب أيضًا. وتمر نصف الفوتونات كما حدث في السابق. وعندما يوجد استقطابان متعامدان فلن يمر أيُّ ضوء. لكن إذا وضعت مستقطِبًا ثالثًا بين الاثنين المتعامدين بحيث يصنع زاوية ٤٥ درجة مع كلٍّ منهما، فإن ربع الضوء الذي يمر خلال المستقطِب الأول يمر كذلك خلال الاثنين الآخرين. ويبدو الأمر وكأننا وضعنا سياجين يمنعان دخول الحيوانات الضالة بنسبة ١٠٠٪ إلى ممتلكاتنا، ولنكون أكثرَ حرصًا قرَّرنا بناء سياج ثالث بينهما لنطمئن أكثر. ولكن المفاجأة أننا وجدنا أن بعض الحيوانات الضالة التي منعها السياجُ المزدوج لم تجِد أيَّ صعوبة في العبور خلال السياجات الثلاثة كما لو كان لا يوجد أي سياج. وبتغيير التجربة فإننا نغيِّر من طبيعةِ الواقعِ الكَمِّي. وعندما نستخدم مستقطِباتٍ بزوايا مختلِفة فإننا فعليًّا نقيس استقطاب المكوِّنات المختلِفة لمتجه، وكل قياس جديد يبطل شرعيةَ المعلومات التي حصلنا عليها من كل القياسات السابقة. ويُدخل هذا تنويعةً جديدة على موضوع أينشتاين وبودولسكي وروزين. فنحن نتعامل مع فوتونات بدلًا من جسيماتٍ مادية، ولكن التجربة الأساسية ما زالت كما هي. ولنتخيل الآن عمليةً ذريةً تُنتِج فوتونين يتحرَّكان في اتجاهين مختلفين. هناك عمليات واقعية كثيرة تحدث بهذا الشكل، وفي مثل هذه العمليات هناك دائمًا علاقةٌ بين استقطاب الفوتونين؛ فهما إما أن يُستقطبا في نفسِ الاتجاه أو يُستقطبا بشكلٍ ما في اتجاهٍ معاكس. وللتبسيط سنتصوَّر في تجربتنا الذهنية أن الاستقطابين لا بد أن يكونا هما نفسهما. وبعد فترة طويلة من ترك الفوتونين مكانَ ميلادِهما نقرِّر قياسَ استقطاب أي منهما. فلنا حرية الاختيار، وهذا شيء اختياري كليةً، في أي اتجاه ستُرصُّ موادُّ الاستقطاب، وبمجرد أن نفعل ذلك هناك فرصة معينة في أن يمر الفوتون خلالها. وسنعرف فيما بعد إذا كان استقطاب الفوتون إلى «أعلى» أو إلى «أسفل» لهذا الاتجاه المختار في الفراغ، ونعلم أنه — عبر الفضاء الشاسع — يُستقطَب الفوتونُ الآخرُ بالطريقةِ نفسِها. ولكن كيف يُعرف الفوتونُ الآخرُ؟ وكيف له أن يكيِّف من نفسه لكي يمرَّ بالاختبار بطريقةِ الفوتون الأول نفسِها أو يفشل في المرور كما يفشل الفوتون الأول؟ وبقياسنا لاستقطاب الفوتون الأول فإننا نُحدِث انهيارًا للدالة الموجية ليس فقط لفوتون واحد بل لآخرَ بعيدٍ تمامًا عند اللحظةِ نفسِها. ومع الأمور الغريبة في هذه التجربة، فإنها ليست أكثرَ غرابة من اللغز الذي رسمه أينشتاين ورفاقه للاستحواذ على انتباه العلماء في ثلاثينيات القرن العشرين. إن تجربةً واقعيةً واحدة تعدل أكثرَ من نصف قرن من النقاش حول معنى تجربة ذهنية، وقد أعطى بل التجريبيين وسيلةً لقياس تأثيرات هذا الفعل الشبحي عن بُعد. كرَّس برنارد ديسباجنات، العالِم النظري مثل ديفيد بوم من جامعة باريس-ساوث الكثيرَ من الفكر في تضمينات عائلة تجارب أينشتاين وبودولسكي وروزين. وفي مقاله المذكور سابقًا المنشور في مجلة «ساينتفيك أمريكان»، وفي إسهامه في مجلد «إدراك الفيزيائيين الحسي للطبيعة» الذي حرَّره ميهرا؛ حيث وضع النقاط على الحروف للأساس الذي بنى عليه بل حلَّ اللغز. يقول ديسباجنات إن رؤيتنا اليومية للواقع ترتكز على ثلاثة افتراضات أساسية. الأول أن هناك أشياءَ واقعيةً موجودة سواء شاهدناها أم لا، والثاني أنه يُعد أمرًا شرعيًّا أن نصل إلى نتيجةٍ من مشاهدات قوية أو تجارب، والثالث أنه لا يمكن أن ينتشر أيُّ تأثير أسرع من سرعة الضوء، الذي أطلق عليه بنفسه «المحلية». وكل هذه الافتراضات الثلاثة هي أساس رؤيتنا «الواقعية المحلية» للعالم. ولأن الحسابات عُبِّر عنها في الأصل بدءًا بالرؤية المحلية الواقعية للعالم، فالمصطلح المتَّفق عليه هو أن عدم المساواة «الأول» يُطلق عليه «عدم مساواة بل»، وإذا انتُهِكت عدم مساواة بل هذه فإن الرؤية الواقعية المحلية للعالم خادعة، ولكن نجحت نظريةُ الكَمِّ مرة أخرى عند خوض اختبار آخر. من المفترض أنه من الممكن استخدام هذا الاختبار لقياس الحركة المغزلية للجسيمات بكفاءة متساوية، وهي عادة صعبة جدًّا في إجرائها أو أن تستخدم لقياس استقطاب الفوتونات التي هي أسهل في إجرائها مع أنها ما زالت صعبة. ولأن كتلة سكون الفوتونات هي صفر، وتتحرك بسرعة الضوء ولا سبيل لها لتمييز الزمن، فإن بعض الفيزيائيين لا يرتاحون لإجراء تجارب تتضمَّن الفوتونات. وليس واضحًا في الواقع ما هو مفهوم المحلية للفوتون. ومع أن معظم اختبارات عدم مساواة بل، التي أجريت حتى الآن تتضمَّن قياسات استقطاب الفوتونات، فإنه من المهم للغاية أن الاختبار الوحيد الذي أُجري حتى تلك اللحظة قد استُخدم فيه بالفعل قياسات الحركة المغزلية لبروتون، وهو يعطي نتائج تنتهك عدم مساواة بل؛ ولذا فهي تدعم الرؤيةَ الكَمِّية للعالم. لم يكن هذا أولَ اختبار لعدم مساواة بل، وإنما قدَّم فريق من مركز ساكلي للأبحاث النووية بفرنسا تقريرًا سنة ١٩٧٦ حول ذلك. وتتبع التجربة بشكل كبير التجربةَ الذهنية الأصلية، وتتضمَّن قذفَ بروتونات ذات طاقة منخفضة على هدفٍ يحتوي عددًا كبيرًا من ذرات الهيدروجين. وعندما تصدم الأنوية نواة ذرة هيدروجين — الذي هو بروتون آخر — يتداخل الجسيمان من خلال الحالة الانفرادية، ويمكن قياس مكوِّنات حركتهما المغزلية. ولكن صعوبة القيام بتلك القياسات هائلة. ويسجِّل الكشاف معظم الفوتونات فقط، وخلافًا للعالم المثالي في التجربة الذهنية، حتى عندما تجري القياسات فليس من الممكن دائمًا تسجيل مكونات الحركة المغزلية دون لبْس. إلا أن نتائج التجربة الفرنسية تبيِّن أن الرؤى الواقعية المحلية للعالم خاطئة. قام التجريبيون في منتصف سبعينيات القرن العشرين بأولى القياسات مستخدمين تنويعةً أخرى على هذا الموضوع. كانت الفوتونات الناتجة في هذه التجارب هي أشعة جاما نتيجة تلاشي بوزيترون وإلكترون. ومرة ثانية لا بد لاستقطاب الفوتونين أن يكونا مرتبطين، ونجد من جديد أنه إذا حاولت قياس تلك الاستقطابات فإن النتيجة التي تصل إليها هي تناقض عدم مساواة بل. وعليه فإن خمسة من الاختبارات السبعة الأولى لعدم مساواة بل كانت في مصلحة ميكانيكا الكَمِّ. وقد ركَّز ديسباجنات في مقاله بمجلة «ساينتفيك أمريكان» على أن هذا دليلٌ أقوى في مصلحة نظريةِ الكَمِّ وليس كما يبدو لأول وهلة. ولطبيعة هذه الاختبارات والصعوبات المصاحبة لإجرائها فإن «وجود جوانب خلل كثيرة منهجية في تصميم أي تجربة يمكن أن يدمِّر البرهان على الارتباط الواقعي … ومن جهة أخرى، فإنه من الصعوبة أن تتخيل أن خطأ تجريبيًّا يمكن أن يسبِّب ترابطًا خادعًا في خمسة اختبارات أجريت منفصلة. والأكثر من ذلك فإن نتائج هذه الاختبارات لم تنتهك عدم مساواة بل فقط، وإنما أيضًا تناقضها بالضبط كما تنبأت ميكانيكا الكَمِّ.» ومنذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، أُجري المزيد من الاختبارات، التي صُمِّمت لإزالة أي ثغرات باقية في تصميم التجارب. وقد تطلب الأمر أن توضع أجزاءُ الاختبار متباعدةً بعضها عن بعض بما فيه الكفاية حتى إن أي إشارة «بين الكشافات»، التي قد تعطي ترابطًا زائفًا، سيكون عليها أن تنتقل بسرعةٍ أكبرَ من سرعة الضوء، وجرى عمل ذلك وما زال يُنتهك عدم المساواة. أو ربما يحدث الترابط لأن الفوتونات تعرف «حتى أثناء تولُّدها» أيُّ نوع من الأجهزة قد أُعِدَّ لاصطيادها. ويمكن أن يحدث ذلك دون الحاجة إلى إشاراتٍ أسرعَ من الضوء إذا أعددت التجهيزات مقدَّمًا ووجدت دالة موجة عامة تؤثِّر على الفوتون عند مولده. وعليه فإن الاختبار النهائي، حتى تلك اللحظة، لعدم مساواة بل يتضمَّن تغيير بنية التجربة، في حين تكون الفوتونات في مسارها بنفس الطريقة التي أُجريت بها تجربة الشق الطولي المزدوج، حيث يمكن تغييرُها ويكون الفوتون في مساره في تجربة جون ويلر الذهنية. هذه هي التجربة التي أغلق فيها فريق آلان أسبكت من جامعة باريس ساوث آخرَ أعظمِ الثقوب في النظريات الواقعية المحلية سنة ١٩٨٢. ولا يعني هذا أن هناك أيَّ بارقةِ أملٍ في إمكانية القدرة على إرسال رسالة بسرعةٍ تفوق سرعة الضوء. وليس هناك أيُّ أملٍ معقود لنقل المعلومات المفيدة بهذه الطريقة؛ لأنه ليس هناك وسيلةٌ لربط حدثٍ معيَّن، يسبِّب حدثًا آخر، بالحدث الآخر الذي تسبَّبت فيه هذه العملية. إنها سِمةٌ أساسية للتأثير الذي ينطبق فقط على الأحداث التي لها سببٌ مشترك؛ تلاشي زوج بوزيترون/إلكترون، وعودة إلكترون إلى الحالة الأرضية، وانفصال زوج من البروتونات من الحالة الانفرادية. ويمكنك أن تتخيَّل كشافَين وُضعا متباعدَين في الفراغ، وكذلك فوتونات من مصدرٍ مركزي تتطاير في اتجاهِ كلٍّ من الكشافين، وربما تتخيَّل تقنيةً بسيطة معينة تغيِّر استقطاب أحد شعاعي الفوتونات، حتى يلاحظ مراقبٌ بعيدٌ عن الكشاف الثاني تغييرًا في استقطاب الشعاع الآخر. ولكن أي نوع من الإشارة يتغيَّر؟ إن التغيُّر الأصلي في الاستقطاب أو الحركة المغزلية للجسيمات في الشعاع هي نتيجة العمليات العشوائية التي لا تحمل أيَّ معلوماتٍ بذاتها، وكلُّ ما سيراه المشاهد هو نسق عشوائي مختلف عن النسق العشوائي الذي قد يراه من دون المعالجة البارعة للمستقطِب الأول! وحيث إنه لا توجد معلومات في النسق العشوائي، فذلك يكون بلا جدوى. والمعلومات موجودة في الفرق بين النسقين العشوائيين، غير أن النسق الأول لا يوجد أبدًا في العالم الواقعي، ولا توجد أي وسيلة لاستخلاص المعلومات. لكن لا تُفرِط في الإحباط؛ حيث إن تجربة أسبكت والتجارب السابقة عليها تضع بالتأكيد صورةً مختلفة للعالم عما نعرفه في حياتنا اليومية بالفطرة. وتخبرنا أن الجسيمات التي كانت في وقتٍ ما مرتبطةً بعضها ببعض في تفاعلٍ تظل بطريقةٍ ما أجزاءً من نظام واحد، تتجاوب معًا في تفاعلات أخرى، وفي النهاية فإن كل شيء تقريبًا نراه ونلمسه ونشعر به يتكوَّن من تجمعاتٍ لجسيمات هي بدورها كانت متداخلة مع جسيماتٍ أخرى عبر الزمن في الماضي، وحتى لحظة الانفجار الكبير الذي جاء منه الكون الذي نعرفه. إن الذرات في جسدي تتكوَّن من جسيماتٍ كانت في زمنٍ ما تندفع في تقاربٍ شديد في كرة النار الكونية مع جسيمات أخرى هي الآن جزء من نجمٍ بعيد، أو مع جسيماتٍ قد تكون جزءًا من مخلوقٍ حي آخر موجود على مسافةٍ بعيدة فوق كوكبٍ لم يُكتشف بعد. ومن المؤكد أن الجسيمات التي يتكوَّن منها جسدي كانت في وقتٍ ما تندفع متقاربةً وتتداخل مع الجسيمات التي تكوِّن الآن جسدك. ونحن جميعًا جزء من نظام واحد تمامًا مثل الفوتونين المتطايرين من قلبِ تجربة أسبكت. ويجادل نظريون مثل ديسباجنات وديفيد بوم بأن علينا أن نتقبل ذلك، حرفيًّا، فكل شيء مرتبط بكل شيء آخر، وأن التعامل الشامل للكون هو وحده الذي ربما قد يفسِّر ظواهرَ مثل الوعي البشري. وما زال الوقت مبكرًا جدًّا على الفيزيائيين والفلاسفة الذين يميلون نحو مثل هذه الصورة الجديدة للوعي والكون، أن يأتوا بمخطط لشكله المحتمل، والمناقشة التخمينية للعديد من الإمكانيات التي تشدقنا بها قد لا يكون لها محل هنا. ولكنني أستطيع أن أقدِّم مثالًا من خلفيتي يأتي أساسًا من التقاليد الصارمة للفيزياء والفلك. فأحد الألغاز العظيمة في الفيزياء هي خاصية القصور الذاتي ومقاومة الجسم للتغير في الحركة لا للحركة ذاتها. وأي جسم يتحرَّك في فراغٍ يحافظ على حركته في خط مستقيم عند سرعةٍ ثابتةٍ إلى أن تدفعه قوة خارجية، وهذا هو أحد اكتشافات نيوتن العظيمة. إن كمية الدفع المطلوبة لتحريك الجسم تعتمد على كمية المواد التي يحتويها. ولكن كيف للجسم أن «يعرف» أنه يتحرك بسرعة ثابتة في خطوط مستقيمة، وبالنسبة إلى أي سرعة تُقاس سرعته؟ وقد أصبح الفلاسفة على درايةٍ تامة منذ عهد نيوتن بأن المعيار الذي يُقاس على أساسه القصور الذاتي فيما يبدو هو الإطار المرجعي الذي كان يطلق عليه عادة «النجوم الثابتة»، بالرغم من أننا قد نتكلم الآن من منطلق المجرات البعيدة. والحركة المغزلية للأرض في الفراغ أو بندول فوكو مثل تلك التي نراها في العديد من المتاحف العلمية أو رائد فضاء أو الذرة، كل هؤلاء «يعرفون» ما هو متوسط توزيع المادة في الكون. ولا يعرف أحدٌ لماذا أو كيف تعمل المؤثِّرات، وقد أدَّى ذلك إلى تخميناتٍ خادعة إن لم تكن مفيدة. فإذا كان هناك جسيم واحد في كونٍ فارغ فلن يكون له قصور ذاتي لأنه لا يوجد أي شيء يمكن قياس حركته أو مقاومته للحركة بالنسبة إليه. ولكن إذا وُجِد جسيمان في كونٍ فارغٍ فهل سيكون لهما نفس القصور الذاتي كما لو كانا في كوننا؟ ولو استطعنا بطريقةٍ سحرية أن نزيل نصف المادة من كوننا، فهل سيكون للنصف الباقي القصور الذاتي نفسه أم نصفه؟ (أو ضعفه؟) وما زال هذا اللغز عظيمًا في يومنا هذا مثلما كان منذ ٣٠٠ سنة، ولكن فناء الرؤى الواقعية المحلية للعالم يعطينا مفتاحًا لهذا اللغز. فإذا حافظ كلُّ شيء تفاعل في أيِّ وقتٍ في الانفجار الكبير على ارتباطه مع كل شيء تفاعل معه، فعندئذٍ «سيعرف» كل جسيم في كل نجم ومجرة نستطيع أن نراها بوجود كل جسيم آخر، ويصبح القصورُ الذاتي لغزًا ليس لعلماء الكون وعلماء النسبية أن يتجادلوا فيه، بل أمرًا أساسيًّا في أوساط ميكانيكا الكَمِّ. هل يبدو ذلك تناقضًا؟ لقد لخَّص ريتشارد فاينمان الوضعَ بإحكامٍ في محاضراته؛ إذ قال إن التناقض اختلافٌ بين الواقعية وشعورك بما يجب أن تكون عليه الواقعية. وهل يبدو ذلك سفسطة مثل الجدل حول عدد الزوايا التي يمكن أن ترقص على رأس دبوس؟ وبالفعل، مسبقًا سنة ١٩٨٣، وبعد بضعة أسابيع من نشر نتائج فريق أسبكت أعلن علماء من جامعة ساسكس بإنجلترا نتائج تلك التجارب، التي لم تقدِّم تأكيدًا مستقلًّا لارتباط الأشياء على المستوى الكَمِّي فقط، بل قدَّمت مدخلًا للتطبيقات العملية متضمنة جيلًا جديدًا من الحواسيب المتفوقة على تقنية الحالة الجامدة كما كان راديو الترانزستور نفسه متفوقًا على السيمافور كجهاز للإشارة. تعامل فريق ساسكس الذي يرأسه تيري كلارك مع معضلةِ قياسِ واقعيةِ الكَمِّ بطريقةٍ عكسية. فبدلًا من محاولة بناء تجارب تعمل على المقياس العادي للجسيمات الكَمِّية — مقياس الذرات أو أقل — حاولوا بناء «جسيمات كمية» تقارب كثيرًا حجمَ أجهزة القياس التقليدية. وتعتمد تقنيتهم على خاصية التوصيل الفائق مستخدمين حلقةً من مادة فائقة التوصيل، لها مقطع حوالي نصف سنتيمتر، وبها انقباض عند نقطة معينة؛ حيث تضيق الحلقة إلى ١٠ أجزاء من المليون من السنتيمتر المربَّع فقط في مساحةِ مقطعها. وهذه «الوصلة الضعيفة» التي ابتكرها براين جوزيفسون الذي طوَّر وصلة جوزيفسون، تجعل حلقةَ المادةِ الفائقةِ التوصيل تعمل كأسطوانةٍ مفتوحةِ الطرفين مثل أنبوب الأرغن أو صفيحة من الزنك نُزع كلا طرفيها. وتصف موجات شرودنجر سلوكَ الإلكتروناتِ الفائقةِ التوصيل وكأنها تعمل مثل موجات الصوت المثبتة في أنبوب الأرغن والتي يمكن «ضبط نغماتها» باستخدامِ مجالٍ كهرومغناطيسي متغيِّر عند ترددات لاسلكية. وفي الواقع فإن موجة الإلكترون حول الحلقة ككل تضاعف جسيمًا كميًّا مفردًا، وباستخدام كشافٍ حساس لترددات لاسلكية، يستطيع الفريق أن يشاهد تأثيرات التحوُّل الكَمِّي لموجة الإلكترون في الحلقة. وعمليًّا فإن الأمر يبدو وكأن لديهم جسيمًا كميًّا مفردًا قطرُه نصف سنتيمتر يعملون به مثل الدلو الصغير المملوء بالهليوم الفائق الميوعة الذي سبق ذكره، بل أكثر دراماتيكية منه. وتقدِّم التجربة قياساتٍ مباشرة لتحولات كميَّة مفردة، وتعطي أيضًا برهانًا جليًّا آخرَ لعدم المحلية. ونظرًا لأن الإلكترونات في حالة التوصيل الفائق تعمل كبوزون واحد فإن موجة شرودنجر التي تُجري التحوُّل الكَمِّي تنتشر حول كل الحلقة. ويسبِّب كل هذا البوزون الكاذب التحوُّل في الوقت نفسه. ولا يُشاهد جانب واحد من الحلقة وهو يقوم بالتحول أولًا، والجانب الآخر يلحق به فقط عندما يصبح لدى الإشارةِ التي تتحرَّك بسرعة الضوء، الوقتُ الكافي لتتنقَّل حول الحلقة وتؤثِّر على باقي «الجسيم». وبطريقةٍ ما فإن هذه التجربة أقوى من اختبار أسبكت لعدم مساواة بل، ويعتمد هذا الاختبار على مجادلات — مع أنها رياضيًّا ليست مبهمة — فليس من السهل تتبُّعها للشخص العادي غير المتخصص. ومن الأسهل كثيرًا استيعاب مفهوم «الجسيم» المفرد الذي يبلغ قطره نصف سنتيمتر وما زال يسلك سلوكَ جسيمٍ كمِّي مفرد، ويتجاوب هذا كليًّا ولحظيًّا لأي حثٍّ تستقبله من الخارج. وقد قام بالفعل كلارك ورفاقه بالتطوير المنطقي التالي. كانوا يأمُلون في تصميم «ذرة ماكروية» أكبرَ، ربما على شكل أسطوانةٍ مستقيمة طولها ستة أمتار. فإذا استجاب هذا التصميم للإثارة الخارجية كما هو متوقَّع فلا بد من وجود شرخ مفتوح في الباب الذي يقود إلى اتصالٍ أسرعَ من الضوء. وسيستجيب لحظيًّا الكشاف المثبت على أحد طرفي الأسطوانة لغرضِ قياس الحالة الكَمِّية، للتغير في الحالة الكَمِّية الناتجة عن الإشارة التي حدثت عند الطرف الآخر للأسطوانة، ولا يزال هذا الأمر قليلَ الجدوى بالنسبة إلى الإشارات المألوفة؛ فلن نستطيع بناءَ ذرةٍ ماكروية تصل من هنا إلى القمر مثلًا، وأن نستخدمها للتخلُّص من التباطؤ المقلق عند الاتصال بين مكتشفي القمر والتحكم الأرضي هنا. لكن قد يكون لها استخدام عملي مباشر. لم ترسِّخ التجارب تفسيرَ كوبنهاجن كليةً فقط، بل يبدو أن هناك تطوراتٍ أخرى ما زالت في الجَعبة أبعدَ مما قدَّمته ميكانيكا الكَمِّ لنا بالنسبة إلى التطورات الأبعد من الابتكارات الكلاسيكية. ولكن ما زال تفسير كوبنهاجن غيرَ كافٍ فكريًّا. فماذا يحدث لكل هذه العوالم الكَمِّية الشبحية التي تنهار مع دوالها الموجية عندما تقوم بقياسِ نظامٍ تحت ذري؟ وكيف لواقعٍ متداخلٍ لا أقل ولا أكثر من الواقع الذي نقيسه نحن في النهاية، ويختفي ببساطة عندما تتم عملية القياس؟ وأفضلُ إجابةٍ هي أن الواقعيات البديلة لا تختفي، وأن قطة شرودنجر في الواقع حيةٌ وميتةٌ في الوقتِ نفسِه، ولكن في عالمين أو أكثرَ مختلفين. إن تفسير كوبنهاجن وتضميناته العملية موجودان كليةً في رؤيةٍ أكثرَ اكتمالًا للواقع، أو بعبارة أخرى، تفسير العوالم المتعدِّدة.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/11/
عوالم كثيرة
لم أحاول أن أنحاز لجانبٍ معيَّن حتى الآن، بل حاولتُ تقديمَ قصةِ الكَمِّ بكل جوانبها، وأن أدَع القصة تتكلم عن نفسها. وقد حان الوقت الآن كي أقف لأُبدي رأيي. وسأتخلَّى في هذا الفصل الأخير عن أيِّ مظهرٍ لعدم الانحياز، وأُعرض تفسير ميكانيكا الكَمِّ الذي أجد أنه مقنع جدًّا أو مريح. وليست هذه رؤية الأغلبية؛ فمعظم الفيزيائيين الذين يَشغلون أنفسَهم بالتفكير في مثل هذه الأمور سعداءُ بتفسير كوبنهاجن عن انهيار الدوال الموجية. إلا أن الأقلية لها رؤيةٌ جديرة بالاحترام، وتتميَّز بأنها تشتمل على تفسير كوبنهاجن. والسمة غير المريحة التي منعت هذا التفسير المحسَّن من اكتساح عالَم الفيزيائيين هو أنها تعني وجودَ عوالمَ عديدةٍ — يحتمل وجود عددٍ لا نهائي — بجانب واقعنا عبر الزمن، موازية لعالمنا، لكنها محجوبة عنه للأبد. نشأت فكرةُ تفسير العوالم المتعددة في أبحاث هيو إيفرت طالب الدراسات العليا بجامعة برنستون في خمسينيات القرن العشرين. كان متحيرًا حول الطريقة الغريبة التي تنهار بها الدوال الموجية في تفسير كوبنهاجن بطريقةٍ سحرية عند المشاهدة، وقد ناقش البدائل مع العديد من الأشخاص، ومن بينهم جون ويلر الذي شجَّع إيفرت ليُطوِّر مسلكه البديل كرسالة للدكتوراه. وتبدأ هذه الرؤية البديلة بسؤالٍ بسيط جدًّا هو أن الذروة المنطقية للتعبير عن الانهيارات المتتابعة للدالة الموجية تعني أنه عندما أُجري التجربةَ في حجرةٍ مغلقة ثم أخرج وأخبرك بالنتائج، التي ترسلها أنت إلى صديق، الذي بدوره يبلغها لشخص آخر، وهكذا. وفي كل خطوة تصبح الدالة الموجية أكثرَ تعقيدًا وتحتضن المزيدَ من «العالم الواقعي». ولكن تبقى البدائل عند كل مرحلةٍ متساويةً، وتتداخل الواقعيات حتى تصل أخبار النتائج النهائية للتجربة. ولنا أن نتخيَّل أن الأخبار ستنتشر عبر كل العالم بهذه الوسيلة حتى يصل العالم ككل إلى حالة من الدوال الموجية المتداخلة، وستشاهد الواقعيات البديلة التي تنهار لتصير عالمًا واحدًا عند المشاهدة. ولكن من يشاهد الكون؟ وحسب التعريف، فإن الكون قائم بذاته مستقلٌّ بنفسه، إذ يحتوي على كل شيء، ولذلك لا يوجد مراقبٌ خارجي يراقب وجود الكون، ومن ثم تنهار شبكته المعقَّدة من الواقعيات البديلة المتفاعلة إلى دالةٍ موجيةٍ مفردة. وفكرة ويلر عن الوعي — أو أنفسنا — كمراقبٍ مهمٍّ يعمل خلال سببيةٍ عكسيةٍ إلى الوراء حتى الانفجار الكبير، هي وسيلةٌ للخروج من هذه المعضلة، ولكنها تتضمَّن جدلًا مُحيرًا مثل الحيرة التي يحاول إزالتها. وإنني أفضِّل فكرةَ الأنانة، أي إنه يوجد مراقبٌ واحد للكون هو أنا، وأن مشاهداتي هي كل العوامل المهمة التي تبلور الواقعية من شبكة احتمالاتِ الكَمِّ، لكن الأنانة المفرطة فلسفةٌ غيرُ مقنعة تمامًا لشخصٍ كل مساهمته في العالَم أن يكتب كتبًا ليقرأها أناسٌ آخرون. وتفسير إيفرت عن العوالم المتعددة هو أمرٌ آخر أكثرُ إقناعًا واحتمالٌ أكثرُ اكتمالًا. وينحصر تفسيرُ إيفرت في أن الدوال الموجية المتداخلة لكل الكون — الواقعيات البديلة التي تتفاعل لتنتج تداخلًا يمكن قياسُه عند المستوى الكَمِّي — لا تنهار. وكل الدوال متساوية في واقعيتها، وتتواجد في أجزائها من «الفضاء الفائق» (والزمان الفائق). والذي يحدث عند إجراء قياساتٍ عند المستوى الكَمِّي هو أننا نضطر عن طريق المشاهدة أن نختار أحدَ هذه البدائل، والذي يصبح جزءًا مما نراه في عالمنا «الواقعي»، وتقطع المشاهدة الروابطَ التي تربط الواقعيات البديلة بعضها ببعض، وتسمح لها بأن يذهب كلٌّ منها في طريقٍ منفصلٍ عبر الفضاء الفائق، وتحتوي كل واقعيةٍ بديلة على مُشاهِدها الخاص بها الذي حصل على المشاهدةِ نفسِها، إلا أنه توصَّل إلى «إجابة» كميَّة مختلِفة ويتصوَّر أنه «تسبَّب في انهيار الدالة الموجية» إلى بديلٍ كميٍّ وحيد. من الصعب أن نستوعبَ ما الذي يعنيه هذا عندما نتكلم عن انهيار الدالة الموجية لكل الكون، لكن الأمر قد يصبح أسهلَ كثيرًا عندما نرى مدخل إيفرت كخطوة للأمام عند النظر إلى مثالٍ أبسط. إنَّ بحْثَنا عن القطة الحقيقية المختبئة داخل صندوق شرودنجر المتناقض قد انتهى أخيرًا؛ حيث يعطي هذا الصندوقُ المثالَ الذي أحتاج إليه لأستعرض قوةَ تفسير العوالم المتعددة لميكانيكا الكَمِّ، والمفاجأة أن هذا المسلكَ سيؤدي في النهاية ليس إلى قطةٍ واحدةٍ حقيقية، بل إلى اثنتين. تدُلنا معادلةُ ميكانيكا الكَمِّ على أن داخلَ صندوق تجربة شرودنجر الذهنية الشهيرة صورتين لدالة موجة «قطة حية» و«قطة ميتة»، والاثنتان حقيقيتان على قدم المساواة. وينظر تفسير كوبنهاجن المتَّفق عليه إلى هذه الاحتمالات من منظورٍ مختلِف، ويقول إن الدالتَين في الواقع غير حقيقيتَين بنفس المقدار، وإن إحداهما فقط ستتبلور كواقعٍ عندما ننظر داخل الصندوق. ويتقبَّل تفسيرُ إيفرت معادلاتِ الكَمِّ كليةً بكامل وجاهتها، ويقول إن كلًّا من القطتَين حقيقةٌ واقعة. فهناك قطةٌ حيةٌ وقطةٌ ميتة، ولكنهما توجدان في عالمَين مختلفَين. وليست المسألةُ أن الذرة المشعة داخل الصندوق تتفكَّك أو لا تتفكَّك، بل يحدث كلٌّ من الحالتَين. وفي مواجهةِ قرارٍ، ينشطر العالَم ككل — الكون — على نفسه في صورتَين متطابقتَين من جميع الأوجه، عدا أنه في إحدى الصورتَين تتفكَّك الذرة وتموت القطة، وفي الصورة الأخرى لا تتفكَّك الذرة وتبقى القطة حية. ويبدو هذا كخيالٍ علمي، لكنه يصل إلى ما هو أعمق من أي خيالٍ علمي، كما أنه مبنيٌّ على معادلاتٍ رياضية لا تقبل الشك ومتماسكة ولها تتابعٌ منطقي في أن نأخذ ميكانيكا الكَمِّ حرفيًّا. إن أهميةَ أعمال إيفرت التي نُشرت سنة ١٩٥٧، تتمثَّل في أنه أخذ هذه الفكرةَ التي تبدو خياليةً في مظهرها، ووضعها على أسسٍ رياضية لا تقبل الشك، مستخدمًا قواعدَ نظريةِ الكَمِّ. فأن نخمِّن شيئًا عن طبيعة الكون هذا أمرٌ، لكن أن نطوِّر هذه التكهنات ونضعها في نظريةٍ للواقعيةِ كاملة ومتسقة مع نفسها فهذا أمرٌ آخر. ولم يكن إيفرت في الواقع هو أول شخص يتكهَّن بهذا الشكل، مع ما قد يبدو أنه توصَّل لأفكاره مستقلًّا تمامًا عن أي اقتراحات عن الواقعيات المتعددة والعوالم المتوازية، ومعظم التكهنات — التي زادت زيادةً كبيرة في الحقيقة منذ سنة ١٩٥٧ — قد ظهرت على صفحات الخيال العلمي. وقد استطعت أن أقتفي أثرَ أول نسخةٍ من ذلك نُشرت لأول مرة في صورةِ سلسلةٍ في مجلةٍ سنة ١٩٣٨، وهي «فرقة الزمان» لجاك ويليامسون. ومعظم قصص الخيال العلمي موضوعةٌ في إطار الواقعيات «المتوازية» مثل انتصار الجنوب في الحرب الأهلية الأمريكية، ونجاح الأرمادا الإسبانية في إلحاق الهزيمة بإنجلترا، وهكذا. وبعض هذه القصص يصف مغامراتِ بطلٍ ما يسافر عبر الزمان، من واقعٍ بديل إلى واقعٍ آخر، وقليل من هذه القصص يصف، بلغةٍ عبثية، كيف ينفصل عالَمٌ بديل عن عالمنا. وتتناول قصة ويليامسون الأصلية عالمَين بديلَين لا يصل أيهما إلى واقعيةٍ محسوسة إلا عند وقوع حدثٍ معيَّن من زمنٍ حرج في الماضي؛ حيث يفترق طريقا العالَمَين (وهناك أيضًا سَفر «توافقي» عبْر الزمان في هذه القصة، كما أن الحدث دائري مثل الجدل). وتردِّد الفكرة انهيارَ الدالة الموجية كما وُصِفت في تفسير كوبنهاجن المتعارف عليه، وتتضح ألفة ويليامسون مع الأفكار الجديدة في ثلاثينيات القرن العشرين من المقطع الذي يشرح فيه أحدُ الأشخاص ماذا يحدث: بإحلال موجات الاحتمالية بدلًا من الجسيمات المتماسكة أصبحت خطوطُ العالم للأشياء غير ثابتة، ولم تَعُد ممراته البسيطة موجودة. ولدى الجيوديسيين توالدٌ لا نهائي من الفروع المحتملة حسب اللاتحديدية تحت الذرية. وعالَم ويليامسون هو عالَم للواقعيات الشبحية حيث يجري الحدث البطولي بينما ينهار أحد هذه العوالم، ويختفي لدى اتخاذ القرار الحاكم، ويُخْتار شبحٌ آخر ليصبح واقعًا محسوسًا. وعالَم إيفرت واحدٌ من الواقعيات المحسوسة العديدة، الذي تتساوى فيه كل العوالم بنفس الدرجة؛ حيث أيضًا، وللأسف، لا يستطيع حتى الأبطالُ الانتقالَ من واقعٍ إلى الواقع المجاور له. لكن نسخة إيفرت عن العالم واقعٌ علمي وليست خيالًا علميًّا. دعونا نَعُد مرةً ثانية للتجربة الأساسية في فيزياء الكَمِّ، تجربة الثقبين. وحتى في إطارِ تفسير كوبنهاجن المتَّفق عليه، ومع أن قليلين من طهاةِ الكَمِّ على علمٍ بذلك، فإن نسقَ التداخل الذي يظهر على شاشة تلك التجربة عندما يمر جسيمٌ واحد فقط عبر الجهاز قد شُرِحَ على أن الأمر تداخلٌ بين واقعَين تبادليَّين يمرُّ في أحدهما الجسيم خلال الثقب أ وفي الآخر يمرُّ خلال الثقب ب. وعندما ننظر إلى الثقبَين نرى جسيمًا واحدًا يمر خلال أحدهما وليس هناك تداخل. ولكن كيف للجسيم أن يختار من أي الثقبَين يمر؟ بالنسبة لتفسير كوبنهاجن فإن الاختيار عشوائي، وهو ما يتفق مع احتمالات الكَمِّ، ويلعب الرب النردَ مع الكون في ظنه. وبتفسير العوالم المتعددة فإن الجسيم لا يختار. وبالمواجهة فالاختيار على المستوى الكَمِّي ليس للجسيمِ نفسِه فقط، بل ينشطر كل الكون إلى نسختَين. يمر الجسيم في أحد الكونين خلال الثقب أ ويمر في الآخر خلال الثقب ب. وفي كل كون هناك المُشاهد الذي يرى الجسيم يمر خلال ثقبٍ واحد فقط. ويصبح العالَمان بعد ذلك وللأبد منفصلَين تمامًا ولا يتداخلان، وهذا هو السبب في عدمِ وجودِ تداخلٍ على شاشة التجربة. اضرب هذه الصورةَ في عددِ الأحداثِ الكَمِّية التي تحدث طوال الوقت في كل منطقةٍ من الكون، وسيعطيك هذا فكرةً عن عدم تقبُّل الفيزيائيين التقليديين لهذه الفكرة. ولكن — وكما فعل إيفرت منذ ٢٥ عامًا — فإن ذلك يُعد أمرًا منطقيًّا، ووصفًا متماسكًا بذاته للواقعِ الكَمِّي لا يتعارض مع أي دليل من التجربة أو المشاهدة. وليس هناك سببٌ واضح لماذا استغرقت الفكرةُ كلَّ هذا الوقت ليتم الاقتناع بها، ولو حتى من القلة، ثم لاقت نجاحًا في سبعينيات القرن العشرين. وبعيدًا عن الرياضيات المعقَّدة، شرح إيفرت بعنايةٍ في مجلة «مراجعات الفيزياء الحديثة» أن الجدلَ حول انشطار الكون إلى عوالمَ عديدة لا يمكن أن يكون واقعيًّا؛ لأنه لا خبرة لنا بذلك، وأن الأمر كالإناء المثقوب لا يحتفظ بالماء داخله. وتخضع كل العناصر المنفصلة كحالات التطابق لمعادلة الموجة بعدم اكتراثٍ تام لحقيقةِ وجودِ العناصرِ الأخرى، والغياب الكلي لتأثير أي فرع على الآخر، الأمر الذي يعني أن المُشاهِد لا يمكن أن يكون أبدًا على علمٍ بعملية الانشطار. وجدلٌ بهذا الشكل يماثل الجدلَ بأن الأرض لا يمكن أن تدور في مدارٍ حول الشمس؛ لأنه إذا حدث ذلك يجب أن نشعر به. ويقول إيفرت: «في كلتا الحالتين، النظريةُ نفسُها تتنبأ بأن خبرتنا ستكون في الحقيقة على ما هي عليه.» في حالة تفسير العوالم المتعددة نرى أن النظرية بسيطةٌ في الفهم، وسببيةٌ وتعطي تنبؤاتٍ تتماشى مع الخبرة. وقد حاول ويلر جاهدًا أن يجعل الناس يلاحظون هذه الفكرة: وقد ختم ويلر مقالَه بأن قال: «بعيدًا عن مفهوم إيفرت، ليس هناك نظامُ أفكارٍ متناسقٌ مع نفسه متاحٌ ليشرح ماذا نعني بأن نُكمِّم نظامًا مغلقًا مثل الكون مع النسبية العامة.» كلماتٌ قوية بالفعل، لكن تفسير إيفرت يعاني عيبًا رئيسيًّا محاولًا إخراج تفسير كوبنهاجن من مكانته التي رسخت في الفيزياء. فصورة العوالم المتعددة في ميكانيكا الكَمِّ تأتي بالتنبؤاتِ نفسِها التي حصلنا عليها من رؤيةِ كوبنهاجن عند تقييم الناتج المحتمل لأي تجربة أو مشاهدة. ويحتوي هذا الأمر على نقطةِ قوة ونقطة ضعف أيضًا. وحيث إن تفسير كوبنهاجن لم يُتَطلب قط في الأمور العملية فإن أيَّ تفسيرٍ جديد لا بد وأن يعطي «الإجابات» نفسَها مثل تفسير كوبنهاجن أينما أمكن اختباره، وعليه فإن تفسير إيفرت قد اجتاز الاختبار الأول. إلا أنه يتقدَّم على رؤية كوبنهاجن فقط عندما تُزال سمات التناقض الظاهرية من تجربة الشق الطولي المزدوج، أو في اختبارات من النوع الذي ابتكره أينشتاين وبودولسكي وروزين. ومن وجهةِ نظرِ كل طهاة الكَمِّ فإنه من الصعوبة أن نرى الفرْق بين التفسيرين، ومن الطبيعي الميل للارتباط بالمألوف. وعلى كلٍّ، بالنسبة إلى أي إنسان درسَ التجارب الذهنية لأينشتاين وبودولسكي وروزين، ودرس الآن الاختبارات المختلفة لعدم مساواة بل، فإن الانحياز نحو تفسير إيفرت يصبح أكبر كثيرًا. وفي تفسير إيفرت، ليس باختيارنا لأيٍّ من مكونات الحركة المغزلية أن نقيس قوَى مكوِّن الحركةِ المغزلية لجسيمٍ آخرَ بعيدٍ عبر الكون، ليتخذ بطريقةٍ سحرية حالةً تكاملية، لكن بالأحرى نختار أي مكون من مكونات الحركة المغزلية نقيسه، وبذلك فإننا نختار أي فروع الواقعية نعيش فيه. وفي هذا الفرع من الفضاء الفائق تكون الحركة المغزلية للجسيم الآخر تكاملية دائمًا للجسيم الذي نقيسه، إن الاختيار هو الذي يقرِّر في أي العوالم الكَمِّية نقيس تجاربنا، ومن ثم في أي عالم نقطن، ولا علاقة للأمر بالصدفة. وحيث إن كل الاحتمالات الناتجة من التجربة تحدث فعلًا، وحيث إن كل ناتجٍ محتملٍ يُشاهده مجموعة من مشاهديه، فليس من المدهش أن ما نشاهده هو إحدى النتائج المحتملة للتجربة. أنهى دي ويت مقاله بطريقةٍ درامية مثلما فعل ويلر من قبلُ: إن الرؤيةَ التي تناولها إيفرت وويلر وجراهام مثيرةٌ للإعجاب حقًّا. إلا أنها رؤيةٌ سببية تمامًا، كان من الممكن حتى لأينشتاين أن يتقبَّلها … وهي تزعم أنها الأفضل لتصبح النهاية الطبيعية لبرنامجِ تفسيرٍ بدأ بهايزنبرج سنة ١٩٢٥. وفي الواقع، يبدو هذا التعبير صائبًا، وهو مستعارٌ من الخيال العلمي، لكنه ليس مناسبًا تمامًا. فالصورة الطبيعية للواقعيات البديلة ما هي إلا فروعٌ تبادلية تفرَّعت من ساقٍ رئيسية وينطلق بعضها بجانب بعض عبر الفضاء الفائق مثل خطوط السكك الحديدية المعقَّدة عند نقطة ارتكاز، ومثل طريقٍ فائقِ السرعة، به ملايين الخطوط المتوازية، يتصوَّر كتَّاب الخيال العلمي أن كل العوالم تتحرَّك جنبًا إلى جنب عبر الزمان، وأقرب هذه العوالم يماثل تقريبًا عالمنا، ثم يصبح الفارق بيننا أكثرَ وضوحًا وأكثرَ تباينًا كلما تحركنا أبعدَ «بالطرق الجانبية في الزمان». هذه هي الصورة التي قد تقودنا بشكلٍ طبيعي إلى افتراضِ احتمالِ تغيير سيرنا على الطريق الفائق السرعة من حارةٍ إلى أخرى، منزلقين إلى العالَم المجاور. ولسوء الحظ فإن الرياضيات ليست تمامًا بمثل هذه الصورة الواضحة. لم يجد الرياضيون صعوبةً في التعامل مع أبعادٍ أكثرَ من الأبعاد الفضائية الثلاثة المألوفة، وهي في غاية الأهمية في حياتنا اليومية. وعالمنا الكلي — الذي هو أحد فروع واقعية العوالم المتعددة لإيفرت — قد وُصِفَ رياضيًّا بأربعة أبعاد؛ ثلاثة للفضاء، وواحد للزمان، كلها تصنع زوايا قائمة بعضها مع بعض، والرياضيات المطلوبة لوصفِ أبعادٍ أكثرَ تصنع زوايا قائمة بعضها مع بعض ومع أبعادنا الأربعة هو أمرٌ روتيني يجري التلاعب به. وهذا هو بالضبط موضع الواقعيات البديلة فعلًا، التي ليست متوازيةً مع عالمنا لكنها تصنع زوايا قائمة معه، عوالم متعامدة ومتفرعة «بطرقٍ جانبية» خلال الفضاء الفائق. ويصعب أن نتخيَّل هذه الصورة، لكن ذلك يجعل الأمر أكثرَ سهولة حتى نرى لماذا يستحيل انزلاقه بطرقٍ جانبية إلى واقعٍ بديل. إذا انفصلتَ بزاويةٍ قائمة بالنسبة لعالمنا — بطرقٍ جانبية — فإنك بذلك تكون قد كوَّنت عالمًا جديدًا خاصًّا بك. في الواقع، استنادًا إلى نظريةِ العوالم المتعددة فإن هذا ما يحدث عندما يواجه الكون باختيارٍ كمِّي. والطريقة الوحيدة التي يمكن بها أن تحصل على واحدةٍ من الواقعيات البديلة التي تكوَّنت بانشطارٍ للكون مثل هذا نتيجةَ تجربةِ القطة في الصندوق أو تجربة الثقبَين، يمكن أن تحدث بأن ترجع في الزمان في واقعنا الخاص بنا ذي الأبعاد الأربعة إلى زمن التجربة، وحينئذٍ نذهب إلى الأمام في الزمان عبر الفرع البديل الذي يصنع زوايا قائمة بالنسبة لعالمنا ذي الأبعاد الأربعة. وربما يكون ذلك مستحيلًا. إن الحكمة التقليدية تفيد بأن السَّفر الحقيقي عبر الزمان لا بد أن يكون مستحيلًا لما به من تناقضٍ كتلك الحالة التي ترجع فيها في الزمان وتَقتل جَدك قبل أن تحمل جَدتك بوالدك. ومن ناحيةٍ أخرى فإن الجسيمات على المستوى الكَمِّي تبدو مشغولةً طول «الوقت» في السَّفر عبر الزمان، كما أن فرانك تيبلر قد بيَّن أن معادلات النسبية العامة تسمح بالسفر عبر الزمان. ومن الممكن أن نولِّد نوعًا من السفر الأصيل للأمام أو للخلف في الزمان لا يسمح بالتناقض، ومثل هذا الشكل من السفر عبر الزمان يعتمد على واقعية الأكوان البديلة. وقد اختبر ديفيد جيرولد في كتابٍ مسلٍّ للخيال العلمي هذه الاحتمالات، ويحمل الكتاب اسم «الرجل الذي طوى نفسه»، وهو كتاب يستحق القراءة كدليلٍ على ما في واقع العوالم المتعددة من تعقيداتٍ وأشياءَ خفية. والمسألة أنك — استنادًا إلى المثال الكلاسيكي — إذا عُدت للوراء في الزمان لتقتل جَدك، فإنك (معتمدًا على وجهة نظرك) تدخل أو تخلق عالمًا بديلًا تفرَّع بزاويةٍ قائمة مع العالم الذي بدأت فيه. وفي هذا الواقع «الجديد» لم يكن أبوك ولا حتى أنت نفسك قد وُلدتما، لكن ليس هناك تناقض لأنك قد وُلدت بالفعل في الواقع «الأصلي» وتقوم بالرحلة إلى الوراء عبر الزمان وفي فرعٍ بديل. عُد مرةً ثانيةً وأصلح ما أفسدته، وكل ما ستفعله هو أن تعود إلى الفرع الأصلي للواقع أو على الأقل واقعٍ شبيه به. وفقًا لتفسيري لنظريةِ العوالم المتعددة، فإن المستقبل لا يتقرَّر من حيث إدراكنا الحسي الواعي للعالم المعني، لكن الماضي محدَّد. وبفعل الملاحظة فقد اخترنا تاريخًا «واقعيًّا» من بين الواقعيات العديدة، فبمجرد أن رأى شخصٌ ما شجرةً في عالمنا، فإنها تظل هناك حتى عندما لا ينظر إليها أحد. وينطبق هذا على كل شيء إلى الوراء حتى الانفجار الكبير. وعند كل وصلة على الطريق السريع للكَمِّ، ربما يكون قد تكوَّنت العديد من الواقعيات الجديدة، ولكن ما وصل إلينا واضحٌ وغير مبهم. وهناك العديد من الطرق التي تصل إلى المستقبل، إلا أن بعض نسخ «منَّا» ستتبع كلَّ واحد منها. وستعتقد كل نسخة منَّا أنها تسلك مسلكًا فريدًا، وسننظر إلى الوراء إلى ماضٍ فريد، لكن من المستحيل أن نعرف المستقبل؛ حيث إن به مساراتٍ عديدة. وربما نستقبل رسائلَ من المستقبل، إما بواسطةِ وسائلَ ميكانيكيةٍ مثل «الهروب عبر الزمن»، أو إذا أردت أن تتصوَّر احتمالَ حدوث ذلك من خلال الأحلام، أو بالإدراك الخارج عن النطاق الحسي. لكن من غير المحتمل جدًّا أن تكون تلك الرسائلُ ذاتَ فائدةٍ كبيرة لنا. وحيث إنه قد توجد أعدادٌ وافرة من عوالم المستقبل، فإن أي رسائل مثل هذه يجب أن تتوقَّع أنها مشوشة ومتضاربة. وإذا تصرفنا بناءً على هذه الرسائل فإن الاحتمال الأكثر أن نحيد بأنفسنا إلى فرعٍ من الواقعية مختلِف عن الذي جاءت منه «الرسائل»، وعليه فإنه من غير الممكن جدًّا أن تستطيع هذه الرسائل «أن تصبح صحيحة». والناس الذين يعتقدون أن نظريةَ الكَمِّ تقدِّم مفتاحًا لتفسير الإدراك الخارج عن النطاق الحسي عمليًّا، والتخاطر، وخلافه، إنما يضلِّلون أنفسَهم. وصورةُ الكون كما يصوِّرها شكل فاينمان المبسوط التي تتحرَّك فيها «اللحظة الحاضرة» بمعدلٍ ثابت تعدُّ تبسيطًا أكثرَ من اللازم. والصورة الواقعية هي شكل فاينمان المتعدِّد الأبعاد، به كل العوالم المحتملة، وبه «اللحظة الحاضرة» تنتشر عبرهم جميعًا مرتقبةً كلَّ فرع وكلَّ بديل. والسؤال الأعظم الذي تُرِكَ للإجابة عنه في هذا الإطار هو: لماذا يجب أن يكون إدراكنا الحسي عن الواقعِ بالشكل الذي هو عليه؛ ولماذا يجب أن تكون الممرات عبر متاهةِ الكَمِّ التي بدأت منذ الانفجار الكبير وأدَّت إلى كوننا، أن تكون هي المسار الصحيح دون سواها لظهور المخلوقات الذكية في الكون؟ وينصُّ المبدأ الإنساني على أنه ربما توجد عوالمُ محتملة عديدة، وأننا بلا جدال نتاج نوعنا من الكون. ولكن أين العوالم الأخرى؟ وهل هي أشباح مثل العوالم المتفاعلة في تفسير كوبنهاجن؟ وهل تعبِّر عن حلقاتِ حياةٍ مختلفة للعالم ككلٍّ قبل الانفجار الكبير الذي بدأ به الزمان والمكان كما نعرفهما نحن؟ أم هل هي عوالم إيفرت المتعددة، التي توجد كلها بزوايا قائمة مع عالمنا؟ يبدو لي أن هذا أفضلُ تفسيرٍ حتى اليوم، وأنه حلَّ اللغز الأساسي حول لماذا نرى الكون على الشكل الذي يعوِّض بوفرةٍ الحملَ الثقيلَ الذي يحمله تفسيرُ إيفرت. ومعظم الواقعيات الكَمِّية البديلة غير مناسبة للحياة أو هي فارغة. والظروف الصحيحة المناسبة للحياة هي ظروفٌ خاصة، وعليه فإن الكائنات الحية عندما تنظر إلى الوراء في ممرِّ الكَمِّ الذي أنتجها هي نفسَها، فإنها ترى أحداثًا خاصة، وفروعًا في طريقِ الكَمِّ ربما لا تكون الأكثرَ احتمالًا على أساسٍ إحصائي، ولكنها تفضي إلى حياةٍ ذكية. إن تعدُّد عوالمَ مثل عالمنا ولكن بتواريخ مختلفة — التي فيها ما زالت بريطانيا تحكم مستعمرات شمال أمريكا، أو فيها السكان الأصليون لأمريكا يستعمرون أوروبا — وهؤلاء يُكوِّنون معًا ركنًا واحدًا صغيرًا فقط لواقعٍ أكثرَ اتساعًا بكثير. وليس من قبيل الصدفة أنه قد جرى انتقاء الظروف الخاصة المناسبة للحياة من بين العديد من الاحتمالات الكَمِّية، لكنه اختيار. وكل العوالم واقعية بالدرجةِ نفسِها، لكن العوالم المناسبة فقط هي التي تتضمَّن مشاهدين. إن نجاحَ تجارب فريق أسبكت لاختبار عدم مساواة بل قد أزاح كلَّ احتمالات تفسيرات ميكانيكا الكَمِّ الممكنة، التي وجدت ما عدا اثنين. فإما أن نتقبل تفسير كوبنهاجن، مع واقعياته الشبحية والقطط نصف الميتة، أو نتقبل تفسير إيفرت وعوالمه المتعددة. ومن الطبيعي أن أيًّا من هذين الشيئين اللذين يمثِّلان «أفضل المشتريات» في متجر العلوم، يمكن أن يُتصوَّر أنه غير صحيح، وأن كلا هذين البديلَين على خطأ. وربما ما يزال هناك تفسيرٌ آخر لواقع ميكانيكا الكَمِّ يحُل الألغاز التي يحلُّها تفسير كوبنهاجن وتفسير إيفرت، بما يشمل اختبار بل، ويذهب أبعدَ من فهْمنا الحالي، بنفس الطريقة التي ربما تتجاوز بها نظرية النسبية العامة النسبية الخاصة وتحتضنها. لكن إذا كنت تعتقد أن هذا هو الخيار الأسهل، طريقٌ يسيرٌ للخروج من المأزق، فلتتذكَّر أن أي تفسير «جديد» مثل هذا يجب أن يوضِّح كلَّ شيء قد تعلَّمناه، مثل قفزة بلانك الكبيرة في الظلام، ويجب أن يشرح كل شيء بالمثل أو «أفضل» من التفسيرَين الحاليَّين. وهذا من المؤكَّد أمرٌ صعب للغاية، وليس من المعتاد أن يجلس العلم خاملًا على أملِ أن يأتي شخصٌ ما بإجابةٍ «أفضل» لمشكلاتنا. وفي حالةِ عدمِ وجودِ إجابةٍ أفضلَ، علينا أن نقبل بتضميناتِ أفضلِ الأجوبةِ التي لدينا. وحتى في العَقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وبعد مجهودٍ مكثَّفٍ لأكثر من ٨٠ عامًا كُرِّس للغز الواقع الكَمِّي من جانبِ أفضل أدمغة هذا القرن، يتعيَّن أن نتقبَّل أن العلم قادرٌ في الوقت الحالي فقط أن يقدِّم هذين التفسيرَين البديلَين، للطريقةِ التي صُمِّمَ العالمُ بها. ولا يبدو أن أيًّا منهما مستساغ جدًّا عند النظرة الأولى. وبتعبيرٍ بسيط، إما أنه لا يوجد شيءٌ واقعي، أو أن كل شيء واقعي.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/0.8/
خاتمة
إنَّ قصةَ الكَمِّ كما عرضتُها هنا، تبدو واضحةً وجافة، إلا فيما يتعلَّق بالسؤالِ شبهِ الفلسفي عما إذا كنتَ تفضِّل تفسيرَ كوبنهاجن أم نسخةَ العوالم المتعددة. تلك هي الطريقة الأفضل لعرض القصة في كتاب، لكنها لا تمثل الحقيقة كاملة. ذلك أنَّ قصةَ الكَمِّ لم تنتهِ بعدُ، ولا يزال علماء الفيزياء النظرية اليوم يعالجون مشكلاتٍ قد تؤدي إلى إحراز خطوة جوهرية للأمام، كتلك الخطوة التي اتخذها بور عندما تمكَّن من تكميم الذرة. ومحاولة الكتابة عن هذا العمل غير المكتمل، هي مهمةٌ فوضوية وغير مُرضية؛ فالآراء المقبولة عما هو مهم وعما يمكن تجاهله دون ضرر، ربما تتغيَّر تمامًا قُبيل طباعةِ ما كتبته. ومع ذلك، فمن أجلِ تقديمِ تصوُّرٍ عن الكيفية التي يمكن أن تتطوَّر بها الأمور، أوردُ في هذه الخاتمة عرضًا للجوانب غير المكتملة في قصةِ الكَمِّ، وبعض التلميحات عما يمكن ترقُّبه في المستقبل. تأتي الإشارة الأوضح على أنه لا يزال هناك الكثير من الجوانب الخفية في نظريةِ الكَمِّ من أحدِ الفروع الذي يُعَدُّ الأهمَّ في النظرية وأعظمَّ انتصارٍ لها. يتمثَّل هذا الفرع في الكهروديناميكيا الكَمِّية، وهو النظرية التي «تشرح» التفاعل الكهرومغناطيسي من منظورِ الكَمِّ. أزهرت الكهروديناميكيا الكَمِّية في أربعينيات القرن العشرين، وثبت أنها ناجحةٌ للغاية حتى إنها استُخدِمت نموذجًا لإحدى نظريات التفاعل النووي القوي، وهي النظرية التي تُلقَّب بدورها بالكروموديناميكية الكَمِّية؛ لأنها تتضمَّن تفاعلاتِ جسيماتٍ تُدعى بالكواركات يميِّز العلماء بين خواصها من خلال وصفها بأسماء الألوان. على سبيل الطرافة. غير أن الكروموديناميكية الكَمِّية نفسَها تعاني عيبًا خطيرًا. ذلك أنها لا تستقيم إلا بعد التلاعب بالرياضيات كي تلائم ملاحظاتنا للعالم. تتعلَّق المشكلات بأنَّ الإلكترون في نظريةِ الكَمِّ ليس بالجسيم العاري كما هي الحال في النظريةِ الكلاسيكية، بل هو محاطٌ بسحابةٍ من الجسيمات الافتراضية. وتؤثِّر سحابة الجسيمات هذه بالطبع على كتلة الإلكترون. من الممكن جدًّا إعدادُ المعادلاتِ الكَمِّية بما يتلاءم مع إلكترون + سحابة، لكن عند حل هذه المعادلات دائمًا ما تُقدَّم «حلول» لا نهائية الكبر. فبدءًا من معادلة شرودنجر، وهي حجر الزاوية في نظريةِ الكَمِّ، نجد أنَّ المعالجة الرياضية الصحيحة للإلكترون تعطي كتلةً لا نهائية وطاقةً لا نهائية وشحنةً لا نهائية. وما من طريقةٍ رياضيةٍ شرعية للتخلُّص من هذه اللانهائيات، لكن يمكن التخلُّص منها بالغش. فنحن نعرف قيمةَ كتلة الإلكترون بالقياسات التجريبية المباشرة، ونعرف أن هذه هي الإجابة التي يجب أن تقدِّمها النظرية لكتلة الإلكترون + السحابة. لذا يزيل النظريون الكَمِّيات اللانهائية من المعادلات عن طريق قسمة إحداها على الأخرى. ومن الناحية الرياضية، إذا قسَّمتَ كميةً لا نهائية على كميةٍ أخرى لا نهائية، يمكن أن تحصلَ على أي حلٍّ؛ ومن ثَم فإنهم يقولون إن الحل لا بد أن يكون هو الحل الذي نريده؛ أي الكتلة المقيسة للإلكترون. وتسمَّى هذه الخدعة بإعادة التطبيع. ولكي تفهم ما يجري، تخيَّل أنَّ شخصًا ما يزن ١٥٠ رطلًا يذهب إلى القمر؛ حيث تبلغ قوة الجاذبية على سطحه سدسَ قوة الجاذبية على سطح الأرض. إذا ضبطنا ميزانَ الحمَّام المألوفَ على سطح الأرض، وأخذناه في الرحلة إلى القمر، فسنجد أنَّ وزن المسافر ٢٥ رطلًا فقط، مع أن جسمه لم يفقد أيَّ كتلة. وفي ظل هذه الظروف، ربما يكون من المنطقي أن «نعيد تطبيع» الميزان المنزلي من خلال تحريك المؤشِّر حتى يسجِّل الوزن ١٥٠ رطلًا من جديد. لكن هذه الخدعة تنجح فقط لأننا نعلم الوزن الفعلي للمسافر بمقياس الأرض، ولأننا نود الحفاظ على سجلاتنا بما يتماشى مع الوزن المرصود على الأرض. إذا سجَّل الميزان وزنًا لا متناهيًا، فلا يمكننا ضبطه بما يتفق مع الواقع إلا من خلالِ إجراءِ تصحيحٍ لا متناهٍ، وهذا هو ما يفعله منظِّرو الكَمِّ في مجال الكهروديناميكيا الكَمِّية. ومن سوء الحظ أن قسمة ١٥٠ على ٦ تعطي نتيجةً مؤكدة مقدارها ٢٥، لكن ضرب ٢٥ في ما لا نهاية ثم قسمتها على ما لا نهاية، لا تعطي الجواب ٢٥ دون شك، بل يمكن أن تعطي أيَّ إجابة على الإطلاق. عليَّ الاعتراف بأنني في غايةِ السخط على الوضع؛ لأن هذه النظرية التي توصَف بأنها «نظريةٌ جيدة» تنطوي على تجاهل اللانهائيات التي تظهر في معادلاتها، ويحدث هذا التجاهلُ بطريقةٍ اعتباطية. وليس هذا ما يحدث في الرياضيات السليمة؛ فالرياضيات السليمة تتجاهل كميَّةً عندما تكون هذه الكَمِّية ضئيلة، وليس إهمالها لأنها كبيرةٌ إلى ما لا نهاية، وأنك لا ترغب فيها. وبعد أن أوضح ديراك أنَّ «معادلة شرودنجر ليس لها حلول» من وجهة نظره، ختم محاضرته بالتأكيد على ضرورةِ إجراءِ تغييرٍ «جذري» على النظرية لكي تصبح سليمةً رياضيًّا. «فالتغييرات البسيطة لن تكفي … وأنا أشعر أن التغيير المطلوب سيكون بضخامة الانتقال من نظرية بور إلى ميكانيكا الكَمِّ.» لكن أين نستطيع البحثَ عن مثل هذه النظرية الجديدة؟ لو أنني أملك الإجابةَ لكنت في طريقي للفوز بجائزة نوبل، لكني قد أستطيع أن ألفت انتباهَكم إلى بعض التطورات المثيرة للاهتمام النابعة من الفيزياء اليوم، والتي ربما تلائم في النهاية حتى تحقيقات ديراك الفاحصة عما يشكِّل نظريةً جيدة. ربما تكمُن الوسيلة لتحقيقِ فهمٍ أفضلَ لطبيعة الكون في ذلك الجزء من العالم المادي الذي ظل مهملًا على نطاقٍ كبير في نظريةِ الكَمِّ حتى الآن. تخبرنا ميكانيكا الكَمِّ بالكثير عن جسيمات المادة، لكنها لا تخبرنا إلا بالقليل للغاية أو لا تخبرنا بأي شيء على الإطلاق عن الفضاء الخالي. بالرغم من ذلك، فمثلما علَّق إدنجتون منذ أكثر من ٥٠ عامًا في «ذا نيتشر أوف ذا فيزيكال وورلد»، بأنَّ الثورةَ التي كوَّنت صورتنا عن المادة الجامدة بصفتها فضاءً خاليًا في معظمه، جوهريةٌ بدرجةٍ أكبرَ من الثورة التي جاءت بها نظرية النسبية. فحتى جسمٌ جامد مثل مكتبي، أو هذا الكتاب، يكاد يكون بأكمله فراغًا خاليًا. إنَّ نسبة المادة إلى الفضاء أقل حتى من النسبة بين حبة رمل وبين قاعة «ألبرت هول». والشيء الوحيد الذي يبدو أن نظريةَ الكَمِّ تخبرنا به عن هذا الجزء المهمل الذي يمثِّل ٩٩٫٩٩٩٩٩ من الكون، هو أنه دوامةٌ من الجسيمات الافتراضية تموج بالنشاط. ومن سوء الحظ أن المعادلات الكَمِّية التي تؤدي إلى حلولٍ لا نهائية في الكهروديناميكيا الكَمِّية، تخبرنا هي نفسُها أيضًا أن كثافة طاقة الفراغ لا نهائية، وأنه لا بد من تطبيق إعادة التطبيع حتى على الفضاء الخالي. وعند الجمع بين معادلات الكَمِّ القياسية ومعادلات النسبية العامة في محاولةٍ للوصول إلى وصفٍ أفضلَ للواقع فإن الموقف يصبح أسوأ؛ إذ نظل نجد اللانهائيات، لكنها لا تعود حتى قابلة لإعادة التطبيع. من الواضح أننا نسعى وراء هدفٍ خاطئ. فما الهدف الذي ينبغي أن نسعى خلفه؟ عاد روجر بنروز الباحث في جامعة أوكسفورد، إلى الأساسيات في محاولة لإحراز تقدُّم. وقد درس العديدَ من الطرق المختلفة لرسم وصفٍ هندسي للفراغ وجسيماته، مثل أوصافٍ هندسية تتضمَّن زمكانًا مشوَّهًا، وقِطعًا مبرومةً من الزمكان نرصدها على أنها جسيمات. ولأسبابٍ واضحة، يُطلَق على النظرية التي أسَّسها نظريةُ المبرومات، لكن من سوء الحظ أنَّ الرياضيات المتعلقة بالنظرية صعبةٌ على معظم الناس، والنظرية نفسُها أبعدُ عن أن تكون مكتملة. غير أنَّ المفهوم في حد ذاته مهم؛ فباستخدامِ نظريةٍ واحدة، يحاول بنروز تفسيرَ كلٍّ من الجسيمات الدقيقة والمساحات الشاسعة من الفراغ داخل شيءٍ جامد مثل هذا الكتاب. وربما تكون هذه هي النظرية الخطأ، لكن معالجتنا لصميمِ مشكلةٍ أُهملت بشكلٍ كبير، يسلِّط الضوء على أحد الأسباب المحتملة لفشلِ النظرية القياسية. هذه الأفكار كلُّها مبهمة وغير كافية ومحيِّرة. وليس لدينا إجاباتٌ جوهرية حتى الآن، لكن لا ضررَ في إدراك أن «فهمنا» للفضاء الخالي مشوَّش في واقع الأمر وغير مؤكَّد ومبهم وغير كافٍ. وإنه لأمر يوسِّع من مداركنا أن نفكِّر مليًّا في أن كل الجسيمات المادية قد لا تكون أكثرَ من أجزاءٍ مبرومة من الفضاء الخالي. وإذا كانت النظريات التي «نفهمها» تتداعى، فمن المحتمل إذن أن يأتي التقدُّم من أشياءَ لا نفهمها بعدُ؛ لذا فقد يكون من المثير للاهتمام أن نراقب ما قد يأتي به مهندسو الكَمِّ في السنوات القليلة القادمة. يُعد التناظر مفهومًا أساسيًّا في الفيزياء. فالمعادلات الجوهرية تتسم بالتناظر الزماني على سبيل المثال؛ أي أنها تكون صالحةً بالدرجةِ نفسِها عند التقدُّم بالزمن للأمام أو العودة به للخلف. ويمكن فهمُ بعض الأنواع الأخرى من التناظر بالمصطلحات الهندسية. يمكن مثلًا أن تنعكس كُرةٌ تدور في مرآة. وعند النظر إليها من أعلى، قد نراها تدور عكس عقارب الساعة، وفي هذه الحالة سنرى صورةَ المرآة تدور مع عقارب الساعة. كلٌّ من الكرة الحقيقية وصورة المرآة تتحركان بطرقٍ تسمح بهما قوانين الفيزياء، وهي تناظرية بهذا المعنى (ولا شك بأنَّ صورة الكرة المنعكسة في المرآة تدور على النحو الذي كانت الكرةُ الحقيقية ستدور به إن تحرَّك الزمن للوراء. أمَّا إذا انعكس الزمن «مع» انعكاس صورة الكرة على المرآة أيضًا، فسنرجع إلى حيث بدأنا). يوجد العديد من الأنواع الأخرى من التناظر في الطبيعة. ومن هذه الأنواع ما يسهُل فهمُه بلغة الحياة اليومية؛ إذ يمكن على سبيل المثال أن نتخيَّل الإلكترون والبوزيترون على أنَّ كلًّا منهما صورةُ مرآة للآخر، كما يمكننا أيضًا تخيُّل أنَّ أحدهما يمثِّل نظيرًا معكوسَ الزمن للآخر. فالشحنة الموجبة المعكوسة هي شحنةٌ سالبة. إنَّ أفكار الانعكاس في الفضاء هذه معًا (تسمَّى تغيُّر التكافؤ لأنها تبدِّل اليسار باليمين)؛ ويشكِّل الانعكاس في الزمن وانعكاس الشحنة أحد أقوى المبادئ الأساسية في الفيزياء متمثلًا في مبرهنة «التكافؤ-الشحنة-الزمن» التي تنص على أن قوانين الفيزياء يجب ألا تتأثَّر بتغيير «هذه العوامل الثلاثة كلها» إلى نظائرها المضادة في الوقتِ نفسِه. إنَّ مبرهنة «التكافؤ-الشحنة-الزمن» هي أساس الافتراض القائل بأن انطلاق جسيم يكون مكافئًا «تمامًا» لامتصاصِ نظيره الجسيم المضاد. كيف يختل التناظر الرياضي؟ يأتي أفضل مثال على هذا من المغناطيسية. لنتخيل قضيبًا من مادةٍ مغناطيسية يحتوي على عددٍ هائل من مغناطيساتٍ داخليةٍ دقيقة تشبه الذرات المفردة. وعندما تكون المادة المغناطيسية ساخنة، تتحرَّك هذه المغناطيسات الداخلية الدقيقة حركتَها المغزلية، ويزاحم بعضها بعضًا بصورةٍ عشوائيةٍ متحركة في جميع الاتجاهات، ولا يوجد مجالٌ مغناطيسي كلي للقضيب، ولا عدم تناظرٍ مغناطيسي. لكن عندما يبرد القضيب تحت درجة حرارة معينة، تسمَّى درجة حرارة «كوري»، يتخذ فجأة حالةً ممغنطة؛ إذ تصطفُّ كل المغناطيسات الداخلية الدقيقة بعضها مع بعض. في درجة الحرارة المرتفعة فإن أدنى حالةِ طاقةٍ متاحةٍ تقابل صفرًا من المغنطة، وفي درجات الحرارة المنخفضة فإن أدنى حالةِ طاقةٍ تقابل اصطفاف المغناطيسات الداخلية الدقيقة (بصرف النظر عن طريقة اصطفافها). اختل التناظر وحدث التغيُّر لأنه في درجات الحرارة المرتفعة تتغلب الطاقة الحرارية للذرات على القوى المغناطيسية، أما في درجات الحرارة المنخفضة، فتتغلب القوى المغناطيسية على الحركة الحرارية للذرات. إضافةً إلى صعوبة إعادة التطبيع، تكمُن المشكلة مع نظريات المقياس في أنها ليست فريدة. فمثلما أنَّ نظريةَ مقياس واحدة تتضمَّن لا نهائيات لا بد من تكييفها لتلائم الواقع عن طريق إعادة التطبيع، يوجد أيضًا عددٌ لا نهائي من نظريات القياس المحتملة، وتلك النظريات المختارة لوصف تفاعلات الفيزياء لا بد أن تُكيَّف بالطريقةِ نفسِها، وعلى أساسٍ مخصَّص بالدرجةِ نفسِها، لتلائم مشاهدات العالم الواقعي. الأسوأ من ذلك أنه لا يوجد في نظريات المقياس ما يوضِّح العدد الذي ينبغي أن يوجد من أنواع الجسيمات المختلفة؛ أي لا يوجد ما يوضِّح عدد الباريونات أو اللبتونات (جسيمات من عائلة الإلكترونات)، أو بوزونات المقياس، أو أي شيءٍ آخر. من ناحيةٍ مثالية، يودُّ الفيزيائيون التوصُّل إلى نظريةٍ فريدة لا تستلزم إلا عددًا معينًا من أنواعٍ معينة من الجسيمات لتفسير العالم الفيزيائي. وفي عام ١٩٧٤، تحققت خطوة في اتجاه تشكيل مثل هذه النظرية مع ابتكار التناظر الفائق. جاءت الفكرة من أعمال يوليوس وايس من جامعة كارلسروه، وبرونو زمينو من جامعة كاليفورنيا بولاية بيركلي. بدأ الاثنان بتخمينِ ما يجب أن تكون عليه الأمور في عالمٍ مثالي التناظر، وهو أن يكون لكل فيرميون بوزون مقابلٌ مساوٍ له في الكتلة. إننا لا نرى في الطبيعة هذا النوع من التناظر فعليًّا، لكن تفسير ذلك قد يكون أنَّ التناظر اختلَّ مثل التناظر الذي يتضمَّن التفاعلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات الضعيفة. ومن المؤكَّد بما فيه الكفاية أنك إذا أجريت العمليات الرياضية، فستجد طرقًا تصف التناظرات الفائقة التي وُجدت خلال الانفجار الكبير، لكنها اختلت بحيث اكتسبت الجسيمات اليومية في الفيزياء كتلةً صغيرة بينما اكتسبت شريكتها الفائقة كتلةً كبيرة جدًّا. لم يكن من الممكن للجسيمات الفائقة حينئذٍ أن توجد إلا لزمنٍ قصير قبل انقسامها إلى فيضٍ من الجسيمات الأقل كتلة، ولتكوين مثل هذه الجسيمات الفائقة اليوم، فإننا نحتاج إلى تهيئةِ ظروفٍ مثل ظروف الانفجار الكبير، وتلك ظروف تتسم بطاقةٍ هائلةٍ بالطبع، فلن يكون من المستغرب إذن أن تفشل حتى أشعة البروتونات/مضادات البروتونات المتصادمة في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية في إنتاجها. إنَّ ذلك كلَّه قائم على الاحتمالات. غير أنَّ ذلك ينطوي على ميزةٍ عظيمة. لا يزال هناك أنواعٌ مختلِفة من نظريات المجال للتناظر الفائق تمثِّل تنويعات على الفكرة الأساسية، لكن قيود التناظر تعني أن كل نسخةٍ من النظرية لا تسمح إلا بوجود عددٍ محدودٍ من أنواع الجسيمات المختلفة. بعض النسخ تحتوي على مئات من الجسيمات الأساسية المختلفة، وهو احتمال مخيف، لكن بعضها الآخر يتضمَّن عددًا أقل كثيرًا، ولا تتنبأ أيٌّ من النظريات باحتماليةِ وجودِ عددٍ لا نهائي من الجسيمات «الأساسية». والأفضل من ذلك أن الجسيمات مرتَّبةٌ بانتظامٍ في مجموعاتٍ عائلية في كلٍّ من نظريات التماثل الفائق. في النسخة الأبسط، يوجد بوزون واحدٌ فقط حركتُه المغزلية تساوي صفرًا مع شريكٍ حركته المغزلية تساوي −١ / ٢؛ بينما تتضمَّن إحدى النسخِ الأكثرِ تعقيدًا لها اثنين من البوزونات بحركةٍ مغزلية تساوي −١ وفيرميون واحدًا حركتُه المغزلية −١ / ٢ وفيرميون آخرَ حركتُه المغزلية ٣ / ٢ وهكذا. لكنَّ أحسنَ الأخبارِ لم تأتِ حتى الآن. وهو أنه في نظريات التناظر الفائق لا يكون عليك دائمًا أن تقلق بشأن إعادة التطبيع. ففي بعض هذه النظريات تلغي اللانهائيات بعضها بعضًا تلقائيًّا وليس بطريقةٍ معينة، متبعةً بذلك القواعدَ السليمة للرياضيات مع التخلي عن الأعداد المحدودة والمعقولة. ربما يكون علم الكونيات في الواقع فرعًا من فيزياء الجسيمات. ذلك أنه وفقًا لإحدى الأفكار التي تطوَّرت من اعتبارها محضَ فكرةٍ مجنونة تمامًا إلى أن حظيت بالتقدير باعتبارها فرعًا من فروع علم الكونيات، ربما يكون الكون وكل شيء فيه، ليس سوى واحد من تلك التقلبات الفراغية التي تسمح لمجموعاتٍ من الجسيمات بأن تنبثق من لا شيء، وتعيش لفترة ثم يُعاد امتصاصها ثانيةً داخل الفراغ. ترتبط هذه الفكرة ارتباطًا وثيقًا باحتمالية أن يكون الكون مغلقًا فيما يتعلَّق بالجاذبية. فكونٌ وُلِد في لهيب انفجارٍ كبير ويتمدَّد لفترة من الزمن ثم يتقلص مرةً أخرى إلى كرة من اللهب ويختفي، «هو» تقلُّبٌ فراغي بالفعل، لكن على مستوًى ضخمٍ جدًّا. وإذا كان الكون متوازنًا تمامًا على مستوى الجاذبية بين التمدُّد اللامحدود والانهيار المحتوم، فلا بد أنَّ طاقةَ الجاذبية السالبة للكون ستلغي بالضبط كتلةَ الطاقة الموجبة لكل المادة الموجودة فيه. إنَّ إجمالي الطاقة في كونٍ مغلقٍ تساوي صفرًا، وليس من الصعب جدًّا تكوين شيءٍ ما بطاقةٍ كليةٍ صفرية من إحدى التقلبات الفراغية، حتى وإن كان الأمر ينطوي على خدعةٍ محبوكة بعض الشيء لكي تتمدَّد جميع الأجزاء الصغيرة مبتعدةً بعضها عن بعض، وتسمح — مؤقتًا — بوجود كل ذلك التنوُّع المثير للاهتمام الذي نراه حولنا. إنني مولَع بهذه الفكرةِ على نحوٍ خاص؛ إذ كان لي دور في ظهورها بشكلها الحديث في سبعينيات القرن العشرين. يمكننا أن ننسب الفكرةَ الأصلية إلى لودفيج بولتزمان، وهو فيزيائي من القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الديناميكا الحرارية الحديثة والميكانيكا الإحصائية. لقد افترض بولتزمان أنه بما أنَّ الكون ينبغي أن يكون في حالةِ اتزانٍ ديناميكي، لكنَّ ذلك لا يبدو ظاهريًّا، فربما يكون مظهره الحالي نتيجةَ انحرافٍ مؤقت عن الاتزان الذي تسمح به قواعد الإحصاء، شريطة الحفاظ على الاتزان في المتوسط، على المدى الطويل. إنَّ احتمالية حدوث مثل ذلك التقلُّب على مقياس الكون المرئي ضئيلة، لكن إذا كان الكون موجودًا في حالةٍ مستقرة على مدارِ زمنٍ لا نهائي، فثمَّة يقينٌ افتراضي بوقوع شيء من هذا النوع في نهاية المطاف، وحيث إن انحرافًا عن الاتزان هو وحده ما يمكن أن يسمح بوجود الحياة، فليس من الغريب أن نكون هنا خلال حدثٍ نادر من انحراف الكون عن الاتزان. يمكن أن يكون طويلًا جدًّا بالفعل. وقال: «لست أزعم أنَّ أكوانًا مثل كوننا تظهر كثيرًا، وإنما الوتيرة المتوقَّعة لظهورها لا تساوي صفرًا فحسب.» وأوضح أيضًا: «إنَّ منطق الظروف يقتضي على كل حالٍ أن يجد المراقبون أنفسهم دائمًا في أكوانٍ قادرةٍ على توليد الحياة، ومثل هذه الأكوان كبيرة بدرجةٍ مثيرة للإعجاب.» ظلت هذه الفكرة مهملةً لعشر سنوات. لكن في ثمانينيات القرن العشرين، بدأ الناس يأخذون نسخةً جديدةً منها على محمل الجِد. وبرغمِ آمالِ ترايون الأولية، أظهرت الحسابات المقترحة أن أي «كون كمِّي» جديد يتكوَّن من تقلبٍ فراغي سيكون في الواقع ظاهرةً دقيقة، وقصيرة الأجل، ولا تشغل سوى حجمٍ صغيرٍ للغاية من الزمكان. غير أنَّ علماء الكون قد اكتشفوا بعد ذلك طريقةً تؤدي بهذا الكون المتناهي الصِّغر إلى تمددٍ دراماتيكي يمكن أن يضخِّمه حتى يصل إلى حجم الكون الذي نعيش فيه في أقلَّ من طرفةِ عين. صار مصطلح «التضخم» هو الكلمة السحرية في علم الكون في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ويفسِّر التضخم كيف أن تقلبًا فراغيًّا متناهي الصِّغر يمكن أن ينمو إلى الكون الذي نعيش فيه. كان علماء الكونيات مهتمين بالفعل بأي جسيماتٍ إضافية قد تكون موجودةً في الكون، لأنهم يبحثون دائمًا عن «الكتلة المفقودة» اللازمة لكي يصبح الكون مغلقًا. يمكن للجرافيتونات التي تبلغ كتلةُ الجسيم الواحد منها ١٠٠٠ إلكترون فولت أن تكون مفيدةً للغاية هنا؛ إذ إنها لن تساعد في غلق الكون فحسب، بل إن وجودها سيكون ملائمًا تمامًا لتكوينِ تكتلاتٍ من المادة في حجم المجرات، وذلك وفقًا للمعادلات التي تصف تمدُّد الكون من الانفجار الكبير. وقد تكون النيوترينوات التي تبلغ كتلة الواحد منها ١٠ إلكترون فولت ملائمةً تمامًا لتشجيع نمو تكتلات من المادة على مستوى تجمُّعات المجرات، وهكذا. غير أنَّ علماء الكونيات أصبحوا أكثرَ اهتمامًا بفيزياء الجسيمات، لأن أحدث التأويلات لاختلال التناظر تشير إلى أن هذا التناظرَ المختلَّ نفسَه ربما يكون هو القوة الدافعة التي فجَّرت فقاعتنا من الزمكان إلى حالتها المتمددة. جاءت الفكرةُ في الأساس من آلان جوث الباحث بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. تتلخَّص الفكرة في صورةٍ للكون في مرحلةٍ كان فيها ساخنًا جدًّا وكثيفًا جدًّا وكانت كل التفاعلات الفيزيائية (ماعدا الجاذبية؛ إذ لا تتضمَّن النظرية التناظر الفائق بعد) متحدةً في تفاعلٍ تناظريٍّ واحد. وبينما بدأ الكون يبرد، اختلَّ التناظر واتخذت كلٌّ من القوى الأساسية للطبيعة، الكهرومغناطيسية والقوى النووية القوية والضعيفة، مسارَها المنفصل. ومن الواضح أن حالتَي الكون قبل اختلال التناظر وبعده، مختلفتان إحداهما عن الأخرى تمامًا. إنَّ التغيُّر من حالةٍ إلى الأخرى يشبه التغير الطوري، مثل تغيُّر الماء إلى الثلج عند التجمُّد، أو إلى البخار عند الغليان. بالرغم من ذلك، فبخلاف تغيُّر الأطوار على مستوى الحياة اليومية، فإنَّ اختلال التناظر الذي حدث في الكون المبكِّر ينبغي، وفقًا للنظرية، أن يكون قد ولَّد قوةَ جاذبيةٍ طاردة طاغية، فينفجر كل شيء مبتعدًا بعضه عن بعض في جزء من الثانية. لم تحاول نسخة جوث الأولية للكون التضخمي أن تفسِّر المكان الذي أتت منه الفقاعات الأولية الدقيقة، لكن من المغري جدًّا أن نكافئها بتقلباتٍ فراغية من النوع الذي وصفة ترايون. إنَّ هذه الرؤية الدرامية للكون تحلُّ الكثيرَ من الألغاز الكونية، ولا سيما المصادفة البارزة المتمثِّلة في أن فقاعة الزمكان التي يوجد فيها كونُنا تتمدَّد فيما يبدو بمعدلٍ على الحدود بين أن يظل الكون مفتوحًا أو مغلقًا. وهذا التصوُّر للكون التضخمي «يستلزم» وجود هذا التوازن، بسبب العلاقة بين كثافة الكتلة/الطاقة للفقاعة وبين القوى التضخمية. والأمرُ الأكثرُ إثارةً هو أن هذا التصوُّر يعهد بنا إلى دورٍ تافهٍ جدًّا في الكون؛ إذ يضع كلَّ ما نستطيع رؤيته في الكون في فقاعةٍ داخلَ فقاعةٍ أخرى لِكُلٍّ آخرَ يتمدَّد بدرجةٍ أكبرَ كثيرًا. إننا نعيش في زمنٍ مثير، ويبدو أننا على شفا فتحٍ كبيرٍ لفهمنا عن الكون يتسم من الأهمية، كما تنبَّأ ديراك، بما تتسم به خطوة الانتقال من ذرة بور إلى ميكانيكا الكَمِّ. وإنني أجد أنه من المثير للاهتمامِ للغاية أن ينتهي بحثي عن قطة شرودنجر بالانفجار الكبير، وعلم الكون، والجاذبية الفائقة والكون التضخمي؛ ذلك أنني بدأت في كتابي السابق «انثناء الفضاء» في سرد قصة الجاذبية والنسبية العامة، وانتهيت إلى المكانِ نفسِه. لم يكن ذلك هو مخطَّطي الأصلي في كلتا الحالتين، وفي كلتا الحالتين أيضًا يبدو أن الجاذبية الفائقة هي نقطةُ النهاية الطبيعية، وربما تكون تلك إشارة إلى أن التوحيد بين نظريةِ الكَمِّ والجاذبية يلوح في الأفق. بالرغم من ذلك، فليس لدينا نهايةٌ واضحة بعدُ، وأنا آمُل ألا يحدث هذا أبدًا. وكما قال ريتشارد فاينمان «من الطرق التي تؤدي إلى توقُّف العلم ألا نجري التجارب إلا حيثما نعرف القانون». والفيزياء هي استكشاف المجهول، وأضاف: إذا انتهى عمل الفيزياء في أيِّ يوم من الأيام، فإن العالم سيصبح مكانًا أقلَّ إثارةً فيما يتعلَّق بالحياة، ولهذا فإنني سعيدٌ لأنْ أتركك مع هذه النهايات المفتوحة، والتلميحات المغرية، واحتمال وجود المزيد من القصص التي لم تُروَ بعدُ، وكلٌّ منها لا تقل في عنصر الإثارة عن قصة قطة شرودنجر.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.