BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringlengths
5
45
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringlengths
53
13.9k
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/12/
الزفة الميري
حارتنا في شبه عزلة، ويندر أن يمر بها غريب، وأهلها يعرف بعضهم البعض كأنهم أسرة واحدة، فإذا وفد عليهم غريب بسبب طارئ، كان وفوده علامةً من علامات الزمن تؤرَّخ بها الأحداث، من أولئك شيخ معمَّم اخترق الحارة حال عودته من زيارة المقابر عادلًا عن الطريق العام، وفسَّر ذلك بما تلاه من حوادث عندما أصهر إلى أسرة «شلبية»، ومنهم آخر أفندي طرق الحارة كالغائب، وجلس في المقهى ليشرب العديد من فناجين القهوة. وقيل إنه ضل سبيله. والثالث خواجا جاء ليلتقط بعض الصور الفوتوغرافية محاولًا التقرُّب منا بلغة ركيكة مفككة، فلم يتم أي تفهُّم مفيد. وددنا أن تسير بنا الأمور بعيدًا عن أي كدر أو قلق، ولكن في يوم من الأيام التي تضاربت الأقوال في تحديده، أقبلت علينا جماعة من الأغراب تتقدَّم في خطوات ثابتة، ثم توقَّفت في منتصف الحارة لتتبادل كلمات خافتة. وكانوا تشكيلةً غريبةً متنافرة؛ منهم نفر من الأفندية، وشيخان مُعمَّمان، وفيهم أيضًا خواجا يغطِّي رأسه بقبعة عالية. توقَّف كل إنسان عن عمله لينظر، وامتلأت النوافذ بالضفائر، وخرج شيخ الحارة من مكتبه، ومدَّ إليهم بصره في توجُّس وحذر، وتحرَّكت الجماعة ذهابًا وإيابًا ما بين مدخل الحارة المفتوح على الميدان، ومخرجها المفضي إلى طريق المقابر. وجعلنا نتابعهم ونتوقَّع ما ليس في الحسبان. واتجهت الأبصار إلى شيخ الحارة، فأشار إلينا بالصمت والصبر. أمَّا الجماعة فواصلت مهمتها بفحص الجدران، والسبيل والكتاب وحوض مياه الدواب وكشك الحنفية والقبو، واهتمُّوا بالأرض المبلَّطة بالأحجار اهتمامًا خاصًّا، ثم رجعوا إلى وِقفتهم في الوسط يتناجَون. وارتفعت الهمهمة حتى شعر شيخ الحارة بالحرج، فاقترب منهم في حذر رافعًا يده بالتحية، غير أن أحدهم قال له بلهجة آمرة قبل أن يفتح فاه: انتظر في مكتبك. فرجع الرجل إلى موقفه الأول منطوي القسمات من الخجل والإحراج، واستمرَّت الجماعة في المناجاة، وكانوا يُشيرون إلى جهات مختلفة أحيانًا، كما ندَّت عن أحدهم ضحكة، ثم يتحرَّكون نحو مخرج الحارة، وعبروه إلى الممر الموصل للقرافة واختفَوا عن الأنظار، وضجَّت الحارة بالأصوات، وعبَّر كلٌّ عمَّا جال بخاطره: من يكونون؟ – الله أعلم، ولكنهم من الحكومة على أي حال. – ولماذا صبَّحونا بوجوههم العكرة؟ – ستخبرنا الأيام فلا تتعجَّل. – رئيسهم الأفندي الذي يتقدَّمهم. – وربما كان الخواجا رغم أنه يسير في الذيل. وتراوحت التوقُّعات بين التفاؤل والتشاؤم، وأطلقنا على الجماعة في أحاديثنا اسم «الزفة الميري». وقبل أن يفتر الحديث عنا أخبرنا شيخ الحارة أن وزارة الأوقاف قرَّرت تجديد السبيل وإعادة تشغيله، وفسَّرنا ذلك بأنه أول ثمرة لزيارة الزفة الميري. وسرعان ما جاء العُمَّال والمهندس ومندوب الوزارة وبدأ العمل، وارتفعت موجة التفاؤل، قلنا: إنه ليس من المعقول أن تزورنا زفة طويلة عريضة من أجل تحديد السبيل وحده، وسوف تكشف الأيام عن أعمال أجل. وإذا بشيخ الحارة يبشِّرنا بأن الحكومة ستقيم سقفًا جديدًا للكُتَّاب، مكان السقف الذي أودت به العاصفة في الشتاء الأسبق. وقلنا: يا لها من زفة ميري مباركة! وإن زمن الخيرات هلَّ مُلوِّحًا بألويته، وبنفس الهمة رُمِّم حوض مياه الدواب. كما قيل إن مفاوضات تجري لتحويل بيت إلى مستوصف. عظيم، عظيم، أيتها الزفة. حقًّا لقد فقدَت الحارة هدوءها؛ فعمَّها الضجيج، وكثرت المشاجرات، وامتلأت الأركان بالنفايات، وجاء أهل المزاج فأعدوا تحت القبو غرزة، وبوظة للعُمَّال والشباب. وتسلَّلت إليها رموز الدعارة وفاحت الرائحة، فانزعج الناس ودعَوا شيخ الحارة لتطهير الحارة ممَّا دهمها على غير توقُّع، وبسبب ما، لم ينجح الشيخ في مُهمَّته وقال كالمعتذر: الضرورات تبيح المحظورات. وقال إمام الزاوية: الخير والشر متلازمان كالنهار والليل، ولا خوف على مؤمن. وانتشر قول بلا أي دليل؛ وهو أن أحد أعضاء الزفة وراء مجمع الفساد تحت القبو. وثارت اتهامات كثيرة، وأرجعوا كل شيء إلى الزفة الميري، وغشي الحزن القلوب. واشتد الشتاء وقسا أكثر من أي عام مضى، وتهكَّم كثيرون فقالوا: إنه شتاء الزفة الميري، وإنه يجب أن يحمل طابعها المشئوم. وتوارت الشمس وراء ركام السحب، وهبَّ هواء مزمجر فعصف بكل شيء؛ فانقلبت عربة اليد وطار ما عليها من الفاكهة والخَضروات، وانهمرت الأمطار كالفيضان، واستمرَّت بلا هوادة؛ فأغلقت الدكاكين وهرب الناس من بيوتهم، وانفضت تلك الغضبة الكونية ففتكت بما فوق الأسطح من طير وحيوان وكراكيب، وانهار السبيل، وتهدَّم كشك الحنفية، وسقط سقف الكتَّاب، وصاح إمام الزاوية من وراء بابها المغلق: «قامت القيامة ولله الأمر!» ويقول الرواة: إن العاصفة والأمطار استمرَّت النهار والليل، ولم تسكن ثورة الكون، إلا صباح اليوم التالي. وراح شيخ الحارة يتفقَّد الأحوال متوقِّعًا في كل خطوة شيئًا، وعندما اطلع على الممر المفضي إلى المقابر وجده غارقًا في الماء، ورأى فوق سطحه بعض الجثث والهياكل العظمية تنحدر بها المياه نحو الحارة. ورجع الرجل وهو يصرخ بأعلى صوته: كفاكم حديثًا عن الحظ والقدر والزفة الميري، وهبُّوا إلى العمل، وإلا اجتاحت الأموات بيوتكم!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/13/
ليلة الزفاف
طلعت الأردوازي من الأوائل السابقين إلى ارتداء بدلة الأفندية في عمارتنا. وليلة زفافه تُذكر في الليالي بفضل المنيلاوي الذي أحياها حتى مطلع الفجر. وجاءوه برجل مبارك ليقرأ طالعه، فنظر في مفرق شعره وتابع خطوط كفِّه وقال: «من يد واحدة يسيل العسل والسم.» واكتأب العريس ممَّا سمع، فطالبه بالمزيد من الإيضاح، ولكن الرجل لم ينبس. ونظر العريس في وجوه الحاضرين وسأل: ما رأيكم في نبوءات قرَّاء الطالع؟ فقال صاحب حكيم: كذب المنجِّمون ولو صدقوا. وأسلم الشاب جسده إلى موجة الفرح العالية فغمرته، وغسلت ما علق به من كدر وشك. ولمَّا تجلَّت نظرة الكراهية السامة بعد ذلك بأعوام طوال، ثم وقعت الواقعة، تذكَّر أناس من جديد نبوءة قارئ الطالع. وثار العجب مرةً أخرى، وأقبلت الحيرة، لكن ما وقع كان قد وقع.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/14/
السعادة
– لماذا قتلته؟ – لم أقصد قتله، ضربته بعصاي على رأسه. – كانت الضربة شديدةً فقتلته. – قتله أجله. – ولكن بضربة عصاك الشديدة، والغريب أن الشهود أجمعوا على أنه لم يقع بينكما ما يدعو إلى أي خصام. – لم يقع بيننا شيء، كنا نجلس بركننا المختار في المقهى لنتسامر كالعادة. – وفجأةً ضربته بلا سبب. – ذلك في الظاهر، أمَّا الحقيقة فهي أنني ضربته احتجاجًا على سعادته. – سعادته؟! – لم أنسَ بعدُ وجهه المستدير الممتلئ، وعينَيه الباسمتَين، وصحته الصارخة، والسرور الدائم الذي يطفِر من خدَّيه المتورِّدَين. وعضَّ على شفته لحظة، ثم واصل حديثه: لم يرَ في الدنيا إلا ما يسر، ولا يكف عن الضحك، ويحوِّل بمهارة واستهانة المآسي إلى مهازل، حتى مأساة الموظَّف المسكين الذي قفز من النافذة هربًا من مصروف البيت. وسكت لحظةً أخرى، ثم قال: طالما استفزَّتني سعادته فكان لا بد أن أُسوِّي حسابي معها.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/15/
نذير من بعيد
و«حسبو» الذي أنذرنا بخطر لم يقَع لنا في حسبان. كان يبيع الروائح العطرية برزق محدود، أمَّا ثروته من قلوب الناس فلا حدود لها. وأبرز سجاياه كانت الصدق والوفاء. وعُرف أنه في أوقات فراغه يداعب الغناء، ويعشق السَّمر، ولا تحلو له الجوزة إلا فيما وراء المقابر. وعاد يومًا من سهرته صباحًا شاحب الوجه شارد اللُّب، وفي وسط الأصدقاء بالمقهى حكى كيف نُودي وهو راجع في الظلام، وكيف وجد نفسه بين أشباح غاضبة، عرف في سياق حديثها أنها هياكل أموات أهل الحارة السابقين، وأنهم لا يوافقون على ما يرتكب في حارتهم من فِعال منكرة، وطالبوه بأن يكون نذيرهم إلى أهل حارته بأنه إذا لم ترشُد أمورهم وتستقم؛ فسوف تزحف عليهم جيوش الهياكل العظمية؛ لتطهِّر الحارة من الانحراف والمنحرفين. وضحك البعض، وانخرط البعض في المزاح، غير أنهم وجموا حيال حزنه الشديد ونظراته الدامعة المنكسرة. – أأنت جادٌّ يا حسبو؟! – ما عرفناك كاذبًا قط. – لكن ما تقول هو المستحيل بعينه. فقال بصوت متهدِّج: جلَّت قدرته، يقول للشيء كن فيكون. ومن عجب أن بقي أثر من حديث حسبو في نفوس كثيرة. ردَّد قوم ما يقال عن سنن الله التي لا تبديل لها، وانحاز آخرون إلى مقولة قدرته التي لا تعرف الحدود، وخاض في ذلك العقلاء والعامة والسفهاء أيضًا، حتى كادت تنشب فتنة، واضطُر شيخ الحارة أن يتدخَّل، فصاح فيهم يوم السوق: ما لكم ولهذه المسائل العويصة؟! هل فرغتم من همومكم اليومية؟! واستعان بإمام الزاوية ولكن الجدل تواصل واستفحل، وتبودلت شتائم وحصل اشتباك بالأيدي. وفي أثناء ذلك كانوا يُشيرون إلى نذير الأموات وكأنه حقيقة لا شك فيها. ودون أن يقلِّل ذلك من الانحرافات التي تُرتكب كل يوم وكأنه لا علاقة بين الاثنَين. أمَّا حسبو فقد انسحب من حياة حارته، وانجذب بكل قواه نحو عالم الغيب، وتقطَّعت العلائق بينه وبين الناس والأشياء، فانتهى إلى الجلباب الأبيض والعِمامة الخضراء والكلمات المبهمة. وكان يقضي أكثر وقته عند طرف القبور متطلِّعًا إلى الخلاء منتظرًا ما يجيء به الوقت.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/16/
الأرض
في ساعة هدوء وخمول وطمأنينة انفجر الرعب من الأعماق، واجتاح القلوب وغدر بالآمال، فلم يبقَ إلا المجهول. ومادت الأرض ورقصت رقصة الموت، فدعا كل لسان بريق جافٍّ أن ينتهي ذلك الزلزال. وانتهى الزلزال بعد ثلاثين ثانيةً من الزمن، وألف عام من العذاب. وتطلَّع شيخ الحارة فيمن حوله فرأى الحارة تموج بأهلها من النساء والرجال والصغار، ومسحة الرعب لم تنحسر عن وجوههم بعد. واختلطت الأصوات أيما اختلاط؛ ضحكٌ وبكاءٌ وصراخ. الكل يتكلَّم ولا أحد يسمع. أمَّا الغبار فلم تنقشع سحبه بعد. ومسح شيخ الحارة عينَيه بمنديله الكبير المقلَّم وصاح: وحِّدوا الله! في يومنا هذا يمتحن الله عباده. واستبَقت إليه الأصوات من كل جانب: أهلي تحت الأنقاض. إليَّ برجال الإنقاذ. – لديَّ جرحى ونريد الإسعاف. – جثث، هذه جثث ويجب أن تُدفن. – أصبحنا ولا مأوى لنا, فصاح شيخ الحارة: أبلغت السلطة وطلبت اللازم. لا بد من الصبر لأن الطلبات كثيرة. تعاونوا ما أمكنكم، وليكن اعتمادكم على الله وعلى أنفسكم حتى يجيء الفرج. وقامت ضجة عند الزاوية المطلة على الميدان. وصوت صرخ: فضيحة يا شيخ الحارة! وشيخ الحارة ذهب صوب الصوت فوجد نفسه أمام عمارة الزنفلي التي سقط نصفها الأمامي تاركًا نصفها الداخلي أمام الناظرين. وفي الدور الثالث لم تستطِع ست سوسن أن تجد مكانًا تُخفي فيه جسدها العاري، وبالتالي لم تستطِع أن تُخفي الرجل العاري معها الذي عرض ظهره للأعين ودفن وجهه في الجدار، رغم ذلك عرفوه، وأكثر من صوت هتف: المعلم طلبة. – أهلك قادمون ليشهدوا بأعينهم فضيحتك. – الزلزال عقاب وعبرة. وتساءل شيخ الحارة مغيظًا محنقًا: أكانت تنقصني هذه الجريمة في هذا اليوم الأغبر؟! وإذا بإمام الزاوية يحمل طفلةً باكيةً في السادسة أو دون ذلك، فقال لشيخ الحارة: المسكينة فقدت أسرتها وعلينا أن نجد من يتبنَّاها، وتنهَّد شيخ الحارة وغمغم: في غمضة عين ليس إلا. سبحان الله العظيم.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/17/
أم الذهب
ضَبط شيخ الحارة بنفسه يونس القفا وهو يُغوي رجلًا حال خروجه من الزاوية لقضاء سهرة هوى. وقال له شيخ الحارة غاضبًا: جريمتك مضاعفة؛ فأنت تقود إلى الفساد، ولا تكتفي بذلك، بل تختار ضحاياك من أهل الصلاة والتقوى. فقال الرجل بخوف وقهر: فعلتُ ما أُمرت به. – أجِبني فورًا عند من تشتغل؟ – عند ست ربيبة المشهورة بأم الذهب. كان بيتها خارج القبو عند حافة القرافة. وكانت جميلةً وافية المعالم، ولأنها تُرى في الطريق بوجه، وفي البيت بوجه، وفي النهار بوجه، وفي الليل بوجه، فلم يستطِع أحد الجزم بعمرها. وراقب شيخ الحارة بيتها حتى كبسه في الوقت المناسب. سقطت المرأة بعد حمل سري طويل. وقال شيخ الحارة لأم الذهب: إني أفهم كل صغيرة وكبيرة في عملك، ولكن يُحيِّرني أمر واحد، كيف وجَّهتِ خادمك أخيرًا لاصطياد المتردِّدين على الزاوية؟ فقالت المرأة بجدية: عانيت من الآخرين القهر والنهب والعربدة، فقلت أُجرِّب الناس الطيبين. ولم يتمالك شيخ الحارة نفسه من الضحك، ولكن المرأة لم تضحك.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/18/
تحت العِمامة عريس
عائلة الشيخ توكل هي أعجب عائلة في حارتنا؛ بها قارئ قرآن ضرير مجدور الوجه، يلفت الأنظار بقصر قامته وضخامة رأسه. وربَّتها سيدة أقرب إلى البدانة، تُسيء للناظرين بتشوُّه قَسَماتها؛ فهي تحجب وجهها حتى في بيتها. أمَّا الذرية فتتكوَّن من شابَّين وسيمَين وبنت كالقمر في تمامه، تسحر اللب والخاطر. وكل من يرى الأسرة لأول مرة يتساءل كيف حدث هذا؟ كيف تنبثق الأزهار من غياهب البوص؟! يقول الرواة إن منيرة كانت حديث الحارة وفتنتها. الأب كان حلوانيًّا بسيطًا من سكان الرَّبْع، وكان يقول: «جمال منيرة لا مثيل له فلنسأل الله السلامة.» ولكن الكثيرين تنبئوا بالمتاعب، وكل واحد تكلَّم، وكان الشيخ توكل من السامعين، وكان له رأيه أيضًا فقال يومًا: هذه مسألة لا يحلها إلا شيخ الحارة. فقال له أحد الجالسين في المقهى: إنه امتحان خلقه الخالق يمتحن به عباده. كانوا يتحدَّثون عن جمالها وحلو أوصافها وسعادة من يفوز بها. ويشتد النقاش ويحتدم ويُنذر بالخطر، أمَّا معانيه وأخيلته فتستقر في قلب الشيخ توكل فيتذوَّقها في هدوء رجل قُضي عليه بأن يبقى خارج حلبة السباق. ومن كثرة ما سمع خاطب نفسه متأثِّرًا قائلًا: «لا عزاء يا توكل، ما أنت إلا عاشق صامت.» وراح يتلو في سرِّه سورة يوسف. وكان يختم تلاوته بالزاوية عندما سمع شيخ الحارة يقول للإمام: أكان ينقصني الغرام لأحمله مع بقية الواجبات؟ فقال له الإمام: استدعِ عم حسنين أباها وشجِّعه على أن يزوِّجها في الحال. – المشكلة أن جميع شباب الحارة لها خاطبون! فصاح الإمام غاضبًا: لا يصح أن يزعزع لعب العيال أمن الحارة! وخاطب الشيخ توكل نفسه قائلًا: «ما أنت إلا عاشق مهجور مُلقًى في الخارج.» وفي تلك اللحظة من الزمان الحزين أُلقي ماء النار على الوجه الجميل في العتمة وصاحبته خارجة من بيت أبيها ذاهبة إلى بيت الجيران. وخفق للمأساة كل قلب، وانصبَّت اللعنات على الجاني المجهول الجبان. وغاب وجه القمر تحت غيم لا يريم ولا ينقشع، ولكنه ظلَّ هو هو بكل بهائه في قلب الشيخ توكل، وغمغم مسحورًا: «هكذا تجيء الملائكة بالمعجزات.» وقبل أن يتمادى الحزن في بيت عم حسنين ويفعل فعله، ذهب إليه الشيخ توكل مهتديًا بعصًا، وضغط على يده بحنان وقال: جئتك يا عم حسنين طالبًا القرب.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/19/
القلوب الطائرة
اعتلى منبرَ الزاوية رجل غريب، وقبل أن ينال موافقة الإمام على إلقائه الخطبة هتف بصوت جهير: «أيها الناس! بسم الله الرحمن الرحيم.» وانطلق يهدر بخطبة لم يسمع الناس مثلها من قبل، لا لأنها أبلغ الخطب، ولا لأنها أحكم الخطب، ولكنها كانت أعظم الخطب إثارةً وتهييجًا. وصمت المصلُّون ليتطلَّعوا صامتين، وملئوا قلوبهم بكلماته النارية — أو قل إنها امتلأت تلقائيًّا وبغير إرادة — وذُهل الإمام مع الذاهلين وهمس لنفسه: «أتوقَّع عواقب لم تكن في الحسبان.» ولم يتنبَّه شيخ الحارة لخطورة الحدث إلا حين ترامت إليه تعليقات الناس، فلمَّا أرسل بصره نحو المنبر ليرى الرجل الذي هيَّج تلك الزوبعة، لم يجد له أثرًا. وسأل شيخ الحارة الإمام: أتعرف الرجل؟ – أبدًا. – كيف سمحتَ له بالخطابة. – كما يتفق لبعض الناس فلم أتوقَّع ما كان يخفى. – وأين ذهب؟ – اختفى كأن الأرض ابتلعته. على أن الحارة لم تعرف الراحة منذ خاطبها ذلك الصوت. تحمَّس له أناس، واتهمه كثيرون، وثار الجدل، وانقلب في أحيان كثيرة إلى مشاجرات وسالت فيها الدماء، كل ذلك دون أن يظهر للرجل أثر. ولم يشهد واحد ممن سمعوه أو رأوه أنه من أهل الحارة، أو سبق أن رُئي في ربوعها أو مقهاها، حتى قالت امرأة هالها الشجار والدم: إنه عفريت جاء ليعبث بنا ثم رجع إلى مخبئه. وحاول الإمام أن يدعو الناس للكف عن الجدل والخناق، وحاول شيخ الحارة، ولكن الجدل كان يزداد والخناق يتضاعف. وكثرت الأقاويل بلا دليل، قائل يقول: كنت راجعًا إلى بيتي عند منتصف الليل حين ظهر لي وقال لي … وآخر يقول … وهكذا، حتى دخلت الأقاويل في الأساطير والخرافات، وازداد الأمر شدة، وارتعب الإمام إذ تصوَّر نفسه يُسأل في وزارة الأوقاف. وارتعب شيخ الحارة إذ خاف يوم يُسأل في الداخلية. ولم يبقَ من الواقعة الأصلية إلا صورة باهتة تُروى عادةً في صور مختلفة، كذلك مُحيت الخطبة المثيرة أو كادت، ولكن الخصام استمرَّ واشتدَّ وأنذر بعواقب لا تسرُّ أحدًا. ولم تخفَّ حيرة الحائرين إلا حين وقف أحد المجاذيب على سلَّم السبيل في يوم السوق، وقال من خلال ريقه السائل: سيجيء الفرج بلا دليل، كما جاء الهرج بلا نذير.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/20/
زغرودة
دقَّت طبول الزفاف وطارت زغرودة إلى السماء. قال زهران بأسًى: إنه زفاف ياسمين ومهران. ونظر إلى صديقه مهران بين الورود والأصحاب، وقال بدهشة: وها هو العريس يتبختر والحظ يبتسم والدنيا حظوظ. وقالت له أم إسماعيل: لا تحزن على ما فاتك، الغيب مليء بالحِسان. ولكن هذه المرأة لا تعرف كل شيء، لا تعرف أنني ومهران بدأنا العمل في يوم واحد بوكالة القللي، وأحببنا ياسمين حب الجار للجارة في عام واحد، وراح هو يدَّخر الفائض من مرتبه، أمَّا أنا فظننت أن أي ادخار لن يكفي ثمنًا لمهرها؛ فرُحت ألهو وأقتني دواوين العشاق، حتى انتبهت ذات يوم على خبر يجري ما بين القبو والميدان، معلنًا خطبة ياسمين ومهران. – يا أم إسماعيل، خسرتها لأنني عرفت قيمتها الحقيقية. فضحكت المرأة لتُهوِّن عليه وقالت: أو لأنك لم تعرف قيمتها، وسوف آتيك بأحسن منها.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/21/
الشحاذة
وكعادتها سألت نفسها: ما الحل يا أمونة؟ وجالت في عوالم خبرتها المحدودة، ثم قرَّرت أن تعمل شحاذة. ولم تُخفِ قرارها عن ابنتها الوحيدة. وفزعت الشابة ولكنها لم تجد ما تقوله؛ فالمشكلة هي مشكلة أطفالها الأربعة الذين مات أبوهم قبل الأوان، تاركًا الزوجة والأبناء للضياع. وقالت الزوجة بأسًى شديد: «كان أبوهم مُوظَّفًا، وكان يرجو أن يسير أبناؤه في طريقه، لا كما يسير أبناء الشوارع.» فقالت أمونة الجدة بإصرار لا يناسب عمرها المتقدِّم: «سيسير الأولاد في الطريق المرجو.» واتخذت قرارها. وكلما جاء الليل التفَّت في جلباب أسود ومضت إلى الأطراف البعيدة من الحي، تُسدل النقاب على وجهها النحيل الجاف وتمد يدها. وخطب تاجر ميسور الأرملة الشابة فشجَّعتها أمها على الموافقة قائلة: «ما زلتِ شابةً ولا بد لك من رجل.» وذهبت الأم مع زوجها وبقيت الجدة ترعى وتربِّي وتشحذ فتجمع رزقًا وفيرًا. لكن الوقائع لا تتوافق دائمًا مع الرغائب؛ انكشف السر في أحد الموالد وحمله غواة الأذى إلى كل مكان، وتداوله ناس كفضيحةٍ ما بعدها فضيحة، وعبث به آخرون فجرى مجرى المزاح والمجون. ولم يحتمل بيت أم الأولاد الخبر، فسرعان ما طلقها زوجها، فرجعت إلى أمها مقهورةً باكيةً حتى صاحت بها أمها: «لا حيلة لكِ إلا البكاء، وهل فعلتُ ما فعلتُ إلا دفاعًا عن أولادك؟!» وجالت العجوز في عوالم خبرتها المحدودة، ثم قرَّرت الهجرة إلى مكان لا يعرفهم فيه أحد لتكمل فيه رسالتها.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/22/
القانون
غادر حافظ السيد السجن بعد تأبيدة التهمت من عمره ربع قرن بلغت به الخامسة والأربعين. رجع إلى الحارة بقلب ملؤه الشوق والحذر، ولكنه لم يكن يعرف أحدًا ولم يعرفه أحد. وجد الحارة مشغولةً بالبيع والشراء والضحك والحزن والصخب، وبدت ناسيةً تمامًا لعهد البطولة والأبطال. تُرى هل ضاعت التضحية هباءً؟ وها هي عينه الحائرة تستقر على لافتة في أعلى وكالة كبيرة سُجِّل عليها «الرمامي وأولاده». وراح يتذكَّر القدر، وهو يلعب بالبطولة والخيانة، ويوزِّع الأبطال والخونة ما بين السجون والمتاجر. ودعاه شيخ الحارة إلى مقابلته في دكَّانه فمضى إليه. دعاه للجلوس وقال: أهلًا بك في حارتك مرةً أخرى. فغمغم الرجل بشكر الله، فقال شيخ الحارة: يجب أن تعمل. في السوق متَّسع وأنت متعلم. – تلزمني فترة قصيرة للراحة والتفكير. فقال الشيخ بقوة: احذر الفراغ فإنه رفيق سوء. – فترة قصيرة فقط. فقطَّب شيخ الحارة متسائلًا: أترغب في الحياة حقًّا أو رجع الشيطان يساومك؟ فقال بعجلة: انتهى الماضي بخيره وشره، بأبطاله وخونته! فقال شيخ الحارة بحدَّة: لا تعد إلى تلك الأوصاف، ولا تذكر ثانيةً الأبطال والخونة. الأمور نسبية، ولا تنسَ أنني صوت القانون ويده في هذه الحارة. فأشار حافظ السيد إلى الوكالة وقال: هذه الوكالة فُتحت بالمال المدفوع ثمنًا لخيانتنا، فكانت الوكالة في ناحية، والسجن والمشنقة في الناحية الأخرى، وأنت رجل على أي حال من أبناء حارتنا، فهل ترضيك هذه القسمة؟ فقال شيخ الحارة بحزم: يرضيني ما أجد القانون عنه راضيًا، وطبعًا أنت تعرف أنك مراقب، وأنا لا أحب أن أراك في الحديد مرةً أخرى، وحسبك ما ضاع من عمرك. ومدَّ له يده قائلًا: اذهب بسلام.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/0.1/
قبل أن تقرأ
واكبَت سنواتُ مُراهَقتي نهايةَ العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تَموج بدعوات التحرُّر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرُّر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأُمية والمرض والحَفاء! … وشكَّلت هذه البيئة وجداني، وخاصةً الحديثَ عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجَّان. وفي مغربِ يومٍ من سنة ١٩٥١م، كنا أنا وأبي عائِدَين من زيارةٍ لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك — والترام أيضًا — مُقسَّمة إلى درجتَين بثمنَين مُتفاوتَين للتذاكر التي يُوزِّعها «كمساري» برِداءٍ أصفر مميز أثناء مروره على الرُّكاب. جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يَفصل الدرجتَين، وتابَعتُ في حسدٍ رُكابَ الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقًا في أفكاره التي تُثيرها دائمًا أمثال هذه الزيارات. قلتُ بحماسٍ طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجَّان.» تَذكرتُ الروايات التي أعشق قراءتَها فأضفتُ: «والكتب أيضًا!» تَطلَّع إليَّ باستياءٍ من سذاجتي: نعَم! الكتب بالمجَّان؟ يا لها من سذاجة! ولم أتصوَّر وقتَها أن يأتي اليومُ الذي تُصبح فيه كتبي أنا متاحةً للقراءة بالمجَّان! وذلك بفضلِ مُبادَرةٍ جريئة من مؤسسةٍ مصريةٍ طَموحة، فشكرًا لها!
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/0.2/
مقدمة
في مقالٍ عن الرواية الأمريكية في الخمسينيات، قال الناقد الأمريكي الكبير مالكولم كولي إن الكُتَّاب قد انصرفوا عن تناول العلاقات الاجتماعية الهامة للإنسان. فقد كرَّسوا أنفسهم «للدراما في القارب»، بعيدًا عن البحر الكبير، وأصبح موضوعهم هو مجاهل العواطف الدقيقة في اللحظة الإنسانية، ومفتاحهم هو الحب والعاطفة. كما عبَّر البطلُ المجهول في روايةِ رالف إليسون الأولى «الرجل الخفي» ١٩٥٢م: «إن حفرتي دافئةٌ وتفيض بالضوء. لقد قطعتُ سلكًا كهربائيًّا يؤدي إلى المبنى ومددتُه إلى حفرتي. وهكذا أعزف الموسيقى الخفية لعزلتي.» والرجل الخفي هو الزنجي الذي يبحث عن شخصيته بعد أن أصبح شريكًا للرجل الأبيض في اضطهاد إخوته. وهو يواجه الاختيار بين هذا المصير وبين النضال الثوري ضد البِيض، بين الخضوع والتمرُّد، ولكنه يختار طريقًا ثالثًا هو الإبداع الفني. ولم تكَد الخمسينيات تنتهي حتى اكتملت ملامحُ بطلٍ جديد للرواية الأمريكية هو «المتمرد-الضحية». إنه غريب، فوضوي ومهرِّج … مزيج من فاوست والمسيح، من العدمية وتأكيد الذات إلى حدِّ الجنون، من الاستشهاد والهزيمة. ونجده واضحًا في أبطال كتَّاب الستينيات: سول بيلو في رواية «هندرسون ملك الأمطار» ١٩٥٩م، وسالينجر، وترومان كابوت وجيمس بردي الذي سَجَّل انهيار الحلم الأمريكي في رواية «ابن الأخ» ١٩٦٠م، التي تدور كلُّها حول جمْع معلومات عن ابن الأخ الذي مات في كوريا … كما في رواية كارسون ماكيلرز الشهيرة «أنشودة المقهى الحزين»، وآخر روايات سول بيلو التي صدرت عام ١٩٦١م بعنوان «هيرزوج». وسول بيلو الذي وُلد عام ١٩١٠م، هو الذي قال عنه الكاتب الأمريكي نورمان بودهوريتز: «إن مصير مرحلةٍ كاملة من الثقافة الأمريكية سيتوقَّف على ما إذا كان سول بيلو سيصبح روائيًّا عظيمًا أم لا.» وتبدأ الرواية هكذا: «إذا كنتُ قد فقدتُ عقلي، فلن يضيرني هذا في شيء، هكذا فكَّر موسى هيرزوج»، وقد بدأت أزمته الطاحنة التي كادت تودي بعقله، وجعلته يتساءل: «أجاءت اللحظة الدَّنسة التي يموت فيها الشعور الأخلاقي، ويتحلَّل الضمير، ويتردَّى احترام الحرية والقانون والديانة، كلُّ ما تبقَّى، في الجبن والتحلُّل والدماء؟» وتنتهي أزْمة البروفيسور هيرزوج به إلى أن يُكرِّس نفسَه للعمل والشمس، وأساسًا للمشاركة مع الكائنات الإنسانية الأخرى. وتُشبه أزْمة هيرزوج أزْمة أستاذٍ جامعي آخرَ هو ستيفن روجاك بطل رواية نورمان مالر الأخيرة «حلم أمريكي» الصادرة في ١٩٦٤م وإن اختلف طريقهما. فبطل مالر، الذي تشبِه حياته العاصفة حياةَ مالر الشخصية في جوانبَ عديدة، يُغرِق أزمتَه في القتل والجنس والمخدِّرات بينما ينهار الحُلم الأمريكي من حوله. ويكاد يكون تطوُّر مالر صورةً دقيقة لتطوُّر الأدب الأمريكي نفسه منذ الحرب. فقد بدأ هذا الكاتب الموهوب واقعيًّا اشتراكيًّا بروايته الهائلة «العرايا والموتى» ١٩٤٨م، التي ربما كانت أعظمَ ما كُتب عن الحرب العالمية الثانية، وإن كانت تعالِج على نفس المستوى الحربَ الطبقية في داخل أمريكا … ثم تجاذبته بعد ذلك الأمواج التي تجاذبت المجتمعَ الأمريكي كلَّه. وبينما كان هيرن وفالسن في «العرايا والموتى» يريدان تغييرَ النظامِّ كلِّه، نجد سام في روايته التالية «الرجل الذي درس اليوجا» لا يرمي إلا إلى تغيير نفسِه وحسب. ثم إذا به يعجز حتى عن هذا في رواية «حديقة الغزال»؛ فرغم أن بطلها يرفض الشهادةَ أمام لجنة تحقيق في الكونجريس، لا لأسبابٍ سياسية وإنما بدافعٍ من الكرامة، ويعطيه هذا الموقف فرصةً جديدة، يزوده بالقوة ليحقق أملًا قديمًا خُيل إليه ذات مرة أنه قادر على تحقيقه … إلا أنه بعد سنواتٍ من انتهاء موهبته في عالم المساخر (هوليود)، لم يَعُد قادرًا على شيء بالرغم من موقفه الأخير ذاك. وهكذا نرى الإنسانَ يحقق علاقته بالآخرين، بعد انتكاسِ مسعاه الاجتماعي، من خلال الحب أو اليأس أو العنف … ولكن ما زال هناك سبيل رابع. لقد وُلد بطلٌ جديد، هو على حد تعبير آرثر ميلر «واحد من جيوش الفتيان والفتيات الضالين الباحثين عن قليلٍ من الحنان، وعن الأمل في الحياة، وعن رمزٍ ما، يؤمنون به، ويساعدهم على استفادة أرواحهم المحطَّمة.» وُلد تكنيك جديد في الكتابة عبَّر عنه زعيمٌ آخر من زعماء الجيل الغاضب هو ويليام بروجز في رواية «الغذاء العادي» بقوله: «هناك شيء واحد يمكن للكاتب أن يكتب عنه … ما هو أمام حواسه لحظةَ الكتابة … إلا أداة تسجيل … ولست أعبأ بالحكاية أو الحبكة أو الاستمرارية.» وهي عمليةٌ حوَّلها كيرواك إلى مانفستو للكتابة التلقائية سَجَّله في مقدمة كتابه «المسافر الوحيد»: «لا وقتَ للتفكير في الكلمة المناسبة، وإنما هناك التراكم الطفولي لكلماتٍ بلا منطقٍ حتى يتحقق الإشباع … لا إعادة أو مراجعة … وإذا أمكن فلنكتب بلا وعي …» وهنا فقط يستطيع الكاتب أن يسمع صوتَ نفْسه حقًّا، ويتعرف الرفيق على رفيقه في الطريق الفسيح. ولكن السؤال أصبح قائمًا … ولم تمضِ سنتان حتى اعترف جاك كيرواك أبو الغاضبين: «أمَّا نحن فننكمش على أنفسنا بحثًا عن الملاذ والنجاة، بينما تهزُّ الانفجارات الرهيبة عالَم البالغين.» إن البطل الذي كان يرفض قبولَ الواقع بجوانبه المضيئة والمظلمة على السواء ويهرُب منه ويتحداه بسلوكه، قد بدأ يحس بالمسئولية الشخصية عن كلِّ ما يحدث في أمريكا. وتراجع الاضطراب عمومًا إلى المرتبة الثانية؛ إذ حلَّت مكانه محاولات تذليل موقف التعالي على العالَم، وإيجاد مكان فيه. وسرعان ما كتب كيرواك رواية جديدة بعنوان «بيج سور»، لم يَعُد يُمجِّد فيها الاعتراض والاحتجاج الفرديين والحرية المطلقة … فلأول مرة يتحدَّث عن واجبات الإنسان أمام غيره من الناس وعن واجبه الاجتماعي. وإذا كان ما يزال يردِّد «الحياة بديعة إلى حدِّ الكمال»، ويجب الاستمتاع بكل لحظة من لحظاتها بالتسكُّع في جبال الكون ووديانه الغارقة في شمس الخريف، فإن هذه الدعوة التي تُذكِّرنا بجان جاك روسو، لم تَعُد الموضوع الأساسي، بل هي مجرد صدًى للمواقف السابقة، سنلمسه فيما بعدُ أيضًا لدى البطل «جيمس دروت» الجديد. وبدا الانعطاف واضحًا في إنتاج الجيل الجديد من أُدباء الغضب، الذين بدءوا الكتابة في أوائل هذا العَقد. ففي ١٩٥٩م نشر فيليب روث، وهو لم يزل في السادسة والعشرين مجموعةً قصصية بعنوان «وداعًا يا كولومب» تضم رواية قصيرة بهذا الاسم، وفيها يفكِّر بطلها الشاب لأول مرة فيما يحيط به ويتساءل كيف يعيش. وبعد ذلك بثلاث سنوات نشر تشارلس ويب رواية «الخريجين»، وتُمثِّل تمرُّد الأمريكي، الذي يلِج معترَك الحياة لأول مرة، على الواقع المحيط به، وبطلُه بريدوك يهرُب إلى ألاسكا في الثامنة عشرة «حيث لا زيف بل بوهيمية حقيقية»، وهو يطلب لنفسه الحرية المطلَقة ويرفض الاعتراف بأية التزامات من جانبه نحو العالم. ولكنه لم يَعُد يشبه في شيء أولئك الفتية الضالين، ولم تَعُد تستهويه «السرعة الجنوبية أو هوس الجنس». ويعود بطل رواية كوتلند براين الأولى «ويلكينسون»، التي نالت جائزة هاربر لعام ١٩٦٥م، من حرب كوريا ليبحث عن عملٍ في وكالة المخابرات الأمريكية، ولكنه ما يلبث أن يضطر إلى تحديد «مسئوليته» بالنسبة لكثير من المشكلات الخاصة والعامة. ووسط هذه المجموعة من الكُتَّاب الشبان التي ظهرت في الستينيات في الولايات المتحدة، والتي تمثل منحنًى جديدًا لأدب الغضب، يبرُز جيمس دروت، طائرًا متميزًا، وصوتًا فريدًا يتميز بنقاءٍ غير عادي. ففي أسلوبٍ بالغ الصفاء، ورمزية رقيقة، يُصوِّب دروت جهدَه إلى ما يحدث من حوله … إنه لا ينظر إلى داخله إلا بالقدْر الذي تتطلبه مواجهة الأمواج التي تتلاطم من حوله. وفي قوة وجمال، وفي الشكل الذي ارتاده من قبلُ سالينجر وكارسون ماكيلز وترومان كابوت، وهو الرواية القصيرة «العصبية» المحكَمة، تتابعت صرخات الغاضب الشاب حتى بلغت — في أربع سنوات — سبعًا أصبح بعدها بلا جدالٍ معبودَ الغاضبين ونبيَّهم الجديد. ولعل أصدق وصفٍ لتكنيك دروت هو ذلك الذي جاء على لسان روبي روي في رواية «العدُو»، وهو يصف مبانيَ لويس سوليفان المعماري العظيم في أوائل القرن: «وجدت أن سوليفان لم يكن غامضًا أو موحيًا؛ فقد كان يعرف ما يريد، وفَعَله، ولم يكن في حاجةٍ إلى مترجِم ليفسر أعماله؛ لأن كلَّ ما كانه وآمن به، وأكثر من ذلك، كان يبدو في عمله، لم يكن هناك سِرٌّ، ولم يكن الأمر شاقًّا، ولم تكن هناك أقنعة ماهرة تحيط ببيان مبتذل — كما كنت أتوقع — بل إن جبروت ما قاله سوليفان في جلاءٍ هو ما جعل رجال السلطة والذوق في عصره ينصرفون عن عمله.» فهذا هو الطابَع المميز لأدب جيمس دروت. ونجد أبطاله في البداية يستكشفون ما يحدث حولهم، وما حدث من قبل؛ ففي «أمريكا في الخمسينيات» (١٩٦٢م) كان «دونر» نموذجًا للشاب الأمريكي القوي؛ فهو بطلٌ من أبطال كرة القدم، يضحك طول الوقت، ولكنها ضحكة مريضة بسبب نَدبة في ركنِ فمه، ويسيطر الجنس على ذهنه. وهناك راوية يتحدث عنه، وكان زميلًا له في المدرسة العليا بريفر سيد، بولاية إيلينوي، ولاحظوا المكان لأنه الذي تجيء به معظم روايات دروت. يقول الراوية: «في الخمسينيات … كان كلُّ الرجال الأقوياء الممتازين مثل دونر يختبئون في كهفٍ ما، سواء كان عنوانه الله أمِ المرأة، ولم يكن هناك ما يمكن لشخصٍ مثلي أن يفعله بهذا الشأن سوى أن يرقب أبطاله يتهاوون ويكرههم لهذا.» ثم يعلِّق على انهيار دونر بقوله: «وعلى كلٍّ، فإن البلاد كلها كانت تنطلق في دربٍ أعمى في الخمسينيات، وبدا لي أن مشكلات دونر … تتفق تمامًا والعصر. فقد كان السناتور مكارثي سيد الميدان، يجرُّ الناس أمام لجنة التحقيق التي شكَّلها ويتهمهم بالخيانة.» ثم يشرح موقف البسطاء من الناس من أمثال الراوية: «أما أمثالي من الناس … فلم تكن لديهم أدنى فكرةٍ عما يجدُر بهم عمله؛ لقد فوجئنا في البداية، وتساءلنا عما حدث لأبطالنا المعبودين، وعندما رأينا كم كانوا مرعوبين كرهناهم لذلك. ولكننا لم نفعل شيئًا على الإطلاق، وكانت البلاد كلها — وليس فقط فريق الكرة في كلية كنوكس — تتمزق وتنهار.» وكانت الرواية التالية قصيرةً أيضًا واسمها «جسد ميت في برتونفيل»، وتدور أحداثها في بلدة صغيرة، على مقربة من شيكاغو. (لقد أصبح دروت أفضلَ الكُتَّاب منذ شيروود أندرسون في تصوير حياة المدن الأمريكية الصغيرة.) ولا تزال الرواية هنا متفرِّجًا … يحكي لنا كيف يعجز سكان المدينة عن تنظيمها وإتاحة المجال للجمال فيها، وكيف يتآمرون على «الحقيقة» كي لا يهتز إيمانهم بأنفسهم … رغم أن هذه البلدة بالذات خرج منها إبراهام لنكولن ذات يوم. «وجدت شيئًا واحدًا في اجتماعِ لجنة التخطيط، فلم يَعُد الناس يفكرون في العمل معًا كما كانوا يفعلون من قبل … وبشعور غامض بالهزيمة، لا يفكِّرون الآن إلا في أنفسهم.» ولم يَعُد يعنيهم شأن الجمال أو التناسق. ولا عجب «أن الأطفال في فصل الفنون في المدرسة كانوا يضحكون من مُدرِّسهم عندما يحدِّثهم عن الجَمال والتعبير والتناسب، بينما كانت نفس الفرقة التي يتحدث فيها المدرِّس تصرخ بالقبح من كل ركن.» المكان الوحيد الجميل في برتونفيل هو قصرٌ صمَّمه المعماري الشهير سوليفان في عام ١٩٠٠م وابتاعه أحد أغنياء البلدة وانتوى هدمَه ليقيم مكانه تمثالًا لنفسه (وموضوع العمارة سيعود إليه دروت باستفاضة في «العدو»). ويدور الحوار التالي بين الراوية وصاحب الجريدة: الراوية: يبدو لي … أن برتونفيل قد فقدت مستقبلها … أو ربما هي بلدة بلا هدف … إني أفكِّر فيها كما لو أنها تنهار أو شيء من هذا القبيل. أد: يا بني، ماذا هناك من هدف لأية بلدة أكثر من أن تمدَّ مواطنيها بالطعام والأمان؟ ثم يقع الحادث … شاب بسيط عادي، لم يكن أحد يشعر به أو يعرف عنه شيئًا، ينتحر فجأة بلا سبب مفهوم، ولكنه يترك خلفه ورقة تقول: «إلى أهالي برتونفيل، إنني أعرف أنكم لستم أصدقائي، ولم تكونوا كذلك أبدًا رغم كل محاولاتي. ولأنكم قد رفضتموني فقد فشِلت بذلك في المهمة التي أُرسلت من أجلها إلى كوكبكم؛ ولهذا فأنا عائد من حيث جئت؛ فلست أستطيع الإقامة هنا أكثر من ذلك. إنني لجد آسف. وداعًا.» إن رواية دروت الذي ظل حتى الآن يتفرَّج على ما يحدث حوله ويستكشف أسباب الواقع المحيط به وسبب انهيار أبطاله، قد بدأ ينطلق إلى العمل بنفسه؛ ففي «الفراشات الغجرية» (١٩٦٤م) يصبح الراوية أحد ثلاثة أبطال في الرواية يواجهون الموتَ عن عمدٍ بممارسة لعبة القفز بالمظلات من الطائرات، «فكل شخص يجب أن يلتقي بالموت». وبالقرب من نهاية الرواية يصبح الراوية هو الصوت الرئيسي … لقد اكتشف شيئين محدَّدين: «ليس هناك شرف أو مجد في الموت» … «وأدركت الأمر، أجل، هذا هو السبب في أنني أقفز؛ لأنه من الممكن تجنُّب الحياة بمواجهة الموت. إنني أخشى الحياةَ أكثر مما أخشى الموت؛ لهذا أقفز … الموت ليس امتحان الرجل … حياته هي الامتحان الوحيد الذي سيواجهه» … «عندما تقفز فإنك وحيدٌ». ثم يهتف في النهاية: «لا أريد أن أتجنَّب الحياة بعد الآن.» وتتركه الرواية في الطريق إلى محطة القطار مع فتاته. ولكن الراوية يكشف شيئًا آخر … مسئوليته … «لقد راقبت الأمر كلَّه يحدث. كنت الوحيد الذي لم يقل شيئًا … ليس بوسعي بعدُ أن أقول إن الأمر لم يكن يعذبني.» وهكذا انفصل بطل دروت تمامًا عن طريق البيتنيكيين الأوائل … الذين شبَّههم في هذه الرواية بفَراشات تدور حول المصباح الكهربائي حتى تحترق بضوئه الصناعي. وسرعان ما امتزج الراوية بالبطل بالكاتب نفسه في آخرِ روايات دروت وأقواها على الإطلاق … «العدو». فروبي روي أوريللي، يبدأ حكايته المأساوية بهذه العبارة ذات الدلالة: «أدركت منذ طفولتي المبكرة قُبحَ كلِّ ما يحيط بي من صنْع الإنسان.» وسرعان ما يستبعد — في رحلة البحث عن العلة التي يقوم بها — أبويه والمدرسة والدِّين … بل وكل ممثلي العصر البارزين الذين حاولوا الإجابة من قبل — هيمنجواي وفيتزجرالد وإليوت وأونيل وبروست — ويرفض أن يردِّد كل ما يُلقَّن له قبل أن يمحِّصه جيدًا، ويبحث عن الإجابة في الكتب وفي داخل نفسه … ويجدها بعد أن يكون قد استقر في موقف المعارضة … والإجابة هي البناء، الفعل. ويصبح موضوع العمارة الذي طرقه دروت من قبلُ في رفقٍ هو الموضوع الأساسي لهذه الرواية. والواقع أن «المنزل» عند دروت أصبح رمزًا للمؤسسة البشرية، للوجود الإنساني، وأصبحت العمارة رمزًا للمشاركة الإيجابية. إن المنازل جميعها مشوَّهة؛ شُيِّدت بصورة خاطئة، فلماذا لا تُشيَّد بصورةٍ جميلة تجعل الحياة بهيجة؟ … خلفَ كلِّ شكل قبيح فكرةٌ ملتوية أو أكذوبة … وخلفَ كلِّ بناء مجنون عقلٌ مجنون … والمدينة أصبحت آلةً لِسَجن الإنسانية في الإنسان وهي تغذي فيه كلَّ ما هو شرير وحيواني … «أغلب ما هو قائم يجب هدمُه وإحلال غيره مكانه». هذه هي الرسالة التي اختارها روبي روي أوريللي وقد اتخذ البناء مهنة له. وقوة «العدو» تكمُن في أنها يمكن أن تُقرأ على عدة مستويات … فهي للوهلة الأولى قصة شاب موهوب في فن العمارة، يبتكر تكنيكًا جديدًا في العمارة يقوم على الحركة، ثم يلاقي الفشل بسبب عدم تقبُّل الجماهير لفكرته الجديدة. وفي خلفية هذه الحكاية نقرأ القصة الممتعة لعملاقي العمارة في أمريكا: راتب وسوليفان. وهي للوهلة الثانية دراسة دقيقة لعملية الإبداع الفني في أي مجال ولموقف الفنان من إبداعه؛ فأوريللي عندما يتحدَّث عن مَولد أحد تصميماته لن يختلف عن دروت لو تحدَّث عن مولد رواية له وما يواكبها من حيرة وتمزُّق وعدم ثقة. بل إن الصورة التي أخذتها معاناة أوريللي: «إنني أُسرع دائمًا خوفًا من أن تتضح خطاي»، تذكِّرنا بجورج سيمنون الذي يغلق الباب على نفسه أسبوعين كاملين يعمل فيهما بصورةٍ متصلة حتى ينتهي من إحدى رواياته، وهي دائمًا في هذا الشكل القصير العصبي الذي يستخدمه دروت … ويضع أوريللي مواصفات الفنان الحق كما يراه: لا بد وأن يخلق عربتَه الخاصة إذا كان يريد أن ينطلق بحرية في المستقبل الذي يحلُم به. ويقدِّم علاجًا لمشكلات الفنان في مجتمعٍ كالمجتمع الأمريكي: لا بد وأن يتحكَّم في عمله بداءةً وخلقًا وتمويلًا؛ بل وفي السوق أيضًا كي يصبح حرًّا وينجو من التأثيرات المختلفة. وهناك المصير التقليدي الذي يواجهه الفنان «العبقري» في كل عصر … الرفض ثم القبول فيما بعدُ … وذلك أن الشكل الذي يبتدعه هذا الفنان ينحِّي كلَّ الأشكال الأخرى جانبًا، ويتساءل الناس: لماذا كانوا قانعين من قبلُ بما هو أقلُّ من هذا؟ ويدفعهم الخوف والرعب إلى إنكار الفنان الجديد وعمله. بل يكاد دروت يقدِّم على لسان أوريللي مانفستو كاملًا لتيارٍ قائم بالفعل منذ سنوات في ميدان الفن التشكيلي ويقوم على الحركة. وهو التيار الذي امتزج منذ عامين بالتأثيرات الضوئية في تيارٍ جديدٍ يسمَّى بالكينتك. «أنكِر نفسك، اركَن إلى السكون والهدوء لتشعر بالحركة العظمى» … هذا هو شعار التيار الجديد … فالحركة أكثرُ طوعًا للتشكيل الجمالي بسبب بُعدها الجديد … أي شيء مهما كان قبيحًا لا بد وأن يكتسب جمالًا عندما يتحرك، ويُكرَّر وفقًا لنظام معيَّن. (والحركة هي شعار الغاضبين الأساسي عند كيرواك.) وعندما نتجاوز هذين البُعدين إلى بُعدٍ ثالث، نجد أنفسنا أمام تحليلٍ لمأساة المجتمع الأمريكي المعاصر الذي يصفه البطل بأنه مجتمعٌ من الدرجة الثالثة ذو حضارة منهارة … مجتمع رأسمالي بالتحديد … «… كانت بلادي تزداد قُبحًا على قُبح وهي تنتقل من أيدي مستغِل إلى آخر»، «هذا التحوُّل العنيف المَرضي نحو الوحشية والقُبح … وتُساق جموع الشباب عاجزة دون أملٍ في الثورة … شعب بأكمله ينهار … بواسطة نظامٍ فاسد لا يعبأ بغير المال ويستغل الجميعَ لصالحِ قلَّة كانت تمنح الجماهير حَفنة من المِنَح مثلما تعطي للنادل بحكم العادة. كان النظام يدافع عن نفسه مستشهِدًا بكفاءته في مبادلة موادَّ لا قيمة لها بموادَّ أخرى عديمةِ القيمة … كأنما هو أخطبوط مجنون، يحث الناس، عن طريق الإعلان المستمر، أن يبيعوا وقتهم … مقابل شيء لا يحتاجون إليه … ثم يجعلهم يوقِّعون على كمبيالةٍ تجبرهم على العمل لمدة من الأعوام يُنتِجون فيها منتجات أخرى غير مُجدية، تُباع بدورها بالنسبة لآخرين مثلهم. وعندما تقتفي أثرَ المال من جيبٍ لآخر تجده يصبُّ في النهاية في أيدي قلةٍ من الممولين. وفي هذه الأثناء تبتاع الحكومة القذائف والقنابل والبنادق التي لا تمرُّ سنوات قلائل حتى تعلن عدم صلاحيتها ثم تُستبدل بالمزيد منها … وعندما واجه النظام المتاعبَ ولم يجِد عملًا لبعض أولئك الذين ارتهنوا جانبًا كبيرًا من حياتهم لديه مقابل منتجاته العديمة القيمة، عندئذٍ تحوَّل الرجال الذين يقفون خلفه إلى الحكومة يولولون؛ فضاعفت مشترياتها من المواد الحربية، وغرقت في المزيدِ من الديون، ثم زادت الضرائب العامة لتجدَ ما تسدِّد به الديون التي قدَّمتها البنوك، التي يملكها نفس الباكين الذين يملكون بالمثل النظام ويديرون، وهكذا يدور المال في نفس الحلْقة، وغرِق الناس في مزيد من الديون، وازدادت قلةٌ منهم ثراءً على ثراء وقوةً على قوة … وخلقت الصحف فزعًا من الحرب حتى لا يعترض الجمهور على تخصيص الدخول المستقبَلة للاتفاق على أسلحةٍ ستُبلى من قبلِ أن يُسدَّد ثمنها بوقت طويل.» هذا جانب من مأساةِ أمريكا، أما الجانب الآخر فهو موقف أهلها … «العبيد» كما يسميهم أوريللي أو «الخنازير» كما تلقِّبهم فتاته، يقول أوريللي في نهاية حكايته: «في بلادي، خلال القرن العشرين، فإن المأساة هي العمل الذي يعجز الرجال العظماء عن إنجازه» … «… كان جهدي الأول موجهًا إلى الحياة العائلية. فقد حاولت أن أجلب الجمال إلى الأفراد من مواطني. وكما تعلمون فإن عملي قد رُفض. وكان جهدي الثاني … يتيح التعاون والحياة الأفضل … بديلٍ متنور للمدن الحقيرة المتنافسة الحيوانية التي تُقيد حرية المعاصرين لي وهذا أيضًا قوبل بالرفض … وكان جهدي الثالث ممكنًا لو كانت هناك استجابة للجهدين الأولين. وكان يجب أن يرمي إلى إعادة تشكيل بلادي بعد أن تتحد قدراتي مع الآخرين من أمثالي، ويكون هدفنا هو خلق بنيان يمثِّل المواقف القومية الحرة والأمينة والطيبة التي يُعبِّر عنها السكان. ولكن … العيب ليس فيَّ وإنما في حضارتي ومجتمعي … فأنا قادر وراغب، ولكنكم لستم كذلك.» إن موقف المعارضة من جانب الجماهير الذي بدأ في أول الأمر معارضةً لاختراعاته في العمارة، ثم للعمل الفني الممتاز، يصبح في حقيقته موقف معارضة للتغيير، موقف استسلام لما هو كائن. وغضَبُ أوريللي موجَّه إلى الاثنين؛ النظام، وأهله الذين يسكتون على دولة الطغيان. وهذا ما جعله يتورَّط في النهاية إلى تبني فكرة الرجال الممتازين والدهماء. وليست هذه هي نقطة الضعف الوحيدة في رؤيا دروت؛ فهناك بقايا تأثيرات مذهب الطبيعة عند كيرواك والبيتنيكيين الأوائل … فالأبنية القديمة جميلة، والطبيعة رائعة، والمستغلون الرأسماليون «ملئوا الأرض الجميلة بالشقوق والفتحات، وامتصوا ما بها من معادن، ثم تركوها كتلًا من الطمي … ولوَّثوا الأنهار وحوَّلوا المياه إلى سموم قتلت ملايين الأسماك، وقضَوا على الحياة البرية، وأسقطوا الأشجار الطويلة …» ويثور أوريللي؛ لأن البلدة هدمت بناءً جميلًا لرايت، وبَنَت مكانه محطة كهربائية. ويذكِّرنا هذا الموقف بصفارة المصنع الكئيبة عند د.ه. لورنس، ورد الفعل الأول للثورة الصناعية بالقرن الثامن عشر، أقول يذكِّرنا فقط ولا ينتمي إليه؛ ذلك أن أغنية أوريللي المفضَّلة تقول: «آه يا إلهي، سيأتي عالَم أفضل.» ولن يأتي هذا العالم الأفضل إلا بالتغيير … والتغيير لم يَعُد تمردًا عشوائيًّا، وإنما «هو أن يُضيف المرء شيئًا جديدًا للأشياء بصورتها الراهنة» على حدِّ قول أوريللي الذي يضيف: «لا يتأتَّى التغيير بالمطالبة وإنما بالإحلال.» وهكذا يتخطَّى دروت كلَّ المواقف الفردية للبيتنيكيين. يقول أوريللي: «ما كان بوسع إنسان بمفرده لسوء الحظ، أن يوقف ذلك؛ فعندما تنحدر أمةٌ فوق السفح، لا يستطيع مواطن واحد أن يقف في وجه السيل ويوجِّهها من جديد.» ورغم الفشل المؤقَّت الذي يلحق به فهو لا يلقي السلاح، وإنما يهتف: «أقول لكل مَن يعنيه أمرُ الجمال أو الحق أو حتى العمل المتقن»، أو مجرد «ذكر الحقيقة في دولة الطغيان»: «لا بد لك أن تخوض حربَ عصابات ضد المجتمع الحديث.» فلم يَعُد روبي أوريللي معماريًّا أو فنانًا فحسب، إنه صاحب دعوة اجتماعية. ودعوته الاجتماعية هي الثورة.
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/1/
الفصل الأول
أدركت منذ طفولتي المبكِّرة قُبح كلِّ ما يحيط بي من صُنع الإنسان، ولكني لم أتبيَّن هذا في المنزل الذي أعيش فيه إلا فيما بعد. فقد كان منزلي ككلِّ ما عداه، قاصرًا، فقير البناء، وحشًا صغيرًا، ولمَّا كنت أقصِر انتقادي من قبلُ على الآلات واللَّعب والطائرات، فإن إدراكي المفاجئ بأن أبويَّ وأنا نفسي قد غُرر بنا، وفُرضت علينا الحياة في بناءٍ قبيح، صدمني، وأذلني، وجعلني أكثرَ غضبًا من أي وقتٍ مضى. تساءلت، «لماذا شُيِّد منزلنا بهذه الصورة الخاطئة؟ لماذا هو شديد القُبح؟ لماذا يقوم وسط أرضنا دون أن يعطينا شعورًا بالحرية البيتية، ولماذا لا يتميز حتى بالرحابة التي يجب أن تكون داخله؟ لماذا نُضطر إلى إضاءة النور وسط النهار، بينما كان في إمكاننا أن نتناول طعام الغذاء في الضوء الطبيعي لو لم نمنع ضوء الشمس بالسقف؟ لماذا؟ لماذا؟ وكانت أمي تُجيب على هذه الأسئلة بأن منزلنا جميل، وأننا محظوظون حقًّا إذ حصلنا عليه؛ لأن بعض الناس لا يملكون شيئًا يقضون حياتهم يدفعون لمالك ولا يفوزون بشيء في النهاية. سألتها: «ولكن لماذا شُيِّد منزلنا هكذا بصورة خاطئة؟» وأجابت أمي: «أظنك كنت تستطيع أن تُشيِّده بصورة أفضل؟» كانت هذه، بالذات، هي اللحظة التي اخترت فيها طريقي في الحياة؛ فقد كان من الممكن أن أقول بتواضعٍ إنني بالطبع لا أستطيع أن أُشيده هكذا، أو أقول إنه بالرغم من أن هذا ليس في إمكاني؛ فهناك بالتأكيد مَن يستطيع ذلك، أو أبتسم لأمي ولا أتفوَّه بشيء، ولكني لم أفعل شيئًا من ذلك. فبثقة كاملة في سخافة السؤال ابتسمت وأجبت: «بالتأكيد كنت أستطيع أن أفعل أفضلَ من هذا بكثير. هل تُحبين أن أريَكِ؟» وفي هذه اللحظة أيضًا حزمت أمي أمرها، وقد علا وجهها تعبيرٌ غريب؛ فقد قرَّرت الانتقال إلى الجانب الآخر، ورغم أنها كانت تتجاهل دائمًا عصياني ومخالفاتي وتظل على الحياد، فإنها أعلنت الآن انضمامها إلى «المعارضة»؛ فلم يكن بإمكانها أن تتجاهل هذه المرَّة سنوات وسنوات من الادخار قبل أن تتمكَّن من ابتياع هذا المنزل الذي يصِمه ابنها الآن بالقبح. ردت عليَّ في غضب: «كلا، لا أريدك أن تريني شيئًا أيها الشيطان الحاذق الصغير؛ لأني أعرف أنك مخطئ؛ فالمنزل الذي ستُشيِّده سينهار في خلال أسبوع إذا ما هبَّت بعض الرياح القوية، والآن اصعد إلى أعلى دون أن تتناول عشاءك الذي يكدُّ أبوك ويكدح ليوفره لك، وربما يجعلك هذا تتعلم كيف تكون أكثر تقديرًا للأمور.» صعدتُ في هدوء، ولكني كنت أعرف أنني لن أقرَّ أبدًا ما هو خطأ. وعجبتُ لأمي، لماذا تريدني أن أكون هكذا. لماذا تريد أن تحملني على قبولِ ما أعرف أنه سيئ؟ فأينما تطلَّعت حولي رأيت أشياءَ قبيحةَ الشكل سمجة غير متقنة، صنعها الناس … سيارات ومنازل وأثاث ومصابيح وصحاف ودمًى وأكواب وملابس وأجهزة راديو وتليفزيون وصور وشوارع ومحلات وطائرات وأبنية مكاتب، ومحطة الخط الحديدي … لماذا لا يصنعونها بصورةٍ أفضلَ ما دام ذلك ليس بالأمر العسير؟ جعلت أدير هذا اللغز في رأسي، متعجِّبًا لسخافته، بينما مَعِدتي تؤلمني بخوائها من العشاء الذي حُرمت منه. وعندما عاد أبي صعد الدَّرج وجلدني بالسوط لأني ضايقت أمي، وبعد أن تركني، بكيت في الظلام، وأنا لا أزال عاجزًا عن فهمِ ما يريدانه مني. أدرتُ جهاز الراديو لكن الموسيقى الصاخبة، والكلمات المتحذلقة، والعواطف النشوانة، سرعان ما ذكَّرتني بالقبح من جديد، فأغلقت الجهاز. لماذا ترى الناس الذين يبنون الأشياء ويصنعونها، يبنونها ويصنعونها خطأ؟ لماذا لا يصنع الناس أشياءَ حسنة، أو على الأقل يعترفون بقبحِ ما يصنعونه؟ ركَّزت تفكيري أكثرَ من مرة ولكني لم أعثر على إجابة داخلي. وأخيرًا غفوت. وسرعان ما أصبحت الحياة تدريجيًّا بعد هذا باعثةً على اليأس؛ فلم أعد أنتظر شيئًا هامًّا — قولًا وفعلًا — من أحد البالغين حولي، بما في ذلك مدرِّسي في الصف السادس. ولما كنت قد سويت أموري مع أبويَّ باستبعادهما من عالمي؛ فقد أصبح واقع حياتي أكثرَ معقوليةً من ذي قبل، وهو الذي ينقسم إلى مركزين؛ المدرسة والمنزل، وكلاهما لم يَعُد حقيقيًّا بالنسبة لي. أما الإمكانية الثالثة أمامي، كمركز للمعنى الإنساني، وهي الغيبيات فقد سبق لي أن استبعدتها بالمثل؛ فقد كانت الكنيسة أقبحَ في بلدتنا، ولم يكن للقس منهم كما يبدو سوى السعي خلف أموال الناس. وهكذا أُجبرت على أن أُحلِّق في عالمٍ من صُنعي أنا، من أحلام اليقظة في المدرسة، إلى الانزواء في حجرتي أو القبو بعيدًا عن أبويَّ عندما أكون بالمنزل، والذهاب إلى الكنيسة متبرِّمًا عندما أُرغم على هذا. شعرت بالوحدة والضياع، وفيما عدا الوقت الذي أقضيه في ورشتي الصغيرة، لم يكن حماسي يتأجَّج إلا في المكتبة، وخلال الكتب التي كنت أقرؤها بالنهار أحيانًا وعلى ضوء مشعلي تحت الأغطية بالليل أحيانًا أخرى؛ لأن أبويَّ توعَّداني بإلغاء بطاقة المكتبة لو أمسكا بي أقرأ في وقتٍ متأخر. كان مبنى المكتبة مُشيَّدًا من الحجارة الكبيرة، قبيحًا كبقية المباني في بلدتي، لكنه كان يضم ثلاثة طوابق من الكتب وسيدة عجوزًا غريبة كانت تُباشر عملها في المكتبة وهي تحمل على كتفها ببغاء صغيرة لا تكُف عن الثرثرة. كان ريش الطائر اللامع الخضرة يتناقض مع بشرة وجهها الصفراء المحصبة، وهي تُحدق فيَّ من وراء منظارها وتبتسم هازَّة رأسَها الناصع البياض: «حسنًا، عمَّ تبحث اليوم يا روبي الصغير؟ أنت تعرف بالطبع أنه غير مسموحٍ لك بالصعود إلى طابق البالغين، وأنا أتجاهل هذا لسببٍ واحد هو أنك قد قرأت كلَّ ما لدينا هنا في قسم الأطفال. اقترِب مني، لا تخفْ.» وتغمز لي: «أعتقد أنه لم يَعُد هناك في الطابق الأسفل ما يثير اهتمامك، أليس كذلك؟ اليوم سأُريك شيئًا … الإغريق. لا تقلق؛ فلن أوجِّهك إلى ما تقرأ، سأُريك فقط القسم الذي نحتفظ فيه بكتبنا عن الإغريق. تعالَ، أعطني يدك.» وتقودني خلال أكوام الكتب وهي تضحك وتداعب ببغاءها بشفاهٍ مطبقة. ثم تقول وهي تشير بيدها إلى القسم الذي تعنيه بين الرفوف. «ليس من حقك بالطبع أن تفتح أحد هذه الكتب … لكن بصري ضعيف وأنا أعِدك إذا ما أُعجبت بكتابين منها أن أنظر إلى الناحية الأخرى عندما أختمهما. اثنان فقط الآن، أفهمت؟» عندئذٍ أومئُ لها برأسي، وعندما تبتعد بطائرها، أطير بعينيَّ فوق الكتب الممنوعة، وأختار ثلاثة من أضخمها، أحملها في مشقَّة، شاعرًا بالذنب، إلى مكتب العجوز بجوار الباب حيث تَطَّلِع عليها دون أن تُعلِّق بشيء مباشرةً لي وإنما تُحدِّث صديقها الصغير ذا الريش: «إنه لبارع، هذا الروبي روي، يا هركي، وأخشى أن يعطينا مقلبًا لو لم نكن حذرين، ولكن ماذا نتوقَّع عندما نطعن في السن ولا نستطيع أن نقرأ حتى النقطة.» كان مبنى المكتبة الحجري الرمادي مُحاطًا بشجيرات وممرات، ونافورة تتوسط حوضًا صغيرًا. وفي بعض الأحيان كنت أختفي على الفور وألقي نظرةً سريعة على كُتبي المرعبة فوق أحد المقاعد الحجرية بجوار البِركة. كانت هناك الإلياذة والأوديسة، وموضوعات تاريخية أخرى والتراجيديات العظيمة، وأشعار مثل أناشيد سافو، وكُتب يعسر عليَّ فهمُها كالجمهورية والمحاورات، رغم أن أفلاطون أوضح لي أن الأذكياء يختلفون في أعمق أفكارهم، وأن لا شيء يقينيٌّ كما كانت بروكدال، بلدتي، تريدني أن أومن، وأنه لا يوجد ثمَّة نهاية للتساؤل إلى أن يتناول الإنسان السُّم كما فعل سقراط. كانت لديَّ أماكن ثلاثة أقرأ فيها دون أن يقاطعني أحد … المكتبة، إما بالداخل بجوار المدفأة أو في الشمس على مقعد حيث أصغي لكركرة الميزاب، وفي المنزل في حجرتي بالليل، وأحيانًا أسفل جسر الخط الحديدي على الترعة حيث يكون في إمكاني أن أصيد السمك أو أدلي الكبد لسرطان البحر بينما أقرأ طول اليوم كيف شئت. ومع ذلك كنت في أغلب الأحيان، ألقي نظرةً على كُتبي بالقرب من المكتبة، كي أرى ما أحمل، وأتوجَّه إلى منزلي، مارًّا بالمروج الخُضر المنسَّقة، ومنازلَ تُشبه الأكواخ صُنعت من الطوب والحجارة وألواح الخشب، تحيط بها أسيجةٌ من النباتات وأحواض الزهور، وعندما أبلُغ منزلي أخفي الكتب تحت قميصي وأتسلل إلى حجرتي، فأصفُّها على رفي مخفيًا إياها خلف جهاز الراديو. وعندما أبغي القراءة في أحدها، أضعه تحت حزامي، وآخذه معي إلى جسر الخط الحديدي، مع كلبي وسنارتي، دون أن أتوقَّف إلا عند بقالة مستر كوبيتشيك؛ لأبتاع قطعةً من الكبد تساوي نِكلة كي أدليها لسرطان البحر. والذي حدث أني بدأت أهتم، بتأثير صور كتب الإغريق، وكتب الرومان وغيرهم بعد ذلك، بالمباني وعمارة الماضي، وإذ رأيت كيف كانت الأبنية القديمة جميلة التناسق، شعرت بذلةٍ شديدة مبعثها أن مباني عصري واضحة التخلُّف، ولو كنت اعتقدت بأنني بهذا أدنى من الإغريق والرومان، وبناة كاتدرائية عصر النهضة في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، فربما راجعت نفسي، لكني قد حسمت رأيي بأني أستطيع أن أُصمِّم مبانيَ أفضل من تلك التي أراها حوالَيَّ، وإذا كان هذا بوسعي فهو أيضًا بوسع آخرين غيري، وإذا كان هذا بوسعهم فربما كان عجز بلدتي عن إنتاج مبانٍ وزخارف جميلة مثل التي أنتجتها غيرها مجرَّد غلطة. ثم أتساءل، لماذا لم يحدث هذا، لماذا كانت إنجازات عصري شديدة القُبح، أبعد من أن تكون جميلة، قوية الملمس ومسرة للعين؟ لماذا لم تكن هناك آثار سامقة أينما أنظر؟ وانتهيت إلى أنها ربما وُجدت دون أن أراها. كان هناك مبنًى واحد في كل بروكدال، بولاية إيلينوي، يشعرني بالفخر. وكان يُدعى ﺑ «المركز»، ولم يكن يستخدمه سوى الصبية في الشتاء عندما يبحثون عن مكان دافئ لأحذية الانزلاق، وعندما يقيم طلبة المدرسة العليا حفلاتهم الراقصة بالليل مرتين في الأسبوع. كان يمتد بمحاذاة الجدول في مكانٍ فسيح يتجمَّد فيه الماء، ورغم أنه كان منزلًا يومًا ما فإنه آل للقرية قبل أن أبلغ العاشرة بسنواتٍ عندما مات آخرُ أفراد العائلة، وكانت عجوز تحتفظ بأربعة كلاب كبار. أثار هذا المنزل اهتمامي بادئ الأمر بغرابته؛ فقد كانت له جدران من الأسمنت وسقف خشبي عظيم وشُرفات من الحجر المسطَّح تحيط بها أسوار من الأسمنت جُعلت أركانها من أحجار عالية، وشُيدت بها أوعية كبيرة واسعة من الأسمنت للنباتات. وفي الداخل كانت هناك دعامات سوداء سميكة، وقاعة ضخمة في نهايتها مدفأة كبيرة من الصخر المحروق تَسع قطع من الخشب في طول فلنكات الخط الحديدي. كان المكان نموذجيًّا للانزلاق؛ لأن منحدرًا من الأسمنت كان يؤدي مباشرةً من بابٍ قُرب المدفأة إلى أسفل، ثم يدور إلى شرفة كبيرة تطل على الجدول. وقد كان المنزل بالطبع صغيرًا لكن الجدران والشرفات الخارجية، كانت كلها جزءًا منه، تُشعرك بأنها متصلة به، أو هي فعلًا بذلك السقف العظيم الواطئ الذي كان يبدو أكبر من حقيقته. لكن السبب الأساسي الذي جعلني أفخر به هو انضباطه. فلم تكن ثمة أخطاء يمكن رؤيتها (إذا تغضينا عن بعض الشقوق في الخرسانة التي ترجع إلى الإهمال)، فمن أي ناحية أقبلت على المنزل كان يبدو مذهلًا، متكاملًا، دون زوائد قبيحة تبرز منه مثل الأصابع المتقرحة. وكلما تأملته زاد فخري به، وببروكدال لأنها تضمه، وبنفسي لأني أستخدمه … وذات خريف هدمته البلدة فجأة لتُنشئ مكانه محطة كهربائية، ووقفتُ عاجزًا، وقلبي يدق للخسارة، وغضبي يشتعل لهذا الظلم، وسرعان ما اختفى «الشيء الوحيد الجميل في بروكدال». فكرت جديًّا بعد ذلك في أن أصير مجرمًا، أغير على البنوك، وأسرق من المنازل القبيحة، وأقتل، وأوذي بصورةٍ ما الناسَ الذين ألحقوا بي الأذى، ولا يخالجكم الشك في أن هذا كان سيحدث لو لم أذكر لِمِس ريسك، عجوز المكتبة، كم أجببت «المركز». فقد أفضيت لها ذات يوم: «لقد كان الشيء الوحيد الجميل في بروكدال وقد هدمته الجرذان، فماذا ترين في هذا؟» وقفت أمام مكتبها، منفرج الساقين، ويداي متشبثتان بعجزي، وفكَّرت كيف أني أستطيع بحركة واحدة أن أوقع بالببغاء الذي يعتلي كتفها، بل وربما حطَّمت عنقه الجميل. قالت برقة: «حسنًا، لقد هدموه بالتأكيد … لا يمكن إنكار ذلك.» فأجبت: «بالطبع لا يمكن» … وكانت عيناي الحاقدتان ما تزالان على عُنق الطائر. «لكن لا أعتقد أنهم سيهدمونها كلها. أتعرف أن الرجل الذي شَيَّد هذا البناء شَيَّد مباني كثيرة غيره، ويمكن رؤية بعضها في هذه الأنحاء؛ فهي تبعد عنا مسافةً يمكن للدراجة أن تقطعها بسهولة؛ فهناك كلوني هاوس في ريفرسيد وبناءان أو ثلاثة أخرى هناك، ثم إن رحلة بالدراجة تستغرق يومًا إلى الجين تحملك إلى مبنى كامبانا … وهو حقًّا شيء رائع. إن واحدًا من هذه المباني لم يُهدم. هل تعرف ما قاله ذلك الرجل، بانيها، عندما سمع أن بروكدال ستهدم «المركز»؟ قال: هذا أفضل لهم، إني أُفضِّل أن يهدموه على أن يحولوه إلى محطة كهربائية. بالطبع لن أذكر لك كلَّ ما قاله، ولكنه روى نكته سخر فيها بهذه البلاد. هل تعرف معنى السخرية؟» هززت رأسي نفيًا. «حسنًا، إنها شكل حادٌّ من الفكاهة، أحد أنواع النكت. وقد قال هذا الباني: إنَّ هدم الروائع الفنية واستبدالها بمحطة كهربائية هو من طبيعة هذه البلاد. ثم ضحك. هل تعرف هذا؟ لقد ضحك، رغم أن الأمر كان يؤلمه للغاية.» شعرت بفيضٍ عظيم من الإدراك، رغم أني أجد تفسير ذلك الآن أمرًا عسيرًا. فعندما كان أحد الأشخاص يذكر لي شيئًا، كنت أراجعه بشكلٍ ما على كلِّ ما رأيت أو سمعت أو عرفت منذ وعيت، وكانت أجراس الزيف تدوِّي في رأسي عادةً عندما لا يتطابق الشيء الجديد مع معلوماتي السابقة فأُدرك أنه ليس صحيحًا وأنه أكذوبة. أما هذه المرة فلم يكن هناك جرس إنذار، كانت كلمات العجوز وما قاله الباني تتفقان تمامًا دون تنافر مع كلِّ ما مرَّ بي من قبل، كان الأمر صدقًا إذن، وغاص في عقلي دون أن يطالبني بأن أنكر شيئًا أتذكَّره، كان ببساطة مضبوطًا، يُضيف نفسه إلى كلِّ ما كنت أعرفه بالفعل. كان ذلك رائعًا؛ فقد شعرت أن هناك على الأقل شخصًا واحدًا آخرَ أُضير بشدة أيضًا، وهذا الشخص الآخر قد ضحِك، ألقى برأسه إلى الوراء وضحك، ثم قال الصدق، وإذا كان هذا بوسعه فهو بوسعي أنا الآخر. ضحِكت في وجه مس ريسك العجوز، ثم قلت: «ووو.» وشعرت بأني على حافة الغليان؛ فقد كانت الدماء تتدافع إلى رأسي ووجهي، والتهبت أُذناي، وارتعش جِلدي احمرارًا. فقدتُ عقلي لثانية وفكَّرت في أشياء من قبيل: هل أدفع هذا المقعد إلى الأرض؟ هل أصنع نموذجًا خشبيًّا من «المركز» ليلًا بيدي المجرَّدتين نكايةً فيهم؟ هل أجذب الببغاء واعتصرها حتى تموت؟ هل أضحك بصوتٍ يدوي في هذه المكتبة الهادئة القبيحة؟ طويت أصابع يدي في قبضتين وأنا أُحدِّق في الطائر الذي يعتلي كتِف مس ريسك. لكنني قررت أن أتركه في سلام. وفكَّرت أن هذا سيكون لفتة طيبة في حق مس ريسك، فعدَلت عن قتله. سألتني مس ريسك: «أتحب أن ترى صورة الرجل الذي بنى «المركز»؟» حوَّلت عيني بصعوبةٍ عن الطائر إلى عينيها، لكنني لم أستطِع التفوُّه بشيء. كلُّ ما أمكنني أن أفعله هو أن أشدَّ على قبضتي في قوةٍ حالت بيني وبين النُّطق، وبدا لي هذا أمرًا سليمًا بدوره. راقبتها وهي تنهض وتتناول قبضتي في يدها الناعمة الدافئة المعرُوقة، ثم تقودني إلى رفٍّ يحمل هذه الكلمة «العمارة». ومدَّت يدها وجذبت كتابًا مُضحكًا، مُربع الشكل، لكنه كبير وسميك مثل باقي الكتب. قالت: «كلُّ هذه الكتب عن المباني وبُناتها، وكل كُتب هذا الصف عن الرجل الذي بنى «المركز» … بل إنه كتب بعضها بنفسه.» ابتلعتُ ريقي بصعوبة وهي تفتح الكتابَ وتُدلِّيه إلى أسفل كي أتمكَّن من رؤيته. كانت هناك صورة الرجل؛ الرجل نفسه الذي فكَّر في «المركز» ووضع خطته وبناه، وفعل كلَّ شيء على وجهه الصحيح. كان له شعر أبيض ورأس مثلَّث بجبهة عريضة وذقن رفيع. أغلقت مس ريسك الكتاب فجأةً وأعادته إلى الرف وتركتني وحدي، أمام كلِّ تلك الكتب. وشعرت بتلك الرِّعشة الشديدة مرةً أخرى، وأنا أُحدق فيها بغضب، ثم قرَّرت أن آخذ كل هذه الكتب التي كتبها هذا الرجل، وسأضربها لو منعتني؛ لأنها كتبي أنا ويجب أن أحوزها. أحضرت الدَّرج بسرعة من الركن، وارتقيته، ثم أخذت الكتب الخمسة التي تحمل اسمه، ومررت من أمام مس ريسك، دون أن أسألها أن تختمها؛ لأني لم أكن أود أن أضطر إلى ضربها لو اعترضت على عددها، لأني أحبُّها. لكنها لم ترَني، وجريت إلى منزلي، فحزمت جَعبتي، وتركت ورقةً لأمي أقول فيها إني سأقضي الليلة مخيمًا في العراء، وجريت إلى الغابات والجدول وجسر الخط الحديدي. كَوَّمتُ الكتب أمامي، على ضِفة الجدول، وقرأت في تركيز يومين كاملين.
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/2/
الفصل الثاني
عندما عُدتُ إلى المنزل لم أوجِّه كلمة إلى أحد، فقط تناولت عشائي وصعدت إلى حجرتي، حيث تمددت على فراشي وجعلت أُقلب في صور المنازل والمباني. كانت جميعًا مُذهلة، بالطبع، تفوق في مغناطيسيتها «المركز» الصغير، الذي لم أعُد أحفل بأمره كثيرًا … كما يحدث عندما يفقد المرء زهرةً واحدة في حوضٍ كامل من الزهور، وهو أمرٌ مُحزنٌ حقًّا، لكن لا تزال هناك كل هذه المباني الأخرى، وبعضها أكبر وأكثر أهمية. فكَّرت في روعة الحياة لو كانت هذه الأعمال خلفي أنا. كنت أبقى حينئذٍ في المنزل طول اليوم أستمع لمباريات الكرة؛ لأنه لن تكون ثمة حاجة لعمل شيء آخر. لكنها لم تكن ملكي، ولهذا أردت أن أضع خلفي، بأسرع ما يمكن، أشياء مثلها، أشياء أبنيها أنا نفسي، حتى أشعر بالراحة. وذات يوم من أيام ذلك الشهر، وفي الصباح الباكر قبل أن تُشرق الشمس، هبطت الدَّرج في سكون، ودفعت بخمس شطائر في قميصي، وارتقيت دراجتي، وانطلقت إلى ريفرسيد على مبعدة ثلاثة أميال لأرى ضيعة كونلي الهائلة. انطلقت في سرعة في الطريق الرئيسي، أُحرك البدَّال وأنا أقضم الشطائر، وأتفرَّج على مناظر شنعاء. كان الهواء حارًّا. وعندما أقبلت على البلدة وجدت حانوتًا مفتوحًا، فولجته وتناولت كوبين من اللبن وفطيرة كريز. وعندما انتهيت من الأكل سألت البائع عن ضيعة كونلي. «ماذا …؟» ظننت أنني قد أخطأت النُّطق، فذكرت له الاسم حرفًا حرفًا «ك. و. ن. ل. ي الضيعة الكبيرة التي بناها فرانك لويد رايت. لقد جئت لأراها.» وقال لي الرجل: «لم أسمع عنها أبدًا يا ولدي.» تساءلت وأنا أشقُّ طريقي إلى الخارج حيث تقف دراجتي، تُرى أأصابها الدمار هي الأخرى؟ أم أخطأ الكتاب بشأن مكانها؟ وقررت أن أبذل محاولةً أخرى حتى لا تذهب رحلتي سُدًى، فجعلت أستوقف المارَّة في الطريق؛ أسألهم عن مكان الضيعة. وعندما كانوا يتطلعون إليَّ في حيرة صامتة، كنت أضيف بعض المعلومات: «لقد بناها فرانك لويد رايت منذ خمسين عامًا. وهي مكان ضخم هنا في ريفرسيد، وقد قطعت كلَّ هذه المسافة من بروكدال لأراها.» لكن النظرات الحائرة استمرت، فلم يسبق لأحد منهم أن سمع عن كونلي هذا أبدًا. وأضيف وأنا أستوقف ناسًا يهرولون إلى قطاراتهم في طريقهم إلى أعمالهم: «كان كونلي مُقاولًا أرلنديًّا في بداية القرن … وأنا أعرف أن ضيعته هنا في مكانٍ ما.» وأخيرًا قرَّرت يائسًا أن ألجأ إلى مركز البوليس. رويت قصتي للرقيب الموجود، ووصفت له الضيعة التي تحتوي على منزلٍ ضخم وحوض للسباحة وجاراجات ومنزل بوابة، ثم رسمت له كروكيًّا لها فوق قطعة من الورق، لكنه هزَّ رأسه: «لم أسمع عنها مطلقًا يا بني. لكن هناك مكان يُشبهها بالقرب من النهر على طريق فيربانكس، أمام الطاحونة القديمة … ويملكه كروهلر، صانع الأثاث الكبير. أما هذا الفرانك لويد لم أسمع عنه من قبل.» قلت: «ربما ابتاعها كروهلر.» «ربما … انتظر برهة … إنه يملكها منذ ست أو سبع سنوات. أعتقد أن أمَّه فقط هي التي تعيش بها الآن مع بعض الخدم، وقد تمنعك من الدخول.» «كل ما أريده هو أن ألقي نظرة.» انطلقتُ بدراجتي في الطريق الموازي للنهر حتى بلغت حائطًا ضخمًا، أصفر اللون، من الخرسانة. كانت هي الضيعة؛ فقد تعرفت عليها من صورها، رغم أن الجدران كانت بيضاء عندما تم التقاطها. وكانت الضيعة تكوينًا جميلًا من ستة أشكال، كلٌّ منها يؤدي من وإلى حوض السباحة الذي يطل عليه المنزل الرئيسي بحائط كامل من الأبواب الزجاجية تؤدي إلى حديقة منعزلة لكنها كبيرة. وكان الطابَق الثاني فيما يبدو مكانًا فخمًا للجلوس يعلوه ويحميه سقف مسطَّح عريض يرتفع فوق دعامات ضخمة من خشب السنديان الداكن. وعلى طول الجدار تقوم الجاراجات وحظائر الخيل وأماكن الخدم ومنزل الحارس، لكنها جميعًا كانت تتصل بالمنزل الرئيسي برَدهات مسقوفة، بحيث كانت الحدود الخارجية للمنزل الرئيسي عبارة عن جدار الضيعة نفسها، فتبدو المباني الداخلية كأنها غُرف، بعضها يُفتح على حدائق وأحواض سباحة صغيرة، لكنها جميعًا تستحث العين أن تتجه إلى الحديقة الرئيسية العظمى وحوض سباحتها، تطل عليه الواجهة الزجاجية للمنزل الرئيسي الذي يحميه السقف العظيم، مغطيًا كلَّ شيء، ومتصلًا بكل شيء. وكانت الضيعة كلها شكلًا واحدًا، مما أذهلني؛ لأني لم أشهد أبدًا من قبلُ شيئًا يعتقل الفضاء الذي يشغله بدلًا من أن تعتقله الأرض التي يقوم فوقها. وعندما فكَّرت في أن كلَّ ما يحدث في ضيعة كونلي، كان يحدث داخلها لا فوقها، تبيَّنت كم كان الأمر مثيرًا؛ فالفصول تتعاقب داخلها، والطيور تطير في أنحائها داخلة إليها خارجة منها. ولم يكن هناك من سبيل لتصور شيء مشابه إلا إذا أغمضت عيني. وتخيلت تساقط أوراق الشجر في غرفتي، أو الجليد في جانب من منزلي. وأدركت من وضعِ أكبرِ مدْخنة، أن واحدة أخرى من تلك المدافئ الفاغرةِ أفواهها، التي رأيتها في «المركز»، تهيمن على نواة هذه الضيعة المعقَّدة. وكأنني كنت أشهد تجسيدًا للتناقض بين «الداخل» و«الخارج» في صورةِ مركزٍ مُشعٍّ يتحكم في كلِّ ما عداه أو قضيب من قضبان رفع الأثقال يحمل المدفأة في أحد طرفيه بصفتها النقطة البؤرية للمنزل، والحديقة والحوض في الطرف الآخر بصفتها النقطة البؤرية «للحجرة الخارجية»، يصل بينهما قضيب ديناميكي من التوتر البالغ، بحيث يستحيل أن تعرف ما الذي يتحرَّك وفي أي اتجاه. كان عليَّ أن أفترض أن الجذب والشد بين الإنسان والطبيعة قد تجسَّد هنا في لحظةٍ من التوازن المطلق. وهذا هو ما جعل الضيعة كلها رائعة من التوتر الساكن، كل جزء فيها يشترك بنفس القدر في تحقيق التوازن. كان شكلًا جميلًا، لكنه كان عقيدة أيضًا، أسلوبًا في الحياة يعطي الشكل كلَّ طاقته، يدفئه كشيء حي ويسمح له أن يُعبِّر بحرية عن تفاعل البشرية بالطبيعة. طُفتُ بأرجاء الضيعة، وعقلي يلتهم الرؤيا من كل جانب، دون أن ألاحظ غياب الشمس. ولم تكن دراجتي مزودةً بمصباح؛ لهذا كان عليَّ أن أسرع بالعودة إلى منزلي قبل حلول الظلام. وما كان بوسعي أن أفكِّر في ضيعة كونلي وأنا أقود دراجتي عائدًا إلى بروكدال؛ فقد كانت التجربة طاغية، تحُول دون استخلاص النتائج السريعة. وبدلًا من هذا جعلتُ أتمثَّل الرجل الذي بناها وكيف أنه كان يشعر بالفخر ولا شك وهو يخرجها من العدم في عناية. قلت لنفسي إن فرانك لويد رايت رجلٌ دقيق شديد الاعتناء، أستاذ في التصميم، رسَّام على قدرٍ رائع من المهارة والأناقة، بنَّاء يتميز برقةٍ شديدة، فنَّان حسَّاس رفيع التذوق، رجلٌ يسعى من أجل التوازن والراحة والسكون أساسًا، وقد حقَّق كلَّ هذه الغايات الثلاث في عمارة كونلي. وفكَّرت كم كان مسرورًا وراضيًا بهذا العمل العظيم. سحقني منزلي بهيكله القبيح عندما بلغته وعبرت بوابته بدراجتي، واندفعت إلى حجرتي. كان منزلي سجنًا يعذِّب عقلي، وخاصةً الآن وأنا أعرف ما كان يمكن أن يكون. تلك هي الليلة التي شرعت فيها، وقد استلقيت على فراشي مشبكًا يديَّ خلف رأسي، أصمِّم منزلي الجديد، المكان الذي سأعيش فيه عندما أصبِح مهندسًا مثل فرانك لويد رايت. حاولت في البداية أن أتخيَّله مزيجًا صلبًا ثابتًا من الإنسان والطبيعة، توقَّف برهةً في حركته نحو لحظة فرح وسلام، كما تخيَّل رايت ضيعةَ كونلي، لكني وجدت أن هذا خطأ، وأني لا أستطيع أن أصنع الأشياء بهذه الطريقة. إذن ما هي طريقتي؟ أعوزتني الإجابة. كنت من قبلُ أفكِّر بمعايير «سليم» وغير «سليم»، وهو ما كان أمرًا سهلًا؛ فكلُّ ما فعلته حتى الآن كان سليمًا. لكني أدركت الآن أن هناك ما هو أكثر من ذلك. كان عليَّ أن أُعبِّر عن شيءٍ ما في كلِّ ما أبنيه، وكي أستطيع ذلك لا بد وأن يكون لديَّ ما أُعبِّر عنه، فماذا أريد أن أقول للبشرية كلِّها في أبنيتي، ما هو البيان الذي أصدِره؟ كانت كافة البيانات التي سمعتها تبدو لي خاطئة، بما في ذلك بيان فرانك لويد رايت، وهكذا أدركت أنه لا بد لي من العثور على شيء جديد أو ابتداعه. هذه هي المشكلة التي شغلت وقتي، وجعلت تتأجج في عقلي، حتى أصبحت تدريجيًّا المرآة المركزية التي تنعكس عليها كلُّ الأفكار والأشياء. وفي هذه الأثناء تخرَّجت من المدرسة الابتدائية وبدأت أتردَّد على مدرسة ريفسيد بروكدال الثانوية، التي كانت في منتصف المسافة بين البلدتين. وخلال سنوات المراهقة المبكِّرة، تحوَّلت إلى شعراء عصري البارزين أبحث لديهم عن إجابة جديدة. لكني لم أجد شيئًا لم يكن مضحكًا، وجعلني افتقادُ ما أقرأ للعمق أشكُّ في سلامة اختيار هؤلاء الرجال متحدثين باسم معاصري. فقد كانت رسالة ف. سكوت فيتزجرالد فيما يبدو هي أن الأغنياء يجسِّدون أجملَ ما في البشرية، وإذا كانوا لا يساوون شيئًا أو يواجهون المتاعب فهذا هو شأن البشرية أيضًا. وزعم هيمنجواي أن الرجال رياضيون، وأن الحياة لعبة، ولا يمكن الحكم على الناس إلا من خلال الطريقة التي يواجهون بها نتيجة اللعبة. وادَّعى إليوت أن الحياة أرض خراب تسكنها التماثيل، ورأى أونيل فيها جنونًا لا يتمتَّع فيها ببصيرةٍ نافذة إلا مَن كان أقرب إلى حافته. وقال كمينجز إن الحياة عبارة ببساطة عن حجرة هائلة وإن الناس جميعًا سكان. وقال فروست إن الإنسان يعيش ليخدم نفسه وبلاده، وإن معنى الحياة في أن يقوم المرء بالواجب الذي عُهد إليه. وكان الشاعر الوحيد الذي لم يقلِّل من شأن الحياة هو شكسبير؛ فقد قال هذا المنشد الفريد إن الإنسان قادرٌ على أن يتخيَّل نفسه في أي صورة شاء، وإن كافة الأقنعة كوميدية أو تراجيدية، وأحيانًا كلاهما، ولكنها تتساوى جميعًا في أنها ثمرة خداع لأنفسهم، و«لا تعني شيئًا». لم يمضِ وقت طويل حتى كنت أعود إلى العمارة طلبًا للعون، ورغم أني واصلت البحث عن مباني رايت، أدرسها، وأرسمها، وأستمتع بها — حتى وأنا أقرأ أعمال مَن ذكرتهم فيما سبق — فقد أصبحت الآن مهتمًّا بمعلِّم رايت، لويس سوليفان. فقد قال سوليفان لتلميذه: «السبيل لأن تستعيد شيئًا هو أن تستعيده.» وقد رَنَّت هذه الرسالة في أُذنَي رايت في نهاية القرن الماضي. وجدت أن سوليفان لم يكن غامضًا ولا موحيًا؛ فقد كان يعرف ما يريد، وفعَله، ولم يكن في حاجة إلى مترجم يفسِّر أعماله؛ لأن كلَّ ما كانه وآمن به، بل وأكثر من ذلك، كان يبدو في عمله. لم يكن هناك سِر، ولم يكن الأمر شاقًّا، ولم تكن هناك أقنعة ماهرة تحيط ببيان مبتذَل — كما كنت أتوقَّع — بل إن جبروت ما قاله سوليفان في جلاءٍ هو ما جعل رجالَ السلطة والذوق في عصره ينصرفون عن عمله. لقد قال إن الإنسان عظيمٌ وسامٍ، عاصفة جبارة من القوة بوسعِها أن تجتاح أيَّ شيء. وفكَّرت … لا عجب إذن أن ينكروه. فلو أقرُّوا نداءه: «إنها لمجيدةٌ حياة الإنسان، وبهجة من الأعمال الجميلة القوية»، لكان عليهم أن يعترفوا بأنهم استثناءات من قاعدة سامية ما داموا لم يحققوا شيئًا عظيمًا، وأنهم هم غير المتلائمين، «المخطئين»، وأن سوليفان نفسَه هو الرجل «الطبيعي». لقد قال لهم انظروا إلى عملي، وانظروا إلى ما تستطيعونه، وكونوا جبابرة، كونوا عظماء، وارفعوا رءوسكم، وامشوا في الأرض كالآلهة كما خُلقتم لتفعلوا؛ تلك كانت صيحة سوليفان المدوِّية، التي ضحِك منها أو تجاهلها أولئك الذين صغَّروا عن عمدٍ من شأن مصائرهم هم. كنت في تعرُّفي على سوليفان أشبهَ بمن يتعقَّب سرًّا من الأسرار؛ فلم يكن يعرف شيئًا عن «السيد العزيز»، كما كان رايت يدعوه، إلا قلة من الناس، كانوا يرفضون الحديث؛ لأنها كانت قصة مؤلمة. بل إن مباني الرجل العظيم صارت أشباحًا، أُبقي على بعضها بشرط أن تظل مجهولة وغامضة، بينما هُدم أغلبها في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن. كنت أبحث عنها عبثًا بعد عشرين عامًا فقط من عام ١٩٢٤، الذي مات فيه الرجل فقيرًا عاجزًا في غرفةٍ بأحد فنادق شيكاغو الرخيصة. وعثرت على ضيعة بابسون على مبعدةِ أميالٍ قليلة من منزلي، وكانت الغابات تخفيها، ووجدتهم قد حوَّلوها إلى ديرٍ للراهبات. قالت لي الأم الرئيسة: «سوف نهدمها قريبًا لنفسح المجال لمستعمرةٍ سكنية. فثَمن الأرض مرتفع لقربها من ريفرسيد، والكنيسة تحتاج إلى نقود.» كان مكانًا غريبًا شُيِّد بجوار الشارع الذي أصبح فيما بعدُ الشارعَ الرئيسي في البلدة، لكن الأشجار والمروج — يحدُّها جميعًا سياجٌ عالٍ من الطوب — كانت تحيط به بحيث تخفيه عن الناس وتجعله شيئًا خاصًّا مُصانًا، لا يعرف بما تؤدي إليه البوابات الحديدية الكبيرة إلا قلةٌ من الجيران. وكان المنزل الرئيسي عبارة عن سقف خشبي كبير على هيئة رقْم سبعة منفرجة الساقين، ويستند إلى أعمدةٍ سميكةٍ من الطوب، ذكَّرتني بقبضةٍ مرفوعة قليلًا، ينحدر السقف إلى الخلف فوق ساعدها حتى يقارب الأرض، بينما يرتفع من الأمام واسعًا وعاليًا وسميكًا، وأعمدته العظيمة من السنديان مزخرفة في نهايتها بمفاصل أصابع ضخمة «تدافع» عن المدخل، وتتحدَّى الداخل. كأنما كان سوليفان يقول «ها أنا ذا»، فيُصاب المتفرِّج بالحيرة … كان المنزل أكثرَ من تحدٍّ مُوجَّه للسماء بالارتفاع البطيء المقصود لسقفه الطويل عند المدخل. كان لكمة في وجه العدم، لطمة هائلة للشمس والنجوم، ترتفع بقامة مَن ينظر إليها إلى مستوى الطبيعة: «أصغوا، يا مَن في الخارج أمامي، أيًّا كنتم، الطبيعة أم الله أم العدم، ها أنا ذا.» بدأت أفهم لماذا اتَّهم الكثيرون سوليفان بالإلحاد. فهذا المعماري كان يزعم أن الإنسان موجود بالرغم من أي قوة غيبية، وأنه ليس في حاجةٍ إلى رحمةٍ منها، بل ولا إلى خلاصٍ ما. كان كائنًا قائمًا بذاته، ساعد نفسه، وشقَّ طريقه الخاص، وكانت له روحه الخاصة التي يعبدها. لقد أعلن سوليفان أن «الشكل يتبع الروح». وإذا صدَق هذا على المباني فهو يصدُق أيضًا على الإنسان. كان حقًّا إعلانًا مذهلًا … إن مباني الإنسان يجب أن تُخلق في صورته، لا أن تُخلق من أجل الآلهة كما فعل اليونان والرومان وبُناة كاتدرائيات عصر النهضة، أو المجتمع الذي استسلم له أغلب البُناة في عصر سوليفان، أو لتصوير الإنسان في اتحاده مع الطبيعة كما فعل التلميذ رايت، لكن فقط من أجل الإنسان في اتحاده مع نفسه. ففي روحه هو تكمُن أفكار المستقبل، إنه العبقري الذي سيمجِّد روحه في أبنيةٍ تُمثله وتُصوره طالما هي قائمة. لا عجب إذن أن ثار الناس ضده، فلو كان الإنسان مسئولًا عن حُسن حظه، عن إنجازاته العظيمة، فهو مسئول أيضًا عن خطاياه، ولن يحصل على المغفرة إلا من نفسه. وهذا ما لم يستطِع الناس قبوله، على الأقل أيام سوليفان؛ فقد كان من الكثير عليهم أن تطالبهم بالتخلي عن الصورة التي كوَّنوها لأنفسهم «كأطفال الله»، وأن يقبلوا بلوغهم، ويتحملوا مسئوليتهم، والأصعب من كل هذا أن يدركوا أن الحياة هي الخلاص الوحيد الذي لا خلاص غيره. كان الأسهل عليهم أن ينكروا الرجل، كلماته وأعماله، وهو ما فعلوه، وكانت نظرة واحدة لضيعةِ بابسون كافية لأن أكتشف قدْر ما خسروه ذلك. لم تكن جميلة، كانت عبارة عن مساحة وقوة وبنيان. فإلى جانب المنزل الرئيسي كانت هناك حظيرتان للجياد تمتدان مسافةً طويلة قريبًا من الأرض، إلى اليسار. ورغم أنهما تبدآن على الأرض بأعمدتهما الخلفية الغارقة في التراب، فقد كانتا جزءًا من الحركة العامة التي توِّجت أخيرًا في اندفاع المنزل الرئيسي المشرع إلى أعلى. وما كان بوسع العين أن تتوقَّف عند جانبٍ دون الآخر، فلا بد وأن تنتقل من الحظيرتين إلى المنزل، ومن المنزل إلى المدخل. لم تكن هناك حدائق أو شرفات تحيط بالأبنية، بل كان هناك شيء أشبه بمرجٍ عميق تتخلله أدغال من الأشجار والشجيرات، وكانت السقوف تسيطر على الفضاء، وتبدو جميعًا جزءًا من الحركة الواحدة الهائلة نحو الواجهة. لم تلهمني كثيرًا كما فعلت ضيعة كونلي بجمالها ورصانتها وتكاملها، لكنها اكتسحتني. وسمت بعيني وروحي بتحديها وقوَّتها. كانت تخيِّم بهيكلها مثل جوادٍ ضخم مرفوع الرأس، كأنما يوشك أن يرتفع بي إلى أعلى ما أشاء. وكان يمتد مشدودًا متوترًا كمقلاعٍ يريد أن يقذف بي إلى أبعدِ ما أستطيع. كانت مُخيفة، تحديًا مجسمًا نبع من أعماق الإنسان، وفي بُعدها عن الجمال كانت شيطانًا جموحًا، أحمرَ الوجه، باسمه يسوق الإنسان إلى آفاق عظيمة، وقد وعد بأن يعود به إلى المكان الذي جاء منه. ودوَّنت رسالتها المتأملة المدوية في كراستي بحروف كبيرة «لقد بقيت، أنت باقٍ، سوف نبقى … ارتفع إلى مستوى مجدك العظيم». عندما انتهيت من جولتي، دعتني الأم الرئيسة إلى الداخل، وقدَّمت لي بعضًا من الحَساء واللبن. كان المنزل من الداخل عاريًا من أي زُخرف، كي لا تتعرض الراهبات للغواية، لكن الجدران الداكنة من خشب الكابلي والتماثيل الدقيقة المنحوتة في طلاء السقف الأبيض، والنوافذ المرحة التي تتدفق منها أشعة الشمس في كل حجرة، كانت تُذكِّر المرء فجأة بأن الحياة تجربة بديعة. سألتني الأم الرئيسة: «المكان جميل هنا، أليس كذلك؟ إنه يضعنا أمام الله في كل مجده. كم سنفتقده.» قلت: «لكنه لم يقصد ذلك.» قالت: «لماذا، مَن هذا الذي لم يقصد ذلك يا صغيري؟» قلت: «الرجل الذي بنى هذا المكان … لويس سوليفان. لقد كان يعنينا نحن بهذا المكان، وليس الله.» ابتسمت الراهبة في خجل: «لا أعتقد أن هناك أهميةً لما كان يعنيه. المهم الآن هو ما تعنيه بالنسبة لنا.» قلت: «كلا، هذا خطأ.» وقمت واقفًا. سألتني الراهبة: «إلى أين أنت ذاهب؟» لم أجِب، بل جريت من الغرفة إلى الرَّدهة ثم الخارج. كنت أبكي، ولم أكن أود أن يراني أحد. ذرفت دموع القهر من قبلُ أمام أناسٍ مثل هذه الراهبة، بُسطاء، لِطاف، طيبي القلب، لكنهم كالأحجار الصماء أمام أعمال سوليفان. لماذا هم عاجزون عن الفهم؟ لقد كان الأمر واضحًا للغاية، ناصعًا جليًّا، مصوَّرًا بقوة في بنائه … الذي كان يتبع من حيث الشكل روحًا مُحلِّقة سامية. وفكَّرت أن الناس ما كان بوسعهم أن يروا لأنهم لا يريدون، خشيةَ أن يغيِّر ما يرونه من حياتهم، ولو إلى الأفضل. بعد هذا، وجدتني قادرًا على أن أكون رقيقًا مع الناس متفهمًا لهم. فلم أعُد أتوقَّع شيئًا من أحد. أدركت عبثَ أنْ تستحثَّ أحدًا على أن يرى أكثر أو يفعل أكثر، أو يكون شيئًا آخر غير ما هو كائن بالفعل. كما لو طالبت قليلًا من العُشب أن يصير بستانًا. وهكذا قدَّمت العون إلى أمي. وأصغيت في صبرٍ إلى أبي، وبدأت أُظهر احترامي لمدرِّسي. وظللت مع ذلك عاجزًا عن خداع أحد، فعندما كانوا يسألونني عما أفكِّر فيه، كنت أقول نفس الأشياء الغريبة التي اعتدت قولها. ولأني أصبحت «ولدًا طيبًا»، لم يَعُد أحد يحمل عليَّ بسبب الأشياء التي أومن بها. والأغرب من هذا أني كنت أُعَد في المدرسة الثانوية غبيًّا ولكن حَسن القصد. لم تكن إجاباتي تُحسب صحيحة مطلقًا، وكانت غالبًا ما تُحير المسئولين عن منهاج الدراسة، لكنني كنت مؤدبًا في هذا الشأن بحيث كنت أحظى بدرجة «مقبول». ورفعوني إلى المستوى الذي يمكن أن أُوصف عنده ﺑ «متوسط»؛ لأن أحدًا لم يشأ أن يؤذي صبيًّا وديعًا مُسالِمًا كلُّ مشكلته أنه يخطئ دائمًا دون قصد. وكانت مس ريسك، عجوز المكتبة، ومستر دولف، مدرس الحساب، هما اللذان لم يخدعهما مظهري الجديد الذي كان نتيجةً لرغبتي المفاجئة في أن أترك الآخرين ينعمون بغبائهم. فقد قال لي مستر دولف ذاتَ يوم ناصحًا: «روبي. إني أعرف أنك قادر على أحسنَ من هذا بكثير. لقد أُطلِعت على درجاتك في امتحانات القبول، ووجدتك نابغة حقًّا. فلماذا لا تبدو هكذا في الفصل؟» قلت: «إنني أبذل ما في وسعي يا مستر دولف.» وهي الحقيقة. فحدَّق في النافذة، وقال في كآبة: «حسنًا، إنه لعالم غريب.»
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/3/
الفصل الثالث
في السنة النهائية صادفت فتاةً اسمها ماري بترسن، وهي شقراء نرويجية ذات ابتسامة دافئة وجسد ممشوق خفيف الحركة، وساقين جميلتين وقدمين رائعتين. ولا بد أنها قالت لي «هاي» عشر مرات قبل أن تلفت نظري، وفي أحد أيام الجُمع لحِقت بي وأنا أُغادر المدرسة وحدي كالعادة، وسألتني ما إذا كان بوسعها أن تسير معي. فقلت: «لماذا؟» ذلك لأني كنت أعلم أنها جميلة وبوسعها أن تسير مع مَن تشاء. فقالت: «لأني معجَبة بك يا روبي.» وابتسمت في طربٍ شديد أفقدني القدرة على الحركة. إنها تُعجَب بي؛ هكذا قلت لنفسي قبل أن أنسى، لكننا عندما سِرنا لم أستطِع أن أفكِّر في شيءٍ أقوله لها؛ فقد كانت مشاعري عنيفة ومفاجئة لدرجةٍ غصَّ بها حلقي. لم يكن هذا ليعنيها في شيء. فقد كانت تتوهَّج إلى جانبي مثل شجرة عيد الميلاد تستثير عقلي بثنائها الذي انهال عليَّ، ومسيرتنا، والعالم أجمع. كانت أول شيء حي أقابله ولا يسعني أن أسخر منه، لم يكن أمامي إلا أن أستسلم لذلك الفيض من الدهشة الذي أحدثته. ذكَّرتني بالجدول الذي يرغي ويزبد عندما ينحدر في شدة فوق الصخور أسفل جسر الخط الحديدي، وهكذا اكتفيت بأن أستمتع بتأمُّلها والإصغاء إليها. بل اشتريت لها ساندويتشًا حتى أتأملها وهي تأكل. قالت: «أعتقد أن كلَّ فتاة تحتاج إلى فتًى. أليس كذلك؟ حسنًا، لماذا تنتظر الفتيات حتى يتقدم الصبية إليهن وعندئذٍ يخترن أفضلهم؟ هذا سخف. فربما وقعت الفتاة في فتًى غير ناضج، وهناك فتيان كثيرون لا تعمل عقولهم إلا إذا أصابتهم طوبة في رءوسهم؛ لهذا قررت ألا أرتبط بأحد هؤلاء طالما كان الأمر في استطاعتي. أريد فتًى عنيفًا كالصاروخ ينسف كل الشبان بليدي الحس، الذين يقصون شعورهم كالبحَّارة، يكتسحهم بألعابهم المضحكة. فتًى مثيرًا بوسعه أن يقف على عقبيه ويقول الصدق دون أن يتلعثم، فما رأيك؟ ليس هناك فتيان هكذا يا روبي روي. على الفتاة أن تبحث وتوالي البحث حتى يسعدها الحظ حقًّا، وإلا انتهت بين أحضان واحد من الزواحف، وأصبح عليها أن تقول نعم يا سيدي، لا يا سيدي، لأبلهَ لا يستطيع حتى أن يتهجَّى كلمة قط، كيف يكون من أمرك لو كنت فتاة مثلي؟ ماذا تفعل؟ تقتل نفسك؟ صدِّقني إني فكرت في هذا، قلت إذا كان عليَّ أن أذهب إلى مباراةٍ أخرى في كرة السلة مع أحد ماضغي اللبان الذين يظنون أن الحياة تبدأ وتنتهي مع حركة الكرة، سوف أقطع عنقي ذات ليلة في الحمام وأنا أزيل شعر ساقي. لكني قرَّرت ألا أفعل. قلت لنفسي ابحثي حولك، أعني بحثًا حقيقيًّا، وربما أسعدكِ الحظ فوجدتِ شابًّا مختلفًا، عندئذٍ ألقي بنفسكِ عليه — إلا إذا كان قبيح الخِلقة، وأنت لست كذلك يا روبي — لكني لا أستطيع الانتظار طويلًا وإلا أُصبت بالجنون. فلا تظن إذن أني أُسدي إليك معروفًا بأن أتركك تبتاع لي هذا السندويتش؛ إذ الواقع أنك تنقذ حياتي.» كل ما استطعت أن أقوله وأنا جالس أمامها أرقُبها وهي تقضِم لقمة: «أتعرفين أنكِ رائعة.» فابتلعت لقمتها وابتسمت: «أعتقد أني جميلة للغاية. على الأقل هذا ما يقوله لي كل الفتيان.» «من الغريب أن يكون هذا هو شعورك بالنسبة للآخرين؛ فهو شعوري أنا أيضًا. لا أعرف، لكن لا يبدو أنهم يهتمون بالأشياء الصحيحة. كأنما اختلط الأمر عليهم جميعًا، وكأنما تعقَّدت أمورهم بصورةٍ ما ولم يَعُد بوسعهم إصلاحها.» نظرت إليها، الجميلة، إلى وجهها الرقيق، وشعرها الأصفر الناعم الجميل … وقد جمدت في مكانها تتطلع إليَّ، مصغية: «ولكنكِ تعرفين هذا أيضًا، أليس كذلك؟» وفجأة انطلقت أقول: «هل رأيتِ أبنية سوليفان أو رايت؟ سآخذك لتريها كلها، إني أعرف أماكنها، وأُراهن أنكِ ستُعجبين بها هي الأخرى.» قطَّبت حاجبيها: «أوه، بودي أن أفعل، من أجلك. لكن ماذا لو لم أفهم؟ هل تكون صبورًا عليَّ وتحافظ على مودَّتك لي؟» قلت: «لا تقلقي. سأروي لكِ كلَّ شيء عنها. وسوف تحبينها.» ابتسمت: «أعرف أني سأفعل، لو فقط تحدثت إليَّ. أحب أن أسمعك تتحدث؛ لأن الكلمات لا تضيع منك مثلما يحدث لي، ولأنك تتحدث دائمًا عن أشياء هامة ومثيرة.» قلت: «يا إلهي! لا تقولي هذا يا ماري. إنكِ رائعة.» قالت: «أوه يا روبي، أنت لا تعرف كم يجعلني هذا سعيدة. الآن لست أشعر بذرةٍ من الأسف على أني اخترتك.» وأخذتها إلى جسر الخط الحديدي، حيث بقعتي المفضَّلة التي أبقيتها سرًّا عن الجميع، وجلسنا، وبدأت أتكلم، وحكيت لها عن الأبنية والكتب والرجال المشهورين الذين قاموا بأشياءَ عظيمة وكيف أني أنا، روبي روي، سوف أبني أشياءَ عظيمة أيضًا، بل وأكتب عنها، حتى يأتي إليَّ الجميع طلبًا للأجوبة، وعندئذٍ سوف أساعدهم جميعًا بأن أذكر الحقيقة وأصنع أشياءَ جميلة للناس وأدفعهم إلى أن يكونوا عظماء مثلي. قالت: «آمُل أن يستمعوا إليك يا روبي.» وكانت جالسة هناك، رقيقة وجميلة، وكاملة … لا أكاد أصدِّق أني وجدتها. قلت: «سوف يفعلون وأنا واثق من هذا.» تأملت الجدول وهو يخر فوق الصخور على مقربة من أقدامنا، وشعرت ببهجة شديدة دفعتني إلى أن أروي لها شيئًا فكَّرت فيه ونحن في الطريق من المدرسة. «أتعرفين؟» واستطردتُ عندما هزَّت رأسها: «إنكِ سعيدة جدًّا، إنكِ تذكرينني بهذا الجدول، وهو الشيء الوحيد الذي أحببته عدا المباني، فلو أردت أن أُفاضل بينكما الآن ما أمكنني هذا.» لم أكن موفَّقًا فيما قلت، وصدمني وقع الإهانة. لكني فكَّرت أني أستطيع تلافي ما حدث بأن أريها الأشياء التي أحبها. لم تكن هناك من طريقة أخرى أمامي كي أصفَ لها شعوري نحوها ونحو الجدول، وأبنيتي، وكل شيء. أخذتها أول الأمر إلى مبنى شركة كامبانا الذي أقامه رايت، والذي كان يقوم وحيدًا فوق حقل شاسع في الريف بين أورورا وإلجين وإلينوا. كانت الشركة تصنع عطورًا للسيدات؛ ولهذا كانت مباني إدارتها تُعبِّر عن رقةِ إنتاجها المرطِّب المضاد للعفونة، وترفع في خرسانة أرجوانية مثل إصبعٍ يشير إلى السماء بظفرٍ متقَن الطلاء، بينما تحيط بهذا البرج أبنيةٌ مسطَّحة عديدة في الشكل الدائري لراحة اليد. لم تكن هناك أية أطراف خشنة للمنظر؛ فقد كانت جميعًا خطوطًا محدَّدة في نعومةٍ توحي بالرحيق الرقيق الذي يندفع يوميًّا من أواني المصنع الضخمة إلى الزجاجات الوردية. وكان اختياري قد وقع على كامبانا لتكون الرؤيا الأولى التي تراها حبيبتي لأنها كانت تُذكرني بها، في توردها ورقَّتها، كأنها خارجة لتوها من الحمَّام ببشرة ناعمة متوهجة. أحبَّت ماري المكان، وتآلفت على الفور مع ما ينطِق به من دقة الشكل الأنثوي وكماله. وقالت: «إنه يجعلني أشعر بأني نظيفة جدًّا. أوه يا روبي، كنت أظن أن المباني ليست إلا أكوامًا من الحجارة وُضعت بغير نظام، وكان هذا يقلقني، ولكني أجد الأمر الآن مختلفًا. إنها حلوة وجميلة وليست خشنة المنظر على الإطلاق. إني لسعيدة.» انتصبت واقفًا بجوارها، وأنا أتناول يدها. وقلت في أهمية: «إن الباني الماهر يستطيع أن يفعل كلَّ شيء على الوجه الصحيح. من القوي إلى الرقيق الحلو.» وفكَّرت لحظة: «لم أكن أفهم الجمال من قبل، لكني أعتقد أني أعرف الآن بعد أن قابلتك. فليس الجمال شيئًا يمكن أن يبتدعه الإنسان من تلقاء نفسه. إنما يجب أن يكون شيئًا يتذكَّره، شيئًا حلوًا ورقيقًا أعطته إياه امرأة. يسرني أنك أُعجبتِ به يا ماري، لكني سأبني لكِ يومًا ما، ما هو أجمل من هذا بكثير.» عجبتُ لِما استولى عليَّ من شعورٍ بأني أستطيع الحديث مع ماري. ربما لِما بدا من استمتاعي بكلِّ ما أقول، أيًّا كان. كنت أذكر لها ما أفكِّر فيه، كما خطر لي دون أن أضطر إلى حمايتها أو تضليلها أو تجاهلها، كما كنت أفعل مع الأخريات. وربما كان السبب أيضًا، أنني خلالها كنت أستطيع أن أصغي لنفسي لأول مرة وأنا أتكلم وأعرف وقْع ما أقوله على مَن لم يفكر فيه مطلقًا من قبل، ويتلقاه كشيء جديد، ويتعيَّن عليه أن يتفهم مضمونه. وكلما أصغت ماري لي، شجَّعني هذا على أن أُحدِّثها بالمزيد. فأقول: «خذي مثلًا حانوت هركي، هاكِ مثالًا كاملًا على القُبح المتعمَّد. بل إنه يعوق البيع، وأنتِ تعلمين كيف يثور العجوز، المتمسك بالقديم، ضد متجره لو تبيَّن هذا. فرغم أن المتجر يقع في ركنٍ بزاويةٍ قائمة، نراه قد شُيِّد على صورةِ مربع، وأُقحم عليه مدخل يمتد قرابة عشرين قدمًا، وشُيدت الجدران كلُّها من الزجاج بسقفٍ منخفض، وفي الداخل ليست هناك سوى مساحة فارغة حُشدت فيها الحاملات حيثما اتفق، ووُضع جهاز الصودا بعرض الحائط الخلفي، وخلْفه يقف هركي يحاول أن يبيع ما يكفي للإبقاء على عظمة العجوز. كل هذا يغطِّيه سقف واطئ تتدلى منه الأنوار. أما لو كان الأمر بيدي لأعددت كلَّ شيء بصورةٍ مخالفة؛ كنت أجعل المدخل في طرَف المثلث بلا باب أو زجاج — ما رأيكِ في هذا؟ — إنما أغلقه بحاجزٍ رفيع من هواء يهبُّ عبره بسرعةٍ لا تسمح للبرودة بالتسلل إلى الداخل. أما الناس فيدخلون بسهولة؛ إذ يسيرون ببساطة إلى الداخل دون أن يفتحوا بابًا أو أيَّ شيء. ثم أضع حامل الصودا على طول محيط المتجر، وبهذا يجلس الناس مستندين بظهورهم إلى الحائط، مواجهين بذلك كافة أنحاء المتجر. وأمامهم حاملٌ مُضاء تطفو فوقه كل بضاعة هركي، معروضة أمام الزبائن، الذين يديرون مؤشرًا على مقياسٍ أمامهم ويضغطون زرًّا، فتُوضع هذه الأشياء في لفافةٍ عند المدخل يحملها الزبائن عندما ينصرفون. ويكون بوسع هركي أن يدير العملية كلها دون معونةٍ من أحد وهو جالس أمام لوحة تحكُّم في وسط المتجر.» وأرسم لها فكرةً كلُّها في كراستي، بالمواسير، والكهرباء، والتدفئة، مصممًا المكان من الداخل في مسقط رأسي، بحيث تراه ماري كلَّه أمامها على الورق. عندئذٍ تقول ماري بعد أن تعطيني انتباهها الشديد بعض الوقت: «تذكَّرت الآن. يجب أن أشتري أحمرَ شفاه. دعنا نذهب إلى متجر هركي.» ونسير متشابكي الأيدي، وقد اكتملت صورة متجر هركي الجديد في رأسي حتى لا أنساها أبدًا. بينما ماري تفكِّر في اللون الذي ستختاره لأحمر شفاهها. كنت أشعر في بعض الأحيان أن ماري لا تعبأ بأبنيتي وأحلامي، وأنها تتظاهر فقط بالإصغاء إليَّ. لكني عندما أتَّهمها بذلك، تواجهني على الفور بحبها، وتبتسم في وجهي، وهي تميل برأسها وتقول في خشونة: «إنني أحب فقط أن أُصغي إليك يا روبي؛ لأني أعتقد أنك رائع، وليس بوسعي أن أتخيَّل ما ستقوله في اللحظة التالية. إني لأعتقد أنك أذكى مَن عرفت من الشُّبان في حياتي، لكني لا يجب أن أكون في مستوى ذكائك، فكلُّ ما أستطيعه هو أن أُصغي دون تعليق؛ لأني لو تكلمت سأبدو غبية وستعتقد على الفور أني لا أفهم، بينما أنا أفهم حقيقة؛ على الأقل هذا ما أظنه. إنني أفهم أنك على حق، وهذا هو كلُّ ما يتعين عليَّ أن أفكِّر فيه حقيقة، وهذا ما يجعل وجودي معك رائعًا للغاية. فليس عليَّ أن أفكِّر في أي شيء هام، واقعي، كلُّ ما عليَّ هو أن أستمع. وهذا هو ما جذبني إليك في المقام الأول يا روبي، وهو ما يجعلني سعيدة جدًّا الآن. كنت دائمًا أجد نفسي مضطرة للتفكير فيما يقوله الفتيان لأني لم أكن أصدِّقهم، ولا أثق بهم … هل تفهم ما أعني؟ لكني أثق بك يا روبي، وليس من باعثٍ على القلق بعد الآن. عندما نتحدث عن مبانيك، تتملكني القشعريرة، أوه، لا لأني أحبها كثيرًا، ولكن لأنك تفعل وتبدو شديد الثقة بحيث لا أضطر حتى للتفكير في شأنها … فقط أفكِّر فيك، وفي قوَّتك وثقتك ومهارتك ومعرفتك وجرأتك، وكل شيء. لماذا يا روبي روي، كيف تشكُّ في فتاةٍ يهزها، كما هو واضح، كلُّ صوت يصدر من فمك حتى عندما تُصفر؟ يجب أن تتعلم كيف تؤمن بي أيضًا، يا روبي، نصف إيماني بك فقط. يومًا ما سوف نتزوج وسيكون لدينا ثلاثة أولاد وأربع بنات، ومنزل كبير تبنيه لنا، وستسافر في كل مكان تبني أروع الأشياء لجميع الناس، ويجب أن يستقر رأيك بشأني، يا روبي، قبل أن يحدث كل هذا، وإلا وقعنا في ورطةٍ شنعاء؛ لأن الأطفال يعرفون على الفور عندما يحدث خلاف بين الأبوين ويؤذيهم هذا، وأنت لا تريد هذا، أنا أعرف، والله يعلم أني لا أريده أيضًا، ولهذا يجب أن نسوي كل شيء قبل أن يحدث هذا بوقت طويل.» وعندما تنتهي ماري من إحدى الأبنية العالية المهتزة التي تشيِّدها للمستقبل، يتقلَّص وجهي كلُّه من عذاب محاولتي متابعة تخيلاتها الضالة، ثم أتخلص فجأةً من كل شكوكي ضاحكًا، وتضحك هي أيضًا معي، وتأخذ يدي وتأرجحها، ثم تضع ذراعي حول خَصرها وتُشبك أصابعها بأصابعي، وتهِرُّ في وجهي، وتقول شيئًا من هذا القبيل: «إني لجد سعيدة يا روبي. وأتمنى أن يكون هذا شعورك أيضًا.» فتتدافع كلماتي لتؤكد لها بهجتي، وسرعان ما أصدِّق الأمر أنا نفسي. كانت تبدو لي دائمًا جِد غريبة. فعندما كنا نتبادل الحب مستمتعين بقبلاتنا والتصاق جسدينا تحت الجسر أو فوق شاطئ معشوشب، أو في سيارة أبويَّ في أمسيات الجُمَع بعد أن نعود من السينما، لم يكن هناك خجل أو خوف من جانبها، وحين فكَّرت في ذلك، ونادرًا ما كان هذا يحدث، وجدت نفسي مرغمًا على أن أعترف بأني أنا الذي كنت عادةً أتوقَّف في منتصف الطريق، فعندما كنت أُقبِّلها كانت تُقبِّلني بدورها، وإذا ما داعبتها قوَّست ظهرها وضغطت بصدرها في يدي وأغرقتني بقبلاتها. وأدركت أنني يجب أن أسيطر على نفسي، وعندما كنت أتوقَّف لم تكن تفعل شيئًا سوى أن تقبلني من جديد وتقول: «أوه يا روبي، كم أحبك!» ثم تضيف: «وإني لأثق بك من كل قلبي.» كيف إذن لا أكون عاقلًا عندما تثق فيَّ بهذه الصورة؟ كان لا بد وأن أكون جديرًا بثقتها؛ لهذا كنت أتوقَّف، وعندئذٍ نتحدث، ورأسها معتمد على كتفي، عن كل الأشياء الجميلة التي سأحققها في المستقبل. كنت أقول: «إن المدن شديدة القبح، ولسوف أحوِّلها إلى أشياءَ جميلة، حتى تكون جديرة بأن تسيري في أنحائها، سوف تكون هناك منتزهات، وبحيرات، وممرات عريضة مثل الشوارع، وشوارع لا تُرى ولا تؤذي أحدًا ولا يُسمع لها صوت، وسوف تكون هناك أضواء في كل مكان حتى يستمتع الناس بالأشجار والأسيجة والزهور في الليل بعدما ينتهون من أعمالهم. ولن تكون المباني قبيحة مضحكة بل جميلة، تتحد جميعًا بالعراء في أشكال دائرية عظيمة تسمح بدخول الشمس والهواء والروائح، وصوت المياه المندفعة. سوف ترين. سوف يبدو كل شيء بهيجًا يجعلك تضحكين وتستمعين به أينما ذهبتِ، وسوف تتحدث جميعًا إليكِ، تستحثك … سوف تكون كلُّها، بل وكلُّ شيء آخر، من أجلك أنتِ.» عندئذٍ تضحك وتمسح على ساعدي برأسها وتجيب: «وسأحمل الأطفال إلى النافذة وأقول لهم: انظروا انظروا لكل هذا، لقد صنعه أبوكم دون أخطاء، وإنكم لأسعد الصبية حظًّا في هذا العالم؛ لأن لكم مثلَ هذا الأب. ورغم أنهم لم يكفُّوا عن البكاء لأن الشمس شديدة السطوح، أو لأنهم جوعى، فسوف أعرف أنهم يدركون قدْر سعادتنا وفخرنا بأن نعيش في مبانيك وننظر إليها وكل شيء. إنها السعادة الحقة.» عندما تقول كهذا، أود، من أجلها، لو أندفع إلى منزلي وأعكف على الدراسة، أُضيء مصباحي وأرسم، وأبذل جهدي لتحقق كل شيء بسرعة، أود لو أبدأ في نفس الليلة، وأعمل حتى يتم كل شيء … وعندئذٍ أركن إلى الصمت وقد امتلأ رأسي بصورِ ما سيكون، حتى تنبِّهني قائلة إنها يجب أن تعود إلى منزلها. وأعود إلى منزلي بعد ذلك، فأصعد الدَّرج إلى حجرتي حيث أجلس بالساعات أفكِّر في صمت، وأحيانًا أعمل طول الليل، أرسم أشكالًا خيالية، وأضع تفاصيل مدينتي، حتى يبزغ الضوء فأخلع ملابسي بسرعة وأرتمي على فراشي لأحصل على ساعات قليلة من النوم قبل موعد المدرسة. لم أحدِّثها عن هذا؛ لأني لم أكن أدرك ما به من غرابة. فلم يكن بوسعي أن أنام بعد أن أبوح لها بعهدي؛ إذ أشعر بأنني يجب أن أعمل على تحقيقه بأسرعِ ما يمكن، كأنما كان هذا الشعور الطاغي يزيل كلَّ تعب أو تفكير في النوم. وفي بعض الأحيان، كنت أقضي السبت التالي لأمسيتي معها دون طعام. فقد أذهب إلى المكتبة بحثًا عن شيء، وإذا بي قد انصرفت إلى القراءة، ثم أعود إلى الرسم في حجرتي المغلقة، وهكذا يمر اليوم دون أن أشعر. ضحِكت مني ماري مرة قائلة: «روبي روي، لماذا تفعل كل شيء بهذا الاندفاع. يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنك تعتقد أنك ستموت غدًا.» أجبتها في جدية: «هذا ما أخشاه. تصوري مثلًا أن سيارة يمكن أن تفاجئني غدًا عند ناصية شارع وتقضي عليَّ، ولا تعود لدي فرصة لأبني شيئًا. لست أعرف كم لديَّ من الوقت، لكنه لن يكفيني مهما كان … عشر سنوات أو عشرون أو ثلاثون أو حتى خمسون. لست أملك ما يكفي من وقتٍ الآن لأقوم بما أريده، فما بالك عندما أبدأ العمل.» فتساءلت: «أي عمل؟» «العمارة بالطبع … فماذا غيرها؟» «أوه، أجل. هذا حق أظن أنك ذكرت مرةً أنك مهتم ببناء الأشياء.» وقبل أن أثور، ضحِكت وطمأنتني قائلة: «أوه يا روبي، لا تغضب. لقد كنت أمزح. ولا تقلق؛ لأني سأعمل على أن يتوفر لك قدْر كبير من الوقت. سوف أحشوك بالطعام الطيب، وأحبك، وأُدبِّر أمور الأسرة كلها بيدٍ حديدية وبكفاءة بحيث لا يعكِّر عليك شيء صفوَ عملك، وسأعطيك عددًا كبيرًا من الأبناء السِّمان الضاحكين الذين سيصبحون عونًا كبيرًا لك عندما يكبَرون، فيحملون قِطَع الطوب، ويقلِّمون الأقلام، ويقومون لك بكل شيء.» ضحِكت أنا الآخر، وهدأت ثائرتي كما أرادتني. كانت دائمًا تقضي على مخاوفي ومتاعبي عندما تؤكد أنها سرعان ما ستتبدَّد، وأنها ستكون عونًا كبيرًا في القضاء عليها، وشد ما كانت جميلة في عيني، تخلُب لبي بحيويتها، وإيماءاتها، والتغيُّر السريع فيها يُعبِّر عنه وجهُها من معانٍ، وتسكن من روعي بكل ما يجري على لسانها. الشيء الوحيد الذي كنت أفضِّله على العمل، هو أن أكون مع ماري، فقط لأرقبها، وأصغي إليها، وأستمتع بكل سحرها الطبيعي. كانت تُذهلني وتثير كل انتباهي، كأنما كنت أتطلع إلى أجمل الأشكال والألوان مكبرة، وكانت تحبني، وهي فكرة لم أعتدْ عليها مطلقًا؛ فقد كان يخطر لي أحيانًا أنها قد تحب شخصًا آخر، شخصًا أعظم مني. ومن ماري استوحيت الفكرةَ الأساسية التي شكَّلت أفكاري وعملي؛ فقد طالما تساءلت: لماذا لم يكن هناك مبنًى واحد في جمالها؟ وذات ليلة وأنا وحيد في حجرتي، اكتشفت السبب. كانت ماري دائمًا تتحدَّث وهي تفعل شيئًا، كانت تتحرَّك من وضعٍ لآخر، وكان وجهُها رغم جماله الذي يجعلني أحبس أنفاسي يتغير دائمًا بسرعة من عاطفة إلى أخرى. كانت ماري تتحرك، تتغير، تنتقل، وكانت المباني ساكنة بأحجارها. فكَّرت في الأشجار والحيوانات وفي الطيور والأسماك، بل والأنهار. كل شيء يتحرك ويتغير، فيما عدا الحجر … لماذا إذن لا ننبذ الصخر والخشب الميت وغيره من المواد، ونصنع بناء يتحرك ويتغير؟ لكن كيف؟ ماذا نملك من المواد المرنة الطيعة؟ المطاط والبلاستيك والورق … بل إن الحجر نفسه يمكن أن يتحرك إذا دفعته قوةٌ ما قليلة التكاليف. وخلصت من ذلك بأن كل المباني يجب أن تكون ذات حركة كافية، نظام للتغيُّر مُشيَّد داخلها، ومبدأ جديد للتحول يضاف إليها. وبعبارة أخرى، إن البناء يجب أن يكون أكثر من مجرد شكلٍ نراه، وإنما يكون نظامًا من الأشكال المتغيرة تتيح له أن يتحوَّل إلى شيء آخر، ثم شيء ثالث من جديد، وهكذا، وهذا التحوُّل الدائري سيجعل المباني أكثر قُربًا من الحياة، حقيقية، أكثر إثارة، وأكثر فائدة، من أي شيء آخر بناه الإنسان في الماضي. كدت أنفجر بما أثاره فيَّ هذا الحلم من انفعال. وكان من العسير أن أصبر حتى أروي الأمر كله لماري. سألتني: «لكن ماذا ستفعل كل هذه المباني؟ هل ستجري فوق عجلات أو على أقدام، أم أن الجدران ستمر كالفيلم أمام الكاميرا السينمائية، أما ماذا؟ هل سيرتفع السقف ثم ينخفض أم يدور؟» وضحكت وأضافت: «لا أستطيع أن أتخيل الفكرة …» أجبتها: «لست أعلم بعدُ يا ماري. لكن فكِّري في الأمر. تدبري الفكرة. أليست مذهلة؟ لماذا لم يفكر فيها أحد من قبل؟ لماذا تكون كل منازلنا ومبانينا ساكنة؟ لماذا لا تشرف على عدة مناظر بدلًا من منظر واحد؟ لماذا تكون واحدة بدلًا من أن تتعدد وتتضاعف؟ فكري في معنى هذا. لسوف يتغير كل شيء … مُدن بكاملها تتحرك. لماذا لم يتم هذا من قبل؟ إن الأمر في منتهى البساطة.» قالت: «لم يكن روبي روي أوريللي ليفكر فيه. كل شيء يصبح بسيطًا متى فكر فيه المرء. أهناك ما هو أبسط من العجلة أو الدبوس؟» قلت: «هذا حقٌّ، خذي بساطة القوس والكابولي. ماري، ألا ترين، لقد وجدتها.» ابتسمت: «حسنًا، يسرُّني أنك فعلت، لكن ألست تنسى أنك وعدتني بكوب من السَّحلب؟» أردت أن أحتفظ بماري معي بقيةَ حياتي، فتكون بجواري دائمًا وأنا أتعلم وأعمل، لكني أدركت بصورةٍ ما أنه يتعين عليَّ أن أنتهي من الكلية أولًا. كنت أحتاج إلى التدريب التكتيكي، وما كان باستطاعتي أن أُدبِّر أموري بنفسي ولو حصلت على منحة دراسية، فضلًا عن إعالة أسرة أيضًا. لكني عندما قلت لماري إن زواجنا قد يتأجل أربع سنوات هزَّت رأسها في حزم. قالت: «أوه كلَّا، لن أنتظر. مَن غيري سيعمل ويعود للمنزل بأجره؟ أنت بالتأكيد لا يمكنك أن تعمل كثيرًا. إلى جانب عبء المحاضرات في الكلية؛ ولهذا وضعت خطةً كاملة لكل شيء. لن يتأجل زواجنا، لكنَّ أسرتنا هي التي ستؤجل. بوسعنا أن نحصل على أحد البيوت الصغيرة شبه الجاهزة التي تُقام على أراضي الجامعات للجنود القدامى، وسوف أجد عملًا، وبهذا يصبح لدينا قليل من المال، وسنتزوج، وسيكون بوسعك أن تواصل الدراسة. لست أرى من سبيل آخر.» قلت: «لكن ماذا بشأنك أنتِ يا ماري، ألا تريدين الذَّهاب إلى المدرسة؟ ليس بوسعي أن أطلب منكِ التخلي عن دراستك والعمل في مكان حقير أو شيء من هذا القبيل، لكي أتمكَّن من شقِّ طريقي.» أجابت: «أنت المدرسة الوحيدة التي أحتاجها. فلست أفهم شيئًا من كل تلك الكتب وهؤلاء الشيوخ المبتذلين الذين يتجشئون وهم يتحدثون عن العقائد، لقد تعبتُ من الكلام، كلام، كلام، وأريد أن أساعدك لتفعل شيئًا. هذا هو ما نحتاج إليه، رجال يفعلون شيئًا بدلًا من الاكتفاء بالحديث. لقد جُن جنون العالم، وليست هناك فائدة من الحديث.» ابتسمت، وذكرتني ببطء: «ليس بوسعي أنا أن أفعل شيئًا، وأنا أعلم هذا، لكن بوسعي أن أفعل الكثير من خلالك، إذا ما أتحت لي الفرصة. إني لأفضل العمل في حانوت صغير لو عرفت أن هذا يساعدك ويساعدنا على أن نُحقق ما نريد، أُفضل هذا على أن أجلس في فصلٍ قديم متعفن لأتحمل أبلهَ أبيضَ الشعر لا يعرف عما يتحدث. على أية حال، يجب ألا تُشغل بالك دائمًا بما يقدمه لك الآخرون من عون واجب حتى تبلغ أهدافك، فلا بد أن تتعلم كيف تقبل المساعدة إن كنت حقًّا تنوي أن تصنع شيئًا. لن يكون بإمكانك أن تنطلق هكذا وتُشيِّد هذه المباني الكبيرة بمفردك، أتستطيع؟ أظنك ستتفرج على عامل بناء وتسأله لماذا يضع الطوب، بدلًا من الذهاب إلى الكلية؟ بالطبع لن تفعل، ويجب أن تشعر بالسعادة؛ لأن آخرين يريدون مساعدتك يا روبي، وإني لأكثرهم رغبةً في ذلك. والحقيقة أني بذلك أساعد نفسي أيضًا. لأني أريد أن أقتنصك الآن، بينما أعرف أنك تحبني، وبوسعي أن أنجب أطفالًا بعد أن أعمل بضع سنوات، وبعد سنوات قليلة أخرى سيكبَر الأطفال وأدور في أنحاء البيت الكبير الذي ستشيده لنا مُحدثةً جلبة وضوضاء، ولن يكون لديَّ ما أفعله سوى لعب البريدج والثرثرة مع الدجاجات المتوسطة العمر … لن تعرف ماذا يعني وقت الفراغ حقيقة حتى تشاهد سيدة متوسطة العمر تنظِّف منزلها ثلاث مرات في اليوم لا لشيء إلا لتجد ما يشغلها. على أية حال، أنا أريد أن أتزوج فورًا؛ لأني أخاف أن تُغيِّر رأيك. قُل لي أنك لن تتغير يا روبي وأنك ما زلت تحبني.» «بالطبع أحبك يا ماري، وأنتِ تعرفين هذا.» فقالت: «حسنًا، يسرني أن الأمر قد حُسم.» «ما الذي حُسم؟» قالت: «روبي … لا أريد أن نقضي الليلةَ كلها في هذا الحديث. إنني أعرف طباعك، فلا بد لك من وقتٍ تفكِّر فيه في الأمور وفي النهاية دائمًا تفعل ما هو صواب؛ ولهذا فأنا أريدك فقط أن تفكِّر في الأمر وتخبرني عندما تنتهي إلى قرار؛ لأن أمامي مهامَّ كثيرة؛ فعليَّ أن أُحدد اليوم، وأن أُخبر أهلي، وأبتاع ثوبًا، وأُرتِّب ما يتعلق بالكنيسة، وإعلان النبأ، وقائمة المدعوين. ربما تظن أن الزواج ليس سوى حركة من المعصم. حسنًا، دعني أقول لك إنه يتطلب عملًا كثيرًا، لكن لا تُزعَج؛ فسوف أتولى أمرَ كل شيء، وكلُّ ما عليك هو أن تكون موجودًا.» قررت أن أستجيب لما طلبته مني وهو أن أفكِّر في الأمر. فهذا على الأقل هو واجبي نحوها. لكن الفكرة كما صورتها لي، بدت جيدة، وكنت أريد أن أتزوجها على أية حال. وسرعان ما وجدتني قد انتهيت من المدرسة الثانوية، وتخرَّجت بترتيب مائة وثمانية وتسعين في فصلٍ تعداده أربعمائة، وهو ما كان من حُسن الحظ. إذ لو كان ترتيبي أقل من ذلك بثلاث درجات لفقدت حق الالتحاق بالكلية. وكان عليَّ أن أؤدي اختباراتٍ للقبول لأثبت صلاحيتي لاستيعاب التعليم المتقدم. وأرسلت نتائج هذه الاختبارات إلى مستر دولف، وهو المدرس الذي كان يمدني دائمًا بالنُّصح، وقد أرفقت بها مذكرة تقول إنها أعلى نتائج حصل عليها أحد في إقليمنا، لكنها لا تتفق ودرجاتي المدرسية أو التقرير الذي بعث به المدرسون المختلفون عن شخصيتي. ورد مستر دولف عليهم مؤكدًا للكلية أنه لم يحدث خداعٌ ما، وأنني في الواقع قد أنجزت كل الاختبارات في نصف المدة المحدَّدة، وأنني طالب نابغ، وأنبغ مَن عرف مستر دولف من الطلبة في ميدان الرياضيات. وردت الكلية بخطابٍ موجز ذكرت فيه أنها قرَّرت صلاحيتي للدراسة بها، لكني سأوضع تحت الاختبار بسبب درجاتي. أما الطلب الذي تقدَّمت به للحصول على منحة دراسية فقد رُفض. سألت مستر دولف: «لكن كيف سأذهب دون منحة دراسية؟» وتنهَّد ناصحي في عدم ارتياح: «حسنًا، بوسع أهلك أن يساعدوك قليلًا، ويمكنك أن تعمل … لكني أظن أن هذا لن يكفي.» فكَّرت لحظة … ثم قلت: «ماري وأنا سنتزوج، وسوف تعمل هي الأخرى.» ارتجف مستر دولف: «ألا تدرك يا روبي أنك لو تزوجت في هذه السن فلن تكمل دراستك الجامعية أبدًا؟» قلت: «كلَّا. لا أدرك ذلك؛ فالأمر يبدو لي على العكس.» طوَّح مستر دولف بذراعيه في الهواء: «حسنًا، مؤكَّد أني لا أستطيع منْعك، لكني سأذكر لوالديك أنني ضد زواجك.» وعندما علم أبواي أن ماري وأنا نريد الزواج، وأن مستر دولف يعتقد أن في هذا نهاية لمستقبلي، منعاني من رؤية ماري. واتصلا بوالديها اللذين فزعا بدورهما، خاصةً عندما سمعا أن ماري تنوي العمل بدلًا من الالتحاق بالجامعة، وقرَّرا ترحيلها إلى عمةٍ لها في ميلواكي حتى تكون في مأمن ذلك الصيف قبل أن تُرسل بعد ذلك بعيدًا إلى مدرسة في كاليفورنيا. سمعت بهذه الأنباء لأول مرة من خطابٍ أرسلته ماري إليَّ عن طريق أحد الأصدقاء، وأعطتني فيه العنوان الذي تقيم فيه، واستحثتني أن أزورها بأسرعِ ما أستطيع على أن أقدِّم نفسي لعمتِها باسم «خرانكي بومجارتنر»؛ ذلك أن العمة لا يعنيها شيء قدْر أن تبدو متسامحة، وماري تعتقد أن الاسم اليهودي الذي اختارته لي سيوجِّه اهتمام العمة ولا شك إلى إبراز تسامحها وبُعدها عن التعصُّب، فلا تشكُّ في أني قد أكون الصبي الذي حذَّرها منه أبوا ماري. ونصحتني ماري: «حاول أن تبدو مُغبَّرًا»، ثم وقَّعت الورقة في حزم: «مع حبي كلِّه إلى الأبد.» وفي صباح السبت التالي، كنت أقف بشعري الأحمر، ووجهي الذي يغطيه النمش، وسيارتي الفورد العتيقة، من طراز ١٩٣٨، التي ابتعتها بخمسين دولارًا، أمام منزل عمة ماري، أشكو للعجوز من أن السيارة التي لم أدفع فيها سوى خمسين دولارًا «… تُكلفني مائة وخمسين كلَّ سنة، قيمة التأمين». وما كان بوسعي أن أعرف إن كنت أقنعتها بذلك بيهوديتي، لكنها تركت ماري تخرج معي للسباحة بعد ظهر ذلك اليوم، ولم توجِّه إليَّ سؤالًا واحدًا؛ فأدركت أنها وثقت بي، وهذا ما كنا نبغيه أنا وماري. هتفت بي ماري وهي تُلوِّح بمنشفتها: «فرانكي … دعنا نذهب. هناك ما أريد أن أتناساه وأود أن ألهو قليلًا.» وبينما كنا نغادر المنزل نحن الاثنين، وقفت العمة في مدخله وعلى فمها ابتسامة خفيفة ذات مغزًى، وقالت: «لا تعبثي بالوقت يا ماري، لكن احذري المياه.» لكننا لم نذهب للسباحة. فقد وضعنا أردية الاستحمام في مقعد السيارة الخلفي، كما دبَّرت ماري، وانطلقنا على طول شاطئ بحيرة ميتشيجان إلى كراون بوينت إنديانا، حيث يستطيع مَن لم يتجاوزوا الثمانية عشر أن يتزوجوا دون موافقة آبائهم. قالت ماري وهي تنكمش ملتصقة بي ونحن نمر بشيكاغو: «هل أنت خائف يا روبي؟» كذبت: «كلَّا، لست خائفًا؛ فأنا أعرف أن ما نفعله هو الصواب.» قالت: «لسوف أحبك دائمًا يا روبي.»
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/4/
الفصل الرابع
خلال العامين اللذين عشنا فيهما، ماري وأنا، في أوربانا بولاية إيلينوي، التحقتُ بجامعة الولاية، بينما اشتغلت ماري في أحد المصانع المحلية، حيث كانت تقوم بتعبئة الموتورات الصغيرة في صناديق. كنت أُساهم بدوري في دخلنا، ببعض المال الإضافي الذي أربحه في تفريغ السيارات المحملة بالورق المقوَّى لمصنع كرتون، وأحيانًا من بعض أعمال الرسم والتصميم. لكني كنت أقضي أغلب الوقت في الدراسة، أعمل في مبانٍ لا توجد إلا في رأسي فقط، أستخلص من مبادئ الهندسة أفكارًا إنشائية مُرعبة لا أرى وجهًا لتطبيقها، وأخلق أشياء جميلة لا يمكن أن ترى النور، وأحب ماري بكل قلبي. لم يكن لنا أصدقاء في ذلك الحين، رغم أننا كثيرًا ما كنا نخدع أنفسنا، فنظن أننا وجدنا زوجين يدركان ما يحيط بهما من قُبح، أو نشعر، لبعض الوقت، بروحٍ قرينة لروحينا في أحد الأشخاص، لكننا كنا نضطر دائمًا لأن ننحِّي خيالاتنا جانبًا، ونواجه تفكير «أصدقائنا» على حقيقته. كان رضاهم عن المناظر التي لا تُحتمل يُصيبنا، ماري وأنا، بصدمة، فننهي علاقتنا بهم، ولما كنا لا نحتمل علاقات الصداقة السطحية، فقد انكمشنا مرة بعد مرة، في عُزلة صارمة، لا نرى أحدًا، ولا نتحدث إلى أحد، ولا يفهمنا أحد، نرفض الجميع، ويرفضوننا، حتى تعلمنا سريعًا كيف نستمتع بحرية الحياة والضحك والحب وحدنا في عالم غير صديق. وفي العطلات الأسبوعية، كنا نحمل طعامًا خفيفًا وننطلق إلى الريف، أو الغابة، أو نقتفي أثر نهر، ثم نجلس في الشمس، نستمتع بالأشجار والعُشب والسماء الزرقاء المتوهِّجة، وكانت تلك هي متعتنا الوحيدة فضلًا عن أنفسنا وعن عملي. وقالت ماري مرة ضاحكة مني: «إن السُّحب تتحرك، فلِمَ لا تصنع بناء من السحاب، وتطلقه مثل سفن الفضاء فيرتفع عاليًا وسط الدخان؟ إن الجميع على ما أعتقد، يودون لو يخطُون بصورةٍ ما تلك الخطوات الذهبية التي تُحلِّق بهم عاليًا ولا يشم أحدهم بعد ذلك أبدًا رائحة إبط الآخر.» قلت: «ربما أمكن ذلك … شيءٌ ما مثل مروحة طاحونة الهواء تجلب رياحًا كفيلة بأن ترفع منزلًا مستديرَ القاعدة، يدور في بُطء مثل الطبيعة، وفي الداخل أُسرة تجد نفسها أمام مناظرَ متغيرة من قمم الأشجار والأنهار التي تتلألأ تحتها. وفي الليل نهبط لنبتاع مؤنتنا ونتسلل عائدين بها قبل أن تشعر بنا الحكومة، أو قبل أن يتمكن الغوغاء من مهاجمتنا.» «لكننا سنكون ذوي رحمة وشفقة، ونرأف بالحلاليف التي تحتنا، ونُعنى بأمرهم كما كانت تأمر الوصايا العشر، وكما كان يفعل المسيح، وربما قمنا ببضع معجزات أخرى، وبالطبع سنكون على حذر حتى لا يكون مصيرنا الصَّلب.» ضحكت وأنا أعض قطعة من جذع شجرة أخضر: «أخشى ألا يكون هذا ممكنًا؛ فسرعان ما سيضعنا الناس في مصافِّ الآلهة ثم ينادون بأننا مذنبون لأننا أفضل منهم. وسيُضطرون لإسقاطنا، ويتهموننا بالتفوق، ثم يُوبخوننا بشدة؛ لأننا لم نتمكن من الفِرار بوسيلة سحرية. وفي النهاية يخيب أملهم فينا عندما يتبينون أننا بشَر مثلهم، ويضطرون إلى إخفاء الحقيقة، بقتلنا، ثم ينشرون الأساطير عن جُرأتنا وبسالتنا ويقولون إنه لا أملَ لأي كائن بشري آخر في أن يحذو حذونا.» قبَّلتني، وأوعزت إليَّ أن أحتضنها فوق العشب، وهكذا تبادلنا الحب بسعادة في العراء، وقد أشعرتنا الشمس بضآلة حجمينا كما أشعرتنا بكمالنا، وذكَّرتنا الروائح وزقزقة الطيور بأننا جزء من شيء بالغ القِدم، أكثر جبروتًا وروعة من الجنس البشري. قالت: «لشد ما أحبك يا روبي.» واحتضنت يدي بين يديها اللتين أصابتهما المحركات بالرضوض في مفاصل الأصابع. قلت: «أعبدك.» وأحطت ردفيها بيدي اللتين أصبحتا على قدرٍ كبير من المهارة لم يُتح لهما أن تصنعا الكثير: «أنت أول شيء جميل لم يُرسم قبل خلقه، أراه في حياتي … لا بد أنك حُلم مهندس إلهي.» «وما هي يا روبي العزيز الوظيفة التي يخدمها شكلي؟» «الحب؟» قالت: «كلَّا.» «الجمال؟» «كلَّا، كلَّا.» «ماذا؟» «أنا لك يا روبي.» عندئذٍ ساد صمت الشاطئ المعشوشب، إلا من تنهداتنا وحركاتنا، حتى هدأنا تمامًا، وتحولنا إلى رقتنا الأولى، نتبادل القليل من الكلمات، يحكي كلٌّ منا عن الأشياء الرائعة التي سنحققها؛ منزل وأسرة كبيرة سعيدة، وأكوام عالية من الأحجار أشكِّلها في مدن كاملة رائعة ونافعة. قالت: «هناك شيء واحد أبغيه.» وعندما سألتها أضافت: «أريدك أن تكون سعيدًا.» استدرتُ بعيدًا قبل أن ترى حزني. فكَّرت أن أملها سيخيب بالتأكيد؛ لأنني أعرف أنني لن أكون سعيدًا أبدًا إلا إذا أعدت بناء كل شيء، وهو أمرٌ مستحيل. وحتى لو سُمح لي بأن أحقق كلَّ ما أستطيع في حدود طاقتي البشرية، سيتبقى الكثير دون أن يتحقق، ولقد رأيت من المجتمع وأنا صبي، ثم شاب في المدرسة، ما يكفي لأعرف أنه يواجه بالشر كلَّ تغيير، وكلَّ مَن يقترح أفكارًا جديدة. فمنذ كنت في المدرسة بدأت أشعر بالمعارضة التي تواجه معتقداتي. كنت أنتظر من المدرسة أن تعلمني كيف أفعل ما أريد، وبدلًا من ذلك كان المدرسون جميعًا يصرون على أن يعلموني كيف أفعل ما يريدونه هم، ولا شيء عداه، ما تم تحقيقه من قبل لا ما كنت أحلم به. كم من ليالٍ قضيتها ساهرًا أبحث في أنحاء نفسي عن إجابات لمشاكلي، بينما كنت أثناء النهار كالببغاء، أعطي أجوبة لمشاكلَ فكَّر فيها شخص غيري ولا علاقة بينها وبيني أو بين عملي. حتى في الحساب والهندسة أو الطبيعة، كنت أشعر أن اهتماماتي تتجاوز المنهاج، وفي الرسوم كان هذا الشعور بالطبع طاغيًا. كان مدرس الرسم يقول لي عندما أعرض عليه بعضًا من بنات أفكاري بالقلم الرصاص، إنها «لا تصلح لشيء»، ثم أقضي الساعات في مجادلته، أُبين له كيف تصلح ولماذا وأين، حتى رأيت ذاتَ يوم أني أُبدد وقتي بمحاولة تعليم معلمي، ولم أعد أتفوه بشيء بعد ذلك. وأدركت تدريجيًّا أن كلَّ ما يجب أن تعمله يمكن أن أحصل عليه مجانًا من مكتبة المدرسة. وذات ليلة قُلت لماري: «أتعرفين، إذا كان العبيد حقًّا هم مَن لا يفعلون إلا ما يُطلب منهم، إذن فهذا هو شأن كل زملائي من الطلبة هنا.» قالت: «ألم تدرك هذا إلا الآن؟ كان بوسعي أن أذكره لكَ عندما قابلتك لأول مرة في المدرسة الثانوية … وهذا هو أساسًا ما جعلني أهتم بك.» «لماذا، ماذا تعنين؟» «كل الصبية الذين قابلتهم حتى الآن كانوا عبيدًا، بلهاء صغارًا يروحون ويغدون مرددين ما يُصب في آذانهم، بل إن أفضلهم، الأفضل جدًّا، يفعل كلَّ ما يُعيَّن له، حتى يكون بوسعه أن يحقق جانبًا ضئيلًا مما يبغي. وفجأة وجدتك، وكنت تفعل ما تريد وتقول ما تفكِّر فيه. أدركت الأمر على الفور؛ لأن كل شيء جاء مفاجئًا وغريبًا، وكان من السهل أن أرى أنك تختلف عنهم جميعًا. فلم تكن ترفض فقط أن تفكِّر وتفعل هذا لم يخطر على بالِ أحدٍ من قبلُ أبدًا.» «لكن هؤلاء الشُّبان ليس لديهم ما يبتغون عمله حقيقة، كما يبدو. إنهم ينتظرون فقط مَن يُريهم الطريق فيجرون، ولكنهم عاجزون عن أي شيء حتى يخبرهم أحد … لقد أُسقط في أيديهم، فهم لا يستطيعون التفكير بأنفسهم. لم أعرف أبدًا أن الناس على هذه الحال من السوء.» فضحكت بصوتٍ عالٍ: «أنت في بعض الأشياء بريء براءةَ الأطفال. إن الرغبة في الانقياد طبيعة إنسانية، أما الشواذ الذين لا يتلاءمون مع مجتمعهم، وهم واحد في المائة، فهم الذين لا يتميزون بها. أنت تؤمن بنفسك. وأغلب الناس ليست لديهم نفوس يؤمنون بها … ألا تعرف هذا؟» قلت: «أعرف؛ بل أعتقد أنني وأنا صغير كنت دائمًا أشكُّ في أن الناس من قشٍّ ولا يمكن الاعتماد عليهم، لكني لم أفكِّر في الأمر تفكيرًا حقيقيًّا أبدًا. أما الآن فلا بد لي من التفكير فيه؛ فهؤلاء هم الذين أنتظر منهم مساعدتي في بناء أبنيتي. لا بد لي إذن من سبيل آخر.» فقالت: «هناك سبيل آخر.» «ما هو؟» «كل ما نحتاج إليه هو المال، وعندئذٍ تبني ما تشاء.» ضحكت: «بالتأكيد، لكننا لم نحصل عليه أبدًا.» كانت تلك هي الحقيقة؛ فطوال عامين كنا نعتمد على أنفسنا ونقدم كلَّ نِكلة نقتصدها للجامعة الكبيرة، التي كانت تثبط من عزمي طول الوقت في كلِّ ما أريد أن أتعلمه. فلم أجنِ مقابل نقودي سوى فرصة الكفاح بكل قوَّتي للتمسك بأفكاري وعبقريتي. وقررنا أنه من الغباء أن نستمر هكذا، فتركت الجامعة، وعُدنا إلى شيكاغو وقد وضعنا في سيارتنا ما نملك من ملابسَ قليلة وحقيبة امتلأت برسوماتي واسكتشاتي ومشاريعي. لم يكن هناك حدٌّ لما بوسعي أن أعمله الآن؛ ذلك أني لم أعُد مرغمًا على الكفاح ضد أحد، كما كان الأمر من قبلُ مع مدرسي وكتبهم في حجرة الدراسة. كل ما عليَّ أن أفعله الآن هو أن أفكر وأعمل، دون أن أتكلم أو أقنع أحدًا. وقالت ماري إنها لم ترني من قبلُ على هذه الحال من السعادة، وطَوال الطريق المؤدي إلى منزلنا، كنت أُدندن وأغني: «سيأتي عالَم أفضل، أوه أجل يا إلهي إلهي إلهي، سيأتي عالم أفضل، أجل حقًّا.» وفي رأسي كنت أرى المباني ترتفع عالية، والناس يرقبون والرهبة ملء عيونهم. كنت أعرف أن الجميع سيدركون على الفور مَن أنا، وكيف أفكِّر، وما أستطيع أن أعمل، بمجرد أن يروا المباني، ولن أضطر لأن أشرح نفسي لأحدٍ مرة أخرى. كان العالم الذي أعيش فيه عالمًا متداخلًا، وكانت الأشكال كلها تتحدَّد أمامي بوحدتها أو انعدام هذه الوحدة، كنت أتبيَّن على الفور ما هو صواب وما هو خطأ في أي شيء تقع عيني عليه، وكان أكثر ما يزعجني هو أنه خلف كل شكل قبيح كانت هناك فكرة ملتوية، كذبةٌ ما أو فكرة خاطئة، رأيٌّ محدود يستثير فيَّ ضده. كانت عيناه تقدمان لي دائمًا البرهان المخيف على أن هناك عقلًا مجنونًا خلف كل بناء مجنون، وأن هذا العقل قد زُود بالقوة الخارقة اللازمة لبناء المباني. أدركت أيضًا أن كل بناء فظيع ووحشي يرمي إلى تشويه أسلوب الإنسان العادي في النظر إلى الأشياء، وأننا إذا سمحنا للفظاعة والوحشية أن تكونا هما القاعدة — كما هو شأنهما في كل مكان — لشعر الجميع بالحاجة إلى كلِّ ما هو فظيع، ووُصم كلُّ مَن ينجو من بيئته بغرائزه الطبيعية سليمةً بأنه عدو «للجَمال»، ومخطئ في حق «الخير» العام. رأيت أن «المدينة» قد أصبحت آلة لسجن الإنسانية في الإنسان وهي تغذي فيه الآن كلَّ ما هو شرير وحيواني، تُشجِّع قساوته، وتقضي على حبه، وتستعيد كلَّ ما يملك من رغبةٍ غريزية في الحرية. وإذا كان شعوري بأهمية الوقت يُؤرقني دائمًا فيما سبق، فقد كنت الآن أعتبر كل ثانية أثمن من النقود ذاتها؛ لأني أعرف أن أغلب ما هو قائم يجب هدمه وإحلال غيره محله، وكنت واحدًا من قلة من الرجال يستطيعون ذلك. كنت أجد أحيانًا بعض الأبنية التي أستطيع احتمالها، لكن نادرًا ما كان أحدها قد شُيِّد بواسطة أحد المعاصرين لي. فأغلب ما نجا من غضبي شُيد في الماضي، ولهذا كان يتعرض للخطر لأنه يعترض الطريق، وكان يجري إزالة أغلبه بالفعل ليخلي السبيل لبلاهةٍ جديدة يعتبرونها ضرورية. أمنَ الغريب إذن أن مرور الزمن كان يزعجني؟ كنت أشعر بالأسف عند تناول الطعام، أو النوم، وأحيانًا عند تبادل الحب مع ماري؛ لأن القليل الذي أُعجبت به كان يتعرض للتدمير، وما يُشيَّد كان خاطئًا، وشعرت أني لا بد وأن أشرع في عملي بأسرع وأصح ما يمكن إذا أردت أن تكون الأشياء على الصورة التي أبتغيها: جميلة، عنيفة، صحية، وأيضًا، بالطبع، متحركة. كنا قد ادخرنا قليلًا من المال، يكفي لشراء قطعة من الأرض في ضواحي المدينة، وعندما تم هذا، أقمت بناءً مؤقتًا ذا سقف خشبي أشبه بالخيمة. وأقمنا في هذا البناء بينما كنت أضع تصميمي، الذي عكفت عليه ليلًا ونهارًا حتى انتهيت منه في أسبوع واحد. كلفتنا الأرض خمسمائة دولار فقط، فتبقى لدينا ألف دولار، كان عليَّ أن أبتاع منها كلَّ ما أحتاجه من مواد. ومع ذلك كان البناء الذي صمَّمته يحيط بكل أطراف أرضي في حركته المستمرة ليلًا ونهارًا. قالت ماري عندما أريتها مشروعي: «هل تعدني ألا تغضب إذا قلت لك رأيي؟» «بالطبع.» «حسنًا، إنه يعجبني … يعجبني حقًّا … إنه جميل، مثل كلِّ ما تفعل يا روبي.» «ولكن …» «ولكن، لست أعرف شيئًا عن الأرضيات الخرسانية، ولكن هل فكَّرت فيما يحدث لأسنان الأطفال عندما يقعون فوقها؟ وأليست فكرة الدوران هذه غريبة قليلًا، ألن تُصاب رءوسنا بالدُّوار؟ وماذا عن الدواليب، إننا نحتاج إلى الكثير منها، وإلى مكانٍ نضع فيه الدرجات التي سيُطالب بها الأطفال، وحاصدة العشب، وكل هذه اللوازم … لست أعرف، لكن هل من الضروري أن يكون غريبًا هكذا؟ ألا يمكننا أن نبدأ على مهل، فيكون لنا منزل يتحرك قليلًا فقط، أو شيء من هذا القبيل؟ هل أنت على ثقة يا روبي أننا لن نفقد توازننا ولن نستطيع الوقوف على أقدامنا؟» رفضتُ أن أجيب على أيٍّ من هذه الأسئلة، والتقطت رسوماتي، والتجأت إلى طرف الخيمة القصي. فقالت وهي تقترب من: «أوه روبي … لا تغضب. إذا كنت راضيًا عن هذا المشروع فأنا الأخرى راضية، يجب أن تعرف هذا. فقط أريد منك أن تتأكد. ثم إنك لن تعرف هذا. فقط أريد منك أن تتأكد. ثم أنك لن تستطيع العمل إذا كنت لا ترى أمامك جيدًا. كيف يكون بوسعك أن ترسم إذا كان المنزل كله يتحرك؟» «لسوف يتحرك في بطء شديد بحيث لا نشعر به.» «ها أنت ترى، كلُّ ما عليك أن تفعله هو أن تخبرني، لم أكن أعرف … لماذا أخفيت عني هذا؟» «لقد ظننت أننا سندور بسرعة هائلة كما كنا نفعل ونحن صغار.» وقبَّلتني ثم ضحكت منفعلة: «حسنًا، ماذا إذن إذا كان هذا هو ما تريد، فكلُّ شيء على ما يرام بالنسبة لي. ربما سنشتهر بعائلة روبي أوريللي الدائخة ولكننا سنفوز بالشهرة. فهذا أقصى ما سيذهب إليه أغلب الناس في حديثهم عنا. لسوف يطئون سياجنا بأقدامهم ويتلصصون على نوافذنا، ليروا ما إذا كنا مقيدين إلى مقاعدنا وأرائكنا، أو أننا نتعلَّق بمقابضَ ما، أو ماذا. لندعهم وشأنهم، فلن يعني هذا سوى مزيد من النجاح لك.» ضحكتُ بدوري وأنا أحتويها بين ذراعي: «لا تقلقي يا ماري، لسوف يكون كل شيء على ما يرام؛ فأنا أعرف ما أنا فاعل.» وفجأة ابتلت ضحكاتها وتحولت إلى دموع، وانفجرت في البكاء: «كلُّ ما في الأمر أني لا أعرف أبدًا ما تنوي أن تفعل، أنت دائمًا تفاجئني، وأحيانًا لا أكون مهيأة، أنت تعرف، فأنا أحتاج لبعض الوقت كي آلف كلَّ هذه الأشياء الجديدة التي تفكر فيها. ليس لك يا روبي أن تلقي أمامي شيئًا رسمته، ثم تكتفي بذلك، عندما يتعلق الأمر بمنزلنا نحن. فيجب أن تشرح لي كل شيء، وتقول لي كيف تعتقد أنه حسن ولماذا.» قلت: «حسنًا يا ماري. لسوف أفعل من الآن فصاعدًا. كلُّ ما في الأمر … حسنًا، كلُّ ما في الأمر أني لم أكن أظن هناك ضرورة لذلك.» قضيت تلك الليلة ساهرًا، دون أن أعمل؛ فقد ظللت جالسًا أتساءل عما إذا كان ما فعلته جدير بأن أفرضه على ماري. كنت أعتقد فيما سبق أنها تحب حقًّا كلَّ ما أفعله. تحكم عليه وتحسم رأيها بشأنه بوحي من تفكيرها هي. أما الآن فقد أدركت أنها ببساطة تحبني وتؤمن بأن كلَّ ما أفعله حسن؛ كانت المسئولية كلها على عاتقي. ولأول مرة وجدتني أفكِّر، مرغَمًا، في أني قد أكون مخطئًا، وأنه قد يحسن بي أن أقلع عن مشروعي. درست المشروع بعناية. كان يبدو لي جميلًا للغاية. فلماذا لم يكن كذلك في عينيها؟ لم يكن بوسعي أن أتجاهلها كما فعلت مع الآخرين؛ لأنها كانت رفيقة وطيبة وحلوة وكاملة، ولم يكن بوسعي أن أتجاهل رأيها. فكَّرت أنها ربما تعجز عن تصوُّر المنزل من الرسم، وأن خطوطًا على ورقة لا تريها، كما تريني أنا، كيف سيبدو كل شيء بالدقة. وبهذا فلم يَعُد هناك ما يقلقني؛ لأني كنت أعرف بالضبط كيف سيبدو المنزل عندما ينتهي بناؤه، وكنت واثقًا من أنها ستحبه كما أحبه. وعندما توصَّلت إلى هذه، أصبحت نافد الصبر بشكلٍ لا يحتمل، وأنتظر تواقًا لأن أرفع البناء حتى تراه، فإلى أن يُشيَّد، سأظل أنتظر، وأنتظر أن يتلاشى خوفي من أنها قد لا تحبه. كنت أعرف أن إعجابها به شبه مؤكد، وأنها ستقف أمامه مبهورةَ الأنفاس وتقول: «أوه يا روبي، كل شيء كما قلت أنه سيكون لشد ما أحبه.» لكن كان من المحتمل أيضًا أن يقشعر بدنها أو تحتقر ما بنيته لنا وعندئذٍ لن أفعل شيئًا سوى أن أصرخ وأثور وأريها في جنون كم هو رائع، وأقنعها، وأُناقشها، دون أن أومن مطلقًا بأنها تفهم فعلًا ما أقول، أو ما فعلت؛ لأني لن أستطيع أبدًا أن أمسح تلك القشعريرة الأولى أمامه، كما لو كانت أمام القبح. سيكون أمامي أن أنقلب عليها أو على مبناي، أكره واحدًا، وأواصل محبتي للآخر — وآه يا إلهي — كيف يكون هذا بوسعي وهما الاثنان مُهمان لي؟ لسوف تحبه بالطبع، إن ماري ليست غبية، وبوسعها أن تتبيَّن الصواب من الخطأ. (إذن لماذا لم تُعجب به؟) ربما لا يمكنها أن ترى الفارق، شأنها شأن الآخرين. (لكن إذا كانت ماري لا تعرف الفارق فمن يعرف إذن؟) فكَّرت في بعض الناس، واستحضرت صورهم في شريط سريع أمام عقلي، ثم استبعدتهم. لم أقابل أو أعرف أحدًا على الإطلاق يملك ما تملكه ماري من نفاذ البصيرة. (أيمكن هذا؟ أيمكن أن أكون أنا الوحيد الذي يعرف سلامةَ ما يفعل؟ أيمكن أن يقر الناس تلك المباني البشعة التي يقيمونها؟) كان عليَّ أن أتقبل هذه الاحتمالات، وعندما فعلت لم يبقَ أمامي مِن حَكم ألجأ إليه سوى حكمي أنا. وفكَّرت: سواء كان الأمر صوابًا أم خطأ، فإني أعرف ما هو الحسن وما هو الشيء، ما هو أكذوبة وما هو صدق سواء كان الأمر صوابًا أو خطأ، يجب أن أومن بنفسي؛ لأني أعرف أنني على صواب. قمت منهَكًا إلى الفراش، لأنضم إلى شكل ماري الساحر تحت الأغطية، دافئة وصائبة وحبيبة. لكن شيئًا قد تغير. فقد أصبحت الآن أشعر بوحدتي أكثر من ذي قبل، بانفصالي عنها. لم أعُد أفكِّر في أشياء «سوف نبنيها». عرفت أن ماري لم تشترك بدورٍ فيما كنت أفعل، رغم حبها لي، وإيمانها بي، ورغم أنها أعطتني حياتها. لن يكون بوسعي بعد الآن أن أثق في حكمها، على الأقل فيما يتعلق بعملي. كنت أعرف أني إذا كنت لا أملك الثقة بماري، فليس بوسعي أن أثق بأحد على الإطلاق. ومع ذلك ظللت آمُل أن تحبه ماري عندما تراه يتحرك. ورغم أنها جاءت إليَّ في الصباح التالي، تُقبِّل وجنتي وتحاول إقناعي بأنها فكَّرت في أمر المنزل وأصبحت تحبه الآن، فإني لم أصدِّقها، ولم يؤثِّر هذا في حبي لها، وأمكنني أن أقنعها بأنها لم تغضبني، أو تهز من ثقتي، أو تقل من عزمي، وسرعان ما عُدنا إلى الفراش في وضح النهار نتبادل الحب بنفس العاطفة والإخلاص اللذين عهدناهما في بداية زواجنا، وظننت أني قد نسيت كلَّ ما كان من شأن الليلة الماضية. والواقع أنني امتصصت تجربة نفورها من مشاريعي، ولم أعُد أشعر بأهمية ذلك؛ فقد كان حبي لها قويًّا لدرجةٍ جعلتني لا أعبأ برأيها في عملي. وخلال الشهور القليلة التالية، وجَّهت تفكيري كلَّه إلى بناء المنزل. ووجدت عندما انتهيت من تقديراتي أنه يلزمني حوالي خمسة آلاف دولار للمواد، ولو قمت بالعمل كله بنفسي، فضلًا عن حفر الأساس والبئر، وهكذا انطلقت أجمع هذا المبلغ من المال. فالتحقت بمؤسسةٍ ضخمة على مقربة، تقوم بأعمال التصميم وإمداد المقاولين بالمواد والاستشارات ونجحتُ في أن أقوم بأودنا، ماري (التي أصبحت حاملًا) وأنا، وأن أحصُل في نهاية العام على قرضٍ مكَّنني، بالإضافة إلى التخفيض الذي يُمنح للعاملين في المؤسسة، من شراء الأسمنت والرمل والخشب والأنابيب والطوب والبلاط، وكل الآلات الدقيقة التي أحتاجها ليظل منزلي في حالة حركة، وتبقَّى بعد ذلك مبلغ ضئيل للمواد الداخلية. وسرعان ما برزت هناك، على مبعدة حوالي مائة قدم من خيمتنا، حفرة، ثم تبدَّت معالم الأساس الخرساني … على هيئة زهرة غريبة ذات محور من الأسمنت المتين في وسطها، يبدو كبقايا جذع ضخم بعد اجتزازه. كان الناس قد بدءوا يتجمعون يحدقون، يأتون في جماعات صغيرة في عطلات نهاية الأسبوع، يتسكعون في الطريق، بينما كنت أنتهي من الأرضية الضخمة التي ستستقر فوق الجذع، وتدور كعجلة خشبية ببطء شديد بحيث لا يكاد يشعر بها أحد حتى ماري. وبدأت أصُفُّ الطوب فوق الأساس الخرساني الصلب وحول الأرضية التي ستدور في بطء، حتى بلغت به ارتفاع ستة أقدام، وعندئذٍ ثبَّت كمرات الألمنيوم التي ستحمل الزجاج والأخشاب الخارجية الخفيفة الوزن. وظهر بالتدريج أن المنزل سيبدو أقرب إلى مزولة (جيروسكوب) ضخمة وضعت داخل خيمة من الطوب والخشب والزجاج، وتدور حول جذعها الداخلي. وقبل أن أنتهي كنت قد بدأت أشعر بشيء من عدم الرضا بسبب بساطته، وفكَّرت أن ما فعلته ليس شيئًا جديدًا كما بدا لي في البداية. بل إني فوجئت عندما أبدى بعض مَن قدِموا ليتفرجوا دهشتَهم. فقد رأوا فيه أعجوبة؛ لا يشبه غيره من المنازل التي شُيِّدت من قبل. وأذهل عقولهم بوجوده، وأثبت أن غيره من المباني ليست سوى أشياء بالية أو محاولات فاشلة. وألقى جانبًا بكل الأشكال السابقة وانتصب في شكله الجديد ينكر في براءةٍ أنه مختلف عنها أو أنه خطر أو متعالٍ، أو أي شيء، سوى أنه هناك ببساطة، متعة للناظرين، وبهجة للساكنين، وصرح متحرك يؤكد أنه كان من الخطأ ألا يتحرك. أُصيب الناس بالرعب؛ إذ تساءلوا لماذا كانوا قانعين بما هو أقل منه … فقد حطَّم اطمئنانهم إلى أن كلَّ ما يحيط بهم هو الأفضل والأحسن، وأحل مكان هذا الشعور إدراكًا مرعبًا بأن عالمهم كان سجنًا ثابتًا، وأنهم كانوا أسرى الأشياء الثابتة الجامدة التي تصنعها أيدٍ أقل إبداعًا. كان المبنى الذي خلقته يقلِّل من شأن جهودهم، وكان رد الفعل لديهم هو الحقد أو الفكاهة، الشك أو السخرية … حاولوا أن يدمِّروه أو ينكروه. لكنه كان هناك بالفعل، وكانوا عاجزين أمامه. كان يطالبهم بأن يراجعوا نظرتهم إلى المساكن؛ لأنه لم يكن يتفق ومفاهيمهم، وكان يطالبهم بأن ينحُّوا جانبًا كلَّ تلك المعتقدات السابقة التي ثبت زيفُها. لم يكن أمامهم إذا أرادوا أن يحتفظوا بثقتهم، سوى أن ينكروا وجود هذا المبنى … وهو ما فعله أغلبهم، رغم أن قلة صلبة العود منهم، قرَّرت المطالبة بإزالته؛ لأنه يهدِّد الأطفال الصغار في المنازل المجاورة، وهاجمت عُصبة من الأمهات الثائرات لجنةَ التخطيط في الولاية مطالبة بحظر المنزل. وجرى على الفور تحقيق. سألني المفتش: «هل لديك تصريح بالبناء في الولاية؟» أجبت: «كلا؛ فلم أكن أظن أني سأحتاج إليه. لقد اعتقدت أنكم ما دمتم تسمحون ببناء هذه الصناديق التي ستنهار بعد سنوات قليلة، أو تغرق سكانها لو انتهك القانون إذا ما أقمت شيئًا جميلًا وصحيحًا، خاصةً أنه لأجلي؛ ولا أنتوي بيعه.» وسألني المفتش الذي أصبح يبدو كالثمل: «لكن كيف تحصل على مياه المدينة وتيارها الكهربائي؟» قلت: «لن أفعل. إننا على مبعدة تغنينا عن هذا. فلدي بئر، ووسائل التخلص من الفضلات، وقد أقمت مُولِّدًا صغيرًا ليمدني بالكهرباء … ذلك أني لو حصلت على الكهرباء من الشركة، لاقتضتني إدارة السقف والأرضية الكثير. لم يكن بوسعي أن أقيم المنزل دون مُولِّد خاص. وهو يكلفني الآن سنتات قليلة في اليوم.» قال المفتش: «هذا غير معقول.» قلت: «أبدًا؛ فهذا المنزل كله تكلف حوالي خمسة آلاف دولار، وهو يكلفني أقل من عدة دولارات في الأسبوع.» رفض المفتش أن يتناول كوبًا من الليمون أعدَّته ماري. وغادرَنا غاضبًا وهو يصيح مُهددًا: «لسوف تسمع مني مرة أخرى.» تابعته ماري ببصرها ثم سألتني: «لماذا هو غاضب هكذا؟» قلت: «لأنه مخطئ.»
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/5/
الفصل الخامس
رغم أن ماري كانت ترقب المنزل، أثناء ارتفاعه، بارتياب، وتتوجَّس خيفةً من فكرة دورانه تحت أقدامنا، فإنها بدأت تتقبَّله بعد أن انتقلنا إليه، وتصالحت معه تدريجيًّا، وأحبَّته وأعزَّته ودافعت عنه أمام كل التافهين. كانت تقول للزائرين: «لا يمكنكم أن تتصوروا جمال الحياة هنا، إلا إذا أقمتم هنا فصلًا كاملًا، وعندئذٍ ستعرفون. لن يكون بوسعي أن أعيش بعد الآن في منزلٍ عاديٍّ؛ فسوف يكون كئيبًا ورتيبًا ولسوف أموت. ليس بوسعكم أن تتصوروا كم هو مريح، وهو يتحرك ويتغير دائمًا. لماذا؟ بوسع المرء أن يركن إلى سكونٍ عميق في وحدة تامة. لم أعهد مثل هذا الشعور من قبلُ إلا مرة واحدة، وذلك أيام المدرسة عندما كنت أنزلق فوق أكوام القش، لكن هذا ليس إلا جانبًا صغيرًا مما يحدث هنا.» وكان الزائرون يومئون برءوسهم حينئذٍ ويبتسمون، كما لو كانوا يفهمون، لكنهم سرعان ما يرحلون وهم يهزون رءوسهم، مما يجعل ماري تحنق عليهم لأنهم لم يعشقوا المنزل على الفور كما فعلت هي، بعد أن ألِفته الآن. كان يبدو أشبه بقمةٍ دوارة ناعمة ومقلوبة رأسًا على عقب، قاعدتها مستديرة ومن الخرسانة الصلبة، رأسه نقطة تتجمع عندها كل الجوانب وتمتزج في ذروةٍ يدور حولها في بطء سقفٌ مسطح مثل أسطوانة الموسيقى صُنع من البلاستيك الملوَّن والخشب الداكن. وفي الداخل كان السقف يغذي الجدران والأرضية تدور بالألوان المتغيرة لضوء الشمس، وكانت الأرضية تدور ببطء في اتجاهٍ معاكس لاتجاه السقف. لم تكن الحركة كلها بالطبع لتتجاوز إحساسًا خفيفًا، دون شعور بالدُّوار؛ لأن الحركة كانت تجري ببطء شديد لا يكاد يلحظه أحد في المنزل. وكان إدراك حركة الأرضية ينتقل إلى المرء بإحساس غير واعٍ، إيمان مفاجئ لا يحتاج إلى تأكيدٍ ما، كأنما تراجعت الذات لتُتيح للعقل أن يركن إلى الخيالات وقد أغناه المنزل عن الحركة، بما يقدِّمه هو نفسه من تغييرات مبهِجة، وكان السقف الدائر، يخلق شعورًا عميقًا بالزمن الكوني؛ فالسماء تتحرك بطريقة مختلفة عن الأقدام، ومع ذلك كان العمود الأبيض المستدير وسط حجرة المعيشة الضخمة يوحي بأن الاثنين يرتبطان في الحقيقة بمحورٍ يعتمد بقدمه على الأرضية بينما يخترق رأسه السُّحب … ويوشك المرء أن يظن أن ذلك العمود المصقول الناعم يمثِّله هو نفسه في الزمان والفضاء، وبذلك يكون بوسعه أن يستريح لحظةً من كل جهوده، يتوقَّف فيها عن الفعل المستمر، منسحبًا من نفسه. سرَّني أن أكتشف أني قد خلقت بناء يهيئ تصميمه لساكنيه، أن يبتعدوا عن أنفسهم، وأدركت أني لو كنت غريبًا يرى منزلي لأول مرة، كما حدث لي مع أبنية رايت وسوليفان، فإنه كان سيحدثني في هدوء وسخرية وعنف بينما يتحرك ببطء في عالمه الخاص … أنكِر نفسك، اركن إلى السكون والهدوء، لتشعر بالحركة الأعظم! جلست وتعلمت منه أكثر مما يستطيع أيُّ شخص سواي. كل الأشياء تتحرك عندما تكون ساكنة هادئة! لكن الأثر الذي تركه المنزل في الآخرين خيَّب أملي، قُلت لماري: «إنه لا يحدث بهم أي تغيير، إنهم يستخدمون المنزل لكنهم يظلون كما كانوا من قبل. كنت أنتظر أن يتعلموا منه.» وابتسمت ماري قائلة: حسنًا، لقد غيَّرني أنا.» «كيف؟» «إني أحبه، لكني الآن أكره الناس.» ضحكتُ: «أنتِ تخلطين بين عدم الاحترام والكراهية. ليس عليكِ أن تكفي عن محبة الناس لمجرد أنكِ اكتشفتِ أنهم عاجزون عن الإحساس بالجمال. إن أغلب الناس مساكين، ويجب أن نشفق عليهم. هل تقبلين أن يكون رأسُك في التراب هكذا؟» أجابت برقَّة: «لا أستطيع أن أنسى أن هذا هو ما كان سيئول إليه أمري لو لم أعثر عليك.» قلت: «إن كل كائن بشري يولد مجنونًا، مجنونًا متعلمًا، ثم يأخذ مكانه في مجتمعٍ مجنون. ليس هناك كثيرون يملكون الثقة ليكتشفوا أن بوسعهم أن يكونوا أحرارًا، ثم يعيشون في حريةٍ رغم أن هذا قد يعني عزلتهم عن كافة المجانين.» قالت: «لست أفهم.» أوضحت لها: «أعني أن المرء لا يكون عاقلًا إلا إذا عزل نفسه عن مجتمع الآخرين المجنون. ولا يملك كثيرون القوة أو القدرة على أن يفعلوا هذا.» لم يأتني عملاء بعد إتمام منزلي، ورغم أن ماري وأنا عشنا في تقشُّف شديد، إلا أننا سرعان ما أصبحنا ثلاثة، وواجهنا نفقات المستشفى والطبيب وغير ذلك، وهكذا وجدنا أنفسنا في حاجة إلى المال. كان ابننا ولدًا رائعًا … يجمع بيننا نحن الاثنين، لكن الغريب أنه خرج من هذا المزيج بشخصيةٍ جديدة تمامًا خاصة به. كان من العسير علينا أن نعيش هكذا، بولد جديد رائع، وفي منزلٍ يحيط به جمالٌ إبداعيٌّ ساحر؛ لأننا كنا بلا مال، ولا عون، ولا تقدير، وقد ذابت كل فرص بناء منازل جديدة، بعد شهور قليلة. وكانت السنوات القليلة التالية شاقة ومريرة. فقد حاولت حكومة الولاية المنتخبة انتخابًا صحيحًا أن تنتزع منا منزلنا، وكان عليَّ أن أُكافح للدفاع عما كنت أعتبره العمل الوحيد الصائب الذي قُمت به، ونشرت الصحيفة الأكاذيب ووصفت منزلي بأنه «خطر على مجتمعنا». وزعمت لجنة تخطيط الولاية أنه ينتهك قوانين المناطق الجيولوجية، وتوصَّلت الإدارة الصحية إلى أن أجزاءه المتحركة تُمثِّل «تهديدًا»، وامتنعت المجلات عن نشر صوره، ثم ذهبت لجنة من الحي مؤلَّفة من جيران روبي أوريللي إلى اجتماعٍ لمجلس الولاية ذات ليلةٍ وشهدوا بأن المنزل قد هبط بقيمة الأرض في المنطقة. أما رد الفعل الجماهيري فلم يحدث إلا عندما تبيَّن أني لا أملك تصريحًا بالبناء. فقد ارتفعت صيحةُ الجماهير بأن السماح لي ببناء ما أشاء يعني أن أيَّ مُهرِّج بوسعه أن يرسُم خطًّا قد يشيد لنا ما هو «قذًى في العين» مما يعني نهاية «المستويات العليا التي كافحنا بشدة سنواتٍ طويلة كي تسود صناعة البناء». وبرغم كل الاعتراضات على منزل أوريللي، فإنه ظل سليمًا دون أن يُمس أو يُصاب بأذًى، وأثبت لي بذلك أن القوى المنظمة التي أثار عداءها كانت في الحقيقة عاجزة ومغرَّرة، على الأقل عندما نواجه شيئًا قائمًا بالفعل. وأدركت أن المنزل يَدين بوجوده إلى أني لم أطلب أبدًا من أحدٍ تصريحًا أو إذنًا ببنائه، ولم أصفه لأحدٍ فيما عدا ماري التي لم تكن هي نفسها واثقة من الأمر. وعندما كبر الصبي، وأصبح من الممكن أن يبقى معي، اشتغلت ماري بائعةً في حانوتٍ للثياب ببلدة مجاورة، بينما واصلت العمل في تصميماتي وأفكاري، أتمرَّس بتكنيكي، وأرى أبنيتي تكتسب شكلها تحت قلمي دون أن يكون بوسعها أن تنفذ للعالم الخارجي. لم أُقارن عملي أبدًا بعمل غيري، لكني أحيانًا كنت أنزلق إلى ملاحظة مبنًى يجري تشييده وسط الاستحسان والثناء والتهليل، وعندئذٍ ينتابني إدراك مؤلم بأن مَن يقف خلف المشروع ليس أقل أستاذية مني … ورغم كل المجالات التي كنت أثيرها أمام نفسي، فسرعان ما ألفيتُني مرغمًا على أن أُقر بأني أفضلُ معماري في بلادي؛ فقد كنت وأنا لم أتجاوز بعدُ الرابعة والعشرين، الوحيدَ الذي تنطبق عليه شروط المعماري كما أراها. وكانت ماري تقول لي ضاحكة: «أنت عبقري، وأنت تعرف ما يحدث للعباقرة، فلم ينل أحدهم أبدًا مالًا أو سُلطة، وطوال حياتهم يبصق الآخرون عليهم، وتضيع أعمالهم أو أغلبها. ثم وبعد مائتين من الأعوام يقرِّر شخصٌ ما أنهم ممتازون، وفجأة يتدافع الناس في جنونٍ على أعمالهم، التي لا يكون قد تبقَّى منها الكثير حينئذٍ. فما إن يُعثر على بعضها حتى يُوضع في المتاحف أو خلف الأسيجة، وتجري حمايته وترميمه والتأمين عليه. ويُشغف به الجميع إلى حد الجنون ويقولون: «ووه، أليس عظيمًا، ألم يكن رائعًا؟» لكنهم لا يتعلمون أبدًا؛ لأنهم في هذه الأثناء تراهم يتجاهلون الرجل الوحيد بينهم الذي يمكنه أن يُحدثهم عن عصرهم وعن أنفسهم، ويحاربونه ويهزمونه ويقلِّلون من شأنه ويدمرونه ويبصقون عليه، وهلمَّ جرًّا. مثلما يوجد إنسان وحيد في حظيرة للخنازير، أليس كذلك؟ فلا يمكن للعبقري أن يتحدَّث إلى خنازير، وليس بوسعه مساعدتها أو تسليتها؛ لهذا لا تملك الخنازير سوى أن تعبث بعمله، تأكله، تطأه بأقدامها، وتتركه للريح تذروه. ثم بعد سنوات قليلة يُلقي كائنٌ بشريٌّ آخرُ وسط الخنازير بصرَه إلى أسفل ويرى بعض البقايا فيقول: «هي … إنها لممتازة حقًّا»، ويثور انفعاله، ويُلوِّح بها وهو يهتف بالخنازير: انظري إلى هذا، لكن الخنازير لا تعبأ. وأقصى ما يستطيع الكائن البشري أن يفعل هو أن ينقل ما اكتشفه إلى الكائن البشري التالي الذي سيأتي بعده ليعيش وحيدًا في حظيرة الخنازير. وقبل أن نتبيَّن الأمر، تتجمَّع كومة صغيرة من المواد تنتظر مَن ينقلها، حتى تسحق الخنازير ذات يومٍ ما حولها أكثر مما يجب وتبعثره في كل ناحية. عندئذٍ يبدأ الكائن البشري من جديد، يلتقط ما تبقَّى من بقايا، وينقلها إلى مَن يأتي بعده. هذه هي الحضارة يا روبي العزيز … لا تصنع شيئًا من أجل الخنازير. وعندئذٍ تُداعبني مقلِّدة صوت الخنزير: «وينك وينك»، وتغزني في رقبتي بأنفها، حتى أمسك خَصرها بيدي وأميلها في رقةٍ على الأريكة، ثم أنحني فوقها، وأجذب رداءها وأرفعه حتى ذقنها. وعندئذٍ تبدو ساقان وجسد ناعم وحسب، وما زالت تضحك وتضحك: «وينك وينك». ثم تقول لي في رقةٍ: «أوه يا روبي، إن لك أسلوبًا رائعًا في الحب.»
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/6/
الفصل السادس
إلى جانب قطعة الأرض التي أقمت عليها منزلي، ابتعت قطعتين أخريين في محاولةٍ قانطة، وأقمت فوقهما بناءين متحركين جديدين، بعد أن دبَّرت المال في صعوبةٍ من عدة مصادر. لكني لم أتمكَّن من بيعهما، فقمت بتأجيرهما بعد أن اضطررت إلى إنقاص الإيجار إلى ما يُقارب تكاليف الصيانة، بالإضافة إلى أقساط الرهن العقاري، وبهذا لم أُحقِّق ربحًا منهما على الإطلاق، ولم ينل هذان المنزلان، شأنهما شأن منزلي، أيَّ إعجاب أو تقدير، لكني تلقيت أسوأ الضربات عندما وجدت أن المستأجرين امتنعا عن تشغيل المحرِّك الذي يُدير المنزلين، وعاشا في ثبات، بل شرعا يزهوان بأن المنزلين لم يتحرَّكا حركةً واحدة منذ انتقلا إليهما. وفي هذه الأثناء كانت بلادي تُزاد قُبحًا على قُبح، وهي تنتقل من أيدي مستغلٍّ إلى آخر. فقد ملئوا الأرض الجميلة بالشقوق والفتحات، وامتصوا ما بها من معادن، ثم تركوها كُتلًا من الطمي، ولوَّثوا الأنهار، وحوَّلوا المياه إلى سمومٍ قتلت ملايين الأسماك، وقضوا على الحياة البرية وأسقطوا الأشجار الطويلة التي تتجاوز حجم أي إنسان أو عمره بخمس مرات. وبنوا منازل من الورق المقوى بالملايين، وتحايلوا في خداع الناس حتى اشتروها، ثم ارتحلوا محمَّلين بالأموال التي سحبوها من البنوك الفاسدة، بينما كانت المنازل تتحلل قبل أن يجفَّ طلاؤها، وبعد سنوات استيقظ المُلَّاك ليجدوا أن الأقساط التي ينوءون بدفعها شهريًّا لم تبتع سوى فائدة البنك؛ فقد كانت مُدنهم تتداعى بسرعةٍ وتتحوَّل إلى أحياء قذرة متداعية. وفي كل ناحية كان يبدو تحلُّل الجهود الرخيصة القبيحة التي أُفسح لها المجال طويلًا … فأثبت المرور أن الشوارع غير صالحة، وتفتَّت الخرسانة المغشوشة، ولم تكن المدارس سوى مصانع شُيِّدت على عجل، وفي أواسط المدن كان يبدو التعبير القبيح عن رأس المال الكبير، في شكل الهياكل الكبيرة من الزجاج والصلب التي أملتها دولارات الإيجار حسب المتر المربَّع ودون اعتبارٍ للجمال أو المتعة أو التعبير الإنساني أو أي شيء آخر سوى الدولار. لم يكن كلُّ ما رأيته يبنى، ببساطة، سوى آلةٍ لجمع المال … فقد طارت من عقول الأمريكيين الأقوياء كلُّ أفكار الديموقراطية والحرية والخير والشجاعة. كانت المباني العامة تُشيد بواجهات أسمنتية عارية، تُمثل حكومة بلا وجه ولا اسم، وكان الناس يسيرون ويعملون ويعيشون وينتجون بعيون مغلقة، تحيط بهم من كل ناحية قبائح وأكاذيب من صُنع الإنسان. وأصيح بماري في الليل: «يا إلهي … أوه يا إلهي، إن بلدي تُغتصب وتُضرب وتُشوَّه وتُستغل وتُفقر وتُخدع … كل هذا بسبب الغباء وليس بوسعي أن أوقف ذلك أوه يا إلهي ليس بوسعي أن أفعل شيئًا.» وما كان بوسع إنسان بمفرده، لسوء الحظ، أن «يوقف ذلك»؛ فعندما تنحدر أُمة فوق السفح، لا يستطيع مواطن واحد أن يقف في وجه السيل ويوجِّهه من جديد. لقد استمر كل شيء كما هو، وما زال يسير على نفس المنوال إلى اليوم … هذا التحول العنيف المرضي نحو الوحشية والقبح والشيطنة والخداع … وتُساق جموع الشباب عاجزة، دون أملٍ في الثورة. شعبٌ بأكمله ينهار، وأنا مذهول من السهولة التي كانوا يتحوَّلون بها إلى عجينة مشوَّهة بواسطة نظام فاسد لا يعبأ بغير المال ويستغل الجميع (الناس والأشجار والمعادن والطاقة والمياه والفن والتعليم والسياسة) لصالح قلة، كانت تمنح الجماهير حَفنة من المنح مثلما تعطي النادل بحكم العادة. كان النظام يدافع عن نفسه مستشهدًا بكفاءته في مبادلة موادَّ لا قيمة لها بموادَّ أخرى عديمة القيمة، وبهذا فإنه كان أفضل نظام ممكن، ويدلل على ذلك ببرهان جديد هو أن ما يملكه الناس هذا العام من موادَّ عديمة القيمة أكثر مما كانوا يملكونه في العام الماضي. كأنما هو أخطبوط مجنون، يحث الناس، عن طريق الإعلان المستمر، أن يبيعوا وقتهم (الذي يُقاس بدقات ساعة آلية) مقابل شيء لا يحتاجون إليه، وفي حالات كثيرة (كما في السجاير) مقابل شيء ضارٍّ تمامًا، ثم يجعلهم يوقِّعون على كمبيالة تجبرهم على العمل مدة من الأعوام ينتجون فيها منتجات أخرى غير مُجدية، تُباع بدورها بالنسيئة لآخرين مثلهم. وعندما تقتفي أثر المال من جيبٍ إلى آخر تجده يصُب في النهاية في أيدي قلة من الممولين، وفي هذه الأثناء تبتاع الحكومة أشياء مثل: القذائف والقنابل التي لا تمر سنوات قلائل حتى تعلن عدم صلاحيتها، ثم تستبدل بالمزيد منها نفسها … وكل هذا يتم بالنسيئة، الأمر الذي يُغرق كل مواطن في مزيد من الديون، وبالمثل أيضًا أولئك الذين لم يولدوا بعدُ، دَين يُسدَّد عن طريق الحكومة بواسطة الضرائب العالية، وهذا المال أيضًا يصب في جيوب قلةٍ من أصحاب الصناعات والممولين. وعلى هذا الخليط من الآفات والديون والسلع الرخيصة الصنع العديمة القيمة، ومخزون الأسلحة التي لا تستخدم، أطلقوا تعبير «الازدهار»، وأشاروا إليه كبرهان على الفائدة الرائعة التي يجنيها الجميع من النظام. لم يكن هناك مكان وسط هذا النظام لرجالٍ ذوي مهارة، أو بصيرة أو مُثُل عُليا؛ فقد كانت المنتجات الشوهاء تُباع بأسرع من الجيدة، ودرجتها العالية من الرداءة تضمن سرعة الاستبدال، ومزيدًا من التداول، وأرباحًا أعلى. كان للأكذوبة في السوق سعرٌ أعلى من الفكرة؛ لأن الأفكار تُباع كالسلع الاستهلاكية لا كحلولٍ حقيقية للمشاكل. وكان الأفضل لهذا النظام لو أن كل المعلومات كان لها هدف واحد هو تبرير استمرار وجوده ونموه. وعندما واجه النظام المتاعب ولم يجد عملًا لبعض أولئك الذين ارتهنوا جانبًا كبيرًا من حياتهم لديه مقابل منتجاته العديمة القيمة، عندئذٍ تحول الرجال القلائل الذين يقفون خلفه إلى الحكومة يولولون، فضاعفت الحكومة مشترياتها من المواد الحربية، وغرقت في المزيد من الديون، ثم زادت من الضرائب العامة لتجد ما تسدِّد به الديون التي قدَّمتها البنوك، التي يملكها نفسُ الباكين الذين يملكون بالمثل النظامَ ويديرونه. هكذا دار المال في نفس الحلقة، وغرق الناس في مزيد من الديون، وازدادت قلة منهم ثراءً على ثراء وقوةً على قوة … وخلقت الصحف فزعًا من الحرب حتى لا يعترض الجمهور على تخصيص الدخول المستقبلة للإنفاق على أسلحة الحرب التي ستبلى من قبل أن يتمَّ سداد ثَمنها بزمن طويل. كان من السهل أن أرى كيف كان من الضروري للنظام، كي يمضي بلا متاعب، أن يُباع كل إنتاجه بسرعة، وأن يكون من شأنه أن يُباع من جديد عدة مرات أو يكون قابلًا للتآكل السريع، بحيث يمكن استبداله، وكانت معظم الأشياء الكبيرة تُصنع بالطبع طبقًا لهذه المواصفات. فشُيِّدت المنازل مثلًا بحيث تتآكل بسرعةٍ فيضيق بها المرتهنون ويتركونها إلى غيرها، لكنها كانت تتمتع أيضًا بأكبرِ جاذبية ممكنة حتى يمكن بيعها من جديد بسهولة، رغم أن هذا يتم عادةً إلى أسرةٍ من مركز اقتصادي أدنى، وذلك لحماية المصارف العقارية التي تتقاضى فائدة مجزية. وقبل أن يصبح المنزل المعيَّن وشيكَ الانهيار، وهذا يُقدَّر له عادةً بخمسة عشر أو عشرين عامًا، يكون قد بيع خمس أو ست مرات وما زال في أيدي بنك معيَّن، رغم أن كل مالك له قد جُرد من كل شيء باسم «الفائدة»، وفقد كلَّ ما حقَّقه من قيمة بسبب التناقص التدريجي لقيمة المنزل. أما إذا تمسَّك أحد المُلَّاك بمنزله المتداعي، وهبط بوضعه الاجتماعي والاقتصادي مثلما حدث للمنزل، فإنه في الوقت الذي يكون قد سدَّد فيه الرهن العقاري، ومدته عشرون عامًا، يكون المنزل قد غطَّى غدًا قيمته تقريبًا في السوق، أما المصرف فإنه لم يجمع الفائدة التي كان يدفعها المالك طوال تلك السنوات وحسب، وإنما استفاد أيضًا من إعادة استغلال مدفوعاته خلال ذلك الوقت. وبعبارة أخرى، فإن كل المنازل كانت تُبنى من أجل البنوك التي تؤجرها بربح وفير، تحت ستار «الملكية». لم تكن البنوك تسعى وراء الجمال الفردي؛ لأن الجمال يُشبع المالك الأصلي، بينما كانت البنوك تُحقق أرباحًا أكثرَ عندما تُباع المنازل من جديد بسرعة. وما كانت ترغب أيضًا في شيء غير عادي؛ لأن هذه الفضيلة تحدُّ من سوق المنازل عندما تُباع من جديد. وأساسًا لم تكن البنوك تهتم بالمنازل الدائمة، المشيَّدة جيدًا بحيث تعيش زمنًا طويلًا؛ لأن هذا الطراز من المنازل لا تهبط قيمته، وبذلك يفلت المرتهن من براثن البنوك. ورغم أني وجدتُ طريقة للتحايل على النظام — بشراء الأرض وبناء المنازل الثلاثة بنفسي — فلم أتمكَّن من بيعها. ومن أسباب ذلك أن قلة من الناس كانت تجربتها الاجتماعية تؤهلها لشراء شيء جميل، وقد تطلعوا إلى منزل أوريللي والحياة التي يقدِّمها في ريبة؛ لأنه كان غريبًا على الإعلانات التي يشاهدونها. وسبب آخر، أنني لم أتمكن من العثور على بنكٍ يُمول شاريًا بضمان منازلي؛ فقد كنت أعتبر شخصًا غريبَ الأطوار وكان عملي في نظرهم «شاذًّا». ولما كانت منازلي الثلاثة الأولى عسيرة البيع، لم يكن بوسعي أن أجد مُساندة مالية لرابع، بل وجدت أنه من المستحيل أن أقترض مالًا على منزلي الخاص؛ لأن المصارف آمنت بأنها لن تتمكَّن من بيعه إذا ما عجزتُ عن السداد. وكان الطريق الوحيد أمامي لممارسة مهنة العمارة التي اخترتها، هو أن أشتري الأرض ثم أشتري المواد، وأقوم بالبناء، وأقوم بالبناء بنفسي. وبذلك ما كان لي أن أحلم بأن أُشيِّد شيئًا أكثر تعقيدًا من منزلٍ متوسط الحجم، وكنت مرغمًا على أن أقتصر على استخدام أغلى المواد. قلت لماري: «هذا حسن، لا يهمني أن أعمل بيديَّ المجرَّدتين، لكنني كنت أود ألا أجعل هذه الأمور شاقة بالنسبة لكِ.» قالت ماري: «لا تقلق، لقد اشتغلت حتى الآن ثماني سنوات، وأستطيع أن أعمل سنوات غيرها. نحن ما زلنا في مقتبل العمر، فأنت لم تتجاوز بعدُ الثامنة والعشرين.» قلت: «إني لآسف يا ماري. آسف حقًّا.» «يا للجحيم، لا تأسف يا روبي، فقط افعل ما تريد.» استمرت ماري تعمل، وقمت أنا بمختلف الأعمال في الناحية. فأعددت تصميمًا لمطبخ، وقمت بمد أنابيبَ للصرف، وبنيت مخازن جديدة، وشيَّدت بضعَ حظائر للأدوات وجاراجًا، وأفنية وأسوارًا … وواصلت بالطبع وضْع أفكاري على مائدة الرسم. وكان ذلك يتم بالليل ثم أستريح قليلًا في الصباح الباكر قبل أن تنهض ماري. واستطعنا أن ندَّخر عشرة دولارات في الأسبوع، وبذلك اجتمع لدينا في نهاية العام ألف دولار، فبدأت أبحث عن الأرض. كانت أسعار أراضي المدينة، وتلك القريبة من حدودها، تتجاوز إمكانياتي بخمس مرات، فكان عليَّ أن أبتعد في بحثي وأنتقل به إلى الريف. وفي إحدى رحلاتي وجدت مزارعًا كان يرغب في أن يبيعني خمسة أكرات من غابة قريبة من جدول، مقابل تسعمائة دولار فقط. كانت الأرض تبعد خمسين ميلًا عن أقرب ضواحي شيكاغو. وبحثت الموضوع مع ماري في تلك الليلة. قلت لها: «إنها جميلة يا ماري، وربما ونحن على مبعدة هكذا لن نواجه متاعبَ الخرائط الجيولوجية والتشريعات المختلفة. إن مَن يُقبل على الشراء بعيدًا هناك لا بد وأن يكون متمردًا مثلنا، وبوسعنا أن نبني خمسة منازل إذا أردنا … أوه، قد لا نبنيهم جميعًا مرة واحدة، لكن يومًا ما سيكون لدينا خمسة منازل، كلها قد شُيدت كما يجب.» كانت ماري متعَبة وتثاءبت بشدة وهي تقذِف بساعديها إلى أعلى في عنفٍ جعلهما ينحيان جانبًا. «هو وود ياوووهجج … يجدُر بنا أن نأخذ المال ونذهب إلى بلدٍ آخر يا روبي، لكني أعرف أنك لن تفكِّر في هذا أبدًا. حسنًا، ربما استطعت على الأقل أن تنشئ بقعة صغيرة في الولايات المتحدة تساوي شيئًا … أوه حسنًا، لسوف تشتري تلك الأرض على أي حال يا روبي … لكن لا يجب أن نتوقع أي شيء بعد الآن، جنِّبنا أن نمرَّ بكل ما حدث مرة أخرى، اتفقنا؟ لن ننتظر أن يتقدم الناس لينتفعوا بما بنيته لمجرد أنه كامل … اتفقنا؟ لأنك تعرف ما يحدث دائمًا، لا شيء. إذا كان بوسعك أن تعمل دون أن تتوقع شيئًا من وراء ما تفعله، إذن امضِ في طريقك … تذكَّر أنك في حظيرة للخنازير، وأن الخنازير لن تحتاج أبدًا إلى مكان مقدَّس أو إلى الفن أو الجمال أو الجهد الصادق أو النزاعات السامية، أو أي من هذه الأشياء، الخنازير تضع مقدمة رءوسها في الأرض بحثًا عن طعامٍ يزيدها سمنة على سمنة، وتودُّ لو تنتفخ منه حتى تنفجر أحشاؤها. يجدُر بنا ألا نفعل شيئًا من أجلها مرة ثانية، لتعمل من أجلنا نحن، وإلى الجحيم بالمنازل التي لن تُباع أو تؤجَّر على الإطلاق. لنبنِ مكانًا هائلًا ضخمًا، وننتقل إليه، نحن ولا أحد غيرنا، ونستخدم الأكرات الأخرى في زراعة الخضروات وتربية الدجاج. هل تعرف أن جدي كان يُربي الدجاج وقد علمني كلَّ شيء عنها؟ لنكفَّ عن إسداء الجميل للبلهاء بعد الآن يا روبي؛ لأنك كلما ذهبت مُحملًا بالهدايا تلقيناها مصوبة إلى حلوقنا. أقول لتذهب كل الخنازير إلى الجحيم، واللعنة على أطفالها أيضًا، وإذا كانوا يريدون معابدَ فبوسعهم أن يُشيدوا دولارات هائلة، وهو ما يفعلونه بالفعل كما تعرف. فتلك المباني التي شاهدتها في المدينة ليست سوى دولارات منتصبة على أطرافها، أو أكوام من فيشات البوكر. لو فقط تكف عن المعاناة في سبيلهم، والاهتمام بأمرهم، وتتخلى عن الرغبة في صُنع شيء جميل من أجلهم. هل تتذكَّر عندما تخيلنا أننا سنبني مدينةً كاملة رائعة لهم؟ ما الذي سيفعلونه بها؟ أليرتكبوا جرائمهم، وأكاذيبهم وأعمالهم القبيحة وأحقادهم، على مرمى بصرٍ من مبانيك الجميلة، التي تتحرَّك حولهم؟ كلَّا، لا بد وأن يتغيروا، وبصورةٍ ما يرفعون أنوفهم عن الجذور التي يمضغونها دومًا حتى يمكنهم رؤية الأشجار، وهم لا يؤدون هذا يا روبي، كما تعرف؛ لأنهم يخشون الموت إذا لم تزدد أجسادهم سمنةً على سمنة … حسنًا، لكنك تعرف كلَّ هذا بالطبع، لقد قلته لك من قبلُ ملايين المرات.» ركنت إلى الصمت زمنًا طويلًا، أفكِّر كيف تنحدر تلك الأرض وتغوص إلى أسفلَ مكوِّنة حفرة في وسطها، وكيف يرتفع أحد طرفيها عاليًا في تلٍّ به أشجار. ثم ضحكت، وانتصبت واقفًا بسرعة: «أعتقد أنكِ على حقٍّ يا ماري، سوف نشتري تلك الأرض ونقيم فوقها خمسة منازل عظيمة رائعة … بلدة كاملة جميلة في حالة حركة، وسوف ترين، سيتمنى كل إنسان في العالم أن يعيش بها.» قالت: «أوه يا روبي، أحيانًا تجعلني حزينة للغاية وأود أن أبكي حتى أموت.» «انتظري فقط، لسوف تحبينها عندما تشاهدينها. ليس بوسعك أن تريها الآن، وهذا ما يجعلك تخافين.» قالت: «ولكن هذا ليس كل ما في الأمر …» وانسابت الدموع على وجهها قبل أن تخفي رأسها. قلت: «كلَّا يا ماري … كلَّا … سيكون كل شيء على ما يرام … وسوف ترين.»
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/7/
الفصل السابع
هذه المرة قُمت بكل شيء على وجهٍ مختلف، ولم أترك شيئًا لأحد. فعندما وصلت إلى الأرض الجديدة بعد أسابيع قليلة من شرائنا لها، قضيت الجانب الأكبر من اليوم الأول في إعداد وطلاء لوحة هائلة في حجم سيارة النقل ذات الصندوق الخشبي، وفي نهاية اليوم التالي كنت قد أقمتها بالقرب من الطريق الرئيسي، بعد أن ثبتها جيدًا في قواعدَ من الخرسانة. كانت تحمل الكلمات التالية: مرحبًا بكم في قرية أوريللي مستعمرة جديدة من ٥٠٠ منزل صمَّمها أستاذ العمارة البارز روبي روي أوريللي وبين رقم ٥ والصفرين المجاورين له وُضعت علامة عشرية صغيرة جدًّا في عنايةٍ بحيث لا يلحظها سوى العلماء، وعندما خطوت إلى الوراء لأُصفق لما فعلت، وجدتني مضطرًّا لأن أعترف بأني نجحت في أن أكون صادقًا من الناحية الفعلية ومضللًا كبيرًا في الوقت نفسه، وأيقنت أن كلَّ مَن سيمر بهذه البقعة سيتصوَّر أن مدينةً جديدة مذهلة ستُنشأ في هذا المكان — وهي الحقيقة على أية حال — فلم يحدث أبدًا أن صنعتُ شيئًا عاديًّا أو شائعًا، ولم يكن لديَّ أدنى شك في أني سأُحقِّق أحلامي في العظمة، مهما كانت ضخامتها. كان مصدر قلقي الوحيد، استنادًا إلى تجربتي السابقة، هو أن ما أتكهن به الآن سوف يُقلل من ذلك الفيض الهائل الجميل في المشاعر الذي ستبعثه في قريةٍ يتم بناؤها لأول مرة على أُسسٍ سليمة، رغم أنها لا تضم في الواقع سوى واحد إلى مائة من العدد المنتظر. وما كان بوسع أحدٍ من المارة أن يعرف أني لا أملِك سوى خمسة أكرات؛ فقد كانت قطعتي محاطةً بالمروج وحقول الحنطة والبساتين والمراعي، وكان من السهل أن يُفهم من لافتتي أن أراضيَّ تمتد ميلًا في كل الاتجاهات. كان الموقع جميلًا، حتى التراب كانت تبدو علية الجدة، لكن لم يكن هناك من سبيلٍ لإنكار ضرورة العمل اليدوي؛ لأنني رأيت في كل مكان فجواتٍ لا بد من ملئها حتى يصبح المنظر كله في صورة أفضل؛ فليس هناك شيء لا يمكن مضاعفة طاقته بمجرد دفعةٍ صغيرة من جانب الإنسان، وكنت دائمًا تواقًا لأن أفعل هذا، كما كان شأني الآن، وأنا هنا أفكِّر في الصورة التي سأعطيها لهذا المكان. نحيت جانبًا صورًا مختلفة لمستقبل هذه الأرض، واستقر رأيي أخيرًا على منظرٍ ساحر أردت أن أراها عليه. وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يملكون للأسف الشجاعةَ لمواجهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل. أنهم ييأسون بسرعة، رغم أن بوسعهم، هم أيضًا، أن يتبينوا ببساطةٍ ما هو مطلوب. بوسع أي إنسان أن يُجسِّد العصرَ كلَّه في أكثرِ الأشياء ضآلة؛ لأن كل الأسرار تمتزج فينا جميعًا بالارتشاح. علينا فقط أن نعمل بأمانة، عندئذٍ سنُقدم الإجابة، ولو دون أن ندري بأمرها. (أسميتها ﺑ «الإجابة»، لكن هناك منذ القِدَم أسماء أخرى لها؛ فقد وصفها ليوناردو دافنشي بأنها «الخط الذي تتولَّد عنه كل الخطوط دون أن يُرى».) وبعد أيام قليلة من إقامة لافتتي، مضيت إلى أقرب المدن الكبيرة (بلدة وابو، إيلينوي، وتعدادها ٥٠٠٠ نسمة) لأُقابل بائع مواد البناء المحلي. وألفيته قد سمع عن لافتتي، وزعم أنه يعرف كل شيء عن قرية أوريللي، وقال لي بابتسامة متلهفة غطَّت وجهَه المتورد، إنه كان مُعجبًا بعملي «منذ سنوات طويلة». قال: «لا أستطيع أن أُعبِّر لك عن الشرف الذي ينالنا بإقدامك على العمل هنا.» وأضاف أن شركته المسمَّاة بمؤسسة سليد، يُسعدها أن تمدني بكلِّ ما أحتاج إليه. كلُّ ما يتعيَّن عليَّ أن أفعله هو أن أتصل به تليفونيًّا وأملي عليه طلباتي، وعندئذٍ أتلقاها في نفس اليوم. وقال: «ربما تظن أننا هنا ضئيلو الشأن، لكنك تُخطئ في هذا … فقد قمنا بمشروعاتٍ كبرى مثل خزان كوبور، ولعلك سمعت عنه، ومبنى لانجستون واكس. وأنا واثق أنك ستجد أسعارنا تُنافس كلَّ ما عداها في المدينة، ودعني أسرُّ إليك بشيء … لسوف تجد أن التعامل هنا مع مفتشي الولاية أفضل منه في أي مكان آخر إذا ما استخدمت التُّجار المحليين.» أكدتُ لمستر سليد أني أكون سعيدًا جدًّا بالطبع إذا ما «استخدمته»، على حد تعبيره، فهزَّ يدي في عنفٍ وربَّت على كتفي مرة قائلًا: «لن تأسف على هذا أبدًا يا روبي — لعلك لا تعترض على مناداتي لك باسمك الأول ولك أن تناديني بالمر فقط — فسوف أعمل على أن تتلقى كلَّ ما تحتاجه، وبسرعة أيضًا. إن بعض شركات شيكاغو تنقل عربةَ الرمال إلى هنا في يومين، وأحيانًا في ثلاثة، بينما نستطيع نحن أن نمدك بها في دقائق، أجل دقائق … والآن … ما رأيك في تناول طعام الغداء … يا للجحيم، إنك تبدو كأنك ستموت جوعًا.» كنت أعرف بالطبع أن مستر سليد لم يسمع عني مُطلقًا من قبل، ولم يرَ ما بنيته على الإطلاق، لكنه سمع تعليقًا على لافتتي وظنَّ أن مَن يضع لافتةً بهذه الصورة جدير بأن يعمل معه، لكني كنت راغبًا في أن يتقبلني الآخرون عن إيمان ولو كان هذا الإيمان هو إيماني أنا، مطبوعًا بحروف سوداء كبيرة فوق لافتة مثبتة على حافة الطريق. ثم أن أحدًا لا يمكنه أن يُطالب الآخرين باحترامه طبقًا لشروطه هو، فيجب أن يترك الشروط للآخرين، ولكلٍّ منهم شروطه الخاصة. كان مستر سليد يؤمن باللافتات كما كان المسيحيون الأوائل يؤمنون بالمعجزات، ولست أحمل عليه، فعلى الفنان أن يتقبَّل كل شذوذ أينما وجده. لكني لا أكون على سداي إلا مع الأشكال لا مع الناس؛ ولهذا سرعان ما كنت عاكفًا على العمل أمام لوحة الرسم، أُصمِّم المساكن الخمسة التي ستُكرم بها أرضي. في البداية كومت اثنين هنا ثم هناك، وجعلت واحدًا كبيرًا يشرف على الجدول ليبدو يانعًا خلال حائط زجاجي عند الواجهة الخضراء المنحدرة للتل القائم على الجانب الآخر من المياه. لكني ألقيت بهذا المشروع جانبًا. ثم صمَّمت شكلًا مترابطًا دون نظام يضم كلَّ الأبنية الخمسة، بحيث يؤدي الواحد منها إلى الآخر، ويكون المحيط الخارجي للشكل العام مثنيًّا إلى الداخل في الوسط. لكن هذه الفكرة لم تعجبني أيضًا؛ لأن الأرض في الخارج كانت جميلة وما كنت أريد لما أضيفه إليها أن يجذب الاهتمام بعيدًا عنها. والتجأت إلى سقوفٍ على شكل أجراس، فوضعت كلَّ واحد منها بشكل عفوي منحرفًا عن الآخر في صورةٍ بدت كأنما حطت الصدفة رِحالها في المنطقة، لكني شعرت أن هذا خداع؛ لأنه يتضمَّن أنني — أنا الصانع، الإنسان المسئول — لم أكن موجودًا، وثرت على هذه الخطة ومزقتها إربًا خوفًا من أن تغريني عندما تتعقَّد الأمور. وعندما فشلت في العثور على حل، جعلت أسير ليلًا في أنحاء الأرض وأنا أفكِّر في أنه سيكون من المستحيل إرضائي، وأن كلَّ ما قد أُشيده سيكون إساءة لا تُغتفر للخُضرة اليانعة ولحاء الأشجار البني والتراب والصخر والمياه المندفعة. وحطًّا من شأن كلِّ ما أوجدته في لحظة اليد الطولى لتلك السلسلة من الأحداث المسماة الطبيعة. كيف يمكنني بحق الشيطان أن أحدث لهذا المكان، أنا الآخر، كما حدث له في العصر الجليدي، تاركًا أشياءَ من بينها هذا الجدول وتلك الصخور، وهذه المياه الرقراقة وذلك الجسر، بينما أنا لست أكثر من فأر دعي أحمر الجلد يتفوق قليلًا في المكر، ولا يملك جبالًا جليدية تتصدع رهن إشارته. بدوت ضئيلًا للغاية في حاجة إلى كلِّ ما أملك من أعصابٍ كي أواصل الحياة بين كلِّ ما هو مصنوع من قبل، فما بالكم بمحاولةِ إحداث تغيير أتذكَّره فيما بعدُ بالفخر؟ لكن الإنسان يتذكَّر في لحظاتٍ كهذه أن كل الأشياء مصنوعة، كلها نتاج رغبتها الذاتية، أو نتيجة ظروف تطلَّبت وجودها وأوجبتها، أو هي النتيجة الأخيرة لوحدة سعيدة تألَّفت بين كل هذا أنها التسوية النهائية نفسها بين رغبتها وبين الممكن. وهكذا عندما هدأتُ وتركت مشكلاتي تغوص كالطعام في قناة الهضم الذهنية ولدت فكرة جديدة، وبزغت ملامح شكل، بعض أجزائه واضحة، والبعض الآخر غامض تمامًا. لكن الآن، بحق الإله، أصبح لديَّ ما يكفي لأن أبدأ على الأقل، وأقبلت على العمل بقوة لن يدركها سوى مَن ينكر ذاته ومعتقداته ورغباته الشخصية. كنت عبدًا لحلمٍ شفاف في جمجمتي، ولم يكن لشيء آخر من سيطرة عليَّ، ولا حتى ماري، حبي، التي كانت تظهر صباحًا ومساءً حاملة إليَّ الطعام. من الصعب أن أتحدَّث عن إهمالٍ ما لماري من جانبي، وإني لفي حاجة إلى قدرتكم على الفهم لأتمكَّن من هذا. تصوروا يدًا تظهر فجأة تحمل صفحة، أو وجهًا جميلًا تملؤه عينان عسليتان كبيرتان، وابتسامة بيضاء سعيدة، وسط رؤيا من الأسمنت والسقوف، وأجهزة التدفئة، والسياج والقواعد، وكل الأشياء الدنيوية الأخرى التي تبدو لي، بصورة سحرية، وحقيقية تمامًا طول قدم إنسان وخطوته الكاملة في رَدهة، وعرضه الذي ينثني عندما يكون جالسًا وما يتطلبه ذلك، والحوض الذي يستخدمه هو وزوجته، وكل مكوِّنات «منزل» يجب أن يجري تنظيمه وفقًا للمكان الذي سيُقام فوقه. كانت ماري تساعدني في ألا أتجاوز الحد. هل أنا جائع؟ فتطعمني. أأرغب في النوم؟ فتَسوقني إلى المنزل لأستريح يومًا كاملًا. أأنا مُتسخ مكتئب، يخدرني اليأس؟ فتقترح عليَّ حمَّامًا. كانت تمدني بالسيجار، وتُربِّت على روحي بحبها، وتُحدِّثها بأني ما زلت مُهمًّا لها رغم أني قد نسيتها مؤقتًا. كانت تطلق العِنان لعقلي دون أن ألحظ، وكانت بالطبع دائمًا جميلة، حتى عندما تلحظها نظرات عقل منشغل تمامًا بشيء لا علاقة له بها. هل تفهمون؟ ألا يُفضِّل قاطع الأخشاب العمل بين الزهور المتفجرة على أن يكون مُحاطًا بترابٍ خامد لا يلهم شيئًا؟ كانت ماري شمسًا، تُتيح لي أن أخلع سترتي المتهدلة، وأعني بذلك ذاتي، وأعمل حُرًّا، دون عائق، في دفء رعايتها. قالت مرة: «رأيت تصميماتك هذا الصباح يا روبي بينما كنت تتناول إفطارك، وأعتقد أنها جميلة للغاية، ولا أكاد أستطيع صبرًا عليها حتى تنتهي … كم تظن سيستغرق ذلك؟» قُلت: «لا أعرف، وإني لسعيد أنكِ أُعجبت بها.» «إنها تبدو أكمل ما تكون لهذا المكان. كيف توصَّلت لهذه الفكرة بحق الشيطان؟» قلت: «استوحيتها من الشكل الخارجي للمكان.» ورغم أن هذا لم يكن حقيقيًّا، فقد كان محتملًا، وقد أرضاها. كان المشروع ضخمًا، لكني كنت أعرف أن تنفيذه أمرٌ يسير. ففي الوسط وضعت المُولِّد الكهربائي وقاعة ترفيه كبيرة ومدرسة، وجعلتها جميعًا في كرة واحدة كبيرة مستديرة سوف تطن بالنشاط بلا انقطاع. ومن هذا «المركز» تمتد خمسة قضبان من الخرسانة يغطيها بلاستيك أخضر شفاف، يتقاطع كلٌّ منها مع منظرٍ يستحق المشاهدة — أخدود انتثرت فوقه أوراق الأشجار، حنية نهر، غيضة من أشجار الدردار، مرج أصفر — ويمتد حوالي خمسين ياردة حيث تدور بلاطة مستديرة في بطء، كما هو الشأن في منزلي، لكن البلاطة هنا أكبر ولا تقتصر الحركة على طابق واحد؛ فهناك طابق ثانٍ يدور أيضًا في اتجاه عكسي لدوران الطابق الأول. وعلى المحيط الخارجي تُقام المنازل، قممًا دوارة تدور حول نفسها في سرعةٍ فتبدو أشبه بمظلات مخروطية إلا أن سقوفها مسطحة يتغير بدورانها الضوء الذي بداخلها. وتحت أماكن التقاء القضبان بالبلاطات تتجمع كل التوصيلات الكهربائية وأنابيب المجاري والتدفئة، وتقوم الأخيرة بإذابة الجليد والثلوج على شريط مستطيل خارج الغطاء البلاستيكي، فتُمهِّد بذلك طريقًا للعربات دون جُهد. وتحصُل العائلات الخمس بواسطة تنظيم تعاوني على حاجتها من المياه والكهرباء والخدمات الصحية، والملابس والترفيه … إلخ، ويمكنها أن تستأجر من مدخراتها مهندسين للصيانة بصورة دائمة. ولن تكون هناك من حاجة إلى عملٍ من أعمال الفلاحة. فلن تكون هناك حديقة، ولا أعمال تشذيب بالتالي، وسيزدحم الجدول والنهر بالأسماك، وسيؤدي إضافة خزان صغير إلى تكوين بحيرة عريضة حول منزل «الكرة» الكبير، في الوسط، الذي يضم كافة الخدمات. أصبح لدى المجتمعِ دُوار كامل، لا يتأثَّر بالطقس، لكنه شديد التلاحم بالأرضِ بحيث يبدو جزءًا من المنظرِ الطبيعي كلِّه. وكان المقرَّر أن تُشيَّد الأجزاء الصُّلبة من الصخر والخرسانة، مع الزجاج والبلاستيك، والدعامات الخشبية الضخمة التي سيتكون منها البناء، ولن تشعر العائلات بأنها جزء من هذه الأرض الجميلة أيضًا وحسب، فلسوف تتحرك بصورةٍ مستمرة وسطها. وفي داخل «الكرة» كنت أنوي أن أضع كافة أنواع الآلات التي «ستوصل» الأشياء إلى كل منزل على حدة حسب الطلب بواسطة حزام تحويل مغطًّى يمتد في كلٍّ من القضبان الخمسة. فهناك على سبيل المثال ثلاجة كهربائية هائلة بها منتجات الألبان الطازجة — من لبن وزبد وبيض وجبن — وجهاز ذاتي الحركة قادر على أن يُقدِّم عددًا محددًا من الوجبات البسيطة. وهناك محلات تخزين تُقدم البضائع — البقالة والأدوية والخردوات والأدوات الحديدية واللوازم الجافة والمشروبات الكحولية وغير الكحولية بلمسة إصبع لزرار. وهناك أيضًا مغسل أوتوماتيكي ومنطقة لتجفيف الغسيل يمكن للعائلات استخدامها، وقاعة عرض للأفلام السينمائية، واستاد صغير داخلي وحوض سباحة ومكتبة ومحل لبيع الكتب والمجلات. ويمكن إدارة هذا كله وصيانته بواسطة الرجلين اللذين ستُتاح لهما السكنى مع أسرتيهما في الجانب الخاص بهما من «الكرة». وليست هناك من ضرورة للمبالغة بشأن «الآلات»؛ فهي ليست أكثر من غُرف تخزين تلتقط منها السلع لتُسلم إلى طالبيها. لكنها تُحقق وفرًا كبيرًا للعائلات المنتفعة؛ لأن اللوازم التي تقدمها يمكن شراؤها جملة عندما تكون الأسعار منخفضة، ثم تُخزن حتى الحاجة إليها. أما المواد التي تتباين تباينًا كبيرًا من شخص إلى آخر حسب الذوق، فستبتاعها كل أسرة لنفسها من الحوانيت الخارجية. كنت مسرورًا من الصورة التي تمخَّض عنها المشروع؛ فقد كانت الكرة تتسع لأغلب الأشياء اللازمة للحياة الحديثة، وبذلك أصبح من الممكن استغلال كل مساحة المنازل نفسها في المعيشة والراحة. فلا يضم المطبخ — على سبيل المثال — سوى الأطعمة الخاصة التي تتفق وذوق كل أسرة، وبهذا أصبح في إمكاني أن أجعل الثلاجة الكهربائية والدواليب والموقد والفريزر في أحجام أصغر، أكثر جمالًا. كانت هناك حاجة فقط لمُنظِّف ومُجفِّف صغيرين للطوارئ. وهكذا كان بوسعي أن أُصمِّم مائدة كبيرة منبسطة يمكن أن تمتد عند الحاجة إلى منطقة تناول الطعام وتهيئ مكانًا فسيحًا لكل الأشياء التي تحتاج إلى مساحة: ألعاب المائدة، وتناول الطعام، والاحتفالات … إلخ. أما غُرف النوم فتلزمها أماكن لحفظ الملابس الخاصة بفصل واحد فقط من فصول السنة؛ لأن «الكرة» تضم غُرفًا محكمة الإغلاق لا ينفذ إليها الهواء ومجهزة بوسائل مقاومة الحشرات، وكان بوسعي أن أُهيئ بها أماكن للجلوس والعمل فأحيل كلَّ غرفة منها بذلك إلى خُلوة خاصة. ومن شأن المساحة المخصصة للمعيشة والمدخل المسقوف أن يخفِّفا من التوتر، يمتصا الصوت، بل ويساعدا، بالتصميم الدقيق، على إيجاد مجالات للموسيقى والتليفزيون والحديث والقراءة بحيث يمكن لثلاثة أو أربعة من هذه النشاطات أن تتم في وقت واحد في نفس منطقة المعيشة الواسعة، دون أن تتداخل في بعضها البعض. كانت هناك «جدران للكتب»، و«ساحات رياضية»، يمكن أن تفتح جوانب كاملة منها على الخارج بحيث لا يصبح هناك من حائل سوى الستائر، ويمكن أن تُغلق غلقًا محكمًا، في حالة البرد، بمجرد الضغط على زر. كنت معجبًا بمشروعي للغاية وتمنيت لو أمكنني أن أضع عشرين منزلًا على الحافة المستديرة بدلًا من خمسة فقط كما أعلنت، لكني عندما أطلعت ماري على رغبتي قالت بروح عملية: «أليس من الأفضل أن ننتظر حتى نرى إذا ما كان أحد سيبتاع الخمسة الأولى؟» لماذا يا ماري؟ لسوف تكون هذه الأماكن حلمًا لمن يعيش فيها.» قالت: «أعرف يا روبي، لكن لا بد وأن يكون الناس قادرين على الإيمان بذلك.» وألقت بنظرها على الصورة التي رسمتها للموقع كله كما يبدو من أعلى. وأضافت مبتسمة: «بصراحة، إنه يبدو خياليًّا بعض الشيء.» سألتها في حذر: «لماذا؟» قالت: «حسنًا … لا بد وأن تعترف بأنه ليس ما يخطر على بال المرء عادةً عندما يفكر في المسكن، لسببٍ أساسي وهو: أين ستجد المرأة حديقتها؟ أجل أنت لم تفكِّر في ذلك مطلقًا، أليس كذلك؟ فلست تريد أن تزحم مشروعك بحديقة؟ سبب آخر: أين ستُوضع الدواجن؟ في الخارج أم في الداخل؟ ليس في هذه الجاراجات، وهذا أيضًا لم تفكِّر فيه، أليس كذلك؟ ثم ماذا عن شَيِّ الخنازير في الهواء الطلق؟ أين يقوم الرجل بدور رئيس الطباخين ويُعِد شرائح اللحم؟ ليس هناك من مكان لحفرة صغيرة لشي اللحوم، أليس كذلك؟ هل فكَّرت في الدراجات أو أسطوانة الانزلاق وحاصدة الأعشاب والجواريف وأماكن حِفظ المكانس والصابون؟ أوه، أجل، أعرف أنك أعددت صالةً لعرض التحف الفنية، وقاعة للموسيقى تَسع بيانو ضخمًا، وغُرفًا للقراءة، ولكن ماذا عن تلك السجادة الكبيرة من جلد الدُّب … أين يرتمي الناس أرضًا ويتبادلون الحب بعيدًا عن عيون الأطفال؟» ورفعت يدها إلى فمها، ثم انفجرت ضاحكة وهي تحني رأسها: «أوه يا روبي، روبي … ليتك ترى وجهك … لم يكن يُقدَّر بثمنٍ، وقد بدوتَ كأنك قد ابتلعت لسانك كلَّه ولم يَعُد بوسعك أن تبتلع المزيد … آه، ها، ها انزعجت، أليس كذلك؟» طاردتها في أنحاء الخيمة المؤقتة وأدرتها على وجهها فوق سرير صغير في الركن. وقلت لها ويدي تتلمَّس بشرة ساقها الناعمة أسفل جونلة في لون الشكولاته: «بلا سراويل مرة أخرى؟» غمغمت: «كان الجو حارًّا، وظننت أنك ستكون مشغولًا فلا تلاحظ شيئًا.» وتَتابع خريرُ ضحكاتها وأنا أربِّت على الشكل الناعم المستدير العاري أمامي. قالت وهي تتلوى لتتخلص من يدي: «كفى يا روبي، كُفَّ عن هذه الدغدغة. الآن قبل أن أغضب.» وقاومتني بعنفٍ بضع دقائق، لكني لم أتوقف، وسرعان ما استسلمت لنشوةٍ فائقة وجعلت تغمغم في بطء: «همم … الآن، قف … روبي … الآن.» عندما أدرتها كانت كلها فمًا ناعمًا ومستعدة لاستقبالي، قوَّتي وكلِّي، قدْر ما أستطيع أن أعطيها في سعادة، وقد أعطيتها أفضلَ ما أستطيع؛ لأني كنت أحبها، أوه يا إلهي، كم أحبها! كانت كالخمر للإنسان في الشتاء. ورقدنا في هدوءٍ فوق الفراش الذي يصر لأي حركة، وجعلنا نرقب خفق مشعلي فوق المكتب في طرف الحجرة. قالت في حزن: «أوه يا روبي، لسوف تكون غاية في الجمال. ليتها كانت مكتملة لأراها الآن.» قلت: «ماري، لسوف أنتهي منها من أجلكِ بأسرعِ ما أستطيع. ولسوف تكون لكِ وحدك ولا أحد سواكِ.» انتصبت جالسة وقالت مهمومة: «أتمنى ألا يكون الأمر كذلك. وأن يكون لدينا مشترون كثيرون تزدحم بهم الطرق في الخارج كما يحدث للاستاد في أكتوبر.» سألتها مبتسمًا: «ألا يخلو تمامًا في أكتوبر؟» قالت: «بالطبع لا يا غبي. ألا تعرف أن ذلك موعد المباريات الدولية؟» تأملتها لحظةً في صمت. كيف أخبرها أنها كل سعادتي، والدفء الوحيد الذي يحيط بي، والأمنية التي لا أستطيع أن أعوِّل على سواها حتى وأنا بعيد عنها. فبجوار ماري فقط، يمكن للمرء أن يصنع شيئًا مثل «مجموعة الكرة»؛ لأنه بدونها لا يكون ثمة معنًى للفعل، للخلق، للعظمة — فلن يكون هناك مَن أسعى لإرضائه. لم أتناسَ بالطبع أنها لم تكن تفهم ما أفعله دائمًا أو تقدِّره. لكني أفعله مع ذلك من أجل عينيها — الخرسانة والخشب والمرافق، وسقيفة المدخل، والأماكن المغلقة وكل شيء. وعندما أصبحت الفورمات في أماكنها، دبَّرت الأمر بحيث تأتي عربات الأسمنت عند الغروب، ليراها ابني ويتعلم ويغمس يديه في المزيج الرمادي المبتل قبل أن يتحوَّل إلى بلاطة تحت الأقدام. وفهم الصبي وعرف أن الأسمنت عجينة يمكن للمرء أن يشكلها كما يشاء وأنه، ككل شيء آخر، عبدٌ مطيع للقالب الذي يختاره له الإنسان. كنت أريده أن يعلم أن الإنسان هو صانع كل تكوينات الأسمنت التي يراها، وأنه لا يوجد شكل سابق على الأسمنت نفسه، وقد فهم هذا على الفور ويده في الخليط الرمادي السائل … استوعب الحقيقة دون أن يفكِّر فيها. وأراد أن يعرف على الفور لماذا تأخذ الأشكالُ هذه الصورة دون غيرها. هناك الكثير الذي لا يستطيع الرجل أن يقوله لابنه، هناك ذلك الجزء الأسفل من جبل الثلج الذي يجب أن ينتقل دون إيضاح. إنه انتقال حسَّاس، رفيع كأحد خيوط الزمن، لكنه عريض مثل الجو في الواقع الذي يعيش فيه الصبي. فتلك الأشياء التي أدركَها بمشاعره ستُشكِّل وجدانه في المستقبل، وسيكون ابني مؤهلًا، مكافحًا يصعب خداعه، قد عقد العزم على أن يتصرف طبقًا لإرادته الخاصة وذوقه. لا يمكنني أن أقول كم أصبحتُ أحترمه للغاية من الآن. إنه أفضل الصبية، بطبيعته، ولست أنسب لنفسي فضلًا في ذلك، سوى أنه ثمرة حبي لأمه. إنه يحمل اسمي، وأنا أحمل اسمه، ويكفي هذا لأن يجعلنا نقف سويًّا، رغم أن الزمن يفصل بيننا، وسيكون هذا شأنه دائمًا. إنه مِلكي، وأنا مِلكه، هذه هي الرابطة البدائية القوية التي تجمع بيننا، وهذا هو السبب في أننا نتقبل بعضنا البعض تقبُّلًا تامًّا، والقبول هو أقوى أنواع الحب بين الرجال. ينتابني القلق دائمًا عندما أبدأ في البناء. إن الأرض أمامي، والمشروع، لكني أتساءل عما إذا كان من الممكن تحويله إلى واقع؟ وأسرع دائمًا خوفًا من أن يتضح خطئي، ويتبين أن أفكاري جميلة لكنها مستحيلة التحقيق، فهناك دائمًا الخوف من أن تفشل حيلةٌ ما، ويحتضر الشيء الجميل الذي يتوقَّف على هذه الحيلة قبل أن يُولد، وقد تسبَّب في اختناقه عقلٌ مخطئ. لهذا اندفع في البداية لأُشيد شيئًا ما بسرعة، فعندما أرى القواعد أو الأساس أو الأرضية، أيًّا منها كان الأول، يصبح لدي شيء محسوس يسكِّن من شكوكي المرعبة، ويمكِّنني من أن أواصل العمل معتمدًا على نفسي كالعادة، بالإضافة إلى ما تم عمله بالفعل. إنني أعلم أن قلةً من الناس ستفهم هذا، لكن الأمل يحدوني في أن يكون هناك في مكانٍ ما مَن جرَّب النشوة التي يشعر بها المرء عندما يصنع شيئًا فكَّر فيه بمفرده، ولا يصنعه أحد غيره، دون أن يكون أمام تاريخ من الأخطاء السابقة يتعلم منها. إنها دائمًا مقامرة، ورغم إمكان التقليل منها بالموهبة والثقة والعبقرية الإلهية، فإنها تظل مقامرة إلى أن تتم. وهكذا راقبت الخرسانة على مقربة، أشرفت على بناء الفورمات، وعمليات الخلط والصب، ثم انتظرت بجوارها ليلةً كاملة حتى جفَّت، وفي الصباح التالي مزَّقت عنها الخيش لأرى النتيجة. كان كل شيء على ما يرام، ولم يكن هناك أساس لمخاوفي … والآن هل تدور البلاطة؟ هل تحتمل الخرسانة الثقل الذي قدَّرته لها؟ أكَّدت لي حساباتي أنه لا يوجد هناك شكٌّ، لكن ما هي الحسابات في نهاية الأمر؟ أليست سوى قياسات تعتمد على ذهن إنسان؟ لهذا يجب أن أُسرع من جديد بالخطوة التالية، وهكذا يسير الأمر. فعندما تكون خالقًا، فإنك لا تملك سوى ما فعلته فحسب، ولا يصل الفجوة التي تفصل بين ما تم عمله، وما يجري عمله، وما سوف يُعمل … سوى عذابك أنت نفسك … هل تفهمون؟ إن العضلة الذهنية في رأسك هي وحدها التي تلم بكل أطراف الأمر، التي ترى الشكل بالصورة التي سيكون عليها عندما ينتهي. فإذا ما فقدتُ رؤياه، أو توانيت، عندئذٍ يختفي الأمر كله، يتلاشى من الوجود، وقد لا يعود مرة أخرى أبدًا ولهذا ليس بوسعك أن تستريح أو تهدأ ثانيةً واحدة حتى ينتهي ويوجد بصورة كاملة مستقلًّا عن جهدك. ولا يمكن لشخصٍ عداك أن يرى ما لم تفعله بعد، وهذه مسئولية كبيرة. فلا بد وأن تنطلق خلف ذلك الهدف الذي لا يمكن لغيرك أن يراه، وليكن الله في عونك لو نسيت لأنك ستفقد الاتجاه على الفور وتندفع في عمًى وعلى غير هدًى نحو لا شيء، وعندئذٍ تفشل، ويضيع منك الأمر كله، ويتحوَّل عملك إلى عدم، وتصبح آمالك ضحِكًا، وينقلب كل مكرك عليك، ويمزقك الحقد إربًا؛ لأنك خُنت نفسك، خُنت الشيء الجميل الذي كنت تتقدم نحوه، ويضيع عملك، ولا يتبقى سوى سخطك. لكن إذا كان هذا شيئًا يجب تجنُّبه، فهو أيضًا شرطٌ يخلق الطاقة التي تحتاجها لتُكافح العالم أجمع، ما دام هو بصورته الراهنة يُقاوم التغيير، وترغمه على أن يتقبل الجديد، ويحتويك في شكله الأكبر بحيث يصبح شيئًا جديدًا مختلفًا لم يكن هناك عندما بدأت. ذلك أن الطريق الوحيد للتغيير، هو أن يضيف المرء شيئًا جديدًا من صنْعه للأشياء بصورتها الراهنة. وهؤلاء الذين يظنون أنهم يستطيعون أن يغيِّروا شيئًا موجودًا بالفعل، مصيرهم إلى الفشل. أما أولئك الذين يصنعون شيئًا جديدًا يُحتم احتواء القديم؛ لأنه ببساطة أصبح موجودًا هو الآخر، فإنهم يغيِّرون كلَّ ما هو موجود. ومما يؤسف له أن هذه الحقيقة البسيطة من حقائق الطبيعة، والأساسية في الوقت نفسه، لا تدركها سوى قلة ضئيلة من الناس. إن شجرة البالوط النابتة لا تُطالب الغابة بأن تتغير على مثالها. فهي تنمو في هدوء معتمدة على نفسها في ظل شجرة أسفندان ضخمة ستحل محلها يومًا ما. فالتغيير لا يتأتَّى بالمطالبة وإنما بالإحلال، هذا هو أول قانون من قوانين الحياة. أما المطالبة فيجب أن تتركَّز كلُّها في الداخل، وإلا فإنها تتبدَّد ببساطة على الآذان الصماء الموجودة في الخارج. فإذا أردت للغابة من حولك أن تتغير، فلا بد وأن تضغط على نفسك، لتنمو أكبر وأسرع، مثل شجرة البلوط النابتة. الزمن هو عدوك، لا الغابة. ظل الأسمنت يأتينا يومًا بعد يوم، ونحن في استقباله: ابني وأنا — مؤسسة روبي روي أوريللي وابنه. ووددنا لو كان بإمكاننا أن نصُب كل شيء على الفور؛ لأن هذا كان أرخص، وكنا نريد أن ننتهي قبل أن يبدأ سقوط الأمطار في أكتوبر. كان المكان كله في بياض الأحجار، أينما تطلعت، دون أخشاب أو سقوف تخفِّف من خشونة الأشكال، لكن هيكل البناء كان يطابق المنظر الطبيعي، كما لو أن يدًا هائلة قد وضعت، فجأة، رفوفًا من الصخر فوق الخضرة. لم تكن لدي رافعة، أو غيرها من الآلات الثقيلة، لم أكن أملك سوى خطة، وكان من الضروري أن تكون كاملة بحيث لا يبدو لدائني أن شيئًا ما ينقُصني. كان عليَّ أن أبتسم في ثقةٍ مؤكدًا أن كل شيء يتم (من اليد للفم) لأنني أريده هكذا، ولا أحتمل أي تدخُّل من «الآلات الكبيرة المزعجة بالإضافة إلى أنني لا أحتاج إليها»، أو على الأقل هذا ما ذكرته لأكبر الدائنين، مستر سليد، الذي جاء مع مواده ذات يوم ليرى كيف تسير الأمور. فقد قال وهو يربِّت رأس ابني: «إنه لمساعد صغير عظيم … كل ما لديك.» قلت: «إنه أكثر من ذلك، إنه مَن أسأل وقت الشدة، وهو لا يكذبني أبدًا.» ابتسم مستر سليد، وقد ظنها نكتة. قال ساخرًا: «يقولون لي إنك تفعل كل شيء بنفسك.» قلت: «كلا، فلدي ابني هنا.» قال: «أجل …» وبدأت ابتسامته تفقد بعض ثقتها. «لكن أين أعمالك؟» قلت: «لست أحتاج إلى أحد. فكل ما يحتاجه المعماري حقًّا هو القليل من قوة البصيرة.» «مَن الذي شَيَّد لك الفورمات؟» قلت: «أنا بالطبع، بمعونة سائقيك الذين جلبوا الأخشاب.» «ومَن ساعدك في الصب؟» «لا أحد … فيما عدا سائقيك الذين جاءوا بالأسمنت.» قهقه ضاحكًا: «يبدو أنني قدمت لك العمال أيضًا.» قلت: «كلا، ليس الأمر كذلك. فلم يقضِ رجالك هنا في الموقع أكثرَ من الوقت الذي يقضونه في أي مكانٍ آخر يُفرغون فيه عرباتهم. الفارق الوحيد هو أني كنت مستعدًّا لهم عندما جاءوا وعينت لهم الأماكن التي يُفرغون فيها عرباتهم.» قال: «حسنًا، أليست حيلة بارعة؟» قلت: «كلا، على العكس … إنها حيلة فقيرة.» قال وابتسامته تعود في ثقةٍ أكبر: «تقصد أنها تؤدي إلى إفقاري، هذا ما تقصده.» لقد ظن أني أجري وراء الملاليم، فبدأ يحترمني. قلت: «حسنًا، لن تتأثَّر بشيء.» وبأيدينا العارية، ومعونة ضئيلة للغاية، بنينا كلَّ بوصة من المنزل ذي الأجزاء الخمسة، طبقًا للخطة. وبدأ من الخارج مثلما وصفته من قبل تمامًا. كان أشبه بعجلة مركبة هائلة، غاصت بين الأشجار دون أن تتلفها، وحركتها الخفيفة تهدهد الموقع كله في رقة النسيم. لم يكن هناك صوت تقريبًا، على الأقل من جانب الأجزاء المتحركة في البناء، وبدا كأن المنازل تُحلِّق على مهل وتدور كأسطوانات يحملها النهر مع تياره. أعتقد أن الحركة، بسبب بُعدها الجديد، أكثر طوعًا للجمال، من الأجسام أو الفضاء. إن الحركة تخلق التكرار، وليس هناك من شيء، مهما كانت درجة قبحه، لا يكتسب بعض الجاذبية عندما يُكرَّر بنظام معيَّن. لكن عندما يستسلم شكلٌ ما للحركة — مخروطيًّا كان أو كرويًّا أو شِبه كروي — ويكرر نفسه بذلك، تراه يزداد جمالًا دقيقة بعد أخرى، وهو يدور ببطء في أشعة الشمس. بطيئًا، بطيئًا. يتغير كل لحظة، ولا تراه أبدًا على نفس الحال. ولا يتوقف لحظة. كانت التجربة تبعث فيَّ البهجة والعجب. وعندما اقترب الخريف من نهايته، كنا قد شرعنا نعمل في الداخل، نضع الأرائك المبنية والموائد والمقاعد والفواصل وأوعية الثريا الضخمة. وانتهى العمل في «الكرة»، وجاء دور الأجهزة الأوتوماتيكية التي صُمِّم بعضها خصيصًا من أجلي، فجعلت العمال الذين جاءوا بها يقومون بتركيبها وقد انتهزوا الفرصة ليُبرزوا مواهبهم. وخلال شهر واحد — هو شهر نوفمبر — كان آلافٌ من الناس قد توقَّفوا ليتفرجوا، بل وظهرت بضع مقالات مصوَّرة في الصحف التي تصدر في المدينتين القريبتين. وفي إحدى المقالات أطلقوا على المبنى اسم «الهولاهوب»، وسمَّوه في الثانية ﺑ «الحلقة النحاسية». لكن الغالبية كانت تطلق عليه اسم «عجلة أوريللي»، وما كنت لأعبأ بذلك، رغم أن التسمية أزعجت ماري. توقفت يدها التي تحمل فرشاة الطلاء وقالت عابسة: «لماذا أشعر بالقلق؟ حسنًا، لا أعتقد أن أحدًا يرغب في الحياة على حافلة عجلة مركبة، هذا هو كلُّ ما في الأمر. ماذا لو افترض الناس أنها تدور لمجرد أن هذا هو اسمها؟ أتذكَّر كيف انزعجتُ أنا عندما قلت لي إن منزلنا سيدور حسنًا، أعتقد أن آخرين سينزعجون بالمثل، وربما لن نستطيع أن نقنع أحدًا بأن يضع قدمه داخله عندما ينتهي بناؤه. هل سألَنا أحدٌ عن تكاليف البناء؟ كلَّا، لا أحد بين هؤلاء الأغبياء الجاحظي الأعين الذين يصطفون في سياراتهم على طول الطريق اهتمَّ بالسؤال عن الثَّمن. هكذا ترى يا روبي كيف أنهم أبعد ما يكونون عن فكرة الشراء، وهذا ما يجعلني أشعر بالقلق.» سألتها في هدوء: «ماذا نسميها في رأيكِ إذن؟» قالت مرتابة: «لا أعلم، لكنَّ اسمًا جميلًا مثل «المروج المتموجة»، أو «مزرعة العسل» أو «الأشجار العالية» … أوه … أي شيء عدا «عجلة العربة».» قلت: «لكننا لم نَدعُها ﺑ «عجلة العربة» أبدًا … الناس هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم.» قالت فجأة: «روبي … هل تعتقد حقًّا أنهم سيبتاعونها؟» قلت: «بالطبع سيفعلون لماذا، إنها جميلة يا ماري، ألا تفهمين ذلك! كلُّ منزل منها يساوي خمسين ألفًا، ولسوف نتمكن من بيعها بنصف هذا المبلغ، ألا تفهمين؟ ٢٥ ألف دولار فقط.» «أعرف يا روبي، لكن هل تظن حقًّا أن أحدًا سيشتريها؟ ألن يتكرر ما حدث من قبل؟» قلت: «كلَّا بالطبع.» رغم أنه كان بوسعي أن أتذكَّر جيدًا كيف كنت واثقًا، كما هو شأني الآن، من تدفُّق الناس على جهودي الثلاثة الأولى. انتهينا من التركيبات الداخلية، وكلها من الخشب والخرسانة، وكانت أعجوبة من المواد المختلفة. والخشب الطبيعي المصبوغ. ولا أستطيع أن أصف لك قدْر المتعة التي استمددناها من العمل فيها، بدقة بالغة، مُشكِّلين الأرائك بحيث تكون كل واحدة مختلفة عن الأخرى، جاعلين المساحة الداخلية لكل منزل في صورةٍ فريدة قائمة بذاتها. أبوسعكم أن تتبينوا ماذا كان الأمر يعني لنا؟ أيمكنكم حقًّا أن تعرفوا؟ تصوروا ابنتي التي تبلغ من العمر عامين وقد وقفت بمفردها في مركز «منزل الكرة»، تقول: «ح … ل … و … ة … يا بابا ح … ل … و … ة … جدًّا.» إنها قلبي الذي يُجيب على كل الأسئلة بصوتها الصغير الرقيق، وإيمانها البريء بأن كل الأشياء يجب أن تُصنع «ح … ل … و … ة …» بقدر الإمكان، وأن كلَّ مَن لا يبذل كلَّ ما في وسعه (أو لا يستطيع) لا بد وأن يكون مجنونًا أُطلق سراحه ليفترس الأحلام البريئة للبشرية جمعاء. إنها الحلاوة ذاتها، ابنتي، التي تمتاز بخفة الروح، ولا تُشبه أيًّا من الأشياء الجميلة التي تنتمي في غالب الأمر إلى المستقبل، وتحبني وتحب كلَّ ما أفعل بسرور وإيمان بأني ساحر وعامل حالم في آنٍ واحد، أنجح في كل مهمة أضعها لنفسي، وأنتصر في كل حرب. خسارة واحدة كفيلة بأن تسحق هاتين العينين العسليتين الصغيرتين، ولهذا أرفض أن أخسر. إنها لبهجة الإنسان أن يبدأ وحيدًا ثم يفوز بامرأة جميلة مُحبة، ذات ساقين طويلتين وابتسامة متوهجة ولسان سريع، ثم يكتشف بعد لذاتٍ متقطعة لكن عنيفة معها، إنه لم يَعُد واحدًا، بل أصبح ثلاثة، وأخيرًا أربعة. مَن بوسعه أن يوقف أربعةً من أسرة أوريللي يندفعون نحو المستقبل؟ لا أرى أحدًا. تنحَّوا عن طريقنا.
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/8/
الفصل الثامن
في أول يناير، انتهينا من البناء الداخلي في آخر منزل، واستغرقت في النوم على الفور طوال أيام ثلاثة. وعندما استيقظت كنت لا أزال عاجزًا عن القيام بأي شيء، وجعلت أطوف بالمنزل طوال اثنتين وسبعين ساعة، في ردائي الذي لوَّثه العَرق، ومضى أسبوع آخر قبل أن أتمكن من التفكير في بيع المنازل. كيف أعرضها في السوق؟ كنت مرغمًا على الاعتراف بأني لم أفكِّر مطلقًا من قبل في تسويقها رغم أني لم أذكر هذا لماري. فلم يكن بوسعي أن أفكِّر في بيع شيء من صنعي قبل أن ينتهي تمامًا، رغم أن بعض المعماريين الممتازين يستطيعون العمل على أساس التكليف، فيشيدون منازل طلبها بالفعل مستر وفقًا لعقد. لم يكن في إمكاني أن أعرض وقتي للبيع، وما أعرضه فقط هو ثمرة إبداعي. كيف أعرف أني لو بِعت شيئًا قبل أن يكتمل، لزالت كل متعة في إكماله، فلسوف يصبح مِلكًا لشخص آخر بالفعل، ولا يعود بذي شأن لدي. أنا أعرف بالطبع أنه لا يتعين أن يعمل الجميع بهذا الأسلوب الفريد — العظماء حقًّا هم الذين يفعلون — ولسوء الحظ أن العمل من أجل المتعة لا الربح يعتبر في عصرنا من شأن «الهاوي» لا «المحترف». لكني أشعر أن الشرط الوحيد للحرية الفنية الكاملة — هو أن تملك ما تصنع حتى تنتهي منه — أن تكون خالقًا مطلقًا لا مجرد خادم مأجور لدى شخص آخر. هكذا كان أغلب اليونانيين الكبار (إسخيليوس وسقراط وأفلاطون وسافو)، ثم دانتي ومونتيني وشكسبير بالطبع الذي لم يكن يملك مسرحياته وحسب، بل ويملك أيضًا المسرح الذي تُقدَّم على خشبته. وفي ميدان العمارة، كان هناك فرانك لويد رايت، الذي استطاع أن يعيش من أرباح مدرسته أساسًا. إنَّ بيع الفنان لقوة عمله بدلًا من فنِّه بدعةٌ حديثة، لم تُعرف من قبل، وأعتقد أنها بدعة خاطئة. فعندما يتحكم الفنان في عمله، بداءةً وخلقًا، وتمويلًا، بل وفي السوق أيضًا، بعدئذٍ ينفسح الوقت والمجال للعب الحر أمام عقله ويديه. فلا بد وأن يخلق عربته الخاصة إذا كان يريد أن ينطلق بحرية في المستقبل الذي يحلم به. أيبدو هذا مدهشًا؟ هل يدهشكم أن تعلموا أنه خلْف القلب العاطفي العظيم للعبقري يكمُن دائمًا خبثُ رجل أعمال بالسليقة؟ حسنًا، إن الأمر كذلك؟ وفي غالبية الحالات يكون الجانب التجاري من هذه الطبيعة هو الذي يمده بالقدرة على أن يعمل وفقًا لطريقه الخاص، ويخلق شيئًا جديدًا، رغم أنني يجب أن أضيف أن هذه المقدرة تشل الجانب التجاري لديه؛ لأن أغلب الفنانين يستطيعون جمع الملايين بسهولة إذا ما اقتصروا على إنتاج التفاهات وكرَّسوا كلَّ طاقاتهم لبيعها، بدلًا من أن يواجهوا باستمرار غرائزهم التجارية العظيمة بضرورة تمويل وبيع شيء جميل لا بد وأن تغرس الرغبة في شرائه لدى الناس. قطعت ماري تأملاتي الهادئة ذات يوم وقالت لي: «روبي، اتصل مستر سليد بنا تليفونيًّا ليعرف متى تنوي تسوية الدَّيْن، ويسأل ما إذا كنت تريد أن تدفع مرة واحدة، أو على عدد من الأقساط بفائدة ستة في المائة.» وابتسمت ماري عندما رأت تأثير هذا الكلام عليَّ؛ إذ نقلني مرة واحدة إلى عالم الواقع بقيود الثَّمن التي تكبله. فكَّرت هنيهة، ثم قلت: «حسنًا، أعتقد أننا يجب أن نفكِّر في طريقةٍ نبيع بها «عجلة أوريللي»؛ فليس هناك من سبيل آخر للخلاص من ديوننا.» قالت ماري: «روبي روي أوريللي … هل تعني أنك كنت تفكِّر في عدم بيعها بعد كل هذا؟! بالطبع سنبيعها، لقد وعدتني.» كان هناك رعبٌ حقيقي في عينيها وهي تفكر لحظة. «هل تعني أنك لم تفكر في بيعها طول ذلك الوقت؟ أوه، روبي، ألا تعرف كيف ستبيعها؟ لقد وعدتني، لقد قلت إنك تعرف أننا سنتمكن من بيعها هذه المرة.» أسقطت الملابس التي كانت تقوم بكوائها على الأرض وارتمت في أحد المقاعد. ثم وضعت رأسها بين يديها وشرعت تبكي وهي تهتز قليلًا إلى الأمام وإلى الخلف بفعل نسيجها. «أوه، روبي، لقد قلت إن هذه المرة ستكون مختلفة … وإنك ستبيعها … أوه، روبي، لسوف يقتلني الأمر هذه المرة لو لم يقبلها أحد … لقد اشتغلنا جيدًا … وهي غاية في الجمال …» حاولت أن أُهدئ، من روعها: «ماري، لا تقلقي، فقط لا تقلقي … سيكون كل شيء على ما يرام.» كان أول ما فعلت أني ذهبت إلى التليفون، وأعلمت صاحب المتجر الذي تعمل فيه ماري أنها لن تعمل ابتداء من هذا الصباح. وقلت لها عندما واجهتني في رعبٍ فورَ سماعها بالنبأ: «لا تقلقي يا ماري. لقد حان الوقت لتكُفِّي عن العمل وتستريحي قليلًا.» وأضفت وأنا أبتسم: «ثم أنه لا بد لكِ من العناية بالطفلين وأنا أبتسم: «ثم إنه لا بد لك من العناية بالطفلين وبي، وسوف أحتاج إلى مساعدتك عندما أبيع المبنى. فستقومين بدور السمسار … ها أنتِ قد فزتِ بعملٍ جديد يا ماري وأنا رئيسك فيه، فلا تُجادلي.» ضحِكت فجأة بصورة هستيرية: «روبي، أنت تهذي بلا شك، إن عملي هو مصدر الدخل الذي نعيش منه، وإذا عملت معك فمن الذي سيُعطيني أجري؟ لسنا نملك سنتيمًا أحمر، ولا بد أن تعرف هذا. لسنا نملك سوى هذه المنازل، وإذا لم نبِعْها فلست أعرف ما سيحدث. كيف سنُسدِّد فواتير مشترياتنا؟ ماذا سيحدث لنا بحق الشيطان؟ لا أحد سوانا يعنيه أمرنا، أنت تعرف، وليس لنا أن نتوقَّع معونة من أحد. ليس لنا أصدقاء، أبوانا لا يعترفان بأن ما تفعله مشروع، ونحن غارقون في ديون مستر سليد حتى آذاننا. كيف سنخرج من كل هذا؟» قلت: «سنؤلف شركة.» كل ما كانت تستطيع هو أن تضحك، وكان عليَّ أن أعترف أنا نفسي أن الأمر يبدو سخيفًا. ومع ذلك كنت أعرف أن تأليف شركة هو الخطوة التالية لأننا كنا في حاجةٍ إلى أداةٍ مشروعة نستطيع بها أن نبيع المنازل، بأسلم السُّبل وأصحها، وما لم تكن هناك شركة مسجَّلة فإن الضرائب ستُلاحقنا في كل شيء، حتى ضوء النهار الذي ستعتبره من أرباح رأس المال. سألتني ماري في حيرة: «ومن أين سنجد المال الذي سنؤلف به الشركة؟» قلت: «سنستخدم القيمة الصافية للمواد. بعبارة أخرى سوف نبيع المنازل للشركة بسعر التكلفة.» «وكيف سندفع لأنفسنا؟» «بسندات من الشركة … يا إلهي يا ماري، لا تنظري إليَّ هكذا مُكذِّبة؛ فهذا الذي أقترحه يحدث كل يوم. وليس احتيالًا على الإطلاق.» «وماذا بعد الشركة؟» «نبيع المنازل.» «وماذا إذا لم نتمكن من بيعها؟» «إذن نؤجرها ونقوم بأعمال الصيانة، بصفتها مصاريف مشروعة للشركة.» عادت ماري إلى الجلوس ولكنها كانت تبتسم الآن: «يا إلهي يا روبي، هل تظن حقًّا أن هذه الخطة ستنجح؟» قلت ضاحكًا: «ولِمَ لا؟» ضحكت بدورها: «لا أعلم لِمَ لا، فقط تبدو لي رائعة لدرجةٍ يستحيل معها أن تكون حقيقية، ثم لو أن الأمر بهذه البساطة لكان الكثيرون قد قاموا بنفس الشيء من قبل. كيف توصَّلت إلى هذه الفكرة؟» وعاد الشك إلى وجهها. «كنت أقرأ قليلًا في المسائل التجارية والمالية، لكني كوَّنت الفكرة كلها أساسًا عندما سألتني عما ننوي عمله، وكيف سنبيع عجلة أوريللي. أنا واثق أن الأمر مشروع، ثم يا للجحيم يا ماري، إني أعرف أننا نستطيع تنفيذها. وإذا ما ساءت الأمور، فإن المكان يسهُل تأجيره؛ لأن ما يحيط به من مناظر تستحق المشاهدة، وسيرغب الكثيرون في الحياة به ولو بصورة مؤقتة، خاصةً الشباب الذين تزوجوا لتوهم ويحبون الأشياء الحديثة، ويرغبون في كثير من المتعة.» «لكننا على مبعدة من العمران، هل تظن أن أحدًا يمكن أن يُقيم على هذا البُعد من المدينة؟» قلت: «بالطبع. يا للشيطان، إذا أرادوا شيئًا جيدًا فعليهم أن يدفعوا ثمنه. وأنتِ تعرفين أننا لم نَضع هذا الشيء الملعون هنا عن عمد؛ فهو المكان الوحيد الذي استطعنا ابتياعه.» شرعت ماري تضحك في جنون، دون أن تتوقَّف إلا لتقول: «روبي روي، إذا نجحت خطتك هذه فأنت لا تُقدَّر بثمن.» ثم تعود إلى الضحك من جديد. وقرَّرنا أن نتناول عدة كئوس رغم أننا كنا لا نزال في وسط النهار، ولم يكد يحين موعد العشاء حتى كنا قد توهَّجنا وتورَّدت وجوهنا بالآمال الكبار في شركتنا الجديدة. بل إن ماري طالبت بلقب المدير لها، وعهِدت إليَّ برئاسة مجلس الإدارة. وكنا في حاجة إلى عضو ثالث، وقرَّرنا بعد مناقشةٍ أن نستبعد مستر سليد، وفضَّلنا عليه أحد المحامين في منصب السكرتير، رغم أنه لن يحوز أسهمًا. أخذنا الطفلين في نزهةٍ احتفاءً بما حدث، وكانت السماء كاملة الزرقة، منبسطة، مترامية، وأشعتِ الشمس الدفءَ في الغابات حيث جلسنا جميعًا فوق ملاءةٍ نشرب ونأكل ساندويتشات اللحم. هل تعرفون كيف تشعرون عندما تنجزون شيئًا لم تكونوا على ثقةٍ منه ثم تتبينون فجأة، بعد إتمامه، أنكم كنتم على صواب؟ هكذا كنت أشعر، كنت سعيدًا مسترخيًا، حتى كدت أسقط في النهر، أتشرب سِحر زوجتي ورضاء ابني الرائع وبراءة ابنتي. شعرت أني أستحقهم وأنهم جديرون بي، وأنني قد أنجزت شيئًا رائعًا سيجعل مستقبلنا كاملًا. ابتعدنا عن المنازل الخمسة بقدرِ ما نستطيع؛ لأننا لم نكن نود أن نفكر في أمرنا، وذهبنا في تلك الليلة إلى فيلمٍ ملون كبير، وأكلنا سندويتشات السوسيس وملأنا السيارة بالفضلات. وفي الصباح التالي أعدَّت ماري إفطارًا حافلًا، وكان اليوم سبتًا، وليست هناك مدرسة، فاقترحت علينا أن نقوم بنزهة، وانطلقنا بعنايةٍ في طريقٍ دائري عبر طرقات يغطيها الثلج الذائب متأملين الأرض التي بدت سوداء مبتلة. خُيل إليَّ أنني شاهدت بعض العشب الأخضر، لكن الأرض كانت لا تزال غارقة في سوادها كأنها تنكر ذلك الدفء الذي لم تألفه من قبلُ في الأيام الأخيرة من فبراير. وسرعان ما انتقلنا إلى الطريق الرئيسي، وبعد دقائق كنا نمرُّ بها، مثل بقية الناس مكتشفين شكلها، ودقَّتها المذهلة، وروعتها، وجمال «تشطيبها» الذي ينتظر العملاء، كان البعض قد أوقفوا سيارتهم إلى جانب الطريق، ووقفوا بجوارها يتفحَّصون منظرها. ورأيناهم يتبادلون الابتسامات، ونحن نمرُّ بهم ببطء، ثم ينظرون من جديد إليها. سألت في حدة: «تُرى ماذا يكون هذا؟» ابتسمت ماري: «لا بد أنها مائدة بلياردو بكراتها ذات العصي.» قال ابننا: «لست أحبها.» سألته: «لماذا؟» ابتسم وقال: «تبدو غبية.» قلت: «هل يمكنك أن تتصور أحدًا يعيش فيها؟» قالت ماري: «كأنه سيعيش في صخرةٍ ذات نوافذ.» «تُرى مَن بناها؟» قالت ماري: «لا بد أنه أحد المجانين.» وأغرق ابني في الضحك: «لا بد وأنه أحد المجانين. لا بد وأنه أحد المجانين.» قلت مبتسمًا: «حسنًا، يسرني أني لست مضطرًّا لبيعها. هل تتصورين؟ سيتعين على أحد السماسرة أن يحاول إحضار الناس ليعيشوا هنا.» قالت ماري في جدية: «كُف عن هذا الآن يا روبي. لست أظن أن ثمَّة ما يبعث على التفكُّه. فأنت هو السمسار، ولست أنا. فليس بوسعي أن أفعل سوى ما يُطلب مني، ولهذا يحسن بك أن تبدأ في وضع خطة عظيمة، ما لم تكن قد فعلت. أتعرف أن بيعها لن يكون بالأمرِ السهل حقًّا. فبوسعي أن أتخيَّل الأثر الذي ستحدِثه في ربات البيوت. وأراهِن أن الأسلوب الذي تتطلب من سكانها الحياة وفقًا له، سيُشعِر بعضهن بالإهانة؛ فالناس لم يألفوا أن يكتشفوا كيف يعيشون حياة الحضيض لأنهم يحبونها هكذا، كما تعرف، وتثور ثائرتهم إذا ما واجهوا بديلًا جميلًا. لقد شكَّلوا أنفسهم في صورةٍ تُطابق القبح الذي يحيط بهم، وأنت تريهم أنهم يجب ألا يساوموا، وتسألهم أن يعيدوا صُنع أنفسهم من جديد حتى يمكنهم أن يعيشوا بالطريقة التي يجب أن يعيشوا بها في أحد منازلك. كلَّا، لا أظن أن الأمر سيكون سهلًا يا روبي، وأتمنى ألا تنتظر أية معجزات.» أردت أن أؤكد لماري أنني لا أتوقَّع أية معجزات. والواقع أني لم أكن أتوقَّع شيئًا أبدًا، خاصةً من الناس، وإذا ما بدر منهم شيء مفيد مرةً تجدني أُصاب بالدهشة. إنني أختلف في ذلك كثيرًا عن أغلبكم. فأغلب الناس يُعلِّقون الآمالَ الكبار كأنما وُجد كل شيء لفائدتهم، وربما كانوا محقين في هذا. لكني أعرف أني أقف من الآخرين موقف المعارضة، وأنني يجب أن أتوقع منهم أن يعاملوني كعدوٍّ لهم. ركنت إلى الصمت لأني لم أرغب في إثارة فزعها بهذه المعلومات، رغم يقيني بأنها تعرفها بدورها. من الصعب أن يواصل المرء في براءةٍ طريقه المرسوم إذا اتخذ موقف المعارضة، وأعتقد أني ككل الرجال الشجعان، أحتفظ بشجاعتي عندما أتجاهل هذا الموقف، وهو أن تتقبل فكرة وجودك في المعارضة ثم تتجاهل الأمر، ولهذا تحتفظ بقدرتك على مواصلة العمل كما لو كان ثمَّة مستقبل أمامك، فتنسى أنك تعيش في خطر دائم، وتتصرف كما لو كنت وحيدًا، لكنك تتذكَّر دائمًا في خطر دائم، وهكذا ترى أنه موقف متناقض، لا تستطيع عقول كثيرة أن تواجهه، وهو بالطبع السبب الأساسي في وجودك في المعارضة. وهذا ما يسمَّى بالتوازن يا صديقي: قوتان متعارضتان في حالة توازن منسي، الكثرة تعارض القلة، بدرجةٍ من الحرية تعتمد على المقدرة على النسيان. والآن ادفعْ هذا التوازن إلى الحركة، تجدْ نفسك أمام أسلوبي في الحياة وطريقتي في البناء، وفي التفكير، تجدني أمام أسلوبي في الحياة وطريقتي في البناء، وفي التفكير، تجدني أمامك كاملًا. قلت: «ماري، لو كنت أومن بالمعجزات لكنت مُتُّ من القنوط منذ عهدٍ بعيد.» اغتصبت ماري ابتسامة مخيفة: «آمُل أن يسير كل شيء على ما يرام. وأتمنى ألا نواجه متاعب، هذه المرة فقط. لو يحاول الناس مرة واحدة ألا يدوسونا لأننا فعلنا شيئًا جميلًا. وبوسعهم جميعًا أن يعودوا بعد ذلك إلى اتهامِنا بالجنون، فلن أعبأ، لو تركونا هذه المرة.» قلت: «أنتِ تنتظرين أمرًا غير إنساني عندما تُطالبين الناس بأن يعترفوا بشيء جميل ويساندوه. إن أغلب الناس مشوَّهون، وعقولهم أيضًا بالمثل. أغلب الناس لم تأخذ أجسادهم الشكل السليم، فضلًا عن أرواحهم. أغلب الناس متوحشون. قُساة وفاسدون.» سألتني: «إذن كيف سيعجبون بمنازلنا كما تقول؟» قلت: «لو لم أفكر في هذا، ما كانت هناك جدوى من بنائها.» «أوه يا روبي، فقط قل لي مرة أخرى إن كلَّ مَن سيرى هذه المنازل سيبغي الحصول على أحدها.» «كل مَن سيرى هذه المنازل سيرغب في امتلاك أحدها سيقفز المال قفزًا من الحافظات من جراء الصدمة التي تُحدِثها رؤية شيء كامل، وسوف يُقدم الناس الملايين إيجارًا لعدة أشهر، ويضحون بثرواتهم مقابل أيام قليلة يقضونها في «عجلة أوريللي الرائعة»، لكننا لن نستغلهم. فمهما قدَّموا من مال، لن نبيع المنزل الواحد بأكثر من خمسة وعشرين ألف دولار.» انفجرت ماري ضاحكة. قلت: «إني أتكلم جادًّا.» وشارك ابني وابنتي في الضحك، وغدونا جميعًا سُعداء. قلت: «بل إني أتمنى لو نتبرَّع بالمنازل … فيما عدا أن هذا لن يكون عدلًا بالنسبة للمستر سليد.» كنت أعرف مع ذلك أني أحتاج إلى الدعاية، قبل أن أتمكَّن من بيع أي شيء لأي شخص، وما كان لي أن أتوقَّع مجيء كثيرين لرؤية منازلي — وكلما كان عددهم كبيرًا كان هذا أفضل — ما دُمت عاجزًا عن تعريف الناس بأمرها. كان عليَّ أن أجتذب كلَّ فرد في المنطقة ليلقي نظرة آملًا أن تجد قلة منهم الشجاعة لتعيش حياة جميلة وتشتري مكانًا في عجلة العربة، وتغدو سعيدة بعد ذلك إلى الأبد. وهكذا عكفت على تنظيم هذه الدعاية بأفضل السُّبل التي أعرفها. فوضعت إعلانًا في صفحة كاملة بالصحف المحلية يقول: شاورما مجانًا ليمونادة للأطفال تعالوا، تعالوا إلى المنزل المفتوح شاهدوا عجلات أوريللي الشهيرة اقضوا وقتًا ممتعًا طعام ممتاز مجانًا وأرفقت الإعلان بخريطة صغيرة تُبين موقع المنزل بالنسبة لكلٍّ من الطُّرق الثلاثة الرئيسية في المنطقة. أعددنا، ماري وأنا، لافتات صغيرة لتُعرض في كافة محلات المدن المجاورة. وصنعناها من ورق الكرتون الأسود وسطَّرنا فوقها رسالتنا في حروف حمراء. بل ذهبنا إلى الراديو وقدَّمنا حديثًا عن مشروعنا الإسكاني، ورغم أن المذيع الذي قدَّمنا إلى المستمعين بذل جهوده ليجعل العجلة تبدو كأي مشروع آخر، فإننا عندما قلنا: «إنها تتحرك»، فغر الفنيون الحاضرون أنفسهم أفواههم، ولا بد أنه وضَّح لكل المستمعين أن منازل أوريللي شيء مختلف، وتستحق نظرة في يوم أحد. ساهمنا جميعًا طوال يومين في إعداد الطعام، وأقمنا الموائد الكبيرة على طول الطريق. واشترينا اللحم من بائع جُملة كبير، وقسَّمته ماري إلى أجزاء قبل أن نُنضج تلالًا منه على نار أشعلناها في العراء. وكنا ننوي أن نُسخنها في الصباح، بعد أن نأخذها من عربة الثلاجة التي أمدَّنا بها مستر سليد. وأعددنا الليمونادة في أوانٍ ضخمة، كما أعددنا السلاطة وكل شيء. وأحضر لنا مستر سليد أيضًا أكياسًا من البن زنة الواحد عشرة أرطال. وعندما بزغ فجر الصباح، نهضنا أنا وماري والطفلان بعيون متورمة واندفعنا إلى الموقع لنُعدَّ كل شيء للهجوم المنتظر.
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/9/
الفصل التاسع
انتظرنا طول اليوم، ومائدتنا ممتلئة، وأدواتها مُعدة، والمنازل الخمسة الرائعة من خلفنا، فضلًا عن شمس ناصعة ويوم دافئ من أيام مارس لحُسن الحظ، لكن أحدًا لم يأتِ، لا أحد على الإطلاق. كان البعض يقتربون بسياراتهم، لكنهم عندما يُبطئون ويلحظون أنه لا يوجد زائرون غيرهم، يستأنفون المسير وينطلقون مُسرعين، تاركيننا لابتساماتنا، وأيدينا الممدودة، وطعامنا، ومناظرنا الجميلة. وأخيرًا انهارت ماري، باكية، وكان الطفلان دائخين حزينين، يسألان عن الناس ولماذا لم يأتِ أحد منهم. تهاوت ماري فوق الأرض، وهي تبكي بحرقة. ولم يكن ثمة ما يمكنني عمله لأرفع من معنوياتها. واهتز شكلها الرائع بشهقات تقطع الأنفاس، وأخفت وجهها المُعذب. طفقت تبكي وتبكي. لم يكن بوسعها أن تكُف، أو تشعر بشيء آخر عدا ذلك الحزن الحاد الذي يعلو ثم ينحسر، يعلو ثم ينحسر. رفضت ماري كل محاولة للحديث؛ لأنه ليس إلا تفاهة في هذه الظروف، ولم تكن حاقدة، كانت حزينة فقط، حُزنًا جسديًّا متشنجًا، وبكاء متواصلًا وشهقات متتابعة. وفي الظلام أخيرًا، بعد مضي وقت طويل، تمكَّنت من أن أجعلها تكُف لحظة لتصغي إليَّ، وقلت لها: «حسنًا يا ماري، لقد قُضي الأمر على الأقل.» وهذا هو كل ما كنت أبغيه، على أية حال.
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/10/
الفصل العاشر
يُقال أن كل دراما يجب أن تقوم على قاعدة «الفصول الثلاثة»، ولهذا فمن المفروض أن أفعل المِثل في قصتي، رغم أن الفصل الثالث، أو الجهد الأساسي، في حالتي، غير موجود. هكذا تسير الأمور في بلادي، لسوء الحظ، فيما يتعلق بكل مَن يحاول أن يصنع خيرًا. إن أول عمل (فصل) من الخير (أو الجمال) يأتي مفاجئًا للبلاد، ويواجه مقاومة ضئيلة. لكنه يلقى تجاهلًا؛ لأنه لا يُطابق ما يحيط به من قبح وتنظر البلاد العمل العظيم الثاني، ولو حقق فيه صاحبه تَقدمًا ما، فإن ثمرته تبرز إلى الوجود مُحاطةً بالخوف البالغ. ذلك أن الجمال والحق والخير شيء نادر، وهو يُقابَل للوهلة الأولى بالحيرة، وللوهلة الثانية بالخوف. قد تسألونني، ما العمل الثالث؟ الثالث هو المأساة. في بلادي، خلال القرن العشرين، تُمثل المأساة الفصل الذي لا يتحقق. إنها عملٌ يعجز الرجال العظماء — ذوو الرؤى والتناسب، عن إنجازه — وهذا هو جوهر المأساة في الأمر. وهو بالضبط ما حدث لي، وأريدكم أن تفهموا الأمر ولهذا سأوضحه لكم بعناية شديدة. كان جهدي الأول موجهًا إلى الحياة العائلية. فقد حاولت أن أجلب الجمال إلى الأفراد من موطني، بأن أُصمم ثلاثة منازل وأقدِّمها لهم كبديل للمساكن الثابتة البليدة القبيحة التي ألقى مواطنيَّ أنفسهم مرغمين على الحياة فيها. كان هذا هو العمل الأول، وكما تعلمون فإن عملي قد رُفض. وكان جهدي الثاني هو عجلة العربة، حيث قدمت تصميمًا متحركًا يُتيح الفرصة للتعاون والحياة الأفضل … وبعبارة أخرى، بديلًا متنورًا للمدن الحقيرة المتنافسة الحيوانية التي تُقيد حرية المعاصرين لي. وهذا أيضًا قوبل بالرفض بدافع الخوف. فلم يطابق جمالها القبح الذي ألفه مواطني. وكان جهدي الثالث ممكنًا لو كانت هناك استجابة للجهدين الأولين. كان يجب أن يرمي إلى إعادة تشكيل بلادي، بعد أن تتحد قدراتي مع الآخرين من أمثالي، ويكون هدفنا هو خلق بنيان يمثِّل المواقف القومية الحرة والأمنية والطيبة التي يعبِّر عنها السكان. لكن ها أنتم ترون، أن الجهدين الأول والثاني قد تحققا في وجه مقاومة من جانب المواقف القومية، لا نتيجة لها، ورغم أني تمكَّنت من الاستمرار بعض الوقت دون استجابةٍ ما، فإني لم أعُد قادرًا الآن على مزيد من الاستمرار. ليس هناك وجود للعمل الثالث، فحكايتي هي المأساة، و«العيب» ليس فيَّ وإنما في حضارتي ومجتمعي. فأنا قادر وراغب، ولكنكم لستم كذلك. أيها القارئ، هل تعرف ما اليأس؟ هل حدث لك مرة أن عشت برؤيا عظيمة كان من اليسير أن تتحقق لولا المعارضة العمياء بلا ضرورة من جانب الناس أنفسهم الذين سيستفيدون منها؟ إن أغلب الناس لا يعرفون اليأس المخيِّم الذي يشعر به رجل عظيم بسبب انتمائه لمجتمعٍ من الدرجة الثالثة يتشبث بحضارته المشوهة دومًا. إن أغلب الناس يحلمون بما كان يمكن أن يصبحوا، لا بما كان يمكن أن يُخلقوا. إن اليأس يكون أعظم في العقل العظيم الذي يجد نفسه عاجزًا عن التعبير عن أفكاره في أعمال عظيمة واثبة تحول عالم الإنسان إلى الأفضل، وتجعله أكثر جمالًا، وأكثر عطاءً. وهو يهبط أمام العيون كدرع رمادي، يصدم البصر الذي يمتد إلى بعيد بغياب الأمل، ويذكِّر العقل العظيم المتطلع بعبث الحاضر وكآبته، ويُجيب على نداء الرغبات الجديدة بذكرى المحاولات الفاشلة السابقة، ويغطي كل إيمان بستار شفاف من العقم. إنه يقترح الانتظار، عندما يرغب العقل في الاستمرار، ويتساءل كيف عندما يواجه بأفكار جديدة. إنه شبح يطارد الأحياء، ويسخر من كل محاولة للتحسين، ويوصي بأن الأشياء جميعًا واحدة في كل زمان ولا يمكن تحملها. إنَّ قاطنه الوحيد، وصلاته الدائمة، ودستوره هو: لا فائدة! ليس هناك شيء اسمه النجاح الدائم. اسأل أي إنسان كافح من أجل الحرية. سيذكر لك أنه تواطأ مع الطغيان، وسواء نجح أو خسر، عاد أو مات؛ فالنهاية واحدة دائمًا، أن الأشرار قصيري النظر بيننا يَصِلون إلى السلطة، بينما يحتجُّ الأخيارُ في سكون، بينهم وبين أنفسهم، على هذا العدوان الصارخ. ويُحلِّق العالم في الفضاء، دون أن يعير اهتمامًا للفوضى الضاربة أطنابها على سطحه الخارجي، وتُواصل الشمس إشراقها، جاهلة متجاهلة، ويبتسم الإله في خبث، أو لا يفعل على الإطلاق. شعرنا، ماري وأنا، بهذا اليأس بعد مهزلة عجلة العربة. فقد شهدناها تتحول إلى ساحة ملاهٍ بعجلاتها الدوارة وغيرها من أعاجيب اللهو الشنعاء، بعد أن استولى مستر سليد عليها كتعويض جزئي عن ديونه، وعندما انتهى «تجديدها»، أصبحت تمتلئ كل ليلة بالباحثين عن المتعة الذين جاءوا بسياراتهم من شيكاغو، وسرعان ما بدأت تدر مالًا لمالكها الجديد.
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/53162025/
العدو
جيمس دروت
«وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يَملكون للأسف الشجاعةَ لمواجَهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يَتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل.»هل فكَّرتَ يومًا في مدى توافُق المباني التي نعيش فيها، مع الطبيعة والحالة النفسية والرُّوحية؟ أم إن نظرتَك إليها لم تتجاوز الخرسانات التي يجب أن تَتحمَّل الزلازل والأعاصير، وأن تكون مُسلَّحة بشكلٍ يكفل لها الصمودَ قرنًا من الزمن، حتى إن كانت تخلو من كل جميل؟ العمارةُ إبداعٌ وفن وفلسفة وخيال، هكذا رآها المعماريون الكبار؛ ومن ثَم جاءت أعمالهم آيةً من الجمال، تعكس رُوحَ الفنَّان الذي صمَّمها، وتؤدِّي الوظيفةَ التي يجب أن يكون عليها السكن، وهو سكنٌ للرُّوح والنفس، وليس للجسد فقط، وهذا ما أدركه «روبي» في طفولته، وظلَّ حُلمَه الذي يراوده طَوال حياته؛ فقد حلَم بتصميمِ منزلٍ يعكس خيالَه ورُوحه، ينبض بالجمال، ويتحرَّك بخفةٍ وانسيابية، ولكن التوحُّش المادي لا يسمح لهذه الأحلام بأن تنمو!
https://www.hindawi.org/books/53162025/11/
الفصل الحادي عشر
لما كنت الآن فقيرًا تمامًا، وعاجزًا عن التعبير عن المواهب الجديدة التي أمتلكها، ولما كنت عدوًّا لمجتمعي الذي يحيط بي، لا أستطيع الانتهاء قبل أن أُوجِّه كلمة للشباب، أستحثهم على التغيير؛ فأنا أحاول، شأن كل الفنانين العظماء في كل العصور، أن أُلقِّن الطبيعة البشرية كي تتجاوز نفسها في المرة التالية، ولا يبدو أبدًا أنها تتلقى الرسالة. على أية حال، فإن رسالتي تختلف قليلًا، فأنا لا أتجه بحديثي إلا لمن يملكون حِسًّا فنيًّا. أما الباقون فأنا راغب في أن أدعهم لحياة الخنازير التي تبدو أنهم يستمتعون بها للغاية. إني أومن بأن ميل الشباب ذي الحِس الفني إلى المبالغة في ذوق مواطنيه، هو الذي يجعله سريعًا عاجزًا عن التعبير عن ذوقه الأسمى، وما من سبيل لتجنُّب هذا الموقف إلا بمعاملة الآخرين على أنهم «مادة خام»، مستعدة لكلِّ ما يشاء أن يفعله بها — ولا يعاملهم أبدًا، مطلقًا، على أنهم جمهور ذكي مشارك يستجيب. ليس بوسعي أن أؤكد هذا أكثر من ذلك — أعني المادة الخام، النافرة، العقيمة، الخامدة، المجردة من كل إلهام، المنحطة، التي تعيش حياة الخنازير، ولا تعني شيئًا بمفردها، والتي تميل بالطبيعة إلى النزوات والفوضى، والتي يجب أن يُوجه ذوقها بواسطة كل إنسان حاذق (كما يُروض الراكب الجواد) وهو مَن يعتبر مجرد وجوده بينها معجزة. يجب أن يُرغم الدهماء على أن يفسحوا المجال ليولد بينهم كل ما هو من أعمال الخيال أو شيء صحيح أو شريف أو جميل؛ فكل الأعمال الطيبة تحدث بالرغم من نواياهم الشرهة. ولدي — أنت يا من ستقوم بأشياء مُلهمة عظيمة — تَطلَّع حولك إلى القبح، والوحشية، المجتمع الحقيقي الذي ستُبدله أنت بغيره، واعترف لنفسك بأن مواطنيك هم الذين صنعوا كل هذا، القبيح والمشوه والذي يعج بالوحشية، كل هذا تآمر رفاقك أنفسهم على صنعه بوعي، ألقِ نظرةً فاحصة، يا بني، واعرف معاصريك من أعمالهم؛ لأنهم لا يستطيعون أفضلَ منها، وهم ينظرون ويفكرون ويشعرون ويتصرفون في الواقع بهذه الطريقة. إنهم يؤمنون بما هم عليه. والآن، وقد اكتشفت ما أنت بسبيل مواجهته، احزم أمرك على أن تُعامل كل مواطنيك كما هم — أعداء لك — فتتآمر عليهم وعلى رغباتهم دائمًا، وتلحق الهزيمة بأهدافهم، وتناوئهم. عليك أن تدرك أن العمل الشريف أو الجميل الذي ستقوم به سيكون ضدهم وضد أعمالهم. افعلْ هذا عن عمد، وكن متأهبًا لانتقامهم. لا تنتظر أي عون من رفاقك، أو استجابة، أو تصفيق. لا تنتظر من البشر جميعًا سوى الأكاذيب والقبح والوحشية والعاطفية الجوفاء، ولن يخيب أملك لو فعلت سوى مرة أو مرتين طول حياتك. لا تجعل عينك على الآخرين، انظر فقط داخلك. ولا تسأل أبدًا، أو ترغب، أو تتوق، وأساسًا حاوِل ألا تحتاج إلى شيء؛ لأنك لو احتجت شيئًا، فسوف يحبسونه عنك فرحين بهدف العمل على تدميرك. أقول لكل مَن يعنيه أمر الجمال أو الحق أو حتى العمل المتقن لا بد وأن تخوض حرب عصابات ضد المجتمع الحديث، أو تتخلى فورًا عن اهتماماتك، فإذا ما انحزت إلى قضية الجمال في مجتمع مُكرَّس لإنتاج القبح بالجملة، أو إذا ذكرت الحقيقة في دولة الطغيان التي لا يمكن أن يحتملها سكانها إلا بعد أن يُزيِّفوا ما يحدث حولهم، أو لو حاولت ببساطة أن تقوم بأي عمل طبقًا لأفضل قدراتك — فسرعان ما يجعلونك طريدًا. وإذن عليك أن تتوقَّع منذ البداية ما ستواجَه به من رفض، واجعل الحربَ التي تخوضها من أجل أن تحيا بشروطك، حربَ كرٍّ وفرٍّ، اضرب ثم اجرِ، حاول أن تعزلهم قبل أن يتمكنوا من تشريدك، وحاول أن تترك بعض أعمال جيدة من خلفك عندما يضطرونك إلى الفرار. وعلى كلٍّ، فالتاريخ يشهد بأن الأعمال العظيمة الدقيقة التي تركتها قلة من العبقريات تمكنت سلالتنا من إنتاجها، كانت دائمًا استثناءات من العمل العادي للإنسان — ولن يكون عصرنا مختلفًا. فهذا العصر لن يتذكَّره أحد في المستقبل إلا بتلك الأشياء القليلة البارزة التي حاول بكل جهده أن يهزمها ويتجاهلها ويدمرها. حسنًا، لقد انتهيت، وانتهت رسالتي. والآن: لتذهبوا جميعًا إلى الجحيم.
جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م. جيمس دروت: روائي وكاتب مسرحي أمريكي. وُلِد عام ١٩٣١م، وخدم في الجيش الأمريكي في الفترة من ١٩٥٢م حتى ١٩٥٤م. عمل محرِّرًا بإحدى المجلات بمدينة نيويورك. من أبرز أعماله المسرحية والروائية: مسرحية «الزفاف» (١٩٥٣م)، ورواية «العدو» (١٩٦٤م). تُوفِّي عام ١٩٨٣م.
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/0.1/
الإهداء
إلى روح أستاذي ومعلمي الأستاذ الدكتور محمد حسيني أبو سعدة، أهدي إليك هذا الكتاب حبًّا وتقديرًا ووفاءً.
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/0.2/
المقدمة
عندما وضع أرسطو تصنيفه للعلوم ميَّز بين ما كان علمًا نظريًّا غايته المعرفة؛ كالفيزيقا والرياضيات والفلسفة الأولى، وما كان منها عمليًّا غايته السلوك؛ مثل الأخلاق والسياسة، وما كان منها إنتاجيًّا غايته إنتاج شيء جميل أو مفيد؛ مثل فن الشعر. أما المنطق فلم يذكره ضمن هذه العلوم. ولعل السبب في عدم اعتباره المنطق علمًا من العلوم هو أن موضوعه أوسع من أي منها؛ لأنه يدرس التفكير الذي يستخدم فيها جميعًا، بل يدرس أيضًا التفكير الذي لا يدخل نطاق العلم؛ كالتفكير الشائع عند جمهور الناس والذي يستخدم في الخطابة. كذلك يقدم المنطق القواعد التي تجنب الإنسان الخطأ وترشده إلى الصواب. ومن هنا فقد عُد المنطق عند فيلسوفنا مقدمة للعلوم تساعد على التفكير السليم. ويقال عن أرسطو: إنه واضع علم المنطق. ولهذا القول ما يبرره، ولكن هذا ليس معناه أن فيلسوفنا درس المنطق في ذاته بوصفه علمًا مستقلًّا، وإنما استعمله فقط، وبحث فيه، كأداة للبرهنة في بقية العلوم، ولهذا كان اتجاهه الحقيقي في بحوثه المنطقية يميل إلى بيان طرق البرهنة. أما المنطق كما يجب أن يكون، أي بوصفه علمًا مستقلًّا بذاته، فلم يبحث فيه، وذلك لأن الجزء الرئيسي من منطقه يتعلق بالأنالوطيقا، أي بالبرهنة بنوعيها؛ سواء فيما يتعلق بالقياس، وفيما يتعلق بالبرهان. إن مشاكل المنطق الأرسطي، ترجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وإنه ليس صحيحًا ما يذكره أرسطو عن نفسه في آخر كتاب «الأغاليط» من أنه واضع المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان. إلا أن يكون معنى ذلك أنه أول من رتب مباحث المنطق الصوري وصاغها على هذه الصورة النهائية التي وصلت إلينا، وكانت مشكلاته قد تفتحت في وقت مبكر قبل أرسطو. ومن هذا المنطلق فقد حاولنا في هذا الكتاب أن نتلاشى عيبًا خطيرًا يكاد يميز غالبية الكتب التي وضعت في المنطق الصوري باللغة العربية أو بغيرها من اللغات الأوروبية. ذلك أن كثيرين ممن كتبوا في المنطق الصوري القديم يصدرون في دراساتهم له — صراحة أو ضمنًا — عن فكرة خاطئة عقلًا ونقلًا، خلاصتها، أن أرسطو هو الذي خَلق من العدم هذا العلم، وهو الذي صاغه الصياغة النهائية التي بدا معها في نظر الفيلسوف الألماني «كانط» في القرن الثامن عشر، وقد قيلت فيه الكلمة النهائية منذ أيام أرسطو نفسه. والدليل على هذا أنهم يبدءون دراستهم للمنطق الصوري من أرسطو، متجاهلين دور المفكرين الشرقيين وبخاصة الهنود، ومتناسين أهميتهم في الإعداد لقيام علم المنطق فيما بعد. وفي النهاية أتمنى أن يكون هذا الكتاب قد حقق ما كان يهدف إلى تحقيقه؛ حتى يكون ثمرة من ثمار الفكر المفيد في الدراسات التي تهتم بجذور المنطق اليوناني في المنطق الهندي. والله ولي التوفيق.
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/1.1/
المنطق، مفهومه وفائدته وعلاقته بالعلوم الأخرى
وبهذه التفرقة أعطوا الكلمة مدلولها الأصلي والاصطلاحي معًا، وهي تفرقة ترجع بدورها إلى أرسطو نفسه. والآن وبعد هذه الإشارة السريعة للأصل الذي اشتق منه لفظ «منطق»، كيف يمكننا تعريف هذا العلم؟ فإنه لمن الصعب تمامًا إعطاء تعريف دقيق ومختصر للمنطق يكون موضع إجماع الفلاسفة في القديم وفي الحديث، والسبب في ذلك هو أن معاني وتعريفات المنطق قد تعددت على نحو يسمح لنا بالقول بأنه لا يوجد فرع من فروع المعرفة الإنسانية قاطبة قد تعددت معانيه كما تعددت معاني وتعريفات المنطق. ألم يستخدم لفظ منطق ليدل — في بعض الأحيان — على كل ما تعنيه الفلسفة، بل على كل ما تعنيه المعرفة الإنسانية قاطبة؟ ألم يطلِق هيجل لفظ «منطق» على كل المعارف التي تمتد من دراسة الميتافيزيقا حتى الإستاطيقا (علم الجمال أو منطق الجمال كما يحلو لشيخ الفلاسفة الألمان أن يسميه)، مارِّين بعلم النفس، ونظرية المعرفة والرياضيات … إلخ؟ والسؤال الآن — وبعد هذا التحديد الأولي لميدان دراستنا — هو: كيف نُعرِّف المنطق؟ يبحث علم المنطق في قوانين الفكر الإنساني، والمبادئ العامة للتفكير الصحيح ووضع القواعد التي بفضلها نتجنب الوقوع في الأخطاء. يكتشف علم المنطق أن الإنسان في تفكيره يخضع لقوانين أساسية لا يستطيع أن يثبت فيها، كما أنه لا يستطيع أن يفكر بدونها، وقد نادى أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) بثلاثة قوانين أساسية للفكر الإنساني: قانون الذاتية أو الهوية، وقانون عدم التناقض، وقانون الثالث المرفوع. قانون الهوية: قانون الهوية من البساطة بحيث قد يبدو تافهًا لا يستحق الإشارة إليه؛ إذ ينطوي على أن شيئًا ما أو فكرة ما هي ذاتها، ولن تكون شيئًا أو فكرة غيرها، كقولي: الباب هو الباب، شجرة الأرز هي شجرة الأرز؛ حين نتحدث عن باب أو شجرة ما، إنما تعني الحديث عنها، ولم نتحدث عنها ونقصد في نفس الوقت الحديث عن شيء آخر. ولعل مثلًا لمبدأ الهوية بوضوح أكثر من المثالين السابقين أن نقول: الحرب الباردة حرب، أو الطالب المهمل طالب؛ أن وسائل الدعاية التي تنشرها دولة ما على عدوة لها حيث تقصد إلى التشهير بها أو الضغط عليها أو عزلها … إلخ ما زالت تسمى حربًا وإن لم تنطو على حرب فعلية تُستخدم فيها وسائل تدمير المدن وفناء أهلها، ويعبر عن قانون الهوية بقولنا: إن «أ هي أ»، أو: القضية الصادقة تظل صادقة دائمًا … إلخ. تلك قوانين الفكر الأساسية التي يرى أرسطو أن الإنسان يسير في تفكيره على هديها. يمكن أن ترجع هذه القوانين الثلاثة إلى مبدأ الاتساق؛ أي إن المنطق يرشدنا إلى أن التفكير الصحيح هو ما كانت بعض أجزائه متسقة مع بعضها الآخر؛ بحيث لا ينقض بعضها بعضًا أو لا يأتي بعضها منكِرًا لبعضها الآخر. كما يدرس المنطق قوانين الفكر الأساسية، يدرس كذلك المبادئ العامة والقواعد الأساسية التي يفضلها تفكيرًا صحيحًا، وبفضلها نكشف الأخطاء ومواطن الزلل في التفكير. إذ بدون تلك المبادئ والقواعد لا نستطيع أن نميز التفكير السليم والتفكير الخطأ. قد يقال: إن كل إنسان يخضع في تفكيره لقوانين الفكر الإنساني الثلاثة بالفطرة، وبدون تعلم المنطق. أي لسنا محتاجين لتعلم المنطق لكي ندرك أننا نخضع في تفكيرنا لقانون عدم التناقض مثلًا. وقد يقال: إننا نستطيع أن نقوم باستدلالات صحيحة دون معرفة القواعد والمبادئ التي يوصي بها علم المنطق، بل قد يقال: إن بعض الدارسين للمنطق لا يفكرون دائمًا تفكيرًا منطقيًّا، وإن كثيرًا من الجاهلين بقواعد المنطق يفكرون تفكيرًا سليمًا. قد يكون هذا يُقال، ولكن علم المنطق يكشف لنا أنه كثيرًا ما نظن أن تفكيرنا متسق. بينما هو ليس كذلك، وأن تطبيق مبادئه وقواعده يؤكد لنا سلامة تفكيرنا، كما يكشف لنا أسباب الوقوع في الخطأ، من يخطئ في استدلاله ويعرف سبب خطئه خير ممن يخطئ ولا يعرف سبب خطئه. وإذا نظرنا للمنطق، فإننا نجده — كغيره من العلوم — يرتبط بعلاقات وطيدة بغيره من المعارف الإنسانية الأخرى. وقد يحسن بنا ونحن بصدد التمهيد لدراسة موضوعات المنطق الصوري الأساسية أن نتعرض بشيء من الإيجاز للصلات التي تربط المنطق ببقية العلوم المختلفة. وبما أن المنطق يهتم بدراسة العمليات العقلية، فإنه من الطبيعي أن تكون هناك علاقة معينة تربطه بعلم النفس الذي يهتم هو الآخر بدراسة هذه العمليات. ومع التسليم بهذه الحقيقة، يهمنا أن نسجل منذ البداية أوجه الاختلاف التي تميز كلًّا من العلمين: وهنا يتساءل الدكتور حسن عبد الحميد: ما مغزى الترتيب الذي وصلتنا عليه مؤلفات أرسطو المنطقية؟ منطق التصورات أو نظرية التصور: ويختص بمبحث الأسماء والألفاظ المعبرة عن التصورات التي يستخلصها عقلنا من إدراكه لأشياء مفردة. وبعبارة أخرى يبحث الحدود بدون اعتبار العلاقات التي قد تكون بينها. وهذا المبحث يؤدي إلى التعريف. منطق التصديق أو نظرية الحكم: وهو يبحث في القضايا المعبرة عن الأحكام التي تتكون بإدراك عقلنا لعلاقات بين تصورين أو حدين، أو بعبارة أخرى يبحث في ارتباط فكرة بأخرى في صورة الحكم. التصور: وهو حصول صورة شيء ما في الذهن، أو تمثله دون أن يقترن هذا التمثل بحكم. ولذلك فهو الوحدة العقلية الأولى، وقد يكون التصور بديهيًّا واضحًا، يُدرَك إدراكًا مباشرًا بدون توضيح أو تعريف، وقد يكون نظريًّا تتوصل إليه بالحد. التصديق: وهو ربط العقل بين تصورين، أو حكمه بأن أحدهما هو الآخر، أو ليس هو الآخر، وحكمه أيضًا هذا الحكم، أعني بمطابقة ما في الذهن للواقع الخارجي. وقد يكون بديهيًّا، يصدق به العقل بغريزته، بدون شهادة الحس وبدون حجة، تصديقًا دائمًا، وقد يكون نظريًّا نتوصل إليه بالحجة، أعني باستقراء أو بتمثيل أو بقياس. أما نحن فإننا سوف نبدأ بدراسة الحدود، ثم القضايا، وننتهي بعرض الاستدلال مباشرًا أو غير مباشر.
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/1.2/
منطق الحدود
الحد لفظ أو عدة ألفاظ التي ينطق بها أو يفكر فيها وتدل على شيء، أو على نوع من الأشياء هي موضوع الحديث أو التفكير في سياق معين، فإذا كنا نتحدث عن الأنهار مثلًا لنميزها عن البحار أو الجبال كان «نهر» حدًّا، وإذا كنا نتحدث عن النهر الذي يشق مصر من جنوبها إلى شمالها كان «نهر النيل» حدًّا. «نهر»، «جبل»، «كلية»، «كلية الآداب»، «جامعة»، «جامعة الإسكندرية» … إلخ، نسمي كلًّا منها حدًّا، ويدرس المنطق أنواع الحدود فيصنفها أصنافا مختلفة على أسس أربعة: وهذه هي أهم أنواع الحدود، وإن كانت هناك أنواع أخرى يذكرها بعض المناطقة، فإن هذه الأنواع الأربعة تعد أهمها. يلعب التعريف دورًا هامًّا في حياتنا الاجتماعية والعلمية والسياسية، وغير ذلك من أوجه النشاط الإنساني. فكثيرًا ما ينشأ الجدل والخلاف بين شخصين؛ لأن كليهما يفهم معنى لفظ معين بطريقة مختلفة، وكان من الممكن حسم هذا الخلاف لو كان معنى هذا اللفظ واحدًا عند الاثنين، وكثيرًا ما يكون غموض الألفاظ المستخدمة في القرارات والمعاهدات السياسية مصدر خلاف بين الدول وفي المحافل السياسية. ويرجع هذا إلى أن ألفاظ اللغة التي نستخدمها ليست على درجة كافية من الوضوح بحيث يمكن أن تزيل ما قد يحدث من لبس وغموض. إزالة اللبس في المعاني. توضيح معاني الحدود. ازدياد حصيلة الفرد اللغوية. كان الهدف عند معظم الفلاسفة والمناطقة منذ أقدم العصور هو تعريف الشيء وليس اللفظ، إلا أن بعض المناطقة المحدثين يرفضون ذلك ويقصرون مهمة التعريف على الألفاظ وحدها. وقد ترتب على ذلك اختلاف الطرق التي سلكها كل فريق منهما لبلوغ هدفه، ولنقف الآن قليلًا عند كل نوع من هذين النوعين: إذا كان التعريف الشيئي يهدف لتحديد جوهر الشيء المعرف، فإن التعريف الاسمي لا يهمه إلا أن يستبدل اللفظ المراد تعريفه بلفظ آخر يساويه استعمالًا. وإذا كان غالبية أنصار التعريف الشيئي هم من بين المناطقة التقليديين، فإن غالبية الآخذين بالتعريف الشيئي — كما رأينا — يحصر نفسه في نطاق الألفاظ التي تشير إلى مسميات في عالم الواقع؛ مثل: «إنسان، وحيوان … إلخ». أما التعريف الاسمي فإنه يمتد ليشمل كل كلمة في اللغة، لا فرق بين أسماء الأشياء وأحرف الجر والأسماء الموصولة والصفات وما شئت من أنواع الكلمات، ما دام التعريف هو وضع صيغة لفظية مكان صيغة لفظية تساويها استعمالًا. وإذا كان التعريف عند الآخذين بالتعريف الاسمي هو دائمًا تعريف للألفاظ أو الرموز، فإن السؤال الخاص بما إذا كان التعريف صحيحًا أم خاطئًا هو السؤال بغير معنى. والأقرب إلى العقول هو أن نحكم على التعريف في هذه الحالة بأنه مناسب أو غير مناسب، متسق أو غير متسق مع بقية التعريفات الأخرى التي ترد معه في النسق المعين، وباختصار، هل التعريف يحقق الغرض المنشود منه أم لا؟ وفي هذه الحالة الأخيرة يتم استبداله بتعريف آخر. والقواميس أو المعاجم اللغوية عبارة عن سجلات لمعاني الألفاظ المختلفة كما حُددت عبر الأزمنة المتعاقبة. وكثيرًا ما يستشهد أصحاب المعاجم اللغوية الجديدة بفقرات مختلفة لكبار المفكرين والكتاب السابقين لكي يدللوا بها على اختلاف معنى اللفظ المعين عند كاتبين أو أكثر من أبناء الجيل الواحد أو من أبناء الأجيال المتعاقبة. فالقواميس اللغوية تنقل لنا الطريقة التي يستخدم بها لفظ معين عند جماعة معينة في زمان معين. فأنت إذا كنت تسمع لأول مرة المثل الذي يقول: «أحصرم وسوء كيلة؟» وكنت لا تعرف معنى اللفظ «حصرم»، ثم أخذت تبحث عن معناه في أحد معاجم اللغة العربية لقيل لك: إن الحصرم هو أول العِنب أو تباشير العنب. وإن كنت تسمع كذلك لأول مرة هذا البيت من الشعر العربي الذي يقول: وفي نفس الشيء يمكن أن يقال عن تعريف جاليليو «للحركة النمطية» في علم الطبيعة مثلًا، فقد عرفها تعريفًا اشتراطيًّا حينما قال: «إنها الحركة التي تكون فيها المسافات، التي يقطعها الجسيم المتحرك في لحظات زمانية واحدة، متساوية.»
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/1.3/
منطق القضايا
يدرس المنطق كذلك الصدق والكذب، حيث إنه لا يوجد صدق أو كذب في الحد، مثلًا: محمد أو شجرة، كلمات لا صدق أو كذب فيها، ولكن يجب أن نضع «شجرة» في عبارة، وحينئذٍ نستطيع أن نحكم بصدقها أو كذبها، أي لا يوجد حد نسميه صادقًا أو كاذبًا، إن الصدق والكذب يخصان القضايا لا الحدود، وبهذا ننتقل إلى القضايا. والإنسان لا يستخدم الحدود منعزلة مستقلة ولا يعبر عن تفكيره في صورة حد واحد، وإنما في صورة حدود يرتبط بعضها ببعض. وتتألف القضية من عنصرين في بعض اللغات ومن ثلاثة في لغات أخرى، ونسمي كل عنصر من هذين بحد، وإذن فالقضية تتألف من حدين أو تتألف في لغات من حدين مضاف إليهما ما يسمى بالرابطة، والرابطة هي فصل الكينونة القائم بين الحدين ويربط بينهما، ويسمى أحد الحدين موضوعًا، ويسمى الحد الآخر محمولًا. يصنف المنطق القضايا أصنافًا على أسس مختلفة. ونأتي الآن إلى تفصيل الحديث عن هذا النوع من القضايا، ولنبدأ ﺑ: التقسيم الرباعي للقضية الحملية. والتقسيم الرباعي للقضية الحملية يأخذ بعين الاعتبار مبدأي الكم والكيف معًا. وبناء على هذا تكون لدينا القضايا الأربع الآتية، علمًا بأن (أ) يرمز للموضوع و(ب) يرمز لحد المحمول. ومن أمثلة هذه القضية أن تقول: «إما أن السماء ممطرة أو الجو بارد». البديل الأول عبرنا عنه في القضية التي تقول: «السماء ممطرة»، والبديل الثاني عبرنا عنه في القضية التي تقول: «الجو بارد». والقضية الموجبة هي تلك التي يسند المحمول فيها إلى الموضوع إثباتًا، والقضية السالبة هي التي يسند المحمول فيها إلى الموضوع سلبًا أو نفيًا. مثال القضية الموجبة: الإنسان قادر على تعلم الرياضيات. مثال القضية السالبة: لا إنسان يستطيع الصعود إلى القمر بدون مركبة فضائية. فالقضية الكلية هي التي يسند المحمول فيها إلى كل أفراد الموضوع. مثال القضية الكلية: «كل إنسان ماضٍ إلى زوال»، «إنسان» موضوع، و«ماضٍ إلى زوال» محمول، والقضية كلية لأن الموضوع مسبوق بكلمة «كل» (تسمى سور القضية)، ومن الكلمات المرادفة لها «جميع»، «كافة»، «عامة». والقضية الجزئية هي القضية التي يسند المحمول فيها إلى بعض أفراد الموضوع فقط، ونلاحظ أنه في القضية الجزئية نضع كلمات «بعض» أو «قليل من» أو «أكثر من» أو «أغلب» أو «معظم» سابقة على الموضوع في القضية الجزئية. هذه الكلمات أمثلة على سور القضية الجزئية. والقضية التحليلية هي القضية التي يكون محمولها تكرارًا لموضوعها. إنها القضية التي يشتق محمولها من مفهوم موضوعها، وبهذا المعنى تكون القضية التحليلية سابقة على التجربة ولا تتعلق بها. مثال ذلك: القضية التي تقول: إن «٥ = ٢ + ٣» أو «الأرملة امرأة مات زوجها». فالمحمول في القضيتين تحليل أو تكرار للموضوع، ولا يضيف إليه شيئًا جديدًا ليس من طبيعته أو خارجًا عنه. وبهذا المعنى تكون القضايا التحليلية هي قضايا المنطق والرياضيات. والصدق في القضايا التحليلية هو صدق اتساق، اتساق الموضوع مع المحمول. فالمحمول «٢ + ٣» في المثال الأول، و«امرأة مات زوجها» في المثال الثاني عند تحليلهما تجدهما متسقَين تمامًا مع الموضوع في كل قضية، ويكرران بطريقة لا تضيف إليه أي جديد. ﻓ «٣ + ٢» هي تكرار دقيق للعدد «٥»، كما أن «امرأة مات زوجها» تكرار دقيق أيضًا للفظ «أرملة». وعلى هذا تكون مثل هذه القضايا صادقة صدقًا ضروريًّا.
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/1.4/
منطق الاستدلالات المباشرة
قبل بيان هذه الأحكام، نريد أن نعرف أولًا ماهي القضايا المتقابلة. تقابل التناقض يكون بين ك م، ج س، أو بين ج م، ك س، ومن ثم فالقضيتان المتناقضتان هما المختلفتان في الكم والكيف معًا، مثال: «كل إنسان فانٍ» «ليس بعض الناس فانين» قضيتان متناقضتان. حكم التناقض: القضيتان المتناقضتان لا تصدقان معًا، ولا تكذبان معًا، أي إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى، وإذا كذبت إحداهما صدقت الأخرى، فإذا افترضنا أن «كل إنسان فانٍ» صادقة لزم أن تكون «كل إنسان خالد» لزم أن تكون «بعض الناس ليسوا خالدين» صادقة. حكم التضاد: القضيتان المتضادتان لا تصدقان معًا، لكن قد تكذبان معًا، أي إذا صدقت إحداهما، لزم أن تكذب الأخرى، لكن إذا كذبت إحداهما، فإن القضية المقابلة لها قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة، ونسميها غير معروفة. حكم التداخل: إذا صدقت القضية الكلية، صدقت القضية الجزئية المتداخلة معها. إذا كذبت القضية الجزئية، كذبت الكلية المتداخلة معها. العكس غير صحيح: أي إذا كذبت الكلية أو إذا صدقت الجزئية فإن القضية المتداخلة معهما غير معروفة؛ أي قد تصدق أو تكذب؛ إذا صدقت «كل إنسان فانٍ» صدقت «بعض الناس فانون»، لكن إذا كانت «كل الناس يمشون على أربع» كاذبة فإن «بعض الناس يمشون على أربع» غير معروفة. وإذا كانت «بعض الناس خالدون» كاذبة، كذب بالتالي «كل الناس خالدون». لكن إذا كانت «بعض الناس متعلمون» صادقة فإن «كل الناس متعلمون» غير معروفة. (يمكن للطالب أن يطبق أحكام التداخل في القضية السالبة بنفسه لكي يتأكد من فهم القاعدة). حكم الدخول تحت التضاد: القضيتان الداخلتان تحت التضاد لا تكذبان معًا، لكن قد تصدقان معًا، ومعنى ذلك أنه إذا كذبت إحداهما، لزم أن تكون الأخرى صادقة، لكن إذا صدقت إحداهما، فالثانية غير معروفة، أي قد تصدق وقد تكاد، فإذا قلنا: إن «بعض الناس علماء» صادقة، فإن «ليس الناس علماء» (ج س) غير معروفة. أن يتحدا في الكيف، أي يكون كيف القضية المعكوسة هو نفس كيف القضية الأصلية. ألا يُستغرق حدٌّ في المعكوسة ما لم يكن من قبل مستغرقًا في الأصل. الكلية الموجبة تُعكس إلى جزئية موجبة. الكلية السالبة تُعكس إلى كلية سالبة. الجزئية الموجبة تعكس إلى جزئية موجبة. الجزئية السالبة لا عكس لها. فإذا قلنا مثلًا: إن «كل إنسان قادر على التعلم» وافترضنا أنها صادقة فإن عكسها هو «بعض القادرين على التعلم آدميون»، هنا غيَّرنا مواضع الموضوع والمحمول في القضيتين الأصل والمعكوسة، كذلك نجد أن الجزئية الموجبة لا تستغرق حديها، ومن ثم فلا يوجد حد مستغرق فيها، وليس مستغرقًا في الأصل. وإذا قلنا: «لا إنسان خالد» وافترضنا صدقها، فإن عكسها هو «لا خالد إنسان»، هنا غيرنا موضع الموضوع والمحمول، كما نجد أن حدي القضية المعكوسة مستغرقان؛ لأن القضية كلية سالبة، وهذان الحدان مستغرقان في الأصل لأنهما حدَّا قضية كلية سالبة أيضًا. يمكنك أيها الطالب أن تختبر نفسك في حالة القضية الموجبة الجزئية وتعكسها وتطبق الشروط السابقة. نجد إذن أن الكلية الموجبة تصير كلية سالبة: «كل إنسان فانٍ» قضية ك م، وأن «لا إنسان هو لا فانٍ» قضية ك س (لاحظ أننا اعتبرنا «لا فانٍ» حدًّا واحدًا وموجبًا لا سالبًا). نجد أيضًا أن الجزئية الموجبة تصير جزئية سالبة: «بعض الطلاب أذكياء» حين نجري عليها عملية نقيض المحمول تصبح: «ليس بعض الطلبة لا أذكياء». نجد ثالثًا أن الكلية السالبة ينقض محمولها فتصبح كلية موجبة، مثال: «لا كاذب موضع ثقة» تصبح: «كل كاذب هو لا موضع ثقه»، نجد أخيرًا أن الجزئية السالبة تصبح جزئية موجبة. الكلية الموجبة تصبح كلية سالبة. الكلية السالبة تصبح كلية موجبة. الجزئية الموجبة تصبح جزئية سالبة. الجزئية السالبة تصبح جزئية موجبة. وهو طريقة من طرق الاستدلال المباشر ننتقل فيه من قضية إلى قضية أخرى بحيث يكون موضوع القضية الجديدة (نقيض العكس) هو نفس المحمول في القضية الأصلية، مع بقاء الصدق والكذب. فلو كان لدينا القضية: أمثلة: مثال آخر: مثال آخر: هو استنتاج قضية من قضية أخرى بحيث يكون موضوع القضية المنتجة نقيض محمول الأولى، ومحمولها موضوع الأولى، على أن يُحتفظ بالصدق ولا يحتفظ بالكيف. أن تنقض محمول القضية الأصلية. أن تعكس بعد ذلك نقض المحمول عكسًا مستويًا فينتج عن ذلك أن: عكس النقيض المخالف للكلية الموجبة هو كلية سالبة. وللكلية السالبة هو الجزئية الموجبة. وللجزئية السالبة هو الجزئية الموجبة. ولا عكس نقيض مخالف للجزئية الموجبة؛ لأن نقيض محمولها الجزئية السالبة والجزئية السالبة لا تعكس. أمثلة: أمثلة: أمثلة: وقد اكتشف عالم المنطق الإنجليزي «وليم هاملتون» عملية عكس النقيض المخالف للجزئية السالبة — ولم يقبل لاشيليه ذلك — بل اعتبرها عملية لفظية. كل أ ب. لا شيء من ب أ. لا شيء من أ ب. لا شيء من ب أ. عكس النقيض الموافق — هو خطوة أوسع من عكس النقيض المخالف — إذ إننا بعد أن ننتهي من عملية النقيض المخالف، نقوم بنقض المحمول مرة أخرى، وعلى هذا تكون عملية النقيض الموافق هي أن تنتقل من قضية إلى أخرى. بحيث يكون موضوع الثانية نقيض محمول الأولى، ومحمولها نقيض موضوع الأولى — على أن تحتفظ بالصدق والكيف، أو بمعنى أدق أن تستدل من قضية صادقة صدق قضية أخرى، موضوعها نقيض محمول القضية الأصلية، ومحمولها نقيض موضوع القضية الأصلية. أمثلة: ولتفسير هذا القول: أن الكلية الموجبة في العكس المستوى تنعكس عكسًا بسيطًا إلى الجزئية الموجبة. والكلية السالبة في عكس النقيض الموافق تنعكس إلى جزئية سالبة. والجزئية الموجبة في العكس المستوي تنعكس إلى الجزئية الموجبة. والجزئية السالبة عكس نقيض الموافق تنعكس إلى الجزئية السالبة. والكلية الموجبة في عكس النقيض الموافق تنعكس إلى كلية موجبة. والكلية السالبة في العكس المستوي تنعكس إلى الكلية السالبة. والجزئية الموجبة في عكس النقيض الموافق لا تنعكس.
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/1.5/
منطق الاستدلالات غير المباشرة
والقياس نوع من الاستدلال غير المباشر، لأن الانتقال فيه من المعلوم إلى المجهول يتم بواسطة معينة، إذ لا بد هنا من حد ثالث يربط بين حدين حتى يمكن الوصول إلى نتيجة معينة، وهذا على عكس ما رأيناه في أنواع الاستدلال المباشر. كل واسع الاطلاع منظم التفكير. كل عالم واسع الاطلاع. إذن كل عالم منظم التفكير. لا بد من وجود ثلاث قضايا حملية، لا أكثر ولا أقل. لا بد من وجود ثلاثة حدود، لا أكثر ولا أقل. لا بد من عدم ظهور الحد الأوسط في النتيجة. لا بد من استغراق الحد الأوسط مرة على الأقل في المقدمتين. لا يستغرق حد في النتيجة ما لم يكن مستغرقًا في المقدمتين، حتى لا يتجاوز الحكم فيها. المقدمتان الموجبتان لا تنتجان قضية سالبة؛ بل موجبة، وبالعكس لا تصدر القضية الموجبة إلا عن مقدمتين موجبتين. المقدمتان اللتان إحداهما موجبة والأخرى سالبة لا تنتجان قضية موجبة؛ بل سالبة وبالعكس لا تصدر النتيجة السالبة إلا عن مقدمتين إحداهما سالبة، والأخرى موجبة. لا بد من أن تكون إحدى المقدمتين على الأقل موجبة، إذ لا إنتاج عن سالبتين. لا بد من أن تكون الكبرى كلية إذا كانت الصغرى سالبة. النتيجة لا تكون كلية إلا إذا كانت المقدمتان كليتين. أما المقدمتان الكليتان فقد تنتجان نتيجة جزئية. لا بد أن تكون إحدى المقدمتين كلية، إذ لا إنتاج عن جزئية. النتيجة تتبع أخسِّ المقدمتين. وهذه القواعد يمكن أن نقسمها إلى عدة مجموعات بحسب نوع الشرط المطلوب توافره في القياس من حيث تركيبه، ومن حيث الاستغراق في الحدود، ومن حيث الكم والكيف في القضايا، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي: ومعناه أن كل ما يثبت على نحو كلي لموضوع أو لكلٍّ يثبت لكل شيء يندرج تحت هذا الموضوع أو ذلك الكل. فما يثبت للجنس حيوان يثبت للنوع إنسان، وما يقال عن النوع يقال على ما يندرج تحته من أفراد. إن ما يثبت بالنسبة لتصور من الممكن أن يثبت لكل فرد من أفراده المكونين للفئة المنطقية التي يخصصها هذا التصور، بشرط أن يكون الموضوع مأخوذًا بمعنى توزيعي، أي أن يكون الموضع مستغرقًا بجميع أفراده في المحمول. وبذلك يكون الحكم على كل فرد من أفراد الإنسان هو حيوان ثديي؛ فالمحمول هنا ينسب إلى الكل، وإلى كل جزء من أجزائه. وذلك بخلاف الموضوع المأخوذ بمعنى جمعي، وفيه المحمول ينتسب إلى الكل، وإلى كل جزء دون أجزائه، كما في قولنا: كل زوايا المثلث تساوي قائمين، فليس هناك زاوية من زوايا المثلث تساوي بمفردها قائمين. ويلاحظ أن هذا المبدأ هو في الحقيقة القانون الأول أو البديهية الأولى، ولكنه أقل كمالًا وعمومية؛ لأنه لا يراعي إلا التداخل والتضمن مناسبًا ما قد يكون من مساواة تامة، قد يعبر عنها بتضمن مزدوج. ومعناه أن كل ما ينفى على نحو كلي عن الموضوع، أو عن كلٍّ، ينفى عن كل شيء يندرج تحت هذا الموضوع أو ذلك الكلي. فما يقال سلبًا عن الجنس يقال عن النوع، وما يسلب عن النوع يسلب عن الأفراد. فإذا نفينا أن الناس خالدون بقولنا: لا واحد من الناس بخالد، فمعنى ذلك أن لا فرد من أفراد الإنسان بخالد، فمعنى ذلك أن لا فرد الإنسان من الممكن أن يكون خالدًا. وهنا أيضًا تحمل صفة الخلود سلبًا، وبمعنى توزيعي على أفراد التصور «إنسان»؛ ذلك لأن الصفة التي تحمل بمعنى جمعي على فئة منطقية من الممكن أن تُنفى بدون أن يؤدي ذلك إلى نفيها عن كل واحد من الأفراد المكونين للفئة المنطقية، فإذا قلنا: كل زوايا المثلث لا تساوي أقل من قائمتين، تظل مع ذلك القضية: كل زاوية من زوايا المثلث تساوي أقل من قائمتين، صادقة. وليس هذا المبدأ إلا القانون الثاني في صورة أقل عمومية، أو ليس هو إلا تطبيقًا جزئيًّا له. ولكن ينبغي أن نلاحظ أن ما يثبت لجزء من فئة منطقية، أو يُنفى عنها قد لا يثبت أو ينفى عن الفئة بأكملها. وهذا ما يقوم به الاستدلال الاستقرائي، مما يجعل هذا النوع من الاستدلال غيرَ مقنع من وجهة النظر المنطقية. كما ينبغي أن نلاحظ أن مبدأ المقول على الكل وعلى اللاواحد يفترض أن أفراد الفئة المنطقية الفرعية هم بالضرورة أفراد في الفئة الكلية ما داموا أفرادًا في الفئة الفرعية، وهم بالضرورة ليسوا أفرادًا في الفئة الكلية، وهذا ينطوي على مغالطة تجعل منه مصادرة على المطلوب ولا ينطبق إلا على التصنيفات الطبيعية، فأنا قد أكون عضوًا في نادٍ لكرة القدم مثلًا، والنادي الذي أنا عضو فيه قد يكون عضوًا في الاتحاد الدولي لكرة القدم، فهل أنا عضو في الاتحاد الدولي لكرة القدم حسب القياس الآتي: كل نادٍ لكرة قدم عضو في الاتحاد الدولي إذن محمد عضو في الاتحاد الدولي إما موضوعًا في الكبرى محمولًا في الصغرى، وهذا هو الشكل الأول. وإما محمولًا في المقدمتين، وهذا هو الشكل الثاني. وإما موضوعًا في المقدمتين. وهذا هو الشكل الثالث. وإما محمولًا في المقدمة الكبرى وموضوعًا في المقدمة الصغرى. وهذا هو الشكل الرابع. ولكن ليس كل هذه الأضرب أضربًا صحيحة ومنتجة، فبعضها منتج لتوافر شروط الإنتاج، التي تحددها قواعد المجموعة الثانية الأربعة. وبعضها غير منتج لعدم توافر هذه الشروط فيه. وبعضها يأتي بنتيجة صحيحة الصدور عن المقدمات، تتحقق فيها معايير صحة صدور النتيجة، التي تحددها قواعد المجموعة الثالثة والتي تتأكد منها بواسطة قواعد المجموعة الرابعة، وبعضها يأتي بنتيجة غير صحيحة الصدور لعدم توافر صحة صدور النتيجة فيها. فإذا قمنا بإسقاط الأضرب غير المنتجة، والأضرب التي نتيجتها غير صحيحة الصدور، فلا يبقى عندنا في كل شكل إلا أحد عشر ضربًا هي بالترتيب من اليسار إلى اليمين: أن يكون الحد الأوسط موضوعًا في الكبرى، محمولًا في الصغرى. يجب أن تكون المقدمة الصغرى موجبة؛ لأنها إذا كانت سالبة يلزم أن تكون المقدمة الكبرى موجبة طبقًا للقاعدة الخامسة من قواعد القياس، ويلزم أن تكون النتيجة سالبة طبقًا للقاعدة السابعة وإذن يكون الحد الأكبر مستغرقًا؛ لكنه غير مستغرق في المقدمة الكبرى، حيث إنها ستكون كما قلنا موجبة، والموجبة لا تستغرق المحمول، إذن يلزم أن تكون المقدمة الصغرى موجبة. يجب أن تكون المقدمة الكبرى كلية؛ لأنه حيث إن المقدمة الصغرى موجبة حسب الأعمدة الثالثة، إذن لن يستغرق الحد الأوسط الذي هو محمولها، وإذن يجب أن يكون الحد الأوسط مستغرقًا في المقدمة الثانية وهي الكبرى، وحينئذٍ يكون موضوعها، وإذا كانت الكبرى جزئية فإنها لا تستغرق موضوعها طبقًا لقواعد الاستغراق، وحينئذٍ لن يكون الحد الأوسط مستغرقًا في أي المقدمتين ويفسد القياس طبقًا للقاعدة الثالثة من قواعد القياس، يجب إذن أن تكون المقدمة الكبرى كلية. قلنا من قبل: إن أضرب الشكل الأول أربعة، ولتسهيل تحديد هذه الأضرب قد وضع المناطقة الأوروبيون في العصور الوسطى أربع كلمات لاتينية لا معنى لها، وإنما ترمز إلى تلك الضروب؛ هذه الكلمات هي: ومن ثم تصبح الضروب الأربعة للشكل الأول على النحو التالي: وتطبيق هذا المبدأ تطبيقًا مباشرًا في الشكل الأول هو الذي يحتم أن يكون الحد الأوسط موضوعًا في المقدمة الكبرى، ومحمولًا في المقدمة الصغرى. هو الشكل الوحيد من بين أشكال القياس الذي يُنتج لنا أنواعَ القضايا الأربعة جميعًا: الكلية الموجبة، والكلية السالبة، والجزئية الموجبة، والجزئية السالبة، ومن ثم يمكننا استخدامه للوصول إلى أي نتيجة سواء كانت كلية أو جزئية أو موجبة أو سالبة. هو الشكل الوحيد الذي ينتج لنا كلية موجبة كما هو واضح من الضرب الأول، ولهذا فائدته الكبرى؛ لأن البرهان العلمي، وهو الذي يهدف إلى صياغة القوانين والنظريات، يصوغها كلية، وإلا لما كان قانونًا علميًّا أو نظرية. يفسر الشكل الأول بالمفهوم كما يفسر بالماصدق. موضوع النتيجة في الشكل الأول هو موضوع الصغرى، ومحمول النتيجة هو محمول الكبرى. يجب أن تكون إحدى المقدمتين سالبة. يجب أن تكون الكبرى كلية. أما الضروب الأربعة للشكل الثاني فإنه يمكن فهمها إذا أدخلنا الكلمات اللاتينية الأربعة الآتية والتي تشير إلى الضروب الأربعة على التوالي: ولنضرب بعض الأمثلة على الضروب الأربعة للشكل الثاني ويمكن صياغة المبدأ الذي تقوم عليه ضروب الشكل الثاني فيما يلي: المعنيان اللذان يكون أحدهما في حالة تقابُل مع ثالث. وثانيهما مساوٍ لهذا الثالث، إذن فالمعنى الأول مقابل للمعنى الثاني. للشكل الثاني ميزة أساسية وهي: أننا لا نصل فيه إلا إلى نتيجة سالبة فقط، ومن ثم له فائدته لا في إثبات شيء وإنما في رفض شيء، أو تفنيد حجج الخصم، فمثلًا حين تريد أن تعرف ما إذا كان الحوت يدخل في فصيلة السمك نقول: كل السمك يتنفس بخياشيم، الحوت لا يتنفس بخياشيم، إذن ليس الحوت سمكًا. وبهذا نستبعد الحوت من فصيلة السمك. فإذا أردنا أن نثبت للحوت صفة إيجابية لا نلجأ إلى الشكل الثاني، وإنما إلى الشكل الأول فنقول مثلًا: كل ما يتنفس ثدييٌّ، الحوت يتنفس برئة، إذن الحوت ثدييٌّ. إيجاب الصغرى وجزئية النتيجة: أي إن المقدمة الصغرى ينبغي أن تكون موجبة، وإن النتيجة ينبغي أن تكون جزئية، وقد سبق أن أثبتنا وجوب إيجاب الصغرى حين كنا نتحدث عن قواعد الشكل الأول، ويبقى أن نثبت وجوب جزئية النتيجة. الضروب المنتجة للشكل الثالث ستة، ويسهل صياغتها بالنظر في الكلمات اللاتينية الآتية: أمثلة الشكل الثالث: ويلاحظ أن الصورة العامة لجميع هذه الأضرب هي: نتائج هذا الشكل كلها جزئية، وهي مفيدة حين نريد أن نعترض على قضية كلية ينادي بها الإنسان، لكي نثبت أنها خاطئة تأتي بحالة جزئية تتناقض مع صدق قضيته الكلية. وهو الذي يكون الحد الأوسط محمولًا في الكبرى موضوعًا في الصغرى في خمسة أشكال منتجة قوية، وهي: إذا كانت المقدمة الكبرى موجبة وجب أن تكون الصغرى كلية، لأنها إذا كانت جزئية تحتم أن تكون الكبرى هي الكلية لامتناع الإنتاج من مقدمتين جزئيتين، وإذا كانت الكبرى موجبة وكلية معًا، فإن محمولها (و) سيكون غير مستغرق، وسيكون موضوع الصغرى (و) غير مستغرق أيضًا؛ لأننا فرضنا أنها جزئية، وإذن يكون (و) — وهو الحد الأوسط — غير مستغرق في المقدمتين معًا. إذا كانت إحدى المقدمتين سالبة وجب أن تكون الكبرى كلية؛ لأنها لو كانت جزئية كان موضوعها (ك) غير مستغرق مع أنه عندئذٍ سيكون محمولًا مستغرقًا في النتيجة السالبة؛ إذ النتيجة لا بد أن تكون سالبة ما دامت إحدى المقدمتين سالبة. يقوم الشكل الرابع على مبدأ المقول على الكل وعلى اللاواحد، الذي يطبق فيه على نحو غير مباشر. الحد الأصغر هو الأكبر ماصدقًا، ويليه الأوسط، ثم الأكبر. ومن هنا يبدو هذا الشكل غير طبيعي. من الصعب أن يفسر هذا الشكل على أساس الماصدق، إلا إذا رُد للشكل الأول. ولكنه يفسر بسهولة على أساس المفهوم. ش٤-ض١ الضرب الأول: ويلاحظ أن الصورة العامة لجميع هذه الأضرب هي: الرد هي تلك العملية التي تعبر عن حجة قياسية معينة في شكل آخر أو ضرب آخر؛ إلا أن هذا المعنى للرد واسع إلى حد بعيد، إذ المقصود هنا بالرد هو التعبير عن جميع ضروب الشكلين الثاني والثالث، وكذلك الشكل الرابع (بالنسبة لمن ميزوا هذا الشكل) بضروب الشكل الأول، وذلك للبرهنة على أن نتائج تلك الأشكال صحيحة عن طريق الشكل الأول. وهذه العملية التي تبيَّن فيها صحة الأقيسة الناقصة بواسطة الشكل الأول تسمى الرد، وله نوعان كما رأينا: رد مباشر، ورد غير مباشر. ولبيان ذلك نضع أمامنا ترتيب الحدود في صيغ تمثل الأشكال الأربعة، حتى يتسنى لنا المقارنة بينها، وذلك كما يلي: الشكل الأول – الشكل الثاني – الشكل الثالث – الشكل الرابع. و ك ك و و ك ك و ص و ص و وص وص وإذا طبقنا هذه الطريقة على الأشكال الناقصة لكان ردها إلى الشكل الأول على الصور التالية: الشكل الثاني الشكل الأول ك و و ك ص و ص و إذن ص ك إذن ص ك لا ك و كل ص و لا و ك ك ص و كل ك و لا ص و إذن لا ص ك بعض و ك لا ص و لا ك و ك ص و لا و ص كل ك و إذن لا ك ص لا و ص ك ك و إذن لا ك ص تعكس إلى لا ص ك الشكل الثالث الشكل الأول و ك و ك وص ص و إذن ص ك إذن ص ك كل و ك ك و ص إذن بعض ص ك فإننا نعكس المقدمة الصغرى «كل و ص» فتصبح «بعض ص و»، ويكون لدينا بذلك القياس التالي: ك و ص بعض ص و إذن ص ك فإننا لو عكسنا المقدمة الصغرى وهي «ك و ص» لأصبحت «بعض ص و»، ولأصبحت المقدمتان في هذه الحالة جزئيتين، ولا إنتاج من جزئيتين. وهنا تعكس المقدمة الكبرى «بعض و ك» لتصبح «بعض ك و»، ثم نبدل وضع المقدمتين، فيصبح القياس التالي: كل و ص بعض ك و إذن ك ص وهو قياس من الشكل الأول، إلا أن نتيجته معكوسة الحدين، وإذا قمنا بعكسها عكسًا مستويًا لتصبح «بعض ص ك»، لكانت هذه الأولى، وبذلك تكون نتيجتنا الأصلية في الشكل الثالث صحيحة. الشكل الرابع الشكل الأول ك و و ك و ص ص و إذن ص ك إذن ص ك لا ك و ك و ص إذن ليس بعض ص ك لا و ك بعض ص و إذن ليس بعض ص ك كل ك و كل و ص إذن بعض ص ك فإننا إذا عكسنا المقدمتين، فتصبحان جزئيتين، إذن فطريقة عكس المقدمتين ستؤدي بنا إلى قياس غير منتج. فلنبدل وضع المقدمتين، ونكمل القياس فيكون لدينا القياس التالي: كل و ص كل ك و إذن ك ص وفيما يلي مثال يوضح ذلك: افرض أن القياس الذي نشك في صحة نتيجته هو هذا: ك و ص و إذن ص ك وما دامت المقدمتان مفروضًا فيهما الصدق، فيكون لدينا ثلاث قضايا مفروض فيها الصدق، وهي: (١) ك و (٢) ص و (٣) ص ك فإننا نحصل على ما يأتي: ك و ص ك إذن ص و عرضنا فيما سبق الأقيسة التي تتألف مقدماتها ونتائجها من قضايا حملية، ولكنَّ هناك أنوعًا أخرى من الأقيسة تسمى أقيسة شرطية، وهي تلك الأقيسة التي تتألف مقدماتها أو واحد منها على الأقل من قضايا شرطية، المتصلة عن تلك التي تتألف من قضيتين حمليتين مرتبطتين بأداة الشرط «إذا» حملية وشرطية، وتنقسم القضية الشرطية إلى شرطية منفصلة وشرطية متصلة، ينقسم القياس إلى نوعين قياس حملي وقياس شرطي، والقياس الشرطي إلى قياس شرطي متصل وقياس شرطي منفصل. لكن أول من توسع في الأقيسة الشرطية بنوعيها هم الرواقيون ومن بعدهم المدرسيون، سواء منهم فلاسفة المسلمين أو المسيحيين في العصور الوسطى، ونلاحظ أن الشروط العامة لامتحان صحة القياس الحملي هي نفس الشروط التي نستخدمها لامتحان صحة القياس الشرطي. فننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن نوعي القياس الشرطي. وقد يتألف القياس من شرطية متصلة وحملية مثل: وقد يتألف من شرطيتين منفصلة وحملية مثل: إذا اقتُضِبت المقدمة الكبرى في القياس سُمي قياسًا مقتضبًا من الدرجة الأولى، مثل: مُعَلقة امرئ القيس من الشعر الجاهلي، ولذلك فيها ذكر الطُّلول. ولو أكملنا هذا القياس لقلنا: وهناك أنواع أخرى يطول شرحها تكلم عنها مناطقة العرب. ونكتفي بهذا النوع من القياس المقتضب. إذا حضر «أواتلوس» هذه القضية، وجب أن يدفع نصف الأجر المؤجل بمقتضى حكم المحكمة. وإذا كسبها وجب أن يدفع بمقتضى اتفاقه معي. لكنه إما أن يخسر هذه القضية أو يكسبها، وإذن فلا بد في كلتا الحالتين أن يدفع القسط المؤجل. فرد التلميذ بالإحراج الآتي:
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/2.1/
تطور مبدأ الاستدلال في المنطق الهندي
شهدت معظم كتابات مؤرخي المنطق في أواخر القرن التاسع عشر اهتمامًا كبيرًا بالمنطق الهندي؛ إذ أدرك هؤلاء المؤرخون أن الهنود القدماء، قد قدموا أفكارًا منطقية لا تقل أصالة عما قدمه «أرسطو» في نظريته المنطقية، وأنه إذا كان المنطق الأرسطي قد تمثلته أوروبا الغربية والشرقية، ومناطقة العرب والمسيحية فيما بعد؛ فإن المنطق الهندي قد انتشر في الصين واليابان ومنغوليا وسيلان وإندونيسيا. لكل ما سبق عقدت العزم على القيام ببحث مستقل موضوعه «تطور مبدأ الاستدلال في المنطق الهندي»، أحاول أن أعالج هذا الموضوع في معظم وأهم جوانبه وأبعاده، وفي هذا ما قد يسد بعض الفراغ في المكتبة العربية الفلسفية خاصة بهذا الموضوع. على أننا في معالجتنا لموضوع بحثنا هذا، نؤثر انتهاج المنهج التاريخي التحليلي المقارن، من حيث يعتبر في نظرنا — على أقل تقدير — أنسب المناهج وأشدها ملاءمة لطبيعة الموضوع وغايات البحث. وأود قبل أن أشرع في عرض تطور مبدأ الاستدلال في المنطق الهندي، أن أعرض باختصار لنشأة هذا المنطق وتطوره حتى نستطيع أن نفهم كيف تطور مبدأ الاستدلال بعد ذلك. ولقد أخذت مرحلة الممارسة العفوية التلقائية للتفكير المنطقي في الفكر الهندي السابق على جوتاما في القرن الثاني للميلاد صورًا عدة نجملها فيما يلي: وتكشف هذه المناقشات عن مدى تقدم المحاورات الهندية والتزامها بمنهجية صارمة، الأمر الذي كان مفتَقدًا في محاورات أفلاطون. بعد هذا العرض الموجز لنشأة المنطق الهندي، نود أن نتساءل: هل تأثر المناطقة الهنود في أبحاثهم بالمنطق الأرسطي أم لا؟ ذهب بعض الباحثين الغربيين إلى القول بأن المناطقة الهنود لم يقدموا — ولم يكن بمقدورهم أن يقدموا — فكرًا منطقيًّا خاصًّا بهم، بحيث يمكن تسميته بالمنطق الهندي، ومن ثم فإن كل ما لديهم من مذاهب وآراء وأفكار ونظريات منطقية ليست في حقيقتها إلا أشباهًا ونظائرَ مستمدة من المنطق الأرسطي، فلم يأتوا بشيء جديد يذكر، وإنما رددوا وقلدوا أفكار وآراء أرسطو. وبالتالي فإن كل ما لدى مناطقة الهنود هو تقليد ومحاكاة وشرح للمنطق الأرسطي، بل هو ترجمة سنسكريتية لهذا المنطق لا أكثر. وذهب بعض هؤلاء الباحثين إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن مناطقة الهند القدماء قد عجزوا عن فهم حقيقة وأفكار أرسطو المنطقية مما أدى إلى تشويه هذه الحقيقة، فضلًا عن عجزهم عن إنتاج أي فكر منطقي يدل على أصالة وابتكار. الفترة الثانية، وقد امتدت من ٣٩ قبل الميلاد إلى ٤٥٠ بعد الميلاد، وذلك حين كان الأساتذة الرومان في الإسكندرية وسوريا وفارس على اتصال بالهند من خلال الطلاب الهنود الذين جاءوا لطلب العلم والثقافة اليونانية، وقد تمكن هؤلاء الطلاب من نقل معظم كتب المنطق الأرسطي إلى الهند، ومن أهم أعمال أرسطو التي وجدت طريقها إلى الهند؛ كتاب التحليلات الأولى، وكتاب التحليلات الثانية، وبعض أجزاء من كتاب العبارة، وقد قرأ تلك الكتابات كل من جوتاما إكسباندا وناجورجونا وفاسوباندا وديجناجا وذراماكيرتي. ثم يقدم لنا «فيديابهاسونا» في تحليله لمبدأ القياس نماذج مختارة من المناطقة الهنود الذين تأثروا بالقياس الأرسطي في دراساتهم لمبدأ الاستدلال، وذلك على النحو التالي: الدعوى المثبتة «هذ التل يوجد به نار». الأساس العقلي «لأنه يوجد به دخان». المثال: «حيث يوجد دخان توجد نار كما في المطبخ لا كما في البحيرة على سبيل». التطبيق على الحالة المعطاة «وهذا التل ينبعث منه دخان كالذي يصاحب النار باستمرار». النتيجة: «إذن هذا التل يوجد به نار». وانطلاقًا من ذلك يمكننا القول بأن مبدأ الاستدلال في المنطق الهندي قد تطور تطورًا طبيعيًّا بعيدًا عن أي مؤثرات أرسطية أو غير أرسطية، ويتضح هذا من خلال الخطوات التالية: الخطوة الأولى: وفيها تم تأسيس قاعدة القياس الصورية على أساس إعطاء الأمثلة، وذلك من خلال اﻟ «نيايا سوترا». الخطوة الثالثة: وفيها طور ذراماكيرتي التمثيل تطورًا جذريًّا من مجرد عرض الأمثلة إلى مقدمة عامة. ويمكن أن نفصل تلك الخطوات، على النحو التالي: ينبغي أن يكون الشخص المتحدث أمينًا ويعتمد عليه بصورة مطلقة. يتعين أن يعرف الشخص المتحدث بالفعل ما يقوم بإيصاله. لا بد من أن يتفهم السامع على وجه الدقة ما يسمعه. ويتكون من خمس قضايا: الفرض، والسبب، والمثال، والتطبيق، والنتيجة. مثال ذلك: القياس الإضماري أن «ﻫ» لا بد أن يكون ماثلًا في «ق» وفي كل الحالات الأخرى التي تحتوي على «ك». لا بد ﻟ «ﻫ» أن يكون غائبًا من الحالات التي لا يوجد بها «ك». ينبغي ألا يتناقض الافتراض المستدل عليه مع الإدراك الحسي السليم. ينبغي ألا نجعل «ﻫ» من الأمور الممكنة خاصة أنها تتناقض مع الافتراض المستدل عليه. نريد أن نثبت صفة النار في موضوع، هو: التل، وهذا الفرض تعبر عنه القضية الأولى من القياس. متى نتحقق من هذا نستخدم السبب، وهو خاصية أخرى تتمثل في الدخان الذي نلاحظه على التل، وهذا يحدث في القضية الثانية من القياس. ثم نضرب مثالًا لذلك كمثال المطبخ، وهو الذي ينبعث منه الدخان بسبب النار، وهاتان الصفتان تتواجدان معًا في المطبخ وما يشابهه، وهذا هو المثال الموجب. ويمكن ضرب مثال سالب يؤدي فيه غياب السبب السابق إلى غياب صفة النار كما في مثال البحيرة. وبعد ذلك نقرر وجود نفس العلاقة بين صفة الدخان والنار في التل، وهذا هو التطبيق. ثم نستنتج النتيجة التي افترضناها مسبقًا، وهي أن صفة النار موجودة كذلك في التل. ما هي أطروحتك؟ هي أن هذا التل يوجد به نار. ولماذا؟ لأنه يوجد به دخان. وما الأمر في ذلك؟ حيث يوجد هناك دخان توجد هناك نار؛ كالمطبخ لا كالبحيرة. وماذا بعد ذلك؟ إن التل شبيه بمكان به دخان. لذلك؟ إذن التل يوجد به نار. ما هي أطروحتك؟ هي أنني أقر أن «ق» لها الخاصية «ك». ولماذا؟ لأن «ق» له الخاصية «ﻫ». والأمر في ذلك؟ هي أن كلًّا من «ﻫ»، «ك» تميزان «ل» ولا توجد أي منهما في «ع». وماذا بعد ذلك؟ وهذا ما نجده في حالتنا «ق». لذلك؟ إذن «ق» له الخاصية «ك». الفرض: ك ق، وتعني هناك نار «ك» في «ق» التل. السبب: ﻫ ق، وتعني يوجد دخان «ﻫ» في «ق». المثال: (س)(ﻫ ق تستلزم ك ق)، وتعني «س» «دالة تشير الى مكان ما»: حيث إذا كان يوجد دخان في «س»؛ فإنه يوجد نار في «س». التطبيق: ﻫ ق تستلزم ك ق، وهذه القاعدة تنطبق بالنسبة ﻟ «س» = «ق». النتيجة: ك ق، لأن القاعدة تنطبق بالنسبة ﻟ «س ق»، ولما كان القضية «ﻫ ق» صادقة فإن القضية «ك ق» صادقة. قاعدة الاستبعاد: الفرض: بما أن ك ق تلزم عنها ﻫ ق ﻫ ق مقدمة (س) (ﻫ ق تستلزم ك ق) مقدمة ﻫ ق تستلزم ك ق باستبعاد (٢) نصل إلى (٣). ك ق باستبعاد (١)، (٣) نصل إلى (٤). إن القياس ذا القضايا الخمس في اﻟ «نيايا سوترا» ليس فكرة أو أطروحة، وإنما قاعدة مثل الاستدلال عند الرواقيين والإسكولائيين. من ناحية التركيب، فإن القياس ذا القضايا الخمس أقرب إلى قياس «وليم أوكام» منه إلى قياس أرسطو؛ لأن السبب دائمًا ما يناظر قضية واحدة. تتضمن الصيغة الهندية كذلك تبريرًا واضحًا لوجود المقدمة الكبرى. وفي هذا الصدد نجد خلافًا بين صاحب النيايا وأتباعه اللاحقين من النيايايكاس الذين يتصورون البنية الاستدلالية، وإن كان إكسباندا يتصور العلاقة بين جوهرين في شيء واحد. من الواضح أننا مع القياس ذي القضايا الخمس ما زلنا في عالم المنطق الحدي. هذه هي صيغة مبدأ الاستدلال في اﻟ «نيايا سوترا»، ولكن ما هي القاعدة التي تبنى عليها هذه الصيغة؟ الفرض: هذا التل يوجد به نار. السبب: لأنه يوجد به دخان. المثال: كما في مطبخ حيث توجد نار، لا كما في بحيرة حيث لا توجد نار. لكن هناك شيئًا آخر أكثر أهمية يؤكد عليه بعض الباحثين وراء هذه الصيغة، وهي فكرة الصلة الداخلية التي لا تقبل الفصل بين الحد الأوسط وهو «ﻫ»، والحد الأكبر وهو «ق»، ووفقًا لها يكون الاستدلال دلالة على موضوع متصل اتصالًا لا يمكن فصله عن الموضوعات الأخرى، ويقوم به من يعرف الموضوع. الحد الأوسط يجب أن يكون مرتبطًا بالحد الأصغر، وهو موضوع الاستدلال، مثل: على التل توجد نار. الحد الأوسط يجب أن يكون مرتبطًا بالسباكسا، مثل: يوجد دخان في مكان توجد به نار، كالمطبخ مثلًا. الحد الأوسط يجب أن لا يكون مرتبطًا بالفيباكسا، مثل: لا يوجد دخان في مكان لا توجد به نار، كما في البحيرة مثلًا. «ق» يجب أن تقع داخل «ﻫ» كليًّا. «ل» يجب أن تقع كليًّا داخل «ﻫ». «ع» يجب أن تقع كليًّا خارج «ﻫ». «ﻫ» يقع كليًّا في «ل». «ﻫ» يغيب كليًّا عن «ل». «ﻫ» يقع جزئيًّا في «ل». «ﻫ» يقع كليًّا في «ع». «ﻫ» يغيب كليًّا عن «ع». «ﻫ» يقع جزئيًّا في «ع». هذه هي عجلة الأسباب عند «ديجناجا»، حيث نجد من بين الصور «٢»، «٨» فقط هما الصحيحتان. وقد توصل «ديجناجا» إلى هذه الصيغة باستخدام الاستبدال. غير منتج. غير دائم. ناتج الإرادة. شهدت الصيغ الثلاث للحد الأوسط — وبالأخص الصيغتان الثانية والثالثة — عند ديجناجا مناقشات ومجادلات بين دعاة اﻟ «نيايا سوترا» وبين الفلاسفة البوذيين وبالأخص لدى «ذراماكيرتي» في القرن السابع، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي: ومن الشرط الثالث نصل إلى (ص ق ﻫ = صفر) عندما تكون (ص = ص ك) فيمكن البرهنة على ما سبق بالتعويض عن قيمة (ص) ولاختبار مفهوم الصيغ الثلاث لدى ذراماكيرتي من خلال الفئة الصفرية عند جورج بول نصل إلى: وبالتعويض عن قيمة (ﻫ) في الصيغة الثانية نصل إلى: ومن الصيغة الثالثة نصل إلى أن (ق = صفر ÷ ﻫ) وبالتعويض عن قيمة (ق) في الصيغة الثالثة وهذه الصيغة تشبه إلى حد كبير الضربين الأول والثاني من الشكل الأول من أشكال الأقيسة الأرسطية، وليس هناك أي تأثير أرسطي على الإطلاق، حيث إن المناطقة الهنود توصلوا إلى هذه الصيغة بدون أي مؤثرات أرسطية بعد أن وضحت فكرة القاعدة العامة التي رسمها «ذراماكيرتي». الدخان المدرَك. هناك نار على التل البعيد لأن التل ينبعث منه الدخان وكل ما ينبعث منه الدخان يوجد به نار كالموقد ومن التل البعيد ينبعث دخان كالذي يصاحب النار باستمرار إذن توجد نار على التل البعيد رابطتها التي لا تقبل انفصامًا بالمعلول المنطقي، معبَّرًا عنها بطريقة إيجابية مثل: «هناك، حيث يوجد دخان توجد نار»، (وهذه رابطة إيجابية أو مباشرة). الرابطة نفسها بعد أن يعبر عنها بطريقة عكسية، بواسطة تحويل منطقي، مثل: «هناك، حيث لا توجد نار لا يوجد دخان» (وهذه رابطة سالبة أو عكسية). حضور الأمارة المنطقية في مكان معين، أي رابطتها الواقعية، بموضوع النتيجة مثل: «هناك، حيث يوجد دخان توجد نار». قياس المشابهة، مثل: «هناك، حيث يوجد دخان حيث توجد نار»، فعلى سبيل المثال في المطبخ وفي الحالات المشابهة «يوجد دخان، إذن يجب أيضًا أن توجد نار». قياس اللامشابهة، مثل: «هناك، حيث لا توجد نار لا يوجد دخان، وهنا يوجد دخان، إذن توجد نار». مما سبق يتضح لنا أن مبدأ الاستدلال في هذه الخطوة أخذ فيه المناطقة الهنود العمل على اختصار مبدأ القياس التقليدي إلى قضيتين أو ثلاث قضايا، وبالتالي تم الاستغناء عن التطبيق والخاتمة، ثم ظهر التمييز بين استدلال لإقناع الشخص ذاته واستدلال لإقناع الآخرين، الأول: يتكون من ثلاث قضايا؛ والثاني: يتكون من خمس قضايا كما كانت التقاليد. الفقرة الأولى: «ألا يمكن للمرء أن يقرر صحة حجة تتصل بما لا يحدث في سياق آخر في غياب شرط عدم الحدوث في سياق آخر، حتى الأسباب التي لها ثلاث علامات أو إشارات في قياس معين لا تفيد شيئًا.» الفقرة الثانية: لأن السبب يتصل به شرط عدم الحدوث في سياق آخر، فهو شرط كاف سواء اتصفت بشرط واحد أو أربعة أو لم يتصف بأي منها. والشرط الوحيد هنا هو عدم الحدوث في سياق آخر، والشروط الثلاثة الأخرى هي الموجودة في عجلة الأسباب. الفقرة الثالثة: يقول الناس عن الأب: إن له ابنًا واحدًا. مع أن له ثلاثة أبناء، لأن هذا الابن هو الابن الوحيد الصالح، وهكذا الحال بالنسبة للمسألة السابقة. والولد الصالح المقصود هنا بالطبع هو شرط عدم الحدوث في سياق آخر، وعلى هذا فإن علاقة الملازمة الضرورية ليست موجودة في الأسباب التي هي عجلة الأسباب. الحجج التي فيها شرط عدم الحدوث في سياق آخر هي الوحيدة الصحيحة. الشرطان ربما لا يكونان كافيين للتوصل إلى النتيجة. ما فائدة الشروط الثلاثة إذا لم يكن هناك شرط عدم الحدوث في سياق آخر؟ وعندما نجد هذا الشرط، فما فائدة الشروط الثلاثة الأخرى؟ والآن كيف يتم اكتشاف علاقة تلازمية؟ إن المنطق الهندي قد مر بثلاث مراحل في تكوينه: المرحلة الأولى تتمثل في ممارسة الجدليات بشكل واعٍ، وإن لم تكن قد وُضعت فيها بعدُ نظرية لقواعد الجدل. ونستطيع أن ندخل جدل «الأنفيكسيكا» و«الكاركا سمهيتا» و«الفايشيسكا سوترا». أما المرحلة الثانية فقد تمت فيها الصياغة النظرية لعلم الجدل، كما تم تأسيس قاعدة القياس ذي القضايا الخمس من خلال إعطاء الأمثلة، وقد تمثل ذلك في كتاب اﻟ «نيايا سوترا». والمرحلة الثالثة مر فيها تكوين المنطق إلى مستوى الصياغة النظرية للبرهان العقلي الصوري (مبدأ الاستدلال)، وهي مرحلة الانتقال من اﻟ «نيايا سوترا» إلى الهيتوكاكرا أو عجلة الأسباب لديجناجا. حين أقبل مؤرخو المنطق من الغربيين والشرقيين على دراسة المنطق الهندي أدركوا أن هناك ألفةً بينه وبين المنطق الأرسطي، ففسره البعض بحسب نظرية التأثير والتأثر؛ أي إن السابق يؤثر في اللاحق. بيد أن البعض الآخر أكد على خطأ هذا الزعم مستندًا على عدم وجود دليل على تأثر الهنود بالمنطق الأرسطي أو ما يفيد اطلاعهم عليه، ولا سيما في بداياته الأصيلة. إن القياس الهندي في شكله الأخير، وإن كان يشابه إلى حد كبير القياس الأرسطي، إلا أنه يختلف تمامًا عن القياس الأرسطي. فالدور الأساسي للقياس الأرسطي يتجسد في مبدأ المقول على الكل وعلى اللاواحد، والذي يعني أنه حينما تكون العلاقة بين ثلاثة حدود على نحو يكون معه الحد الأصغر منتميًا إلى ماصدقات الحد الأوسط، والحد الأوسط منتميًا إلى ماصدقات الحد الأكبر، أو على العكس من ذلك لا يكون هناك انتماء، فإننا نكون حينئذٍ أمام قياس كامل. في حين أن المبدأ الأساسي للقياس الهندي يتمثل في علاقة الفيابتي أو التلازم غير المتغير وغير المشروط بين الحدود الوسطى والحدود الكبرى. إذن س ينتمي إلى؟ (لا إنتاج لغياب عنصر الضرورة المنطقية) أو: ونفس الشيء تكون العلاقة بين اﻟ «نيايا سوترا» وذراماكيرتي، فإذا كان القياس ذو القضايا الخمس في اﻟ «نيايا سوترا» برغم الاختبارات التي أجراها عليه بعض المناطقة الرياضيين من خلال قاعدة الاستبدال والاستبعاد، إلا أنه في حقيقة أمره قياس جدلي وغير برهاني، وبرغم أن النتيجة فيه تستخلص من المقدمات، إلا أنه يعتمد على الحدس من جانب، وعلى التجربة من جانب آخر كما في قياس أفلاطون. ولقد استطاع ذراماكيرتي أن يحول هذا القياس الجدلي أو غير البرهاني إلى قياس برهاني كما فعل أرسطو من قبل. هذا مع الوضع في الاعتبار — كما أكد «بوشنسكي» — أن اﻟ «نيايا سوترا» ليست فيها فكرة القانون أو الصياغة النظرية التي فتح بها أفلاطون الباب لنشأة المنطق الغربي. وهذه الفكرة هي التي تسببت في سرعة ظهور الصيغة المنطقية في الغرب. لكن في الهند تطور المنطق تطورًا طبيعيًّا بطيئًا خلال قرون عديدة تحت عباءة المنهجية. ما هي أطروحتك؟ هي أنني أقر أن «ق» لها الخاصية «ك». ولماذا؟ لأن «ق» له الخاصية «ﻫ». والأمر في ذلك؟ هي أن كلًّا من «ﻫ»، «ك» تميزان «ل» ولا توجد أي منهما في «ع». وماذا بعد ذلك؟ وهذا ما نجده في حالتنا «ق». لذلك؟ إذن «ق» له الخاصية «ك». أو: إذا ما استعرضنا الألفاظ التي صيغت بها مقدمات القضايا في المنطق الهندي سوف نجدها تنتمي إلى حد كبير إلى الثقافة الدينية التي نشأت فيها، الأمر الذي يؤكد نقاء المنطق الهندي في أطواره الأولى من أي مؤثرات أرسطية بوجه خاص وأجنبية عنه بوجه عام. إن مبدأ القياس في المنطق الهندي وليد الجدل والمناقشات التي تستهدف في المقام الأول إثبات حقيقة ودحض الأكاذيب أو السياقات التي لا يمكن البرهنة عليها. ويكشف ذلك عن نضج المنطق الهندي واقترابه من المنطق الحديث في صورته التجريبية. إن الانتقادات التي وجهها بعض المناطقة العرب إلى المنطق الأرسطي لا تخلو من أثر للفكر الهندي. ويبدو ذلك واضحًا في كتابات السَّهروردي المقتول، ونصير الدين الطوسي، وصدر الدين الشيرازي، والأبهري، وغيرهم من الذين اتصلوا بالثقافة الهندية أو اطلعوا عليها. حمروش، د. علاء: تاريخ الفلسفة الشرقية، القاهرة، بدون تاريخ. ديورانت، ول: قصة الحضارة، الهند وجيرانها-الشرق الأقصى (الصين)، ترجمة: د. زكي نجيب محمود ومحمد بدران، المجلد الثاني، الهيئة العامة للكتاب، ٢٠٠٢م، القاهرة. كولر، جون: الفكر الشرقي القديم، ترجمة: كامل يوسف حسين، عالم المعرفة، عدد ١٩٩، صفر ١٤١٦، يوليو ١٩٩٥م. عبد الحميد، د. حسن: الأبعاد الحقيقية لنظرية القياس الأرسطية، بحث منشور بمجلة كلية الآداب، جامعة صنعاء، العدد الثالث، ربيع الثاني ١٤٠١، مارس ١٩٨١م. ماكلوفسكي، ألكسندر: تاريخ علم المنطق، ترجمة: نديم علاء الدين وإبراهيم فتحي، دار الفارابي، بيروت، ١٩٨٧م.
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/2.2/
المغايرة النسقية في التحليلات الأولى الأرسطية
ويقوم هذا الترتيب على أساس تحتويه المؤلفات. فيتناول كتاب المقولات دراسة الحدود، ويتناول كتاب العبارة القضايا، ويتناول كتاب التحليلات الأولى الأقيسة، ويتناول كتاب التحليلات الثانية الأقيسة الضرورية، ويتناول كتاب الطوبيقا الأقيسة الاحتمالية، ويتناول كتاب السوفسطيقا الأقيسة المموهة القائمة على المغالطة (أي الأغاليط الصورية). والمتفحص لكتاب التحليلات الأولى يجده مختلفًا تمام الاختلاف عن كل ما سبقه من تراث منطقي؛ أي بدون أن يلغيه أو ينفيه، بل يتعداه ويتجاوزه. لغة جديدة كل الجدة صاغها أرسطو للتعبير عن نظرية القياس وقواعده وأشكاله وضروبه، وهي لغة المتغيرات. منهج جديد استخدمه أرسطو لأول مرة في تاريخ علم المنطق، وهو المنهج الاستنباطي. نظرية مكتملة في الاستدلال المنطقي التحليلي هدفها العلم الاستنباطي البرهاني. وعلى هذا يمكن تقسيم البحث إلى قسمين؛ الأول: الممارسة العفوية التلقائية للتفكير المنطقي في الفكر الفلسفي السابق على أرسطو. والثاني: أبعاد المغايرة النسقية في كتاب التحليلات الأولى. وبخصوص المنهج المستخدم في البحث نود الإشارة بأنه هو المنهج التحليلي النقدي، حيث إنه في اعتقادي أنسب المناهج التي يمكن أن نعالج بها «المغايرة النسقية في التحليلات الأولى الأرسطية». نبدأ بحجج نفي الكثرة، حيث تمثل الحجتان الأُوليان في الحقيقة حجة واحدة ذات فرعين، يستندان معًا على المقدمة المشتركة: إذا كانت هناك كثرة فلا تخلو الكثرة من أن تكون إما كثرة مقادير ممتدة في المكان، أو كثرة آحاد أو أعداد ممتدة وغير متجزئة. وتعتمد الحجة الأولى على الفرض الأول من فرض التالي. فإذا كانت هناك كثرة، فإنها تكون كثرة مقادير ممتدة في المكان، ومعنى ذلك أن المقدار يكون قابلًا للقسمة إلى آحاد غير متجزئة، لا تؤلف مقدارًا منقسمًا، وبذلك يكون المقدار المحدود المتناهي حاويًا أجزاء حقيقية غير متناهية العدد، وهذا خلف. وهذه الحجة تمثل ردًّا إلى المحال، وبالتالي تكون صيغتها المنطقية كالآتي: ولننتقل إلى الحجة الثانية القائمة على الفرض الثاني: لو كانت هناك كثرة، إنها تكون مكونة من آحاد غير متجزئة. وهذه الآحاد تكون متناهية العدد لتعينها، ما دامت حقيقية، وهي منفصلة، والمنفصل يفصل بينه أوساط، ويفصل بين هذه الأوساط أوساط أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، مما يناقض المفروض. وهذه الحجة تعتمد على الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك على النحو التالي: وتقوم الحجة الثالثة على أنه إذا كانت الكثرة حقيقية، كان كل واحد من آحادها يشغل مكانًا حقيقيًّا، ولكن هذا المكان يجب أن يكون في مكان، وهكذا إلى غير نهاية، وهذا خلف، فالكثرة غير حقيقية. وهذه الحجة تعتمد على الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك على النحو التالي: حيث تشير «ك» إلى الأماكن المتناهية التي تشغلها آحاد المكان المتناهية المتعينة، وتشير «ك» إلى الأماكن اللامتناهية التي يتسلسل الاحتواء فيها إلى ما لا نهاية. وإذا انتقلنا إلى الحجة الرابعة نجدها تختلف عن الحجج السابقة، إذ يذهب «زينون» إلى أنه إذا كانت الكثرة حقيقية وجب أن يقابل النسبة العددية بين كيلة الذرة وحبة الذرة وجزء على عشرة آلاف من الحبة، نسبة مساوية لها بين الأصوات الحادثة من سقوطها إلى الأرض، ولكن الواقع يخالف ذلك، فالكثرة إذن ليست حقيقية. وهذه الحجة تعتمد على الصيغة المنطقية بشكل مضمر، وذلك على النحو التالي: أما بالنسبة لحجج نفي الحركة، نجد أن الحجة الأولى والتي تسمى بحجة القسمة الثنائية، وهي تعتمد على فرض: إذا كان المكان موجودًا فهو موجود في شيء، ولكن الشيء الذي يوجد في شيء يوجد أيضًا في مكان، فالمكان إذن يجب عليه أن يوجد هو نفسه في مكان. وهذا إلى ما نهاية، فالمكان إذن غير موجود. ومعناها: إذا كان يلزم عن قضية ما كذبُ هذه القضية فهذه القضية كاذبة. أما الحجة الثانية من حجج نفي الحركة، هي التي تسمى بحجة «أخيل والسلحفاة» وهي شديدة الصلة بالحجة الأولى، أو بالأصح تطبيق لها على مثال، فلو كانت هناك حركة لاستطاع أخيل — وهو أسرع عداء في اليونان — أن يسبق سلحفاة تتقدمه بمسافة، إذا بدآ السباق في وقت واحد، ولكنه لا يسبقها لأنه عندما يقطع المسافة الفاصلة بينهما، تكون السلحفاة قد قطعت مسافة أخرى، وعندما يقطع المسافة التي قطعتها، تكون السلحفاة قد قطعت ثانية … وهكذا إلى ما لا نهاية. وأما الحجة الثالثة فهي التي تسمى بحجة السهم، وهي قائمة على أن الزمان مؤلفٌ من آنات غير متجزئة، يشغل السهم في كل منها مكانًا مساويًا لطوله، لا يبارحه في كل آن، وبذلك فإنه ساكن غير متحرك في كل آن، أو أنه لا ينطلق إلى هدفه. أما الحجة الرابعة والأخيرة، وهي الحجة المعروفة بحجة الملعب، وهي تقوم كذلك على كون الزمان مؤلفًا من آنات غير متجزئة، وكون المكان مركبًا من نقط غير منقسمة. يحاول «زينون» أن يثبت أن فرض وجود الحركة يؤدي إلى تناقض، فلو تحرك جسم مكوَّنًا من أربع وحدات (طوله نصف طول ملعب) في عكس اتجاه جسم آخر موازٍ له ومتحرك بنفس السرعة مركب من أربع وحدات (طوله نصف طول الملعب نفسه)، فإن كلًّا منهما يقطع طول الآخر في نصف الزمن الذي يقطع فيه كل منهما طول جسم ثابت مكون من أربع وحدات موازٍ لهما. وعلى ذلك فإن الحركة تقطع نفس المسافة في زمن معين، وفي ضعف من الزمن، فيكون نصف الزمن مساويًا لضعفه، وهذا خلف، فالحركة وهم. يتضح لنا مما سبق أن الفكر الجدلي السوفسطائي قد أعد العقلية اليونانية وهيأها لاستقبال المنطق الأرسطي بعد ذلك. وحتى ندرك الفرق بين طريقة كل من أفلاطون وأرسطو في التعبير عن هذه الواسطة نلخص ما قلناه فيما يلي: يتضح لنا مما سبق أن الفكر المنطقي الأفلاطوني لم يتعد مرحلة الممارسة العفوية للتفكير المنطقي عند اليونان، والدليل على ذلك أن لغة أفلاطون المنطقية هي نفس لغة الإيليين والسوفسطائيين، كما أن منهج أفلاطون المنطقي هو بعينه المنهج الجدلي الفلسفي الأفلاطوني الذي يقوم في شقه الهابط على طريقة القسمة الثنائية ذات الأصول الإيلية والرياضية. استخدام القياس التحليلي (الحملي)، والذي يعد بمثابة الاكتشاف الأخير. استخدام الحروف، كاختصارات وكمتغيرات. مستوى الصرامة المنطقية، والأسلوب الذي كان مختلفًا جدًّا في كتابات عديدة، وربما من المفترض أن يكون قد تحسن مع الوقت. التحسن الذي طرأ على تحليل القضية، من الشكل البسيط «أ-ب» مرورًا باستخدام الشكل الأكثر تعقيدًا «وإن الذي يوجد فيه ب في كله يوجد أ.» إن الحروف تظهر على الأرجح في البداية، كاختصارات بسيطة، ثم كمتغيرات حدية، وفي النهاية كمتغيرات قضوية. إن القضايا الموجهة التي تتوافق مع فلسفة أرسطو الخاصة بالمستقبل، تعد — فيما يبدو — الاكتشاف الأخير. علاوة على ذلك، فقد حاول أرسطو في تلك المرحلة إبراز العمومية في أعماله عن طريق الاستخدام غير الملائم — إلى حد ما — للضمائر، أو عن طريق الأمثلة على نحو ما يفعل أفلاطون في محاورة الجمهورية. من كل ما سبق يتضح لنا أن كتاب الطوبيقا لم يتعدَّ مرحلة الممارسة العفوية للتفكير المنطقي السابق على أرسطو، حتى وإن انطوى على بعض القواعد المنطقية، بدليل أن لغة كتاب الطوبيقا هي نفس لغة أفلاطون ومن قبله، السوفسطائيون والإيليون. ولذلك فإن كتاب الطوبيقا هو أحد مؤلفات الشباب التي كان يتمرس فيها أرسطو للتدريب على صياغة القواعد النظرية لعلم المنطق كما جاءت بعدُ في التحليلات الأولى. ولذلك فإن كتاب التحليلات مختلف تمامًا عن كل ما سبقه من تراث منطقي عند الفلاسفة اليونان، فهو يمثل مغايرة نسقية مع هذا التراث، أي بدون أن يلغيه أو ينفيه؛ بل يتعداه ويتجاوزه. ولذلك يمكن أن ندرس معالم الجدة المطلقة التي تميز بها هذا الكتاب فيما يلي: مما سبق يتضح لنا أنه إذا كان أرسطو في أعماله المبكرة، قد حاول إبراز العمومية عن طريق استخدام الضمائر والأمثلة، إلا أنه في التحليلات الأولى قد تخلص من ذلك تمامًا، وذلك من خلال استخدامه للمتغيرات التي أعطت لتعبيراته قدرًا كبيرًا من الوضوح وإيجازًا؛ وخاصة في إطار القواعد المنطقية المعقدة؛ كالقواعد الخاصة بالقياس، والتي يكون استخدام المتغيرات فيها أمرًا لا مفر منه تقريبًا. إذا كان المنطق يهتم أساسًا، بدراسة الفكر الذي نعبر عنه في صورة عبارات وقضايا، لكي يستخلص منها المبادئ المنطقية للفكر أيًّا كان. فإن الناس لم ينتظروا أرسطو حتى يأذن لهم أن يفكروا، بل فكر الإنسان وقاس واستنبط الأمور من بعضها البعض منذ أن وجد على ظهر الأرض، وتعريف أرسطو للإنسان بأنه «حيوان مفكر» أو «عاقل» ما كان ليكون كذلك لولا أن الإنسان هو بطبعه مفكر. إذا كان العرف قد جرى على أن الأورجانون الأرسطي، يبدأ بكتاب المقولات، يليه العبارة، ثم التحليلات الأولى، ثم التحليلات الثانية، ثم الطوبيقا، وأخيرًا كتاب السوفسطيقا. إلا أن أرسطو لم يتبع هذا الترتيب في مؤلفاته، ولا يوجد أي دليل يؤيد التصنيف الذي وضعه «أندرنيقوس الرودسي»، لكتابات أرسطو المنطقية، خاصة بعد أن تبين أنه لا يوجد كتاب من تلك الكتابات ظل بدون تغيير، فضلًا عن أن معظم تلك الكتب قد وضعها أرسطو في زمن متأخر داخل إطار عام يتطابق مع تعاليمه الأخرى. ليس صحيحًا أن أرسطو اخترع علم المنطق بدون مرشد؛ فقد ثبت في ثنايا هذا البحث أن أرسطو قد استفاد في صياغته لموضوعات المنطق المختلفة من أبحاث المفكرين السابقين عليه في الرياضيات واللغة والجدل الفلسفي الذي بدأته المدرسة الإيلية وأكمله مِن بعدِهم أعلام السوفسطائيين. فمن صلب الجدل الإيلي خرج المنطق وتطورت الرياضيات، ولم تكن حجج زينون الخاصة بنفي الكثرة والحركة — مثلًا — والتي تعتمد على فكرة القسمة الثنائية وفكرة اللانهاية بجدل عابث لا طائل من ورائه، بل كانت الأساس الأول الذي بني عليه فيما بعد حساب التفاضل والتكامل في الرياضيات. كما أن فكرة اللانهاية التي يقوم عليها جدل الإيليين وخوفهم من وقوع العقل الإنساني في الخطأ عبر القسمة الثنائية التي لا تنتهي؛ هي التي عملت على اكتشاف مبدأ عدم التناقض ومبدأ قياس الخلف، الأساس الذي بني عليه التفكير النقدي — فيما بعد — في المنطق والرياضيات على السواء. إذا نظرنا إلى جوهر المنطق الأرسطي، والمتمثل في نظرية القياس القائم على القضية الحملية، فإننا نجد أن أرسطو قد أخذ الفكرتين معًا من أستاذه، حينما كان بصدد قراءة نقدية في التعريفات. إن كتاب التحليلات الأولى يُعد ثورة بالفعل داخل ميدان المنطق، وهذه الثورة قد أنجزها أرسطو بمفرده، ونقل بها هذا الفرع من فروع المعرفة، من مرحلة الممارسة العفوية عند «زينون» و«السوفسطائيين» و«أفلاطون»، إلى مرحلة الصياغة النظرية، ولذلك فإن كتاب التحليلات الأولى يمثل مغايرة نسقية، وقد تمثلت أبعاد تلك المغايرة في لغة المتغيرات، ومنهج الاستنباط ونظرية البرهان. أرسطو: منطق أرسطو، ج١، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات الكويتية، ط١، ١٩٨٠م. أفلاطون: السوفسطائي، ترجمة: الأب فؤاد جرجي بربارة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٦٩م. د. فتحي التريكي: أفلاطون والديالكتيكية، الدار التونسية، الطبعة الثانية، تونس، ١٩٨٦م. د. محمد السرياقوسي: برهان الخلف واستخداماته عند القدماء والمحدثين، بحث منشور ضمن بحوث ومقالات في المنطق، الجزء الثاني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٣م. روبير بلانشي: المنطق وتاريخه، ترجمة: خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، بدون تاريخ نشر. أ.م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، ترجمة ودراسة وتعليق: د. إسماعيل عبد العزيز، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٦م. ياسين خليل: نظرية أرسطو المنطقية، مطبعة أسعد، بغداد، ١٩٦٤م. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزي «نشأته وتطوره»، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، ٢٠٠٢م. حسن عبد الحميد: التفسير الإبستمولوجي لنشأة العلم، بحث منشور ضمن دراسات في الإبستمولوجيا، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، ١٩٨٦م. حسن عبد الحميد: مقدمة في المنطق، الجزء الأول (المنطق الصوري)، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، ١٩٨٠م. حسن عبد الحميد: الأبعاد الحقيقية لنظرية القياس الأرسطية، مجلة كلية الآداب، جامعة صنعاء، العدد الثالث، ١٩٨١م. محمد فتحي عبد الله: الجدل بين أرسطو وكانط (دراسة مقارنة)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ١٩٩٥م. نهلة محمد مصطفى عوكل: نظريات أرسطو المنطقية وأصولها لدى السابقين عليه، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة طنطا، ١٩٩٦م. يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، دار المعارف بمصر، ١٩٥٠م. ثيوكاريس كيسيدس: سقراط، ترجمة: طلال السهيل، دار الفارابي، بيروت، ١٩٨٧م. لوكاشيفتش (يان): نظرية القياس الأرسطية من وجهة نظر المنطق الصوري الحديث، ترجمة: د. عبد الحميد صبرة، منشأة المعارف، الإسكندرية، ١٩٦١م. ماكلوفسكي: تاريخ علم المنطق، نديم علاء الدين وإبراهيم فتحي، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ١٩٨٧م. أميرة حلمي مطر: الفلسفة عند اليونان، دار المعارف، القاهرة. محمد مهران: مدخل إلى المنطق الصوري، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٨٥م. أبير نصري نادر، المنطق الصوري، مكتبة العرفان، بيروت، ١٩٦١م.
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/2.3/
النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري-الرواقي
والسؤال الآن، هل يمكن وضع المنطق الميجاري-الرواقي في صورة نسق استنباطي؟ كما اهتم الرواقيون أيضًا بدراسة العلاقات القائمة بين دوالِّ الصدق، وذلك عن طريق إمكانية تعريف الروابط بواسطة روابط أخرى، مما يدل على أنه يوجد عندهم محاولة لبناء نسق أكسيومي من هذه الروابط. ولذلك سوف ندرس في هذا البحث إرهاصات النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري-الرواقي، لنبين كيف كان الميجاريون والرواقيون أول من أدخلوا النسق الاستنباطي في المنطق قبل المناطقة الرمزيين في العصور الحديثة. وأما عن المنهج الذي اعتمد عليه الباحث في إعداد هذا البحث عن إرهاصات النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري-الرواقي، فهو المنهج التحليلي المقارن، الذي يعتمد على تحليل النصوص تحليلًا دقيقًا واستنباط واستخلاص كل ما تشمله من آراء وأفكار، مع المقارنة بين آراء الرواقيين والمناطقة المحدثين ليتضح لنا تباعًا مدى ما طرأ على الفكرة من تطور وازدهار. وسبيلنا الآن هو عرض عناصر النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري-الرواقي، وذلك فيما يلي: إذا كان الأول كان الثاني، تكافئ: ليس معًا الأول وليس الثاني. إما الأول أو الثاني، تكافئ: إذا كان ليس الأول، فإنه الثاني. إما الأول أو الثاني، تكافئ: أن الأول لا يكافئ الثاني. إما الأول أو الثاني، يكافئ: إذا كان الأول كان ليس الثاني، وإذا كان ليس الثاني كان الأول. وإذا كان من البديهي أن التعريفات في النسق الاستنباطي لا يبرهَن عليها لأنها بمثابة الإعلان الذي يصرح فيه واضع النسق بأنه سوف يستخدم الصيغتين على أنهما متكافئتان، إلا أننا مع ذلك يمكننا أن نتبين أن التعريفات التي قدمها الرواقيون يمكن البرهنة على صحتها، وذلك مما يتضح من قائمة الصدق التالية: أولًا: بما أن العمود رقم (٨) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن فالاستدلال صحيح. ثانيًا: إذن العمود رقم (٨) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن فالاستدلال صحيح. وأما بالنسبة لتطبيق طريقة البرهان باستخدام قائمة الصدق على التعريف الثاني فيكون كالآتي: بمقارنة القيم الواردة في العمود رقم (٣) الخاص بالشطر الأيمن في الصيغة السابقة، بقيم الشطر الأيسر الواردة في العمود رقم (٦)، نتبين أنها متناظرة؛ بمعنى أنه كلما كانت صيغة الشطر الأيمن صادقة، صدقت الأخرى، وأنه كلما كذبت، كذبت الأخرى أيضًا، إذن فالتكافؤ أو التعريف صحيح. أولًا: بما أن العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن فاستدلال صحيح. ثانيًا: إذن فالعمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن فالاستدلال صحيح. وأما تطبيق طريقة البرهان باستخدام قائمة الصدق على التعريف الثالث فيكون كالآتي: بمقارنة القيم الواردة في العمود (٣) الخاص بالشطر الأيمن في الصيغة السابقة، بقيم الشطر الأيسر الواردة في العمود رقم (٦)، نتبين أنها متناظرة، بمعنى أنه كلما كانت صيغة الشطر الأيمن صادقة، صدقت الأخرى، وأنه كلما كذبت، كذبت الأخرى أيضًا، إذن فالتكافؤ أو التعريف صحيح. أولًا: بما أن العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن الاستدلال صادق دائمًا، إذن الاستدلال صحيح. ثانيًا: إذن فالعمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن فالاستدلال صحيح. وأما عن تطبيق طريقة البرهان باستخدام قائمة الصدق على التعريف الثالث فيكون كآلاتي: بمقارنة القيم الواردة في العمود (٣) الخاص بالشطر الأيمن في الصيغة السابقة، بقيم الشطر الأيسر الواردة في العمود (٦)، يتبين أنها متناظرة، بمعنى أنه كلما كانت صيغة الشطر الأيمن صادقة، صدقت الأخرى، وأنه كلما كذبت، كذبت الأخرى أيضًا، إذن فالتكافؤ والتعريف صحيح. أولًا: بما أن العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن فالاستدلال صحيح. ثانيًا: إذن فالعمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن فالاستدلال صحيح. وأما عن تطبيق طريقة البرهان باستخدام قائمة الصدق على التعريف الرابع فيكون كآلاتي: بمقارنة القيم الواردة في العمود (٣) الخاص بالشطر الأيمن في الصيغة السابقة، بقيم الشطر الأيسر الواردة في العمود رقم (٦)، نتبين أنها متناظرة، بمعنى أنه كلما كانت صيغة الشطر الأيمن صادقة، صدقت الأخرى، وأنه كلما كذبت، كذبت الأخرى أيضًا، إذن فالتكافؤ أو التعريف صحيح. وبما أن التكافؤ يفيد التلازم بين شطري صيغة التكافؤ كما أوضحنا في التعريفات السابقة، إذن فنحن يمكننا مباشرة التوصل في هذا التعريف إلى صيغتي اللزوم المتبادلتين الصحيحتين التاليتين: أولًا: بما أن العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن فالاستدلال صادق دائمًا، إذن فالاستدلال صحيح. ثانيا: بما أن العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة فقط، إذن فالاستدلال صحيح. إذا كان الأول، كان الثاني، ولكن الأول، إذن الثاني إذا كان الأول، كان الثاني، ولكن ليس الثاني، إذن ليس الأول. ليس معًا الأول والثاني، ولكن الأول، إذن ليس الثاني إما أن يكون الأول والثاني، ولكن الأول؛ إذن ليس الثاني إما أن يكون الأول أو الثاني، ولكن ليس الثاني، إذن الأول البرهان: إذن العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة، إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أن صدق المقدمة في العمود رقم (٥) قد اقترن بصدق النتيجة في العمود رقم (٣)؛ وذلك في الصف الأول، وبما أنه لا توجد أية حالة تصدق فيها المقدمة وتكذب النتيجة، إذن فالاستدلال صحيح. إذن العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة، إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أن صدق المقدمة في العمود رقم (٥) قد اقترن بصدق النتيجة في العمود رقم (٣) وذلك في الصف الأول، وبما أنه لا توجد أية حالة تصدق فيها المقدمة وتكذب النتيجة، إذن فالاستدلال صحيح. البرهان: إذن العمود رقم (٨) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة، إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أن صدق المقدمة في العمود رقم (٦) قد اقترن بصدق النتيجة في العمود رقم (٤) وذلك في الصف الأول، وبما أنه لا توجد أية حالة تصدق فيها المقدمة وتكذب النتيجة، إذن فالاستدلال صحيح. وأما عن اللامبرهنة رقم (٤) وهي: البرهان: إذن العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة، إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أن صدق المقدمة في العمود رقم (٥) قد اقترن بصدق النتيجة في العمود رقم (٣) وذلك في الصف الأول، وبما أنه لا توجد أية حالة تصدق فيها المقدمة وتكذب النتيجة، إذن فالاستدلال صحيح. البرهان: إذن العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال لا يحتوي إلا على قيم صادقة، إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أن صدق المقدمة في العمود رقم (٥) قد اقترن بصدق النتيجة في العمود رقم (٣) وذلك في الصف الأول، وبما أنه لا توجد أية حالة تصدق فيها المقدمة وتكذب النتيجة، إذن فالاستدلال صحيح. تلك هي البراهين الخاصة باللامبرهنات، وهي تبين أن اللامبرهنات عند الرواقيين تخضع لقانون تحصيل الحاصل على نحو ما ذهب إليه أصحاب الأنساق المعاصرة وبخاصة نسق برتراندرسل. والسؤال الآن: كيف حاول الرواقيون رد المبرهنات إلى اللامبرهنات؟ يذكر المؤرخون أن كريسبوس كان يتبع في رد المبرهنات إلى اللامبرهنات أربع قواعد منطقية عامة وهي على النحو التالي: أو أو وقد حفظ لنا المؤرخون بعض هذه المبرهنات أو النظريات التي أقاموا البرهان عليها، واستخدموها في تحليل الاستدلالات الأكثر تعقيدًا، ومن هذه النظريات أو المبرهنات أو الاستدلالات التي تقوم على اللامبرهنات الخمس ما يلي: ويمكن أن نعبر عن هذه المبرهنة بلغة المنطق الرمزي الحديث على النحو التالي: ق البرهان: يمكن استنباط هذه المبرهنة من اللامبرهنة الثانية والثالثة، وذلك على النحو التالي: ق قضية حملية ويمكن توضيح البرهان الخاص بهذا الاستدلال عند الرواقيين بطريقة أكثر تفصيلًا، وذلك على النحو التالي: وباستخدام طريقة قوائم الصدق لإثبات صحة تلك المبرهنة، يتم ذلك على مرحلتين: أولًا: إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم، إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أنه كلما صدقت المقدمة في العمود رقم (٣) صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٥)، وبما أنه لا نجد أية حالة في القائمة تصدق فيها المقدمة مع كذب النتيجة، إذن فهذا يعني لأن صدق المقدمة يستلزم دائمًا صدق النتيجة، إذن الاستدلال صحيح. ثانيًا إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٨) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم، إذن فالاستدلال صحيح. وهو المطلوب إثباته. وبلغة المنطق الرمزي الحديث يكون الاستدلال كالآتي: ل البرهان: يمكن استنباط هذه المبرهنة من اللامبرهنة رقم (٥) وذلك على النحو التالي: ك من ١، ٢ نصل إلى ٣ (اللامبرهنة ٥) البرهان: يمكن توضيح البرهان الخاص بالرواقيين بطريقة أكثر تفصيلًا، وذلك على النحو التالي. وهو المطلوب إثباته. كما يمكن إثبات صحة هذه المبرهنة باستخدام قائمة الصدق التالية: إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٨) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم، إذن فالاستدلال صحيح. وبما أنه كلما صدقت المقدمة في العمود رقم (١) صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٤) صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٦)، وبما أنه لا نجد أية حالة في القائمة تصدق فيها المقدمة مع كذب النتيجة، إذن فهذا يعني أن صدق المقدمة يستلزم دائمًا صدق النتيجة. إذن فالاستدلال صحيح. وبلغة المنطق الرمزي الحديث يكون الاستدلال كالآتي: ق البرهان: كما يمكن استنباط هذه المبرهنة باستخدام قائمة الصدق التالية: إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٨) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم. إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أنه كلما صدقت المقدمة في العمود رقم (٣)، صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٥) وبما أنه لا نجد أية حالة في القائمة تصدق فيها المقدمة مع كذب النتيجة، إذن فهذا يعني أن صدق المقدمة يستلزم دائمًا صدق النتيجة. إذن فالاستدلال صحيح. وبلغة المنطق الرمزي يكون الاستدلال على النحو التالي: ق إذن ك كما يمكن إثبات صحة هذه المبرهنة باستخدام قائمة الصدق التالية: إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم، فالاستدلال صحيح. أو بما انه كلما صدقت المقدمة في العمود رقم (٣) صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٥) وبما أنه لا نجد أية حالة في القائمة تصدق فيها المقدمة مع كذب النتيجة، إذن فهذا يعني أن صدق المقدمة يستلزم دائمًا صدق النتيجة. إذن فالاستدلال صحيح. وبلغة المنطق الرمزي الحديث يكون الاستدلال كالآتي: إذن ق البرهان: كما يمكن إثبات صحة هذه المبرهنة باستخدام قائمة الصدق التالية: إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٨) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم، إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أنه كلما صدقت المقدمة في العمود رقم (٣) صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٥)، وبما أنه لا نجد أية حالة في القائمة تصدق فيها المقدمة مع كذب النتيجة، إذن فهذا يعني أن صدق المقدمة يستلزم دائمًا صدق النتيجة. إذن فالاستدلال صحيح. البرهان: هذه المبرهنة مشتقة من اللامبرهنة الثانية والأولى، وذلك على النحو التالي: ق تالي القضية الصغرى ق من ٥، ٤ نصل إلى ٦ وهي نفس اللامبرهنة الأولى وهو المطلوب إثباته البرهان: ويمكن توضح البرهان الخاص بهذا الاستدلال عند الرواقيين بطريقة أكثر تفصيلًا وذلك على النحو التالي: وهو المطلوب إثباته. كما يمكن إثبات صحة هذه المبرهنة باستخدام قائمة الصدق التالية: إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٩) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم. إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أنه صدقت المقدمة في العمودين رقم (٣)، (٦) صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٧)، وبما أنه لا نجد أية حالة تصدق فيها المقدمة مع كذب النتيجة، إذن فهذا يعني أن صدق المقدمة يستلزم دائمًا صدق النتيجة. إذن فالاستدلال صحيح. وبلغة المنطق الرمزي الحديث يكون الاستدلال كالآتي: ق ق البرهان: كما يمكن إثبات صحة هذا الاستدلال بواسطة قائمة الصدق التالية: إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٧) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم. إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أنه كلما صدقت في العمود رقم (٣) صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٥)، وبما أنه لا نجد أية حالة تصدق فيها المقدمة مع كذب النتيجة، إذن فهذا يعني أن صدق المقدمة يستلزم دائمًا صدق النتيجة. إذن فالاستدلال صحيح. البرهان: وهو المطلوب إثباته. البرهان: ويمكن توضيح البرهان الخاص بهذا الاستدلال عند الرواقيين وذلك على النحو التالي: وهو المطلوب إثباته. كما يمكن وضع الاستدلال في صيغة استدلال يكون كالآتي: إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٩) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم. إذن فالاستدلال صحيح أو بما أنه كلما صدقت المقدمة في العمودين (١)، (٢) صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٣)، وبما أنه إذا صدقت المقدمة في الأعمدة (٤)، (٥)، (٦) صدقت النتيجة في العمود رقم (٧)، وبما أنه لا توجد أية حالة تصدق المقدمات وتكذب النتائج، إذن فالاستدلال صحيح. البرهان: ك من ١، ٢ نصل إلى ٣ وهي نفس اللامبرهنات الأولى وهو المطلوب إثباته. البرهان: ويمكن توضيح البرهان الخاص بهذا الاستدلال عند الرواقيين بطريقة أكثر تفصيلًا وذلك على النحو التالي: كما يمكن إثبات صحة هذه المبرهنة باستخدام قائمة الصدق التالية: إذن جميع القيم الواردة في العمود رقم (٩) الخاص بالاستدلال هي الصدق الدائم. إذن فالاستدلال صحيح. أو بما أنه كلما صدقت المقدمة في العمودين (٣)، (٦) صدقت معها النتيجة في العمود رقم (٧)، وبما أنه لا نجد أية حالة تصدق فيها المقدمة مع كذب النتيجة، إذن فهذا يعني أن صدق المقدمة يستلزم دائمًا صدق النتيجة، إذن فالاستدلال صحيح. تلك هي بعض الأمثلة عن المبرهنات عند الرواقيين، وهي كثيرة، حيث تحتوي كتابات المؤرخين القدماء والمحدثين على عدد كبير لا بأس به، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى اهتمام الرواقيين بالاستدلالات المنطقية اهتمامًا عظيمًا بقصد الوصول إلى أعلى درجة من الصورية. لعله قد اتضح لنا خلال هذا البحث كيف استطاع الرواقيون أن يقدموا أول نسق استنباطي متكامل لمنطق القضايا المركبة قبل المناطقة المحدثين بمئات السنين، وذلك حين أدركوا ضرورة التخلي عن لغة الحديث في الكتابة المنطقية كي يكون المنطق صوريًّا (تجريديًّا) إلى أبعد حد، فاصطنعوا الرموز بمنأى عن الحروف الهجائية؛ كما عُنوا عناية بالغة بالثوابت المنطقية وكانوا يسمونها بالروابط. ولم يكتفوا بذلك، بل وضعوا لرابط القضية اللزومية قواعد صدقها وكذبها قبل بيرس وفريجه ورسل. بالإضافة إلى أنهم حددوا معاني وتعريفات الروابط الأخرى، مثل: الانفصال والعطف وغيرهما. ومن ناحية أخرى، فقد استطاع الرواقيون بعد أن عرفوا الروابط أن يضعوا بعد ذلك مقدمات أولية لكي يستنبطوا منها قضايا أخرى، وقد أحصى كريسبوس خمس صور أو مخططات لتلك المقدمات لكي يبدءوا منها البرهان على نظريات منطقية، وقد أعطانا المؤرخون أمثلة لا حصر لها على تلك النظريات تبين أنهم نجحوا نجاحًا عظيمًا في بناء أول نسق استنباطي لتلك النظريات. ولكن بالرغم من هذا النجاح، فإن الرواقيين يعاب عليهم في أنهم لم يضعوا قائمة اللامعرفات وقواعد الاستدلال صريحة منذ البدء، مما أدى إلى أنهم في البرهنة على نظرياتهم المنطقية، قد عجزوا عن استخدام قاعدة الاستبدال الموحد والاستبدال بالتعريف، وإن كانوا أحيانًّا ما يستخدمون قاعدة التحليل، الأمر الذي جعل أصحاب الأنساق المعاصرة بعد البحث في الهندسة الإقليدية أن يتنبهوا لذلك. «ق، ك، ل، س» رموز تشير إلى المتغيرات القضوية. «ص، ك» رموز تشير إلى احتمالات الصدق والكذب. ألفريد تارسكي: مقدمة للمنطق ولمناهج البحث في العلوم الاستدلالية، ترجمة: د. عزمي إسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب والنشر القاهرة،١٩٧٠م. د. إسماعيل عبد العزيز: نظرية الموجهات المنطقية «دراسة تحليلية في منطق الجهة»، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٣م. د. إسماعيل عبد العزيز: المفارقات المنطقية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٣م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، ترجمة: د. إسماعيل عبد العزيز، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٦م. د. حسن عبد الحميد، ود. محمد مهران: في فلسفة العلوم ومناهج البحث، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، ١٩٧٨م. د. عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٧١م. د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزي «نشأته وتطوره»، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، ١٩٧٩م. محمد السرياقوسي: التعريف بالمنطق الرياضي، الإسكندرية، ١٩٧٨م. يان لوكاشيفتش: نظرية المنطق الأرسطي من وجهة المنطق الصوري الحديث، ترجمة: د. عبد الحميد صبرة، منشأة المعارف، الإسكندرية، ١٩٦١م.
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/35841973/
المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية: قضايا وإشكاليات
محمود محمد علي
«إن مشاكلَ المنطق الأرسطي تَرجع في أصولها إلى قدماء الهنود، وليس صحيحًا ما يَذكره أرسطو عن نفسه من أنه واضِع علم المنطق بجملته، وأنه لم يُسبَق في هذا الميدان.»يؤكِّد هذا الكتاب على أهمية البحث فيما وراء دعوى «أرسطو» بشأن تأسيسه علمَ المنطق، فيرى مؤلِّفُه — مع فريقٍ كبير من الباحثين — أن الهنود القدماء قد أبدعوا أفكارًا منطقية لا تقلُّ أصالةً عما قدَّمه «أرسطو» في منطقه. وإن كان منطقُ الأخير قد انتشر في أوروبا والعالَم العربي والإسلامي، فإن المنطق الهندي قد ساد الصينَ واليابان ومنغوليا وإندونيسيا؛ وعليه، يحاول المؤلِّف أن يتناول موضوعاتِ المنطق الصوري القديم السابق على «أرسطو»، مع تركيزٍ أكبرَ على المنطق الهندي من زاويةِ حدوده وقضاياه واستدلالاته المباشِرة وغير المباشِرة، ويُلحِق بذلك دراساتٍ في منطق «شيشرون» والرُّوَاقيين.
https://www.hindawi.org/books/35841973/2.4/
الاستدلالات المنطقية في طوبيقا شيشرون
ونكتفي هنا في هذا البحث بدراسة الاستدلالات المنطقية كما عرضها شيشرون؛ حيث نقوم بتصنيفها مع بيان الكيفية التي طبق بها شيشرون منطق أرسطو في ميدان القانون من جانب، وعلى أن الحجج العامة التي ذكرها أرسطو في كتاب الطوبيقا قد أخذت عنه طابعًا رواقيًّا، ثم بيان أثرها بعد ذلك على المفكرين في الشرق والغرب خلال العصور الوسطى. وسيكون منهجنا في ذلك هو المنهج التحليلي المقارن الذي يعتمد على تحليل النصوص تحليلًا دقيقًا واستنباط واستخلاص كل ما تشمله من آراء وأفكار مع المقارنة بين هذه الفكرة وغيرها قديمًا وحديثًا. وقد نضطر في أحيان أخرى إلى اللجوء إلى استخدام المنهج التاريخي بالقدر الذي يفي بسرد نفس الظاهرة المنطقية كما في طوبيقا شيشرون على بعض المناطقة خلال العصور الوسطى. إذا كان هذا صادقًا، كان ذاك صادقًا؛ ولكن هذا صادق؛ إذن ذاك صادق. إذا كان هذا صادقًا، كان ذاك صادقًا؛ ولكن ذاك ليس صادقًا؛ إذن هذا ليس صادقًا. ليس كلٌّ من هذا وليس ذاك صادقًا معًا، ولكن هذا صادق، إذن ذاك صادق. إما هذا أو ذاك صادق؛ ولكن هذا صادق، إذن ليس ذاك صادقًا. إما هذا أو ذاك صادق؛ ولكن ليس هذا صادقًا، إذن ذاك صادق. ليس كل من هذا أو ذاك صادقًا معًا، ولكن هذا ليس صادقًا، إذن ذاك صادق. ليس كل من لا هذا ولا ذاك صادقًا معًا، ولكن هذا ليس صادقًا، إذن ذاك صادق. وهنا نلاحظ أن شيشرون، قد وضع نسقًا مكونًا من سبعة استدلالات، أربعة منها تبدأ بقضايا مثبتة، وثلاثة منها تبدأ بقضايا منفية، مما يدل على اهتمام شيشرون — على عكس الرواقية الأولى — بفكرتَي الوصل والنفي، حيث تعبر القاعدتان الأولى والثانية عن القياس الشرطي المتصل بنوعيه، والقاعدتان الرابعة والخامسة تعبران عن القياس الشرطي المنفصل بنوعيه. أما القاعدة الثالثة والقاعدة السادسة والقاعدة السابعة؛ فإنها تعبر عن استخدام منطقي جديد، ويعبر عنه بالكلمات «ليس كلاهما معًا»، وسوف يتجاهل المناطقة هذا الثابت إلى أن يبعثه أصحاب المنطق الرمزي الحديث. هذا هو تصنيف شيشرون للاستدلالات المنطقية عند الرواقيين، وهو في هذا لا يضيف جديدًا. أما الجديد الذي يضيفه شيشرون، فهو تطبيق تلك الاستدلالات المنطقية من خلال القانون الروماني، وذلك بإعطاء أمثلة مستمدة من ذلك القانون، حيث يصوغها شيشرون في صورة منطقية ذكرها أرسطو في الطوبيقا، وقد أخذت عند شيشرون طابعًا رواقيًّا، وذلك على النحو التالي: ويمكن صياغتها أيضًا على النحو التالي: (النقطة الواردة هنا في هذه الصيغة رمز للعطف «و») ويمكن قراءة هاتين الصيغتين؛ في حالة ما إذا صدقت (ق) صدقت (ك)، وكانت (ق) صادقة للزوم عن ذلك أن (ك) صادقة؛ أي في حالة ما إذا صدقت فكرة أن العملة المعدنية تدخل في مفهوم الفضة، صدقت الوصايا بها للزوجة، ولما كانت العملة المعدنية تدخل في مفهوم النقود صادقة، لزم عن ذلك أن العملة المعدنية قد أوصى بها للزوجة صادقة. ومعنى ذلك أننا قد استدللنا على صدق القضية (ك) بناء على صدق القضية (ق) التي تستلزمها. وهكذا، فحتى يمكننا أن نستدل على حجة قضية ما مثل (ك) لو حصلناها تاليًا في قضية لزومية، المقدم فيها مثل (ق) قضية صادقة؛ وبالتالي يكون الاستدلال صادقًا. وباستخدام لغة المنطق الرمزي الحديث على الوجه الذي استخدمناه منذ قليل تكون لدينا الصورة المنطقية الصحيحة التالية: ويمكن التعبير عن ذلك بصيغة أخرى. ويمكن قراءة الصيغة على النحو التالي: في حالة ما إذا صدقت (ق) صدقت (ك)، وكانت (ك) كاذبة، لزم عن ذلك أن (ق) كاذبة؛ أي في حالة ما إذا كانت السيدة فابيا تريد أن تحصل على المال صادقة، فلا بد أن تكون هي بالفعل أم العائلة صادقة؛ ولما كانت فابيا ليست بالفعل أم العائلة (أي الكاذبة)؛ لزم عن ذلك أن فكرة حصولها على المال كاذبة أيضًا. ومعنى ذلك أننا قد استدللنا على كذب القضية (ق)، حين وضعناها مقدمًا لزومية، والتالي فيها مثل (ك) قضية كاذبة، ولذلك فالاستدلال صادق. وهذا الاستدلال الذي ينسبه شيشرون لأرسطو ليس إلا تطبيقًا للقاعدة الثالثة، والتي تنص على أنه «ليس كل من هذا وليس ذاك صادقًا معًا؛ ولكن هذا صادق؛ إذن ذاك صادق»، وهذه القاعدة هي عبارة عن تعبير آخر عن قياس شرطي متصل مثبت، بعد أن ردَّ شيشرون اللزوم إلى عطف بواسطة النفي، حيث تتألف المقدمة الكبرى من قضية شرطية عطفية منفية بمثابة قضيتين متناقضتين لا تصدقان معًا، ولا تكذبان معًا، ولما كانت القضية الأولى (المقدم) يسبقها نفي تناقض فهي كاذبة، والقضية الثانية (التالي)، تكون صادقة لأنها تجمع بين أداة النفي البسيط والنفي التناقضي، وبالتالي يصبح النفي مزدوجًا. ومعروفٌ أن نفي النفي إثبات. كما جاءت المقدمة الحملية مثبتة للقضية الأولى (المقدم) وتأتي النتيجة مثبتة للقضية الثانية (التالي) وبذلك يكون الاستدلال صحيحًا. ويمكن قراءة هذه الصيغة: أنه من الكذب أن تكون القضية (ق) صادقة والقضية (ك) كاذبة معًا، ثم القول بصدق القضية (ق) في الوقت نفسه، يلزم عنه أن تكون القضية (ك) صادقة، أي إنه من الكذب أن يكون الشخص له حق الانتفاع بالمنزل كاذبة وفي نفس الوقت عليه إصلاح ما تهدم منه كاذبة معًا، ثم القول بأن له حق الانتفاع صادق، يلزم عنه بأنه يجب على الشخص إصلاح ما تهدم من المنزل صادق وبالتالي يصبح الاستدلال صحيحًا، لأن المقدمة الأولى في هذا الاستدلال تقرر عدم إمكان كذب القضية (ق ولا ك) معًا. في حين أن المقدمة الثانية فيها (ق) صادقة، وعلى ذلك تكون الثانية صادقة، وهي نتيجة تلزم عن المقدمتين، ومن ثَم فالاستدلال صحيح. وهذا الاستدلال الذي ينسبه شيشرون لأرسطو هو استدلال إحراج بنائي، وهو شبيه بالاستدلال الشرطي المختلط، وإن كان أكثر تركيبًا منه، وخاصة في المقدمة الشرطية المتصلة، وفي القضية الاستثنائية، وذلك يتضح من طريقة تكوينه، فهو يتكون من مقدمتين؛ المقدمة الأولى: مكونة من قضيتين شرطيتين متصلتين مرتبطتين بواو العطف «و»، والمقدمة الثانية: وهي المقدمة صغرى قضية شرطية منفصلة؛ لكنها استثنائية. وهي التي تثبت التاليتين في القضيتين الشرطيتين الواردتين في المقدمة الأولى (الكبرى)، ويمكن التعبير عن ذلك رمزيًّا بالصيغة التالية: إذا كانت ق كانت ك، وإذا كانت ل كانت م إذن إما ق أو ل وتقرأ: في حالة ما إذا صدقت (ق) صدقت (ك)، وإذا صدقت (ل) صدقت (م)، ولما كان إما أن تصدق (ك) أو تصدق (م). فلا بد أن تصدق (ق) أو أن تصدق (ل). أي إذا كانت العقارات التي في التركة، والتي هي على شكل مال مخزون في صندوق أو في كتب ملكًا للزوج في الأصل صادقة، فإن للزوجة الحق في أن ترث تلك العقارات صادقة، ولما لم تكن تلك العقارات صادقة، فإن الزوجة ليس لها الحق في أن ترث تلك العقارات صادقة؛ لكنه إما أن تصدق فكرة أن للزوجة الحق في أن ترث تلك العقارات، أو تصدق فكرة أن الزوجة ليس لها الحق في أن ترث تلك العقارات. وبالتالي فلا بد أن تصدق فكرة أن العقارات التي التركة ملك للزوج في الأصل أو تصدق بأنها ليست ملكه. والسؤال الآن: كيف حاول شيشرون رد الإحراج من خلال هذا الاستدلال؟ إذا كانت العقارات التي في التركة ملكًا للزوج في الأصل. فقد أوصى بها للزوجة؛ وإذا لم تكن تلك العقارات التي في التركة ملكًا للزوج في الأصل، فقد أوصى بها للزوجة أيضًا. ويمكن التعبير عن ذلك رمزيًّا بالصيغة التالية: إذا كانت ق كانت ك. وإذا كانت ل كانت ك. إذن ك وبلغة المنطق الرمزي الحديث تكون لدينا الحجة المنطقية الصحيحة التالية: إذن ك وبصيغة أخرى: وتقرأ: في حالة ما إذا صدقت (ق) صدقت (ك)؛ وإذا صدقت (ل) صدقت (ك) أيضًا؛ ولكنه إما أن تصدق (ق) أو تصدق (ل)؛ للزم عن ذلك أنه لا بد أن تصدق (ك). ويمكن التعبير عن ذلك رمزيًّا بالصيغة التالية: إما ق أو ك إذن ك وبلغة المنطق الرمزي الحديث تكون لدينا الحجة المنطقية التالية: إذن ك وبصيغة أخرى: إما ق أو ك إذن لا ك وتقرأ: أن القول بصدق إحدى القضيتين (ق، ك) على الأقل، والقول بأن القضية (ق) صادقة، كل هذا يلزم عنه أن تكون القضية (ك) صادقة وهو استدلال لزومي صحيح، وتتضح صحته من خلال المثال؛ حيث إن القول بصدق إحدى القضيتين أو الاستفادة من الكميات الكبيرة من النبيذ والزيت على الأقل، وهي إما أن تكون السيدة لها حق الانتفاع ببعض ملكيته والقول بأن السيدة لها حق الانتفاع ببعض ملكيته صادقة، كل هذا يلزم عنه أن السيدة ليس لها حق الانتفاع من الكميات الكبيرة من النبيذ والزيت. وهذا الاستدلال الذي ينسبه شيشرون إلى أرسطو، ليس إلا تطبيقًا للقاعدة السادسة والتي قال عنها: ليس كل من هذا وذاك صادقًا معًا، ولكي يكون هذا صادقًا، إذن ليس صادقًا، وهذه القاعدة هي الصورة التي يطلق عليها طريقة النفي بالإثبات، وإن كانت تنطوي على إثبات بنفي، وهي عبارة عن قياس شرطي منفصل بالمعنى القوي بعد أن رد شيشرون الانفصال إلى عطف بواسطة النفي التناقضي، وهذا القياس يتألف من مقدمة شرطية عطفية يكون مقدمها نفيًا لأحد البديلين، ثم مقدمة حملية مثبتة لمقدم القضية الشرطية العطفية ونتيجة نافية لتالي تلك القضية. وبذلك يكون الاستدلال صحيحًا ويمكن التعبير رمزيًّا عن صحة هذا الاستدلال فيما يلي: ليس كل من ق وك معًا إذن لا ك وباستخدام لغة المنطق الرمزي الحديث تكون لدينا الحجة الصحيحة التالية: وبصيغة أخرى: وتقرأ: أنه من الكذب القول بأن القضيتين (ق، ك) صادقتان معًا، ثم القول بصدق (ق) في الوقت نفسه، يلزم عنه أن تكون القضية (ك) كاذبة؛ وهي صيغة تعبر عن استدلال صحيح، لأن المقدمة الأولى في هذه الصيغة من خلال المثال تقرر أنه من الكذب القول بأن الأطفال ينتسبون إلى الأب وفي الوقت نفسه يأخذون النفقة، صادقتان معًا ثم القول بأن الأطفال ينتسبون إلى الأب صادقة، وعلى ذلك تكون النتيجة التي تلزم عن المقدمتين هي أنهم يأخذون النفقة (كاذبة). وهذا الاستدلال الذي ينسبه شيشرون لأرسطو، ليس إلا تطبيقًا للقاعدة السابقة، والتي يقول عنها: «ليس كل من لا هذا ولا ذاك صادقًا معًا، لكن هذا ليس صادقًا، إذن ذاك صادق»، وهذه القاعدة هي تعبير آخر عن قياس شرطي منفصل بعد أن ردَّ شيشرون الفصل إلى عطف بواسطة النفي المزدوج، حيث تكون فيه المقدمة الحملية مفكرة لمقدم الكبرى العطفية المنفية نفيًا مزدوجًا، والنتيجة مثبتة لتالي المقدمة، وبهذا يكون الاستدلال رمزيًّا. ليس كل من ق ولا ك معًا ولكن لا ق إذن ك إذن ك وتقرأ: إن الكذب في القول بأن القضيتين ق، ك كاذبتان معًا، ثم القول بكذب القضية ق في الوقت نفسه، يلزم عنه أن تكون القضية ك صادقة، وبالتالي يصبح الاستدلال صحيحًا، لأن المقدمة الأولى في هذا الاستدلال — وهي من خلال المثال — تقرر عدم إمكان كذب القضيتين لا ق، لا ك معًا. في حين أن المقدمة الثانية فيها — وهي ق — كاذبة، وعلى ذلك تكون النتيجة صادقةً، ومن ثم فالاستدلال صحيح. مما سبق يتضح لنا الكيفية التي طبق بها شيشرون المنطق الأرسطي في ميدان القانون الروماني من جانب، وعلى أن الحجج العامة التي ذكرها أرسطو في كتابه الطوبيقا قد أخذت عنده طابعًا رواقيًّا متمثلًا في تطبيق القواعد السبع للاستدلالات المنطقية من خلال أمثلة قانونية. والسؤال الآن: إذا كان مناطقة العرب قد عرفوا عملية مزج المنطق الرواقي بالمنطق الأرسطي عن طريق شراح أرسطو؛ فهل استفادوا بهذا المزج في دراساتهم وأبحاثهم الدينية مثل فلاسفة العصور الوسطى؟ الحقيقة أنهم استفادوا منه استفادة كبيرة، فقد تناولوه بالبحث والدراسة، واستخدموه كمنهج للتفكير في بعض المشكلات والمسائل الدينية، فعلى سبيل المثال، نجد كتابات معظم المتكلمين تبدأ بعرض المسائل المنطقية والمنهجية والحديث عن طريق العلم وأنواع الاستدلال قبل الخوض في المسائل الكلامية، نجد ذلك عند أبي الحسن الأشعري (ت٣٢٤ﻫ) في كتابه «اللمع»، وأبي بكر الباقِلَّاني (ت٤٠٣ﻫ) في كتابه «التمهيد في الرد على الملاحدة»، ثم الجويني (ت٤٧٨ﻫ) في كتابه «الشامل»، ومن بعده الغزالي (ت٥٠٥ﻫ) في كتابه «القسطاس المستقيم»، كما نجد هذا الاتجاه أكثر بروزًا عند «عضد الدين الإيجي» (ت٧٥٦ﻫ) في كتابه «المواقف في علم الكلام»؛ وهو موسوعة كلامية فلسفية استطاع من خلالها أن يُقحِم المنطق الرواقي بالمنطق الأرسطي، وذلك من خلال استخداماته للتعريف، والتقسيم، والمفهوم، والماصدق، والقضايا الحملية، والقضايا الشرطية بأنواعها: المتصلة والمنفصلة في علم الكلام. ويُعد الإمام ابن حَزْم الأندلسي من أوائل الفقهاء المسلمين الذين أدخلوا في علم أصول الفقه الأقيسة الحملية والشرطية، ويشهد على ذلك كتابُه «التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية». ويمكن أن نعرض نموذجًا لبعض الأمثلة التي طبق من خلالها ابن حزم الأقيسة الحملية والشرطية في ميدان الفقه، وذلك من خلال هذا الكتاب فيما يلي: الأقيسة الحملية: المثال الأول: وهو عبارة عن تطبيق الضرب الأول من الشكل الأول. كل خمر حرام المثال الثاني: وهو عبارة عن تطبيق للضرب الأول من الشكل الثاني. ليس شيء حلالًا مما نهيت عنه المثال الثالث: وهو عبارة عن تطبيق للضرب الأول من الشكل الثالث. ليس أحد من المجرمين مباحًا له النساء الأقيسة الشرطية: ونكتفي بذكر مثالين لبعض الأقيسة الشرطية المتصلة لنبين الكيفية التي طبق من خلالها ابن حزم تلك الأقيسة في ميدان الفقه، وذلك فيما يلي: المثال الأول: وهو عبارة عن تطبيق للقياس الشرطي المتصل المثبت. المثال الثاني: وهو عبارة عن تطبيق للقياس الشرطي المتصل المنفي. هذه هي بعض الأمثلة التي طبق من خلالها ابن حزم الأقيسة الحملية والأقيسة الشرطية في ميدان الفقه الإسلامي؛ ولا شك في أن محاولته تلك قد كان لها بالغ الأثر عند الفقهاء الذين جاءوا بعده، وبالأخص الإمام الغزالي الذي ساهم مساهمة فعالة في تطوير الاستدلالات المنطقية سواء الأرسطية والرواقية من أجل تطبيقها على القضايا والمسائل الفقهية. وخلاصة كل ما تقدم: يمكن القول بأنه إذا كانت طوبيقا شيشرون قد جاءت لتفُض النزاع والخلاف القائم بين المشائيين والرواقيين خلال القرن الأول عن طريق مزج المنطق الأرسطي بالمنطق الرواقي، فإن هذه المحاولة بصرف النظر عن قيمتها الموضوعية، وبصرف النظر عن مدى تناسق دعوة شيشرون في هذا المزج الذي غلب فيه المنطق الرواقي على حساب المنطق الأرسطي. بصرف النظر عن ذلك كله، فقد كان له من النجاح في مزج المنطق الأرسطي بالمنطق الرواقي مزجًا أضحى من خلاله معظم مناطقة العصور الوسطى لا يميزون أحيانًا بين كون هذا من منطق أرسطو، وكون هذا من منطق الرواقيين، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنهم ورثوا هذا التقليد عن طريق الشُّراح الأرسطيين الذين مزجوا المنطق الرواقي بالمنطق الأرسطي مع عدم التمييز بينها. ومن ناحية أخرى، فإن طوبيقا شيشرون قد أسفرت عن كونها أول محاولة في علم مناهج البحث، وذلك حين مزج المنطق الأرسطي بالمنطق الرواقي من خلال أمثلة مستقاة من القانون الروماني، تلك الأمثلة التي ترتبط بوقائع حية تقتضي إعمال القانون فيها، من حيث هو علم يرتبط أساسًا بالواقع العملي لحياة الناس وعلاقاتهم في ظل شريعة القانون الروماني الصارم. ولا شك في أن هذه المحاولة قد كان لها من النجاح مثل محاولته مزج المنطق الأرسطي بالمنطق الرواقي على معظم المناطقة والمفكرين الذين جاءوا بعده، وقد أوضحنا ذلك حين سردنا باختصار شديد نفس الظاهرة على الفقهاء الرومان الذين طوروا ومزجوا المنطق بالقانون، وأيضا على جالينوس الذي مزج المنطق بالطب، وأيضًا على فلاسفة العصور الوسطة سواء في الغرب أو الشرق؛ وذلك حين استخدموا المنطق كمنهج للتفكير في بعض المشكلات والمسائل الدينية؛ سواء اللاهوتية أو الكلامية أو الفقهية. ابن حزم الأندلسي: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، تحقيق: د. إحسان عباس، مكتبة الحياة، بيروت، بدون تاريخ. د. إكرام فهمي حسن: التقليد الطبي في مدرسة الإسكندرية، وأثره في نشأة المنطق العربي، رسالة ماجستير غير منشورة بآداب القاهرة، ١٩٩١م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، ترجمة: د. إسماعيل عبد العزيز، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٦م. جورج سباين: تطور الفكر السياسي، الكتاب الثاني، ترجمة: حسن جلال العروسي، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦٤م. د. حسن عبد الحميد: مقدمة في المنطق، الجزء الأول (المنطق الصوري)، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، ١٩٨٠م. د. حسن عبد الحميد، ود. محمد مهران: في فلسفة العلوم ومناهج البحث، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، ١٩٧٨م. روبير بلانشي: المنطق وتاريخه منذ أرسطو حتى راسل، ترجمة: د. خليل أحمد خليل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ١٩٨٠م. د. عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، الجزء الثاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٨٤م. د. عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٧١م. د. محمد السرياقوسي: التعريف بالمنطق الرياضي، الإسكندرية، ١٩٧٨م. د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزي «نشأته وتطوره»، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، ١٩٧٩م.
محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن». محمود محمد علي: كاتب وفيلسوف مصري معاصِر، يشغل حاليًّا منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط. وُلد «محمود محمد علي محمد» عام ١٩٦٦م في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ونشأ كأبناءِ بلدته على حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية. التحق بمدرسة المجلس الابتدائية، ثم المدرسة الإعدادية الجديدة، ثم مدرسة أخميم الثانوية التي تخرَّج فيها عام ١٩٨٤م، ثم انتقل إلى محافظة أسيوط حيث التحق بجامعتها وتخصَّص في دراسة الفلسفة، فتخرَّج فيها حاصلًا على درجة الليسانس من كلية الآداب عام ١٩٨٨م، وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٩٠م من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عن موضوع «المنطق الإشراقي عند السُّهْروردي المقتول في ضوء المنطق الأوروبي الحديث»، ونال درجةَ الدكتوراه من جامعة جنوب الوادي عامَ ١٩٩٥م عن موضوع «المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة». عُيِّن أولًا مُعيدًا بكلية الآداب بجامعة حلوان، ثم رُقِّي إلى منصب مدرس للمنطق وفلسفة العلوم بالكلية نفسها بعد حصوله على درجة الدكتوراه، ثم رُقِّي إلى منصب أستاذ مساعد، فأستاذ عامَ ٢٠١٢م. عمل بالتدريس في العديد من الجامعات المصرية، مثل جامعة حلوان وأسيوط وجنوب الوادي، كما كان مدرسًا بجامعة السابع من أبريل (جامعة الزاوية حاليًّا) بليبيا، وعمل محاضرًا في جامعة جورجيا الأمريكية في عام ٢٠٠١م، وذلك أثناء فترة انتدابه بالولايات المتحدة، هذا فضلًا عن مُشارَكاته العديدة في المؤتمرات المحلية والدولية. كتَب في العديد من المجالات الفلسفية والفكرية، ولا سيما الفكر السياسي، وأخرَج عددًا من المؤلَّفات من أبرزها: «موسوعة أجيال الحروب»، و«جماليات العلم»، و«العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه»، و«الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، و«المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصَرة»، و«النحو العربي وعلاقته بالمنطق»، هذا فضلًا عن دراساته ومقالاته في فلسفة العلوم والمنطق، وفي موضوع جائحة كورونا، كما ترجَم كتاب «البصيرة والفَهم: دراسة في أهداف العلم» لمؤلِّفه «ستيفن تولمن».
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/1/
نجيب محفوظ والفنون
يستمد القارئ والناقد الكثيرَ من المعلومات عن قراءات نجيب محفوظ المختلفة، وما يحبُّه من أشكال الفن والموسيقى، من العديد من الأحاديث واللقاءات الصحفية والأدبية، التي أجراها معه الأساتذةُ: رجاء النقاش، ومحمود سلماوي، وجمال الغيطاني، وفؤاد دوارة، وغيرهم. وقد لفت نظري حديثُ الأستاذ المتكرر عن كتاب مهم، عكف على مطالعته في فترة الصِّبَا، وأمدَّه بمعلومات أساسية عن الآداب العالمية، وهو كتاب «موجز تاريخ الأدب» تأليف جون درنكووتر. وقد سعيتُ منذ فترة للبحث عن ذلك المرجع، وهو من ثلاثة أجزاء كبار، وحصلت على نسخة منه بصعوبة؛ حيث إن تاريخ طبعه يرجع إلى العشرينيات من القرن الماضي. وقد أحسستُ بشغفٍ بالغ لمطالعة الكتاب الذي طالعه أستاذنا في فترة التكوين، والذي لا شك أنه قد ترك أثرَه الثقافي فيه، وأمدَّه بإطار عام للأدب العالمي، يختار منه بعد ذلك ما يُثير اهتمامه لقراءته والتبحُّر فيه. والكتاب مطبوع طباعة أنيقة، ويحتوي كلُّ جزء منه على ما يقرب من الخمسمائة لوحة تتصل بموضوعات الكتاب، وصور توضيحية للموضوعات، على ورق مصقول يزيد من متعة القارئ، وقد أشار الأستاذ إلى تلك الصور واللوحات التي تركَت في نفسه انطباعًا جميلًا عن الكتاب. والجزء الأول من «موجز تاريخ الأدب العالمي» يبدأ باستعراض أول كتابات وُجدت في التاريخ، قبل ظهورِ أيِّ نوع من المخطوطات أو المطبوعات بآلاف السنين، واعتمد المؤلف على أحدث الاكتشافات الأثرية التي ظهرَت حتى العصر الذي عاش فيه، فهو يحدِّثنا عن الألواح ذات الكتابة المسمارية، التي تم العثور عليها في «نينوى» القديمة، والموجودة الآن في المتحف البريطاني، وترجع إلى عام ٤٠٠٠ق.م. ومن آرائه الجريئة الطليعية، أن العبرانيِّين لا بد وأنهم قد استقَوا قصة الطوفان من روايات الكلدانيين القدامى عنه، ثم ينثني المؤلف للحديث عن الحضارة المصرية القديمة، وكتاب الموتى، ويشير إلى أن كتاب «بتاح-حتب» يمكن أن يكون أقدم كتاب في العالم؛ إذ إنه كُتب قبل مولد النبي موسى بألفين من السنين، وقبل تجميع كتاب «الفيدا» الهندوسي المقدس بألفين من السنين كذلك، ويقتبس المؤلف صفحة كاملة من هذا الكتاب الفرعوني، قبل أن ينثنيَ للحديث عن الديانات الآسيوية القديمة. ويُخصِّص الكتابُ فصلًا كبيرًا لأول ملحمتَين عرفهما العالم الغربي لليوناني هوميروس؛ الإلياذة والأوديسة، ثم يعرض للكتاب المقدس وتاريخه وموضوعاته بتفصيل كبير، ويُخصِّص فصلًا تاليًا للكتب المقدسة الأخرى، يبرز منها ما كتبه عن القرآن الكريم. وهو في عرضه للإسلام وكتابه المقدس القرآن الكريم موضوعيٌّ للغاية؛ إذ لا نجد فيه أي تحامل أو مغالطات من التي دأب كثيرٌ من المستشرقين على إلصاقها بالدين الحنيف، بل إن نظرتَه إلى الإسلام وكتابه المقدس ونبيه الكريم تفيض بالثناء والموضوعية، ولكن تجدر الإشارة إلى ورود بعض الأخطاء في ترجمة كلمات معينة من آيات القرآن. ثم يتطرق الكتاب إلى الموضوعات المعهودة في تاريخ الأدب؛ فيعرض للأدب اليوناني الذي يستفيض في شرحه وإيراد أمثلة منه، عارضًا للفلسفة اليونانية وأساطينها المشهورين، والمسرح اليوناني الكلاسيكي، والأساطير والشعر اليونانيَّين، ويقوده الأدب اليوناني إلى الأدب اللاتيني الروماني؛ فيستعرض المؤلف أشعار أوفيد وكاتولوس، وخُطب شيشيرون، والحديث عن آلهة الرومان وأساطيرهم، ويلاحظ القارئ تداخلًا بين الأدبَين اليوناني واللاتيني، قد يكون المؤلف قد تعمَّده، مبيِّنًا التأثر الشديد لأدب روما بأدب اليونان. ثم ينتقل المؤلف نقلة مفاجئة إلى العصور الوسطى، ويحدد بداياتِها بسقوط روما على يد القوط الغربيِّين عام ٤١٠ ميلادية، وتستمر حتى سقوط القسطنطينية في يد الأتراك عام ١٤٥٣، ويمهِّد للأدب في تلك الفترة الطويلة بفذلكة تاريخية، يمرُّ فيها سريعًا على الحضارة الرفيعة التي أقامها العرب في إسبانيا، حينما كانت أوروبا غارقة في عصورها المظلمة، ليتحدث بعد ذلك عن أدباء تلك الفترة؛ كالقديس أغسطين صاحب الاعترافات المشهورة، وعن الملحمة الشعبية الألمانية نيبلونجن، وأشعار التروبادور، ودانتي وكوميديته الإلهية، ثم تشوسر أبو الشعر الإنجليزي كما يسميه. ومن الملاحظ هنا أن المؤلف لا يُشير من قريب أو بعيد إلى أثر الأدب العربي في الأندلس، وغيرها في أشعار التروبادور وفي دانتي وتشوسر؛ حيث إن الحديث والبراهين عن الأثر العربي في تلك الأعمال المبكرة لم يبدأ إلا بعد ذلك في دراسات الأدب المقارن، التي وضعَتها باقة من المستشرقين الإسبان، أمثال آسين بالاثيوس ومنندث بيدال. ثم يقفز بنا المؤلف مرة أخرى إلى عصر النهضة، ممهِّدًا له بنُبذة قصيرة عن أسباب الصحوة من عصور الظلام الغربية، ويعرض الكتاب لأريوستو ومكيافللي ورابليه ومونتاني، ثم يُفرد فصلًا طويلًا لسرفانتس وروايته «دون كيخوته»، وهو محقٌّ في هذا؛ إذ أصبح هذا الكتاب رائدًا لفن الرواية، حتى إن النقادَ العالميِّين اختاروه في العام الماضي كأفضل رواية عالمية على وجه الإطلاق. ويدلف الكتاب إلى أوائل المؤلفات التنويرية التي تعتبر أساس الحركة الهيومانية في عصر النهضة، وهي مؤلفات إرازموس وتوماس مور وبدايات كتب العصر الإليزابيثي في إنجلترا. ويبدأ المجلد الثاني من الكتاب المرجع بأسطورة الأدب في كل زمان ومكان: ويليام شكسبير، وقد ركز في حديثه عنه على الأفكار والخطوط العامة وراء أعماله أكثر من تركيزه على مسرحيات معينة، ثم يُفرد المؤلف جانبًا كبيرًا للأدب الإنجليزي من ملتون حتى شعراء القرن الثامن عشر، إلا أنه لا يسير وفق منهج معين حسب الموضوعات أو البلدان المختلفة، بل يسير طبقًا للمنهج الزمني للآداب العالمية؛ ففي وسط حديثه عن الأدب الإنجليزي، يُعرِّج إلى الأدب الفرنسي، ليُغطيَ أدب وفكر عصر لويس الرابع عشر، ويهمُّنا هنا، الفصل الذي يعقده لنشأة الرواية على يد: دانييل ديفو وصمويل ريتشاردسون وفيلدنج، ثم يعود ثانية إلى فولتير وروسو، ثم يعرض لشخوص الأدب الألماني، ممثلًا في: جيته وشيللر ولسنج، قبل أن يستعرض بالتفصيل شعراء البحيرة الإنجليز، ثم الشعراء الرومانسيِّين الأشهر: بايرون وشلي وكيتس. ومن الأمور اللافتة في هذا المجلد، حديث المؤلف عن الأثر الذي تركَته «ألف ليلة وليلة» في بعض الروائيِّين والشعراء، وكانت قد ظهرت لأول مرة بالفرنسية على يد «أنطوان جالان» عام ١٧٠٤، وتَبِعها على الفور العديد من الترجمات إلى اللغة الإنجليزية. وفي المجلد الثالث والأخير، يستمر المؤلف في اتباع منهجه الزمني، دون ارتباط بموضوعات معينة، فيبدأ بالرواية عند والترسكوت وألكساندر ديماس وفكتور هوجو، وبعد ستين صفحة عن الشعراء الفيكتوريِّين في إنجلترا، يعود إلى الرواية عند ثاكري وديكنز، ثم يغطي في سرعةٍ أعلامًا روائية، مثل: الأخوات برونتي وجورج إليوت، ويعقد المؤلف فصلًا طويلًا عن أدباء أمريكا: إمرسون، هورثون، إدجار ألان بو، ثورو، والت ويتمان، مارك توين … وغيرهم، ويعود إلى فرنسا في القرن التاسع عشر ليتحدث عن: جورج صاند وبلزاك وفلوبير وزولا وموباسان وإرنست رينان وبودلير وفيرلين، ويلاحظ هنا غياب الشاعر المتمرد أرثر رامبو عن الصورة؛ ربما لأنه لم يكن قد اندرج بعدُ في إطار الموروث الأدبي الفرنسي، كما يلاحَظ أن هذه الباقة من الروائيِّين الفرنسيِّين، هي ممن يشير النقاد إلى تأثُّر نجيب محفوظ بكتاباتهم. في الفصول الباقية من هذا المجلد يستعرض المؤلف المئاتِ من الكُتَّاب من كل الجنسيات، يهمُّنا منهم الروائي الفرنسي مارسيل بروست وروايته الملحمية «البحث عن الزمن الضائع»، التي قرأها الأستاذ نجيب بعد ذلك بالإنجليزية، ويعرض الكتاب سريعًا لأعلام الأدب الروسي، محتفيًا بدستويفسكي وتولستوي اللذَين نعرف أنهما من الروائيِّين المحبَّبِين لأستاذنا، ويذكر المؤلف أن رواية الجريمة والعقاب لدستويفسكي هي أفضل رواية واقعية على الإطلاق، ورغم إشارة درنكووتر إلى الشاعر والمسرحي الأيرلندي ويليام بتلرييتس، وفوزه بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٢٣، فإنه لم يكتب كلمةً واحدة عن مواطنه الشهير جيمس جويس؛ ربما لأنه أيضًا لم يكن قد استقرَّت مكانتُه بعدُ في الرواية الحديثة، وربما تُنيرنا العبارة التالية التي اختتم بها درنكووتر كتابه، وتُلقي الضوء على سبب إغفاله العديد من الأدباء الواعدين في عصره: «أما عن الكُتَّاب الشبان الذين ما زالت قدراتُهم في طور التكوين، فليس لهم مكانٌ في هذا الموجز.» ويعجب القارئ من فعل الزمن في التقييم الأدبي والنقدي لدرنكووتر، فهو يهتمُّ بكثير من الأسماء التي لا يكاد يكون لها ذكرٌ الآن، بينما يُغفل أسماءً نَفَضَ عنها الزمنُ غبارَه، وأصبحوا من نجوم الأدب العالمي، وهو يُهمل ذكْرَ الكُتَّاب الذين ما زالوا في طَور التكوين؛ كجويس وهمنجواي وفيرجينيا وولف، الذين أصبحوا من عُمَد الرواية الحديثة، حيث تحتلُّ روايةُ عوليس لجيمس جويس الصدارةَ في الأعمال القصصية في القرن العشرين، وقد أصاب الزمن المؤلف درنكووتر أيضًا بآثاره؛ فرغم أنه كان من مشاهير الشعراء في زمنه، لا يكاد أحدٌ يذكره الآن! والآن، إلى اللوحة. في حديث للأستاذ نجيب مع محمد سلماوي ردًّا على سؤال عن الفنون التي أحبَّها، قال الأستاذ: «أما من حيث الفن التشكيلي، فأذكر لوحةً معينةً لفان جوخ أعتقد أن اسمها ساعة الراحة، وكانت تمثِّل فِناءَ سجنٍ كبير والمسجونون يدورون فيه في طابورٍ وقتَ راحتهم، وقد تأثرتُ بهذه اللوحة بشكلٍ خاصٍّ.» واللوحة المُشار إليها، رسمها فان جوخ عام ١٨٩٠، وهو نزيل مصح عقلي في مدينة «سان ريمي» بجنوب فرنسا، نقلًا عن لوحة بالأبيض والأسود للرسام الفرنسي جوستاف دوريه، كان ثيو قد أرسلها لأخيه وهو في المَصَح، وكان فان جوخ قد دخل المَصَح بإرادته بعد نوبة الهياج التي أصابَته في مدينة آرل، وهو يقيم مع الرسام بول جوجان، والتي انتهت بحادثةِ قطعِ فان جوخ لأذنه. ونظرةٌ واحدة إلى اللوحة، تُنبئنا بالسبب الذي حبَّبها للأستاذ نجيب محفوظ؛ إذ إنها تمثِّل الحالة الإنسانية أصدقَ تمثيل: الإنسان سجين، يدور في حلقات مفرغة، يراقبه أناسٌ بورجوازيون ميسورون يرتدون القبعات العالية، ويبرز في هذه اللوحة السجين الذي يتوسطها، والذي رأى فيه النقادُ شخصيةَ فان جوخ نفسه، وهو الوحيد الذي لا يرتدي قبعة السجن، ويتطلع أمامه إلى المجهول في ترقُّب وقلق وحيرة، والحق أني ما تطلَّعت إلى وجه هذا السجين بعد أن قرأتُ ما كتبه الأستاذ عنها، إلا وتذكرتُ حيرةَ كمال عبد الجواد الوجودية، وصيحته المعبرة في «قصر الشوق»: أنا الحائر أبدًا. وتستبين حيرةُ الوجود في كثير من أعمال الأستاذ وشخوصه، مثل بطل «الشحاذ» الذي فشل في التكيف مع أنماط عديدة للحياة، وبطل «الطريق» الذي يبحث عن هويته الضائعة، وقد كتب فان جوخ لأخيه ثيو بعد إتمام هذه اللوحة، قائلًا: «إن كل ما يحيط بي ها هنا قد بدأ يثقل عليَّ، لقد قضيتُ عامًا كاملًا في المَصَح ولا أستطيع الاستمرار، فقد نفد صبري يا أخي العزيز، ولا أستطيع أن أتحمل المزيد، لا بد من التغيير، حتى لو كان إلى الأسوأ.» وقد قضى فان جوخ على حياته بعد أشهر من رسمه لهذه اللوحة. أما القطعة الموسيقية التي عشقها أستاذنا نجيب محفوظ — بين الكثير من المقطوعات الأخرى عربيةً وأجنبية — فهي السيمفونية التاسعة لبيتهوفن. كان لا بد من وجود هذا العمل التفاؤلي، كي يوازنَ الصورة المتشائمة التي تُقدمها لوحة فان جوخ؛ فهذه السيمفونية احتفاءٌ بالحياة والحب الإنساني والأخوة بين بني البشر، وهي تعتبر من أشهر السيمفونيات الكلاسيكية وأحبها إلى عشاق هذا النوع من الموسيقى، إضافةً إلى سيمفونيته الخامسة بالطبع. وقد وضع بيتهوفن سيمفونيته التاسعة بعد فترة انقطاع طويل عن السيمفونيات بعد السيمفونية الثامنة، خاض خلالها فترةً عصيبة من حياته، وصلَت إلى حدِّ اتهام الناس له بالجنون، ثم فاجأ الجميع بهذه السيمفونية التي يصفها معظمُ نقاد الموسيقى بأنها أعظم وأهم عمل مفرد في تاريخ الموسيقى الأوروبية. وقد قدَّم بيتهوفن في هذه السيمفونية ملحمةً رؤيوية، تُصوِّر في قسمها الأول الصراعَ المعاصر بين شتى العوامل الإنسانية والتاريخية، ليخرجَ من هذا الصراع إلى مستقبل طوباوي، يمكن فيه خلقُ مدينة فاضلة يعيش فيها الناس في ودٍّ وإخاء. وقد استخدم بيتهوفن فيها لأول مرة الكورال كيما يُنشدَ جزءًا من قصيدة للشاعر الألماني شيللر، بعنوان «أنشودة إلى البهجة»، يقول فيها: وقد لاقَت السيمفونية التاسعة احتفاءً من كثير من الاتجاهات التي تُناقض بعضُها بعضًا، وتبنَّاها الكثير من الجماعات والبلدان والأحزاب، بيد أنها تَوَّجت نجاحها باختيار الاتحاد الأوروبي لحنها الأساسي كنشيد رسمي لأوروبا الموحدة.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/2/
كمال عبد الجواد، اللامنتمي
هذه الرغبة في إيجاد هدف يربط الإنسان نفسه إليه ويسعى إلى تحقيقه، هي ما يعطي للحياة شكلًا ومعنًى، وهي كل ما يسعى إليه مَن وجد نفسه في الموقف الذي يقف فيه كلُّ لا منتمٍ، واللاانتماء ليس مذهبًا من المذاهب الموضوعة كالوجودية أو الرومانسية مثلًا، فليست هناك قوانينُ تُحدده وتعرِّفه، إنما هو سلوك ينتهجه المرء نتيجةً لتجارب مرَّ بها، أو لمشكلات عانى منها، فهذه التجارب وهذه المشكلات تصوغ اتجاهَه وموقفه صياغةً جديدة، وتكشف عن اتجاهات أخرى، يجد نفسه فيها مدفوعًا إلى انتهاج مسلك معين في حياته، وعلى ذلك، فاللامنتمي لا يُولد لا منتميًا، بل تدفعه ظروفٌ ومحيطُ حياته الذي يعيش فيه إلى أن يتأمل داخل نفسه وفي طبيعة الأشياء التي تحوطه، حتى ينتهيَ إلى هذا الموقف الذي يتخذه تجاه الحياة عامة. وليس هناك من سبب واحد، ولا حتى سبب رئيسي، يكون هو المسئول عن اندفاع أي امرئ في هذا التيار، إنما هي عدة عوامل مختلفة تتجمع في سبيل ذلك، معقدةً تعقيد النفس التي تصادفها، وعميقةً عمْقَها، فإذا ذكرنا هنا عدة أسباب من هذه العوامل، أو تناولنا شخصيةَ اللامنتمي من عدة جوانب مختلفة، فإن ذلك لا يعني أن هذه هي كلُّ الأسباب والجوانب. فهناك كما ذكرنا هذه الحاجة الطبيعية التي يشعر كلُّ فردٍ حيٍّ بضرورة وجودها، وهي أن يجد شيئًا يرتبط به، وهذه الرغبة تلتمس فعاليَّتَها وقوَّتَها من وجود الإنسان في حياة لا يدري كنهَها، ولا يعرف سببًا لوجوده فيها، وفي هذه اللاشيئية المميتة، تنزع النفس إلى إيجاد علة لذلك الخلق، فيهَبُ الفردُ نفسَه إلى شيء ما يُكرِّس وجوده من أجله، ويربط نفسه به برباط قوي مشدود، ويجد فيه حياته والسبب الذي خُلق من أجله، وهو يشعر في هذه الحالة بوجود قوانين تحكم الحياة والناس، فيخضع لها ويكيِّف سلوكه تمشيًا معها، ويصبح منتميًا متفقًا مع البيئة التي يعيش فيها، وهذا الشيء الذي ينتسب إليه الإنسان ليس محددًا مقصورًا، بل قد يكون أي شيء؛ فقد يكون العمل، وقد يكون مبدأ من المبادئ أو فكرة من الأفكار، إلى ما شابه ذلك من الأشياء. وهذه الظاهرة — ظاهرة الانتساب إلى شيء — هي من أهم العوامل التي حددت شخصية كمال، وهي ترتبط عنده بظاهرة أخرى، هي فقدان الإيمان بمُثُل كان يقدِّرها حقَّ قدرها، فكانت أول صدمة يتلقاها فيما يتصل بذلك، ما حدث له حين اكتشف في مطلع حياته أن مسجد الحسين لا يحوي جسد ابن الخليفة علي، على مثل ما كان يعتقد سابقًا، وتركه ذلك الاكتشافُ في خلاءٍ روحي وألمٍ عميق، غير أن تلك الحادثة لم تكن سوى إرهاصًا بما سوف يُصادفه بعد ذلك، حين ربط نفسَه بحب عايدة شدَّاد. وكانت عايدة المثال الذي أقامه في نفسه للجمال والكمال، حتى إنه لم يصدق أنها بشرٌ تَسري عليها القوانين الطبيعية؛ كالحب والزواج والولادة: وقد أدى هذا الحب، الذي دعَّم به كمال حياتَه ووجد فيه كيانه، إلى جعله منتميًا مثاليًّا، فنجده متفقًا مع بيئته التي يحيا فيها تمام الاتفاق؛ فهو متحمس أبدًا لمبادئه السياسية، ولآمال رفاقه من أبناء الشعب لنصرة قضية بلاده، ونشعر — نحن القراء — بحرارة إيمانه بذلك، على عكس ما يحدث منه في «السكرية»، فهو يناقش ويحضر الاجتماعات، ولكنَّا نستبطن أنها مجردُ مشاركة سلبية، ليست لها الحرارة التي كان يَنفُثها فيها كمال سابقًا، وهو مؤمن بالقوانين الوضعية والسماوية، مؤمن بدينه إيمانًا لا حدَّ له، حتى إنه يأبى أن يشرب البيرة أو يأكل لحم الخنزير، حتى لو كان مَن يقدمهما إليه عايدة شدَّاد نفسها، وهو لا يرضى أن يرافق صديقه فؤاد الحمزاوي، لمقابلة قمر ونرجس صديقتَيهما القديمتَين، ويرجع ذلك السلوك إلى أسس دينية ومثالية. وهو بلا شك سعيد بهذا الانتماء وهذا التوافق، بغض النظر عن أنه يحب حبًّا من طرف واحد، أو بدون نتيجة تُرجى. ومنحَه الألمُ العميق الذي جلبَته عليه تجربتُه الغريبة في حب عايدة، إنعامًا للنظر في الأمور لا يتأتى للشخص العادي، وانعكس تفكيرُه في حبِّه على تفكيره في كل الأشياء، ولكن الأثر الرئيسي، الذي عاد عليه من تحطُّم حبِّه بعد زواج عايدة، هو فقدانه الإيمان بالحب، وهو ما كان يعتقده من أسمى المُثل والقيم في الحياة، ففقد إيمانه بالحياة تبعًا لذلك، وصار يتناول كلَّ ما يعنُّ له من الأفكار بالبحث والتحليل، والتهبَ فؤادُه بالشك في كل شيء، فصار المؤمن القديم، الذي ما كان يرضى لأحد أن يتعرض للدين بشيء، مُلحِدًا ناكرًا للدين، ولا عجب في ذلك؛ ألم تكن عايدة هي دينه؟! وانعكس ذلك على بقية سلوكه، فشرب الخمر، وهو الذي لم يرضَ أن يتذوق البيرة سابقًا، وغشيَ دور الدعارة مع ياسين، أخيه الأكبر، بعد أن عافَت نفسه قبل ذلك ما كان يفعله مع قمر ونرجس. ويبزغ عليه هذا التبيان كالفجر بعد الليل الطويل، ويمكن أن نستدلَّ من ذلك على أن كمال قد وجد أن هذه السلبية التي انتهى إليها لا يمكن بحال أن تكون حلًّا لحياته ووجوده، إنما الحل في النزول إلى الحياة، واختيار الصالح منها، والثورة على ما لا يتفق ونفسه، فإن أهم ما في حياة الإنسان هو حريته في التعبير عمَّا يدور في نفسه، سواء كان هذا التعبير متفقًا مع رأي المجموع أو مختلفًا ومعارضًا له. إن هذه السطور القليلة في آخر «السكرية» توضح التحول الذي كان ممكنًا أن يظهر في كمال عبد الجواد، لو صوَّره لنا المؤلف بعد هذه الحوادث. ذلك التحول الذي يأتي كالفجر الجديد، كما حدث «لميرسو» في غريب «ألبير كامي»، حين ثار في نهاية حياته، وتبيَّن أن معنى الحياة لا يكمن في السلبية وعدم الاكتراث، بل هو في التعبير عن النفس؛ سواء كان بالاتفاق مع المجتمع أو بالثورة عليه وعلى نُظُمه، مما يحقق للمرء الوجود الذاتي.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/3/
أولاد حارتنا ومشكلة الشر
أمَّا أن الحارة هي الدنيا، وأن أولاد حارتنا هم البشر، وأن جبل ورفاعة وقاسم هم الأنبياء، فهذا لا شك فيه ولا مراء، ومَن يقول بغير هذا فقد أنكر أحداثًا واضحة لا لبس فيها، وأغمض عينه عن حقائق أدبية لا زيف فيها ولا بُهتان، وأوقع نفسه في متاهة يستحيل عليه معها أن يطابق بين أحداث الرواية وبين أي تفسيرات أخرى. ولقد أثارَت الرواية ضجةً لا تزال تتردد أصداؤها حتى الآن، وبعد مرور ثماني سنوات على نشرها لأول مرة «١٩٥٩»، كما أثارَت حيرةً عريضة بين القُرَّاء وبين النُّقَّاد الذين تعرَّضوا لها أكبر من تلك الضجة وأكثر عمقًا، والضجة والحيرة إنما جاءتا من محاولة إغفال الأحداث، هذه المقالات القصيرة التي نُشرت في الصحف والمجلات عقب صدور الرواية في كتاب، فهي بالعرض والتقديم أشبه، ولم تحتوِ على أيِّ نقدٍ أو تحليلٍ. أما تحميل النص تخريجات لا تمُتُّ له بصلة، فأوضح مَثل عليها الجزء الذي كتبه الأستاذ الناقد غالي شكري عن «أولاد حارتنا» في كتابه «المنتمي»، حين مسَّ القضية الأساسية في الرواية — قضية الدين والعلم — مسًّا رفيقًا، وتجاوزها إلى المفهوم الذي شرع ينقد به الرواية وهو جاهز مسبق في ذهنه، مفهوم المادية التاريخية والمنطق الجدلي، فإذا هذا العمل الأدبي الهام يتحول بين يديه — مثلما تحوَّلَت كلُّ كتابات نجيب محفوظ الأخرى — إلى وثيقة اجتماعية تُضاف إلى وثائق الماركسية، وإذا الناقد ينقل القارئ من هذا العمل إلى متاهات فكرية، لا تمتُّ له بصلة، ولا تُضيف مثقال ذرة إلى فهمِه له وتذوُّقِه لأسراره. والرواية جديدة في كلٍّ من بنائها الفني ومضمونها؛ فقد كان بناؤها شيئًا جديدًا على الأدب العربي الحديث، ومضمونها جديدًا على الموضوعات التي كتب فيها نجيب محفوظ، وحتى لا أستبقَ الأحكام، سأقوم الآن بنقدِ الرواية عن طريق المقارنة والتحليل الموضوعي لشكلها الأدبي وأفكارها الفلسفية، والذي سيخلص إلى أن الرواية — بعكس الظاهر — تُمجِّد الدين وتحثُّ على التمسك به جنبًا إلى جنب مع العلم. بدأ محفوظ عملَه في التأليف الروائي بمرحلة الرومانسية التاريخية، حين كان يعتزم كتابةَ تاريخ مصر القديم في شكل روائي، أخرج منه بالفعل «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طيبة»، ثم مات في نفسه هذا الاتجاه، ليتحول بعد ذلك إلى الواقعية برواية «القاهرة الجديدة»، وظل على هذا المنوال حتى انتهاء «الثلاثية». وقال نجيب محفوظ إنه حين ذهب المجتمع القديم ذهبَت معه كلُّ رغبة في نفسه لنقده، وأعلن أنه لم يَعُد لديه ما يقوله أو يكتبه، وظل على هذه الحال من عام ١٩٥٢ إلى ١٩٥٧ «لم أكتب كلمة واحدة، ولم تنبعث في نفسي رغبةٌ في الكتابة، وكنت أعتبر المسألة منتهية تمامًا حتى وجدتني أكتب «أولاد حارتنا»، وأنشرها سنة ١٩٥٩.» جاءت أولاد حارتنا إذن بعد مرحلة انتهى فيها نجيب محفوظ من المرحلة الواقعية التي استغرقت كثيرًا من كتاباته، وانتهى معها اهتمامُه الواقعي بمشاكل المجتمع ونقده، وأصبح يسعى نحو مدى أوسع وأكثر رحابة، فجاءت روايتُه التالية تجديدًا شاملًا في كلٍّ من الشكل البنائي الذي تقوم عليه، والمضمون أو الخلفية الفلسفية التي تكمن وراءه؛ فمن الناحية الأولى، اتجه المؤلف إلى الشكل الأليجوري الذي يخطُّ الأحداث على نهج معين سابق، هو نهج تاريخ الرسالات الإلهية الثلاث، وهذا ما سنبحثه بالتفصيل فيما بعد. أما من الناحية الثانية، فتعتبر الرواية التعبير التام لنجيب محفوظ عن مأساة الوجود الإنساني، كما أراد أن يسجلها. ولقد تردَّدَت هذه الرؤيا العامة لدى المؤلف كثيرًا في بعض رواياته السابقة كالثلاثية مثلًا، ولكنها لم تستبن في رواية ولم تشغل بها تمامًا إلا في «أولاد حارتنا»، تلك الرؤيا التي تقوم عليها الرواية هي مشكلة الشر في الوجود، والوضع الإنساني في هذه الدنيا، وربما كان هذا الأساس الذي فجَّر منه محفوظ هذه الرؤيا، هو سبب تحرُّج الجميع من الكتابة عنها، وتحرُّجهم من نشرها مرة أخرى في كتاب. ولقد شَغلت هذه المشكلة بالَ المفكرين والفلاسفة والأدباء جميعًا منذ بدء ظهور التفكير الديني، ومنذ بدأ المفكرون يتفلسفون، ومنذ بدأ الأدباء والفنانون يعبِّرون عن ذواتهم؛ فدائمًا ما تنشأ مشكلة من التعارض الواضح بين النظرية والواقع، والمشكلة الدينية ليست استثناءً من هذا، وفي مشكلة الشر يكون التعارض هنا بين إيماننا بالإله — العلة الأولى — وبين واقع التجربة، بين إيماننا بإله هو الحب كل الحب، والقدرة كل القدرة، وبين ظهور الشر وعلو طالعه في الدنيا، ولو أننا كنَّا ننظر إلى الإله باعتباره قوة عليا تسيطر سيطرة استبدادية، وذات نزوات لا يمكن تعليلها ولا تفسيرها، لمَا نشأت هناك مشكلة مثل هذا النوع على الإطلاق، ولكن ما دامت الصفات المتعلقة بالإله صفات قوة وبأس، وما دمنا ننظر إليه باعتباره محبًّا للإنسان وحاكمًا للكون، لذلك تقفز أمامنا المشكلة وتقف لنا وجهًا لوجه: إذا كانت الطيبة والقدرة الإلهية صفتَين ثابتتَين، لماذا يكون هناك شرٌّ إذن؟ كما يتعين علينا أن نواجه المعضلة، التي سبق أن أثارها أبيقور مرة أخرى: لو أن الإله له كلٌّ من القوة والقدرة، فلماذا يكون هناك شر؟ وسيادة الشر تمثِّل حالة ضد الإيمان بقدرة الإله وطيبته، وعلى هذا يجب أن يمرَّ إيماننا بفترة التجريب، وأن ما يجعل الشقاء والمعاناة في الدنيا أكثر إحباطًا، أن معظمها ليس له معنًى أو غرض، وأنها تتوزع دون أي مراعاة للقيمة الأخلاقية، ولقد اشتكى «توماس هكسلي» من ذلك، بقوله: «إذا كان هناك قضية مستمدة من حقائق الحياة الإنسانية، اتفق عليها المفكرون في كل زمان ومكان، فهي أن مَن ينتهك القواعد الأخلاقية ينجو دائمًا من العقاب الذي يستحقه، ويزدهر حال الشرير، بينما الصادق الورع يشحذ رزقه، وتنزل خطايا الآباء على الأبناء، وتُعاقِب الطبيعة الجهولَ معاقبتَها للخاطئ المتعمد، والآلاف من المخلوقات البريئة تُقاسي من أجل جريمة غير مقصودة ارتكبها إنسان واحد … وعلى هذا، فإذا حكمنا على الكون من وجهة النظر الأخلاقية، فإنه يبدو كونًا فاسدًا.» وهذه اللامبالاة في توزيع العقاب والثواب — وهو منشأ عقدة المشكلة في رواية أولاد حارتنا، حين اختار الجبلاوي أدهمَ ليكون ناظر الوقف دون سبب ظاهر — هو الذي يُظهر الإله بمظهر القسوة في معاملة الإنسان؛ يقول جون ستيوارت ميل: «لو أن العدالة هي قانون كل الخلق، وكان الخالق قادرًا، إذن لتوزَّع الشقاء والسعادة على الدنيا، فيتساوى نصيبُ كلِّ فرد فيها على حسب أعماله الطيبة والشريرة تمامًا … ولا يُنكر أحد أن الدنيا التي نعيش فيها تختلف عن ذلك تمامًا.» هذا الشر لا سبب له، ولا يدرك أحدٌ من الذين يتلقَّون ضرباتِه مدى استحقاقهم له، فهم «مقضيٌّ عليهم بسجن لا يمكن تصور مداه، من أجل جريمة غير معروفة»، ويوضح «كامو» أن الشر أعمى، وأنه قد يأتي من أقرب الأصدقاء، وكما صوَّر في روايته «الغريب» أصدقاء البطل «ميرسو»، يحاولون إنقاذه من تهمة القتل بالشهادة في صفِّه أثناء محاكمته، فيزيدون من التصاق التهمة ضده دون أن يقصدوا ذلك، يعود فيقول في «الطاعون»: «إن الشر الموجود في العالم يرجع كلُّه تقريبًا إلى الجهل دائمًا، وإن طيبة النفس إذا لم تتوفر لها الاستنارة، قد تؤدي إلى نفس الأضرار التي تنتج عن الشر»، وتتجلَّى عبثيةُ العالم وسيادة الشر فيه ولا معقولية هذا الشر، في المشهد الذي يُصيب الطاعون فيه طفلًا صغيرًا بريئًا ويموت به، وفي ثنايا الأوصاف المُرهفة والتفاصيل الدقيقة، التي رسم بها «كامو» هذا المشهد، تأكيد لهذه العبثية وتلك اللامعقولية. يقول المؤلف عن «تارو» و«ريو» بطلَي الرواية، و«ريو» هذا هو الراوي، ويقوم مقام «كامو» نفسه: «لقد شاهدَا من قبل أطفالًا يموتون، فإن الهول الذي بدأ منذ أشهر لم يكن يُتعب نفسه في الاختيار، ولكن لم يحدث قط لهما أن تتبَّعا آلام الضحايا دقيقة بدقيقة، كما يفعلان الآن منذ الصباح. ولا شك أن الآلام التي صبَّتها الأقدار على هؤلاء الأبرياء لم تكُفَّ يومًا عن الظهور في أذهانهم بمظهرها الحقيقي، أي على أنها فضيحة، ولكنهما — حتى الآن على الأقل — كانا يشعران بتلك الفضيحة بصورة تجريدية على نحو ما؛ لأنهما لم يكونا قد رأيا أبدًا عن قرب ولمدة طويلة احتضارَ أحد الأبرياء، وفي تلك اللحظة، أخذ الطفل يتلوَّى من جديد، كما لو كانت أفعى قد عضَّته في معدته، وراح يئنُّ أنينًا خافتًا، وظل هكذا ثوانيَ عديدة، غائر الجسم فريسةً للرعشة والاهتزازات التشنجية، كما لو كان هيكله الواهي ينحني تحت ضغط ريح الطاعون العاتية، ويتحطم تحت نوبات الحمَّى المتكررة، وانتهت تلك الأزمة، وبدأ الطفل يسترخي قليلًا، وبدَا أن موجة الحمى قد انسحبَت، وتركَته يلهث على شاطئ رطب مسمَّمٍ، قد تشابهَت فيه الراحة والموت، ولما عاودَته موجةُ الحمى من جديد للمرة الثالثة، وبعثَت في جسمه شيئًا من الاضطراب، كوَّر الطفلُ جسمَه وتراجع إلى نهاية الفراش وسط آلام اللهب الذي يحرقه، وأخذ يهزُّ رأسه في جنون وهو يقذف بغطائه بعيدًا عنه، وتدفقت الدموع الغزيرة من بين جفونه الملتهبة، وأخذت تسيل على وجهه الجامد، وفي نهاية الأزمة، كانت قد خارَت كلُّ قواه، فضمَّ ساقَيه اللتين برز العظم منهما، وذراعَيه اللتين ذاب ما عليهما من لحم خلال هذه الساعات الثماني والأربعين، وبدا وسط سريره المخرب كما لو كان مصلوبًا غريبَ الشكل» (ص٢٧٢-٢٧٣). ويشابه هذا الوصفُ المعجز لحالة الطفل البريء، الذي يعاني من آثار المرض المخيف، وصْفَ معاناة المسيح على الصليب، ودق مسامير الصلب في يديه وقدميه، وتركه يتعذب فوق تل الجلجلة. ويقول الطبيب ريو عن الطفل: «إذا قُدِّر له أن يموت، فإنه سيكون قد عانى من العذاب أكثر مما عانى غيره» (٢٧٤). ويموت الطفل، فيلتفت ريو إلى الأب «بانلو»، الذي يمثِّل الدين، ويقول له: «أما هذا على الأقل فإنه كان بريئًا، وأنت تعرف ذلك جيدًا» (٢٧٧). وحين يقول له الأب: «إني أفهمك جيدًا، إن هذا يدعو للثورة لأنه يتجاوز إدراكنا، ولكن قد يكون من الضروري أن نحبَّ ما لا نستطيع فهمه» يردُّ عليه ريو: «لا أيها الأب، إنَّ فكرتي عن الحب بعيدة عن ذلك، وسأظل حتى الممات أرفض أن أحبَّ هذا العالم الذي يُلقَى فيه بالأطفال تحت عجلات التعذيب.» ويأتي بعد ذلك الفصل مباشرة ردُّ كامو المباشر على تلك المشكلة، وهو نفيُ وجود الإله، وقد عبَّر عن ذلك بالحيرة والشك اللذَين انتابا «بانلو» رجل الدين بعد مشاهدته معاناةَ الطفل البريء، فيرى أنه إذا كان من العدل أن يُصعق الرجل الماجن، فليس هناك ما يُبرر تعذيب الطفل، وأنه ليس هناك على ظهر الأرض ما هو أهم من تعذيب طفل، ولا من الشناعة التي يجرُّها وراءه هذا التعذيب، أو البحث عن المبررات التي ساقَت إليه، ومن ذا الذي يستطيع أن يؤكد أن خلود إحدى المتع يمكن أن يكون عوضًا عن لحظة من عذاب البشرية؟ كلَّا، فسيبقى الأب وجهًا لوجه أمام المشكلة، وفاءً لتلك المفارقة التي يُعتبر الصليب رمزًا لها، سيبقى وجهًا لوجه أمام عذاب طفل، وبعد تلك الحيرة يمرض الأب بحمَّى غريبة، ويرفض العلاج، ويموت آخر الأمر، ويحرص كامو على أن يبيِّن أن الأب لم يَمُت من الطاعون المنتشر في أرجاء المدينة؛ ليُثبت أن موته جاء نتيجة طبيعية لعجزه عن الاستمرار في الحياة مع كل هذه المظاهر، التي تُثْبِت تناقضًا واضحًا مع كل ما يؤمن به ويعتقد فيه، وهذا الموت هو رمزٌ كامل لبطلان الاعتقاد في وجود الآلهة، أو هو الصيحة الجافية المنكرة التي أطلقها نيتشه قبل ذلك، مُعلنًا موت الإله. ولكن «كامو» — ككل مفكر أصيل — إذ هو يعترف بوجود الشر وغلبته على حياتنا، لا يقف أمامه مكتوفَ اليدين مستسلمًا، بل هو يقدم اتجاهه ويوضحه في الرواية، واتجاه كامو نحو المشكلة هو الالتزام بكفاح الشر. يقول الراوي في الطاعون: «وقد دأب كثيرٌ من الهداة الجدد في مدينتنا، يقولون إنه لم يَعُد هناك جدوى من أي شيء، وإنه ينبغي أن نجثوَ على أقدامنا، وكان «تارو» و«ريو» وأصدقاؤهما يُجيبون على ذلك بما شاءوا، ولكن النتيجة كانت دائمًا ما قد عرفوه، وهي أنه يجب علينا الكفاح بطريقة أو بأخرى، ولا ينبغي أن نجثوَ على أقدامنا، المهم هو حماية أكبر عدد من الناس من أن يموتوا، ومن أن يذوقوا الفراق الأبدي، ولم يكن هناك سبيل إلى هذا إلا سبيل واحد، وهو مكافحة الطاعون، ولم تكن هذه حقيقة مُرضية ولكنها منطقية» (١٧٠). ويشترك كامو مع دستويفسكي في تقديم الحب والتعاطف، ليقفا في وجه الطاعون الذي يجتاح الدنيا، ويغلف الإنسان بلهيبه؛ ففي محادثة بين «رامبير» و«ريو»، يقول الأول: «آه! لست أدري، ما هي مهنتي على وجه التحديد؟ وربما كنت مخطئًا لأنني اخترت الحب.» وواجهَهُ ريو، يقول بقوة: «كلَّا، لست مخطئًا» (٢١٤). كما يقول ريو بعد أن سأله تارو عمَّا إذا كانت لديه فكرة عن الطريق، الذي ينبغي اتباعه للوصول إلى السلام: «نعم، إنه التعاطف» (٣٢٤). وفنان عظيم آخر دارت معظمُ كتاباته حول هذه المشكلة هو «إرنست همنجواي»، فإذا ما انتقلنا إليه نجد أن الحالة تختلف والنظرة تختلف. فهمنجواي — على نقيض كامو — لا يُنكر وجود القوى السماوية، ولكنه ينتهي إلى نفس النهاية التي انتهى إليها، ولكن تمرده على السماء لا ينتج عن أي نزوع عقلاني، بل يصدر عن الإرادة التي رفضت الإيمان به، ومع اعتراف همنجواي بوجود العلة الأولى للكون، فإنه يحدد موقفه منها بالنظر إلى مشكلة الشر تلك، فيقرر أن هذا الشر صادر عن الآلهة، وقد أثار همنجواي اتجاهه هذا في روايته الشهيرة «وداع للسلاح». ويتركز الشر عند همنجواي في الموت، الموت الفجائي العنيف الذي يحيل الحياة إلى عبثية، والوجود إلى لا عقلانية مطلقة، وهو يصوِّر لنا الحياة في هذه الرواية شرًّا لا طائل من ورائه؛ فبعد أن جاهد بطلها «فردرك هنري»، وناضل في سبيل الفوز بحياته الهانئة ممثلةً في شخص حبيبته كاترين، تموت بين يديه في لحظة، وتذهب دون أن تترك وراءها شيئًا، ولا حتى وليدها … أي بلا أي أمل في بعث جديد، والمهم هنا، أن كاترين هذه تموت بلا سبب يدعو إلى موتها على الإطلاق، وهذا ما يوضح إحساس همنجواي بمشكلة الشر، وتساؤله ذلك السؤال الأزلي: «ما سبب ذلك؟» ماذا إذن يقدم همنجواي أمام هذا الشر للقوى العليا؟ إنه يقدم ما يقدمه دائمًا في قصصه رواياته، يقدِّم مجالدةَ الإنسان وعزمَه وتحمُّلَه كلَّ هذه الشرور والمصائب بصلابة وأمل، هذه الصلابة والمجالدة التي تُضفي على الإنسان صفاتٍ تجعله يرتفع إلى مصافِّ الآلهة ذاتها، وإن يكن مغلوبًا مهزومًا، ومثله في هذا مثل العجوز الذي صارع قوى الشر في عرض المحيط، ثم عاد بخفَّي حنين بعد أن تكالبَت عليه قوى الشر وأفقدَته رزقَه كلَّه، ولكنه لا يتحطم، بل يفكر في حياته المقبلة والاستعداد للخروج في غزوة صيد جديدة، بعد أن يتجهز لها مرة أخرى، وشعار همنجواي في هذا الأمر أن الإنسان قد يُهزم، لكنه لا يتحطم أبدًا، وهذه المجالدة الفريدة التي لا يحدها حدود، والتي تَنبُت في الإنسان نبتًا جوهريًّا أصيلًا، هي التي تمنح الإنسان قوةً تُمكِّنه من مجابهة الشرور بتعريةِ الحقائق وتفهُّمِها. كل هذه المقارنات، تمهد وتوضح للموقف الذي اتخذه نجيب محفوظ، من مشكلة الوجود الكبرى في روايته الفاصلة «أولاد حارتنا»، فماذا يقول نجيب محفوظ إذن؟ وما هو اتجاهه؟ لقد عجز نقادُ الرواية عن فهمِ المغزى الذي عناه المؤلف من وراء تصوير سقوط إبليس، ثم زلة آدم، ثم الحركات الدينية الثلاث وترتيبها الواحدة وراء الأخرى، ما هو الغرض من تقديم مثل هذا البناء من الانتفاضات الدينية، التي حاولَت أن تُطهر النفوس الإنسانية من الأوشاب التي غطَّتها والأدران التي عَلِقت بها، ثم يعود الحال بعدها إلى ما كان عليه إن لم يكن أسوأ؟ لماذا ركز المؤلف على دور الرسالات السماوية في هذا العالم، وقدَّمها في تفصيلاتها الدقيقة؟ الرد هو لتصوير حرب الخير ضد الشر، حرب النور ضد الظلام، حرب الحكمة ضد الجهالة، كان الأوان قد آن لمحفوظ في مرحلة رواية «أولاد حارتنا» أن ينعطف إلى المجال الفلسفي، ويفجر في رواية أو بالأحرى في «رؤيا فلسفية» المشكلةَ التي طالما ألمح إليها في رواياته السابقة، وألمح إليها في رواياته اللاحقة، المشكلة الخالدة، مشكلة الشر، وفي اعتقادي أن الوسيلة الكبرى المباشرة التي اعتمد عليها نجيب محفوظ في تبيان وإظهار أبعاد المشكلة، هي الشكل والتركيب البنائي للرواية، ولنتتبع ذلك في تفصيلات الرواية، لنرى في كل سطر أقتبسُه منها رأيَ المؤلف واتجاهه. هكذا بدأ الحال، هكذا زرع الشر أولَ بذوره في الدنيا، ثم نبتَت وفرَّعت، فضرب بأطنابه في كل مكان، ثم يثور المؤلف محاولًا الإصلاح، وتغيير هذا الشقاء والبؤس والشر إلى خير وسعادة، فجاء «جبل» أولًا، يحاول تغيير الأوضاع وإدخال الخير إلى النفوس، وإشاعة الروح الجديدة في الأحوال السائدة في أيامه، وكانت وسيلةُ جبل إلى هذا التغيير تختلف اختلافًا جوهريًّا عن وسائل مَن تبعه من المبشرين؛ كانت وسيلة جبل وسيلة مادية في جوهرها، فقد التزم بالمجاهدة والمحاربة من أجل انتزاع حقِّ عشيرته في الوقف، كما كانت عدالته مبنيةً على العدالة المادية التي تُصر على الانتقام للمظلوم من الظالم، بمثل ما وقع على الأول من ظلم، وقد استعان جبل لتحقيق بُغيته بكل أنواع الحيلة والدهاء والقوة، وهذا يتناسب مع ما أتى يبشر به قومَه من نعيم، وأن يفيء عليهم من نصيبهم في ريع الوقف، ثم جاء رفاعة بعد أن ساء الحال بالناس مرة أخرى، وعادوا إلى سابق عهدهم إن لم يكن أسوأ، ولكنه جاء بوسيلة أخرى مخالفة تمامًا لما جاء به جبل، جاء برسالة الخير للناس أجمعين. وكان جبل قد قصره على عشيرته فقط، فبسطها رفاعة للبشرية كلها. وكان جبل يدعو لمملكة الأرض والتمتع بأموال الوقف، فدعا رفاعة إلى نبذ المال وبشَّر بملكوت السماء، وكان جبل يقول: العين بالعين والسن بالسن. فقال رفاعة: مَن ضربك على خدك الأيمن، فأدِر له خدك الأيسر. في كل مرة، كان الحال يعود أسوأ مما كان؛ فبعد النور الذي جاء به جبل، يقول الراوي إنه كان يمكن أن يستمر الخير على الأرض، «لولا أن آفة حارتنا النسيان»، وآفة النسيان هذه تسبِّب انتكاسَ كلِّ مثلٍ طيب، وحين كان الزمن زمن رفاعة، عاد كل شيء شرًّا وسوءًا؛ ففي كل يد مخلب، وفي كل لسان سمٌّ، وفي القلوب الخوف والضغائن، أما الهواء النقي ففي خلاء المقطم أو في البيت الكبير، حيث ينعم الواقف بالسلام وحده» (٢٢٨)، وحين مات جبل، جاء زنفل ثم خنفس، وعاد الناظر والفتوات إلى التربع على العرش وإلى اضطهاد الأتباع وبخسهم حقوقَهم، كأنما لم يظهر مَن يُسمَّى جبل، أو كما يقول المعلم شافعي أبو رفاعة: «… الحقيقة أن جدنا في البيت اعتزل، وأن ناظر وقفه بريع الوقف استأثر، إلا ما يهب للفتوات نظير حمايته، وزنفل فتوة آل جبل يتسلَّم نصيبهم ليدفنه في بطنه، كأن جبل لم يظهر في هذه الحارة، وكأنه لم يأخذ عين صديقه دعبس بعين المسكين كعبلها» (٢١٥)، واستمرارية الشر يعترف بها الجبلاوي نفسه في لقائه مع رفاعة: «أما جبل فقد قام بمهمته، وكان عند حسن الظن به، ولكن الأمور ارتدَّت إلى أقبح مما كانت عليه» (٢٤٧). وحاول عرفة أن يُعيد إيقاد شعلة الخير بين البشر، وهو إذ ينجح في الحارة، فإنما يعني ذلك نجاحَ آرائه ومبادئه في الدنيا، وقد «تمخضَت المقابلة عن عهد جديد في الحارة، فقد اعترف بالرفاعيِّين كحيٍّ جديد مثل حي جبل فيما له من حقوق وامتيازات … وحَظِي رفاعة في موته بما لم يكن يحلم به في حياته من التكريم والإجلال والحب، حتى صار قصةً باهرة يردِّدها كلُّ لسان، وتتغنَّى بها الرباب.» (٣٠٤)، واستبشر الناس بعد رفاعة خيرًا، واستقبلوا الحياة بوجوه مشرقة، وقالوا بثقة واطمئنان إن اليوم خير من الأمس، وإن الغد خير من اليوم، ولكن آفة هذه الحارة هي النسيان؛ فقد ذهبت جهودُ رفاعة أيضًا أدراج الرياح، وما إنْ حلَّ عهدُ «قاسم» حتى كان الشر قد أطبق بأنيابه على الدنيا من جديد، وحين نتأمل افتتاحية جزء «قاسم» من الرواية، نُدرك كيف استغل نجيب محفوظ افتتاحَ كلِّ جزء من أجزاء جبل، رفاعة، قاسم، عرفة، بفقرة تبيِّن سوء الحال، مما يؤدي إلى إقامة نظرية استمرارية الشر وأزليَّته في الأذهان. ففي أيام «قاسم» «لم يكَد يتغير شيء في الحارة؛ الأقدام ما زالت عارية تطبع آثارها الغليظة على التراب، والذباب ما زال يلهو بين الزبالة والأعين، والوجوه ما زالت ذابلةً مهزولة، والثياب مرقَّعة، والشتائم تُتبادل كالتحيات، والنفاق يصمُّ الآذان.» (٣٠٩)، وقاسم ذاته، ناجَى نفسه، واعترف بسيادة الشر، ورأى في خطراته كيف كانت نهاية الطيبين من أهل الحارة مؤسفةً دائمًا، وحاول قاسم في أيامه أن يصدَّ تيارَ الشر، ويزرع الخير، حتى قال كثيرون من أولاد حارتنا إن الحارة قد آن لها أن تبرأ الآن من آفة النسيان، وأنها ستبرأ منها إلى الأبد، وهذا الاعتقاد هو المعادل الأليجوري، أو هو الرمزي لحقيقة أن النبي محمد ﷺ هو خاتم الرسل والأنبياء. ويسأل «حمدان» «جبل» بعد لقائه الأخير مع جبلاوي: «ألم تسأله عمَّا يمنعه من إجراء العدل بنفسه؟ أو عمَّا جعله يعهد بالنظارة إلى قوم لا يُحسنون القيام على حقوق الناس؟» (١٧٩). وتقول عبدة زوجة المعلم شافعي أبي رفاعة إنه في هذا البيت «جدك صاحب هذه الأرض كلها وما عليها، الخير خيره والفضل فضله، ولولا عزلته لملأ الحارة نورًا» (٢١٨). وحين يقول جواد لرفاعة عن الجبلاوي: «والله لو فتح أبوابه ما بقيَ أحد من أهل حارتنا في داره القذرة.» تقول «أم بخاطرها»: «لنفعل مثله، فإنه لا يشغل بنا نفسه (٢٣٠–٢٣١).» ويقول رفاعة نفسه: «أين أنت يا جدي؟ لماذا لا تظهر ولو لحظة! لماذا لا تخرج ولو مرة؟ لماذا لا تتكلم ولو كلمة؟ ألا تدري أن كلمةً منك تغيِّر حارتنا من حال إلى حال؟ أم يرضيك ما يجري بها؟» (٢٣٤). ويستبين هذا الاتجاه تمام الاستبانة من مشهد مقتل رفاعة: «ومضى جندوسة نحو الخلاء بحذاء سور البيت الكبير، رفع رفاعة عينَيه إلى البيت لكنه رآه مظلمًا كالسماء، وظلَّت عينا رفاعة مرفوعتَين نحو البيت، ترى هل يدري جدُّه بحاله؟ إن كلمة منه تستطيع أن تُنقذَه من مخالب هؤلاء الجبارين وتردُّ عنه كيدهم، إنه قادر على أن يُسمعَهم صوته كما أسمعه إياه في هذا المكان» (٢٩٤). ولكن القساة يقتلون رفاعة أبشع القتلة، ويكتفي المقتول بالهتاف من أعماقه: «يا جبلاوي.» وقاسم هو الآخر تقول له زوجته، حين يُخبرها أن الجبلاوي اختصَّه برسالته: «ولماذا لا يُحقق إرادتِه بنفسه، وهو صاحب الوقت وسيد الجميع؟» (٢٥٥)، وهو نفسه: «مدَّ بصرَه خلال الفضاء حتى استقر على البيت الكبير، بيت الجبلاوي، الغارق في صمته كأنه لا يُبالي بصراع الأبناء من أجله» (٤٢٦). وفي أيام عرفة كذلك يظل هذا الاتجاه سائدًا، فيقول «شكرون»: «يا جبلاوي، حتى متى تُلازم الصمتَ والاختفاء، وصاياك مهملة وأموالك مضيَّعة، أنت في الواقع تسرق كما يسرق أحفادك يا جبلاوي … يا جبلاوي ألَا تسمعني؟ ألَا تدري بما حلَّ بنا؟ لماذا عاقبت إدريس وكان خيرًا ألف مرة من فتوَّات حارتنا! يا جبلاوي!» (٤٧٥). ويقول عرفة هو الآخر: «هل سمعتَ عن أحفادٍ مثلنا لا يرَون جدَّهم وهم يعيشون حول بيته المغلق؟ وهل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو، وهو لا يُحرِّك ساكنًا؟» (٢٤٣). مما تقدم يمكن أن نستخلص بوضوح الاتجاهَ الذي يقفه الراوي من مشكلة العلة الأولى؛ إن ما يُحيره أكثر ليس الشر الذي قد يكمن فيها، ولكنه الصمت، إنه يعترف بوجود الإله — خلافًا لألبير كامو — كما أنه لا يعرف كهمنجواي بأن الشر هو السماء، وإنما هو الصمت التام الذي يُثير لديه التساؤل. واتجاهه من موقف علاقة الشر بالآلهة هو موقف اللاإرادية، وهو يُذكرنا بما ذهب إليه أبيقور الفيلسوف اليوناني، حين يذكر أن الآلهة موجودة لا شك في ذلك، غير أنها قد انشغلَت عن البشر بأعمالها الخاصة، ولم تَعُد تأبَه لهم ولا تُعيرهم أيَّ التفات، منهمكة في سعادتها الخاصة. واضح إذن، أن الدين وحده، في رأي نجيب محفوظ، لم ينجح في مداواة أمراض البشر، وفي التقليل من وطأة الشر في دنيانا الأرضية، وآية هذا الفشل واضحة في افتتاحية الجزء الرابع من الرواية بعنوان «عرفة»؛ إذ نجد أنه بعد جبل ورفاعة وقاسم، عاد الحال كما هو لم يتغير. وبعد أن قال كثيرون في عهد قاسم إن حارتنا قد آنَ لها أن تبرأ من آفتها، نجد في افتتاحية «عرفة» أن «المتأمل لحال حارتنا لا يصدِّق ما تقول الرباب في القهوات، مَن جبل ومَن رفاعة ومَن قاسم؟! وأين الآثار التي تدل عليهم خارج نطاق القهوات؟ أما العين فلا ترى إلا حارةً غارقةً في الظلمات، وربابًا تتغنى بالأحلام، كيف آل بنا الأمر إلى هذه الحال؟ أين قاسم والحارة الواحدة والوقف المبذول لخير الجميع؟ وماذا جاء بهذا الناظر الجشع وهؤلاء الفتوات المجانين؟!» (٤٤٧). عاد الحال كما كان إذن، «أما أهل الحارة فانقلبوا إلى ما كانوا عليه في الزمان الأسود، بلا كرامة ولا سيادة، تُنهكهم الفاقة، وتتهدَّدهم النبابيت، وتنهال عليهم الصفعات، وانتشرت القذارة والذباب والقمل، وكَثُر المتسولون والمشعوذون وذوو العاهات، ولم يَعُد جبل ورفاعة وقاسم إلا أسماءً وأغانيَ ينشدها شعراء المقاهي المسطولون» (٤٤٨). فما الحل إذن؟ ماذا يقول المؤلف في ذلك؟ إن إجابته على هذا السؤال تكمُن في الجزء الأخير من الرواية، المعنون «عرفة»، الحل الذي قدَّمه هو شخصية عرفة، المعرفة، العلم. العلم هو الحل الذي يقدِّمه نجيب محفوظ علاجًا لمشكلة البشرية الأزلية، وإحلالًا للخير على هذه الأرض وعلى بني البشر، عرفة إذن هو الحل، عرفة ابن التنجيم والسحر، الذي انبثق لا يُعرف له أب، انبثق ونبع من لدى حي الرفاعيِّين (إشارة إلى أن العالم المسيحي هو الذي قام بصياغة العلم الحديث وتطويره)، رغم أن الأحياء الأخرى تتنازع انتسابه إليها، وقيمة هذا العلم تتبدَّى في قول رفاعة عن حجرته، التي أحالها إلى معمل علمي: «إن أيَّ مغفل ممن يحسَبون أنفسهم معدَمين في هذه الحارة، لا يستطيع أن يدرك خطورة الأشياء التي تُصنع في هذه الحجرة المعتمة القذرة ذات الروائح الغريبة … إن أعاجيب لا يحيط بها الخيال يمكن أن تخرج من هذه الحجرة، المجانين لا يدركون قيمة عرفة الحقيقية، لعلهم يعرفونها يومًا ما، وعند ذاك يجب أن يترحموا على أمي، لا أن يُعرِّضوا بها كما يفعلون» (٤٦١). ولكن نجيب محفوظ لا يكتفي بالمزج بين العلم والدين هكذا ببساطة، ولكنه إذ يقدِّم لنا العلم إنما يصبغه بصبغة خاصة، تتفق ورؤياه الفلسفية الخاصة، محمِّلًا إياه معانيَ مختلفةً كثيفة متشابكة. وهذه المعاني والرموز التي قصدها المؤلف هي ما جعلت من شخصية عرفة شخصية غامضة مغرقة في الغموض، تحارُ الأذهان في تفسيرها واستيعابها، ولا عجب في هذا؛ فالجزء الخاص بعرفة هو القاعدة التي ترتكز عليها الرواية، والمسمار الذي يربط بين أجزائها، والقسم الذي يخلع معنًى وترابطًا على ما سبقه من الأقسام. ولما كان المؤلف يريد أن يقدِّم لنا هذه الشخصية كما يريدها أن تكون، فإنه يُدخلها في تجاريب عديدة توضح لنا جوهرها في النهاية. فعرفة يتسبب في قتل الجبلاوي، مثلما هدم كوبرنيكس وداروين، نظرية ألوهية الأرض ونظرية الخلق الإنساني. ولكن المؤلف يقدِّم لنا جوهرَ نظريته الأصيلة هنا، فإن العلم لم يكن يهدف إلى قتل الدين، بل إنه لا يمكنه القيام وحده دون وجود الدين! هذا ما يقوله المؤلف صراحة، حين يذكر أن هدف عرفة لم يكن قتل الجبلاوي، وإنما هو قد اقتحم عليه مركز سلطانه لكي يستكشفَ ويحلَّ طلاسم وجوده وألغازه، كما يقول حين يصور مدى جزع عرفة وفزعه عندما يدرك أنه هو المتسبب في وفاة الجبلاوي، وعند ذلك تستبين حقيقة النظرية التي يُلملم المؤلف أطرافها لتتضح في النهاية متكاملةً متناسقة. إنه يقول إن العلم وحده لا يمكن أن يعيش وأن ينجح في حلِّ مشكلات البشر، بل لا بد أن يكون مستندًا إلى دعامة. فعرفة فور علمه بتسببه في وفاة الجبلاوي، يعمل على ردِّ الحياة إليه، وبعد وفاة الجبلاوي، يتردد عرفة إلى المكان الذي تردَّى فيه العلم في العصر الحديث، الذي امتلأ بالشك والإلحاد والإيمان بالعلم وحده، دون أي قوًى روحية أو أي معتقدات معنوية أخرى، فعرفة بعد ذلك قد أصبح ذيلًا لناظر الوقف «قدْري»، وعَمِل تحت إمرته وطَوْع بنانِه، أي أن العلم بدلًا من أن يبنيَ الخير والسلام على الأرض ولبني البشر، أصبح سلاحًا في يد الحكام الطغاة، يُرهبون به الضعفاء، ويُمكنون لأنفسهم في الأرض، وأصبح العلم يُستخدم في سبيل الشر، في سبيل إنزال الأذى بالبشر، وأفضل مثل على ذلك هو اختراع الأسلحة النووية المهلكة، والتي يقابلها في الرواية اختراع الزجاجات التي أصبحت في يد الناظر سلاحًا إرهابيًّا، يُرهب به أهل الحارة، بل ويرهب به عرفة نفسه، ولا يمكن للعلم الذي سيبني الحياة ويُرسي دعائم الخير في الأرض أن يستمر هكذا أداةً للشر والدمار؛ لذلك فهو لن يكون بذي فائدة في هذا المضمار والحالة هذه، ولذلك فإنه يموت هو الآخر. إن العلم الذي لا يضع نفسه في خدمة الإنسان ورفاهيته يدمر نفسه بنفسه، ولا يكون له من وجود، وهكذا يقتل أعوان الناظر «عرفة» وزوجته، ويلقيان مصرعهما. وإن طريقة قتلهما لتدلُّ دلالة بالغة على أن العلم الذي لا يُحسَن استخدامه، يكون قد دفن وأهيل عليه التراب، حتى لو نجح في اختراع آلات التدمير والخراب. أيُّ علم إذن يريده نجيب محفوظ؟ إنه يذكر أن عرفة قد لقيَ تفهمًا كاملًا بعد وفاته، وأن أعوانه قد بشَّروا به منقذًا للبشرية، فأكبرَ أهلُ الحارة ذكراه، ورفعوا اسمه حتى فوق أسماء جبل ورفاعة وقاسم، عرفة هذا هو عرفة الذي ندم على وفاة الجبلاوي، وكان يعمل على ردِّ الحياة إليه، عرفة الذي أدرك بشاعةَ خدمته للناظر، واستمراره في استخدام نفيس في يد قوى الشر، عرفة الذي أصبح مقترنًا في أذهان أولاد الحارة، بعد ذلك، بالسلام والخير. أيُّ علم يريده إذن نجيب محفوظ ويبشِّر به؟ إنه العلم المتحد بالقيم والمعتقدات المعنوية. وهكذا، يصرِّح نجيب محفوظ عن رؤياه الفلسفية التي طالما ترددت هي الأخرى في أعماله: اتحاد العلم والدين، الجسد والروح، المادة والروح، الدين الظاهري وحده لا يُجدي، والعلم الذي يقتل الدين والروح ينقلب على نفسه، ولا ينجم عنه إلا الدمار والخسارة، وحلُّ المشكلة هو في التوافق والانسجام بين العنصرين، وتوافق الألوان واتساقها في قوس قزح متكامل، يندمج فيه العلم والروح في تناسق يؤدي إلى السلام والخير، وهو الحل الوحيد أمام البشرية؛ إذ لا سعادة في الإغراق في المادة، ولا تكامل في الإغراق في المعنويات. وهكذا يدين محفوظ أيًّا من الاتجاهَين وحده، ويبشِّر بوحدة تجمعهما معًا، وهذه الوحدة هي التي ينتظرها أولاد حارتنا، وهي لا بد منبثقة آخر الأمر. وهكذا، تستبين القيمة الأخلاقية لهذه الرواية، التي تعرَّضت للهجوم على أسس دينية؛ ذلك أن نجيب محفوظ لم ينادِ فيها بالتخلص من الدين، على العكس؛ إذ إنه يقول إن لا غنى للعلم عن الدين. وإنما هو ينادي بالتدين الحقيقي، التدين السليم، الذي ينفتح على كل أبواب المعرفة، والذي يستعين بالعلم لخير العباد، ولتحقيق أهداف الدين السامية. ولم يكن هذا بالجديد، وإنما تناوله المؤلف وأبرزه كيما يحفزَ أبناء الأمة الإسلامية إلى النهوض والارتقاء للعودة إلى ما كان عليه المسلمون من رفعةٍ وشأنٍ أيامَ كانوا يأخذون بأسباب العلم، وكانوا هم قادة النهضة العلمية والثقافية في العالم، حينما كان الغرب ما يزال يعتمد على الخرافات والأساطير في عصوره المظلمة، لم يكن هذا جديدًا، أكرر؛ لأن القرآن الكريم يحثُّ في الكثير من آياته إلى الرجوع إلى العقل وتدبُّر إعجاز خلق الله تعالى، من كونٍ وبشرٍ وأنعام ونبات، وهذا التدبر هو أساس العلم، وهو الذي يُفضي لمن يعقل ويبصر إلى الإيمان: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: ٢٨). ولهذا، فقد أخطأ مَن جرَّموا نجيب محفوظ على هذه الرواية، فهم لم ينظروا إلا إلى سطحها، ولو غاصوا في معانيها لوجدوا أنها تُمجد الدين والتدين، وإنما هي تهاجم الانحراف عن أصول الدين، والغفلة عمَّا يدعو إليه كتاب الله جل شأنه، من الأخذ بأسباب المعرفة والعلم. رأينا هنا مدى أهمية وضرورة مثل هذا البناء بالنسبة لرواية جويس، فماذا كان هدف ونتيجة هذا التكنيك الذي اتبعه محفوظ؟ الحقيقة، إن بناء نجيب محفوظ لروايته على نسق الأديان السماوية قد أدى إلى جمود في الأحداث وتحجُّر في الشخصيات، فقد تقيَّد المؤلف تمامًا بسير التاريخ، وبما يرويه عن الشخصيات، فلم يُضْفِ من رؤياه ومن ابتكاره على أي حادثة أو على أي شخصية، بما يمكنه من إثارة معنى جديد أو تحميل هذه الأحداث والشخصيات باتجاه جديد يخلع أصالةً عليها، وربما كان تناوله لشخصيات دينية مقدسة، هو ما جعله يحرص كلَّ الحرص على عدم المساس بجوهرها، ولكن هذا الجمود الذي اتصفَت به الأحداث والشخصيات، يعوِّضه الفصل الأخير عن عرفة الساحر — العلم الحديث — إذ هو قد حمَّله ببذور فكرية، تنسحب جملةً وتفصيلًا على كل كلمة خطَّها قلمه في الفصول السابقة من الرواية، على القارئ إذن، لكي يُدرك الفن البنائي الفريد في أولاد حارتنا، أن يتناول الفصول السابقة على الفصل الأخير كمجموعة واحدة، يقابلها بعد ذلك فصل عرفة؛ ليدرك الماهيةَ الفلسفية التي قصدها المؤلف وأخضع البناء والنسيج الروائي إخضاعًا تامًّا لخدمتها، وهي تلك الماهية التي أوضحناها سابقًا عند الحديث عن المضمون الفلسفي للرواية. وإلى جانب هذا البناء الفريد في أولاد حارتنا، هناك الرمز المُحْكَم البارع، والكلام عن الرمز في الرواية، سيتيح الفرصة لإثبات بعض الفروض التي سلَّمنا بها في المقال، وهذا هو السبب الذي سأسمح لنفسي من أجله ببعض الاستطراد عند الحديث عن رموز بعض الشخصيات المعينة، وأول هذه الرموز شخصية الجبلاوي، وهي أهم رمزيات الرواية. وإذا ثبت مقابلها الموضوعي ثبتت بالتالي جميع الفروض المترتبة عليه، والجبلاوي إنما يرمز للإله؛ فإلى جانب المشهد المعروف في بداية الرواية من سقوط إدريس «وحتى الاسم على وزن الشخصية المقابلة لها: إبليس»، واصطفاء أدهم (آدم)، ثم زلة أدهم وأميمة وهبوطهما إلى الحارة، هناك تلك الأوصاف التي تُذكر عن الجبلاوي، فماذا في هذه الأوصاف؟ تعالَ مثلًا نرى ما يذكره أبناء الجبلاوي في فاتحة الرواية عن أبيهم: «وما يُقلقهم إلا أنه جبار في البيت كما هو جبار في الخلاء، وأنهم حيالَه لا شيء» (١١)، وأدهم يقول عنه: «لا شيء يعادل شدة أبي إلا رحمته» (٢٦)، وهي كلها أوصاف لا تُخلع إلا على الإله. ومن يشك في ذلك فليرجع إلى لقاء جبل بالجبلاوي: «مضيت في تجوالي في ظلام دامس؛ فحتى النجوم توارَت وراء السحب، وما أدري إلا وأنا أُوشك أن أصطدمَ بشبح هائل، توهمتُه أول الأمر أحدَ الفتوات، بدا لي شخصًا ليس كمثله أحد في حارتنا ولا في الناس جميعًا، طويلًا عريضًا كأنه جبل، فامتلأتُ رهبةً وهممت أن أفرَّ، وإذا به يقول بصوت عجيب: «قف يا جبل» (١٧٦). وهو يقول لجبل: «إني أرى في الظلام منذ اعتدتُ التجوال فيه، قبل أن توجد الحارة» (١٧٨) والحارة هي الدنيا، والإله وحده هو الذي كان قبل أن توجد الدنيا، والكون كله ملك له، ويَرِدُ ذِكرُ الجبلاوي أكثر من مرة باعتباره «ذلك الجبار الذي دان له الخلاء»، ويقول قاسم عن حواره مع بواب الجبلاوي: «فسألته: هل يدري (أي الجبلاوي) بما يجري في حارتنا؟ فأجابه بأنه يعلم كل شيء، وبأن المقيم في البيت الكبير يستطيع أن يطَّلع على كل صغيرة وكبيرة مما يقع في حارتنا» (٣٥٢). وهكذا، التكرار في الوصف يؤدي إلى خلقِ جوٍّ من الرمزية، يغلف شخصية الجبلاوي، بحيث لا يكاد يُعادله جوٌّ آخر في روايات نجيب محفوظ كلها من حيث البراعة الفنية، وهنا أيضًا براعة في رسم شخصيات جبل ورفاعة وقاسم، وخلق المعادلات الأليجورية للأحداث التي وقعَت لهم، تجعل جبل يحترف مهنة الحواة، إشارة إلى حية موسى — عليه السلام — التي انطلقت تسعى. ورفاعة أيضًا رُسم بدقة بالغة؛ فبكلمات قليلة، يوحي المؤلف بعديد من الأفكار التي ما كان يبلغ مراده من الإيحاء بها إلا بالاستطراد والإسهاب، لولا رمزية الأليجورية التي تجعل المؤلف يرسم على مثال سابق، يساعده في بثِّ الأفكار التي يريدها في ذهن القارئ الواعي؛ إذ يقول شاعر الرباب لرفاعة: «ما أشبهك بجدك» (٢١٩). كما يذكر أنه قد «تنوقل أيضًا أن جثةً (أي جثة رفاعة) ظلت ملقاة في الخلاء، حتى حملها الجبلاوي بنفسه، فواراها التراب في حديقته الغنَّاء» (٣٠٣). كما عمد نجيب محفوظ أيضًا إلى صياغة بعض عبارات الجزء الخاص برفاعة، في أسلوب يشابه أسلوب الإنجيل تمام المشابهة، منها: «فسألته أتطمع في المال الكثير؟ فأجابه بأنه في تطهير الحارة يرغب، لا في المال الكثير» (٢٣٤). وأيضًا، عن لقاء رفاعة بياسمينة: «وجدها في جلباب بُني ذي كلفة بيضاء حول الطوق وفوق نهضة النهدين، وحافية، وعارية الساقين وجدها أيضًا» (٢٢٣). وعلى نفس النسق، يقول قاسم لعمِّه: «لن أُقلع عمَّا في رأسي، ولو ملكتُ الوقفَ كلَّه وحدي» (٣٦١). وهي صدى لما قاله النبي محمد ﷺ، من أنه «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه.» ومهما تعدَّدت الشروح والتفسيرات حول «أولاد حارتنا»، ومهما تناقضت في مدلولاتها ومضموناتها، فإن هذا لن يغضَّ من قيمة هذا العمل الفني الكبير، الذي أضاف جديدًا إلى التراث الأدبي العربي، وأسهم إسهامًا كبيرًا في الفن الروائي الحديث.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/4/
جيمس جويس والرواية الحديثة
ومن الواضح أن جويس قد استخدم كلمة الرواية كمثال، أو ربما كانت هي الأقرب إليه بالنظر إلى كونها الفن الذي برع فيه، ولكنه حين تحدث عن طريقة الخلق الفني هذه، إنما عنَى في الواقع جميع أنواع الفن، من رواية إلى مسرح إلى نحت وتصوير ورسم … إلخ. ويمكن أن يُقتفَى أثر ما قاله جويس في نظريته تلك — إن كان يصح إطلاق اسم نظرية عليها — في أدب جويس ذاته؛ فهو قد بدأ بكتابة رواية هي — مع الأصالة الفنية الواضحة فيها — ترجمة ذاتية، وهي «صورة للفنان في شبابه». ثم انتقل منها إلى الشكل الملحمي، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ في نفس جويس، بكتابه الغريب المشهور «عوليس»، حتى وصل إلى المرحلة الثالثة، الدرامية، بكتابه الأكثر غرابة «يقظة فينيجان». وقد وُلد جيمس جويس في دبلن بأيرلندا في عام ١٨٨٢، وتلقَّى دراسته في بعض مدارسها الجيزويتية، ثم بالجامعة الملكية، حتى تخرَّج في كلية الآداب عام ١٩٠٢، وانتقل إلى باريس حيث درس الطب، ولكنه عاد إلى دبلن عند وفاة والدته، وعمل بالتدريس فترة، ثم استأنف سياحته في القارة الأوروبية، فأقام مدة في كلٍّ من إيطاليا وسويسرا وفرنسا، وكتَب أشهرَ مؤلفاته إبان هذه الفترة، وقد توفي جويس عام ١٩٤١. ويُعد أدب جويس الروائي ثورةً على فن الرواية، الذي كان شائعًا في عصره، ذلك العصر الذي ساد فيه ثلاثةٌ من الروائيِّين أدبَ الرواية في إنجلترا، وهم: أرنولد بينيت، وجون جولزويرذي، وﻫ. ج. ولز، ويُعدون كلهم من أمراء الأدب الطبيعي، الذي يؤمن بتقديم صورة حية من الحياة الواقعية كما هي سواء بجمالها أو ببشاعتها، في أدق التفاصيل وأوضحها، وهو المذهب الذي سار عليه «إميل زولا» في فرنسا، و«تيودور دريزر» في أمريكا، وهم في سبيل الوصول إلى غرضهم، يوردون كلَّ التفاصيل الدقيقة فيما يصفونه أو يكتبون عنه، مما يعطي العمل الفني — في نظرهم — واقعيةً حية تجسِّد الحوادث والشخصيات أمام القارئ، غير أنهم اقتصروا في وصفهم ونظرتهم على النواحي الخارجية لما يكتبون عنه فحسب، كأن يصفوا ملابس الشخصية أو صفاتها الجسمانية، وهكذا التزمت الواقعيةُ عندهم حدودَ نظرتهم الخاصة، فكان القارئ يتعرف على شخصيات رواياتهم وأعمالها عن طريق وسيط ثالث — حاضر أبدًا — هو المؤلف، وحتى في الروايات التي تتولَّى السرد فيها إحدى شخصيات القصة، يشعر القارئ بالمؤلف قابعًا في خلفية الصورة، يحرك هذا ويُنطق ذاك. أعتقد أن ذلك يرجع إلى أسباب غير مباشرة وأخرى مباشرة، وسيكون سبيلنا إلى تبيان هذه الأسباب سبيلًا كذلك إلى تبيان الطريقة الجديدة التي اتبعها جويس ورفاقه، طريقة تيار الوعي، ووسائلهم الأخرى الجديدة بمناحيها المختلفة. فأول الأسباب هو الحالة السياسية والاجتماعية القلقة، التي سادت العالم في تلك الفترة من أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وجعلَت البعض يفقد شعور الأمن والاستقرار، ويتطلع إلى ميدان آخر أكثر ثباتًا وأشد يقينًا مما وجده فيما حوله، وكان أن فشل في ذلك أيضًا، لما كان يتصف به العالم في هذه الأوقات من غليان وثورة، ووجد هذا البعضُ نفسَه وحيدًا منطويًا، فارتدَّ إلى نفسه الداخلية يستبطنُها، ويقبع في داخلها يكتشف أغوارها، علَّه يجد فيها حقيقةً تكون الوحيدة التي يراها في حياته. وقد أدى المبدأ المادي الذي ساد في ذلك الوقت، والذي نادى بأن العالمَ كلَّه تحكمه سلسلةٌ من التطور المادي الآلى، والأطماع الاستعمارية للدول وتبريراتها لتلك الأطماع، أدَّى ذلك إلى تفشِّي المبادئ المادية بين الأفراد، وتغلَّبت على الجانب الإنساني فيهم، وإيمانهم بمبدأ الفرد في خدمة المجموع، وأنه ليس إلا نقطة في بحر كبير، ومن ناحية أخرى، دفع هذا بعضَ الكتاب إلى الثورة على هذا التيار المادي الدافق، والنزوع إلى التيار الرومانسي الذي سبق أن ساد أوروبا في القرن التاسع عشر، أيام وضَع الرومانسيون الأوائل الإنسان فوق قاعدة عالية وتعبَّدوا له. فكان «وردثورث» ينسج قصائده في تمجيد الإنسان، «وبيرون» في تمجيد حريته، وكتب توماس كارلايل كتابَه في عبادة البطولة والأبطال، مبينًا أن فردًا واحدًا قد يكون له من الأهمية والأثر أكثر مما لأمة بحالها. رجع ذلك البعض إلى هذه الأفكار ونادى بها، حتى إن بعض النقاد يُطلقون على هذه الفترة «الرومانسية السيكلوجية»، فهي قد تعتبر امتدادًا أو ظلًّا لحركة الرومانسيِّين في القرن ١٩، مدعمةً بالرغبة السيكلوجية للفرد في استكناه ذاته وأسرارها، مستكنهًا بذلك ذات وأسرار الطبيعة البشرية، فنظر الفنان إلى شخصيته في ضوء جديد يتمثلها مركزًا للكون، وعاد إليها يستلهمها مادته وأفكاره. وأما السبب الثاني — وله من الأهمية ما للسبب الأول إن لم يفُقه ذلك — فهو طلوع العالِم النمسوي سيجموند فرويد على الدنيا بعلمه الجديد عن النفس الإنسانية، فكشف به جانبًا هامًّا من نواحي الفكر الإنساني كانت أبنائه هي النفس بأسرارها وغوامضها، وغزا هذا العلم الجديد كافة مناحي الحياة ووجوهها، العامة منها والخاصة، وكان الأدب على قمة ما شمله العلم الجديد، وتأثر به كتاب الرواية بصفة أخص في تشكيلهم لشخوص مؤلفاتهم وطريقة تقديمهم لها في تلك المؤلفات. وكانت الشخصية الروائية قبل ظهور الرواية الحديثة — أي في العصر الفيكتوري — قائمةً على أساس ما يمكن أن يطلق عليه «الجانب الواحد»، أي الجانب الذي يرغب المؤلف في تقديمها عليه. فكانت الشخصية غالبًا إما أن تظهر بمظهر الخير أو الشر طوال وجودها على صفحات الرواية، وهي لا تستمد كينونتها من داخل نفسها أو نتيجة لحوادث مرَّت بها، بل تستمدها من إرادة المؤلف في إظهارها على هذه الصورة أو تلك، لذلك، فالشخصية الروائية في ذلك العصر كانت ساكنة (وليست نامية)، بمعنى أن تكون لكل شخصية من الشخصيات بعض الصفات المميزة، التي لا تتغير من بدء الرواية إلى نهايتها. وكان ذلك يخدم الغرض الذي رمى إليه روائيُّو هذا العصر — الفيكتوريون وما بعدهم — وهو إبراز مذهب من المذاهب أو فلسفة من الفلسفات، أو لتركيزهم على الرغبة في خلق شخصيات عظيمة يتذكرها القرَّاء، مثل شخصية ماجي توليفر عند جورج إليوت، أو سدني كارتون عند تشارلز ديكنز. أما جويس وزملاؤه من كُتَّاب القصة الحديثة، فقد ركزوا اهتماماتِهم على الفرد، على الإنسان الذي لا تبرز فيه صفة خاصة تكون كل شيء فيه، إنما الإنسان كما هو في الحقيقة والواقع. فمن الواضح أنه لا يمكن أن يكون إنسان ما خيِّرًا أو شريرًا طوال عمره، في أخلاقه وسلوكه وفي أفكاره التي تراوده؛ فالإنسان ليس آلةً أو جمادًا، بل هو مخلوقٌ حيٌّ يشعر ويتجاوب مع الأحداث، كلٌّ حسب دلالتها بالنسبة له، وهو إنسان يرغب، ورغباته لا يمكن أن تتفق حتمًا مع القواعد الأخلاقية. وقد يبدو أحدهم في سلوكه الخيرَ كله، بينما هو في داخلية نفسه الطامع الحقود. وعلى ذلك فالرواية الحديثة لا تنظر إلى الإنسان على أنه نوع معين ولا تضعه في رتبة معينة، بل أصبح الإنسان عبارة عن لحظات من الشعور، تختلف هذه اللحظات باختلاف الظروف والمواقف؛ فقد تأتي لحظة من الشر بعد الخير، ولحظة من الحقد بعد الحب وهكذا … ولم تَعُد للإنسان أو للفرد في الرواية الحديثة شخصية معينة ثابتة، بل تناوله الروائيون على أنه شيء يأمل، أو شيء يفكر، أو شيء يكره … إلخ. لقد اعتبر روائيو العصر الحديث النفس الإنسانية بحرًا كبيرًا يموج بأنواع لا حصر لها من الأسماك، فهذا سمك أحمر، وذاك أسود، وتلك سمكة من نوع القرش، وذاك أخطبوط، وهكذا، أي أن النفس الإنسانية — تلك الدنيا الواسعة — أصبحت تُقدَّم بكل ما فيها من عواطف متضاربة متضادة. وقد عرف المحدَثون من كتَّاب الرواية هذه الحقائق كلَّها كما قدَّمها لهم علم النفس، وأدركوا أن هذا الجانبَ المختفيَ في الإنسان هو الأجدر بالتصوير، فإذا كان الأدب تعبيرًا وتصويرًا للنفس الإنسانية، فهذه النفس لا توجد في الظواهر الخارجية للأشياء وللأحياء، بل في جواهرها الداخلية، فعمَدَ الروائيُّون إلى عقول وأذهان شخوصهم يعملون فيها بحثًا وتنقيبًا، ويقدمون للقرَّاء ما يمر على هذه الأذهان من خواطر وخلجات. وهذه هي الواقعية كما يفهمونها، فبدلًا من أن يتعرف القارئ على إحدى الشخصيات من خلال وصفِ المؤلف لملامحها ولما ترتديه من ملابس، يقدِّم لنا الكاتب ما تفكر فيه هذه الشخصية، وأفكارها عمَّا تراه حولها، فنلمس بذلك شخصيتها الحقيقية رأسًا، ونكون قد تعرَّفنا عليها أكثر من تعرُّفِنا عليها بوصف مظهرها الخارجي. أما ثالث هذه الأسباب التي أدت إلى التغير الجوهري في معالجةِ فنِّ الرواية، فهو الحركة الرمزية التي سادَت الأدب والفن — وخاصة الشعر — في تلك الأوقات، ونبهت الأذهان إلى وجود طرق أخرى غير تقليدية، يمكن تطبيقها على أنواع الأدب. «أحمر وذهبي (إنه الآن داخل المطعم)، بريق من الضياء، المقهى، المرايا اللماعة، النادل ذو المئزر الأبيض، مَشاجب عليها قبعات ومعاطف، هل أعرف أحدًا هنا؟ أولئك الناس يراقبونني منذ دخلت، محجوزة، فأين سأجلس؟ هناك بعيدًا مائدة خالية. عظيم إنها المائدة التي اعتدتُ أن أجلس إليها. ولمَ لا يحصل المرء على مائدته الأثيرة؟ لا شيء في هذا يحمل «ليا» على الضحك. – خدمة يا سيدي؟ يبدو أن هذه القصة قد وقعت في يد جويس بطريقة ما، فقرأها، وعندما كانوا يسألون من أين ينبثق فنُّ القصة الجديد، كان يُجيب دائمًا بأنه مدين في ذلك لإدوارد دي جاردان، مما أضفى على الأخير قسطًا من الشهرة في أخريات أيامه. ويذكر ليون إيديل في كتابه عن القصة السيكولوجية أن في قول جويس بدَيْنه لدي جاردان اعترافًا ضمنيًّا بأنه مدين للحركة الرمزية؛ ذلك لأن دي جاردان كان من الرمزيين. وهكذا اتخذ المذهب الجديد شكله، واستبان بفضل أبطاله الذين أخلصوا له في جميع ما كتبوه، ولا يمكن لأحد أن يتناول هذا المذهب الجديد بالمفاضلة بينه وبين المذاهب الأخرى التي سادت قبله؛ لأن لكلٍّ هدفه الذي يسعى إليه، ويقاس نجاحه أو فشله بمقدار نجاحه في تحقيق هذا الهدف أو فشله في ذلك، فقد ركَّز المحدَثون اهتمامهم على الحياة الداخلية للفرد بدل الخارجية، وصوَّروا صراع وعلاقة الدوافع والعناصر مع بعضها البعض في داخل نفسه، بدلًا من تصوير صراعه مع أفراد آخرين أو علاقاته معهم. والمذهب النفسي الجديد عند جويس يرتكز في أساسه — كما قدمنا — على تقديم الأفكار والخواطر التي تَرِد على العقل في جميع ألوان التجارب الخاصة منها والعادية، فقد عمَد إلى إيلاج كاميرا فوتوغرافية إلى عقل شخصياته، ووجَّه عدستها لا إلى الخارج، بل إلى العقل نفسه؛ لتقديم صورة لما يجول فيه من ملايين الأفكار والذكريات عن مختلف الموضوعات. ولكن هناك حقيقة هامة لا بد من إيضاحها جنبًا إلى جنب مع الفكرة السابقة، وهي أن جويس في اتِّباعه لهذه الطريقة قد حرص أيضًا على أن يتبع طريقة «الانتقاء» في تقديم هذه الأفكار، فلم يكتب كلَّ ما يخطر على بال شخصياته من خواطر، وإنما قدَّم منها ما يُفيد روايته وموضوعه الذي هو بصدده. وهذا ما ينفي عن روايات جويس ما نادى به البعض من تفكك وسوء بناء، فكل ما أورده جويس من تيار الوعي لدى شخصياته يساعد على إبراز صفات الشخصية الروائية وتجاربها، ويُفيد في فهمنا لها. وقد أساء بعضُ الروائيِّين ممن جاءوا بعد جويس، أساءوا فهمَ طريقته، فعمدوا إلى تقليدها تقليدًا أعمى، وقدَّموا لنا العقل البشري في حالات عمله اليومي بما يخطر عليه من أفكار مفكَّكة غير مفهومة، فجاء عملهم فجًّا لا معنى له ولا ترابط فيه، مما ينفي عنه صفة الفن الأصيل. وبعد هذا العرض للمذهب الجديد، نحاول الآن معالجة رواية من روايات جويس، وهي «صورة للفنان في شبابه». وهذه الرواية كتبها جويس في خلال عشر سنوات ما بين عام ١٩٠٤ وعام ١٩١٤، وهي أول حلقة من سلسلة فنه، كما خططها في أواخر هذه الرواية — الحلقة الغنائية — التي يكتب فيها الفنان عن حياته وعن تجاربه. وقبل كل شيء، يجب أن نعطيَ فكرة سريعة عن القصة وما جاء بها. الرواية مكوَّنة من خمسة فصول، ويبدأ الفصل الأول بذكريات تَجُول في ذهن «ستيفن ديدالوس» عن أيام طفولته، بينما يكون في مدرسة كلونجوز الثانوية يلعب مع زملائه في الفناء. ويبدو لنا فكرُه مشغولًا بالأمور الصبيانية التي تشغل بالَ التلاميذ جميعًا، من شعوره نحو زملائه في المدرسة، وعن ذكريات تجول في ذهنه عن أبيه وأمه، وميولهما السياسية والدينية التي لم يكن يتفهمها وقتذاك، ثم يمرض ستيفن، ويحلم في مستشفى المدرسة بأنه قد مات والجميع يصلُّون عليه، ثم يذهب ستيفن إلى منزله لقضاء إجازة عيد الميلاد، ونرى الاستعدادات لحفل العيد من خلال تفكيره، ثم يشهد وهو على مائدة الطعام نقاشًا بين أبيه وبين «العمة دانتي» حول السياسة، وحول الزعيم «بارنل» الذي يتعصب له الوالد، ويتطور النقاش حتى يمسَّ الجانب الديني، وتخرج العمة دانتي مغضبة. ونعود مع ستيفن إلى المدرسة، ونجد التلاميذ يتحدثون عن اثنين من زملائهما سيعاقبان لأنهما أتيَا أمرًا غير طيب، ثم نرى ستيفن في فصل الدراسة، وبالُه مشغول بأمور الجرائم والعقاب والظلم، ويدخل المشرف الفصل، ويسأل ستيفن لماذا لا يقرأ كزملائه؟ فيعتذر ستيفن بأن نظَّارته قد كُسرت هذا الصباح، وأنه أرسل لمنزله في طلب نظارة جديدة، وقد أعفاه المدرس من الدراسة لحين ورود النظارة الجديدة، ولكن المشرف يظن أن ستيفن يتهرب بهذه الحجة، ويضربه بالعصا على يديه، ويحز هذا الظلم في نفس ستيفن، وتتدافع الانفعالات في نفسه، حتى إنه يذهب إلى مدير المدرسة ليعرض عليه قصة هذا الظلم الذي حاق به، ويَعِده المدير بأنه سيحدِّث المشرف في ذلك، ثم نرى انعكاس ما حدث في أفكار ستيفن ومجرى ذكرياته. وفي الفصل الثاني، نرى ستيفن في بيت والده أثناء العطلة الصيفية، ونتعرف على اهتماماته الصغيرة التي كانت تمنحه السعادة والفرص للتفكير، وعلى أحلامه وخيالاته وآماله في مقابلة «مرسيدس» بطلة الكونت دي مونت كريستو. ويضطر والد ستيفن إلى الانتقال إلى دبلن — العاصمة — حيث فرص العيش واسعة، وبعد ذلك، نعلم شيئًا عن حب ستيفن لفتاة تُدعى إيلين، كانت رفيقةَ لهوِه أثناء الطفولة الأولى، وكان ينظم أشعارًا لها، ونشهد أثناء ذلك كيفية تكوُّن التجربة الفنية والإنتاج الفني في نفسه. ويمثل ستيفن دورًا في تمثيلية في إحدى حفلات مدرسته الجزويتية الجديدة بدبلن، بينما إيلين تشاهده من بين صفوف النظارة. وبعد الحفل يتجول ستيفن وحيدًا، ويتذكر تأنيب مدرس الإنشاء له؛ لأنه كتب مرة عن موضوعات دينية، ثم يقابل زميلَين له، يضايقانه بكلامهما عن الشعر والأدب. ويشعر ستيفن بانعزاله ووحدته، وغرابة الحياة التي يحياها عن تلك التي يريدها. وتنمو الرغبة الجنسية في صدره مع مرور الزمن، فيَهِيم على وجهه في الطرقات، ويُشبع رغبته مع الساقطات في أحيائهن. وفي الفصل الثالث تتكرر زياراته لهذه الأحياء، ويشعر أنه قد غَرِق في الخطيئة ولا مردَّ له عنها، ثم تقيم المدرسة احتفالها السنوي بذكرى القديس فرانسيس إكسافيير — راعي المدرسة — حيث تُلقَى خطبٌ ومواعظُ كثيرة، وفي الاحتفال، وأثناء الخطبة الرئيسية، يصف الواعظ الموت والعقاب والحكم على الروح الضالة والخطيئة، فيكون تأثير تلك الموعظة عظيمًا في نفس ستيفن، ويشعر بالخزي مما يفعله. وفي اليوم التالي، يصف الواعظ الجحيم الذي سيكون مثوى الخاطئين، ويصفه وصفًا بشعًا: حيث لا يستطيع مَن لُعنوا فيه التحرك حتى ولا لطرد دودة تقرض العين، ويؤكد الواعظ على العذاب الحسِّي والنفسي للمخطئين، وعلى أبدية العذاب والعقاب، ويرتجف ستيفن من هول ما سمع، ويحنُّ للبراءة والطهر، ويَعِد بالعمل طول حياته لإثبات ندمه على ما اقترف من خطيئة. وفي الفصل الرابع، نجد ستيفن وقد غمره التدين والورع وخوف الله، يعترف بخطاياه أمام القس، ثم يدعوه مدير المدرسة ذات يوم، ويعرض عليه الالتحاق بسلك الكهنوت، كي يصير راهبًا في خدمة الدين، ويُبين له ما سيتيحه له هذا من قوة روحية، ويطلب إليه أن يفكر في الأمر، ونرى ستيفن بعد ذلك في صراع مع نفسه، تتدافع على ذهنه ذكرياتُ حياته السابقة في كلونجوز الثانوية، ويرتفع في ثنايا روحه صوتٌ يدعوه إلى عدم الانخراط في هذا السلك الديني الذي سيُقيِّد روحه، دون أن يدرك أثناءها ماذا سيفعل بحياته بعد ذلك. وفي أثناء تجواله ذات مرة على الشاطئ، يشاهد صبية تغسل ساقَيها في البحر، فتنبثق في نفسه الحياة التي يشعر أنه قد خُلق من أجلها، الفنان الذي يشكل من مادة الأرض الهزيلة شيئًا جديدًا ساميًا لا يموت، ويحس بالحياة تدعوه أن يعيش الحياة، أن يخطئ، أن ينتصر. هذا عرضٌ سريع لما جاء في الرواية، وهو بالطبع مجردُ عرضٍ جافٍّ عارٍ لحوادث الرواية، ولا يمثل بحال طبيعتها في إطار العمل الفني الكامل المتكامل، ولا بناءَه المعجز. حين بدأ جويس في كتابة هذه الرواية، لم تكن على هيئتها الحالية، بل كانت روايةً أخرى تحمل اسم «ستيفن بطلًا». ويبدو أنه رأى أنها لا تحقق ما كان يبغي تقديمه، فألقى بمخطوطها إلى النيران، وقد التقطَت زوجتُه المخطوط بعد أن احترقَت منه بعض الأجزاء، وقد طُبعت هذه الرواية بعد ذلك وخرجت إلى النور. و«ستيفن بطلًا» رواية عادية تقليدية في طريقة سردها، وموضوعها محشوٌّ بكثير مما هو غريب عليه، وليس هناك وجهٌ للمقارنة بينها وبين الرواية الجديدة التي كتبها جويس عن نفس الموضوع، الأمر الذي يُثير التساؤل هو: لماذا أعاد جويس كتابة «ستيفن بطلًا»، وما هي المؤثرات التي جعلَته يُقدِم على ذلك …؟ أما الرواية ذاتها فيمكن تناولها من ناحيتَين؛ ناحية الفلسفة الكامنة وراءها، وناحية بنائها الفني. فإذا نظرنا إلى القصة من الوجهة الأولى نتبين فيها عرضًا ساميًا قدَّمه لنا جويس، ليس بصورة مباشرة غير مقنعة، وإنما من خلال ثنايا عمل فني متكامل الأطراف، فقد صور لنا جويس نفسًا فنانة تعيش وسط بيئة تقليدية، في صراع مع الفقر والمغريات والقيود. ومن خلال هذه الصورة تلمَّس الطريق إلى غرضه، من تبيان أن الفن والإخلاص له هو أهم حدث في حياة الفنان، وأن بالفن وحده — الفن الحقيقي لا الفن الزائف — يمكن للفنان الأصيل أن يحقق وجوده وذاته في هذه الحياة، وأن النفس الفنانة حقًّا تجد طريقها إلى هدفها مهما كانت الصعوبات التي تجتاحها والظلمات التي تكتنفها، وتلف هذه الفكرة فكرة أخرى أعمق وأوسع، هي فكرة الحرية. فأما من ناحية الفن، فإن جويس حرص على أن يقدم لنا شخصية ستيفن ديدالوس منذ البداية في صورة النفس المرهَفة الفنانة، التي تنظر إلى ما يحوطها بالنظرة التحليلية الحساسة، التي يتصف بها كلُّ فنان أصيل، فستيفن يشعر في وحدة بانعزاله عن الآخرين، ووحدته في وسطهم، وطالما فكَّر في الأشياء الصغيرة التي يراها مَن حوله، والتي لا تجذب عادةً انتباه الشخص العادي، ولهذا نراه في الفصل الثاني، وقد تفتحت طاقاته الفنية: هذه اللمحات التي قدَّمها لنا المؤلف في ثنايا القصة، إن هي إلا إرهاصات لما سيحدث بعد ذلك لهذه الطاقات الفنية التي تكمن في نفس ستيفن ديدالوس، الفنان الصغير، وقد تعذَّبت هذه النفس المرهَفة بأحاديث العذاب السماوي؛ لأنها كانت قد وقعَت في الخطيئة، وأحسَّ ستيفن بصور العذاب والنيران والآخرة أكثر من الآخرين؛ لما في روحه من قدرة على الخيال وعلى تقليب الأمور على جميع وجوهها، فكانت النتيجة المبدئية أن تهاوَى أمام الخوف، وخضع لما يُمليه عليه الدين من تحريمات وقيود، ولكن بذرة الفن في هذه الأثناء — الفن الذي لا يرضى بالقيود ولا يحيا إلا في ظل الحرية الكاملة — كانت لا تزال كامنةً فيه وإن اختفَت إلى حين، فقد ظهرت حين كان مدير المدرسة الدينية يعُدُّ العُدة للقضاء على الفن في روحه نهائيًّا، فحين عرض عليه مدير المدرسة أن ينضمَّ إلى سلك الكهنوت ويصير قسًّا، أحس بصراع في نفسه لم يُدرك ماهيته، وإن كان القارئ قد فطن إلى أن طاقته الفنية تتفاعل في وجدانه بصورة لا شعورية، حتى انبثقَت أخيرًا وقد أدرك الغاية التي خُلق من أجلها، وهي التعبير عن نفسه بواسطة الفن، لكي يصنع عملًا خالدًا ساميًا. ويرى ستيفن مرةً فتاةً جميلة تغسل قدمَيها على الشاطئ، فيشعر بفن الجمال وبجمال الفن في الوقت نفسه، ويحس أن هذه الدنيا تدعوه إليها ليجرب ويُخطئ ويندم، بدلًا من أن يصير قسيسًا ويقيِّد نفسه بمحرمات الدين التي لا تتفق — في رأيه — مع الحرية التي تطلبها روحُه لتعبر عن نفسها في الفن، وهو في الفصل الخامس يحيا حياته بعيدًا عن القيود التي كبَّلَت روحه فيما مضى، وكانت تقف حجرَ عثرة في سبيل انطلاقه الفني، وفيه نستمع إلى شرح ستيفن للنظرية الجمالية التي توصَّل إليها، وهي نظرية تتفق ونظريته في الحرية والفن، بما كان يدعو فيها إلى الموضوعية، غير أن ستيفن يُدرك أن لا حرية تامة إلا بعد أن يتخلص من أشد القيود قسوة؛ الدين، البلد، المنزل، فيسعى إلى التخلص من هذه كذلك، فنجده وقد أنكر الدين، وإن لم يُنكر الإله، فهو يتفق في ذلك مع الكاتبة جورج إليوت، قديمًا، ثم نعلم في آخر الرواية أنه على أهبة السفر إلى باريس، فيحقق ما ينشده من الحرية الكاملة بعيدًا عن وطنه — أيرلندا — أشبه كما قال عنه بالأم التي تأكل أبناءها، وهو يقول عن أهدافه لصديقه «كرانلي»، وقد سأله هذا عمَّا يريد أن يفعل: وأهم ما تتميز به «صورة للفنان في شبابه» بعد هذا العرض لفلسفتها هو أسلوبها وبناؤها الفني؛ فالأسلوب ينحو منحى أسلوب همنجواي في كتاباته، المتميزة بالجمل القصيرة المتقطعة — الأسلوب البرقي — والفرق بين استعمال همنجواي لهذا الأسلوب واستعمال جويس له، هو أن استعمال الأول ناتج عن الرغبة في الوصول بالصنعة الفنية وطرق تصويرها إلى مناحٍ قوية جديدة، وهو قد نجح فيما ابتغاه، بينما استخدم جويس هذا الأسلوب كطريقة طبيعية لتيار الوعي الذي يسعى لتصويره، فمن الطبيعي أن الأفكار تترى على الذهن متقطعةً سريعة في غير ترابُط ولا انتظام؛ ولذلك نجد هذا الأسلوب يزيد من نجاح واقعية جويس الفكرية، ويدعم الطريقة التي اختارها لسرده القصصي. ويشرح المدافعون عن هذا الأسلوب البرقي الذي يدعونه «التواضع في التعبير» بقولهم: إن أقصر وأقوى الطرق لتوصيل الفكرة إلى القارئ هو أبسطها في التعبير عنها؛ فبدلًا من إقامة العوائق في الطريق إلى ذهن القارئ بالتشبيهات والاستعارات والتكرارات في العبارة والمعاني، يجب أن يُزالَ كلُّ حشو وزخرف من الجملة، والاقتصار على أقل قدر ممكن من الكلمات. فمثلًا بدلًا من أن نقول: «كانت ليلة يعصف فيها الريح عصفًا عظيمًا، ويخيم البرد على الدنيا كالحارس القاسي.» نقول: «كانت ليلة عاصفة باردة» فقط، وفي الفقرة التالية من «صورة للفنان في شبابه»، يمكن إدراك كيف خدم جويس طريقته في السرد بهذا الأسلوب: أما من ناحية البناء الفني للرواية، فأنا أعتقد أن «صورة الفنان في شبابه» قد بلغت الكمال، ولا يوجد شبيهٌ لها من هذه الناحية في روايات الأدب الإنجليزي. إنها أشبهُ بالقصيدة في تطوُّرها العضوي، وفي تضامنِ كلِّ جزء وحرف فيها نحو الوصول إلى معنًى كليٍّ واحد، فإنك لا تجد فيها شيئًا لا احتياج إليه، مهما بدَا كذلك لعين القارئ في البداية، ولا تجد شيئًا زائدًا، بل كل جملة لها دورها في توضيح المعنى أو تطوير الشخصية، وبذلك تلعب دورها الهام في الرواية. ونحن نجد اللغة في الرواية تنمو مع نمو بطلها «ستيفن ديدالوس»، ففي البداية نكون مع ستيفن الصبي بحكاياته ومشاغله الصبيانية، ونظرته البسيطة للأمور، وعلى هذا، فكل ذلك يُسرَد بلغة وكلمات سهلة بسيطة، كالتي يفكر بها الأطفال، ثم تنمو اللغة وكلماتها التي تمرُّ بذهن ستيفن، كلما مرَّ به الزمن ونما حتى النهاية، حين يبلغ البطل شأوًا من الثقافة والتفكير، نجد اللغة معقَّدة شيئًا ما لتتلاءم مع تشابُكِ فكر البطل وشطحات خياله. وقد أتاحت طريقةُ تيار الوعي لجويس التخلصَ من البناء التقليدي للقصص، الذي يُصر على تقديم تسلسل منطقي متتابع للأحداث، ولو أدى ذلك إلى تدخُّل المؤلف ليقدِّم تفسيرًا لكل ما يحدث في روايته، حتى تكون هذه الأحداث شيئًا منطقيًّا مفهومًا للقراء، وجويس لا يفعل هذا، وما كان له أن يفعله؛ فهو يقدِّم لنا ما يمرُّ على ذهن شخوصه، فإذا مرَّ بهذا الذهن شيءٌ مألوف لديه ومعروف له، ولكننا نحن القراء لا نعرفه، فالمؤلف لا يتدخل لتفسيره، وإنما يتركه كما هو، حتى إذا سنحَت الفرصة بعد ذلك عَمِل على توضيح الأمر لنا في مسار الرواية، وهذه هي الواقعية الحقة. ولإيضاح ما تقدم، نقول إن جويس يذكر لنا في ثاني صفحة من الرواية أن ستيفن وهو طفل قال إنه سيتزوج من «إيلين» ابنة الجيران التي كان يلعب معها، فزجرَته خالتُه دانتي، وطلبَت منه أن يعتذر وإلا سينزع الصقرُ مقلتَيه، ونحن لا نفهم سببًا لهذا الزجر على أمر طبيعي يقوله كلُّ طفل عن رفيقةِ لهوِه، ولكننا نعلم بعد ذلك أن «إيلين» هذه من مذهب في المسيحية يختلف عن ذلك الذي تعتنقه الخالة دانتي، المتعصبة لمذهبها تعصبًا أعمى، ونحن لا نتبين هذا التفسير إلا بعد سبعين صفحة من الإشارة الأولى لهذه الحادثة، ودون أي ربط بينهما، وكذلك، فإن حوادث الرواية لا تترَى في تتابُع منطقي مألوف، إنما تأتي في مكانها المرسوم لها حسب ورودها على أذهان شخوص القصة. وهكذا يرتبط كلُّ جزء في الرواية بالأجزاء الأخرى برباط وثيق، متعاونًا على إخراج بناء محكَم دقيق لهذه الرواية الخالدة. في الأدب الإنجليزي الحديث، للدكتور لويس عوض، ١٩٥٠، مكتبة الأنجلو المصرية. فن الشعر للدكتور إحسان عباس، بيروت، ١٩٥٩. القصة السيكلوجية، لليون إيديل، ترجمة الدكتور أحمد السمرة، بيروت، ١٩٥٩. سارتر والوجودية ﻟ ر. م. ألبريس، ترجمة الدكتور سهيل إدريس، دار الآداب، ١٩٦٢. كامو والتمرد، لروبير دو لوييه، ترجمة الدكتور سهيل إدريس، بيروت، ١٩٥٥. همنجواي، دراسة في فنه القصصي لكارلوس بيكر، ترجمة إحسان عباس.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/5/
المصادر العربية في القصص الأوروبي
استمر الوجود العربي الإسلامي على أرض الأندلس ثمانية قرون طوال، بدءًا من عام ٧١١م، حين عبرَ طارق بن زياد برَّ العدوة إلى الجبل الذي دُعي باسمه بعد ذلك، مستهلًّا بهذا عهدَ فتوح العرب في أوروبا، حتى عام ١٤٩٢ (جميع التواريخ بعد ذلك ستكون حسب التقويم الميلادي) حين ودَّع آخر سلاطين غرناطة العرب مملكتَه بعد استيلاء الملكَين الكاثوليكيَّين عليها. وفي خلال القرن الأول، أقام العرب حضارة ومدنية راسختَي الجذور في تلك المنطقة، ونشروا الثقافة العربية الإسلامية فيها، في الوقت الذي كانت تَرِين على أوروبا عواملُ الفرقة والنزاع، وتسيطر عليها جهالة حضارية وثقافية عُرفت بعصور الظلام، لذلك كان طبيعيًّا أن تؤثر الحضارة العربية في الأقطار الأوروبية، وقد جاورَتها واحتكَّت بها سِلمًا وحربًا، وكان طبيعيًّا أن يَفِد الآلاف من البلاد المجاورة إلى المراكز الحضارية الإسلامية في الأندلس لينهلوا من العلم والفن، ومن ناحية أخرى، توفَّر الكثير من العلماء الإسبان على دراسة المصنفات العربية وترجمتها إلى اللغة اللاتينية أولًا، ثم إلى اللغة الإسبانية الناشئة، والتي عُرفت في بداياتها باللغة الرومانسية. وكان دور إسبانيا أنها كانت حلقةَ الوصل التي تمثَّلت علوم العرب وفنونهم، ونقلَتها — إما عن طريق الأسفار والزيارات التي تلقَّتها من جميع الأنحاء، أو عن طريق الترجمات — إلى دول أوروبا، ثم انتشرت هذه الترجمات منذ القرن العاشر حتى الخامس عشر وما بعده في اللغة اللاتينية، التي كان يُطالع بها جميع الدارسين في الغرب، أو في تلك اللهجات الرومانسية التي تفرَّعت عنها في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. فمن ذلك، أن عددًا من العلماء الرحَّالة قد توجهوا من مناطق عديدة في أوروبا إلى الأندلس، بعد أن جذبهم إليها علوُّ شأن العلم العربي، وأشهرُ هؤلاء الرحَّالة العلماء هو «جريير دي أوريلاك»، الذي تولَّى البابوية بعد ذلك تحت اسم سلفستر الثاني، وقضى هذا العالِم الكاهن ثلاث سنوات (٩٦٧–٩٧٠) في قرطبة، التي كانت منارة العلم ومركزًا للبعثات الدراسية في تلك الفترة، فقد زخرت بالفقهاء في كل فروع المعرفة والفنون، وازدحمت بالمكتبات الوفيرة الزاد، أشهرها مكتبة الخليفة الحاكم الثاني، التي احتوت على أربعمائة ألف مجلد، في الوقت الذي كانت فيه المكتبات في العالم الغربي تنحصر في المؤسسات الدينية، ولا تحوي سوى عشرات الكتب، ولا تتجاوز المائة كتاب بحال من الأحوال! أما مركز ترجمة العلوم العربية إلى اللاتينية ثم الرومانسية، فكان المدينة العريقة طليطلة، وكانت طليطلة عاصمة مملكة القوط قبل الفتح العربي، ثم أصبحت إحدى ممالك الطوائف الهامة، ازدهرَت فيها الدراسات العربية والإسلامية، وكانت أولَ مدينة عربية كبرى تسقط في أيدي الإسبان عام ١٠٨٥، ولم يمضِ على سقوط طليطلة إلا عدة سنوات، حتى استحالت مركزًا كبيرًا لنشر المعارف العربية في كل أنحاء إسبانيا المسيحية والعالم الأوروبي، واجتذبَت إليه الكثير من الطلاب والدارسين والعلماء، توفروا على تصنيف الكتب العربية في مكتباتها، وترجمتها إلى اللاتينية، وأدى ذلك إلى قيام مدرسة للدراسات اللاتينية-العربية، تبنَّاها وشجَّعها كبيرُ أساقفة طليطلة المدعو رايموندو في الفترة من ١١٢٦–١١٥٢، ومَن تلاه في هذا المنصب، واضعين نصبَ أعينهم حاجة المسيحية إلى الاستعانة بالفكر والعلم العربيَّين، اللذَين مثَّلَا الحضارة الزاهرة التي سادت آنذاك، كما ساد الاعتقاد من وجهة النظر الدينية، بأنه يجب مقاومة المسلمين الذين يتمتعون بحضارة وثقافة عميقتَي الجذور بالعقل أكثر من القوة، وذلك لا يتم إلا بالتوفر على دراسة كل من معتقداتهم الدينية وعلومهم الوضعية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد نُقلت إليهم كتب العرب معارف اليونانيين الذين أهملت روما دراسة تراثهم بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، حتى اندثرت عندهم. وهكذا اطلع علماء الغرب على مؤلفات أرسطو وإقليدس وغيرهما من العلماء والفلاسفة اليونان، مشروحةً ومفسرة ومزادةً في تراث عميق وأبعاد جديدة، بأقلام علماء العرب والمسلمين الذين يحملون خلفهم تراثهم وثقافتهم المتميزتَين، في فترة ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية خاصة في العصر العباسي، بعد احتكاكها بالحضارات الآسيوية العريقة، مما نتج عنه حركة استنارة لم تعرفها الإمبراطورية الرومانية في أوج ازدهارها. وبينما كانت مدرسة المترجمين الأوائل تعمل بجدٍّ وحماس في طليطلة، ازدهرت في الأندلس دورة جديدة من الإنتاج الفكري العربي، على أكتاف نخبة من المفكرين البارزين، منهم «ابن باجة»، الذي دعا إلى صوفية عارَض بها صوفية الغزالي؛ إذ أدخل فيها عنصر العقل، و«ابن زهر» الطبيب الذي دُرِّست كتبه في جامعات أوروبا حتى القرن السابع عشر، و«ابن طفيل» صاحب رسالة حي بن يقظان، وابن رشد. فكان الطور الثاني من جهد مدرسة المترجمين هو نقل أعمال هؤلاء إلى اللغة اللاتينية ونشرها بين علماء أوروبا. وفي عام ١٢٥٢، تولَّى عرش قشتالة الملك ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم (١٢٢١–١٢٨٤)، وبلغَت حركةُ الترجمة عن العربية أوجهًا في عهده؛ إذ بسط رعايته على علماء عصره، وأشار بترجمة كتب معينة من التراث العربي من قبل تولِّيه العرش، منها كتاب «الزرقلي» فلكي قرطبة، وكتاب كليلة ودمنة الذي ظهرَت أول ترجمة له بأوروبا في إسبانيا عام ١٢٥١، وكتاب «قصص السندباد» الذي ضاع أصله العربي، وبقيَت لنا الترجمة الإسبانية بعنوان «كتاب مكائد النساء وحِيَلهن». وما يهمُّ التنويه به في تلك الحقبة الألفونسية لنقل المعارف العربية، أن تلك الكتب لم تَعُد ترجمتها تقتصر على اللاتينية فحسب، بل أصبحت تُنقل أولًا إلى اللغة الرومانسية؛ أي الإسبانية المحلية التي لم تكن قد تطورت بعد التطور الكافي. كان أهم عمل تُرجم في هذه الفترة هو حديث المعراج، الذي يروي وقائع إسراء النبي محمد ﷺ إلى المسجد الأقصى وعروجه إلى السماء، وقد أثارت هذه الوقائع ضجة عظمى في أوائل القرن الحالي في أوساط المستشرقين، بسبب ما قيل عن تأثر دانتي بها في ملحمته «الكوميديا الإلهية»، دون وجود ما يُثبت تداولها في اللغات الأوروبية في عهده. وعارض الكثيرون ذلك القول، بل وسفَّهوا أمرَه، إلى أن اكتُشفَت ونُشرت عام ١٩٤٩ النصوص الفرنسية واللاتينية لوقائع هذا الحدث، بما لا يترك مجالًا لشكٍّ في ترجمة نصوصه وذيوعها في لغات أوروبية قبل العصر الذي وُجد فيه دانتي. وكان اكتشافُ هذه المخطوطات في رفوف مكتبتَين من أكبر مكتبات أوروبا، وهي المكتبة القومية بباريس ومكتبة أكسفورد بإنجلترا، مثارَ تساؤل عظيم، يدور حول إمكانية تواجد الكثير من الحلقات المفقودة في تاريخ انتقال الثقافة والعلم والأدب العربي إلى أوروبا، وظهر هذا الأثرُ في كتاباتهم الكلاسيكية المشهورة التي نقرؤها اليوم، فنجد في ثناياها صدًى عميقًا لجوانب معروفة في آدابنا القديمة، ونتلمس منها موضوعاتٍ ونماذجَ أدبيةً مألوفة لدينا، ولكن تقف أمامنا علامةُ استفهام كبرى، وهي همزة الوصل التي يسَّرت نقل هذه الأعمال العربية إلى أولئك الكُتَّاب الأوروبيِّين. وفي رأيي أنه إذا كان المترجمون قد توفروا على نقل جواهر العلوم البحتة العربية من كيمياء وطب ورياضيات إلى اللاتينية أو اللغات المحلية، فإنه يكون غريبًا أن يُهملوا نقل العلوم والمعارف الأدبية المشهورة إلى لغاتهم أيضًا. وهم إذا كانوا قد ترجموا أعمالًا مثل حي بن يقظان وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، فما الذي يمنع أنهم قد ترجموا أيضًا كتب الجاحظ، وأبي العلاء، ومقامات الذبياني والحريري؟ إنَّ عدم وجود نصوص هذه الكتب اليوم في ترجماتها الأوروبية ليس دليلًا على عدم إتمام مثل هذه الترجمة وذيوعها في عصر النقل الذي تحدَّثنا عنه، ومثالنا على ذلك، الاعتقاد السابق بعدم وجود ترجمة للمعراج إلى حين ظهورها في نصوص مؤكدة، وأَمضي متابعًا لهذا الرأي، فأذكر سببَين جوهريَّين وراء تلك الحلقة المفقودة، أولهما: ضياع الكثير من الكتب العربية ونصوص ترجماتها في الفترة التي سادت فيها محاكم التفتيش، وتسلَّطت على حياة الناس في إسبانيا. وقد نشأت فكرةُ محاكم التفتيش أصلًا من حملات الكنيسة والبابا ضد الهراطقة الذين هددوا أساس الديانة المسيحية، ثم زادت هذه الحملات بسبب المنافسة والصراع على السلطة بين الكنيسة والملوك في أوروبا، إلا أن محاكم التفتيش الرسمية قد اتخذت صفةً أوسع وسلطةً أشد في إسبانيا، بالذات بسبب وجود أعداد كبيرة من المسلمين واليهود يعيشون فيها في المالك المسيحية، وحتى بعد أن تنصَّر الكثير منهم هربًا من حكم الطرد من البلاد، فإنهم كانوا ما يزالون يُقيمون طقوسهم وعباداتهم سرًّا. ولهذا صدر أمرُ البابا «سكست» الرابع بإقامة هذه المحاكم لفحص عقيدة هؤلاء الأفراد توخِّيًا للنقاء الديني. وقد باشرَت هذه المحاكم عملَها في مدن إسبانيا وقُراها، وكانت تُصدر أحكامًا مفزعة بالحرق والقتل لدى أقل شبهة، وعمدَت إلى ألوان التعذيب تُماثل ما قام به النازيون بعد ذلك بقرون عديدة، ولكن ما يهمنا هنا هو أثر ذلك النظام على الثقافة العربية، فبعد عدة سنوات من سقوط غرناطة في أيدي الإسبان، نفذ الإسبان، وحملوا حملات شديدة على المسلمين الباقين في غرناطة، وألقَوا بالآلاف من الكتب العربية طعامًا للنيران، وقد ثار المسلمون عدة مرات من جراء هذا الاضطهاد، حتى انتهى بهم الأمر إلى الحكم عليهم بالطرد جملةً عام ١٦٠٩، وكانت شبهة الاحتفاظ بأي كتب عربية أو أي شيء له صلة بالمسلمين وبالعرب كافية لتقديم صاحبها للمحاكمة. ومن هنا يمكن تصوُّر كيف ضاعت آلاف الكتب والمخطوطات العربية وترجماتها في ذلك العقد الذي دام قرونًا عدة، أو كيف فقدت وضلَّت طريقها وسط خزائن الكنائس والأديرة والجامعات، التي قد تكون محتفظة به حتى الآن. وثاني هذين السببَين هو الصعوبات التي تكتنف علم البحث عن المخطوطات القديمة وتحقيقها؛ فمراكز الثقافة العالمية تزخر بمثل هذه المخطوطات، ولكنها تبقى عادة «مهملة» في مخازنها نتيجة لقلة المتخصصين في تناول هذه الوثائق التاريخية والأدبية الهامة، وتحقيقها وتصنيفها، ونتيجةً لاعتبار القائمين على أمور هذه المراكز والمكتبات تلك المخطوطاتِ ثروةً «قومية» لا يسمحون لغريب أن يُحرز قصب السبق في الكشف عن كنوزها، وبخاصة المخطوطات ذات المتن العربي المسطَّرة بالخطوط القديمة، التي يُنفق المستشرقون أوقاتًا طويلة في فك طلاسمها، والتي كان يمكن أن تحقَّق بسرعة أكبر لو قام بتلك المهمة خبراء وأساتذة عرب، أو اشتركوا في ذلك مع أصحابها الأوروبيِّين. ونتيجةً لهذا، فإن هناك كميات كبيرة من هذه المخطوطات حبيسة في مكتبات الاستشراق الهامة مثل مكتبات: الإسكوريال القومية، ومدرسة الدراسات العربية في إسبانيا، وإسطنبول بتركيا، والفاتيكان، وجامعات هولندا وفرنسا وإنجلترا، وفي بعض مراكز الثقافة بإيران والمغرب وتونس. ولا بد أن يكون في مثل هذه المخطوطات المخزونة ما يُلقي أضواءً جديدة على الشئون التي يتناولها هذا البحث، بالإضافة إلى إمكانية وجود نصوص لبعض الكتب العربية الهامة التي تعتبر اليوم في حكم المفقودة. إن الإبداع القصصي في التراث العربي القديم لا يماثل الدرجة التي وصل إليها الشعر، ولكن هذا لا يعني، كما يستطرد كثير من المستشرقين في القول، بأن العرب لم يعرفوا هذا اللون الأدبي أيامها، بل كان الأمر على النقيض من هذا؛ ذلك أن العدد القليل من النماذج القصصية العربية التي وُجدت قبل ظهور الإسلام وبعده، وذاعَت وانتشرَت طوال فترات العصور الوسطى الأوروبية بواسطة إسبانيا، مارسَت نفس الدور الذي قامت به الكتب العلمية العربية الأخرى التي أثَّرت على العلوم الأوروبية، فإن مَن يتوفر على دراسة تراث قوم بغيةَ التعرف على حضارتهم، يتناول ذلك التراث جملةً، ويدرس علومهم بالمعنى العربي القديم لكلمة علوم، فتشمل العلم والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والأدب بكل أنواعه، فهي تعني المعارف جملةً وتفصيلًا، وسنرى، كما سيأتي بيانه بعد ذلك، كيف أن معظم الكتب القصصية العربية — على قلَّتها — كانت شائعةً متداولة في العالم الأوروبي في العصور الوسيطة. فمن بين النماذج القصصية التي عرفها العرب قبل الإسلام، ثم بعده: قصص الفروسية، ونفس هذا النوع من القصص هو الذي ساد عصرًا بأكمله في أوروبا القروسطية، وتمثل في ذلك السيل الجارف من الكتب التي لا نعرف لها مؤلِّفًا، والتي تتناول أبطالًا قوميِّين، وتذكر معاركهم وحروبهم ورحلاتهم في سبيل الذود عن حِمَى وطنهم أو عشيرتهم أو أهليهم، وفي سبيل إحقاق الحق والعدالة. وكان من أوائل هذه الكتب «أنشودة رولان» الفرنسية (كُتبت في بداية القرن ١٢)، و«السيد القمبيطور» أي «المبارزة» الإسبانية: (كُتبت في القرن ١٣)، ونشيد نيبيلونجن الألماني (القرن ١٣)، التي كانت أشبهَ بالملاحم التي تُعبر عن روح الأمة في صراعاتها وحروبها. والبطل في مثل هذه القصص يتخذ صفاتٍ أسطورية؛ إذ هو يقتل الأُسود ويصارع الغيلان والمردة، وينتصر على الأعداد الغفيرة بضربة واحدة، وهلم جرًّا. ولقد تداول الرواة هذه الملاحم شفاهةً قبل تسطيرها بمئات السنين، فلما كُتبت على الورق، تحوَّل موضوع الاثنتين الأوليَين منها، فأصبحتا تدوران حول حروب المسيحيين ضد المسلمين في المناطق التي كانوا يتجاورون فيها؛ فرولان بطلٌ في جيش شارلمان الذي يحارب المسلمين في شمال إسبانيا بموضع «رونصفال»، والسيد القمبيطور هو الذي يشنُّ الغارات على ملوك الطوائف في الممالك الإسلامية الباقية أيامها على أرض المسلمين. وقد عرف العرب هذا النوع من الملاحم المرورية أولًا ثم المدونة، منذ عهد الجاهلية، وتحت اسم السِّيَر، وكانت أولى هذه الملاحم وأشهرها سيرة عنترة بن شداد، التي تدور حول حروب العرب وغزواتهم، وتناقلَت وقائعها أخبار هذا الفارس والشاعر العربي الشهير، ممزوجة بمعالم التاريخ الجاهلي والإسلامي، إلا أن هذا كله غطَّته غلالة أسطورية، خرجَت بالوقائع إلى حد الخوارق والمعجزات غير الواقعية. وقد ردد هذه القصص العنترية الرواة الشعبيون منذ ظهورهم، ثم جُمعت ودُونت في عهد الخليفة هارون الرشيد (٧٦٦–٨٠٩)، وتولَّى ذلك الكاتبُ المشهور الأصمعي. ويتفق عددٌ من المستشرقين والباحثين على أن عنترة هو مثال الفارس الأوروبي، ذاهبين إلى أن الفروسية الأوروبية لها مظاهر بعيدة أو غريبة على المجتمع والروح الأوروبي السائد أيامها، حين كان النظام الإقطاعي هو المسيطر، وأن هذه الفروسية التي تمثلت في الدفاع عن الشرف والشجاعة والوفاء، وقول الشعر والحب العذري، هي أقرب شبهًا بفروسية البادية العربية في عهد الجاهلية وبدايات الإسلام، كما أن هناك العديد من الشواهد والتفصيلات التي تقوم عليها أسس رواية الفرسان، كلها مأخوذة من السير العربية، منها العاطفة الرومانسية العذرية، التي تجيش في صدر الفارس تجاه سيدة تملك عليه فؤاده، فيخرج إلى الحرب أو يقيم العدالة في الأرض باسمها، ثم الاهتمام بذكر ووصف حصان الفارس وسيفه، وهذا يعيد إلى الذهن تقديس العرب الأوائل للخيل وللصوارم، ويعيد إلى الذهن حصان عنترة الشهير «الأبجر بن مغان» وسيفه الأشهر منه «الظامي». وقد أورد المستشرقان نيكلسون وهيللر في كتاباتهما عن هذا الموضوع أمثلة وردت في سيرة عنترة، وتكررت بعينها في أنشودة رولان. وقد تطوَّر هذا النوع من الملاحم القصصية إلى كتب تحكي مغامراتِ الفروسية والفرسان، حيث ظهر عددٌ كبير منها في إسبانيا في الفترة من القرن ١٣ وحتى القرن ١٥، وأشهرها كتاب «أماديس الغالي» الذي فقدت نسخته الأصلية، و«كتاب الفارس ثيفار»، ولا بد أن صلة كتب الفروسية هذه بالعرب وبالفرسان العرب كانت شيئًا معروفًا شائعًا في زمانها، حتى إن سرفانتس عند وضعه كتابَ دون كيشوت ليسخر به من شيوع روايات الفروسية المليئة بالخرافات، وسيطرتها على أذهان السذج والبسطاء، قد جعله على لسان أحد المؤلفين العرب هو سيدي حامد الأيلي!! ومن الموضوعات التي تناولها العرب في كتاباتهم القصصية ثم انتشرَت في أوروبا طولًا وعرضًا، عن طريق إسبانيا، قصص الحِكم والمواعظ التي تضرب الأمثلة بالحيوانات والطيور. وكان النموذج الأول لهذا النوع هو كتاب كليلة ودمنة الذي عرَّبه ابن المقفع، ورغم أنه نقله عن الهندية، إلا أنه قد ثبت أنه قد أعاد تأليف الكتاب «بما يعطي معطيات تتلاءم واتجاهه الفكري، وتُسهم في المشاركة في بناء المجتمع الذي كان يعيش فيه»، ولو أنه كان مترجمًا لهذه القصص وحسب، لما أدَّى هذا الكتاب إلى قتله في النهاية، كما يذكر الأستاذ فاروق خورشيد في كتابه أضواء على السيرة الشعبية. أول كتاب يحفظه لنا التاريخ مخصص للحديث عن فنون الغرام هو كتاب «أوفيد» «فن الحب»، إلا أن المطالع لكتب الحب التي وضعها المؤلفون الغربيون بدءًا من القرن الثاني عشر الميلادي يجد أن لها طبيعة تختلف عمَّا قدَّمه الكاتب الروماني الشهير، فأين كان إذن مصدر وحيهم في ذلك؟ وقد جاء أول ذكر لقصص ألف ليلة وليلة في كتاب مروج الذهب للمسعودي (توفي عام ٩٥٦)، وتُشير المراجع عادة إلى أن أول ترجمة عرفَتها أوروبا لألف ليلة وليلة هي التي قام بها «أنطوان جالان» في أوائل القرن الثامن عشر إلى الفرنسية، وعنها تُرجمت إلى كل لغات العالم تقريبًا، إلا أن ذلك التأريخ يُغفل جانبًا هامًّا، هو ما حدث من تناقل قصص ألف ليلة وليلة شفاهةً بين ما تُنوقل من الآداب العربية والأوروبية، ما بين العالم العربي الإسلامي والغربي المسيحي، عن طريق قوافل التجارة وجيوش الحروب الصليبية والإمارات المسيحية التي بقيَت فترةً وسط العالم الإسلامي وبالعكس، وغيرها من وسائل الاتصال، وقد أشار عددٌ من المستشرقين، من بينهم جب وكوسكان، إلى تلك الحقيقة التي تنادي بوصول قصص ألف ليلة وليلة إلى مسامع تشوسر وبوكاتشيو، مما أدى إلى تأثرهم بها في كتابَيهما بعد ذلك، خاصة وأن كليهما كانا من الأدباء الرحالة، وتنقلا في أجواء عديدة ومدن مختلفة. وقد فصَّلت د. صفاء خلوصي الشبهَ بين الديكاميرون وحكايات ألف ليلة وليلة في كتابها «دراسات في الأدب المقارن». وإلى جانب النقل الشفوي لقصص ألف ليلة وليلة، فإن هناك كتابَين وُضعا في إسبانيا في فترة بعيدة من العصور الوسطى، لا يدعان شكًّا في صلتهما بألف ليلة وليلة، أول هذين الكتابَين تُرجم من العربية عام ١٢٥٣ في عهد ألفونسو الحكيم ويُدعى السندباد، أو «كتاب مكائد النساء وحِيَلهن»، ويتضمن ستًّا وعشرين قصة ذات موضوعات شرقية، يقصُّها عدةُ حكماء يدافعون عن أحد الأمراء ضد اتهامات وجَّهتها له زوجة أبيه. وقد احتوى هذا الكتاب على صور قاتمة للنساء اللواتي يتحايلن بكل الطرق على إنفاذ رغباتهن وشهواتهن، ووردت به قصة الرجل والمرأة والببغاء، وغيرها من قصص حيل النساء التي زخرت بها قصص ألف ليلة وليلة. أما من حيث تأثير ألف ليلة، فبالإضافة إلى كتابَي السندباد وتعاليم الحكماء اللذَين قدَّمتهما إسبانيا إلى جاراتها الأوروبيات، كُشف النقاب أخيرًا عن عدد من المخطوطات الجديدة، تتناول قصصًا إسبانية مما احتوت عليه ألف ليلة، كُتبت في نفس هذه الفترة من العصور الوسطى، منها قصة مدينة النحاس، وثمة عددٌ من المبعوثين العرب الذين يدرسون الدكتوراه في جامعتَي مدريد وغرناطة، يعملون في جد واجتهاد لتحقيق أصول هذه المخطوطات، وإرجاع ما تحتويه إلى أصوله العربية. أما هذا المثال القصصي، فهو يضرب في ميدان الفلسفة والتربية بسهم وافر؛ إذ كان نتاج قلم أحد الفلاسفة الأندلسيين المشهورين، هو ابن طفيل (١١٠٥–١١٨٥). ورغم أن كتابه الذي اشتهر به وهو «رسالة حي بن يقظان» كتاب فلسفي أساسًا، وكان ركيزة من ركائز نظرية التوحيد، التي شارك فيها ابن باجة قبل ابن طفيل، فإنه يدخل في عداد القصص نظرًا للقالب الروائي الذي صاغه عليه مؤلفه، ويبيِّن فيه إمكانية أن يهتديَ الإنسان إلى وجود الله جل جلاله عن طريق الاتصال بالطبيعة وما فيها من كائنات حية ونباتات، ويغذي روحه وحياته بهذا الهدي الطبيعي في وجه من وجوه الحياة ومناحيها المتعددة وأطوارها. ومن الثابت اليوم أن هذه القصة الفلسفية قد تُرجمت إلى اللاتينية في أواخر القرن الخامس عشر، وأعاد البروفيسور «بوكوك» ترجمتها للاتينية في أكسفورد عام ١٦٧١، ثم صدرت بعد ذلك بعام واحد في ترجمتها الإنجليزية، ثم تُرجمت إلى معظم اللغات الأوروبية بعد ذلك. إلا أننا نجد كتاب ابن طفيل يُخرج لنا أثرًا قصصيًّا خالدًا آخر في مكانٍ قصيٍّ عن الأندلس، هو الجزيرة البريطانية، إذ أخرج الكاتب الإنجليزي الذائع الصيت «دانييل ديفو» روايته المشهورة في كل زمان ومكان «روبنسون كروزو»، وتحكي قصةَ رجل ألقَت به المقادير على جزيرة مهجورة بعد غرق سفينته، وكيف أقام بيدَيه وبهدي من الضرورة والظروف الطبيعية التي أحاطَت به، نوعًا من الحضارة تمثِّل تقدُّم الإنسان على الأرض؛ فروبنسون كروزو بهذا يمثِّل المجتمع الإنساني بأسره. والشبه واضح بين هذه القصة وبين كتاب ابن طفيل، في المنهج على الأقل. وكان قد أُشيع عند صدور كروزو لأول مرة عام ١٧١٩، أن مؤلفها قد استوحاها من قصة حقيقية وقعَت لبحار إنجليزي يُدعى ألكساندر سلكريك، أُلقي على جزيرة نائية تتبع شيلي بأمريكا الجنوبية، حيث عاش في عزلة كاملة مدة خمس سنوات، ثم عاد بعد ذلك إلى إنجلترا عام ١٧٠٩، حيث ذاعَت قصتُه وتناولَتها الصحف بالرواية والتعليق، إلا أن ديفو أنكر أيَّ تأثيرات لديه من قصة سلكريك، مؤكدًا أنه كان قد انتهى من كتابة قصته الخيالية عام ١٧٠٨، قبل عودة البحار الغريق بعام كامل. ويُشير كافة المستشرقين ونقاد الأدب المقارن اليوم إلى إمكانية اطلاع ديفو على الترجمة الإنجليزية لحي بن يقظان، واستلهامه إياها في روايته، وقد أعجب جان جاك روسو كثيرًا بروبنسون كروزو، واعتبرها خيرَ رسالة تدور حول التربية، وتفضل مثيلاتها الأرسطية والمحدثة التي صدرَت حتى عهده. وقد أكد روسو في كتاباته، وخاصةً في «الاعترافات»، على أهمية التربية الطبيعية الفطرية في نمو الشخصية والإدراك السليم. كما صدرت روايات خيالية عدة بعد ذلك تنحو نفس هذا المنحى، وكُتُب «يوتوبيه»، أشهرها كتاب «هنري ثورو» الأمريكي «والدن»، وكانت كلُّها صدًى للنموذج الأول الذي استهل هذا التقليد الفلسفي القصصي، وهو قصة حي بن يقظان. وكانت إسبانيا هي التي قدَّمت للعالم أجمع هذا النوع من الروايات؛ روايات الشطَّار، في نماذج فريدة من نوعها انتشرت في العالم الأوروبي كله، ولكنها استمدته — كما سنرى فيما بعد — من عدة مصادر عربية أيضًا. وقد ظهرت أول رواية بيكارسكية في إسبانيا عام ١٥٥٤، حين صدرَت في «برغش» و«أمبيريز» و«قلعة إنارس» ثلاثُ طبعات في نفس الوقت تقريبًا، من رواية مجهولة المؤلف بعنوان «لاثارييو دي تورمس». وتحكي الرواية على لسان بطلها لاثارييو قصةَ نشأتِه في منزل والدته وعشيقها بعد وفاة والده، ثم خروجه إلى الحياة صبيًّا لأحد الشحاذين المكفوفين، وكيف كان يحتال عليه لإشباع جوعه وعطشه، ويسخر من استغلاله الدين والصلاح لابتزاز نقود المحسنين، ثم فراره منه في النهاية بعد أن لقَّنه درسًا قاسيًا تركه بين الحياة والموت. وتنقل لاثارييو بعد ذلك خادمًا لعدة أسياد، لم يكونوا بأفضل من الشحاذ الأعمى، فهم إما فقراء مدقِعون، أو بخلاء مقترون، أو محتالون أفَّاقون. ويضطر إلى مجاراتهم في هذا النوع من الحياة أو ذاك، والتعلم من فنون مكرهم وحِيَلهم، وشحذ قريحته حتى يستطيع أن يستخلص منهم ما يتبلغ به ويُبقي عليه الحياة، وهو في هذا يمرُّ بتجارب مريرة مضحكة، مغرقة في الواقعية التي تقارب المأساة، إلا أنها تنتزع من القارئ الضحك والابتسام لغرابتها وطرافتها. ويستقر لاثارييو في النهاية مع أحد وجهاء الريف، يُغدق عليه من خيراته، مقابل رضاء الفتى الزواج من خادمته التي كانت تعمل عنده، ولا يهتم لاثارييو بغمزات الناس عليه لهذا الاتفاق، ما دام قد وجد مستقرًّا يضمن له العيش الهنيء والرغد في الحياة. وقد عمل نجاح هذه الرواية، برغم عاصفة الاحتجاج الديني الذي أثارَته واقعيتُها، على صدور أعمال أخرى في إسبانيا وفي الخارج، لها نفس سمات هذا النوع القصصي، ومن بين ما صدر في إسبانيا منه بعد ذلك تتميز روايتان هامتان: الأولى باسم «عثمان الفراش» تأليف «ماتيو اليمان» والثانية باسم «السيد بابلو النصاب» تأليف «كيبيدو». وسنتلو في هذا المقال ذكرًا عن هاتين القصتين لرسم فكرة عامة عن مضمون هذا النوع من القصص؛ فعثمان الفراش تقصُّ حياة بطلها الذي يحمل هذا الاسم. وُلد عثمان في إشبيلية بالأندلس، نتيجة علاقة غير شرعية ما لبثَت أن أُصلحت بالزواج بين الوالدين، ولكن الابن يضطر إلى الخروج إلى الدنيا ليكسب عيشَه فيها، ولم يكَد يُكمل العام الثاني عشر من عمره، فيتوجه إلى جنوه حيث يعمل في نُزُل يعيش فيه على الكفاف. ويبدأ تجواله وتشرُّده في أنحاء كثيرة في أوروبا، ويُقبض عليه مرات عديدة، ويسرقه أصدقاؤه، ولا يتركون معه دانقًا. ويعود إلى إسبانيا ليتفرغ لعدة مغامرات غرامية تنتهي بالفشل، فيلتحق بفرقة من الجند المرتزقة متجهة إلى روما، ولكنه يغيِّر من هيئته ويهرب منهم، ويمضي متسولًا يحتال على رجال الدين مستغلًّا طيبةَ قلوبهم. وفي القسم الثاني من القصة، يتنقل على خدمة عدد من كبار القوم، ويجوب البلاد الإيطالية مستخدمًا حيلته وذكاءه في كسب المال، ثم يعود إلى برشلونة حيث يعمل بالتجارة، ويتزوج ويرث ثروة من زوجته المتوفاة، ثم يلتحق بجامعة «قلعة إنارس» ليدرس اللاهوت! غير أنه يهجر الدراسة قبل تخرُّجه بقليل ليتزوج فتاة أخرى، ويفقد ثروته، فيُرغم زوجتَه على ممارسة الدعارة مقابل النقود، ولكنها تهرب منه، ويعمل عثمان مديرًا لأعمال إحدى الثريات، ولكنه يسرقها، فيُحكم عليه بالأشغال الشاقة على السفن الملكية، غير أنه يكتشف مؤامرة يُدبرها البحارة للقيام بثورة على السفينة فيشي بهم، فيُحكم له بالبراءة مكافأةً له على ذلك. أما الرواية الأخرى، «السيد بابلو»، فقد كتبها أحد شوامخ الأدب الإسبان في القرن السابع عشر، وعنوانها الكامل «قصة النصاب السيد بابلو، مثال المتشردين ومرآة البخلاء»، ونُشرت عام ١٦٢٦، وكان مؤلفها من المستشرقين الأوائل الذين أجادوا اللغة العربية وقرءوا فيها الكثير من الآثار، ولم يكن العهد قد طال بعدُ بخروج العرب من إسبانيا. وتدور القصة حول بابلو، ابن حلاق لص، وأم تعمل بالسحر والشعوذة. يلتحق بابلو بخدمة الفتى الثري «دييجو كورونيل»، ويدرسان معًا في مدرسة داخلية خاصة لدى مدرِّس كاد أن يُميتَهما من الجوع؛ لشُحِّه وتقتيره الشديدَين. ويلتحقان بعد ذلك بجامعة «قلعة إنارس»، حيث يتعرض بابلو لأسوأ الدعابات والمزح من الطلاب القدامى بالجامعة على عادة ذلك العصر. وحين يبلغ مسامعَه نبأُ موت والده على حبل المشنقة، يعود إلى بلدته ليتسلم إرثه ويرحل إلى مدريد، حيث يعيش حياة عاصفة جوالة مع أصدقاء له من الشطَّار، وينتهي به الأمر إلى السجن. وبعد أن يقضيَ فترة العقوبة، يحاول الزواج، ولكنه يفشل فشلًا ذريعًا. ويعمل بعد ذلك مُهرِّجًا في فرقة هزلية في طليطلة، وينتهي بابلو من سرد قصته بالإشارة إلى اعتزامه السفر إلى أمريكا الجنوبية حتى يعمل على تحسين أحواله هناك في العالم الجديد. ومصادر هذه الروايات في الأدب العربي، الذي كان شائعًا أيام الوجود العربي في الأندلس عديدة؛ فالصفات الرئيسية في هذه الروايات هي قيام البطل بسرد روايته ومغامراته بنفسه، وحياة البطل التي تتميز بالتنقل المستمر والتطواف وجَوْب الآفاق، بالإضافة إلى لُبِّ هذا النوع من القصص وهو استخدام الدهاء والاحتيال، تظهر كلها في بعض قصص ألف ليلة، كما تظهر بقدر أكبر في فن المقامات الذي ظهر في القرن الحادي عشر الميلادي، وكان أبرز نتاجه مقامات بديع الزمان الهمذاني (٩٦٨–١٠٠٧) ومقامات الحريري (١٠٥٥–١١٢٢). وقد عمل الهمذاني على خلق شخصية من صعاليك المجتمع هو أبو الفتح الإسكندري، وهي واحدة من بين شخصيات مقاماته، جمع فيها نفس السمات التي ظهرت بعد ذلك في «البيكارو» من صعوبة الحياة الوضيعة والاحتيال على التكسب، والاستهتار بالقيم والتقاليد والناس، وما إلى ذلك. أما الحريري فإن بطلَه أبا زيد السروجي هو الذي نبَّه بعض المستشرقين إلى الشبه الشديد بينه وبين «البيكارو» الإسباني، فأبو زيد هذا متسول ذكي، بائس، طريد المجتمع، رُزق موهبةً أدبية وجلاءً فكريًّا يستغلهما في اكتساب قوته ورزقه. وتستبين في مقامات الحريري سماتٌ أساسية ظهرت فيما بعد في روايات الشطَّار الإسبانية؛ مثل استغلال الدين والتظاهر بالتدين في سبيل الحصول على المال، وتنكُّر البطل في هيئات مختلفة لكي يهرب من مطارديه أو للاحتيال على الآخرين، وتصوير أولئك القوم الذين يعيشون من تعبِ غيرهم وكدِّهم، ويهيمون بأطايب الطعام والجيد من النبيذ والشراب. قال أستاذنا المرحوم الدكتور غنيمي هلال عن أبي زيد في كتابه عن الأدب المقارن: «وهو في كل ما يأتي محتال لا تنفد حِيَلُه، ومرة ثالثة يقف على قبر ميت غير مكتفٍ بالموقف في استدرار عطفِ الناس عليه، يبدو معصوبَ الذراع، ويتنكر في زيِّ امرأة مع أطفالها، ويبلغ استهتاره أقصاه حين يزعم حاجته إلى مال ليجهز ابنة له، وليست هي سوى ابنة الكرم، الخمر …» أما تلك النهاية السعيدة التي عادةً ما تنتهي بها قصص الشطَّار بقدر أكبر، فهي أيضًا قد وُجدت أولًا في مقامات الحريري، لتوفر اللمسة الأخلاقية في مثل هذه القصص؛ إذ نجد أن بطلَه الشهير أبا زيد بعد طول التجوال والتطواف على هيئته تلك وأفعاله التي أشرنا إليها، يتوب في النهاية توبةً نصوحًا، ويعود إلى الحياة الصالحة والنهج القويم. ومما هو ثابت أن مقامات الحريري قد تُرجمت للعبرية على أثر تأليفها، وظهرَت في إسبانيا بالذات محاكاةً لها من الكُتَّاب العبرانيِّين الذين عاشوا بين ظهراني العرب في الأندلس. وتُشير قرائن عديدة إلى انتشار المقامات بين الأوساط الأدبية الإسلامية والمسيحية في إسبانيا. وكانت طريقة صياغتها الفريدة، ذات الجمل الموزونة المشطورة، التي تنتهي بنفس القافية، وتسير على نفس النسق، من بين الأشكال الأدبية التي استعارها الأوروبيون — وعن طريق الترجمات العبرية للكتب العربية — لتظهر بعد ذلك في كتاباتهم القصصية في لغاتهم الأوروبية، مثل ملحمة السيد، وحكايات كانتربري، بالإضافة إلى أن كثيرًا من الكتب القصصية التي أشرت إليها في هذا المقال، مُسطرة بنفس هذه الطريقة. وثمة مؤلِّفٌ عربي آخر تردَّدَ اسمُه كثيرًا في سياق مصادر روايات الشطَّار والصعاليك، وهو أديبنا المشهور أبو عثمان الجاحظ؛ فهو قد أفرد عددًا من مؤلفاته — وإن لم يَصِلنا معظمها — للحديث عن هذه الطبقة البائسة الفقيرة، وعن طريق احتيالها على العيش، وأن بعض صفات البخل والتقتير التي وضعها في كتاب البخلاء، واحتيال البخلاء على التهرب من الإنفاق ومن الاستضافة، قد انعكست في روايات البكاريسك الإسبانية، خاصة الأولى منها قبل لاثارييو دي تورمس؛ فالجاحظ قدَّم لنا في كتابه قصصًا عديدة تبيِّن دقائق حياة البخل وتفصيلاتها، وهو كما يقول الأستاذ «فاروق سعد» في كتابه «مع البخلاء»: «يتابع بخلاءه في حلِّهم وترحالهم، ولا يتردد في أن يدخل بنا مساكنهم لنقف على أكلهم ومواكلتهم وممتلكاتهم، وعلى همومهم ومشاكلهم وهواجسهم.» والكتاب يزخر هو الآخر بأخبار الفقراء والمتسولين والصعاليك، وكان الجاحظ يلمس عن قرب آثارَ الفقر والبؤس في مجتمعه الذي حفل بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية الخطيرة، التي تركَت أثرَها العميق على حياة الناس وأمنهم وثرواتهم، والفقر والتسول يؤديان إلى الغربة والتجوال والتشرد، وإلى شحذ القريحة وادِّعاء ما ليس في المرء من أجل التكسب. كما أشار الأستاذ فاروق سعد ببراعة إلى حقيقة هامة وردَت في وصف أحد المتسولين في كتاب الجاحظ، ممن يترك التسول أحيانًا وينصرف إلى ممارسة رواية القصص، ويقول في ذلك: «أنا لو ذهب مالي جلستُ قاصًّا.» وهذا إرهاص بما حدث من ورود قصص الشطَّار كلها على لسان أبطالها، بعد انتهائهم من حياة الصعلكة التي انتهجوها، كما يشير الأستاذ سعد كذلك إلى تردُّد وصايا خالد بن يزيد لابنه في كتاب البخلاء، ووصايا أبي زيد السروجي لابنه في مقامات الحريري، ترددها في روايات الشطار، ومنها وصية يتلوها الشحاذ الأعمى إلى لاثارييو، يدعوه فيها إلى الحرص والحذر، والاحتراس من الدنيا ومن الناس. إلا أن إسهام الجاحظ في هذا الميدان القصصي عن الشطار، لا يقتصر على كتاب البخلاء، وبعض أقسام كتابه «المحاسن والأضداد»، وإنما ثمة كتاب آخر مفقود، يتحدث عنه مؤرخو الأدب، بعنوان «حِيَل المكدين» أي الشحاذين الصعاليك، ومَن يدري، فلربما يُكشَف النقاب يومًا ما عن مخطوط لهذا الكتاب، فنجد فيه ما يُلقي مزيدًا من الضوء على ما ورد في لاثارييو دي تورمس وغيره من كتب الشطار الأولى. ولم يقتصر أثرُ روايات الشطار على إسبانيا وحدها، بل إن هذا النموذج القصصي ما لبث أن انتقل من إسبانيا إلى الأقطار الأوروبية، حيث تُرجمت هذه الروايات البكارسك إلى اللغات الأوروبية المختلفة، ففي فرنسا، حاكى بعض الكتاب مثال «لاثارييو دي تورمس» و«عثمان الفراش» اللتين انتشرتَا بسرعة هناك، فظهرت أشهر رواية شطَّار فرنسية عام ١٧١٥ باسم «تاريخ جيل بلاس»، وإن كان كثيرٌ من النقاد يعتبرونها مجردَ ترجمة لقصة إسبانية مجهولة، تبتعد عن كونها خلقًا إبداعيًّا أصيلًا. وبعد ذلك تأثر بقصص الشطَّار عددٌ كبير من الكتاب الفرنسيِّين منهم فولتير في رواية كانديد (١٧٥٩)، وديدرو في جاك القدري (١٧٩٦)، وستندال في رواية الأحمر والأسود (١٨٣١). وفي ألمانيا، تُرجمت لاثارييو دي تورمس في عام ١٦١٤، وعثمان الفراش في ١٦١٥، والسيد بابلو النصاب في ١٦٧١، وفي عام ١٦٦٩ تظهر رواية شهيرة في الأدب الألماني تنتسب لهذا النوع، هي رواية «المغامر»، كتبها جيرمان شلايفهايم (١٦٢١–١٦٧٦). أما في إنجلترا، فقد بلغت روايات الشطَّار شأوًا عاليًا من الشهرة والرواج، بدأت عام ١٥٩٤، برواية توماس ناش «المسافر سيئ الحظ»، ثم برواية دانييل ديفو (صاحب روبنسون كروزو) المسماة «مغامرات مول فلاندرز» عام ١٧٢٢، التي جاءت أقرب إلى روايات الشطار الإنجليزية من الروح الإسبانية لهذا النوع من القصص، ومن ناحية الصفات الأساسية للشخصية التي تلعب دور البطولة وتطور حياتها. ثم جاءت روايتا هنري فيلدنج «جوزيف أندروز» (١٧٤٢) و«حياة توم جونز اللقيط» (١٧٤٩) فرسَّختا أقدام الرواية البيكارسكية الإنجليزية بما ضمَّتاه من صفات للبيكارو الإنجليزي، وبما أضافه فليدنج من سخرية من العاطفية الرخيصة والفضائل المزيفة التي أضفاها على أبطال روايته. وقد التقط تشارلز ديكنز الخيط بعد ذلك في رواياته التي تتجه إلى نفس المنحى، ومنها أوليفر تويست، ودافيد كوبرفيلد، وآمال عظام، وغيرها. ولم تنقطع روايات الشطار عن الظهور في عالم الأدب المعاصر، فنحن نجد لها صدًى كبيرًا في روايات ألمانية مثل «فيلكس كروس» (١٩٥٤) لتوماس مان، ورواية «الطبلة النحاسية» (١٩٥٩) لجونتر جراس، وفي إنجلترا في رواية كنجزلي آميس «جيم المحظوظ»، ورواية أيريس مردوخ «تحت الشبكة»، وفي الرواية الأمريكية في قصة «الحارس في الحقول» (١٩٥٤) لسالينجر، و«مغامرات أوجي مارش» (١٩٥٤) لصول بيلو. وهكذا تستبين آثار الحضارة العربية الإسلامية في كل مناحي الأدب القصصي حتى يومنا هذا، كما استبانت يومًا ما وسيطرت على منازع الفكر والثقافة العالمية طوال قرون عدة ماضية. وهذا شأن التاريخ، فما من حضارة تنهض وتنتشر إلا وتترك آثارًا واضحة وبصماتٍ بارزة على كل ما تحيط وتختلط به، حتى لو مرَّت عصور بعد ذلك تبدو فيه شعلتُها وقد خبَت وذوَت. هكذا كان الحال مع الحضارات المصرية القديمة والهندية والفارسية واليونانية والرومانية، وهكذا هو مع الحضارة العربية الإسلامية، فهذه الحضارات والثقافات هي التي أقامت دعائم حضارتنا الحديثة لبنةً لبنة، فحضارة اليوم ما هي إلا نتاج كل هذه الحضارات وثمرة لها. الدكتور شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي، دار المعارف بمصر، ١٩٦٠. الدكتور محمد غنيمي هلال، النماذج الإنسانية في الدراسات الأدبية المقارنة، معهد الدراسات العربية العالية، ١٩٦٤. الدكتور الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة، مكتبة وهبة، ١٩٧٧. فاروق سعيد، مع البخلاء، الشركة اللبنانية للكتاب، ١٩٧١. محمد مفيد الشوباشي، رحلة الأدب العربي إلى أوروبا، دار المعارف بمصر، ١٩٦٨. فاروق خورشيد، أضواء على السير الشعبية، المكتبة الثقافية، يناير، ١٩٦٤. ناجية غافل المراني، سيرة عنترة والدراسات الاستشراقية، مجلة الآداب، بيروت، مارس–أبريل، ١٩٧٧. عبد الجبار السامرائي، ألف ليلة وليلة في الآداب الأوروبية، المرجع السابق.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/6/
الغيرة بين عباس العقاد وأدباء الغرب
موضوع الغيرة الغرامية هو من أكثر الموضوعات تناولًا من قِبل الكُتَّاب على اختلاف تخصصاتهم؛ فقد تناوله علماء النفس والمؤرخون والفنانون، وإن كان أبرز تجسيمًا عند الأدباء في شتى الفروع من شعر ومسرح إلى قصة ورواية. وأشهر عمل أدبي يرتكز على موضوع الغيرة هو مسرحية عطيل لشكسبير، وشهرتها من شهرة كاتبها الذي ذاعَت أعمالُه في كل اللغات، أما العمل القصصي العربي الهام الذي عُنيَ مؤلفه بتحليل الغيرة، وتصوريها في مناحيها المتعددة، فهو رواية «سارة» للعقاد، التي يمكن أن نُطلق عليها بحق رواية سيكلوجية، وهي العمل الوحيد الذي ضرب فيه العقاد بسهم في النوع الروائي، بما يُوحي أنها كانت نتاجَ تجربة شخصية ضاغطة، لم تهدأ إلا بخروجها من ذهن صاحبها وقلبه في صورة ذلك العمل الفني، ويقابل هذا العمل العربي رواية جراهام جرين «نهاية العلاقة»، و«قصة غرام سوان» من رواية مارسيل بروست العملاقة «البحث عن الزمن الضائع»، بالإضافة طبعًا إلى عطيل. فرواية العقاد تتناول علاقة غرامية بين بطلها همام وبطلتها سارة، وتَصِف أحوال وأطوار الغيرة العنيفة التي استحوذَت على البطل من جرَّاء تصرفات حبيبته، ومحاولاته العديدة لاستخلاص الحقيقة، وما انتاب هذه العلاقة من جفوات بسبب هذه الغيرة، إلى أن انتهت بالقطيعة الكاملة التي يفضلها البطل على حالة عدم اليقين. ورواية جراهام جرين أكثر تعقيدًا، فهي تدور حول علاقة بين «موريس بندريكس» وزوجة أحد أصدقائه، التي تهجره فجأة دون سبب معلوم، فيقع في يقينه أنها تركَته إلى رجل آخر، مما يجعله نهبًا للغيرة والشكوك المؤلمة، قبل أن يعرف السبب الحقيقي في ذلك التحول. أما «شارل سوان» بطل مارسيل بروست، فهو يتعرف إلى إحدى غانيات باريس اللعوبات، فإذا به وهو الفنان الذواقة والنبيل الكريم يقع في هواها على نحو مفرط، وتعتوره غيرةٌ رهيبة عليها، رغم علمه بماضيها وعلاقاتها المتعددة قبل أن يبدأ علاقته معها. ويختلف تناولُ كلِّ مؤلف لهذا الموضوع بحسب رؤيته وطبقًا لحبكة الرواية، بَيد أن قصصهم تتفق في كثير من النواحي المتعلقة بهذا الإحساس الغامض المريض: الغيرة. ورغم أن العقاد لم يكن قصاصًا ولا روائيًّا، فإن القارئ يَعجب من مدى توفيقه في الأسلوب والسرد والبناء القصصي، والتحليل القصصي للشخصيات بشكل خاص، وهي كلها تُضارع الأساليب الحديثة في الفن الروائي، وسبقَت بكثير تناول الروائيِّين المحدثين العرب لها. فنحن نجد في «سارة» — رغم تبكير تأليفها عام ١٩٣٨ — أساليب الراوي العليم بكل شيء، والمؤلف المتطفل على الموضوع، وتداخُل الزمن، بل وتيار الوعي. و«سارة» تنتمي إلى الرواية السيكلوجية، وقد تكون الأولى من نوعها في اللغة العربية، وتركز على مشاعر الغيرة لدى بطلها «همام» في علاقته ببطلتها. ويدخل القارئ إلى صميم موضوع الرواية من أول فصل فيها، إذ البطلان في حالة خصام طارئ لنفس أسباب الشك والغيرة لدى البطل، الذي يتذكَّر حواراتٍ دارَت بينه وبين حبيبته تدل على دهائها الفطري، الذي يمكِّنها من التملص من أسئلة حبيبها التي يرمي من ورائها إلى معرفة إخلاصها له من عدمه. ويحلل العقاد في فصلٍ تالٍ مشاعرَ بطلِ الرواية على نحوٍ نفسيٍّ وبلاغي رائع: «كانت شكوكًا مريرة لا تغسل مرارتَها كلُّ أنهار الأرض وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدًا رويدًا … وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلَين، يجذبه كلاهما جذبًا عنيفًا بمقدار واحد وقوة واحدة، فلا إلى اليمين ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة ولا إلى الاتهام، بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام، فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب، وهكذا إلى غير نهاية، ولا إلى غير راحة واستقرار.» وهذا من أبدع أوصاف وتحليل مشاعر الغيرة، التي تجيء من قلم كاتب مفكر، يَزِن كلامه بميزان العقل والحجة. ويرتكز بطل الرواية — همام — في غيرته هذه على اعترافات كانت سارة قد ذكرَتها له عن علاقات سابقة لها، بل وعلاقة أقامَتها إبان فترات الجفاء التي كانت تحدث بينهما، وعن الحِيَل التي كانت تدبِّرها لتغطية مواقفها، مما جعله يشك في أنها تفعل الشيء نفسه معه، وتُقيم علاقات مع رجال آخرين من ورائه: «وتوالى أمامه ما يزيد من لهيب شكه، من فلتات اللسان وشوارد الخاطر وعلامات الزينة والحلي والملابس، حتى غلبَت الأكدار على كل صفاء وكل رجاء بينهما.» وفي الفصل المعنون «علاج الشك»، يرسم العقاد صورةً فريدة عن المد والجزر اللذَين سادَا العلاقة بين همام وسارة، حتى في أوقات الصفاء واللقاء؛ حيث يرى همام في أفعال وأقوال صاحبته مجردَ تمثيل، وحين يحاول مجادلتها ليعرف حقيقة علاقاتها بالآخرين، لا تشفي له غليلًا أبدًا، وهو بصفته كاتبًا مفكرًا لا يرضى بأقل من الحقيقة كاملة: «ولكن الشيء الذي لا يُطاق هو أن تشك، ثم لا تستطيع أن تَصِل إلى الحقيقة، ولا أن تكفَّ عن الشك، ولا أن تستقرَّ عليه. فإنها حالة لا يُطاق لها دوام، ولا بد لها من انتهاء.» ويجرِّب همام طرقًا عديدة للتوصل إلى الحقيقة التي تشفيه من غيرته، فيكتب لسارة خطابًا طويلًا يحلِّل فيه علاقته بها، ونظرته لها ولشخصيتها، ويلقاها بعد إرسال الخطاب، فلا يجد منها تغيرًا أو يحس أثرًا للخطاب عليها. وحين يواصلان العلاقة بعد ذلك، يقرِّر همام اللجوءَ إلى الوسيلة التي يلجأ إليها كلُّ عاشقٍ غيور، وهي مراقبة حبيبته، وهو يعهد بذلك إلى صديق مقرَّب منه، يتابعها ويقصُّ عليه كلَّ تحركاتها. وتتخلل مراقبة الصديق مواقف طريفة مضحكة، ولكنها لا تؤدي إلى كشف أي حقيقة. ولمَّا رأى همام فشلَ كلِّ محاولاته للتوصل إلى حلٍّ لشكِّه في سارة، يقرران إثرَ مشادة عنيفة بينهما الانفصالَ والقطيعة، ويتلاقيان لآخر مرة لتبادل الرسائل والصور التي لدى كلٍّ منهما للآخر، وهكذا يفضل بطل الرواية، الكاتب العقلاني مرهف الشعور، أن يضحيَ بحبيبته من أجل مبادئه المتمثلة في طلب الحقيقة كاملةً أو لا شيء على الإطلاق. ويتلو ذلك عدة فصول، يحلِّل فيها الكاتب مشاعرَه وأحاسيسه تجاه تلك العلاقة العاصفة، ويقص للقارئ بدايةَ تعارفه على سارة، وتعليقاته على أثر هذا الحب عليه وعلى حبيبته. وهو هنا يماثل أسلوبَ الكثير من الروايات التي تسرد الأحداث، لا بترتيبها الزمني، بل بحسب نظرة المؤلف لها، طبقًا للبناء الروائي الذي ينتهجه، وقد أحس العقاد بغرابة ذلك على القارئ العادي وقتَها، فبرر ذلك بقول منطقي ممتع، هو دأبه في كل كتاباته: «ترتيب الحوادث إلى أن تنتهيَ، ثم نكرُّ راجعين للسؤال عن بدايتها، وسبيل التواريخ أن تنطويَ السِّيَر وتنصرمَ الدول، ثم نتقصَّى مناقشتها وأسباب ظهورها، فنحن لا نَحيد عن مجرى الزمان حين نعرف الساعة كيف تلاقَت سارة وهمام، بعد أن عرفنا منذ برهة كيف كانت القطيعة، وكيف كان اللقاء الأخير.» وإذا كانت رواية العقاد تأتي على لسان الراوي، فإن رواية جراهام جرين يسردها البطل موريس بندريكس على لسانه، وهو أيضًا كاتب معروف، وتقع أحداث القصة في لندن إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ونعرف من سيرة المؤلف أن هذه الرواية يمكن أن تكون هي الأخرى نتاج تجربة شخصية، شأنها شأن رواية العقاد، ويبدأ جرين روايتَه أيضًا بعد انتهاء علاقة البطل الراوي بصاحبته، ثم يعود بنا القهقرى إلى تاريخ تلك العلاقة وتفاصيلها، ونعرف أن موريس قد عرف «سارة مايلز» حين كان يكتب رواية عن حياة موظف حكومي كبير، واتخذ من زوج سارة نموذجًا له، وانتهى الأمر بأن وقع في غرام زوجته سارة، وهامت هي به كذلك، وتستمر العلاقة بينهما من عام ١٩٣٩ حتى عام ١٩٤٤، يتخللها غيرةُ العشيق من حياة صاحبته مع زوجها، ويصف جرين فورات الغيرةَ تلك على نحوٍ يضارع وصفَ العقاد لها، وإن لم يبلغ في ذلك التفاصيل السيكلوجية الدقيقة التي نراها عند العقاد، وفي أحد لقاءات سارة وموريس في منزله، تقع غارة جوية مدمرة من غارات الألمان على لندن عام ١٩٤٤، وتسقط قنبلة أمام المنزل، بينما موريس يقف أعلى السلم ليرى ما يحدث، فيهوي من الطابق الأعلى إلى الأرض وسط الحطام، وبعد فترة نراه وقد نجا، ويعود إلى الحجرة، فيجد سارة راكعة تصلي، وبعدها تودع عشيقها وتخرج، ولا يراها بعد ذلك؛ إذ إنها تقطع كل علاقة لها به. وبالطبع، تعصف بموريس عواطفُ الشك والغيرة، ويؤمن أنها تركته إلى رجل آخر، وبعد عامين من هذا العذاب، يعمد موريس إلى ما فعله همام في رواية العقاد، وهو مراقبة حبيبته السابقة، وهو لا يلجأ في ذلك إلى صديق، بل يتعاقد مع أحد المخبرين «السريين» ليقوم بذلك مقابل أجر، وهذه الوكالات تتوفر بكثرة في الغرب. ويجمع المخبر الخصوصي أولًا بعض المعلومات التي تُشير إلى أن سارة على علاقة بشخص ما، ولكنه ينجح بعد ذلك في سرقة دفتر مذكرات كانت سارة تكتب فيه خطراتها وأحداث حياتها. وفي هذه المذكرات، تتضح الحقيقة أمام موريس؛ فسارة لم تكفَّ يومًا عن حبِّه، ولكنها اضطرَّت إلى إنهاء علاقتها به نتيجةَ وعدٍ تعهدت به أمام الله، ويعلم موريس أنه في آخر لقاء لهما، حين سقطَت القنبلة أمام منزله، تهرع سارة إلى أسفل السلم، فترى موريس ممددًا لا أثر للحياة فيه، وتجس نبضَه وترى أنفاسه، فتتأكد أنه قد مات، وتصعد إلى حجرتها وتركع أمام السرير، تصلي داعيةً الله، ناذرة أنه إن يُبقِ موريس حيًّا، فإنها تتعهد بإنهاء علاقتها به من فورها، وعندما يدخل موريس عليها، ترى أن الله قد استجاب دعاءها، وتنفذ عهدها بتركه نهائيًّا. وحين تتضح الحقيقة لموريس، يتصل ثانية بسارة، ويخبرها بأنه عرف الحقيقة، ويطلب منها العودة إليه، ولكن سارة كانت عاجزة عن التحلل من وعدها الإلهي، وتتحاشى زيارة موريس بالخروج، وهي مريضة وسط عاصفة ثلجية تُودِي بحياتها في نهاية الأمر. أما قصة «غرام سوان» لبروست، فهي تعود بنا إلى التحليل السيكولوجي الدقيق لأحاسيس الغيرة في أدق تفاصيلها، بما عُرف عن مؤلفها من الاستفاضة في عباراته وكتاباته عن كل موقف وشخصية في روايته الضخمة «البحث عن الزمن الضائع»، وتحليله العميق يماثل ما فعله العقاد في روايته، كما أن سوان — إضافةً إلى كونه من نجوم المجتمع الفرنسي الراقي — يهتمُّ بالفنون بكافة أنواعها، كما يمكن اعتباره كاتبًا أيضًا، فهو يضع مؤلفًا عن الرسام الهولندي «فرمير»، فهو في هذا صنو همام وموريس في الروايتَين السابقتَين. ويتعرف سوان يومًا على «أوديت دي كريسي»، وهو غانية من طراز المحظيات، الذي كان شائعًا في فرنسا في أوائل القرن العشرين. ولم يُبدِ سوان في أول الأمر اهتمامًا بها، فلم يكن نوعُ جمالها مما يلفت نظره، بالإضافة إلى اهتماماتها المختلفة عن اهتماماته، والتي يمكن اعتبارها مبتذلة، بَيد أن أوديت تتقرب منه افتتانًا بوضعه الاجتماعي، وثرائه وكرمه معها، وتدعوه إلى الحفلات التي تحضرها لدى إحدى العائلات، التي تتعلق بأهداب الأرستقراطية، وهناك تقترن صورة أوديت في خيال سوان بلحن موسيقي يعشقه، ويرى في وجه الغانية صورة من لوحة كلاسيكية مشهورة، فيقع في هواها وتُصبح خليلته. ويصف بروست ببراعة التحولات التدريجية التي طرأت على سوان بعد علاقته بأوديت، وكيف أثَّرت عليه بذوقها وأصحابها: «أما الآن، وقد عشق أوديت … فلقد صار يحاول أن يجد الرضا والمتعة في الأشياء التي تحبها هي، وصار لا يجد متعة ولذة في محاكاة عاداتها فحسب، بل وأيضًا في اعتناق آرائها» (ترجمة د. نظمي لوقا). وتبدأ معاناة سوان في مضمار الغيرة والشكوك مع ظهور منافس له في شخص الكونت دي فورشفيل، واهتمام أوديت به، وعندما يتحول شيئًا فشيئًا إلى محاولة الاستحواذ على صاحبته في كل صغيرة وكبيرة، ويستغرق بروست في وصف لواعج الغرام، وعواصف الغيرة التي تجتاح سوان على نحوٍ لم يسبق له مثيل من قبل، وينهج سوان نهجَ همام وموريس في مراقبة حبيبته، فهو مثل همام لا يقنع إلا بالوصول إلى الحقيقة الخالصة، وهو يقوم بنفسه بعملية المراقبة، بأن يتلصص على بيتها في الأوقات التي لا تنتظره فيها، وقد أسفرت إحدى هذه الزيارات المفاجئة عن واقعة، أكدت لسوان صدقَ شكوكه، حين لم تفتح له الباب، رغم علمه بوجودها في المنزل، وسماعه وقْعَ خطوات في الداخل. ولما عاد ثانية بعد ساعة، استقبلَته واعتذرَت له بأنها كانت نائمة حين جاء من قبل، ولما فتحت له كان قد رحل، «واستطاع سوان على الفور أن يتبيَّن في هذه القصة شذراتٍ من الحقيقة الظاهرية، التي يدسُّها الكذابون في قصصهم؛ لإكسابها مظهرَ الصدق، وإخفاء ما يريدون إخفاءه خلف هذا المظهر، وخالت أن ذلك كفيلٌ ألَّا يفضحَها أو يفضح أكاذيبها، ولكن فاتها أن عناصر الصدق التي استخدمَتها لا تتكامل مع عناصر الأكاذيب، فتبقى هناك ثغرات تكشف الخديعة والزور.» وعند ذلك، يتذكر سوان ماضي أوديت، فهي مجرد غانية تمنح نفسها لمن يدفع الثمن، كما أنها قد عملت في بيوت المتعة من قبل. ويقوم سوان بالتجسس على رسائل أوديت، ويستمع إلى تعليقاتِ مَن عرفوها سابقًا، ويحلل المعلومات على هَدي شكوكه، كما أنه يزور بيوت المتعة التي سمع أن أوديت عملَت بها، ويسأل عنها. وكانت كل واقعة يعرفها تزيد من لهيب الغيرة لديه، خاصة حين يستجوب أوديت بما يعلمه، فتنكر في البداية، ثم تعترف في آخر الأمر أنها «ربما» تكون قد فعلَت ما يقوله! ويصف بروست حال بطله في هذه الدوامة كما يلي: «وتضاعفَ داء سوان، فما كان حبُّه لها إلا نوعًا من المرض لا خلاص له منه، وتداخل في نسيج عاداته وأفعاله وأفكاره، وصحوه ونومه، وصحته، بل وفيما كان يتمناه لنفسه بعد موته، لقد صار هذا الحب المرَضِي وشخصه وكيانه شيئًا واحدًا، بحيث استحال عليه أن يتخلص منه من غير أن يدمر وجوده نفسه، فحالته هي التي يقول عنها الجراحون إنها تجاوزت مرحلة إجراء الجراحة.» وهذه الجملة الأخيرة، هي التي تفسر ما أقدم عليه سوان آخر الأمر ليتخلص من ذلك المرض، الذي استشرى فيه؛ فهو لم يجد حلًّا لحبه وغيرته على أوديت إلا … بالزواج منها. وتمضي الرواية بعد ذلك في مسار آخر. أما المثال الكلاسيكي الأشهر للغيرة في الأدب العالمي، فيتمثل في مسرحية عطيل لشكسبير. وعطيل يختلف عن الرجال الذين تحدثنا عنهم سابقًا، فهو جندي محارب وليس كاتبًا أو فنانًا. لذلك، فإن شكَّه لا ينبع من داخل ذاته كما يحدث مع همام وموريس وسوان، بل تطلَّب الأمرُ عاملًا خارجيًّا تمثَّل في «ياجو» كي يبثَّ فيه سمومه، ويحمله على الشك في زوجته دزدمونة. وعطيل، كرجل عملي، يطلب أدلة ملموسة، يقدِّمها له ياجو عن طريق الخديعة والمكر. وربما كان مشهد المنديل الذي أهداه عطيل لزوجته ثم ضاع منها، ويطلبه عطيل بإلحاح، هو أبلغ مشهد عن عصف الشك والغيرة في نفس الإنسان. وحين يقدِّم له ياجو مزيدًا من الأكاذيب حول خيانة زوجته دزدمونة مع الضابط «كاسيو»، لا يتردد عطيل تردُّدَ همام وموريس وسوان، بل يقول على الفور: «لسوف أمزِّق تلك المرأة تمزيقًا.» وتتضمن المسرحية صورًا بديعية بليغة عن الشك والغيرة، كتلك التي وردت على لسان ياجو لعطيل: «مولاي، حذار من الغيرة! ذلك مخلوق شائه، يتحلَّى بعيون خضر، لكن يسخر ممن ينهش كبده.» (ترجمة د. محمد عناني)، أو حين يصور عطيل أحاسيسه العاصفة: «إني مثل البحر الأسود، إذ تندفع التيارات الباردة به بحوافز لا تهدأ، لا تشعر بالجزر ولا تعرف العودة لوراء، بل تنطلق إلى بحر المرمرة وعبر مضيق البوسفور.» وطبعًا يُنهي عطيل غيرتَه وشكَّه بالنهاية المتوقعة من رجل عملي مثله؛ إذ يقتل دزدمونة جزاءً لها على خيانتها المزعومة، ثم يقتل نفسه بعد أن يعلم براءتها وطهرها. وهكذا تبيِّن لنا هذه الموازنات بين تلك الأعمال الأدبية، التي تنتمي إلى ثقافات ولغات مختلفة مدى التقارب بينها حين يتعلق الأمر بالنوازع الأساسية للنفس البشرية، التي تتماثل في كل زمان ومكان.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/7/
توفيق الحكيم المُفترى عليه مرتين
لقد عانى أديبُنا الكبير توفيق الحكيم من كثير من الافتراءات، أبرزها ادعاءات السرقة الأدبية، التي طاردَته لا مرة واحدة، بل مرتين، آخرها في العام الحالي حين ألمح أحدُ الأدباء العرب من المشاركين في مهرجان الرواية العربية بالقاهرة، أن الحكيم قد استمد روايته الشهيرة «عصفور من الشرق» من رواية للكاتب الأيرلندي المبدع وليام بتلر ييتس، عنوانها «الطائر الأرقط». وقد ثارَت ضجةٌ كبرى حول الاتهام الأول للحكيم بأنه أخذ فكرة كتابه «حمار الحكيم» من كتاب الشاعر الإسباني رامون خيمينيث «بلاتيرو وأنا»، وذلك بعد فوز خيمينيث بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٥٦، وتسليط الأضواء على إنتاجه الأدبي. بيد أننا إذا ما طالعنا الكتاب الإسباني الشهير، الذي نُشر عام ١٩١٤، لوجدنا أنفسنا أمام مقطوعات من النثر الشعري الغنائي النزعة، وليس فيه عناصر القصص إلا أقل القليل، فالكتاب له عنوان فرعي هو «مرثية أندلسية»، ويقع في ١٣٨ «مشهدًا»، بعضها لا يتجاوز الفقرتين. وهذه المشاهد جلُّها تأملاتٌ ذاتية للكاتب عن قريته «موجير» بالأندلس الحالية، وهي التي اشتهرت بأنها المرفأ الذي انطلق منه كريستوفر كولومبس عام ١٤٩٢ بحثًا عن الهند، فإذا به يكتشف أمريكا. وخيمينيث يوجِّه تأملاتِه إلى حماره، ويصف من خلالها القرية ومواطن الجمال فيها، ويحكي عن سكانها وأحوالهم، وأطفالها وألعابهم وتعليقاتهم على الحمار بلاتيرو. والكتاب له ترجمة عربية للدكتور لطفي عبد البديع، بعنوان «أنا وحماري»، وصدر عن دار المعارف عام ١٩٥٨. فإذا انتقلنا إلى كتاب توفيق الحكيم، الذي صدر عام ١٩٢٠، لوجدنا شيئًا مختلفًا تمامًا؛ فكتاب «حمار الحكيم» قصة سردية لها بداية ووسط ونهاية، وأحداث مترابطة، تبدأ بشراء المؤلف للحمار الصغير على غير رغبة منه، وتفاصيل المشاكل التي يسبِّبها له في فندق بوسط القاهرة. ثم تنتقل القصة للحديث عن تكليف الكاتب بوضع الحوار لسيناريو فيلم سينمائي يدور في ريف مصر، وذهابه مع فريق الفيلم إلى قرية صغيرة بالقرب من البدرشين في مساء اليوم الذي اشترى فيه الحمار. ولمَّا لم يجد المؤلف مَن يعتني بالحمار في غيابه، اضطر إلى اصطحابه معه إلى القرية وسطَ ذهولِ كلِّ مَن شاهد ذلك المنظر الفريد. وهناك تُركز القصة على أسلوب المخرج في صنع أفلامه، وعلى وصف الريف ورجاله ونسائه، بينما يتوارى الحمار إلى الظل بعد محاولة العثور له على «حمارة» لتُرضعه حتى لا يموتَ جوعًا. ويركز المؤلف على الجمال الفني الذي يجعل المخرج وصحبه من الأجانب يعجبون بمشاهد ريفية يراها هو تخلُّفًا وقذارة. وينتقل النقاش إلى عالم الحيوان بوجه عام؛ حيث يخلص الكاتب إلى أن فكرة الشر غير موجودة عند الحيوان، وإنما هي تتجسد لدى الإنسان. ويلي ذلك قصصٌ وأفكار وحوادث في تلك القرية تُتيح للمؤلف أن يعرض آراءه عن الريف المصري على مر التاريخ، وعن مراحل نهضة المرأة المصرية، وحكاية شروع الكاتب مرة في الزواج، ثم هجره منزله وإقامته في الفنادق حتى يُتاحَ له الاختلاط بالناس والجماهير. ويعود «الجحش»، الذي أطلقوا عليه لقبَ الفيلسوف إلى الصورة حين يرفض حتى الرضاعة، مما يُعرضه للموت الحتمي. ويقرر الكاتب تأجيل عمله في الفيلم؛ حيث إنه لا يستطيع العمل في موضوعات لا يقتنع بها، وأشخاص لا يحس بهم. وفي نهاية الكتاب، يُخطر المخرج المؤلف بنبأ موت الحمار في اليوم الذي أبحر فيه الثاني إلى أوروبا، مما يستتبع خاطرة فلسفية للمؤلف عن استحقاق الحمار للتقدير والاحترام، في حين لا يستحق كثيرٌ من الناس العظماء إلا السخرية والازدراء. والسياق القصصي واضح في «حمار الحكيم»، وهو ما يخلو منه تمامًا كتاب خيمينيث، ولا يشتركان إلا في استلهام فكرة الحمار ذاته، وهي صورة تبدو محبَّبة للحكيم؛ إذ إن هناك «حميرًا» أخرى في قصصه. وإذا ما انتقلنا إلى «الافتراء» الثاني على الكاتب الكبير، لوجدناه أبعدَ عن التصديق من ذلك الافتراء الأول وأسهل منه تفنيدًا؛ إذ إن هناك حقيقة واحدة تنسف هذا الادعاء من أساسه، وجديرة بأن ينتهيَ الموضوع عندها، لولا أنني سأتخذه تعلَّة للحديث عن الكتابَين موضع التحقيق. ذلك أنني اكتشفتُ أن رواية «الطائر الأرقط» لييتس لم تُنشر في حياة المؤلف، وأنه لم ينقحها، وأن أول مرة نُشرت فيها جزئيًّا كانت في الستينيات، وأول مرة نُشرت كاملة مع تحقيقات للنص ونصوص أخرى مبدئية لنفس الرواية، كانت هي النسخة التي صدرت عام ١٩٧٦، والتي نفدت من الأسواق، ونجحت في العثور على نسخة مستعملة منها بعد أشهُر من طلبها. وتُخبرنا مقدمة الكتاب قصة التعاقد مع ييتس على كتابة الرواية، وكيف أنه عَمِل في عدة نسخ منها ما بين عامَي ١٨٩٦ و١٩٠٢، بَيد أنه لم يرضَ أبدًا عنها ولم يُنقحها بالشكل الذي كان يريده، ومن ثَم فقد تركها، فلم تُنشر إلا بعد وفاته بكثير، ولمجرد التأصيل الفني لأعماله؛ ذلك أنها نادرًا ما تُذكر في كثير من الكتب التي تحكي حياةَ ييتس أو تُقدم أعماله، فهو قد اشتهر أساسًا كشاعر وكاتب مسرحي، وصاحب رؤى، وليس كقصَّاص أو روائي. والرواية نفسها تنقسم إلى أربعة فصول، في مائة وسبع صفحات من القطع المتوسط، وتدور حول حياة شاب فنان، تبدأ وهو في الثامنة من عمره، وتُصور آماله وأحلامه وتجاربه في الحياة، وهو يعيش مع أبيه في مقاطعة من مقاطعات أيرلندا، وبهذا فهي شبيهة بموضوع رواية جيمس جويس «صورة للفنان في شبابه»، ولكن الأسلوب والتصوير والخلق والفني مختلف في كلتا الروايتَين؛ فستيفن ديدالوس، الجويسي، وهو يمرُّ بتجربة التفتح الفني والخلق الأدبي، يثور على جميع أنواع القيود والتقاليد التي تمنع انطلاقه بحرية في التعبير عن نفسه، وتنتهي به إلى اختيار المنفى بعيدًا عن بلاده أيرلندا، كيما يمر بالتجربة ويصوغ في مصهر روحه الضميرَ الذي لم يُخلق بعدُ للإنسان. أما البطل في «الطائر الأرقط»، واسمه مايكل، فاهتمامه ينصبُّ في المقام الأول على التجارب الروحانية والصوفية، وينابيع الرؤى والأحلام، وهو في هذا يبتعد عن المجال الديني التقليدي، ويخلق لنفسه منطقًا دينيًّا جديدًا. وفي الفصل الثاني، نرى مايكل وقد أصبح شابًّا لا يزال يسير على درب الروحانيات، يسعى إلى الزواج من «مرجريت هدسون»، التي تُصارحه باستحالة ذلك؛ لأنها وعدَت أمَّها قبل موت الأم ألَّا تتزوج إلا من كاثوليكي متدين. وعليه، يُقرر مايكل الابتعادَ بالسفر إلى الخارج لتحقيق حلمه القديم بإنشاء مجمع للصوفيِّين والروحانيِّين. ويروي الفصل التالي لقاءه في المتحف البريطاني بلندن بأحد أصدقائه القدامى، وبدء مشروعهما الروحاني الكبير، بإقامة معبد يعتمد على التراث الصوفي الأيرلندي القديم، الذي يدور حول الكأس المقدسة، ثم تأتيه صديقةٌ لحبيبته مرجريت لتُخبره أن مرجريت قد تزوجَت منذ عام، وأنها غير سعيدة في زواجها، وأنها تطلب إليه الذهاب لملاقاتها في منطقة برية في «جالواي» بأيرلندا. ويُصدَم مايكل بنبأ زواج مرجريت، ويُهرع من فوره لملاقاتها في المكان الذي حدَّدته له. وبعد مناقشات عديدة بينهما تقتنع بضرورة رحيلهما معًا إلى باريس ليبدآ هناك حياة مشتركة. وبعد أن يجهز مايكل المالَ اللازم لحياتهما في باريس، يُفاجأ بأن مرجريت حامل من زوجها، وأنها لا تستطيع لذلك أن ترحل معه. ويودِّعان بعضهما البعض وداعًا حارًّا، يشتمل على رؤيا روحانية تمسُّهما معًا في نفس الوقت. وتنتهي الرواية بفصل قصير، بعد عشر سنوات من الأحداث السابقة، في حي مونمارتر بباريس؛ حيث يحضر مايكل جلسة روحانية أُقيمت على الطراز المصري الفرعوني القديم، مستلهمة روح إيزيس. وفي نهاية الرواية، نعرف قرار مايكل بالسفر إلى الشرق، إلى بلاد العرب وفارس، حيث يستلهم من شعوبها، بعد أن يتعلم لغاتهم، السرَّ في التوفيق بين الدين وبين الحياة بكل ما فيها من مشاعر وعواطف مضطربة متناقضة. أما عصفور من الشرق، فتُمثل أيضًا نوعًا من السيرة الذاتية على هيئة رواية فنية؛ وهي إلى جانب كتاب «زهرة العمر»، تعرض لنا صورة فنية لحياة توفيق الحكيم في فرنسا، في فترة ما بين الحربين العالميتَين، التي زخرَت بالنشاط الفني والأدبي المكثف، وتلاقى فيها الأدباء والفنانون من كلِّ حدب وصوب. ويحكي لنا الحكيم عن الكتب التي قرأها، والتيارات التي تأثَّر بها وهو في فترة التكوين الأوروبي تلك. ولا نستبعد أنه قرأ مسرحيات ييتس وشعره من بين ما قرأ، ولكنه بالقطع — كما أسلفنا القول — لم يطَّلع قط على رواية «الطائر الأرقط». وعصفور من الشرق تحكي علاقة بطلها محسن — وهو نفس اسم الحكيم في «عودة الروح» — مع الأسرة التي يسكن لديها في باريس، ثم مع سوزي عاملة شباك التذاكر في مسرح «الأوديون»، والتي هام بها وأحبَّها حبًّا عنيفًا ملك عليه لبَّه، حتى إنه انتقل للسكنى في الفندق الذي تنزل فيه في أطراف باريس. ومع محاولاته للتقرب منها، تمنحه أسبوعين من المودة والوصال يسبح معها في السعادة والهناء، كيما يسقط بعد ذلك في هوَّة الواقع الأليم حين يكتشف أنها كانت تستخدمه لإثارة غيرة صديقها الفرنسي. ثم تركز الرواية على محاورات محسن مع إيفان المهاجر الروسي، الذي يحلم بالذهاب إلى الشرق حيث يتصور أنه سيعثر هناك على «اليوتوبيا» — الحياة المثالية في المدينة الفاضلة — التي عجز الغرب عن التوصل إليها. وهكذا نرى أنه لا شيء يجمع بين الروايتَين، اللهم إلا اعتزام بطل الطائر الأرقط الذهابَ إلى الشرق بحثًا عن قوس قزح، الذي تتناغم فيه الألوان، حيث يتناغم الدين مع العواطف الطبيعية الأرضية. بَيد أن هذه الفكرة عند مايكل «ييتس» وعند إيفان «الحكيم» لا تلتقيان إلا في الإطار العام؛ لأن إيفان ينطلق في ثورته على الغرب من منطلق مختلف تمامًا عن منطلق مايكل؛ اشتراكي يحلم بالعودة إلى منابع الإلهام التي أفسدها القائمون على أمور الدين في الغرب، وفسروها بما يتفق مع مصالحهم، مما قسَّم البشر إلى مَن يملكون ومَن لا يملكون. وحتى مصادر الثقافة والقراءة في أوروبا أصبحت «من الدرجة العاشرة» في رداءتها وابتذالها. ولكن توفيق الحكيم لا يُنهي الرواية عند هذا الحد، بل إنه يردُّ على هذه الفكرة برأيه الذي لم يشأ أن يذكرَه لإيفان الحالم، وهو أن الشرق الذي يحكي عنه قد تحول في الوقت الذي تدور فيه أحداث الرواية إلى وهم كبير، فقد ناله ما نال الغرب من التسمم والابتذال، حتى إنه لا يوجد «اليوم» شرق … «إنما هي غابة على أشجارها قردة، تلبس زيَّ الغرب، على غير نظام ولا فهم ولا إدراك.»
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/8/
بهاء طاهر وباولو كويلو
كثيرًا ما يلحظ القارئ وجوهَ شبهٍ بين عمل فني يقرؤه وبين عمل آخر، حتى وإن كان الأمر لا يتعلق بتأثر أحدهما بالآخر، بل وكثيرًا ما يكون العمل المشابه سابقًا على العمل الآخر، مع عدم وجود إمكانية اطِّلاع كاتبه على العمل السابق بأي حال من الأحوال. وليس هناك من تفسيرٍ لذلك سوى أن تشابُهَ التجارب الإنسانية الأدبية، ووحدة المشاعر التي تدفع كاتبًا إلى صوغ تجربته الفنية، يمكن أن تُنتج أعمالًا ذات ملامح متقاربة. وهذا بالطبع إلى جانب الأعمال التي تأتي بتأثير مباشر أو غير مباشر من كتاب معين أو كاتب معين على كاتب آخر. وثمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمال أدبية مختلفة اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجة لتوارد في الأفكار والخواطر أو نتيجة تأثر مباشر أو غير مباشر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقاربة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين، ورواية «زينب» لحسين هيكل التي تُعيد إلى أذهاننا أجواءَ «هِلُوِيز» الجديدة لروسو، مع اختلافات جوهرية في المكان والزمان. أما موضوع مقالنا هذا فهو الملامح التي تجمع رواية الكاتب البرازيلي «باولو كويلو» (وهذه هي الصيغة العربية الأقرب إلى اسمه، كما يُنطق في لغته البرتغالية) «السيميائي»، وقصة بهاء طاهر «أنا الملك جئت». وقد أشار الروائي المصري إلى أوجه ذلك الشبه في مقدمته لترجمته للرواية، وإن كان لم يجد تفسيرًا لذلك؛ حيث إن قصته صدرَت قبل الرواية البرتغالية بثلاث سنوات، ولم تُترجم إلى لغة أجنبية. بيد أن أهداف رحلات السعي ليست وحدها العثور على الكنوز المادية؛ فرحلة السعي التي يقوم بها الدكتور فريد عبد الله في قصة بهاء طاهر، هدفها الظاهري البحثُ عن واحة مجهولة في الجنوب الغربي من سيوة، وهي واحة لا يعرفها أحدٌ ولم يرصدها أيُّ مستكشف، وبذلك فهي تمثِّل الواحة التي سيجد فيها بطلُ القصة خلاصَه النفسي. ورغم ذلك فإن رحلة الدكتور فريد تتكشف عن العثور على معبد فرعوني ضخم لم يكن أحد يدري بوجوده، وهو أيضًا رمز لما كان ينشده البطل من رحلة سعيه. فالدكتور فريد يخرج إلى الصحراء الواسعة المجهولة في رحلةِ سعيٍ بحثًا عن السلوى والنسيان؛ أي خلاصه الذاتي، بعد مأساة وقعَت له منذ سنوات، ويعرضها لنا المؤلف على نحوٍ غامض مقتضب، ويتفرق في ثنايا القصة، ونفهم منه أنه أحبَّ زميلةً له حين كان يدرس الطب في جامعة جرينوبل بفرنسا، وهي فرنسية تُدعَى مارتين، وأنهما تواعدَا على الزواج، وبعد تخرُّجهما، تقوم مارتين بزيارة فريد في مصر لتتعرف على أسرته وتتعرَّف أسرتُه عليها، ثم تعود إلى فرنسا بعد أن يكون الحبيبان قد أصبحَا «شبه مخطوبَين»، ونفهم من سياق القصة أن مارتين قد تعرَّضت بعد ذلك لمرض أو محنة لا ندري كنهها، ألزمَتها دخول مصحة للأمراض العقلية؛ حيث دأب فريد على زيارتها كل عام. وما تذكره القصة عن بداية ما حدث هو ما يلي: «وفي أبريل ١٩٢٥، سافرت مارتين إلى مرسيليا شبه مخطوبة لفريد. صحبها فريد إلى الإسكندرية، ولوحَت له بمنديل أبيض من فوق الباخرة. وكان حول رقبتها إيشارب وردي يُرفرف أيضًا في الهواء، وكانت تلك هي النهاية. رغم ذلك، ظل الدكتور فريد يسافر كل سنة إلى فرنسا شهرًا على الأقل لكي يرى مارتين. رفض أن يسمع أيَّ حديث عن زواج آخر.» ثم تَصِف القصة زياراتِ البطل لمارتين في المصحة، ولمحات لبداية إصابتها بالمرض العقلي، دون ذكر تفاصيل أكثر تحديدًا لما حدث لها وأدى بها إلى ذلك الوضع، ثم تركز القصة على حالة الدكتور فريد النفسية، وخطته في السفر إلى قلب الصحراء الواسعة إلى المجهول، حيث لم يذهب أحد قبله. وما إن ندلف مع فريد إلى الصحراء، ونقرأ عمَّا يصادفه في رحلته فيها من أحداث ومخاطرات، ومؤامرات المرافقين له، حتى ينتقل تفكيرُنا إلى المغامرات التي صادفَت بطل رواية كويلو، الفتى سانتياجو. فقد مر سنتياجو بعدد من التجارب قبل أن يدلف هو الآخر إلى الصحراء. كان يدرس ليكون كاهنًا، فهجر دراسته ليعمل راعيَ غنم يجول مع قطيعه في مدن الأندلس وقراه، حبًّا في الترحال. وقد تبدل حالُه مع حلم آخر رآه أكثر من مرة، بعثوره على كنز بجوار أهرامات مصر، ثم بمقابلته مع أحد ملوك التاريخ القديم الذي يزوِّده بنصائح بالمضيِّ في تحقيق قدَرِه والبحث عن أسطورته الذاتية، وبالطبع، اقتفاء أثر كنز الأهرامات. وفي طنجة، يعمل سنتياجو مع العرب من أهل المغرب ويتعلم العربية، ويربح أموالًا كثيرة تؤهله لتحقيق حلمه في عبور الصحراء في طريقه إلى الأهرامات، ويلتحق بقافلة متجهة إلى مصر. وتذكِّرنا كلمات رئيس القافلة، ووصف الاستعدادات لعبور الصحاري، بما جاء في قصة بهاء طاهر، والدكتور فريد يستعد لرحلته هو في صحراء سيوة. ويلتقي سنتياجو في القافلة بإنجليزي يعتزم الذهاب إلى «واحة الفيوم» للقاء السيميائي، وهو أحد فلاسفة الكيمياء الأسطوريِّين، كيما يتعلم منه التوصل إلى استخلاص إكسير الحياة، وطريقة تحويل المعادن إلى ذهب. وينغمر سنتياجو في أجواء الصحراء، ويسعى وراء «العلامات» و«روح العالم» ولغته، وكلها أشياء حدَّثه عنها الملك العجوز من قبل، فقد تعلَّم منه «أن للعالم روحًا، وأن مَن يستطيع فهم هذه الروح يمكنه أن يفهم لغة الأشياء.» ومثل ما يحدث مع الدكتور فريد من مخاطر في الصحراء، يصادف سنتياجو مغامراتٍ وأحداثًا تنحو إلى الغرائبية التي يبرع فيها «كويلو». إذ يضيف من خياله أشياءَ تاريخيةً وجغرافية لا صلة لها بالواقع، وهو الأسلوب الذي تعلَّمه من قصص ألف ليلة وليلة التي تشرَّبها عن طريق زميله الأرجنتيني الشهير «لويس بورخيس». وتزداد جرعةُ الفانتازيا في الرواية؛ حيث تصل القافلة إلى «واحة الفيوم» في قلب الصحراء؛ ففيها تقع أحداث عجيبة، ولكنها تدخل في صلب السرد بما مهَّد به المؤلف من الحديث عن الأحلام والأسطورة الذاتية وروح العالم، ويدخل القارئ في صلب تجربة سنتاجو في بحثه عن قدره، وما هو «مكتوب» له فيه، ويتعرف هناك على «فاطمة» التي يجد فيها قرين روحه، وعلى السيميائي، وهو عربي عجوز يهبه دفعات روحية عميقة، تُمكِّنه في النهاية من التعمق في ذاته إلى الحد الذي يستطيع معه إجراء وقائع عجائبية أمام رؤساء القبائل في «واحة الفيوم»، يتحول في إحداها إلى ريح عاصفة، وبعد أن يُتمَّ سنتياجو بنجاح كلَّ هذه الطقوس — التي هي أشبه بطقوس العبور في الأساطير القديمة — يتَّجه إلى عبور ما تبقَّى له من الصحراء، التي تفصله عن أهرامات مصر. ويبحث هناك عن الكنز في الأمكنة التي تراءَت له في أحلامه، ولكن بلا جدوى. ويهجم عليه بعضُ قطَّاع الطرق، ويسرقونه ويضربونه، وحين يعلم أحدُهم بقصة حلمه، يسخر منه، ويقول له إنه حدث له نفسُ الشيء؛ إذ حلم مكررًا بوجود كنز في بلدة بإسبانيا، مطمور بالقرب من كنيسة قديمة، يهجع الرعاة للمبيت فيها مع أغنامهم، وتنمو في موضع هيكلها شجرة جميز، ولكنه — أي قاطع الطريق — ليس بالغفلة التي دفعَت سنتياجو إلى الجري وراء أضغاث الأحلام. وكان في حديث الرجل السر الذي ينتظر سنتياجو؛ إذ أدرك من وصفِ قاطعِ الطريق أن المكان الذي ذكره هو الموضع الذي يعرفه جيدًا في بلدته الأندلسية، والذي كثيرًا ما آوى إليه مع غنمه! وقصة الكنز هي طبعًا مأخوذة بنصِّها من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة «إفلاس رجل من بغداد»، وفيها تحكي شهرزاد عن تاجر في بغداد يفقد ثروته، ويرى حلمًا يتكرر يُوجهه إلى الذهاب إلى مصر، حيث يجد رزقًا كثيرًا له هناك. وحين يذهب إلى مصر، يُقبض عليه خطأ مع عصابة من اللصوص، ويَمثل أمام القاضي ويحكي له حكاية أحلامه، فيضحك القاضي ويقول إنه حلَم بوجود كنز كبير في أحد بيوت بغداد: «بخط كذا وصفُه كذا … في جنينة تحتها فسقية، بها مال له جرم عظيم»، ولكنه ليس بغفلة التاجر الذي ينساق وراء أحلامه. ويعود التاجر إلى بغداد، بعد أن عرف من وصف القاضي للبيت الذي تحته كنز أنه بيته هو، فحفر تحت الفسقية فوجد الكنز، ووسَّع الله عليه في رزقه. ومؤازرةً لقصة سنتياجو، يخرج الدكتور فريد إلى الصحراء بحثًا عن حبيبته مارتين، والفناء فيها هناك، وهو يقول في بداية القصة: «إنه في الصحراء يرى وجهَ مارتين في كل مكان؛ في التماعات السراب البعيد، وفوق التلال، وفي وميض النجوم.» وحين يكتشف فريد المعبد الفرعوني، وهو أيضًا عجائبي أسطوري من وحي الفانتازيا ذاتها التي ابتدعَت «واحة الفيوم»، يجد في نقوشه الهيروغليفية ما يُشير إلى اسم مارتين، ويتوازى النقش مع اللوحة الهيروغليفية التي نراها في بداية القصة في عيادة الدكتور فريد، والتي أهداها له صديقُه عالم الآثار، وهي تقول: «فريد يحب مارتين.» ويمرُّ فريد وحيدًا مهجورًا في معبد الصحراء بطقوسه الذاتية، من فك الحروف الهيروغليفية التي تقول: «أنا الملك جئت»، إلى تخايل صورة الرجل الملثم له كالسراب الخادع، والوهج الوردي الذي يغلف الصحراء في الشروق والغروب، وهو نفس اللون الذي يتردد كثيرًا أيضًا في رواية كويلو. وقصة بهاء طاهر كثيفة، محكمة الصنع؛ حيث كل عبارة وصورة لها دورها في الصياغة وفي الأثر التراكمي، الذي تُخلفه القصة في نفس قارئها. ومن ناحية أخرى، أشار النقاد إلى التأثيرات والتوازي بين رواية كويلو بعد أن ذاعَت واشتهرت، وبين أعمال أدبية أخرى، أهمها «النبي» لجبران خليل جبران، و«الأمير الصغير» لسانت إكزوبيري، ورواية «السيميائي» فيها بالفعل الكثير من صوفية جبران وروحانيته، كما أن شبهها بالأمير الصغير واضح في عدة مواطن، أهمها تيمة الصحراء التي تبدأ بها أحداث القصة الفرنسية. وقد ألهم ذلك التشابه إحدى دور النشر الأمريكية إصدار طبعة فاخرة من الترجمة الإنجليزية «للسيميائي»، بمصاحبة رسوم بديعة بريشة الرسام «مويبيوس»، جاءت ذات شبه كبير بالرسوم التي وضعها سانت إكزوبيري بنفسه لروايته، وقد أوردنا هنا بعض رسوم رواية كويلو لإعطاء القارئ العربي فكرة عنها. وأُحب أن أُضيفَ هنا، أن الموازنات العربية لرواية السيميائي لا تقتصر على قصة بهاء طاهر؛ فكويلو يُشير إلى بطل روايته بوصفه «الفتى»، على نحو ما فعل طه حسين في أيامه، كما أن هناك رواية أخرى معروفة لمحمود تيمور، هي «نداء المجهول»، تنتمي أيضًا لنوعية «السيميائي» و«أنا الملك جئت». وعلى الرغم من أن أحداثها تبدأ في بقعة نائية من جبال لبنان، فإنها تتحدث عن أمكنة أشبه بالصحراء، حيث البدو والرعاة وقطعان الأغنام، وفيها تبحث إنجليزية تُدعى «مس إيفانس» عن قصر خفي، بعد أن سمعت كثيرًا من القصص الغريبة عنه، حيث يقال إن أحد زعماء العشائر قد ابتناه، وإن ملكيته آلَت أخيرًا إلى حفيد له يُدعى يوسف الصافي، كان يجهزه لزواجه من فتاة يحبها اسمها صفاء. وحين ترفضه أسرة الفتاة وتزوجها لآخر، يقتلها يوسف الصافي في ليلة عرسها ثم يختفي، ويزعم الأهالي أنهم وجدوا جثته منتحرًا. وتذهب مس إيفانس بصحبة صديقَين ودليلٍ فيما يشبه القافلة لإماطة اللثام عن سر ذلك القصر. وتصادف القافلة مخاطرَ وأهوالًا جسيمة، إلى أن تهتديَ إلى مغارات القصر وأروقته. ويكتشفون فيه الحفيد يوسف الصافي، الذي يظن في هذيانه أن الفتاة الإنجليزية هي حبيبته صفاء. وبعد أن يعود إلى رشده، يتقارب قلب مس إيفانز منه، حيث تشعر أن ذلك الشخص هو أسطورتها الذاتية، دفعها إليه قدَرها المكتوب. وفي الرواية نفس الأجواء الروحانية والصوفية، والمغامرات التي نجدها في الكتابَين اللذَين تحدثنا عنهما. وإن في عرض مثل تلك المشابهات والموازنات في الأعمال الأدبية والفنية، عبر اللغات والبلدان المختلفة، إلقاءَ أضواء جديدة عليها، وحثًّا للقارئ على مطالعتها، وتبيُّن مواطن الشبه أو الاختلاف بنفسه، مما يكشف له مناحي جمالها الفني، ويُثري قراءته لها بأبعاد أعمق ومعانٍ جديدة.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/9/
حارس الغيطان
وأقدِّم هنا ستة فصول من الرواية كنموذج على هذه التجربة: لو كنت صحيح عاوز تعرف الحكاية كلها، فأول حاجة حتعوز تعرفها المكان اللي أنا أتولدت فيه، وإزاي قضيت فترة طفولتي المهببة، وكان أبويا وأمي بيعملوا إيه قبل ما يخلفوني، وكل الحاجات الهلس دي، من النوع اللي جه في رواية ديفيد كوبرفيلد، لكن، إذا كنت عاوز الحق، أنا مليش نفس أدخل في الموضوعات دي؛ أولًا الحاجات دي بتخليني أزهق، وثانيًا، أبويا وأمي حتجيلهم نقطة لو أنا حكيت أي حاجة شخصية عنهم؛ لأنهم حساسين قوي من أي شيء زي ده، خاصة أبويا، همه ناس كويسين وكل حاجة، وأنا مش قصدي أقول أي حاجة وحشة عنهم، إنما همه حساسين بدرجة رهيبة، وفوق كده، أنا مش ححكي لك سيرة حياتي المهببة أو أي شيء من دا القبيل، لكن حقولَّك بس الحاجات الغريبة اللي حصلت لي قرب الكريسماس اللي فات، قبل ما تتهد الدنيا كلها فوق دماغي، وأضطر إني أدخل هنا عشان أستريح شوية. قصدي أن كل ده هو اللي قلته ﻟ د. ب، اللي هو أخويا وكل حاجة. هوه في هوليوود دلوقتي، وهيه مش بعيدة عن المكان السخيف اللي أنا فيه دلوقتي، وهو بييجي يزورني كل آخر أسبوع تقريبًا، وهو حاياخدني في العربية لما أرجع البيت الشهر اللي جاي يمكن. لسة مشتري عربية جاجوار. حتة إنجليزي صغيرة وكويسة من اللي يقدروا يعملوا حوالي ميتين ميل في الساعة، كلِّفته حوالي أربع تلاف دولار حتة واحدة. هوه عنده فلوس كتير دلوقتي، لكن ماكانش الحال كده الأول. كان زي ما تقول كده كاتب عادي، لما كان معانا في البيت. وبعدين كتب كتاب القصص القصيرة الهايل ده، اللي عنوانه «السمكة الذهبية الخفية»، لو كنت مسمعتش عنه. وأحسن قصة فيه هي «السمكة الذهبية الخفية». وكانت بتدور حوالين الواد الصغير اللي ما كانش بيخلي حد يشوف سمكته الدهب؛ لأنه اشتراها من حر ماله. وده كان بينقطني. ود. ب. دلوقتي سارح في هوليوود، بيبيع نفسه للي يشتري، وأنا لو فيه حاجة بكرهها من جوا قلبي، فهي السينما، إوعى حتى تجيب سيرتها قدامي. النقطة اللي عاوز أبدأ منها حكايتي هي اليوم اللي سِبت في المدرسة «بنسي»، وبنسي هي المدرسة اللي موجودة في «أجرستاون» في بنسلفانيا. إنت يمكن سمعت عنها، أو يمكن حتى شفت الإعلانات بتاعتها. همه بينشروا إعلانات في ألف مجلة، ودايمًا يصوروا واد جدع له عضلات، راكب حصان وبينط بيه من على السور، كأنما كل حاجة الواحد بيعملها في بنسي هي لعب البولو طول الوقت. دنا حتى عمر ما شفت ريحة حصان واحد في المدرسة كلها أو قريِّب منها. وتحت صورة الواد اللي في الصورة دايمًا يكتبوا: «منذ عام ١٨٨٨، نعمل على خلق شبان رائعين قويمي التفكير.» ضحك على الدقون، الشبان اللي بيخلقوهم في بنسي ما يزيدوش أي حاجة عن الشبان اللي في المدارس التانية. وكما أنا عمري ما شفت في بنسي أن شبان رائعين أو قويمي التفكير، يمكن اتنين بس، لو حتى يوصلوا لكده، والأغلب إن دول لما دخلوا بنسي كانوا كده من الأول. نهايته، كان يومها يوم السبت اللي حنلعب فيه الفوتبول مع فريق ساكسون هول. وكان المفروض إن الماتش مع ساكسون هول حاجة كبيرة قوي في بنسي. كان آخر ماتش في السنة، وكان المفروض إن الواحد يقتل نفسه أو حاجة زي كده لو إن بنسي ما تكسبش، وأنا فاكر إني كنت الساعة تلاتة العصر داك اليوم واقف فوق تل طومسين، طوالي جنب المدفع الغريب بتاع حرب التحرير وكل ده. الواحد كان بمقدوره يشوف الملعب كله من هناك، ويشوف الفريقين بيهروا في بعض في كل مكان، ماكانش الواحد يقدر يشوف المتفرجين بالتفصيل، إنما كان يقدر يسمعهم وهمه بيتصايحوا، كلهم بيشجعوا فريق بنسي، عشان كانت المدرسة كلها تقريبًا هناك ما عدا أنا، وكلهم طبعًا في صف مدرستنا؛ لأن الفريق الزائر ما كنش جاب معاه إلا عدد قليل من المشجعين. ماكانش فيه بنات كتير في مباريات الفوتبول. كان طلبة الصف النهائي همه لوحدهم المسموح لهم إنهم يجيبوا بنات معاهم، كانت مدرسة زفت، من أي زاوية تبص لها، فأنا دايمًا أحب أن يكون فيه شوية بنات في أي مكان أكون فيه، حتى لو ما كانوش بيعملوا أي حاجة إلا يهرشوا دراعاتهم أو ينفوا أو يضحكوا عمَّال على بطال. كانت سلمى تيرنر — بنت الناظر — ساعات تحضر المباريات، لكنها ما كانتش بالضبط البنت اللي ممكن تخليك مجنون بحبها. ومع ذلك، كانت بنت جميلة ولطيفة. أنا مرة قعدت جنبها في الأوتوبيس من أجرستاون، وضربنا مكالمة مع بعض. اتبسطت منها، مناخيرها كانت كبيرة شوية، وضوافرها كلها متكسرة، وعينيها حمرة وتبان كإنها بتبص في كل مكان في وقت واحد، لكن كان الواحد بيحس بالعطف عليها. الحاجة اللي كنت أحبها فيها إنها ما كنتش تدش في كلامها لك عن أمجاد أبوها الناظر. لازم كانت عارفة كويس أد إيه هوه فالصو كبير. والسبب في إني كنت واقف على التل بدال ما أكون في المدرسة أتفرج على الماتش، هو إني كنت لسه راجع من نيويورك مع فريق الشيش. كنت مدير فريق الشيش المهبب، عظمة على عظمة! كنا رحنا نيويورك الصبح علشان نلعب مباراة شيش ضد مدرسة «ماكبيرني». لكن المباراة ما تمتش. ده لأني نسيت السيوف والمعدات والأجهزة في الهباب المترو. ما كنتش غلطتي؛ لأني كنت كل شوية أقوم من مكاني عشان أبص في خريطة المترو، عشان نعرف إحنا حننزل فين، وعليه رجعنا لبرسي حوالي الساعة اثنين ونص بدل وقت العشا، وكل الفريق كان مقاطعني طول السكة، واحنا راجعين بالقطر، كانت حاجة غريبة. والسبب التاني إني ما كنتش مع المتفرجين هو إني كنت رايح أقول مع السلامة لعم سبنسر، مدرس التاريخ. كان عنده أنفلونزا، وقدَّرت إني يمكن ما أقدرشي أشوفه بعد كده لحد ما تبدأ إجازة الكرسماس. كان كتب لي نوتة، يقولي فيها إنه يحب يشوفني قبل ما أروَّح، كان عارف إني مش راجع المدرسة تاني. أنا نسيت أقول لك على الحكاية دي. كانوا فصلوني، ما كنتش مفروض إني أرجع بعد أجازة الكريسماس، عشان سقطت في أربع مواد، ومانيش مجتهد كفاية وكل الكلام ده. كانوا أنذروني كتير إنى لازم أشد حيلي، خاصة في وسط التيرم، لما أبويا وأمي جم عشان يجتمعوا مع يُرمر، لكن أنا ما شدتش حيلي. عشان كده فصلوني، كانوا بيفصلوا ولاد كتير في بنسي. بنسي لها مكانة علمية كويسة خالص، حقيقي. على كلٍّ، كنا في شهر ديسمبر، وكانت الدنيا برد زمهرير، خاصة فوق التل المهبب ده، كنت لابس الجاكت اللي بوشِّين، وما كانش معايا جوانتيات ولا غيره. الأسبوع اللي فات، واحد سرق البالطو وبر الجمل من أودتي نفسها، ومعاه الجوانتي بتاعي المبطن بالفرو اللي كان في جيب البالطو، وكل حاجة. بنسي كانت مليانة حرامية. ولاد كتير كانوا من أُسَر غنية جدًّا، لكن المدرسة كانت مليانة حرامية على كل حال. وكل ما كانت المدرسة غالية، كل ما كان فيها حرامية أكتر. أنا مبهزرشي. المهم، استمريت واقف قريب من المدفع الغريب ده، أتفرج من فوق على الماتش، وأنا بترعش من البرد، كل ما في الموضوع، إني ما كنتش واخد بالي قوي من الماتش. اللي حقيقي كان مخليني أقف هناك، هوه إني كنت زي ما تقول كده بحاول إني أقول باي باي. قصدي إني سبت قبل كده مدارس وأماكن من غير ما أعرف إني سايبهم، وأنا أكره الحكاية دي، ما يهمنيش إن كان وداعي لها محزن أو وحش، لكن لما أسيب مكاني، أحب إني «أعرف» إني حاسيبه. إذا الواحد ما عملشي كده يبقى شعوره أسوأ بكتير. كنت محظوظ، فجأة خطر على بالي شيء ساعدني إني أعرف إني ماشي من هنا. خطرت على بالي فجأة الحكاية دي، في حوالي شهر أكتوبر، لما كنت أنا وروبرت تشنر وبول كامبل عمَّالين نشوط بينَّا كورة قدم قدام المبنى الأكاديمي. كانوا شبَّان كويسين، خاصة تشنر. كان الوقت قبل العشا بشوية، وكانت الدنيا بتضلم بسرعة بره، ورغم كده استمرينا نلعب بالكرة، وزادت الضلمة شوية بشوية، لدرجة إننا كنا بنشوف الكورة بصعوبة، لكن ما كناش عاوزين نسيب اللي بنعمله، لكن في الآخر اضطرينا. المدرس بتاع الأحياء، الأستاذ زامبيسي، طل علينا من الشباك اللي في المبنى الأكاديمي، وقال لنا نرجع العنابر ونستعد للعشا. لما بقدر أفتكر حاجات زي دي، يبقى سهل عليَّ إني أودَّع المكان لو عُزت، في أغلب الأحيان. ولما نجحت في المرة دي، إتدورت وبدأت أجري وأنا نازل على الناحية التانية من التل، تجاه بيت عم سبنسر. ما كنش ساكن في حرم المدرسة، كان ساكن في شارع أنطوني دين. جريت طول الوقت ناحية البوابة الرئيسية، وبعدين وقفت شوية آخد نفسي. في الحقيقة أنا كان نفَسي مقطوع، أولًا لأني بدخن كتير، أو بالأصح، كنت بدخن كتير. اضطروني إني أبطَّل. وثانيًا، أنا طِولت ست بوصات ونص عن السنة اللي فاتت. وده كمان السبب في إني جالي سل تقريبًا، وجيت في المكان ده لعمل الفحوصات المهببة، وكل الحاجات دي. ومع ذلك، أنا صحتي بمب. ما علينا. أول ما لقطت أنفاسي، جريت في طريق ٢٠٤. كانت السكة مزحلقة من التلج، وكنت على وشك الوقوع، حتى ما كنتش عارف أنا بجري ليه. أظن إني عزت أجري وخلاص. وبعد ما عديت الطريق، حسيت إني زي كده ما تقول بختفي، كان وقت الأصيل، والدنيا تلج، ومفيش أي شمس ولا حاجة، والواحد يحس إنه بيختفي كل مرة يعدي فيها الطريق. ياه! أول ما وصلنا لبيت عم سبنسر دقيت الجرس. كنت متجمد من البرد. كانت وداني بتوجعني، ويا دوب أقدر أحرك صوابعي. طلع مني غصبن عني: «يلَّا بسرعة، حد يفتح الباب.» وأخيرًا، فتحته مدام سبنسر. ما كانش عندهم شغالة ولا حاجة، وكانوا دايمًا همه اللي يفتحوا الباب بنفسهم، ما كنش عندهم فلوس كتيرة. مدام سبنسر قالت: «هولدن! أهلًا بيك، خش يا عزيزي! إنت اتجمدت للآخر.» كانت مبسوطة إنها شافتني. كانت بتحبني، على الأقل كنت أظن كده. ياه! قد إيه أنا دخلت بسرعة البيت ده. قلت: «إزيك يا مدام سبنسر، وإزي الأستاذ سبنسر؟» ردت: «إديني البالطو.» وما كانتشي سمعتني وأنا بسأل عن الأستاذ سبنسر. كان سمعها تقيل شوية. وعلقت البالطو بتاعي في دولاب الصالة، أما أنا ففركت شعري لورا، كنت كتير أقص شعري قصير، وما كنتش بضطر أسرحه كتير، قلت مرة تانية بصوت أعلى، عشان تسمعني: «إزيك يا مدام سبنسر؟» ردت وهي بتقفل الباب: «أنا كويسة جدًّا يا هولدن، إزيك إنت؟» وعرفت على طول من الطريقة اللي سألت بيها، إن عم سبنسر قال لها إني انطردت. قلت: «كويس، إزي الأستاذ سبنسر؟ هل يا ترى لسة عنده الإنفلونزا؟» «لسة، ده بيتصرف يا هولدن تمام زي، مش عارفة أقول إيه … هو في أودته يا عزيزي، خش عنده.» كان كل واحد منهم له أوضته الخاصة، كان سن الواحد منهم حوالي سبعين سنة، أو يمكن أكتر إنما كانوا بيستمتعوا بحياتهم، بطريقة عبيطة بالطبع، أنا عارف إن ده ميصحش يتقال، لكن أنا مقصدتش حاجة وحشة. اللي أقصده إني كنت بفكر كتير في عم سبنسر، وإذا الواحد فكر فيه زيادة عن اللزوم، لازم يسأل، بالله عليك، هو لسة عايش ليه؟ أقصد إن ضهره بقى محني خالص، ومنظره يبكِّي. وفي الفصل، إذا وقعت منه حتى طباشير قدام السبورة، لازم دايمًا واحد في التختة الأولانية يقوم ياخدها، ويديها له. وأنا أعتقد إن ده شيء فظيع. لكن إذا الواحد فكر فيه شوية ومش كتير، يبقى يعتقد إنه مش بطال. مثلًا، يوم حد، كنت أنا وواحد زميلي رايحين هناك ناخد شوكولاتة سخنة، عم سبنسر فرجنا على البطانية الهندي اللي اشتراها هو ومدام سبنسر من شوية هنود في منتزه «يليستون». كان الواحد يعرف على طول إن عم سبنسر اتمتع جدًّا بشرى البطانية دي. ده اللي أقصده، يبقى عندك واحد عجوز كحكوحة زي عم سبنسر، ويقدر يتمتع بشرى بطانية. كان باب أوضته مفتوح، لكن أنا برضه خبَّطت عليه على أي حال، من باب الأدب والذي منه، وكنت شايف هو قاعد فين، كان قاعد على كرسي جلد كبير، متغطي كله بالبطانية الهندي اللي لسة حاكي لك عنها. ولما خبَّطت على الباب، بص ليَّه وزعق: «مين؟ كاوفيلد؟ تعال يا بني.» كان دايمًا يزعق، بره الفصل، وأحيانًا الموضوع ده يثير أعصاب الواحد. وفي اللحظة اللي دخلت فيها، حسيت كأني غلطت إني جيت. كان بيقرا في مجلة «أتلانتيك منثلي»، وكان حواليه حبوب وأدوية في كل مكان، وكل حاجة لها ريحة نقط «فكس». كان شيء يخللي الواحد يحس بالاكتئاب. وأنا على كل حال منيش بحب الناس العيانين، واللي خلاني أحس أكتر بالاكتئاب، إن العم سبنسر كان لابس روب حمام قديم لونه فيراني حزين، يظهر إنه اتولد فيه أو حاجة زي كده. وعلى كل حال، أنا ما بحبش أشوف رجالة عواجيز لابسين بيجامة أو روب حمام. صدرهم المكرمش دايمًا بيبقى باين، ورجليهم دايمًا رجلين العواجيز بتبان على البلاجات وفي أي مكان، بيضة وملسة من غير شعر. قلت: «أهلًا يا أستاذ. أنا استلمت الكلمة اللي بعتها لي، ألف شكر.» كان كتب لي ورقة يطلب مني فيها إني أمر عليه وأودَّعه قبل الأجازة ما تبدأ، حيث إني مش راجع تاني، «ما كانش حق حضرتك تكلف نفسك. أنا كنت حاجي أودع حضرتك على كل حال.» عم سبنسر قال: «اقعد هناك يا بني.» كان بيقصد السرير. وقعدت على السرير: «إزي الإنفلونزا يا أستاذ؟» وعم سنبسر يرد: «لو مكنتش حسيت ببعض التحسن، كنت بعت للدكتور على طول.» والجملة دي خلت روحه تطلع، وقعد يكح كإنه واحد مخبول. وبعدين تمالك نفسه أخيرًا، وقال: «مانتش معاهم ليه في الماتش؟ أظن إن دي هيه المباراة الحاسمة.» «أيوه أنا كنت معاهم. بس الحكاية إني لسة راجع من نيويورك مع فريق الشيش.» ياه! كان السرير اللي أنا قاعد عليه جامد زي الحجر. ثم ابتدى عم سبنسر يدخل في الجد. كنت عارف إنه حيعمل كده، قال: «إذن، إنت حتسيبنا، هه؟» – أيوه يا أستاذ، أعتقد ذلك. وقعد يهز راسه زي عوايده، عمر الواحد ما حيشوف حد يهز راسه أكتر من عم سبنسر. وما تعرفش إذا كان بيهز راسه عشان عمَّال يفكر، أو إنه بيعمل كده لأنه لطيف ومش عارف راسه من رجليه. – ويا ترى الدكتور ثيرمر قال لك إيه؟ سمعت إنكم اتكلمتم مع بعض شوية. – أيوة اتكلمنا، أظن إني قعدت معاه حوالي ساعتين في مكتبه. – وقال لك إيه؟ – آه … يعني … عن الحياة، وإزاي إنها مباراة وكل ده. وإزاي الواحد لازم يلعب حسب القواعد. كان لطيف قوي، أقصد إنه ما كانش غضبان أو أي حاجة. إنما قعد يقول إزاي إن الحياة مباراة. حضرتك عارف. – ياه! الحياة فعلًا مباراة. الحياة مباراة الواحد لازم يلعبها طبقًا للقواعد. مباراة! يا أخي هع! نوع من المباراة. لو كان الواحد في صف الناس الناجحين يبقى أوكيه، الحياة مباراة، أعترف بكده. لكن لو كان الواحد مع الناس التانيين، اللي مش ناجحين ولا حاجة، إذن تبقى فين هيه المباراة دي؟ مفيش مباراة. وسألني عم سبنسر: هل مستر ثيربر كتب لوالديك ولا لسة؟ – هوه قاللي إنه حيكتب لهم يوم الاتنين. – وهل أنت اتصلت بيهم؟ – لا يا أستاذ، أنا ما اتصلتش بيهم؛ لأني حاشوفهم يوم الأربع بالليل لما أروَّح البيت. – ويا ترى حيكون رد فعلهم إيه للأخبار دي؟ – والله حيتضايقوا جدًّا منها … بالطبع. دي كانت رابع مدرسة التحق بيها. وهزيت راسي، كنت بهز راسي كتير. وقلت: «ياه!» وكمان كنت بقول ياه كتير. من ناحية لأن كلامي بطال، ومن ناحية تانية لأني أحيانًا كانت تصرفاتي أقل من سني بكتير. كنت بتصرف أحيانًا كما لو كان عندي تلاتاشر سنة. كان عندي وقتها ستاشر سنة، ودلوقتي عندي سبعتاشر، وبرضه أحيانًا بتصرف كما لو كان عندي تلاتاشر سنة. وده في الواقع شيء مضحك؛ لأن طولي ست أقدام وبوصتين ونص، وشعري شايب. ده حقيقي، جانب من راسي، الجنب اليمين، مليان شعر شايب. كنت كده من أيام ما أنا طفل. ورغم ده كنت بتصرف أحيانًا كأن عندي إتناشر سنة بس. كل الناس بتقول كده، خاصة أبويا. وده صحيح جزئيًّا، إلا إن بتضايق أحيانًا لما الناس تقولِّي اتصرَّف حسب سنك. أحيانًا أنا بتصرف أكبر بكتير من سنِّي، حقيقي، لكن الناس ما بتاخدش بالها أبدًا. الناس عمرها ما بتاخد بالها من حاجة. وبدأ عم سبنسر يهز راسه تاني. وكمان بدأ يلعب بصباعه في مناخيره. كان بيتظاهر كإنه بيقرصها، لكن في الحقيقة إنه كان حاطط صباعه جُوَّاها، أظن إنه ما هموش إنه يعمل كده لأني أنا بس كنت موجود في الأوضة. وأنا ما يهمنيش، لكن دي حاجة مقرفة تمام، إن حد يشوف واحد بيلعب في مناخيره. بعد كده قال: «أنا اتشرفت بمقابلة والدتك ووالدك لما كانوا بيتكلموا مع الدكتور ثيرمر من كام أسبوع. دول ناس عظماء.» – أيوة. دول ناس كويسين. عظماء. دي كلمة من الكلمات اللي أنا بكرهها موت، فالصو. كنت أحس إني عاوز أتقايا كل ما أسمعها. وفجأة، بان كإن عم سبنسر عنده حاجة مهمة قوي يقولها لي، حاجة مسنونة زي المسمار. وفرد نفسه على الكرسي، وقعد يتحرك عليه. ومع ذلك، معملش حاجة مهمة. كل اللي عمله إنه رفع المجلة من حجره وحاول أن يحدفها على السرير، جنبي. لكن النشان مطلعش مظبوط. المسافة ما كانتش أكتر من بوصتين اتنين بس، لكن مقدرش يصيب هدفه على أي حال. فأنا قمت على طول وأخدتها من على الأرض، وحطيتها جنبي على السرير. وفجأة، تملكتني رغبة إني أطفش من الأوضة، كنت حاسس إنه على وشك يديني محاضرة طويلة. ما كانش يهمني ده قوي، لكن ما كنتش أحب إني أسمع المحاضرة، وأشم ريحة نقط فيكس، وأبص في وش عم سبنسر وهو لابس البيجامة، كل ده في نفس الوقت، حقيقي ما أقدرش. لكن المحاضرة كانت ابتدت. – «إنت جرى لك إيه يا بني؟» قالها عم سبنسر بنبرة شديدة بالنسبة له. «إنت عندك كام مادة الفصل ده؟» – خمسة يا أستاذ. – خمسة؟ وسقطت في كام مادة؟ – أربعة. وحركت جتتي شوية فوق السرير. كان أنشف سرير قعدت عليه في حياتي، وقلت: – أنا نجحت في الإنجليزي تمام التمام؛ لأني درست حاجات «بيولف» و«لورد راندال ابني» لما كنت في مدرسة «هوتو». أقصد إني ما كنتش مضطر لأي حاجة تقريبًا في مادة الإنجليزي، عدا كتابة شوية مواضيع إنشا من حين لآخر. ما كانش حتى سامعني. كان عمره ما يسمع اللي يتقال له. – أنا سقَّطتك في التاريخ؛ لأنك ببساطة ما تعرفش أي حاجة. – أنا عارف يا أستاذ. ياه، عارف. كنت مضطر إنك تسقطني. وكرر كلامه: «أي حاجة.» ودي كانت حاجة بتجنني. لما الناس تقول الجملة مرتين، رغم إنك تعترف لهم بعد أول مرة. وبعد كده قالها لتالت مرة. – أي حاجة خالص، أنا أشك إنك تكون فتحت كتاب المقرر، ولو مرة واحدة طول التيرم. هل فتحته؟ قول الحق يا بني. وجاوبته: أنا زي ما تقول كده بصيت فيه مرتين. قال بطريقة ساخرة: بصيت فيه، هه؟ ورق امتحانك أهه هناك فوق الشوفونيرة، فوق الصف. أرجوك، هاتها لي. كانت حركة بايخة منه، لكني اضطريت أروح وأجبها له، ما كانش قدامي حل تاني إلا إني أعمل كده. وبعدين رجعت قعدت على سريره اللي زي الأسمنت. ياه! قد إيه أنا كنت غلطان إني فكرت أفوت عليه عشان أقوله له باي باي. وبعدين قعد يقلب في ورقة الإجابة بتاعتي، كما لو كانت زبالة أو شيء من النوع ده. إحنا درسنا قدماء المصريين من ٤ نوفمبر لحد ٢ ديسمبر، وإنت اخترت إنك تكتب عنهم في موضوع المقال الاختياري. عاوز تسمع إنت كتبت إيه؟ – لا يا أستاذ، مش ضروري. ومع ذلك قرأ. الواحد ما يقدرش يوقف مدرس لما يكون عاوز يعمل حاجة، بيعملوا اللي همه عاوزينه. «المصريون هم جنس قوقازي قديم، كانوا يسكنون في أجزاء شمالية من أفريقيا. وكما نعرف، فإن أفريقيا هي أكبر قارة في نصف الكرة الشرقي.» كنت مضطر إني أقعد هناك وأسمع الكلام الفارغ ده. كانت عملية مش لطيفة حقيقي. – «والمصريون مهمون جدًّا لنا اليوم لأسباب كثيرة. فالعلم الحديث ما زال يريد أن يعرف المكونات السرية التي كان يستخدمها قدماء المصريين حين كانوا يلفون موتاهم، بحيث إن وجوههم تظل سليمة عدة قرون. ما زال هذا اللغز الهام يتحدى العلم الحديث في القرن العشرين.» وبطَّل قراية، ونزل ورقة إجابتي. وكنت بدأت زي ما تقول كده، أكرهه. وقال لي في نبرة سخرية: مقالك ينتهي هنا. الواحد عمره ما يتصور إن راجل عجوز ممكن يسخر بالشكل ده. وقال: – ومع ذلك، إنت رميت لي ملاحظة صغيرة في ديل الصفحة. – أيوة عارف. قلت كده بمنتهى السرعة؛ لأني كنت عاوز أمنعه من إنه يقرأ كل ده بصوت عالي. لكن ما كانش ممكن لحد يوقفه، كان حامي زي الصاروخ. وقرأ بصوت عالٍ: «عزيزي الأستاذ سبنسر. هذا كل ما أعرفه عن قدماء المصريين. لم أستطع أن أهتم بهم، رغم أن محاضراتك عنهم في غاية الأهمية، أنا لا أمانع أن أرسب في هذه المادة، رغم أني راسب في كل المواد عدا اللغة الإنجليزية. مع فائق الاحترام. هولدن كاوفيلد.» ونزِّل ورقة إجابتي المهببة مرة تانية، وبحلق في وشي كأنه وجَّه لي الضربة القاضية في لعبة البنج بونج مثلًا. أظن إني عمري ما حسامحه إنه قرأ لي كل العك ده بصوت عالي. أنا عمري ما كنت عملت كده لو كان هوه اللي كتب ده، عمري؛ فأولًا أنا كتبت الملاحظة المهببة دي عشان ما يحسش بتأنيب ضمير إنه يسقطني. قال: «هل تلومني بعد كده إني سقطتك يا بني؟» قلت: «لا يا أستاذ، بالطبع لا.» كنت بتمنى من كل قلبي إنه يبطل يقولِّي كلمة يا بني دي كل مرة. وحاول إنه يحدف ورقة إجابتي على السرير بعد ما خلص منها. لكنه غلط الهدف تاني، طبعًا اضطريت إني أقوم تاني وأحطها فوق مجلة أطلانتك منثلي. حاجة تفلق إن الواحد يعمل كده كل دقيقتين. قال: «كنت تعمل إيه لو كنت مكاني؟ قول الحق يا بني.» تقدر تشوف طبعًا إن ضميره كان بيأنبه لأنه سقطني. وعشان كده ضربت على النغمة دي شوية. قلت له إني حقيقي على قد عقلي، وكلام من ده. قلت له إزاي أنا ما كنتش عملت غير اللي عمله لو إني كنت مكانه، وإزاي الناس ما بتقدَّرش صعوبة مهنة المدرس. وكلام من النوع ده، الإسطوانة إياها. والشيء العجيب هو إني كنت بفكر في حاجة تانية خالص، وأنا عمَّال أدوَّر الإسطوانة إياها. أنا كنت ساكن في نيويورك، وكنت بفكر في البحيرة اللي في جنينة سنترال بارك، هناك قرب جنوب سنترال بارك. كنت بتسائل إذا مش حتكون متجمدة لما أروَّح، وإذا كانت كده، البط اللي بيكون فيها حيروح فين؟ كنت مندهش البط بيروح فين لما البحيرة تتجمد وتبقى كلها جليد. كنت بتسائل إذا كان فيه واحد بييجي في عربية نقل، وينقلهم لجنينة حيوانات أو حاجة كده. أو إذا كانوا مجرد بيطيروا لحتة تانية. ومع هذا، أنا كنت محظوظ. أقصد إني كنت أقدر أدور الإسطوانة إياها لعم سبنسر، وأفكر في البط في نفس الوقت. مش ضروري الواحد يعصر فكره لما يتكلم مع مدرس. ومع ذلك، قاطعني فجأة وأنا بدوَّر الإسطوانة إياها، كان دايمًا يقاطع الواحد. – إيه إحساسك يا بني من كل ده؟ يهمني قوي إني أعرف، يهمني قوي. قلت: «تقصد طردي من المدرسة وكل ده؟» كنت أحب لو إنه يغطي صدره العريان المكرمش. ما كانش منظر لطيف. – لو ما كنتش غلطان، أعتقد إنه كان لك مشاكل كمان في مدرسة هوتون، ومدرسة «إلكتون هيلز». وما كانش صوته ساخر بس، بل وكان سخيف كمان. قلت له: «ما كنتش عندي مشاكل كتير في إلكتون هيلز، متفصلتش من هناك بالضبط ولا حاجة. أنا سبتها، حاجة زي كده.» – أقدر أسأل سبتها ليه؟ – ليه آه … دي حكاية طويلة يا أستاذ، أقصد إنها معقدة قوي. ما كنتش مستعد إني أحكيله الحكاية كلها. ما كانش حيفهمها على كل حال. ما كانتش من توبه خالص، واحد من أهم الأسباب اللي سبت إلكتون هيلز عشانها، هو إن كل اللي حواليا هناك كانوا فالصو، ده كل الموضوع، كانوا جايين في الشبَّاك الهباب، مثلًا كان منهم الناظر، الأستاذ هاس، وده أكبر واحد فالصو ملعون قابلته في حياتي. عشر مرات أكتر من عم ثيرمر. فمثلًا، كان عم هاس أيام الحد يصول ويجول يسلِّم على أبَّهات كل واحد لمَّا كانوا يزوروا المدرسة. وكان يبقى لطيف وكل حاجة. إلا إذا كان أي ولد أبهاتهم شكلهم مش ولا بد. كان لازم تشوف عمل إيه مع أبو وأم زميلي في الأوضة. أقصد إنه إذا كانت أم الولد تخينة أو مظهرها مش ولا بد أو حاجة كده، وإذا كان أبو الولد من الناس دول اللي بيلبسوا بدل كتافها عريضة وجزم إسود وأبيض بلدي، ساعتها عم هاس مجرد يسلِّم عليهم بابتسامة فالصو، ويروح بعد كده يتكلم ربما نص ساعة كاملة مع أبهات أولاد تانيين. أنا ما أقدرش أستحمل حاجات زي دي. دي كانت بتجنني، كانت بتخليني مكتئب لحد ما أتجنن. قد إيه أنا بكره إلكتون هليز الملعونة دي. وعند هنا سألني عم سبنسر حاجة بس أنا ما سمعتهوش. كنت بفكر في عم هاس. قلت: «نعم يا أستاذ؟» – هل يا ترى حاسس بأي زعل إنك سايب بنسي؟ – أوه … حاسس ببعض الزعل طبعًا. أكيد … لكن مش كتير قوي. مش دلوقتي على كل حال. أظن إن الموضوع لسة ما دخلش في دماغي. عاوز وقت لحد الموضوعات ما تدخل دماغي. كل اللي بعمله دلوقتي هوه إني أفكر في رجوعي البيت يوم الأربع. أنا عقلي على قدي. – إنت مش حاسس بأي اهتمام ناحية مستقبلك يا بني؟ – أوه، أنا حاسس باهتمام ناحية مستقبلي وكل حاجة. بالتأكيد، بالتأكيد. وفكرت لحظة وقلت: «لكن أعتقد مش كتير قوي. أعتقد مش كتير قوي.» وعم سبنسر قال: حيحصل، حيحصل يا بني. لكن بعد ما يكون فات الأوان. ما كنتش مبسوط وأنا بسمعه يقول ده. كان بيتكلم كأني مت خلاص أو حاجة زي كده. كانت حاجة تجيب اكتئاب. قلت: «أظن أن ده حيحصل.» «ياما في نفسي أحط بعض العقل في دماغك ده يا بني، أنا بحاول أساعدك، لو في مقدروي.» كان حقيقي عاوز يساعدني. الأمر كان واضح، لكن الحكاية إن إحنا كنا كل واحد منا في ناحية، ده كل الموضوع. قلت: «أنا عارف ده يا أستاذ، وأنا شاكر جدًّا، حقيقي، أنا مقدر تمامًا كل ده، حقيقي.» وعندها قمت من على السرير. ياه، ما كانش في مقدروي أقعد عشر دقايق تانيين، حتى لو كان فيها إنقاذ حياتي، «الحكاية إنه لازم أمشي دلوقتي. عندي شوية حاجات في الجمنازيوم لازم آخدها البيت معايا، حقيقي.» وبص لي وقعد يهز راسه تاني. وبانت على وشه علامات الجد دي. وفجأة حسيت بالأسف الشديد عشانه، لكن ما كنتش أقدر أقعد أكتر من كده، وكل واحد منا في ناحية، وفي كل مرة يرمي حاجة على السرير ما يصبش الهدف، وروب الحمام القديم بتاعه اللي بيبين صدره، وريحة نقط الفيكس الفظيعة في كل حتة. قلت: «شوف يا أستاذ، ما تقلقشي عليا. كلام جد، أنا حبقى تمام التمام، كل الحكاية إني بمر بمرحلة دلوقتي. كل واحد بيمر بمرحلة وكل ده. مش كده؟» – مش عارف يا بني، مش عارف. كنت باكره أي حد يجاوب بالطريقة دي. قلت: «طبعًا طبعًا ده بيحصل، أنا بتكلم جد يا أستاذ. أرجوك ما تقلقش عليا.» وتقريبًا حطيت إيدي على كتفه، وقلت: «أوكيه.» – يا ترى تحب تشرب فنجان شوكولاتة سخنة قبل ما تخرج؟ مدام سبنسر حتكون … – أحب طبيعي … أحب. لكن الواقع إني لازم أمشي دلوقتي، لازم أروح حالًا الجمنازيوم. أنا متشكر على كل حال، ألف شكر يا أستاذ. وبعدين سلِّمنا على بعض، وكل الهلس ده. ومع ذلك، ده خلَّاني أحس بحزن شديد. – حابقى أكتب لك يا أستاذ، إنما دلوقتي خللي بالك من الإنفلونزا. – مع السلامة يا بني. وبعد ما قفلت الباب وخرجت تاني لأوضة القعاد، قاللي حاجة بصوت زعيق، لكن ما كنتش أقدر أسمعه بالضبط. أنا كنت متأكد أنه قاللي «حظ سعيد.» أتمنى إنه ما يكونش كده. أتمنى على الله. أنا عمري ما أقول لحد بزعيق حظ سعيد، إذا الواحد فكر فيها، تبان رهيبة. أنا أكبر واحد كداب على وش الأرض، شيء رهيب، حتى إذا كنت مرة رايح أشتري الجرنان من المحل، وحد سألني رايح فين، ممكن أقول له إني رايح الأوبرا. حاجة بشعة. عشان كده، أنا لما قلت لعم سبنسر إني رايح الجمنازيوم عشان أجيب معداتي وأدواتي، كانت كدبة كبيرة ليس إلا. حتى أنا مبسبش أدواتي في الجمنازيوم أبدًا. أنا لما كنت في المدرسة، كنت ساكن في جناح «أوسنبرجر» التذكاري في عنابر النوم الجديدة. كانت مخصصة للصفوف النهائية وقبل النهائية. كنت في الصف قبل النهائي، وزميلي في الأوضة كان في السنة النهائية، والعنابر كانت على اسم الجدع أوسبنجر، اللي درس في بنسي، عمل له كوم فلوس من شغلانة مكاتب الحانوتية في البلد كلها، حتى إنه كان بإمكان الواحد يدفن حد من عيلته بخمس دولارات بس. كان لازم تشوف عم أوسبنجر. يظهر إنه كان بيحط الميت في شوال ويرميه في البحر. نهايته. هو اتبرع لبنسي بكومة فلوس، فسموا الجناح بتاعنا على اسمه. وفي أول مباراة فوتبول في السنة، جه للمدرسة في الكاديلاك الكبيرة، وخلُّونا كلنا نقف في الحوش الكبير ونديله تعميرة، أي نهتف له. وبعد كده، في الصبح في الكنيسة، ألقى خطبة استمرت عشر ساعات. ابتدأ الحكاية بحوالي خمسين نكتة سخيفة، بس عشان يورينا قد إيه هوه واد جدع. يا سلام على كده. وبعدين قعد يقول لنا إزاي إنه عمره ما كان يتكسف إذا وقع في مشكلة أو حاجة من النوع ده، إنه يركع على ركبه ويصلي لربنا. وقال لنا إننا لازم نصلِّي لربنا — نتكلم معاه وكل ده — في أي مكان كنَّا فيه. وقال لنا إن إحنا لازم نبص ليسوع كأنه واحد زميلنا، وكل ده. وقال إنه هوه بيتكلم مع يسوع على طول، حتى وهو بيسوق عربيته، ده نقطني، كنت بتخيل الملعون الفالصو الكبير ده وهو بينقل العربية للسرعة التانية، وبيطلب من يسوع يبعت له أكل أكتر، لكن أحسن شيء في خطبته كان في نصها. كان بيحكي لنا إزاي كان ولد جدع، وكل حاجة، وإزاي كان ناجح في كل شيء. وعندها الولد اللي كان قاعد في الصف اللي قدامي على طول، إدجار مارساللا، أطلق ريح بصوت عالي، كانت حاجة بشعة بالفعل. في الكنيسة وكل ده، لكن كانت حاجة مسلية للغاية، عم مارساللا كان على وشك يطيِّر السقف كله، ومحدش ضحك بصوت عالي، وعم أوسبنجر اتظاهر إنه ما سمعش حاجة، لكن عم ثيرمر، الناظر، كان قاعد جنبه على المنصة وكل حاجة، وكان بمقدروك تعرف إنه سمع كل شيء. ياه، قد إيه غضب. ما قالش حاجة ساعتها، لكن الليلة اللي بعدها فرض علينا دروس إجبارية إضافية في المبنى الأكاديمي، وجه هناك وألقى خطبة. قال إن الولد اللي عمل العملة دي في الكنيسة لا يستحق إنه ينتسب لبنسي، وحاولنا جهدنا إننا نخلِّي عم مارساللا يجيب واحدة تانية وسط خطبة عم ثيرمر، لكن ما كانش له مزاج، على كلٍّ، كان ده المكان اللي عشت فيه في بنسي. جناح عم أوسبنجر التذكاري، في عنابر النوم الجديدة. وحسيت بسعادة بعد ما سبت عم سبنسر ورجعت لأوضتي؛ لأن الكل كان هناك في الملعب، وكانت التدفئة شغالة في أوضتنا، على غير العادة. كان المكان مريح، وخلعت البالطو والكرافتة، وفتحت زرار الرقبة من القميص، وبعدين لبست البرنيطة دي اللي اشتريتها الصبح من نيويورك، كانت برنيطة صيد حمرا، لها طرف طويل جدًّا جدًّا، شفتها في فترينة محل الأدوات الرياضية، بعد ما خرجنا من مترو الأنفاق، على طول بعد ما لاحظت إني نسيت السيوف المهببة دي. كان تمنها دولار واحد. وكنت بلبسها بطريقة خاصة، إني كنت أحدف طرفها الطويل لورا — حاجة بايخة جدًّا، أعترف بكده، لكن أنا كنت بحبها كده. كان منظري حلو بالشكل ده، وبعدين أخدت الكتاب اللي كنت بقرأ فيه، وقعدت على الكرسي بتاعي. كان فيه كرسيين في كل أوضة، واحد كان ليا، والتاني لزميلي في الأوضة، وارد سترادليتر. كانت مساندهم في حالة سيئة؛ لأن الكل كان بيقعد على المساند، لكن كانت كراسي مريحة جدًّا. وكان الكتاب اللي بقراه هوه الكتاب اللي أخدته من المكتبة بطريق الخطأ، إدوني الكتاب الخطأ، وما لاحظتش ده إلا بعد ما رجعت لأوضتي. إدوني رواية «الخروج من أفريقيا» تأليف إيزاك دينزن. افتكرت إنه كتاب سخيف، لكن ما كانش سخيف، كان كتاب كويس، أنا ما ليش في الأدب، لكن كنت بقرأ كتير. أحسن المؤلفين عندي أخويا د. ب. وبعده رينج لاردنر. أخويا إداني كتاب من تأليف رنج لاردنر في عيد ميلادي، قبل ما أروح بنسي على طول، كان فيه ألعاب الحلوة المجنونة، وفيه كمان حكاية ضابط المرور اللي بيحب واحدة، دايمًا تسوق عربيتها بسرعة. لكن المشكلة هي إنه كان متجوز، الظابط، عشان كده ما كانش يقدر يتجوزها ولا حاجة، وبعدين البنت دي تموت في حادثة؛ لأنها كانت تحب السواقة بسرعة، كانت الحكاية دي بتجنني، الكتاب اللي أحبه، لازم يكون فيه حاجات غريبة من حين لآخر، وقريت كمان كتب كلاسييك كتير، زي «عودة ابن البلدة» وكل ده، وحبِّتها، وقريت كتب كتير عن الحرب وكتب بوليسية، لكن ما كانتش بتهزني قوي. اللي يهزني صحيح هوه الكتاب اللي إنت بعد ما تخلص قرايته، تتمنى لو كان مؤلفه صاحبك الصدوق، اللي تقدر تطلبه وتكلمه على التليفون وقت ما تحب، لكن ده ما بيحصلش كتير طبعًا. أنا كنت أحب أكلم إيزاك دينسن ده، ورنج لاندر. بس د. ب. كان قال لي إنه مات. عندك مثلًا كتاب «عبودية الإنسان»، تأليف سُمرست موم، قريته الصيف اللي فات. هوه كتاب كويس وكل حاجة، لكن ما بحسش إني عاوز أتصل بسمرست موم ولا حاجة. معرفش، هوه مش الشخص اللي أحس إني عاوز أتصل بيه وأكلمه، دي كل الحكاية، أفضل أتصل بعم توماس هاردي. كنت بحب إيوستوشيا فاي دي. على كلٍّ، لبست برنيطتي الجديدة، وقعدت وبديت أقرأ الكتاب ده، الخروج من أفريقيا. كنت قريته قبل كده، لكن حبيت أقرأ بعض حتت منه تاني. لكن، كنت قريت حوالي تلات صفحات لما سمعت حد جاي من عند ستاير الدش. وحتى من غير ما أبص عرفت على طول مين ده. كان روبرت آكلي، الجدع اللي جنبي في الأوضة. كان فيه دش مشترك لكل أوضتين في الجناح بتاعنا، وكل يوم عم آكلي يدخل عليا أكتر من ميت مرة. ويظهر إنه كان الوحيد اللي موجود في العنبر غيري؛ لأن الكل كان بيشوف الماتش. كان عمره ما بيروح أي حتة. كان شخصية غريبة. كان في السنة النهائية، وكان في بنسي طول الأربع سنين وكل حاجة، لكن عمره ما حد كان يناديه بغير اسم «آكلي»، ولا حتى زميله في الأوضة، هيرب جيل، كان ممكن يناديه «بوب» أو حتى «آك». لو إنه اتجوز في يوم من الأيام، مراته يمكن تناديه آكلي كمان. كان شخص طويل جدًّا، كتافه عريضة — طوله حوالي ١٨٤ — وسنانه رهيبة. وعمري ما شفته بيدعك سنانه بالفرشة. كانت سنانه معفنة ورهيبة، وكان منظره، لو شفته في المطعم، وبُقه مليان بهريسة البطاطس والبسلة، أو حاجات من دي، يخلِّي نِفسك تُغم عليك. وكان كمان وشه مليان دمامل. مش بس على أورته أو دقنه، زي ما عند معظم الولاد، لكن على كل وشه. ومش بس كده، كانت شخصيته رهيبة. وكان كمان حاجة كده شاب سخيف. ماكنش ينزل لي من زور، إن جيت للحق. كنت حاسس بيه وهوه واقف على حافة الدش، ورا الكرسي بتاعي على طول، بيشوف إن كان سترادليتر موجود ولا لأ، كان بيكره سترادليتر كُرْه العمى، وما كانش بيدخل الأوضة لما يكون سترادليتر فيها، كان بيكره كل الناس تقريبًا. وعدَّى حافة الدش ودخل الأوضة. قال: «أهلًا.» كان دايمًا ينطقها كما لو إنه زهقان على الآخر، أو تعبان على الآخِر. كان مش عاوز إنك تفتكر إنه بيزورك أو أي شيء من النوع ده. كان عايز إنك تفتكر إنه جه كده على سهوه، أي والله! قلت: «أهلا» لكن ما رفعتش عيني من الكتاب. مع آكلي، لو إنك رفعت عينك من الكتاب تبقى ضعت. أنا كنت ضايع ضايع، بس مش بالسرعة اللي كان ممكن تبقى لو إني رفعت عيني من الكتاب. وبدأ يلف في الأوضة، بشويش قوي وكل حاجة، زي عوايده دايمًا، ويمسك حاجاتك الشخصية من على المكتب والشيفونيرة. كان دايمًا يمسك حاجاتك الشخصية ويبص فيها. يا الله، قد إيه كان بيضغط على أعصابي أحيانًا. قال: «كيف كان ماتش الشيش؟» كان عايزني أبطل قراية واستمتاع. ما كانش يهمه الشيش أبدًا. قال: «إحنا كسبنا ولا إيه؟» قلت: «ما حدش كسب.» من غير ما أرفع عين. قال: «إيه؟» كان دايمًا يخليك تعيد اللي تقوله مرة تانية. قلت: «ما حدش كسب.» وبصيت بطرف عيني أشوفه بيهبب إيه حوالين الشيفونيرة بتاعتي. كان بيبص في صورة البنت اللي كنت بخرج معاها في نيويورك، سالي هييز. كان يمكن مسك الصورة دي وبص فيها خمس تلاف مرة على الأقل، من ساعة ما كانت عندي. وكمان، كان دايمًا يعيد الصورة في المكان الغلط بعد ما يبص فيها. كان بيعمل كده عن قصد، كده واضح. قال: «ما حدش كسب؟ إزاي؟» – أنا سبت السيوف المهببة والأدوات في مترو الأنفاق. وبرضه ما رفعتش عيني له. – في مترو الأنفاق، يا دي المصيبة! تقصد إنك ضيعتهم؟ – أصلنا ركبنا المترو الغلط. وكنت بروح أبص في خريطة المترو المهببة كل شوية. وجه وقف قدامي مغطي النور عنِّي. قلت: «هه، أنا قريت الجملة اللي أنا عندها دي عشرين مرة من ساعة إنت ما جيت.» وكان آكلي عمره ما يفهم بالإشارة. لا، مش هوه. قال: «وتفتكر إنهم حيخلوك تدفع تمنها؟» «معرفش. وما يهمنيش. إيه رأيك اقعد في حتة يا واد يا آكلي؟ إنت واقف قدام النور تمام.» وما كانش يحب حد يقول له يا واد يا آكلي. رغم إنه دايمًا يقول لي إني واد؛ لأني كنت ستاشر سنة وهو تمنتاشر. وكان يتجنن لما أقول له واد آكلي. وفضل واقف مكانه. كان بالضبط نوع البني آدم اللي عمره ما يتحرك من مكانه لما يحجز عنك النور، لمَّا تطلب منه إنه يبعد. كان بيتحرك في الآخر، لكن كان بياخد وقته أكتر لو إنك طلبت منه ده. قال: «عمَّال بتقرأ في إيه؟» «كتاب هباب.» ورفع الكتاب اللي بقرا فيه عشان يشوف عنوانه. قال: «كويس؟» «الجملة اللي أنا باقراها دلوقتي روعة.» كنت أقدر أكون ساخر جدًّا لما يكون عندي مزاج لكده، وكان عندي مزاج ساعتها، لكن هو مفهمش كده، وقعد يتجول في الأوضة تاني، ويشوف حاجاتي وحاجات سترادليتر الشخصية. وفي الآخر، حطيت كتابي على الأرض، مكنتش تقدر تقرا أي حاجة وشخص زي آكلي حواليك، مستحيل. واتمددت على كرسيَّا، وبقيت أبص على عم آكلي وهو بياخد راحته في الأوضة. كنت حاسس بتعب من رحلة نيويورك وكل ده، وبدأت أتَّاوب. وبعدين بدأت أسوق الهبالة شوية. أحيانًا كنت أسوق الهبالة عشان أسلِّي نفسي. وساعتها شدِّيت طرف برنيطتي لقدام، وبعدين خليت طرفها القدَّماني يغطي عينيه، وبكده ما كنتش أقدر أشوف أي حاجة، وقلت بصوت مبحوح: «يظهر إني أنا اتعميت، يا حبيبتي يا أمي، كل حاجة هنا بقت ضلمة في ضلمة.» آكلي قال: إنت مجنون، احلف على كده. يا أمي العزيزة، إديني إيدك، ليه مش عاوزه تديني إيدك؟ «هيه، خليك راجل.» وبدأت أحسس قدامي، كإني بقيت أعمى، لكن من غير ما أقوم من مكاني ولا حاجة، وفضلت أقول: «يا حبيبتي يا ماما، ليه ما بتساعدينيش؟» كنت بسوق الهبالة ليس إلا بالطبع. الحكاية دي كانت بتسليني أحيانًا. وبالإضافة لكده، كنت عارف إنها بتضايق عم آكلي قوي. كان بيخليني أتقلب سادي. كنت ببقى سادي كتير جدًّا معاه. وفي الآخر، بطلت، وزحت البرنيطة لورا تاني، واسترخيت على الكرسي. وآكلي قال: «بتاعة مين دي؟» كان شايل ربطة الركبة بتاعتي في الأوضة. الجدع آكلي ده كان يمسك أي حاجة يلاقيها. كان ممكن مثلًا يمسك ملابسك الداخلية أو حاجة كده. قلت له إنها بتاعة سترادليتر، فقام حاطَّها على سرير سترادليتر، أخدها من على شيفونيرة سترادليتر، وحدفها على سريره. وبعدين، جه وقعد على دراع كرسي سترادليتر. عمره ما كان يقعد على الكرسي، دايمًا على الدراع. قال: «من فين جبت البرنيطة دي؟» – من نيويورك. – بكام؟ – دولار. – ضحكوا عليك. وبدأ ينضف ضوافره اللعينة بعود كبريت. كان دايمًا بينضف ضوافره، كان شيء مضحك. سنانه دايمًا مسودة، وودانه دايمًا وسخة، لكنه دايمًا عمَّال ينضف ضوافره. أظن إن ده كان بيخليه يحس إنه واد أنيق. ورمى نظرة تانية على برنيطتي وهو بينضف ضوافره. قال: «في بلدنا بنلبس برنيطة زي دي، واحنا بنصيد الغزلان، أي والله. ديه برنيطة صيد الغزلان.» «لا يا شيخ!» وقلعتها وبصيت لها. وغمضت عين من عينيا كإني بنشن عليها. قلت: «دي برنيطة صيد الناس. أنا بصطاد الناس وأنا لابس البرنيطة دي.» – أهلك عرفوا إنك انطردت؟ – لأ. – وفين سترادليتر راح؟ – في الملعب، معاه واحدة صاحبته. واتَّاوبت. كنت بتَّاوب في الحتة كلها، فأولًا، الأوضة كانت حر جدًّا، تخلي الواحد منعوس في بينسي، إما الواحد يموت من البرد أو يتخنق من الحر. قال آكلي: «سترادليتر العظيم. هيه. سلفني مقصك لحظة، ممكن؟» – عارف مكانه؟ – لأ، أنا لفيته مع حاجاتي خلاص، محطوطين في الرف العالي بالدولاب. آكلي قال: «ممكن تجيبه لحظة؟ عندي الضوفر ده اللي مضايقني.» ما كانش يهمه إذا كنت رتبت حاجاتك خلاص ولا لأ، وإذا كانت مصفوفة في الدولاب، ومع ذلك، رحت جبت له المقص، وكنت على وشك أموت في العملية ديه، أول ما فتحت باب الدولاب اللي جوه الحيطة، إلا ومضرب التنس بتاع سترادليتر — في علبته الخشب، وكل ده — وقع فوق نفوخي. وعملت حاجة مكببة وكانت بتوجع وجع رهيب، ومع ذلك كانت حتموِّت عم آكلي. وابتدا يضحك بصوته الفالصو العالي جدًّا، وفضل يضحك طول الوقت اللي كنت بنزل فيه الشنطة، وبخرج منها المقص عشانه. كانت حاجة زي دي — واحد طوبة تخبط راسه أو حاجة زي كده — تخللي آكلي في غاية الانبساط. قلت له: «أما أنت عندك حس مرح بشكل يا واد يا آكلي، إنت عارف ده؟» واديته المقص. «خلليني أبقى مدير أعمالك، أنا حخليك تتكلم في الإذاعة.» وقعدت على الكرسي بتاعي تاني، وهوه ابتدا يقص ضوافره الطويلة المهببة. قلت: «إيه رأيك تستخدم الترابيزة؟ قص ضوافرك عليها، ممكن؟ ما أحبش أمشي وأدوس على ضوافرك الليلة دي وأنا حافي.» واستمر هو يقص ضوافره على الأرض مع كل ده. أخلاق زفت، بكل معنى الكلمة. قال: «مين هي البنت بتاعة سترادليتر؟» كان دايمًا يحب يعرف سترادليتر بيحب مين، رغم إنه كان بيكره سترادليتر كره العمى. «معرفش، بتسأل ليه؟» «يعني، أنا مبحبش ابن الكلب ده أبدًا. هوه ابن كلب مقدرش أحتمله أبدًا.» «هو بيحبك جدًّا. قال لي مرة إنه شايف إنك أمير رائع.» كنت أسمِّي الناس باسم «أمير» لما أكون بسوق الهبالة على الشيطنة، كانت بتدفع عني الملل أو حاجة زي كده. آكلي قال: «دايمًا بيبقى باين عليه التعالي. أنا بس ما أقدرش أستحمل ابن الكلب ده، أنت شايف إنه …» قلت: «هييي، ممكن وحياتك تقص ضوافرك على الترابيزة؟ أنا طلبت منك كده ميت مرة …» آكلي قال: «دايمًا بيظهر بمظهر المتعالي، مع إني مظنش إن ابن الكلب ده ذكي حتى، هو شايف نفسه ذكي، شايف إنه …» «آكلي! وحياة أبوك، ممكن تقص ضوافرك المهببة دي فوق الترابيزة؟ قلت لك كده ميت مرة.» وابتدا يقص ضوافره فوق الترابيزة، أخيرًا، ما كانش عمره يعمل حاجة، إلا إذا صرخت فيه بأعلى حسك. وراقبته شوية، وبعدين قلت: «إنت شايل من سترادليتر عشان الكلام اللي قاله عن إنك لازم تدعك سنانك من حين لآخر، ما كانش يقصد يهينك لما قال كده صراحة. يمكن يكون ما قالهاش بطريقة مناسبة، لكن ما كانش يقصد إهانتك. كل اللي كان عايز يقوله إنك حتبقى أحسن وتشعر أحسن، لو إنك دعكت سنانك من وقت للتاني.» أنا بدعك سناني، سيبك من الكلام ده. قلت: «لأ، إنت مبتدعكش سنانك، أنا شفتك، وعارف إنك مبتعملش ده» ما كنتش بتطلب بطريقة وحشة. كنت حاسس بالأسف له بطريقة ما. كنت أقصد إن الحكاية مش كويسة لو وصلت إن واحد يقول لك إنك ما بتنضفش سنانك. «سترادليتر معاه حق. هو مش وحش، كل الحكاية إنك متعرفوش.» لكن أنا لسة رأيي إنه ابن كلب مغرور. قلت: «هوه صحيح مغرور، لكنه كريم جدًّا في بعض الأمور. صحيح، بص، إفترض مثلًا إن سترادليتر كان لابس كرافتة أو حاجة كده، وإنت أعجبت بيها. قول إنه لابس كرافتة إنت اتجننت بيها، أنا بس بضرب لك مثال دلوقتي. تعرف ممكن يعمل إيه؟ ممكن قوي إنه يقلعها ويديها لك. ممكن قوي يعمل كده، أو … تعرف ممكن يعمل إيه كمان؟ ممكن يسيبها لك على سريرك أو حاجة كده، لكن المهم إنه ممكن يديها لك، معظم الولاد ربما بس …» آكلي قال: «وإيه يعني، أنا لو غني زيه كنت أعمل كده برضه.» هزيت راسي وقلت: «لأ، ما كنتش تعمل كده، مكنتش تعمل كده يا واد يا آكلي، لو إنك كنت غني زيه، حتبقى أكبر …» «بطل تقول لي يا واد يا آكلي، أنا سني ممكن أكون أبوك.» «لا، أبدًا.» يالله، كان أحيانًا يبقى في غاية الرزالة. عمره ما كان يفوت فرصة عشان يفهمك إن إنت عندك ستاشر سنة وهو تمنتاشر. «أولًا أنا ما كنتش أدخلك في عيلتي.» – المهم، بطَّل تقول لي … وفجأة انفتح الباب، ودخل عم سترادليتر، ملهوف. دايمًا كان يبان ملهوف ومستعجل. كل حاجة عنده مهمة، وجه ناحيتي، وإداني خبطتين من كفه على خدودي، ودي أحيانًا حاجة مزعجة جدًّا. قال: «اسمع، إنت رايح حتة معينة الليلة دي؟» «مش عارف، يجوز، الدنيا عاملة إيه بره، بتتلج؟» كان البلطو بتاعه كله تلج. «أيوة، اسمع، إذا ما كنتش خارج لحتة معينة، إيه رأيك تسلفني جاكتتك الجلد؟» – مين كسب الماتش؟ – الماتش لسة في نصه. إحنا ماشيين. قوللي الحق، حتلبس جاكتتك الجلد الليلة دي ولا لأ؟ أنا دلقت حاجات على جاكتتي الرمادي. – لأ مش حلبسها الليلة دي، بس أنا ما حبش إنك توسعها بكتافك العريضة دي. كنَّا طول بعض تقريبًا، لكن كان وزنه ضعف وزني. كانت كتافه عريضة جدًّا. «مش حوسعها.» وراح ناحية دولاب الحيطة في لهفة. وقال لآكلي: «إزيك يا آكلي؟» كان على الأقل جدع لطيف ودود ستراليتر ده. كان نوع واد فالصو، لكن كان دايمًا يقول أهلًا لآكلي وكل حاجة. وآكلي تمتم من تحت ضروسه حاجة زي «إزيك.» ما كانش يحب يرد عليه، لكن ما استجراش على الأقل يتمتم حاجة. وبعدها قال لي: «أنا ماشي، أشوفك بعدين.» قلت: «أوكي.» ما كانش الواحد يزعل أبدًا لما آكلي يقرر إنه يرجع أوضته. وبدأ عم سترادليتر يخلع بالطيه وكرافتته وكل ده. قال: «أظن إني أحسن أحلق دقني بسرعة.» كانت دقنه تقيلة. صحيح. قلت له: «أومال فين البنت بتاعتك؟» «مستنياني في المبنى التاني.» وخرج من الأوضة ومعاه أدوات الحلاقة، والفوطة تحت باطه. من غير قميص ولا حاجة. كان دايمًا يمشي ونصه الفوقاني عريان؛ لأنه كان شايف إن جسمه حلو. وده صحيح فعلًا. ضروري أعترف بكده. ما كانش ورايا أي حاجة أعملها، عشان كده رحت معاه للحمامات ندردش وهو بيحلق. كنا لوحدنا في الحمامات؛ لأن الكل كان لسة في الماتش، الجو كان حر جدًّا جوه، والشبابيك كلها عليها بخار. كان هناك حوالي عشر أحواض، كلها ملزوقة في الحيط. حوض سترادليتر كان في الوسط، وقعدت على الحوض اللي جنبه على طول، وابتديت أفتح حنفية المية الباردة وأقفلها، اللازمة العصبية بتاعتي دي. وسترادليتر فضل يصفر لحن «أغنية الهند» وهوه بيحلق. كانت له طريقة غريبة في التصفير، نشاز وحادة جدًّا، وكان دايمًا يختار أغنية صعب إن الواحد يصفرها، حتى لو كان شاطر في التصفير، زي «أغنية الهند» أو «مذبحة في الشارع العاشر». كان ممكن حقيقي يبوَّظ أي أغنية. فاكر لما قلت قبل كده إن آكلي مقزز في تصرفاته الشخصية؟ ممم، برضه سترادليتر كان نفس الشيء، لكن بطريقة مختلفة. سترادليتر كان مقزز خفي، كان دايمًا يظهر بمظهر تمام التمام، لكن، مثلًا كان لازم تشوف الموس اللي كان بيحلق بيه. كان دايمًا موس مصدي ومتغطي صابون وشعر وقرف، وعمره ما كان ينضفه أو أي شيء. كان دايمًا يبان تمام بعد ما يخلص توضيب نفسه، لكنه كان مقزز خفي رغم كده، لو كنت تعرفه زي ما أنا بعرفه. والسبب في إنه بيوضب نفسه تمام، عشان يبان في أحسن حالاته، هو إنه كان معجب بنفسه جدًّا، كان فاكر نفسه أجمل واد في النص الغربي للكرة الأرضية، هو كان وسيم صحيح، لازم أعترف بكده، لكن كان من نوع الولاد الوجيهين، اللي لو أي أبهات شافوا صورهم في كتاب المدرسة السنوي، يقولوا على طول: «مين الواد ده؟» أقصد أنه كان من صنف الولاد الشيك بتوع الكتب السنوية، اللي بتنشرها المدراس. أنا أعرف ولاد كتير في بينسي، أعتقد إنهم أجمل بكتير من سترادليتر، لكنهم مش حيبانوا شيك في صور الكتب السنوية. كانو دايمًا يبانو بمناخير كبيرة أو ودان طالعة لبرة، أنا شفت الحكاية دي كتير. على كل، أنا كنت قاعد على الحوض اللي جنب الحوض اللي بيحلق عليه سترادليتر، عمَّال أفتح الحنفية وأقفلها. كنت لسة لابس برنيطتي الحمرا، وطرفها منزاح لورا وكل حاجة. حقيقي البرنيطة دي كانت ملياني بالنشوة. سترادليتر قال: «إيه، ممكن تعمل لي خدمة؟» قلت: «إيه هيه؟» مكنتش متحمس. كان دايمًا يطلب من الواحد يعمل له خدمة، عندك أهوه واحد وسيم جدًّا، أو هوه فاكر إنه حاجة مهمة قوي، وبعدين دايمًا يطلبوا منك إنك تعمل لهم خدمة كبيرة، عشان ما همه فاكرين نفسهم مهمين جدًّا، بيفتكروا إنك كمان شايفهم مهمين، وإنك حتموت عشان تعمل لهم خدمة، حاجة غريبة. قال: «إنت خارج الليلة دي؟» – يمكن، ويمكن لأ، مش عارف. ليه؟ – ورايا حوالي ميت صفحة لازم أقراهم لحصة التاريخ يوم الإتنين، إيه رأيك تكتب لي موضوع إنشا لدرس الإنجليزي؟ وأنا بسأل لأني حروح في داهية لو مكتبتش الموضوع المهبب ده على يوم الإتنين. إيه رأيك؟ كانت حكاية مضحكة. حقيقي مضحكة. قلت: «يا راجل، دا أنا اللي منطرد من المكان المهبب ده، وبعدين إنت اللي تسألني أكتب لك موضوع إنشا؟» – أيوه أنا عارف. لكن مع كده الحكاية إني حروح في داهية لو ما قدمتوش. خليك صاحبي، خليك صاحبي، أوكي؟ ما جاوبتوش على طول. التعليق كويس للولاد الكلاب اللي زي سترادليتر. قلت: موضوع عن إيه؟ – أي شيء، أي شيء وصفي، أوضة، أو بيت، أو مكان عشت فيه مرة أو أي حاجة، إنت عارف، طالما إنه يكون وصفي على سن ورمح. واتَّاوب بشدة وهو بيقول كده، ودي حاجة تملاني بالقرف، قصدي إن لو الواحد إتَّاوب وهو بيطلب منك إنك تعمل له معروف كبير. قال: «لكن ما تعملوش كويس أكتر من اللازم. ابن الكلب ده هارتزل بيقول إنك رهيب في الإنجليزي، وهو عارف إنك زييي في الأوضة، قصدي ما تكتبش كل الفواصل والعلامات دي في مكانها الصحيح دايمًا.» ودي كانت حاجة تانية تملاني قرف، قصدي لو إنك كويس في كتابة مواضيع الإنشا، وبعدين حد يبتدي يتكلم عن الفواصل. سترادليتر كان دايمًا يعمل كده. كان عايز يخليك تفتكر إن السبب الوحيد إنه ما يعرفش يكتب مواضيع إنشا كويس هو إنه بيحط الفواصل في مكانها الغلط. كان زي آكلي من الناحية دي، كنت مرة قاعد جنب آكلي في ماتش الباسكت بول. كان في فريقنا لاعب ممتار، هاوي كويل، يقدر يحط هدف من وسط الملعب، من غير ما يخلِّي الكورة تحك في الخشبة حتى، وقعد آكلي يقول طول الماتش المهبب إن كويل جسمه مناسب تمام للباسكت بول، يالله، قد إيه أنا بكره الكلام ده. وبعد شوية زهقت من قعدتي على الحوض، عشان كده بعدت شوية وابتديت أرقص كلاكيت عشان أسلي نفسي. والحق أنا ما كنتش أعرف أرقص كلاكيت ولا حاجة، لكن الأرض كانت هناك حجرية ومناسبة لرقص الكلاكيت، وبدأت أقلد واحد من الرقاصين المشهورين دول في الأفلام. في فيلم موسيقي من دول، أنا بكره الأفلام عمى، لكن كنت أحب أقلدهم، وفضل عم سترادليتر يبص لي في المراية وهو بيحلق، كنت محتاج جمهور، كنت أحب أستعرض، قلت وأنا عمال أرقص بجد من حواليه: «أنا ابن الحاكم، مش عاوزني أطلع رقاص كلاكيت، عاوزني أدرس في أكسفورد، لكن رقص الكلاكيت في دمي.» وعم سترادليتر ضحك، كان يحس بالنكتة، وقلت وأنا نفَسي مقطوع، ومش قادر أتنفس: «دي ليلة الافتتاح في ملهى زيجفلد، الراقص الأول من قادر يطلع على المسرح، سكران طينة، فمين يختاره عشان يحل محله؟ أنا، هو أنا، ابن الحاكم الصغنن.» سترادليتر قال: «أنت جبت منين البرنيطة المهببة دي؟» كان يقصد برنيطة الصيد بتاعتي، ما كانش شافها قبل كده. كان نفسَي مقطوع على كل حال، عشان كده بطلت أسوق الهبل، وخلعت برنيطتي، وبصيت لها يمكن لتاسع مرة. «اشتريتها في نيويورك الصبحية دي، بدولار، عجبتك؟» وستارليتر هزَّ رأسه. قال: «روعة.» كان بيتملقني ليس إلا؛ لأنه قال بعد كده على طول: «اسمع، حتكتب موضوع الإنشاء ده ليا؟ لازم أعرف.» – «حكتبه لو عندي وقت، لو ما عنديش، مش حكتبه.» ورحت قعدت على الحوض اللي جنبه تاني، وسألته: «مين البنت بتاعتك؟ فتزجرالد؟» – طبعًا لأ! أنا قلت لك إني انتهيت مع الخنزيرة دي. – صحيح؟ إديهاني إذن يا واد، بتكلم جد، دي الطراز بتاعي. – خدها … دي كبيرة عليك. وفجأة، من غير أي سبب، إلا إني كنت عايز أسوق الهبالة على الشيطنة. حسيت برغبة إني أنط من على الحوض وآخد بخناق سترادليتر بحركة نلسون، كان وضع مصارعة إذا ما كنتش تعرف، تمسك فيه رقبة الواد التاني، وتضغط عليها لحد ما يتخنق إذا حبيت تخنقه. وعملت كده، ورقدت عليه كإني نمر متوثب. سترادليتر قال: «بطَّل يا هولدن وحياة أبوك»، ما كانش في مزاج يسوق الهبالة. كان بيحلق وكل ده، «إنت عاوزني أعمل إيه، أقطع رقبتي بالموس؟» ومع كده، ما سبتوش. كنت عملت حركة نلسون حلوة على رقبته، قلت: «خلَّص نفسك يا حلو من قبضتي.» – يا الله! وحط الموس على الحوض، وبحركة فجائية رفع دراعه وحرر نفسه من خنقتي، كان واد قوي جدًّا، وأنا واد ضعيف. قال: «دلوقتي بطل السخافة دي.» ورجع تاني يحلق دقنه. كان دايمًا يحلقها مرتين، عشان يبان روعة بالموس المصدي بتاعه. سألته: «إذن، مين البنت بتاعتك إذا ما كانتش فتزجرالد؟» وقعدت على الحوض اللي جنبه تاني. «هل هيا البت فيليس سميث؟» – لأ، كان المفروض إنها تبقى البنت بتاعتي، لكن الحكاية ما نفعتش، دلوقتي معايا زميلة البت بتاعة بد ذوو … آه، كنت حنسى، دي تعرفك. – مين؟ – البنت بتاعتي. – صحيح؟ هيه اسمها إيه؟ كنت مهتم أعرف الحكاية. – بفكر … آه، جان جالاغر. يالله، كنت حقع ميت لما سمعت ده. – جان جالاغر؟ حتى إني قمت من على الحوض لما قال كده. كنت حقع ميت. – طبعًا أنا أعرفها. كان تقريبًا ساكنة جنبنا في الصيف اللي قبل اللي فات. كان عندها كلب ضخم دوبرمان. ده سبب معرفتي بيها، كان الكلب بتاعها دايمًا بيجي عندنا … – إنت حاجز عني النور يا هولدن، وحياتك. أنت لازم تقف في الحتة دي؟ يالله، قد إيه أنا كنت متحمس، أي والله. هي فين؟ المفروض إني أروح أقول لها أهلًا أو حاجة كده، هي فين؟ في المبنى الملحق؟ – أيوة. – إزاي افتكرتني؟ هي دلوقتي في مدرسة ب. م.؟ كانت بتقول إنها يمكن تروح هناك، وقالت كمان يمكن تروح مدرسة شيبلي. أظن إنها راحت شيبلي. إزاي افتكرتني؟ كنت متحمس جدًّا، حقيقي. – معرفش، ابعد شوية، ممكن، إنت قاعد على الفوطة بتاعتي. كنت فعلًا قاعد على فوطته الملعونة. قلت، وأنا لسة بفكر في الموضوع: ««جين جالاغر»، يا ربي!» وكان عم سترادليتر بيحط دهان فيتاليس على شعره، الدهان بتاعي. قلت: «دي رقاصة باليه وكل ده. كانت بتتمرن حوالي ساعتين كل يوم، حتى لو كان الجو حر جدًّا. كانت قلقانة لحسن الدهن يخللي رجليها وحشة.» – فيها عضلات وكل ده، كنت بلعب معاها طاولة دايمًا. – كنت بتلعب معاها إيه دايمًا؟ – طاولة. طاولة! يا ألله! – أيوة، كانت متحركش أي قطعة من قطعها. كانت لما يبقى عندها ملك، ما تحركوش أبدًا. كانت مجرد تسيبه في الصف الخلفي، وبعدين عمرها ما تستخدمه، كانت تحب تشوفهم كلهم مصفوفين في الخطوط الخلفية. سترادليتر ما نطقش بكلمة، الحاجات دي ما كانتش تعجب معظم الناس. قلت: «أمها كانت في النادي اللي احنا كنا فيه. كنت أخدم في ملعب الجولف أحيانًا عشان أكسب قرشين، وخدمت أمها أحيانًا. كانت بتحط حوالي ١٧٠، في تسع حفر.» ما كانش سترادليتر حتى سامع اللي بأقوله. كان بيسرَّح شعره الجميل. قلت: «أظن إني لازم أروح أقول لها أهلًا.» – ليه لأ. – حروح، حالًا. وبدأ يفرق شعره تاني من جديد. كان ياخد ساعة عشان يسرَّح شعره. – أمها وأبوها كانوا متطلقين، وأمها اتجوزت تاني من واحد بتاع كاس وطاس، راجل معظم رجليه مغطية شعر، فاكره كويس، كان بيلبس شورت على طول. كان جين تقول إنه كاتب مسرحي أو حاجة زي كده، لكن كل اللي شفته بيعمله هو إنه يشرب ويسمع برامج المغامرات البوليسية في الراديو، ويجري في البيت بحاله وهوه عريان، وجين موجودة وكله. – صحيح؟ ده أثار اهتمام سترادليتر، عن الراجل السكران اللي يجري في البيت عريان مع وجود جين فيه … سترادليتر كان جنسي خالص ملعون. – كانت طفولتها بؤس خالص، بتكلم جد. لكن ده ما أثارش اهتمام سترادليتر، ما كانش يهتم إلا بالأمور الجنسية خالص. – جين جالاغر، يا الله! ما كنتش قادر أبعد فكري عنها، حقيقي ما كنتش قادر. – لازم أروح أقول لها أهلًا. – يا أخي روح قول لها، بدل ما إنت عمَّال تقول كده وبس. ومشيت ناحية الشباك، لكن ما كانش الواحد يقدر يشوف حاجة؛ لأن القزاز كان متغطي بطبقة بخار. قلت: «معنديش مزاج دلوقتي.» كان الواحد لازم يبقى عنده مزاج عشان يعمل الحاجات دي. – أظن إنها راحت مدرسة شيبلي، أقدر أحلف إنها راحت شيبلي، وقعدت أتمشَّى في الحمام شوية، ما كانش ورايا حاجة تانية أعملها، قلت: «انبسطت من الماتش؟» – أيوة، أظن كده، مش عارف. – يا ترى قالت لك إننا كنا بنلعب طاولة طول الوقت، أو حاجة زي كده؟ – مش عارف، يا أخي أنا لسة مقابلها. كان بيخلص تسريح شعره الجنان، كان بيرص أدوات التواليت بتاعته. «اسمع، سلِّم لي عليها، ممكن؟» – أوكي. لكن أنا كنت عارف إنه يمكن مش حيقول لها حاجة. عندك ناس زي سترادليتر ده، عمرهم ما ينقلوا تحياتك لحد. ورجع للأوضة، لكن أنا فضلت في الحمامات شوية، أفكر في الست جين، وبعدها رجعت الأوضة أنا كمان. كان سترادليتر بيربط كرافتته، قدام المراية، لما أنا دخلت، كان بيقضي نص عمره الملعون واقف قدام المراية. أنا قعدت على الكرسي بتاعي، وراقبته شوية. – اسمع، ما تقولهاش إني انطردت من المدرسة، ممكن؟ – أوكي. دي كانت خصلة حلوة في سترادليتر. ما كانش الواحد مضطر إنه يشرح له كل حاجة بالتفصيل، زي ما هو ضروري مع آكلي. يمكن السبب إنه ما كانش بيهتم. ده هوه السبب الحقيقي، لكن آكلي كان مختلف، آكلي متطفل ابن كلب. ولبس الجاكتة الجلد بتاعتي. قلت: «حاول وحياتك إنك ما تمطهاش من كل حتة، أنا ما لبستهاش إلا مرتين بس.» – مش حمطها، فين السجاير بتاعتي؟ – «على المكتب.» عمره ما كان يفتكر مكان حاجاته. «تحت الكوفية بتاعتك». وحط السجاير في جيب جاكتته، جيب جاكتتي. وأنا شديت طرف برنيطتي الصيد على قورتي فجأة عشان أعمل حاجة، كنت بدأت أحس فجأة بالنرفزة، كنت ولد نرفوز جدًّا، سألته: «اسمع، إنت حتروح فين مع البنت بتاعتك، عندك فكرة؟» – مش عارف، نيويورك لو عندنا وقت كفاية، هي خدت إذن لحد تسعة ونص بس. ومعجبتنيش الطريقة اللي اتكلم بيها، عشان كده قلت: «يمكن هي عملت كده لأنها متعرفش الواد الجميل، الساحر، ابن الكلب، اللي هي خارجة معاه، لو أنها كانت تعرف، كانت خدت إذن لحد تسعة ونص الصبح.» سترادليتر قال: «عندك حق.» ما كانش حد يقدر يخليه يغضب بسهولة. كان مغرور بنفسه جدًّا. – نتكلم بجد دلوقتي. اكتب لي موضوع الإنشا ده. كان لابس البالطو وجاهز للخروج. ما تبذلش جهد فيه ولا حاجة، بس خلِّيه وصفي قد ما تقدر، أوكي؟ ما جاوبتوش، ما كانش عندي نِفْس أجاوب. كل اللي قلته هو: «اسألها إذا كانت لسة بتحط الملوك السود في الخط الوراني.» سترادليتر قال: «أوكي»، لكن كنت عارف إنه مش حيسألها. «أسيبك بقى.» واندفع خارجًا من الأوضة. وقعدت هناك حوالي نص ساعة بعد ما خرج، أقصد قعدت في الكرسي بتاعي ما اعملش أي حاجة، فضلت أفكر في جين، وفي إنها البنت بتاعة سترادليتر وكل ده. كانت الحكاية دي خليتني عصبي جدًّا وكإني حتجنن. أنا قلت لك قبل كده قد إيه كان سترادليتر جنسي ابن حرام. وفجأة دخل آكلي مرة تانية في الأوضة، من خلال ستاير الدش الملعون ده زي عوايده. ومرة وحيدة في حياتي المهببة دي، شعرت بالسعادة لما شفته. كان وجوده بيبعد عن ذهني موضوعات تانيه. وقعد في الأوضة لحد ميعاد العشا، يتكلم عن كل الولاد اللي في بينسي اللي كان بيكرههم كره العمى، ويفعَّص في الدمامل اللي على دقنه، ما كانش حتى بيستعمل المنديل بتاعه. ما أظنش حتى ابن الحرام ده كان عنده منديل، إن كنت عاوز الحق، على كلٍّ، أنا عمري ما شفته بيستعمل أي منديل. كانت وجبة العشا في بينسي ليلة السبت مبتتغيرش. كان المفروض إنها حاجة عظيمة؛ لأنهم بيدوا فيها لحمة. أراهن بألف دولار إنهم بيعملوا ده لأن أبهات ولاد كتير في المدرسة بييجوا بينسي يوم الحد، ولازم عم ثيرمر كان عارف إن الأمهات حيسألوا الأولاد أكلوا إيه الليلة اللي فاتت، والولد حيقول «لحمة.» احتيال، وكان لازم تشوف اللحمة. كانت من نوع الحتت الجامدة دي اللي صعب قوي إنك تقطعها. دايمًا يدوك كمان كتلة من البطاطس المهروسة مع لحمة يوم السبت بالليل، والحلو حتة كيك سودة محدش كان بياكلها، يمكن بس الولاد الصغيرين في الصفوف الأولى اللي ما يعرفوش أحسن من كده، والولاد اللي زي آكلي اللي بياكلوا كل حاجة. ومع كده، كان كويس لما خرجنا من المطعم. كان فيه تلات بوصات من التلج على الأرض، وكان التلج لسة نازل زي الحنفية. الحكاية كانت هايلة، وكلنا بدأنا نحدف كرات التلج ونسوق الهبالة في المكان كله. كانت الحكاية عيالي خالص، لكن الكل كان مستمتع جدًّا. ما كانش عندي بنت مواعدها ولا حاجة، عشان كده أنا وصاحبي «مال بروسارد» — ده اللي كان في فريق المصارعة — قررنا إننا ناخد الباص اللي رايح «آجروستاون»، وناكل هامبرجر، ويمكن نشوف فيلم مهبب. ما كانش حد منا عاوز يقعد قفاه يقمر عيش طول الليل، وسألت مال إذا كان عنده مانع إن آكلي ييجي معانا. وسبب إني سألت هوه إن آكلي ما كانش بيعمل أي حاجة أبدًا يوم السبت بالليل، عدا إنه يقعد في أوضته ويفقع الدمامل بتاعته أو حاجة كده. ورد مال إنه ما عندوش مانع، برغم إنه مش متحمس قوي للفكرة، ما كانش بيحب آكلي قوي. المهم، كل واحد منا راح أوضته عشان يستعد. ولما كنت بلبس غطا الجزمة، زعقت على آكلي، وقلت له إذا كان عاوز يروح السينما، كان يسمعني كويس من ورا ستاير الدش، لكنه ما ردش عليا على طول. كان من الصنف اللي يكره إنه يرد عليك على طول. وأخيرًا دخل عن طريق الستاير الملعونة، ووقف على حافة الدش، وسألني مين رايح معايا، كان دايمًا يحب يعرف مين رايح، أحلف إن الواد ده لو غرقت بيه مركب وأنقذته في قارب مهبب، لكان يطلب يعرف مين اللي بيقدف القارب قبل ما يطلع فيه. قلت له إن مال بروسارد رايح معايا. قال: «ابن الحرام ده … وهو كذلك. استنى لحظة.» كنت تحس إنه بيقدم لك خدمة كبيرة إنه جَيْ معاك. وقعد حوالي خمس ساعات يستعد. ولما كان بيستعد، رحت للشباك بتاعي وفتحته، وعملت كورة تلج بصوابعي. التلج كان هايل لعمل الكور. ومع ذلك محدفتش الكورة أي حتة، بدأت أحدفها ناحية عربية كانت راكنة مقبل الشارع. لكن غيرت رأيي. العربية كانت حلوة وبيضا، وبدأت أرميها ناحية حنفية مية في الشارع، لكن دي رخره كانت كويسة وبيضا. وفي الآخر، ما رميتهاش ناحية أي حاجة. كل اللي عملته إني قفلت الشباك، ومشيت في الأوضة ومعايا كورة التلج، بعد ما كبستها أكتر. وبعد شوية، كانت لسة معايا لما ركبنا أنا وبروسارد وآكلي الأوتوبيس. وسواق الأوتوبيس فتح الباب وخللاني أرميها بره. قلت له إني مش ححدفها على أي حد، لكن ما صدقنيش. الناس عمرها ما تصدقك. كان بروسارد وآكلي شافوا الفيلم المعروض قبل كده، عشان كده كل اللي عملناه إننا أكلنا جوز هامبرجر، ولعبنا في ماكينة الكور مدة، وبعدين خدنا الباص تاني لبينسي، وعلى كلٍّ، ما اهتمتش إني ما شفتش الفيلم. كان مفروض إنه كوميدي، فيه كاري جرانت، وكل الهلس ده. وبالإضافة لكده، أنا رحت قبل كده السينما مع بروسارد وآكلي. كان الاتنين يضحكوا زي الحيوانات على حاجات ما فيهاش أي حاجة تضحك. حتى ما كنتش بحب إني أقعد جنبهم في السينما. ما كانتش الساعة عدت تسعة إلا ربع، لما رجعنا العنبر. عم بروسارد كان شاطر في البردج، وقعد يدور على حد يلاعبه في العنبر. وعم آكلي جرَّش في أوضتي، يغير مناظر. بس بدل ما يقعد على مسند كرسي سترادليتر، مدِّد على سريري، ووشه على مخدتي وكل حاجة. وبدأ يتكلم بصوته الرتيب الممل، وهوه بيفعص في كل الدمامل بتاعته. رميت ألف إشارة له، لكن ما قدرتش أتخلص منه. كل اللي عمله إنه استمر يتكلم بصوته الرتيب عن بنت، كان المفروض إنه نام معاها في الصيف اللي فات. كان قاللي الحكاية دي ميت مرة قبل كده. وفي كل مرة يحكيها لي كانت تبقى مختلفة. مرة، يكون إنه عملها معاها في عربية ابن عمه البويك، ومرة تانية تكون العملة تحت الكوبري. كان كل ده كلام فارغ طبعًا، كان عمره ما نام مع بنت، حتى أنا أشك إنه لمس أي واحدة. ونهايته، في الآخر اضطريت أبقى صريح، وقلت له إني لازم أكتب موضوع إنشا لسترادليتر، وإنه لازم يخرج عشان أقدر أركز، وخرج في النهاية، بس بعد ما خد كل وقته زي عوايده. وبعد ما خرج، لبست بيجامتي، وروب الحمام بتاعي، وبرنيطة الصيد القديمة، وبدأت أكتب موضوع الإنشا. الموضوع إني ما كنتش أقدر أفكر في أوضة أو بيت عشان أوصفه بالطريقة اللي سترادليتر قالها. وعلى كلٍّ أنا ما كنتش أحب أوصف أوض أو بيوت. وعشان كده، كل اللي عملته إني كتبت عن جوانتي البيزبول بتاع أخويا إلى. كان موضوع وصفي خالص. حقيقي، أخويا إلى والجوانتي بتاع الإيد الشمال. أخويا كان أشول، لكن الشيء الوصفي في الموضوع هوه إنه كان كاتب قصايد على كل الصوابع والكف وكل مكان فيه. بالحبر الأخضر، كتبها عشان يبقى عنده حاجة يقراها لما يكون في الملعب، والماتش مش شغال، هوه ميت دلوقتي، جاله سرطان في الدم، ومات لما كنا عايشين في ولاية «مين»، يوم ١٨ يوليو ١٩٤٦، كان حَبُّوب، كان أصغر مني بسنتين، لكن كان أذكى مني خمسين مرة. كان ذكاؤه خارق، كان المدرسين بتوعه بيكتبوا جوابات دايمًا لأمي، يقولوا لها إزاي كانوا مبسوطين إن إلى في الفصل بتاعهم، وماكنوش بيقولوا مجرد كلام وبس. كانوا يقصدوا اللي بيقولوه. وماكانش الموضوع بس إنه أذكى واحد في العيلة، لكنه كان ألطف واحد كمان في حاجات كتير. عمره ما كان يغضب من حد. المفروض إن الناس اللي شعرهم أحمر بيكونوا سريعي الغضب، لكن إلى ما كانش كده، وكان شعره أحمر خالص. حقول لك نوع شعره الأحمر. أنا بدأت ألعب جولف لمَّا كان عندي عشر سنين، وأنا فاكر مرة، الصيف اللي كان عندي فيه إتناشر سنة، وحسيت جوايا إني لو التفت ورايا فجأة حشوف إلى. واتدورت، وفعلًا كان هناك قاعد على العجلة بتاعته خارج السور — السور اللي كان موجود حوالين الملعب كله — وكان قاعد هناك، حوالي مية وخمسين ياردة ورايا، بيشوفني وأنا بلعب. ده كان مدى احمرار شعره. يا الله، قد إيه كان ولد لطيف! كان أحيانًا يضحك بكل قوته وهو بيفتكر حاجة واحنا بنتعشى، لدرجة إنه يبقى على وشك يقع من كرسيه. كان عندي تلاتاشر سنة، وكانوا حيبعتوني أحلل نفسيًّا وكل ده عشان كسرت كل شبابيك الجراج. مكنتش ألومهم على كده. حقيقي ما كنتش. أنا نمت في الجراج الليلة اللي مات فيها، وكسرت كل الشبابيك الملعونة بقبضة إيدي، لمجرد التنفيس عن نفسي. حتى أنا فكرت أكسر شبابيك العربية الإستيشن واجون اللي كانت عندنا الصيف ده، لكن إيدي كانت اتكسرت خلاص وكل ده، وما قدرتش أعمل كده. كان شيء غبي اللي عملته، أنا معترف بذلك، لكن أنا ما كنتش حاسس أنا بعمل إيه، وإنت ما تعرفش إن إيدي لسة بتوجعني من حين لآخر، لما الدنيا تمطر وكل ده، وما بقدرش أكوَّر قبضتي كما يجب — قصدي أعمل قبضة محكمة — لكن بخلاف كده الموضوع ما يهمنيش. أقصد أنا مش ناوي أبقى جراح أو عازف فيولين، أو أي شيء على كل حال. المهم، ده الموضوع اللي كتبت عنه لإنشا سترادليتر. جوانتي البيزبول بتاع عم إلى. وبالصدفة الجوانتي كان معايا، في شنطتي، عشان كده طلعته ونسخت القصائد اللي كانت مكتوبة عليه. كان كل اللي عليا أعمله هوه إني أغير اسم إلى عشان محدش يعرف إنه أخويا أنا، مش أخو سترادليتر. مكنتش مبسوط وأنا بعمل كده، لكن ما كنتش قادر أفكر في موضوع وصفي تاني. بالإضافة إلى إني كنت مبسوط من الكتابة عن الجوانتي. والحكاية دي خدت مني ساعة تقريبًا؛ لأني اضطريت أستخدم الآلة الكاتبة المهببة بتاعة سترادليتر، وفضل الورق ينحشر فيها. وسبب إني ما استخدمتش الماكينة بتاعتي، هو إني سلفتها لواحد ساكن في آخر العنبر. أظن إني انتهيت من الموضوع حوالي الساعة عشرة ونص، ومع ذلك ماكنتش تعبان، لذلك فضلت أبص من الشباك فترة. كان التلج بطَّل ينزل، لكن من بين حين وآخر كنت تسمع عربية مش قادرة تبدأ تتحرك، وكنت تسمع عم آكلي وهوه بيشخر كمان. كان صوت شخيره بيوصل عبر ستاير الدش الملعونة. كان عنده جيوف أنفية، وما كانش بيقدر يتنفس تمام وهو نايم. الواد ده كان فيه كل حاجة؛ جيوب أنفية، دمامل، سنان منخورة، نفَس وحش، ضوافر مقصفة. كان ضروري تحس نوع من الأسف ناحية ابن الكلب الأهبل ده. فيه حاجات صعب الواحد يفتكرها، بفكر دلوقتي لما رجع سترادليتر من ميعاده الغرامي مع جين. قصدي إني مش قادر أفتكر بالظبط كنت بعمل إيه لما سمعت خطواته المهببة الغبية، جاية من الصالة الخارجية، أظن إني كنت لسه ببص عبر الشباك، لكني أحلف إني مش فاكر. كنت قلقان جدًّا، ده السبب. أنا لما أقلق بجد على حاجة، ما كنتش بقدر أعمل حاجة. حتى إني كنت لازم أروح دورة الميه لما أكون قلقان من حاجة. لكن الحكاية إني ما بروحش. بكون قلقان لدرجة إني ما أقدرش أروح. ما كنتش عاوز أقطع قلقي عشان أروح. إنت إذا عرفت سترادليتر، كنت بقيت قلقان كمان. أنا مرتين يمكن رحت مواعيد غرامية مع ابن الكلب ده، وعارف أنا بتكلم عن إيه، كان ما عندوش ضمير، حقيقي. على كلٍّ، كانت أرضية الصالة من اللينوليوم، وكنت تقدر تسمع خطوته المهببة جاي ناحية الأوضة. حتى أنا مش فاكر أنا كنت قاعد فين لمَّا دخل، جنب الشباك، ولَّا في الكرسي بتاعي أو في الكرسي بتاعه. أحلف لك إني مش فاكر. ودخل وهو بيتمتم: «قد إيه الدنيا بره برد»، وبعدين قال: «فين راحت الناس؟ المكان هنا عامل زي المشرحة.» وما كلفتش نفسي إني أرد عليه. إذا كان من الغباء بحيث ما يدركش أن النهاردة يوم سبت بالليل، وإن الناس كلهم إما بره أو نايمين أو رجعوا بيوتهم للويك إند، فليه أنا أتكلَّف عناء إني أقول له كل ده. وبدأ يغير هدومه. ما قالش كلمة واحدة عن جين، ولا كلمة، ولا أنا راخر. كنت براقبه بس. كل اللي عمله إنه شكرني على إني سمحت له إنه يلبس جاكتتي، وعلَّقها في شماعة، وحطها في دولاب الحيط. وبعد كده، لما كان بيقلع الكرافتة، سألني إذا كنت كتبت موضوع الإنشا المهبب بتاعه. قلت له إنه جاهز، وموجود فوق سريره المهبب. وراح قراه وهو بيفك زراير قميصه، وقف هناك، يقرأ فيه، وينقر على صدره وبطنه العريانين، ووشه عليه التعبير الغبي ده. كان دايمًا ينقر بإيده على بطنه أو صدره، كان معجب بنفسه جدًّا. وفجأة، قال: «إيه ده يا هولدن؟! ده عن جوانتي بيزبول مهبب.» قلت ببرود: «وفيها إيه؟» – يعني إيه فيها إيه؟ أنا قلت لك إنه لازم يكون عن أوضة مهببة أو بيت أو حاجة كده. «إنت قلت إنك عاوزه يكون وصفي، إيه الفرق إذا كان عن جوانتي بيزبول؟» – «الله يلعنك.» كان زعلان خالص، كان هايج بجد. «إنت دايمًا تعمل عكس المطلوب.» وبص لي. «مش غريب إنك مطرود من هنا. إنت عمرك ما تعمل حاجة بالطريقة المفروض إنها تتعمل بيها. حقيقي. ولا حاجة واحدة.» – أوكي، رجعهولي تاني. ورحت ونتشته من إيده، وبعدين قطعته حتت. – إنت بتعمل إيه؟ وماردتش عليه حتى. بل رميت الورق المقطع في الزبالة، وبعدين اتمددت على سريري، وقعدنا إحنا الاتنين ساكتين مدة طويلة، وخلع هدومه وفضل بالسليب، وأنا في السرير ولعت سيجارة. كان ممنوع إن الواحد يدخن في العنابر، لكن ممكن تعمل كده بالليل قوي، لما يكون الكل إما نايمين أو بره، وما حدِّش يقدر يشم الدخان. وبالإضافة لكده، أنا دخنت عشان أغيظ سترادليتر. كان بيتضايق جدًّا إذا حد كسر أي قواعد، هو عمره ما دخن في العنابر، أنا بس. كان ما قالش أي كلمة واحدة عن جين.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/10/
نصائح إلى الشباب
ملاحظات للكاتب العظيم حول بعض القواعد الأساسية في الحياة والأدب. يأتي إليَّ رجال ونساء في مقتبل أعمارهم، يطلبون النصيحة حول ما يصادفونه من مشاكل في ميادين الكتابة والحب، وأحاول دائمًا أن أكون كريمًا وطيب القلب فيما يختص بنصائحي. وأحيانًا ما تأتي النصيحة متأخرة عن موعدها، بعد فوات الأوان، فنحن لا نجد حقائق الحياة العميقة، بل هي التي تجدنا. الكتابة بلغة واضحة عملٌ صعب. لم يتعلَّم أحدٌ الأدبَ من الكتب الموضوعة مطلقًا. لم أدرس منهجًا في فن الكتابة قط، بل تعلَّمت الكتابة بالسليقة، وبمجهودي. لم أنجح بالصدفة، بل نجحت بالعمل الدءوب الصعب. واللغة الحاذقة لا تصنع كتابًا جيدًا. إن كثيرًا من المؤلفين يهتمون بأسلوب كتابتهم، أكثر من اهتمامهم بالشخصيات التي يكتبون عنها. وهناك كثير من الكتَّاب يُفسدون أسلوبهم بالاعتداد بالنفس، والحشو في الكلام. أما التحكم البارع في ناصية اللغة، فلا يمتلكه إلا قليلٌ من المؤلفين العظام. والصفة التي لا غنى عنها للكاتب الجيد هي أسلوب، يتميز بالوضوح والطلاوة. والكاتب الجيد يختار موضوعاتِه في حكمة، ويجمع مادتَه في استيعاب. إن أول شيء يفعله الكاتب الجيد، هو أن يسيطر على إحساسه بالذات في كتابته. والكاتب الجيد يجب أن يثق ثقة لا حدود لها في نفسه، وفي أفكاره. والكتابة يجب أن تكون عملًا نابعًا عن حب، وإلا فلن تكون كتابةً طيبة. والكاتب الجيد يعرف كيف يُنقِّب عن الحقائق الهامة من بين أكوام المعلومات، وأصعب شيء أمام الكاتب هو أن يحافظ على قوة خياله وخصوبته. والكاتبُ الجيد صانعٌ حادُّ الوعي، يركَب الصعب، ويقتحم عديدًا من المخاطر بحثًا عن مادة كتابته. سأشنُّها حربًا شعواء على أيِّ كاتب، يظهر الإهمال وعدم الاهتمام في عمله. وكثيرٌ من الكتَّاب يفشلون؛ لأنهم يفتقدون المؤهلات اللازمة للكاتب الأصيل، فهم متعصبون إلى أقصى حد، وأُفُقهم ضيق، رغم ما تلقَّوه من تعليم. وكُتَّاب هذه الأيام يُنفقون طاقة كبيرة في أوجه نشاط ثانوية، مثل الحديث وكسب المال، وهذا لا يترك لهم سوى وقتٍ قليل للكتابة الحقة. وقد أغرق البلادَ في يومنا هذا فيضٌ من الروايات الرخيصة، التي لا نفع فيها، والتي لا يقتصر خطرُها على اتجاهها العام المنافي للتثقيف، بل ويتعداه إلى اتجاهها الإيجابي نحو الهدم، فإن الرغبة في قراءة مثل هذه الكتب، له التأثير نفسه الهادر للخلق، مثل إدمان المخدرات. والرواية، مثلها مثل ميدان المعركة، ففيها ينزل المؤلف إلى ساحة كفاحه الخالد بين الخير والشر. على الروائي أن يمتلك ناصيةَ فنِّ إثارة الترقب؛ فالروايات المليئة بالتشويق، ذات العنفوان والفورات التي تزدحم بحيوية الأحداث والتفاصيل، هي أصعب الروايات في الكتابة. الاستجابة العميقة لدى القارئ لا تكون للمنطق، بل للخيال، وليست للعقل، ولكنها للقلب. وكتابة المسرحية أسهل من كتابة الرواية، فهي بذلك أسهل الوسائل الأدبية، لكن قد يتطلب الأمر أسابيعَ وشهورًا قبل ذلك في الإعداد لها. لقد كُتب على الشعراء الجدد أن يتجولوا في محيط قاحل، وسط الملايين الذين لا يعنون بالشعر الجيد. وكم أودُّ لو أستطيع أن أُخرسَ أولئك الماديِّين الذين يحاجون بأنه ليس للكاتب من رسالة بين بني الإنسان. أفضل الكتب ما كان منها بسيطًا، مباشرًا، غير فكري. والشخص الخالق لا يمكن أن يكون سعيدًا، إذ يتكسَّب عيشه في عالم العمل، بينما يحاول أن يُخلق في عالمه الخاص. للذهن البشري عادات سيئة كثيرة، ومن أشد هذه العادات شرًّا القلق والتشاؤم، وعدم الأمانة والأنانية، وروح التفكير الباغي. وعادة النقد المتكرر أسوأ هذه العادات، وأشدها دمارًا وعدوى، وأقلها اعتدالًا. والناقد المزمن إنْ هو إلا محكمة نصبَت نفسها بنفسها، وقاضٍ ومحلَّفون، واتهام وسجن، وكرسي كهربائي ذاتي، وهو لا يَني يُنقِّب عن أخطاء إخوانه، فوضويٌّ في مملكة الحقوق الفردية. ومثل هذا الناقد يشعر بأنه قد رُفع فوق زملائه ليأتمر فيهم بنفسه، وحجتُه في ذلك أن «الغاية تُبرر الوسيلة.» وهو يحطم حين يجب البناء، ويبثُّ الشكَّ وعدمَ الثقة في النفس، حين يجب أن تسودَ الشجاعةُ والأمل. والنقاد الذين وصلوا إلى حد معين من البلاغة، يكونون أحيانًا أضعف القضاة. فبإمكان الأبله، أن ينتقد أيَّ شيء وأي شخص، ولكن يجب على الإنسان أن يكون حكيمًا في تجربته، حتى يمكنَه الموافقة في ذكاء، وحتى يتمكن من فهم الأشياء فهمًا سليمًا. لم يحدث أن عرض النقادُ من قبل أخطاء مؤلف أمريكي على الجمهور، كما عرضوا أخطائي، فقد هاجمني بعضٌ من أعمق النقاد الأدبيِّين في هذا القرن، غير أنني أبدو بعيدَ المنال؛ إنني أمتلك ما يبدو شيئًا غريبًا لدى النقاد: قلبًا طيبًا. الحب هو أعظم تجربة في حياة الناس، والقلب هو أكثر نواحي الطبيعة البشرية نُبلًا، والعواطف هي أسمى عناصر الطبيعة الإنسانية، ولقد كنت أستمع ذات مرة إلى البعض يُثنون على جمال سيدة شابة، فسألتُ: «أي نوع من الجمال تعنون؟ أهو مجرد جمال الجسد أم جمال العقل أيضًا؟» فالكثير من الفتيات مثل الزهرة التي يعجبون بها لمنظرها الجميل، ويحتقرونها لرائحتها الكريهة. ومن الأفضل جدًّا أن يكتسب المرءُ الجمال عن أن يولد به. الإنسان الحكيم لا يتزوج من أجل الجمال وحده؛ فقد يكون للجمال جاذبية قوية في البداية، ثم يثبت بعد ذلك عدم أهميته النسبية، والزواج من شخص وسيم بلا شخصية، وملامح جميلة لا تُزينها العاطفة ولا طبيعة طيبة، خطأ جدير بالرثاء. فكما يُحيل التعوُّدُ المنظرَ الطبيعي الجميل إلى شيء ممل، كذلك يتحول الوجه الجميل، إلا إذا كانت هناك طبيعة جميلة تُشرق من خلاله. فجمال اليوم يُصبح شيئًا عاديًّا غدًا، أما الطيبة التي تكمن في الملامح العادية فهي جميلة إلى الأبد. وهذا النوع من الجمال يتطور مع مرور الوقت، والزمن لا يُدمره، بل يُنضجه. ولا يجب على الرجل أبدًا أن يُخضِع امرأةً ما للتحليل العميق، فالنساء أجهزة حساسة، ينفثُ الرجال عواطفهم من خلالها. والصمت يكون أحيانًا أفضل زينة للمرأة. العقل البشري يحمل في داخله أداةَ تدميرِ نفسه، بل هو أيضًا غبيٌّ بطبيعته، والجهل الذاتي هو حالته الطبيعية. وأشد الناس بلهًا في هذا العالم هو ذلك الذي لا يؤمن بشيء لا يراه أو يشعر به أو يذوقه، ذلك الذي لا مكان لديه للخيال أو الرؤى أو الإيمان. وسرُّ الحياة، حتى على المستوى المادي، أن نتعلم قوانين الدنيا ونسلِّم أنفسَنا لها طواعيةً وعن جذل. وإنقاذ ما يمكن إنقاذه هو الطريقة المثلى لإنقاذ كل شيء. والحكمة العملية تنتج عن المنطق الفطري الذي تعمل الخبرةُ على تهذيبه وتُوحي به الطيبة. والحقيقة أن الطيبة تعني الحكمة إلى حد ما، الحكمة السامية. والإنسان قادر على أنواع مختلفة من التعليم، فهو يمتلك القدرات الجسمانية والاجتماعية والدينية والفكرية والأخلاقية، وكل قدرة منها تتطلب تعليمًا معينًا. والتعليم في جميع هذه القدرات يجعل من المرء شخصًا كاملًا، والتعليم في جزء منها يتركه عاجزًا. والإنسان المتعلم هو الإنسان الذي يستطيع عملَ شيء ما، ونوعُ عمله يُبيِّن درجة تعليمه. وأفضل استثمار لرجل في مقتبل حياته هو الكتب الجيدة؛ فدراستها تُوسِّع من أُفُقه، وتُسلِّحه حقائقها بسلاح أفضل في حياته. ولكن لا تقتصر فائدة الكتب على المعلومات التي تُقدمها، فحتى الكتب التي لا تحوي تثقيفًا، تُرقِّي وتهذِّب. وأفضل كسب في الحياة كتابٌ جيد، فهو يحفظ أفضل الأفكار التي تستطيع الحياةُ تقديمَها. والعالمُ الذي تدور فيه حياة الإنسان في قسمها الأكثر هو عالمُ أفكارِه الخاصة. والكُتب الجيدة إنْ هي إلا كنوز من الكلمات الطيبة والأفكار الذهبية التي تُصبح رفاق حياتنا وبلسم جراحنا حين نتذكرها ونعتنقها. والاتصال بالآخرين مرغوبٌ فيه لتمكين الإنسان من التعرُّف على ذاته؛ فعن طريق الاختلاط الحر في العالم يمكن للإنسان أن يرسم فكرةً صحيحة عن قدرته الخاصة. وليس هناك من صحبة لا يتعلم منها المرء شيئًا ينفعه في حياته مهما بلغَت تلك الصحبة حدًّا من السوء. وأنا أعتبر البيت هو المدرسة الحضارية العظمى من ناحية تأثيره، فهو أول وأهم مدرسة للشخصية، وفيه يتلقَّى كلُّ شخص متمدين أعظم دروسه الأخلاقية، أو أسوأها. والقانون ذاته إنْ هو إلا انعكاسٌ للبيت، فأوهن الآراء وأقلُّها مما يبذره البيت في رءوس الأطفال في الحياة الخاصة، يخرج بعد ذلك إلى الدنيا ويُشكل الرأي العام بها. والدول تخرج عن طريق غرف الأطفال. ولهؤلاء الذين يُمسكون بزمام الأطفال سلطة أعظم ممن يقودون أعنة الحكومات. وغالبًا ما تكون مادة الحكمة ملقاةً أمام أبصارنا، في حين تبحث عنها عيوننا الحمقاء في آخر الدنيا. ومعرفة الطبيعة والهيام بها شيء أبسط وأسمى من معرفة جيولوجيا الصخور وكيمياء الأشجار. لا يمكن لنا أن نجوبَ في كل مكان؛ ولذلك يجب أن نُحرزَ نجاحًا في شيء واحد. ولا بد لنا أن نجعلَ عملَنا غرضَ حياتنا الأوحد الذي يتضاءل أمامه كلُّ غرض آخر. وأنا أكره العمل الذي يؤديه الإنسان على فترات، فإذا كان عملك طيبًا، فاعمله في جرأة، وإن كان سيئًا، فاتركه دون إنجاز. لم يكن أبطال التاريخ يتطلعون إلى المرآة باستمرار ليتأكدوا من أنفسهم، بل كانوا يؤدون أعمالهم ويستغرقون فيها كليةً، فأنجزوها على أفضل وجه، حتى إن العالم يتعجب منهم ويعتبرهم عظماء ويُقننهم على هذا الاعتبار. وإن عاش المرء على مثالٍ سامٍ، فقد عاش حياةً ناجحة. وما يجعل الإنسانَ قويًّا هو ما يسعى إلى إنجازه وليس ما أنجزه. لقد قيل: «اليقظة الدائمة ثمن الحرية.» ويمكن القول بنفس الصدق: «الجهد الدائب ثمن النجاح.» وإن نحن لم نعمل بكل قوتنا، فسيعمل آخرون بكل قواهم، ويتفوقون علينا في السباق، ويختطفون الجائزة من أيدينا. وقد أصبح النجاح يعتمد أقل الاعتماد على الحظ والمصادفة عن ذي قبل. وعدم الثقة في النفس هي سبب معظم نواحي فشلنا. والشخصية هي أعظم عون للنجاح وألزمها له، وما الشخصية إلا عادة متبلورة ونتيجة مران واقتناع. وتؤثر عوامل الوراثة والبيئة والتعليم في كل شخصية من الشخصيات. فإذا طرحنا هذه العوامل جانبًا، وإذا لم يصبح الإنسان هو صانع شخصيته بنفسه، فسينتهي به الأمر إلى أن يكون قدَريًّا، يخضع للظروف دون أية مسئولية من جانبه. وبدلًا من أن نقول إن هذا الإنسان رهين الظروف، من الأسهل أن نقول إن هذا الإنسان صانع الظروف، فالشخصية هي التي تُشيد وجودًا كاملًا من الظروف. وتُقاس قوَّتُنا بقوة التشكيل لدينا، فمن نفسِ المواد وعينِها يُشيِّد امرؤٌ قصورًا ويُشيِّد آخرون أكواخًا. والأحجار والأسمنت هي مجرد أحجار وأسمنت إلى أن يتمكن المهندس من إحالتها إلى شيء آخر. وأدوات المثابرة العظيمة هي: الاجتهاد والجدية والاقتناع. التواضع هو سرُّ الحكمة والقوة والمعرفة، وسر النفوذ البساطة. وأفضل طريقة لكسب الكثير هو ألَّا ترغب في كسب الكثير جدًّا. وعظماء الرجال لا يعبئون بما لا يستطيعون الحصول عليه. وأنا أحب القصة التي تُروى عن الإسكندر الأكبر، أنه أمرَ وهو على فراش الموت ألَّا يلفُّوا يدَيه في قماش الكفن حين يقومون بدفنه كما هي العادة، بل يتركوهما خارج الكفن حتى يستطيع الناس أن يرَوهما، ويتحققوا أنهما فارغتان تمامًا. لم أكن أساسًا متشائمًا على الإطلاق، رغم أن كثيرًا من القُرَّاء يعتبرونني كذلك. ولقد أخذت الحياة على محمل الجد إلى درجةٍ جعلَتني أتَّجه دائمًا نحو التفاؤل. والتشاؤم مضيعة للجهد، وعقوبة للمرء الذي لا يعرف كيف يعيش. والسعادة تكمن في العمل، وكل القوى خُلقت للعمل. ومن السياسات الطيبة أن تطرقَ الحديد وهو ساخن، ولكن من الأفضل أن تجعل الحديد يسخن بالطَّرق. ولقد وجدتُ دائمًا أنه أكثر إيلامًا للإنسان ألَّا يعملَ شيئًا على الإطلاق، من أن يعمل أي شيء. والبهجة والحماس من أكثر الفضائل نفعًا. والحماس يتوهج في الظروف المعاكسة عنه في الظروف السانحة. وتأتي الراحة من إحساس داخلي بالتفوق على البيئة المحيطة. وحكمة نعيش بها: «عش يومًا بيوم.» فنحن نُخطئ إذ نفترض أن الحكمة القائلة: «تطلَّع للأمام» إنما تعني أن نتطلع أمامنا في قلق. ومن السهل جدًّا على المرء أن ينظر إلى الأمام في أملٍ مثلما ينظر إلى الأمام في حزن. ولمَّا لم يكن متاحًا لنا في حياتنا إلا مسرات عظمى قليلة، فلا بد أن نزرع كمية ضخمة من المسرات البسيطة. والأنانية هي مصدر كلِّ الشرور والأحزان تقريبًا في هذه الدنيا، ونحن ندري ذلك، ولكننا نستمر على أنانيَّتنا. وحُكمنا على سعادة الآخرين أو شقائهم حكمٌ جائر، إن نحن قسناهم بأي مقياس يختلف عن المقياس الذي نقيس به أنفسنا. والشهرة الخالية من السعادة تكون في أحسن أحوالها كالنكتة السخيفة، والأشقياء دائمًا على خطأ. من المستحسَن أن يكون للمرء سمعةٌ طيبة. ويجب ألَّا نحتقرَ رأي معارفنا وأخلَّائنا فينا، ولكن لا بد لكل إنسان أن يستحق السمعة التي تشيع عنه، وإلا كانت حياتُه زائفة، وسيقف إن عاجلًا أو آجلًا عاريًا أمام الدنيا. وغالبًا ما يكون هناك فارق عظيم بين شخصية المرء وسمعته. فالسمعة هي ما يظنه الناس عنَّا فترة من الوقت، أما الشخصية فهي ما نحن عليه حقًّا، وقد تنسجم السمعة مع الشخصية، ولكنهما غالبًا ما يكونان متضادَّين كالنور والظلام، فكثير من الأوغاد لهم سمعة النبلاء، وثمة رجال من ذوي الشخصيات النبيلة أبعدَتهم سُمْعتُهم إلى صفوف الملوثين. وتظهر شخصيةُ الإنسان الحقيقية دائمًا في بيته أكثر من أي مكان آخر، وتستبين حكمتُه العملية بطريقة أفضل من الطريقة التي يتعامل بها هناك عنها في شئون عمله في الحياة العامة. وقد يكون جُلُّ عقله مُركَّزًا في عمله، ولكنه يركِّز عاطفتَه كلَّها في بيته إن كان سعيدًا. فهناك تستبين صفاتُه الأصيلة، ويظهر صدقُه وحبُّه وعطفه وتقديرُه للآخرين واستقامته ورجولتُه، وبإيجاز … شخصيته. وأفضل الأسلحة التي يمكن أن يحصل عليها الشاب في معركة الحياة هي: ضمير، ومنطق فطري، وصحة جيدة. فليس هناك من صديق أفضل من ضمير طيب، وليس هناك عدوٌ أكثر خطورة من ضمير سيِّئ، فالضمير يجعل منَّا ملوكًا أو عبيدًا. والضمير كالساعة المنبهة، فهو عند إنسان يدقُّ عاليًا للتحذير، وعند آخر يشير العقرب إلى الساعة في صمت ولا يدق. وإن ما ندعوه المنطق الفطري هو — في معظم الحالات — نتاجُ الخبرة العامة، التي نمَت في حكمة، وليست القابلية الشديدة بضرورية لتحصيله كضرورة الصبر والدقة والانتباه. والصحة الجيدة تعتمد على العادات العقلية، اعتمادها على العادات الجسمانية. فقد ساق القلق والحساسية والطباع المعينة كثيرًا من الرجال إلى حتفهم، ولولاها لكانوا لامعينَ في حياتهم. والحياة في صحبة الأفكار الأنانية السقيمة العليلة وجوِّها تضرُّ بصحة المرء وأخلاقه، تمامًا كأنه يعيش في صحبة أناس فاسدين. والبحث الدائم عن المسرة الشخصية إن هو إلا أنانية في السلوك. والمبالغة الذاتية والأثرة والمباهاة، والرضا عن الذات، وتبرير الذات، والتواضع الزائف، كلها فروع لشجرة الأنانية التي تجري جذورها في كل الاتجاهات، يلتفُّ ويتشابك بعضها في البعض الآخر في التربة اللينة للنفس. والغيرة هي أكثر أشكال الأنانية الإنسانية جنونًا، وهي تنشأ عن خوف أناني من الخسارة، أو من حلول شيء، أو شخص آخر في مكان المرء الذي يشعر بالغيرة. والغضب جنون قصير، وفيه حسدٌ واحتقار، وخوف وأسف، وكبرياء وهوًى، وتهوُّر وسوء تقدير، وابتهاج بالشر ورغبة في إنزاله. والطموح يدمر مسرَّات الحاضر في تطلعات مشوقة، وراء مستقبل خيالي. والازدراء انتقام بريء، أما العنف فهو التعبير الكامل عنه، والقلق سمُّ الحياة الإنسانية، وهو ربيبُ كثيرٍ من الشقاء. والبخل يفصل الإنسان عن الكون، ويسجن الروح في نفسيتها السوداء. والمزاج القوي ليس بالضرورة مزاجًا سيئًا، ولكن كلما كان المزاج قويًّا في شخص ما، كلما ازدادت حاجتُه للتنظيم الذاتي والتحكم في النفس. ونحن أغنياء بما نعطي، ونعيش حياتنا بقدرٍ يتناسب مع ما نشعر به من حب للغير، ونصبح فقراء بالنسبة التي ننغمس بها في الاهتمامات المحصورة في الذات، والكسب الشخصي. والعمل الحق ضربٌ على وتر، يمتدُّ عبر الكون كله. والمرء الذي يحب الحق لا يمكن ألَّا يباليَ بالخطأ، أو أداء الخطأ، فإن كان يشعر بحرارة، فسيتكلم بحرارة جماع فؤاده. ولا بد لنا أن نحذَرَ الازدراء المتعجل، ولَأفضل الناس جوانبهم المتعجلة، وغالبًا ما يكون المزاج الذي يجعل الإنسان جادًّا، هو ما يجعله متعصبًا أيضًا. وأندرُ الهبات العقلية هي الصبر الفكري، ومنتهى دروس الثقافة هي الإيمان في الصعوبات التي لا تَبين لأبصارنا. والالتزام الوحيد النهائي لأي إنسان، هو السعي الشريف الجاد وراء الحقيقة. التعصب رقٌّ عقليٌّ طاغٍ جهول. وهو يحكم سلفًا، ويُصدر أحكامًا دون أدلة ودون قاضٍ أو محلَّفين. ويجب علينا أن نهرب منه؛ فهو شاهد زائف، غبيٌّ، خائن، قصير البصيرة. والتعصب مجلبة لكلِّ ما هو سيِّئ، فهو يفرِّق بين أعز الأصدقاء، ويعوق التقدم الإنساني، ويسد الطريق أمام المبادئ الطيبة، ويخلد استعباد الجسد والروح، ويشن الحرب على أفضل مقاصد البشرية أهميةً. لا يترك الطفل أثرًا وراءه. وهكذا، لا يبقى من عظماء الرجال في العالم بعد مماتهم، ما يدل على أنهم كانوا أحياء في يوم من الأيام. ما هو الموت؟ أهو خلع ثوب الجسد وارتداء ثوب الخلود؟ أهو المرور من الظلمة إلى النور الأبدي؟ أهو التوقف عن الحلم والبدء في الوجود اليقظ؟ أهو العودة إلى الله؟ لقد قال ملتون قديمًا: «مَن يقاسي أكثر، ينجح أكثر.» وقد أنجز أغلبية الرجال العظماء، الذين ألهمهم الواجب عملهم وسط المعاناة والتجارب والصعوبات. وقد صارعوا الموج، ووصلوا إلى الشاطئ منهكين، ليقبضوا على الرمال ويموتوا. لقد أدوا واجبهم، وأسعدهم أن يموتوا. ولكن ليس للموت سلطانٌ على هؤلاء الرجال، فذكراهم المباركة ما زالت باقية، تُهدئ من نفوسنا. الشجاعة مرادفٌ آخر للإيمان. ونحن نسير بالإيمان أكثر مما نسير بالإبصار. ويتكون الجزء الأكبر من حياتنا اليومية من أشياء في حركة، تقسِّم نفسها إلى ما يسمَّى الثقة، الاقتناع، العقد، التفاؤل، الأمل، الشجاعة. وأول حركة في أي عمل عقلي هي دائمًا حركة الإيمان. وحيوية الإيمان لا نظير لها، وقوته فوق كل تقدير. وكما تقوى الساق الضعيفة بالتمرين، كذلك يقوى الإيمان بكل مجهود يقوم به المرء، ليبسطَه نحو الأشياء التي لا يراها. وما نحن إلا في مطلع مرحلة جديدة، ويمكننا أن نتصور الكشوفات التي ستتمتع بها الأجيال والعصور اللاحقة. فكما يفوق عرفان اليوم الحاضر كلَّ معارف العصور السابقة، كذلك ستتفوق معرفة عصور المستقبل على معارف اليوم. نحن نعيش في صبيحة حقبة جديدة، وبين ضباب الفجر الباكر يسير الإنسان مضطربًا، ويرى رُؤَى غريبة، ولكن سيذوب هذا الضباب تحت أشعة الشمس التي خلقَته، وسيبين الحق صلدًا جميلًا مرة ثانية. كل أمجاد الحياة، وكل جمال العيش، وكل مسرات الدنيا العميقة الحقة، كل البهاء والأسرار في متناول يدنا.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/11/
مقدمة إلى كافكا
وكافكا سيد من سادة النسق القصصي، أسلوبُه دقيقٌ متروٍّ ذو تحفُّظ ساخر، وهو يجمع في رواياته بين الحقيقي وغير الحقيقي، بين ذاتية المضمون الخالصة وأشكال غاية في الموضوعية، بين صورة صحية ودودة عن العالم الخارجي والتحلُّل الحلمي لهذا العالم. وعن طريق توحيد هذه العناصر المتضادة، تمكَّن كافكا من تحقيق ملاءمات جوهرية جديدة لمصادر الكتابة النثرية. يمكننا القول بذلك إلى أبعد الحدود، دون أن نتقيدَ بإعطاء تقدير نقدي متكامل لأعماله؛ لأن مثل هذا التقدير يكون سابقًا لأوانه نوعًا ما الآن. ويكفينا أن نعطيَ تحليلًا ووصفًا لصفات هذه الأعمال. وهكذا يتضح أنه لو كان كافكا يضطرُّنا إلى الإحساس بأواصر الصلة بيننا وبينه، وبالتماثل القوي القلق، فإن ذلك يرجع إلى الصفة القوية التي يتسم بها شعورُه بتجربة الضياع الإنساني، بالغربة والإثم والقلق، وهي تجربة تزداد تسلُّطًا في العصر الحديث. وقد سبق للروائي جراهام جرين أن أدلَى بملاحظة، مضمونها أن كل كاتب خلَّاق جدير باهتمامنا، كل كاتب يمكن أن نُطلق عليه لقبَ شاعر بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنًى، إنْ هو إلا ضحية، هو رجل تسلَّط عليه شعورٌ ما. وكانت الفكرة التي تسلَّطت على عقل كافكا إحساسًا حادًّا بالقصور والفشل والإثم، إثم لا يرجع إلى ذنب ارتكبه، أو عمل ترَكه ناقصًا، بل إثم يكمن في أعماق كيانه الداخلي. وقد كتب كافكا مرة في دفتر ملاحظاته: «إن الحالة التي نجد أنفسنا عليها حالةٌ آثمة، ومستقلة تمام الاستقلال عن الإثم ذاته.» مفتاح روايته المحاكمة، «إن فكرتنا عن الزمن هي الشيء الوحيد الذي يجعلنا نتصور وجودَ يوم للدينونة، نُطلق عليه هذا الاسم، وما هو في الحقيقة إلا محكمة تعقد جلساتها بصفة مستمرة.» وفي نفس مدار التفكير تبرز الصورة الفكرية التالية: «تلعب كلاب الصيد لاهيةً في الفناء، ولكن الفريسة لم تُفلت من أيديها رغم ذلك مهما كانت سرعة جرْي هذه الفريسة بين الغابات.» والتطابق مع الإنسان يقع هنا على الفريسة، وعلى كلاب الصيد كذلك، باعتبارها ترمز لتطلُّع الفريسة إلى عقاب النفس، ورغبتها الدفينة في أن يتمَّ تضييقُ الخناق عليها، وأن تُؤذَى وتُمزَّق تمزيقًا حتى يتمَّ تكفيرها عن الإثم الذي يغمرها من الرأس إلى القدم. وفي هذه الجملة القصيرة عن الفريسة والكلاب تكمن خلاصةُ القصة الكافكية الأصيلة، موضوع التسلطات، النواة القصصية التي تتعلق بضحية القوة الغاشمة، الموضوع الذي يعود إليه كافكا من آنٍ لآخر، آخذًا في تنويع وتعقيد بنائه في ثراء عجيب، مقيمًا على أساس بسيط كهذا صرْحَ بناءٍ شامخ، مثل أسطورة القائد العجوز في قصة «معسكر الاعتقال»، وأسطورة القانون في «المحاكمة»، وأسطورة البيروقراطية السماوية في «القلعة». والشِّجار بين المفسرين الدينيِّين والمفسرين النفسيِّين لأدب كافكا ليس بذي أهمية عظيمة؛ لأن عمله يجمع من المعاني ما يكفي لأن يدعم جزءًا من الحقائق التي تخرج بها هاتان المدرستان كلتاهما. وعلى هذا يمكن تفسير حادثة الأب الذي يحكم على ابنه بالموت غرقًا في «الحكم» على ضوء فكرة فرويد عن الأب الطاغية. وفي نفس الوقت، يمكن أن يكون إله القصاص، وقد قام في غضبٍ ليحطم الوهم الذي يبين للإنسان في إقامة كفاية ذاتية في هذه الدنيا. وليس هناك أيُّ تعارض بين هذين التفسيرَين في أساسهما، فهما أولًا ليسا بمتضادَّين، وثانيًا فإن قراءتنا للقصة وفهمنا لها — كما أنها تعتمد على وجهة نظر المؤلف — فهي تعتمد في نفس القدر على وجهة نظرنا الخاصة في حدود معينة. وقد كان في شخصية كافكا عنصرٌ من الخضوع الجوهري، يمنعه من الشروع في إثبات أيِّ اتجاه معروف عن الحياة أو أي فكرة عنها. وقد قال هذا بوضوح في إحدى مأثوراته، التي كتبها عن نفسه بضمير الغائب: «إنه لا يُثبت إلا نفسه، وبرهانه الوحيد هو ذاته، ولذلك فإن خصومَه قد تغلَّبوا عليه في الحال، ليس عن طريق دحضه (فهو ممن لا يمكن دحضهم)، ولكن عن طريق إثبات ذواتهم.» أما أن كافكا كان رجلًا ذا مزاج ديني، فهذا ما لا أشك فيه أبدًا؛ فمع أنه قد خلق صورًا مبرزة في الفشل والإحباط الإنساني، ويميل إلى الشعور بأنه سجين في هذه الدنيا، وتُعذبه الكآبة والعجز والضعف، والخيالات المحمومة التي تراود السجين، فإنه لم يتخلَّ عن ثقته في معنوية الوجود وروحيته، وفي القهَّار، كما أنه فقد الثقة في مجهوداته الأدبية؛ لأنه كان يريد لكتاباته أن تَصِل إلى القوة التي تتمكن معها من رفع العالم إلى المملكة «النقية، الحقة، الثابتة». ومع ذلك، فليس هناك شيءٌ في أوراقه الخاصة، أو في رواياته يُجيز الزعم القائل بأنه كان يعتقد في إله خاص به، يوافق على النظم الجامدة التي تتصل بالدين الرسمي. وحتى الخطيئة الأولى، وهي العقيدة القريبة من مركز أعماله، كان يفسِّرها في تبصُّر بأن أساسها هو الشكوى التي يُردِّدها الإنسان، ولا يكفُّ عن ترديدها «بأن شرًّا قد ارتُكب في حقه، وأن الخطيئة الأولى قد وقع وزرُها عليه.» وينظر العالم الديني إلى هذا على أنه مجرد خرافة، خرافة رقيقة تتهم نفسها، ولكنه خرافة على أي حال. وقد أشار الناقد الألماني «فرانزيلي» إلى كافكا — وكان من معارفه الشخصيِّين — باعتباره «خادمًا لإلهٍ لا يعتقد فيه أحد.» كانت تقواه متناقضة، مستثناة من التعريفات والتصنيفات المحددة، بعيدة كل البعد عن الهدوء والتقليدية، ترفض السلوى التي يقدِّمها الدين في إباء، وتُصر رغم ذلك على شقِّ طريقها إلى نوع من الإيمان «كالمقصلة في ثقله وفي خفَّته»، ونوع من التقوى لا تجد متنفسًا لها في الأفكار العامة، ولا في الفكر المنطقي، بل في لغة الفن فقط، تلك اللغة التي تقدِّم كلَّ شيء، ثم لا تزعم شيئًا، ولا تؤكد شيئًا، ولا تُثبت شيئًا في نفس الوقت. وُلد كافكا في عام ١٨٨٣، من أبوَين يهوديَّين من طبقة متوسطة، ويبدو أنه قد فقد ثقتَه بنفسه في مطلع حياته، واستبدل بها كما يقول «شعورًا لا حدَّ له بالإثم.» وقد وسمت حالات الضياع والفشل، وفكرة عدم وجود حلٍّ لأبسط المشكلات الإنسانية، وسمَت فترةَ شبابه بالحزن، وألهمت فنه بعد ذلك. ويقف أبوه في مركز حياته كشخصية تتفق تمام الاتفاق مع فكرة فرويد، عن الرعب المتمثل في الأب الأول. كان الأب نشطًا، صلبًا، متقلبًا، ناجحًا، محترمًا، وكان يتعرض بالسخرية لميول ابنه غير العملية وتجوالاته الروحية، دون أن يقصد سوءًا من وراء تلك السخرية، بل هي طبيعته أملَت ذلك عليه. وكانت الأم رغم شفقتها على ابنها، مستغرقةً بجل عواطفها في أمور زوجها لدرجةٍ جعلَتها عاجزة عن أن تتخذ لنفسها دورًا مستقلًّا. وهكذا تعرَّض فرانز الصغير لتطرفات العزلة واستبطان النفس، تلك التطرفات التي كانت تلغي نفسها دومًا عند التفكير في التكامل عن طريق الزواج وإنجاب الأطفال وممارسة أعباء مهنة محترمة. «مهنة حقة … المهنة المناسبة.» وكان تأثير أبيه عليه ظاهرًا، لدرجةٍ جعلَته يتعثر في حديثه أمامه، رغم أنه يتحدث عادةً بطلاقة فائقة. وقد كتب في خطابٍ وجَّهه إلى والده بعد ذلك: «لقد بدأتَ تأخذ تلك الصفة الغامضة التي يتصف بها جميعُ الطغاة، الذين يعتمدون في تفوقهم على شخصياتهم وليس على الحق.» ومن الواضح أن مصدر فكرة السلطة التي تشيع في معظم أعماله يرجع إلى موقفه المتناقض تجاه والده، موقف يتمثل في نفورٍ فيَّاض وشعورٍ بالمماثلة أيضًا. ونحن نرى البطل في أعمال كافكا القصصية الرئيسية، والذي تظهر فيه عناصر من شخصيته الذاتية، نراه دومًا وقد قهرَته قوى ما فوق الطبيعة، تلك القوى التي تجد دائمًا ما يُبررها ويُعلي من شأنها، حتى ولو ظهرت في ثياب بيروقراطية ظالمة متوعدة. ويحكي «ماكس برود»، صديق كافكا الحميم ومؤرخ حياته، الذي نشر كتاباتِه بعد وفاته، يحكي أنه حاول أن يُدلِّل لرفيقه على خطأ إحساسه الذاتي بالحقارة، وخطأ مغالاته المزمنة في الإعلاء من شأن والده. ولكن هذه الأحاديث كانت تذهب أدراج الرياح؛ لأن كافكا كان يُدلي بسيل من الحجج يصدُّ بها أقوالَ صديقِه ويُفندها. وقد تحقق ماكس برود أنه لا يمكن لامرئ أن يتساءل عمَّا كان يجدي كافكا قبول والده له إلا من وجهة نظر أحد الغرباء البعيدين عن كافكا وإحساساته. فقد كان واضحًا أن حاجته إلى هذا القبول تُمثل لديه شعورًا فطريًّا لا يُنقض، دام إلى آخر حياته. وفي عام ١٩٠٦، حصل كافكا على إجازته في القانون من الجامعة الألمانية في براغ، ووجد عملًا بعد ذلك في شركة للتأمين ضد الحوادث، غير أن اهتماماته الحقيقية كانت تتمثَّل في ميدان الكتابة، وقد مارس هذه الأخيرة بكل حماس أخلاقي، معتبرًا إياها بذلًا مقدسًا للطاقة الإنسانية، وخطوة للاتصال ببني الإنسان، وانعكاسًا باهرًا للإدراك الديني. ورغم ذلك فإن الكتابة لم تكن لتُقيم أوده، فبالإضافة إلى اعتراضه من ناحية المبدأ على تحويل الموهبة الأدبية إلى مصدر للمنفعة المادية، كانت أمامه عقبات أخرى في هذا السبيل. وكان يكتب في سرعة خاصة به، يملؤه سخطٌ متوهج، وكانت تتملكه في نفس الوقت حاجةٌ ملحَّة لأن يقف على قدمَيه، لأن يستقل سريعًا عن عائلته. ورغم ذلك فقد عملَت وظيفته في شركة التأمين على تفكُّك شخصيته، للتناقض التام بينها وبين مهنة الكتابة. وفي أكتوبر من نفس العام، كتب «ماكس برود» في يومياته: «إن كافكا في حالة من النشوة، قائمًا يكتب طوال الليل …» وأيضًا: «… إن كافكا تنتابه حالة غريبة من النشوة.» وتتضمن هذه النشوة شيئًا أكثر من الإعلاء وشعور الحرية التي يمر بهما الكاتب عادةً، حين يتقدم في عمله الفني تقدُّمًا محسوسًا. ويستبين من الطبيعة الإكراهية لقصتَي «الحكم» و«المسخ»، ومن تعليقات كافكا عليهما في يومياته، أن هاتين القصتَين كانتا الفأس الذي حطَّم بحر الثلج بداخل نفسه، أو بمعنى آخر، أن عملية خلقهما تضمنَت النفاذ إلى طبقات من مادة مكبوتة، لم يكن في الإمكان إدراكها قبل هذا الوقت. ويبدو كما لو أن المعاناة العصابية في كافكا والفنان فيه تعاونَا واتفقَا في رواياته التي تتميز بالحركة النفسية، في سبيل الحفاظ على الحياة الغالبية. ويمكن للمرء في دقة أن يقول عن مثل هذه الأشياء متفقًا مع «ييتس»: إنه كلما كان الخلق لا شعوريًّا، كلما كان أكثر قوة. وتقوم رواية «أمريكا»، التي بدأ كافكا كتابتها في تلك الفترة على مبعدة من أعماله الأخرى، فهي تفتقد ذلك العنصر غير الطبيعي، وليس فيها ذلك الاستدعاء للقوى الخفية أو أي تصوير ملغز للعالم المعروف المألوف، وهو الأسلوب الذي اتبعه كافكا بعد ذلك من أجل تطعيم رواياته بعنصرَي اللامعقول والإبهام، وهي الرواية الوحيدة من بين أعمال كافكا، التي أطلق الفنان فيها العنان لنزعته نحو كتابة الملهاة. ورغم ذلك، فإنه لم يقصد من وراء كتابتها عرْضَ نقائص معينة، بل قصد تصوير الموقف الإنساني المتميز. وقد كتب كافكا في دفتر ملاحظاته: «لو أن حوادث الملهاة نُظمت تنظيمًا متناسقًا، لتحولت إلى حقيقة واقعية.» ويتسم بطل «أمريكا» «كارل روسمان» بالبراءة حقًّا، وهو في هذا المجال يختلف اختلافًا جوهريًّا عن «ك»، بطل روايتَي «المحاكمة» و«القلعة». ﻓ «ك» يتناول مشكلة الإثم بطريقة تشريعية في معظمها، متأثرًا في ذلك بالمنهج العقلي، ويحاول الانتقام من الكوارث التي نزلت به، ويجاهد في سبيل إطلاق سراحه بإثبات براءته من ارتكابِ أيِّ جرم عن طريق إجراءات منطقية. أما كارل فإنه يعاني من الاضطهاد دون أن يفكر في الانتقام، أو يعكف على التفكير طويلًا في الإساءات التي ارتُكبَت في حقه، ولم يَفُهْ بكلمة احتجاج حين طرده عمُّه الثري بعناد من منزله دون أيِّ سبب على الإطلاق، بل بدأ يلائم نفسه في هدوء مع الموقف الجديد. وهو ليس بشخصية ذاتية، بل إن طاقته من ذلك النوع الحنون الذي ينساب في أضيق المسالك في وداعة ولطف. ولم يحاول كافكا أن يقدِّم فكرة حقيقية عن أمريكا؛ فتفاصيله عنها لا تُطابق الحقيقة بالمرة. غير أن الصورة في مجموعها تكون حقيقة رمزية غريبة. وإذا كانت هذه الرواية من وجهتها الواقعية مجردَ محاكاة ساخرة لخيال «ريتشارد المسكين» (أي لحياة الأمريكيِّين)، فهي من وجهتها الأدبية تستمدُّ شيئًا من أدب «ديكنز». ﻓ «دافيد كوبرفيلد» الولد الطيب الذي يستخدم ذكاءَه في أوقات المحَن والتجارب للاستفادة إلى أقصى حدٍّ مستطاع من الفضيلة التي يتحلَّى بها، ما هو إلا طراز لكارل بطل «أمريكا»، ولكن تقليد رواية ديكنز بهذه الطريقة يعتبر تناولًا هزليًّا لها، وهو شبيهٌ باستخدام جويس لملحمة هوميروس في رواية الأول «يوليسيس». وإن المرء لَيفتقدُ في رواية أمريكا ذلك المضمون العميق، الذي يميز أعمال كافكا الأخرى. ومن الواضح أن خياله لم يدعم تلك المجهودات التي بُذلت في القصة للسير بحياة أحد الشبان إلى نهاية سعيدة، بل كان خياله أقرب إليه حين كتب عن القلاع والمحاكم المخيفة، حيث يطوف «ك» بحثًا عن العدالة، حتى يكتشف في النهاية أن العدالة بقدر ما هي حتمية فإنها ليست بذات معنًى. وعلى المدى الطويل، لم تُفلح محاولات كافكا لسَبْر غَوْر حياتِه النفسية في أن تُنقذَه من مخاوفه التي دمرَت أعصابَه، ولا من شعوره بالاحتقار الذاتي، وداومَ على شجاره مع نفسه، وعلى خططه التي وضعها لعقاب هذه النفس، بل إنه فكر في الانتحار، قائلًا: «لقد حمل بلزاك عصًا مكتوبًا عليها هذا الشعار «إنني أحطِّم أي عقبة»، ولكن شعاري هو «كل عقبة تُحطِّمني».» وقد أثَّر تذبذبُه المستمر بين الكتابة وبين عملِه على صحته كثيرًا، فعانى من نوبات الصداع والأرق، حتى هاجمه أخيرًا مرضُ السُّل، واضطرَّه إلى قضاء عدة سنوات في المصحَّات. وقد اعتبر كافكا مرضَه ذا حتمية نفسية: «لقد تآمرَت نفسي مع رئتي من وراء ظهري.» ولم يتثبَّت من حاجته إلى الاستقلال بحياته إلا في عام ١٩٢٣، حين قابل «دورا دايمانت» — وهي فتاة نشأت في عائلة يهودية محافظة في بولندا — ووجد نفسَه في حالة صحية تسمح له بالانتقال معها إلى برلين. غير أن الوقت كان قد فات لتعويض ما فقده من سنوات المرض والشقاء. وفي يونيو ١٩٢٤، مات كافكا في أحد المستشفيات بالقرب من «فينا» بداء سلِّ الحنجرة، وكان عمره واحدًا وأربعين عامًا. ولم ينشر كافكا إبَّان حياته سوى بعض أعماله القصيرة، كما أنه لم يُكمل أيًّا من رواياته الثلاث إلى نهايتها. وقد كتب قبل وفاته إلى «ماكس برود» طالبًا منه إحراقَ جميعِ المخطوطات التي خلَّفها وراءه. ولحسن الحظ، أخذ هذا الصديق على عاتقه مسئوليةَ إغفال هذه الوصية الأخيرة اليائسة.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/12/
ألبير كامي رجل حميد
«تشارلز رولو» ناقدٌ وكاتب، تلقَّى تعليمَه في أكسفورد، وكان عضوًا بارزًا في هيئة الاستعلامات البريطانية إبَّان الحرب. وقد كتب «مهاجمو ونجيت»، وحرَّر «عالم إيفيلين وو»، وهو قارئ يتصف ذوقُه بالعالمية والتميز. *** ويكره كامي أن يدعوَه أحدٌ قوةً أخلاقية، فهو يمقت إبراز الذات، ويرفض أن يُعَد ضمن الواعظين، وقد قال مرة متأففًا، إنه لو حدث أن اغتُصبت جدته في حديقة عامة، لوجد الشخص الذي يدافع عن هذا باعتباره عملًا أخلاقيًّا. وقد أصبح كامي يمثِّل ضميرَ عصره في نظر معجبيه العديدين في أنحاء القارة الأوروبية، رغم ما يمكن أن تُثيرَ فيه هذه التسمية من الضيق. وفي خطبة جائزة نوبل، كرَّمت الأكاديمية السويدية، هذه الهيئة المحاذرة، كامي وهو الملحد جهرًا، ولم يقتصر سببُ تكريمها له على «إنتاجه الأدبي الهام»، بل أيضًا لتنويره «مشكلات الضمير في عصرنا الحاضر.» وقبل ذلك بسنوات، حين ظهر كتاب «المتمرد» لأول مرة في أوروبا، كتب سير هربرت ريد، يقول: «بنشر هذا الكتاب، بدأت تنزاح سحابةٌ أثقلَت كاهلَ العقل الأوروبي لأكثر من قرن.» ومن الدلائل الأخرى على أهمية كامي، أنه قد نُشرَت ستُّ دراسات نقدية على الأقل عن أعماله. ويمثِّل الكتابان اللذان نُشرا عنه بالإنجليزية — «فكر ألبير كامي وفنه» لتوماس حنا، و«ألبير كامي» لفيليب تودي — يمثِّلان عملَين تفسيرَين رائعَين، لا بد وأن يُساهما في تفهُّم أعمال كامي في هذه الناحية من الأطلنطي. وقد قال لي أحد الروائيِّين الأمريكيِّين حديثًا: «إذا كانت النية قد اتجهت لمنح جائزة نوبل لفرنسي، فلماذا لم تُعطَ «لمالرو» أو «لسارتر»؟ إني لا أستطيع تبيُّن العظمة التي تكمن في كامي.» وليس غريبًا أن بعضَ القرَّاء الأمريكيِّين يتشكَّكون في قَدْر كامي. فأول الأشياء العظيمة فيه استعماله للغة الفرنسية، وكثير من الكتَّاب يُفقدونها طلاوتها في الترجمة. ويُشكِّل نثر كامي صعوباتٍ جمةً أمام المترجم، بجمعه بين الصفاء والغنائية، وبعاطفيته المقيدة، وبالانعطافات اللمَّاحة للجمل، وأمثاله الجذابة، مما يجعل ترجمته أشبه بترجمة الشعر. وقد كانت «جوستين أوبرين» مخلصة للغاية (وأكثر من اللازم أحيانًا) في ترجمة الكلمات، وتركيب العبارات في الأصل، ولكن لم يسلم الأمر من ضياع مسحة من الرونق عند النقل إلى اللغة الأجنبية. ورغم أن جميع كتب كامي الهامة قد تم نشرها جميعًا بالإنجليزية، فإن ستة كُتُب نثرية ومسرحيَّتَين — أي نصف إنتاجه تقريبًا — لم تُترجم بعد، وكلها تكشف مظاهر هامة عن الإنسان وعن تفكيره لا نعرفها نحن. ولا يعرف الأمريكيون كامي حقَّ المعرفة إلا عن طريق رواياته، وأحيانًا ما يكون بالغ الإبهام في فنه الروائي. وقد فشل أحدُ النقاد الماهرين في أمريكا فشلًا تامًّا في فهم «الغريب»، حتى إنه حكم على كامي بأنه كاتبٌ غليظ الشعور من نوع «جيمس م. كين»، كما أن معظم النقاد يعترفون صراحةً أنهم يجدون كتابه «السقوط» شبيهًا باللغز. وسبب تلك المتاعب أن أعمال كامي الإبداعية لا يمكن استيعابها تمامًا دون التمكن من فكره الفلسفي. وقد عرض هذا الفكر في كتابَين نثريَّين؛ «أسطورة سيزيف» و«المتمرد» — وهما ليسا بواسعَي الانتشار بين الأمريكيِّين — وكذلك في بعض المقالات والافتتاحيات التي لم تُترجَم بعدُ إلى الإنجليزية. وقد تحسس كامي — الذي يعتبر نفسه فنانًا وليس فيلسوفًا — تحسَّس طريقَه إلى الفلسفة، مسترشدًا بالانفعالات التي تحكمه كفنان مبدع، ويؤكد «توماس حنا» — وهو على صواب — في دراسته عن كامي، أن «التشابك بين اهتماماته الفلسفية والأدبية هو سببُ ثراء وقيمة كتاباته إلى حدٍّ كبير.» ومثل كثير من كُتَّاب هذا القرن، تقبَّل كامي في ألمٍ صورةَ العالم بدون إله وبدون قِيَم لها ما يُبررها، وهو العالم كما خلَّفه لنا تقدُّم العلوم في القرن التاسع عشر. وقد زاد سخاء الطبيعة والمسرات المادية الثاقبة التي نشأ كامي وسطها، من إحساسه بعبثية الكون. وقد بدَت الشمس والبحر لكامي الشاب دعوة ملحة إلى السعادة، كما يخبرنا بنفسه في كتابَيه الأولين: «الظهر والوجه»، و«أفراح». فالأجساد العارية على الشاطئ، وحسية الرفقاء الشباب الصافية في المراقص، كلُّ ما يحوطه في الحقيقة كان يمجِّد الحياة المادية على أنها الحقيقة الوحيدة، ويُعلن قِصر أمدها في الوقت نفسه. وقد كتب في العشرينات من عمره، يقول: «إني أعلم أنْ لا سعادةَ هناك فوق المستوى البشري … إن العالم جميل، وليس هناك من سبيل للخلاص بعده … ولا يعني هذا أنه لا بد للإنسان أن يكون حيوانًا، ولكني لا أجد معنًى في سعادة الملائكة.» وقد رفض كامي — مخلصًا لهذه التجربة — أن يبحث عن أيِّ معنًى على أي مستوى فوق المستوى البشري. وقد أوجز طلبه في جملة واحدة معبِّرة: «إني أريد أن أعلم ما إذا كان في استطاعتي أن أعيشَ على ما أعرفه، على ما أعرفه فقط.» وإن ما يجعل مسلك كامي في هذا الطلب أصيلًا للغاية هو — كما قال «فيليب تودي» في فطنة — امتلاكه لإحساسات الرجل العادي وعقل المفكر. وفي إحساساته ولعٌ متميز بالآخرين، وفي عقله سورة شاذة غير طبيعية نحو الصفاء. وحين بلغ كامي أشدَّه، كانت روحُ عصرِه قد تحدَّرَت إلى براثن اليأس. وفي السنوات التي تلَت ذلك، عاش في «عدمية، وتضاد، في عنف ودمار طائش». لقد كان يشارك الشعور السائد، بأن الإنسان يحيا في منفى روحي وسط عالم عدائي، ولذلك وجد أنه من الضروري أن يخلقَ بيدَيه الأساسَ المنطقي الخاص به للأخلاق التي تجري في دمه. وقد قال: «إن من السهل على المرء أن يكون منطقيًّا، غير أنه من المستحيل عليه أن يكون منطقيًّا على طول الخط إلى النهاية.» وحين يتمسك كامي بالمنطق على طول الخط إلى النهاية، يصور — في أكثر أشكاله مغالاةً — استحالةَ تبرير القيم الأخلاقية. وعلى هذا الأساس من الشك المنهجي، شرع في إقامة مذهب إنساني خاص به، شبيه بالتقليد الإنساني القديم الذي ذهب. وكامي فنان يشوب رواياتِه ومسرحياتِه عنصرٌ شخصيٌّ قوي، رغم أنه مشتبك في مشكلات عصره المحيِّرة. وقد حذَّرنا من التعرف عليه في شخصيات أبطاله، أو اعتبار مُحاجاتهم نصًّا حرفيًّا لأفكاره، وقد كتب في مقال نُشر في مجلة «أطلانطيك»: «إني لستُ رسامًا للعبث … لم أفعل سوى أن عكستُ فكرةً وجدتُها ذائعةً في الطرقات. أما إنني قد ساندتُ هذه الفكرة كبقية الجيل الذي عشتُ فيه، فهذا شيء طبيعي، غير أنني قد احتفظتُ بنفسي على بُعدٍ من هذا الموضوع حتى يكون في إمكاني معالجته وتقرير منطقيته … غالبًا ما يحدث أن يتتبع الإنسان تاريخ أشواقه وتجاربه، ولكنه لا يتتبَّع تاريخ حياته الذاتية على الإطلاق.» ويمدُّنا كامي هنا بمفتاح هام لتفهُّم أعماله، ويمكن وصفُ طريقته كفنان بالطريقة التجريبية، مَثَلُه في ذلك مثَلُ «أندريه جيد»، فهو يتناول فكرةً ما (تمثِّل عنده عنصرًا من الشوق أو التجربة) ويسيرُ بها — عن طريق الرواية أو المسرحية — إلى نهايتها المنطقية، ويترك للقارئ الحكمَ عليها بما تجرُّه من نتائج، وهكذا يستبين في خلق كامي الأدبي كله نمطٌ استكشافيٌّ وتطوريٌّ محدد. ويمكن تصوير هذه الفكرة على أحسن الحالات بتقديم تاريخ حياته مع تقدُّمه الفني. وهناك صفةٌ موروثة أخرى ظاهرة في شباب كامي، وهي حماسُه لكرة القدم، وهي الرياضة التي مارسها كثيرًا من السنين، وظل يتردد على مباريات الكرة في أيام الآحاد، وهو يعتقد أن قوانين الرياضي الجيد دروسٌ طيبة في دماثة الخُلق. وقد قال مرة: «إني لم أتعلَّم دروسَ الأخلاق إلا في ميدان اللعب.» وقد رفض كامي كذلك أن يقبل الاستنتاج العدمي الذي يُنادي بأنه لمَّا كان العالم لا عقلانيًّا، تكون اللاعقلانية هي المبدأ المنطقي الوحيد للسلوك، وهذا هو موضوع مسرحيته كاليجولا، فحين يكتشف الإمبراطور أن العالم عبث، يتصور أن بإمكانه تغييره إلى الأفضل بأن يُصبح داعيةً للعبثية المطلقة، ويبدأ في حكمه الهوائي المرعب وأخلاقياته الهدامة، يكافئ المجرمين والمفسدين ويعاقب الأبرياء. وما يعطي المسرحية توتُّرها المثير للقلق أن كاليجولا — بوسائله المخيفة هذه — يُوقظ حقيقةَ عبثيةِ الحياة في صدر أتباعه. ولم يتمكن كامي في هذه المرحلة من أعماله أن يُثيرَ أيَّ قِيَم يمكن إدانة كاليجولا بها. وعلى الرغم من ذلك، يُطيح بكاليجولا تمرُّدٌ جاء نتيجة الإقرار الغريزي بأن سلوكه قد «فاق» عبثيةَ الحياة. وفي كلٍّ من «كاليجولا» و«سوء تفاهم»: أكثر أعمال كامي كآبةً، تسود روحٌ من التمرد ضد مظاهر عبثية العالم. وفي «الغريب» يتوجه التمرد ضد المقاييس التي أقامها الإنسان للأخلاقية المطلقة. وقد كُتبت هذه الرواية القصيرة بأسلوب يبدو فيه أثر «همنجواي» في أول كتاباته، فكل جملة مفردة تشكِّل كلًّا مطويًّا في نفسه، ونتيجته تصوير الحياة كإحساسات متتابعة لا معنى وراءها، وهدف كامي من ذلك هو استيلاء «شعور» بالعبثية في نفوسنا، فما من شيء يقدِّم تقريرًا له. وبطل الغريب — ميرسو — موظف بأحد المكاتب الجزائرية، وهو رجل لا يكترث بأيِّ شيء على الإطلاق سوى إحساساته المادية الفورية، فالعبثية في دمه دون أن يشعر بها، ولا يشكل موت أمه، أو تقديم علاوة له، أو حب الفتاة التي برفقته، لا يشكِّل ذلك «أيَّ اهتمام» بالنسبة له. ومع الوقت يُساق إلى موقف يَقتل فيه — وقد بهر عينَيه توهُّجُ ضوءِ الشمس — أحدَ العرب الذي بدَا كأنما يُهدِّده بمُدْيتِه. ويؤكد محاميه إمكانَ حصوله على حكمٍ بالبراءة لو قبل أن يُدلِّل بحالة الدفاع عن النفس، ويعبِّر عن الإحساسات المناسبة في هذه الحالة. ولكن ميرسو يعجز عن التظاهر بإحساسات لا يشعر بها حقًّا. وقد أظهرَته صراحتُه التامة أثناء المحاكمة بمظهر الوحش، فحُكم عليه بالموت على المقصلة. ويؤدي به الاقتراب من الموت إلى شعوره بما سبق أن آمن به دون دليل: الحياة لا معنى لها. وبعد أن «يخلو من كل أمل» يتحقق أنه كان سعيدًا، وأنه «ما زال سعيدًا.» وميرسو شخصية بعيدة عن الواقع، ويصبح أحيانًا شخصية لا تُطاق، ولكن الرقة الساخرة التي صوَّره بها كامي بدقة تكسَب عطفنا. وهي قطعة قصصية ممتازة، لكلِّ تفصيلٍ تأثيرٌ فيها. و«الغريب» تسخر من العقيدة القائلة بأنه يمكن الحكم على السلوك الإنساني تبعًا لمقاييس أخلاقية ثابتة، وليس قتل العربي هو ما يدين «ميرسو»، ولكنه اتُّهم لأنه كان غريبًا على المطلَقات الأخلاقية التي تؤمن بها المحكمة، وهذا دليل يؤدي إلى اتهام بني الإنسان جميعًا. وتُشبِّه أسطورة سيزيف مصير الإنسان بمصير بطل الأسطورة، الذي حُكم عليه بأن يدفع إلى الأبد حجرًا هائلًا إلى أعلى الجبل، مع يقينه بأنه سيتدحرج ثانيةً إلى أسفل. وقد أعلن كامي في بداية الكتاب أنه «لا توجد إلا مشكلة فلسفية جادة واحدة، وهي الانتحار.» ويجد الجواب على هذه المشكلة في موقف سيزيف الذي يواجه حالته دون خداع للنفس، ولكن دون يأس، ويتغلَّب على العبثية عن طريق التحدي المتمرد الذي يجلب معه الألم والحرية. وينتهي المقال بأن «الكفاح نحو الذُّرَى كفيلٌ بأن يملأ قلب الإنسان. ولا بد أن يتصور المرء سيزيف سعيدًا بذلك.» ومعالجة كامي لهذه الأسطورة هي صورة مبدئية لمذهب التمرُّد الميتافيزيقي المتأصل في روح الإنسان العادي، الذي يقوِّي نفسَه في وجه مصيره دائمًا وفي كل مكان، بعلاج «لا يتناوله المريضُ وهو راقد». وقد قال كامي في مقدمة الطبعة الأمريكية من «سيزيف»، والتي لم تظهر إلا عام ١٩٥٥: «هذا الكتاب، الذي وُضع عام ١٩٤٠، أثناء الكارثة الفرنسية والأوروبية، يُعلن أنه في الإمكان التقدم إلى ما وراء العدمية، حتى في نطاق إبعاد العدمية الخاصة.» وكانت الخطيئة الكبرى عند كامي دائمًا هي اليأس، وقد بحث هذه النقطة في «خطابات إلى صديق ألماني»، وهي خطابات موجهة إلى صديق ألماني متخيَّل، نُشرَت أصلًا عن طريق المطبعة السرية، وتعرض وجهة النظر التي غذَّتها تجاريب كامي في المقاومة أن بني الإنسان بتمرُّدهم على الظلم يُثبتون أن هناك قيمةً ما تجمعهم معًا، ويقيمون بهذا «التضامن» الإنساني، وقد تحولت هذه النظرة إلى عمل درامي في «الطاعون». ومع ذلك يعترف ريو أنه في صفٍّ واحد مع القس، صف «الضحايا»، وقد قال كامي إن أكثر ما يشغل باله هو: كيف يسلك الإنسان في حياته؟ ويتضح جوابه عن هذا السؤال — هذا الجواب الذي سيبقى كما هو فيما بعد — في رواية الطاعون: إننا لا يمكننا التأكد من فعلنا للخير، ولكن نستطيع أن نكون على حذر دائمًا ألَّا نفعلَ شيئًا يزيد في المعاناة، ويتضمن هذا أيضًا التسامح مع أيِّ شيء سوى المعاناة نفسها. وتتسم رواية الطاعون بمزاج لا بطولي؛ «فريو» و«تارو» — حين يعرِّضان نفسَيهما لمخاطر جريئة — ليسَا سوى «منطقيَّين»، فقد أدركا أن مقاومة التعذيب الاقتصاصي هو مهمةُ كلِّ شخص. والرجل الذي يُشار إليه في أحد أجزاء القصة على أنه بطل الرواية هو موظف صغير بالبلدية يسجل إحصائيات الوباء، ويُمضي وقتَ فراغه بلا انقطاع في كتابة الجملة الأولى لرواية يؤلِّفها. ومن خلال هذه الشخصية البلهاء إلى حدٍّ ما (واسمه «العظيم»، وهذه إحدى الأشياء الساخرة الإيحائية التي يحفل بها هذا العمل الفني)، يعبِّر كامي عن حبِّه واحترامه للإنسان العادي، الذي لا يضرُّ أحدًا بشذوذه، والذي يجعل منه إخلاصه في العمل سيزيف آخر صامتًا، لا يسمع به أحد. ومن الواضح أن «الطاعون» يحمل رسالةً ما، مما لا يساعد على احتسابها رائعةً فنية، ولكن من المؤكد أنها واحدةٌ من أهم أجود ست روايات نُشرت منذ الحرب العالمية الثانية، وقد جاءت كتابتُها رشيقة حية، ونغماتها القصصية مستحوذة على الانتباه، وهي مزجٌ فريد بين عواطف الفضول والانفعالات والتحكُّم الساخر. وتنتقل توجيهات الرواية الأخلاقية من خلال بلاغة رصينة. وسبق كتاب «المتمرد» مسرحية مقتبسة من «الطاعون» بعنوان «حالة حصار»، ومسرحية أخرى هي «العادلون». ويعتبر كتاب المتمرد تبيان كامي الكامل لمذهب التمرد الميتافيزيقي وتطبيقاته في السياسة والفن، وكان قد خلَّف وراءه مرحلة التمرد العقيم — المنعزل إلى حد ما — لدى سيزيف، إلى إثبات أنه عن طريق التمرد «في وجه الطغيان أو مجرد القدر»، يخرج الإنسان من عزلته الروحية، ويَصِل إلى الإحساس بالوحدة والمعنى، هذا الإحساس الذي تُنكره عبثية العالم عليه. ويستنتج كامي من هذا أن الإنسان بطبيعته «حيوان متمرد»: «المخلوق الوحيد الذي يرفض أن يكون على ما هو عليه»، وهذا التمرد الميتافيزيقي متجانس مع الحرية والإبداعية، وأن أعلى مثل على المتمرد الميتافيزيقي هو الفنان الخلَّاق، فهو مشغول دائمًا بمواجهة العبثية — والعالم هو مادته الخام التي يصوغها — وبالتمرد على هذه العبثية، عن طريق فرض الشكل الفني المنظم. وقد شرع كامي عن طريق تحليله السياسي إلى البحث عن السبب، الذي أدى بالتمردات التي حدثت في مدى قرن من الزمان، إلى خلق أنواع من الطغيان وتبريرات للطغيان أشد ضراوةً من الشرور الأصلية التي قام التمرد لمحاربتها. وكان من تفسيرات كامي لذلك الموقف أن «هيجل» وغيره من دعاة المثالية المطلقة حوَّلوا روح التمرد إلى عكسها، إلى روح الثورة. والتمرد هو الاحتجاج ضد القوة المطلقة، وغايته المعتدلة هي التقليل من مقدار المعاناة. أما الثورة فتسعى في طلب القوة المطلقة، وهي تُطالب بالحرية المطلقة في إنزال المعاناة والشقاء حتى تتمكن من الوصول إلى غاياتها المتطرفة. وتتطلب روحُ التمرد أن يحتفظ كلُّ إنسان بحريته في التمرد، ولن تُحلل تلك الروح مظاهرَ العنف في أي ظرف من الظروف. وإذا اضطر المتمرد إلى القتل فيجب عليه — حتى لو كان مَن قتله طاغية — أن يرضى بالموت حتى يُقيمَ البرهان على أن القتل واحد من الحدود، التي لا يمكن تجاوزها سوى مرة واحدة. ويتردد في المقال صدى الاعتقاد بأن الإنسان لا يمكن أن يحيَا على مجردات مستخلَصة من التأمل في التاريخ؛ فالنظريات تعمل على الإفساد، والنظريات المطلقة تعمل على الإفساد أيضًا، وليس التاريخ الذي يُسكر الناس بالأحلام هو المبحث الصحيح للإنسان، بل هي الطبيعة التي تُعيد إليهم اتزانهم، بتنبيههم إلى الحدود التي يقفون عندها. وما أمراض عالم اليوم السياسية إلا النتيجة المنطقية لطوبية يائسة، تجد الأخطاء تسود الدنيا بطريقة مخيفة، حتى إنها تجفل — لا عن خوف — عن أي محاولة لتغييرها، وتعمَى عن حقيقة أنه لا يوجد أيُّ شيء يستطيع تحويل العالم إلى جنة أرضية. ولمَّا كان كتاب المتمرد يقف بشدة ضد روح الاستسلام، وتتشبع سطورُه بروح التمرد، فإنه يُعد بمثابة تصريح فريد مثير لفلسفة الاعتدال. وبعد فترة من نشر «المتمرد»، حدثَت جفوة بين سارتر وكامي، وكانَا قد أصبحَا صديقَين خلال الحرب، فعلى الرغم من أن سارتر كان يؤكد اختلافه عن الشيوعيِّين، فقد وقف فترة من الزمن في صفٍّ موازٍ لهم في كثير من القضايا، ومنها الفكرة التي تقول بإجرامية توجيه النقد إلى روسيا، وقد نشرت صحيفة «الأزمنة» هجومًا على كتاب المتمرد، كتبه تلميذٌ من حَواريي سارتر، وقد أيَّده سارتر في ذلك فيما بعد، وقد قالا عن كامي إنه هروبي، لا يستطيع المجازفة بتلويث طهارته بالاتصال بالتاريخ، واتهماه بمساعدة الرجعيِّين والعمل في سبيل راحتهم. وقد أجاب كامي على ذلك بأن الوجوديِّين يدَّعون أنهم يمجدون الحرية، وهم «اليوم يمجدون العبودية … «قائلين» إن الشيئَين واحد، وهذا غير صحيح.» وكان يُضيف على ذلك لأصفيائه: «لقد كانوا يبدون لي دائمًا مثل كوكب المريخ.» وكانت الجفوة بين كامي وسارتر عنيفة ومريرة، وهما لا يتقابلان الآن على الإطلاق. وكتابه الأخير، «المنفى والمملكة»، مجموعة من ست قصص تتنوع تنوُّعًا مدهشًا في أسلوبها وموضوعاتها، ولكن يربط بينها منهجٌ عام؛ فجميعها يهتم بطريقةٍ ما بإحساس الإنسان بالنفي والحنين إلى الوحدة. وقصة «المارق» تعبِّر عن عبادة القوة، التي تجعل الإنسان يتحول ناحية الفلسفات العدمية، وقد قدَّمها المؤلف على شكل مونولوج مرعب لرجل يموت، وهو واحد من المبشرين ممن يعبدون القوة، خرج في سبيل هداية بعض البرابرة المتوحشين، ثم أصبح العبد الذليل لصنمهم بعد أن استعذب العذاب الذي كان ينزل به باسم هذا الصنم. وتعكس قصة «الضيف» إحساساتِ كامي تجاه المشكلة الجزائرية، وفيها يحاول أحد المدرسين الذين يمثِّلون المظهر المتمدين الإنساني للإدارة الفرنسية — وهو يحب الجزائر ويشعر بانتمائه إليها — يحاول بلا فائدة إنقاذ أحد العرب من الوقوع في أيدي الشرطة، ولكن يؤدي الجو السائد إلى إساءة فهم محاولته هذه، حتى إن رفاق العربي يُعلنون عزمهم على الانتقام منه. وتسجل قصة «فنان يعمل» بطريقة مسلية عمليةَ الإفساد التدريجي لرسام كرَّس نفسَه لمهنته، بعد أن هاجمه التطفل والتشتت الذي يصاحب النجاح عادة، وترمي إلى تبيان أنه عن طريق العزلة يصل الفنان إلى التضامن مع عصره الذي يعيش فيه، ويعتبر هذا الرأي بمثابة لطمة على إصرار «سارتر» على فكرة «الالتزام». ويعيش كامي الآن في باريس، في إحدى الشقق بالقرب من حدائق لكسمبرج. وهو يكتب في الصباح إما واقفًا إلى جانب مكتب، أو مستلقيًا، ويعمل بعد الظهيرة عند جاليمار كمحرر لسلسلة كتب تقدِّم الكتَّاب الناشئين، وهو متزوج «من عازفة بيانو»، وله توءمان فتًى وفتاة. وكامي — مثل فوكنر — يكره التطفل على خلوته، ويرفض أن يعاملَه أحدٌ كمشاهير الناس، أو أن يلعبَ الدور الاجتماعي المتوقع من قائد فكري في باريس. ويقول عن باريس إنها مكانٌ غير طيب بالنسبة للفنان؛ لأنها خشبة مسرح تفرض عليه أن يتكلَّف وضعًا معينًا، ومع أن الباحثين عن المشاهير والفضوليِّين لا يتمكنون من الوصول إلى كامي، فإنه يرحب بالزوار القادمين من الجزائر، ويفتح بابَه للطلبة. وهو رجل متوسط الطول، نحيف، أسمر، عضلي، يمتلك حيوية حادة مكبوحة، وهذا يُعطيه مظهرًا خارجيًّا يتسم بالهدوء، وهو قادر على أن يظل صامتًا وسط مجموعة من الناس مدةً طويلة، كما يستطيع أن يملأ غرفة مزدحمة بالناس بمرحه وسحره، ويعطيه معطفَه العسكري المتهدل دومًا، وسيجارته المتدلية من ركنِ فمه مَظهرًا بروليتاريًّا مما يتمشَّى مع مشاركاته الوجدانية. وكانت الحادثة التي أثَّرَت أكثر ما أثَّرَت في كامي منذ الحرب هي التمرُّد المجري؛ فقد «أطاح بأكبر أكذوبة في القرن، ونثرها في الرياح»، وستكون هذه الحادثة النقطة الختامية في الرواية التي بدأ كتابتها، وتحكي قصة أحد الأشخاص، وقد اختار لها عنوانًا مبدئيًّا «الإنسان الأول»، ويستبين منها آمالٌ كبار، وعلى الرغم من صِغَر سنِّ كامي النسبي، فقد توصَّل إلى بعض المآثر الحسنة كفنان، أما بالنسبة إلى كونه مفكرًا، فقد قطع شوطًا بعيدًا في هذا الميدان. وقد صارع كامي العدمية طويلًا بضراوة، ولا يمكن اتهامه بالتفاؤل الطَّيِّع حين يقول: «هناك في الإنسان أشياء تدعو للإعجاب أكثر مما تدعو للاحتقار»، أو حين يتحدث عن الأمل في «نهضة» أوروبية، أو حين يُعلن: «في وسط الشتاء، اكتشفتُ أن هناك صيفًا لا يُقهر في نفسي.» لقد عثر ألبير كامي على صوته الحقيقي.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/13/
هنري ميلر
إن كانت منزلة هنري ميلر في مجتمعنا الأدبي لمَّا تزل موضع نقاش، فإن ذلك قد يرجع إلى أنه من ذلك النوع من الكتَّاب الذين يُثيرون أقصى حدٍّ من النقد مع كلِّ صحيفة يُضيفونها إلى مجموع أعمالهم. وعلى هذا فمن السهل تقديرُه بأكثر من قيمته الحقيقية، ومن السهل أيضًا التقليل من قيمته الفعلية، بل وتجاهله كليةً. ولك أن تتصور وضْعَه الحالي الذي يقف فيه؛ فالمتعالون من النقَّاد، ما عدا قلة منهم، تربَّوا في مدرسة ت. س. إليوت ذات النظريات الجمالية اللاشخصانية، يميلون إلى إهمال شأنه، فنغمته الساحرة، وطقوسه الشائنة، وخشونته الدارجة، واحتقاره للقوانين المرعية، كل ذلك يجعله مثلًا سيئًا بالنسبة لهم، ومن الناحية الأخرى، يجاهد معجبوه في مدحه ويُغرقون في ذلك حتى ليساور المرءَ الريبُ أنهم على وشك أن يقدِّسوه، وهم يتحاشَون الضرورة التي تدعوهم إلى التفرقة بين فنِّ استغلال الشخصية الداخلية للفنان، والفن الذي يستغل المادة الخارجية من أي مصدر كانت من أجل أغراض الخلق الفني. ومثل هذه التفرقة ضرورية جدًّا في حالة هنري ميلر، فعمله شخصي المضمون إلى حدٍّ واضح، حتى إن القارئ ليميل في لحظات الغيظ الشديد إلى اعتباره مجردَ تهويمات ذاتية. ولقد أعلن ميلر مرارًا وتكرارًا أن اهتمامه لا ينصبُّ على الكتابة بمعناها المعروف، ولكن على رواية قصة حياته التي لا ينفد مَعينُها، تلك القصة التي تمتدُّ لتضمَّ بين جوانحها أخبارًا كاملة عن آرائه وخطراته الفلسفية وإلهاماته وتوقعاته وتهريجاته. وكثيرًا ما ينساق ميلر وراء ذلك الإعلاء الذاتي الذي تميل إليه الشخصية البوهيمية عادة. وهو في أحسن أحواله إنما يكتب على مستوى من التعبيرية الحقة، ويُنتج نوعًا من الشعر خالصًا، يحمل طابعَ البهجة والوحشية في الوقت نفسه. ومن سوء الحظ أن ميلر منذ أنهى حياة تطوافه وعاد إلى موطنه الأصلي قد أطلق العنان، فبالغ في إطلاقه لأشد ميوله سوءًا، وهو الميل الذي يدفعه إلى انتحال شخصية الفيلسوف في الاحتفالات والتجوالات التي تُقيمها الفِرَق الطليعية في كاليفورنيا. رحل ميلر إلى اليونان ليطهِّر نفسه من أدران اتصاله الطويل الأمد بالفرنسيين، وليُحسن من آماله في إحراز تجديد روحي، وقد كتب يقول: «لقد وصلت إلى التناسق الذي أبغيه آخر الأمر في بلاد اليونان، فهناك تضاءلتُ وتطهرتُ، وعدتُ إلى التناسب الإنساني السليم، وأصبحت على استعداد لتقبُّل نصيبي والإعطاء من مجموع ما أخذته. ولقد مررت بميلاد جديد حقيقي بينما كنت أقف عند قبر أجاممنون.» ويتحدث ميلر عن اليونانيِّين باعتبارهم أناسًا «لا هدف لهم، فوضويِّين، آدميِّين عقلًا وروحًا وبطريقة متنافرة»، وهو بهذا إنما يطابق بينهم وبين قِيَمِه الخاصة. ورغم أنه يعترف بأنه لم يقرأ حرفًا من «هومر»، فهو يعتقد أن اليونانيِّين لم يتغيروا منذ تلك الأزمان السحيقة تغيُّرًا جوهريًّا. أما كتابات ميلر التي يستبين فيها استعداده الفائق لتسطير النثر الوصفي، فهي تلك المقالات التي وضعها عن زياراته لميسيناي وكنوسوس وفايستوس، وغيرها من المواطن الأثرية. وبعض فقرات هذه التقارير مثالٌ طيب على جرأته الخطابية. ووسيلته الطبيعية للكتابة هي المبالغة في القول، لكنه يمتلك إحساسًا حيويًّا يمكِّنه من الإشارة إلى موضوعات ورموز محددة، وهذا يسمح له بدوره بالحصول على قدرٍ من التحكم في لغته المتعاظمة، وهو يُدمن بصفة خاصة استخدامَ الاصطلاحات والصور التي يستعيرها من العلم، خصوصًا علم البيلوجي (الأحياء) وعلم الفلك، وهناك طريقة له لا تتغير، وهي أن يوزِّع هذه الاستعارات من الناحية الأسلوبية بطريقة تُوحي بخلق تأثير من عدم التناسب والفزع، وهي حيلة يعبِّر من خلالها تمامًا عن وَجَلِه من العلم ومن آثار العلم جميعًا؛ فميلر ينتمي إلى اتحاد كارهي التقدم ومحطِّمي الآلات في الأدب المعاصر، ورغم أنه يفتقد إلى الدافع الذي يجعله يدين بالولاء للتقليد، فمن المشكوك فيه أيضًا أن يرضى به رفاقُه المفكرون زميلًا لهم في جماعتهم، وبالإضافة إلى ذلك، فقد استسلم ميلر مؤخرًا لميوله الغيبية وانقادَ لها انقيادًا، وغيبيَّاته هي من نوع جامع مانع، لا تعرف حدودًا ولا تُقيم شبهات، وجريًا على ذلك، فهناك فصل غريب في كتاب «عملاق ماروسي» يَصِف فيه المؤلف مقابلةً له مع عرَّاف أرمني في أثينا، ويصادق ميلر على دعواه بأنه لن يموت أبدًا، وأنه مكتوبٌ عليه أن يقوم برسالات ذات طبيعة دينية «ستعود عظيمة على العالم». ويمكن لنا أن نحمل هذه النبوءة على محمل قطعة خيالية من قطع جنون العظمة، أو على أنها من الأماني الطبيعية التي يمر بها كلُّ إنسان. وكان كلُّ اتصال يُجريه الراوي في هذه الروايات التي سبق ذكرها بموضوعات ثقافية لا يعمل إلا على اشتداد الدوافع الفوضوية عنده، ولا يُعَد لديه بعد ذلك أيُّ ملجأ من العالم الخارجي، بل تنمحي عند ذلك أيضًا فكرةُ البيت، وهو المكان الوحيد الذي يمكن للمرء أن يقول عنه صدقًا بأنه مِلكه، فهو لا يضمُّ ممتلكاتِه فحسب، بل هو يحوي إنسانيتَه كلَّها. ولا يبقى بعد ذلك من شيء سوى تهويمات العودة إلى رحم الأم، وهي تهويمات تملك الزمام إلى درجة تؤدي إلى ظهور صور منمقة ضرب بأطنابها من فكرة الرحم هذه، وكذلك إلى انبعاث عديد من التوريات والنكات والاسترحامات. وأحسنُ ما يكتب ميلر يكمن في النثر ذي الحيوية والرنين، بالأوصاف التي يصف بها حياتَه البروليتارية الثقيلة في الطرقات، تلك الطرقات التي تعمل سلسلةً لا تنتهي من الظواهر المتحللة الشاردة فيها على إضفاء لمعة من لمعات الحلم والأسطورة على تجوالاته بحثًا عن امرأة أو استهدافًا لدعوة على الغداء، وهو يرى من كلِّ نافذة من نوافذ البحر «جنية البحر وهي تتلوى بين ذراعَي المجنون»، ويتنسم في كل مكان عبيرَ الحب «وهو ينبثق متدفقًا مثل تدفق الغاز» خارج المسارب الرئيسية «الحب الذي يخلو من النوع ومن المطهرات، الحب الذي يحتضن كلَّ شيء بين دفَّتَيه كما تفعل الحيوانات عند الأشجار.» ويعالج ميلر في هذه الروايات موضوعَي الطعام والجنس معالجةً منهجية تتصف بدقة الأمر الواقع، وبإحساس قوي متفجر للحاجات الأساسية، حتى إنهما يفقدان معنيَيهما الحقيقيَّين لدى الكثيرين منَّا، فميلر يبعث موضوعَي الطعام والجنس فيجعل منهما عواطف بطولية، بل إنه يضرب عليهما بستار التعميم فيجعل منهما مبادئ وأسسًا، فالإنسان الشريد الطريد لا ينظر إلا إلى الأشياء التي يفتقدها أكثر من غيرها، فحالته تلك تجعل منه فوضويًّا بالفطرة، يعتبر شاذًّا كل التقاليد والقوانين الأخلاقية أو أي محاولة لضبط عملية التجربة وفقًا لإحدى القيم، إن المشكلة بكل بساطة هي البقاء على قيد الحياة، وكل الوسائل مباحة للوصول إلى تلك الغاية، ويتحول الإنسان إلى شخص أحمق، يكمن خفيةً في الدهاليز والحانات وغُرَف الفنادق، أملًا في أن يضرب الحظُّ ضربتَه فيُنيل المرء ما يبتغيه ويسعى وراءه. وهو يخطف الحلوى من الأطفال ويسرق المال من البغايا، أما فيما يتعلق بالحصول على عمل مستقر، فهو يستطيع دائمًا أن «يسلي، وينمي، ويعلم»، ولكنه لن يقبلَه الآخرون بطريقة أصيلة أبدًا … وكل شيء يعمل على إبقائي بعيدًا، واعتباري طريدًا شريدًا. وتملؤه حقيقةُ أن العالم في حالة من حالات الانهيار، بشعور من الرضا عميق: «إن الانهيار المجيد للعالم يُبهرني» ذلك لأن الحطام الذي يتطاير في كل الأنحاء يُبرر ما حدث له بصفة شخصية ويدعمه، وهو يُحرز اتساقه الشخصي عن طريق قبول الانهيار كنوع من الاستعراض الرؤيوي، يمكن للفنان الذي رفضه المجتمع والذي يسعى إلى إحياء الغرائز البدائية السديمية أن يُحقِّق عن طريقه بعثًا للأحلام والأساطير، التي يجاهد ضيقو الأفق لكي يقمعوها من النفوس. ولا فائدة من التدخل لوقف هذا التيار أو لمحاولة تفادي الكارثة. وكل ما بوسع المرء أن يعملَه هو أن يرتدَّ إلى مصيره الذاتي المحض. ويُعلن ميلر: «العالَم على ما هو عليه، وأنا على ما أنا عليه، إنني أُعرِّض نفسي للعناصر المدمرة التي تحوطني، وأَدَع كلَّ شيء يُثير الدمار بي. إنني أنحني وأتطاول لأتجسس على العمليات الخفية، وذلك لكي أُطيعَ وليس لأُصدر الأوامر»، وهو يقول أيضًا: «إنني لا أدافع ولا أهاجم، إنني على الحياد … ولو كان الشيء الجوهري هو أن أحيا، فلسوف أحيا، حتى لو أصبحتُ من أكلة لحوم البشر.» والفنان لا يصبح حرًّا في أن يبنيَ أشكالًا موضوعية حتى ولو عاش في مجاله المناسب الخاص به، فلا بد له أن يهجر «المعيار الأدبي الذهبي»، وأن يُكرِّس نفسه لخلق أعمال بيوجرافية — وثائق إنسانية أكثر منها «أدبًا» — ويصور الإنسان في قبضة الهذيان. وأعمال ميلر تتفق مع نظرياته، فرواياته في الحقيقة تُذيب أشكال الكتابة وأنواعَها في تيار من الإنذارات، والقصص، والنقد التاريخي العالمي، والشعر النثري، والفلسفة الفورية، وكل هذا يتعرض لضغط وحصر التعبير الذاتي تحت كل التكاليف، فالحقيقة الخارجية تُكدر صفو ذاته أيما تكدير، وهي المضطربة العاجزة أصلًا، فينقلب عاجزًا عن تقديم التضحية المستمرة للشخصية التي تتطلَّبها عملية الخلق، ولا يستطيع بعدُ أن يتحمل التعبير عن نفسه ضمنيًّا عن طريق العمل الفني ككل، بل يتعين عليه في ذات الوقت أن يخترق حجبَ كلِّ جزء منفصل من أجزائه وكل دقيقة من دقائق تفصيلاته ويستوعبها. ويظهر كما لو أن هذا الكاتب يقول: «لو أن كلَّ شيءٍ قد خيَّب آمالي، فهذا الكتاب على أقل تقدير كتابي الخاص، ففيه قد خلقتُ كلَّ شيءٍ على صورتي، إنني أمثل فيه إلهًا.» وإني لأميل إلى الاعتقاد أن هذا هو معنى الجمالية «البيوجرافية» التي مارسها ميلر ودعا إليها في الوقت نفسه في أول أعماله، والتي يُمارسها عددٌ متزايد من الكُتَّاب رغم أنهم لا يعترفون بها برنامجًا منهجيًّا، وهم لا يمارسونها لأسباب شخصية كما يفعل ميلر ولا حتى يصلون إلى النتائج نفسها التي يصل إليها، بل لأن غربة الإنسان المتزايدة في المجتمع الحديث ترمي بهم إلى اتجاهات نرجسية، وتدفعهم إلى تحمُّل أعباء ذلك العمل الذي يُرسل بهم أيدي سبأ، فهم يقومون بامتلاك العالم الذي يزخر الآن بالمجردات والإغماضات من خلال واسطة النفس، والنفس وحدها، وشعارهم هو: «كن نفسك» وليس «اعرف نفسك». ولقد كان «توماس وولف» واحدًا من هذا النوع من الكُتَّاب، ولقد أثبتَت أعمالُه حقيقةَ أنه كان يفتقد الوعي الكافي المطلوب منه لكي يفهم محنته، ومن الناحية الأخرى، كان ميلر واعيًا كلَّ الوعي بموقفه، وذلك حينما بدأ يخطُّ أولى رواياته، وبدلًا من أن يحاول أن يستعيد الصلة المفقودة بينه وبين العالم، فهو يتقبَّل حالة غربته على أنها مصيره المحدد الذي لا يتحول، وبهذا العمل تمكَّن من أن يحقق بعض الاتفاق مع هذا المصير. ومن المستطاع إسقاط ادِّعاءات ميلر بأنه مرشد للحياة والأدب أو نبيٌّ للقدر، رغم كلِّ ما يتذكره المرء من مقال كتبه عن بروست وجويس بعنوان: «عالم الموت». وهذا المقال قطعة نقدية ملهمة حقًّا، ورغم ذلك، فهو يُبدي في رواياته الثلاث تميُّزًا ملحوظًا في الترجمة للمفكر الهائم على وجهه، وفي التغنِّي بأناس الطبقات التحتية من المجتمع، الذين أثارَت فيهم بعض الصلات الخفية غير المرئية بالفن والأدب عداوةً دفينة للنمط العادي للحياة، وعزمًا على الهروب من عجلة النصيب، والسعي حتى ولو كان الثمن هو الجوع والاحتقار. ولقد قام ميلر بنوع جديد من الانتقاء حينما بدأ يعالج هذا الموضوع. وهناك عِرْق من ديكنز أيضًا في رواياته، يظهر في الصور الهزلية التي تطفو على السطح مرة ومرة، مثل المونولوجات الثائرة الفكهة للصحفيَّين «كارل» و«فان نوردن» في رواية «مدار السرطان». والحقيقة أن نباحه يفوق عضته سوءًا، وهو يضرب بسهم في اتجاهات الرجل المتوحش، ولكن ما يفتقده حقًّا هو منطق أبطالِه الأوروبيِّين المميت وصفاؤه.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/14/
مقابلة مع الروائي الكولومبي جابرييل جرسيه ماركيز
في ٢١ أكتوبر ١٩٨٢، منحَت الأكاديمية السويدية جائزةَ نوبل للآداب لعام ١٩٨٢ للكاتب الكولومبي جابرييل جرسيه ماركيز، وقالت في أسباب منْحها له إن ذلك «من أجل رواياته وقصصه القصيرة التي يجمع فيها بين العنصر الوهمي والواقعي، في عالم من الخيال المركَّب الثري الذي يعكس حياةَ قارة وصراعاتِها»، وقال أعضاء الأكاديمية إن رواياته تُذكرهم بأعمال فوكنر وبلزاك العظيمة. وقد وُلد ماركيز في بلدة «أراكاتاكا» في شمال كولومبيا في مارس ١٩٢٨، ودرس الحقوق، وعَمِل كاتبًا ومراسلًا صحفيًّا في عدة صحف إقليمية قبل أن يتفرغ تمامًا للكتابة الروائية والقصصية، متنقلًا بين المكسيك وإسبانيا وفرنسا. ظهرت أولى قصصه القصيرة عام ١٩٥٥، ولكن شهرته لم تبدأ إلا مع روايته الشهيرة «مائة سنة من العزلة» عام ١٩٦٧. ومن مؤلفاته الأخرى: «الكولونيل لا يجد مَن يكاتبه» التي تُرجمت للعربية بعنوان «الخطاب المنتظر» (١٩٥٨)، «جنازة الأم العظيمة» (١٩٦٢)، «في ساعة نحس» (١٩٦٢)، «خريف البطريرك» (١٩٧٥)، «قصة موت معلن» (١٩٨١). وقد تُرجمت جُلُّ رواياته وبعض قصصه القصيرة إلى اللغة العربية، وهو قد مُنح الدكتوراه الفخرية من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة. – بدأتُ الكتابة صدفة، ربما لكي أُثبت لأحد أصدقائي أن بإمكان جيلي أن يُخرج أدباء، وبعد ذلك وقعتُ في فخ الاستمرار في الكتابة عن حب، ثم إلى درجة أن لم يَعُد هناك شيء أحب لديَّ في الدنيا من الكتابة. – كلاهما حق. حينما كنت مبتدئًا ما أزال أستكشف مهنة الكتابة، كانت تمثِّل لي عملًا بهيجًا، يكاد يكون غير مسئول. أذكر في تلك المرحلة أنني بعد انتهاء عملي في الجريدة حوالي الساعة الثانية أو الثالثة فجرًا، كان بإمكاني أن أكتب أربع أو خمس، بل حتى عشر صفحات كاملة … وفي إحدى المرات، كتبتُ قصةً قصيرة في جلسة واحدة. – الآن أعتبر نفسي محظوظًا إذا استطعتُ كتابة فقرة جيدة في يوم كامل. لقد تحوَّلَت الكتابةُ عندي مع مرور الوقت إلى عذاب. – إن ما يحدث حقًّا هو أن الشعور بالمسئولية يزداد؛ إذ إن المرء يشعر أن كلَّ حرف يكتبه له أثرٌ أكبر الآن، إذ يؤثر على عدد أكبر من الناس. – إنها تُزعجني. إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لإنسان غير مؤهل للنجاح الأدبي، في قارة غير مؤهلة لأن يكون لديها كُتَّاب ناجحون، هو أن تُباع كتُبُه كما تُباع الحلوى الرائجة. إنني أكره أن أتحوَّل إلى مشهد عام، إنني أكره التلفزيون والمؤتمرات والمحاضرات والموائد المستديرة. – أيضًا كلَّا، إنني لا أتمنى النجاح لأحد، إذ يحدث للمرء حينئذٍ ما يحدث لمتسلِّقي الجبال الذين يجاهدون للوصول إلى القمة، وبعد ذلك، ماذا يفعلون؟ الهبوط، أو محاولة الهبوط بحذق، بأكبر قدر ممكن من الكرامة. – أربعون سيجارة يوميًّا. – الآن لا أدخن، ولا أعمل إلا نهارًا من التاسعة صباحًا حتى الثالثة بعد الظهر، في حجرة بلا ضوضاء وذات تدفئة جيدة، إن الأصوات والبرد يُزعجانِنِي. – أجل، إن هذا أكثر الأشياء إيلامًا بالنسبة لي، بعد الخوف من الأماكن الضيقة، بَيْدَ أن هذا الألم انتهى بالنسبة لي بعد أن قرأتُ نصيحةً لهمنجواي، مفادها أنه ينبغي عدم التوقف في الكتابة إلا عند نقطة يعرف المرء عندها كيف يمضي قُدُمًا في اليوم التالي. – أي صورة مرئية، أعتقد أن الكتاب، لدى غيري من المؤلفين يولد من فكرة، من مفهوم. أما أنا، فإني أنطلق دائمًا من صورة. لقد انبثقَت قصة «غفورة الثلاثاء» التي أعتبرها أفضل قصصي القصيرة، من رؤيا عن امرأة وطفلة تتشحان بالسواد وتُمسكان مظلة سوداء، تسيران تحت شمس لافحة في قرية مهجورة. ورواية «الأوراق الذابلة» من صورة شيخ يصحب حفيده إلى مأتم. أما نقطة الانطلاق في «الخطاب المنتظر» فهي صورة رجل ينتظر قاربًا في سوق قرية «بارانكيًا»، انتظار مع نوع من الهم الصامت. وبعد ذلك بسنوات وجدتُ نفسي في باريس أنتظر خطابًا، وربما حوالة مالية، بنفس اللهفة، وتوحدتُ مع ذكرى ذلك الرجل. – شيخ يصطحب طفلًا ليرى الثلج الذي يُعرض كأعجوبة في السيرك. – أجل. – ليس مباشرةً، ولكنه مستلهَم منه. أذكر أنني عندما كنت طفلًا صغيرًا في «أراكاتاكا» حيث كنا نعيش، اصطحبني جدِّي لرؤيةِ جملٍ في السيرك، ومرة أخرى، حينما قلت له إنني لم أرَ الثلج أبدًا، اصطحبني إلى معسكر شركة الموز الأمريكية، وأمر بفتح صندوق الفاكهة المثلجة، جعلني أضع يدي فيه، وقد انبثقَت رواية «مائة سنة من العزلة» من هذه الصورة. – «بعد ذلك بسنوات عدَّة، أمام كتيبة الإعدام، كان على الكولونيل «أورليانو بوينديا» أن يتذكَّر ذلك الأصيلَ القصِيَّ الذي اصطحبه فيه والدُه لاكتشاف الثلج.» – لأن الجملة الأولى يمكن أن تكون المختبر الذي يعمل على تحديد عناصر كثيرة للأسلوب وللبناء الروائي، بل وحتى يُحدد مدى طول الكتاب. – كتابتُها في حدِّ ذاتها، كلَّا، بل إنها عملية أقرب إلى أن تكون سريعة؛ فقد كتبتُ «مائة سنة من العزلة» في سنتين أو أقل، بيد أنني أمضيتُ أفكِّر فيها خمسة عشر أو ستة عشر عامًا قبل أن أجلس لكتابتها أمام الآلة الكاتبة. – ثلاثون عامًا. – حين وقعَت أحداثُ هذه الرواية، في عام ١٩٥١، لم تكن تُثير اهتمامي بوصفها مادة لرواية بل كريبورتاج صحفي، ولكن هذا النوع الصحفي لم يكن منتشرًا في كولومبيا في تلك الفترة، وكنت صحفيًّا في جريدة إقليمية لم تكن تعنيها هذه الحادثة، ثم بدأتُ أفكِّر في ذلك الحدث كحبكة أدبية بعد ذلك بسنوات عدة، ولكني كنت أحسب دائمًا حساب الثورة التي يمكن أن تُثيرَها في نفس أمي مجرد فكرة رؤية كل هؤلاء الأصدقاء، بل وبعض الأقارب، في كتاب ألَّفه أحد أولادها. ورغم ذلك، فإنني أعترف أن الموضوع لم يجتذبني بعمق إلا حين اكتشفتُ، بعد سنوات من التفكير، العنصرَ الجوهري في الحادثة: وهو أن كلا القاتلَين لم يكونَا راغبَين في ارتكاب الجريمة، وفعلًا كل ما في استطاعتهما كيما يمنعهما أحد، بيد أنهما لم يُفلحا في ذلك، وهذا في المحصلة الأخيرة هو الشيء الجديد الحقيقي في تلك الفاجعة الشائعة، باستثناء ذلك، في كل أمريكا اللاتينية. – في الواقع، لم تُثِر اهتمامي أبدًا فكرةٌ لا تصمد أمام مرِّ السنوات وهي تختمر في رأسي، فإذا كانت الفكرة جيدة إلى درجة تصمد معها السنوات الخمسة عشرة التي انتظرَتها «مائة سنة من العزلة»، أو السنوات الستة عشرة التي مرَّت على رواية «خريف البطريرك»، أو السنوات الثلاثون التي اختمرَت فيها فكرة «وقائع موت معلن»، فلا يبقى أمامي مناصٌ من كتابتها. – مطلقًا، عدا بعض نقاط العمل. لقد علَّمَتني التجربة أنه عندما يحتفظ المرء بملاحظات عن رواية يؤلِّفها، ينتهي به الأمر إلى التفكير في هذه الملاحظات وليس في الرواية. – لقد تغيَّر عملي في هذا المقام كثيرًا، فحينما كنتُ في مقتبل العمر، كنت أكتب في انطلاق، وأنتهي من كتابة صفحات ثم أعود لتصحيحها. أما الآن فإنني أمضي مصححًا سطرًا بسطر أثناء الكتابة، بحيث إنه عند نهاية اليوم يكون عندي صفحة كاملة دونما تصحيحات أو شطب، تكاد تكون جاهزة للمطبعة. – كمية هائلة. فمثلًا أبدأ في كتابة صفحة على الآلة الكاتبة … – دائمًا. آلة كاتبة كهربائية. وحينما أُخطئ أو لا تُعجبني الكلمة المكتوبة، أو لمجرد وقوع خطأ مطبعي، فإنني أطرح الورقةَ كلَّها جانبًا، وأبدأ ورقة أخرى. ويمكن أحيانًا أن أستهلك خمسمائة ورقة كيما أكتب قصة من اثنتَي عشرة صفحة. وهذا يعني أنني لم أستطع أن أتغلَّب على الهاجس الذي يجعلني أُومِن أن خطأً مطبعيًّا يبدو لي خطأً في الإبداع. – كلَّا، إنني على درجة من الوفاق معها إلى حدٍّ لا أستطيع معه إلا الكتابة عليها. وبصفة عامة أعتقد أن المرء يكتب أفضل حين تُتاح له وسائل راحة تامة. لا أُومِن بالأسطورة الرومانسية التي تقول إن على الكاتب أن يجرِّب الجوع والحرمان والبؤس كيما يُنتج. إن المرء يكتب أفضل حينما يأكل جيدًا، وحينما يكتب على آلة كاتبة كهربائية. – لأن ما أكون بصدد كتابته يكون جزءًا من حياتي الخاصة. والحقيقة، أنني لا أتعاطف مع الأدباء الذين يقصُّون في مقابلاتهم الصحفية حبكاتِ كتابهم المقبل، فهذا دليل على أن الأمور لا تجري على هواهم، فيتعزُّون بأن يحلُّوا في الصحافة المشاكل التي لم يستطيعوا حلَّها في القصة. – أجل، فإنني حين أكون بصدد كتابة شيء أتحدَّث كثيرًا عنه، فهذه طريقة لاكتشاف مواطن القوة والضعف فيه، طريقة ألجأ إليها لأسترشد الطريقَ في الظلمة. – مطلقًا، إنني أتجنب ذلك إلى حدِّ التطير. إنني أُومِن أن المرء في مجال العمل الأدبي، يكون وحيدًا دائمًا، كما لو كان غريقًا في وسط البحر. أجل، إن الكتابة أكثر المهن عزلةً في العالم، فلا أحد بإمكانه مساعدة المرء في كتابة ما يكتب. – جزيرة مهجورة في الصباح، ومدينة صاخبة في الليل. ففي الصباح أحتاج إلى الهدوء، وفي الليل إلى قليل من الشراب والأصدقاء المقرَّبين لتجاذُب أطراف الحديث. إنني أحسُّ دائمًا بالحاجة إلى التواصل مع الناس في الطرقات، وأن أكون مطَّلعًا باستمرار على الأحداث. – بادئ ذي بدء، جدِّي؛ فقد كان يحكي لي أشدَّ الأشياء هولًا دون أيِّ انفعال، كما لو كانت أشياءَ رآها لتوِّه. واكتشفتُ أن هذه الطريقة الهادئة وذلك الثراء في التصوير هما أكثر ما يُسهم في إضفاء طابع الواقع على حكاياته. وقد استخدمتُ نفس طريقة جدِّي في كتابة «مائة سنة من العزلة». – كلَّا، لقد جاء ذلك من «كافكا»، الذي يقصُّ الأشياء بنفس طريقة جدِّي. وحين قرأتُ في السابعة عشرة من عمري قصَّتَه «المسخ»، اكتشفتُ أنني سأُصبح كاتبًا، فحينما رأيتُ أن بالإمكان أن يستيقظ «جريجوري سامسا» من نومه ذات صباح ليجدَ نفسه وقد تحوَّل إلى خنفسة هائلة، قلت لنفسي: «لم أكن أعرف أنه يمكن كتابة مثل هذا، ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فالكتابة شيء يهمُّني.» – ذلك أنني أدركتُ أنه يوجد في ميدان الأدب إمكانيات أخرى غير العقلانية الأكاديمية، التي كانت كلَّ ما أعرف آنذاك من كتب المدرسة. لقد كان الأمر كما لو أنني تخلصتُ من قيدٍ على حريتي، ورغم ذلك فقد اكتشفتُ بمر الزمن أنه ليس بإمكان المرء اختراع أو تخيُّل أي شيء يتوق إليه؛ لأنه يخاطر في هذه الحالة بكتابة أكاذيب، والأكاذيب أخطر في ميدان الأدب منها في ميدان الحياة، ففي نطاق الخيال والابتكار، هناك قوانين، وفي إمكان المرء أن ينزع عنه ورقة العقلانية، على شريطة ألَّا يقع في الفوضى، في اللاعقلانية التامة. – أجل في الفانتازيا. إنني أُومِن بأن الخيال ما هو إلا أداة لكشف تفاصيل الحقيقة. بيدَ أن نَبْع الإبداع هو الواقع أولًا وأخيرًا أو الحقيقة. والفانتازيا، أو الاختراع الكامل التام، على طريقة «والت ديزني»، دون أيِّ سند من الواقع، هي أشد الأشياء مقتًا في الأدب. أذكر ذات مرة أنني اعتزمتُ تأليف كتاب لقصص الأطفال، وأرسلت إليك قصة «بحر الزمن المفقود» كمثال، وأنك ذكرت لي بصراحتك المعهودة أنها لم تُعجبك؛ ربما لأن الفانتازيا لا تنجح في نقل أي شيء إليك، ولكن تلك الحجة هدمت مشروعي؛ ذلك لأن الفانتازيا لا تُعجب الأطفال، وإنما ما يُبهرهم حقًّا هو الخيال، والفرق بين الاثنين هو الفرق بين الإنسان وبين الدمية الناطقة. – همنجواي. – أجل، بيدَ أنني أعتبره قصَّاصًا ممتازًا، وممتازة هي نصيحته بأن القصة ينبغي، مثلها مثل جبل الثلج في المحيط، أن تستندَ على الجزء غير المرئي من الجبل: في الدراسة، والتأمل، والمادة المجموعة وغير المستخدمة مباشرة في القصة. أجل، إن همنجواي يُعلِّم المرءَ كثيرًا من الأشياء، بما في ذلك معرفة الكيفية التي تدور بها القصة في أحد المنعطفات. – أجل، لقد تعلمتُ من جرين كيف أفك رموزَ الأماكن المدارية وأسرارها، فمن أشق الأشياء على المرء الفصل بين العناصر الجوهرية من أجل الخروج بتركيبة شعرية في جوٍّ يعرفه أكثر من اللازم؛ لأنه في هذه الحالة يعرف كثيرًا إلى درجة لا يعرف معها أين يبدأ، ويكون لديه الكثير مما يقول حتى ينتهيَ به الأمر إلى عدم القدرة على قول شيء، وكانت هذه هي مشكلتي مع الأجواء المدارية. لقد قرأتُ باهتمام شديد خريستوف كولومبس وبيجافيتا، وغيرهما من مؤرِّخي جزر الهند الغربية، ممن لديهم رؤيا أصيلة، وقرأتُ سالجاري، وجوزيف كونراد، وغيرهما من الكتَّاب «المداريين» في أوائل هذا القرن ممن تحلَّوا بمقاليد الحداثة، وغيرهم كثيرين، وجدتُ أن هناك مسافةً كبيرة جدًّا تفصل بين رؤياهم وبين الحقيقة؛ فالبعض يقع في شرك تعداد الأشياء، والآخر في شرك البلاغة والخطابة. وقد حلَّ جراهام جرين هذه المشكلة الأدبية ببراعة، بعناصر قليلة متفرقة، ولكن يجمعها تماسكٌ ذاتيٌّ دقيق وواقعي، وبهذه الطريقة يمكن إخضاع لغز المدار كلِّه لعبير الثمار. – أجل، لقد علَّمتني الصحافة طرقًا ووسائل لإضفاء الشرعية على قصصي. ومثال ذلك: قيام الأب «رينا» باحتساء فنجان من الشوكولاتة الساخنة قبل أن يرتفع عشرة سنتيمترات من على سطح الأرض في رواية «مائة سنة من العزلة»، فهذا من أثر التدقيق الصحفي، وهو نافع جدًّا في السرد الروائي. – في حالتي، كانت السينما نعمةً ونقمة في آنٍ واحد. أجل، لقد علَّمتني أن أرى عن طريق الصور، بيد أنني أُدرك الآن أن هناك في جميع كتبي السابقة على «مائة سنة من العزلة» نهجًا غير متوازن من التشخيص المرئي للشخصيات والمشاهد، بل وحتى هوسًا بإيضاح وجهات النظر والأُطُر. – أجل، إنها رواية يُماثل أسلوبُها السيناريو السينمائي. إن حركاتِ الشخصيات كانت وراءها كاميرا سينمائية، وحين أعود إلى قراءة الكتاب، أرى الكاميرا وراءه. واليوم أرى أن الحلول السينمائية تختلف عن الحلول الأدبية. – ذلك لأن الحوار يبدو زائفًا في اللغة الإسبانية. لقد ذكرت دائمًا أن هناك فرقًا شاسعًا في تلك اللغة بين الحوار الشفوي والحوار المكتوب؛ فالحوار الجيد في الحياة الواقعية لا يلزم أن يكون جيدًا في الروايات؛ ولذلك فإني لا ألجأ إليه إلا قليلًا. – بطريقة عامة فحسب؛ ففي سياق الكتابة، تقع أحداث غير متوقعة؛ فمثلًا كانت أول فكرة كوَّنتها عن شخصية الكولونيل «أورليانو بوينديا» في «مائة سنة من العزلة» ترسم شخصيةَ محاربٍ قديم في حروبنا الأهلية، مات وهو يبول تحت شجرة. – أجل، كنت أعلم أنه ينبغي أن أجعله يموت يومًا ما، ولم أكن أجرؤ على ذلك. كان الكولونيل قد هَرِم بالفعل وهو مشغول بصنع أسماكه الذهبية، وقلت ذات أصيل «الآن أجل، قد انتهى بالفعل!» كان عليَّ أن أجعله يموت. وحين أنهيت ذلك الفصل صعدتُ وأنا أرتجف إلى الدور العلوي حيث كانت زوجتي، وأدركتْ هي ما حدث من مجرد النظر إلى وجهي، وقالت: «لقد مات الكولونيل.» أما أنا فقد رقدت في السرير، وطفقت أبكي ساعتين. – إن الإلهام كلمة أفقدها الرومانسيون معناها. إنني لا أنظر إليه على أنه حالة من حالات التجلي ولا نسمة إلهية، بل على أنه توفيق مع الموضوع عن طريق العناد والسيادة عليه، حين يود المرء أن يكتب شيئًا، ينشأ نوعٌ من التوتر المتبادل بينه وبين الموضوع، بحيث يستحثُّه الموضوع في نفس الوقت، وثمة لحظة تنهار فيها كلُّ العوائق، وتبتعد فيها كلُّ الصراعات، وتقع للكاتب أحداثٌ لم يحلم بها، وحينئذٍ لا يكون هناك في الحياة أفضل من الكتابة، هذا هو ما أدعوه الإلهام. – أجل، وحينئذٍ أعود لأنظر في كل شيء منذ البداية. إنها تلك الأوقات التي أدور فيها في البيت بأحد الأزاميل، أُصلح به الأقفال ودوائر الكهرباء، وأدهن الأبواب باللون الأخضر؛ ذلك أن العمل اليدوي يساعد أحيانًا على قهر الخوف من الحقيقة. – إنه يكمن بصفة عامة في البناء. – خطيرة إلى درجة تُرغمني على البدء من جديد. لقد أوقفت العمل في «خريف البطريرك» في المكسيك عام ١٩٦٢، بعد أن انتهيت من كتابة حوالي ٣٠٠ صفحة، ولم أُبقِ بعد ذلك على أي شيء منها سوى اسم البطل. وقد استأنفتُ كتابتَها في عام ١٩٦٨ في برشلونة، وعملتُ فيها كثيرًا خلال ستة أشهر، ثم أوقفتُ العمل فيها مرة ثانية لأن بعض جوانب القيم الأخلاقية للبطل لم تكن واضحةً تمامًا، وبعد ذلك بسنتين، اشتريت كتابًا عن الصيد في أفريقيا لأن المقدمة التي كانت قد كتبها همنجواي للكتاب أثارَت اهتمامي. ولم تكن المقدمة بذات شأن، ولكني مضيتُ قُدُمًا أقرأ الفصل الخاص بالأفيال، وكان يكمن فيه حلُّ الرواية. لقد كانت بعضُ عادات الأفيال تفسِّر تمامًا القيم الأخلاقية للبطل. – أجل، لقد مرَّ عليَّ وقتٌ اكتشفتُ فيه شيئًا خطيرًا؛ فقد عجزتُ عن إشاعة جو الحرارة في المدينة التي أَصِفها في روايتي. كان ذلك خطيرًا لأن الأمر كان يتناول مدينة من مدن البحر الكاريبي تسودها حرارة خانقة. – الحل الوحيد الذي خطر لي هو السفر مع أسرتي بكاملها إلى الكاريبي، ذهبت أتنقَّل هناك حوالي سنة دون أن أفعل شيئًا، وحين عُدتُ إلى برشلونة حيث كنت أكتب الرواية، زرعت بعض النباتات، وأشعتُ بعضَ الروائح، ونجحت أخيرًا في أن أجعل القارئ يحس بحرارة المدينة، ثم انتهيتُ من الرواية دون مزيد من العثرات. – أفقد اهتمامي به كليةً، وكما قال همنجواي، إنه يكون حينذاك كالأسد الميت. – أجل، إني أُومِن أن الرواية تصوير رمزي للحياة، نوع من النبوءة، والواقع الذي تُعالجه الرواية يختلف عن الواقع في الحياة، رغم أنه يستند إليه، كما يحدث في الأحلام. – هذا صحيح؛ لأن عقلانيتهم تمنعهم من فهم أن الواقعية لا تكمن في أسعار الطماطم أو البيض. إن الحياة اليومية في أمريكا اللاتينية تُرينا أن الواقع مليءٌ بالأشياء الخارقة للعادة، ومن عادتي في هذا المقام أن أُشيرَ إلى المكتشف الأمريكي «دي جراف»، الذي قام في أواخر القرن الماضي برحلة عجيبة في عالم الأمازون، رأى أثناءها مرةً نهرًا تغلي مياهه، ومكانًا يؤدي صوتُ الإنسان فيه إلى سقوط أمطار غزيرة. وقد حدث مرة في الطرف الجنوبي الأقصى من الأرجنتين، أن أطارت الرياح القطبية سيركًا بحاله في الهواء، وفي اليوم التالي كان الصيادون في تلك المنطقة يستخرجون بشباكهم جثثًا للنمور والأسود! وفي قصتي القصيرة «جنازة الأم العظيمة»، أحكي قصة رحلة مستحيلة للبابا إلى ضيعة في كولومبيا، وأذكر أنني تعمَّدتُ أن أَصِف رئيس الجمهورية الذي استقبل البابا على أنه أصلع ورَبْع القامة حتى يكون مختلفًا تمامًا عن رئيس كولومبيا في ذلك الوقت وكان نحيلًا طويلًا. وبعد مرور إحدى عشرة سنة على القصة، ذهب البابا إلى كولومبيا، وكان رئيس الجمهورية الذي استقبله رَبْع القامة كما في القصة! ويكفي الاطلاع على الصحف لإثبات أن ثمة أحداثًا خارقة للعادة تقع بيننا كل يوم، وإني أعرف أناسًا ريفيِّين بسطاء قرءوا «مائة سنة من العزلة» بسرورٍ وتفهُّمٍ عظيمَين، دون أيِّ استغراب من أحداثها؛ لأنني لا أقصُّ فيها أيَّ شيء غريب عن الحياة التي يعيشونها بالفعل. – لا يوجد في روايتي سطرٌ واحد لا يستند إلى واقع. – كل ذلك له أصلٌ في الواقع. – مثلًا: «ماوريسيو بابيلونيا» في بلدة «أركاتاكا»، حين كان لديَّ من العمر خمس سنوات، حضر إلى منزلنا مرة كهربائي لتغيير العداد، إنني أذكره كما لو كان بالأمس؛ لأن طريقته في ربط نفسه إلى العواميد حتى لا يقعَ بهرَتني. وقد عاد إلى منزلنا مرات عديدة. وفي مرة من هذه المرات، وجدتُ جدَّتي تهش فراشة بقطعة من القماش، وهي تقول: «دائمًا حين يأتي هذا الرجل إلى البيت، تأتي معه هذه الفراشة الصفراء.» وكان ذلك نواة تلك الشخصية. – «أوديب ملكًا»، و«أماديس الغالي» و«لا ثاريو دي تورمس» و«يوميات الطاعون» لدانييل ديفو، و«أول رحلة إلى الأرض» لبيجافتا. – جوزيف كونراد وسانت إكسبري. – لا أحتفظ بشيء منه، غير أنني ما زلتُ أُومِن أن أفضلَ روايةٍ كُتبت قاطبةً هي روايته «الحرب والسلام». – لقد حاولتُ في الواقع ألَّا أبدوَ أيَّ أحد. وبدلًا من أن أُقلد، أحاول دائمًا أن أتفادى الكتَّاب الذين أُحبُّهم أكثر. – إن النقاد يُحدِّدون المؤثرات بطريقة لا أفهمها، وفي حالة فوكنر، أعتقد أن التشابه هو في الأماكن الجغرافية عنه في الطرق الأدبية. لقد اكتشفتُ فوكنر بعد مدة طويلة من كتابة أولى رواياتي، حين كنت أرتحل عبر جنوب الولايات المتحدة، إن ما رأيتُ من القرى الحارقة المفعمة بالأتربة، والناس اليائسين، يُشبه المناظر التي أرسمها في قصصي. – ما كنت لأصبح الكاتب الذي أنا عليه الآن لو لم أقرأ منذ عشرين سنة عبارةً في رواية فرجينيا وولف «مسز دالوي»، حوَّلت تمامًا شعوري وفكري عن الزمن. – آرثر رامبو، وفرانز كافكا، وشعراء القرن الذهبي الإسبان، ثم موسيقى الحجرة من شومان إلى بيلا بارتوك. – بالطبع، نيرودا، الذي أعتبره أعظمَ شاعر في القرن العشرين وفي كل اللغات.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/15/
أعياد الرواية في أمريكا
نشرت صحيفة النيويورك تايمز مؤخرًا قائمةً بأفضل مائة رواية صدرَت باللغة الإنجليزية خلال القرن الحالي (العشرين)، وضعها أعضاءُ مجلس تحرير سلسلة «المكتبة الحديثة» بدار راندوم هاوس للنشر. وهذه السلسلة تقوم منذ عام ١٩١٧ بإصدار كتب أدب اللغة الإنجليزية المتميزة بأسعار في متناول الجميع. وقد أعرب أعضاء المجلس عن أملهم بأن يعمل صدور هذه القائمة على تشجيع جمهرة القُرَّاء على مناقشة الكتب المختارة، مما يؤدي بدوره إلى إحداث المزيد من الرواج للرواية في الشهور المقبلة خصوصًا، وقد خططت راندوم هاوس في نفس الوقت لإصدار عدد من الروايات الفائزة التي تملك حقوق نشرها في طبعات جديدة لتواكب الإقبال المنتظر عليها. وقد جاءت بعضُ روايات القائمة، ولا سيما ترتيبها، مفاجأةً لكثير من النقَّاد، بل ولبعض أعضاء التحرير الذين قاموا بالاختيار. وفي حين أبدَت الغالبية ارتياحها لفوز «عوليس» بالمركز الأول، أعرب الكثيرون عن قلقهم لعدم ورودِ أيِّ أسماء لروائيِّين مقيمين في الكاريبي والهند وأستراليا ودول أفريقيا، الذين يكتبون بالإنجليزية، كما انتقد البعضُ قلةَ الروايات النسائية إلى الحد الذي غابت معه أسماء مثل توني موريسون وماري ماكارثي ودوريس لسنج وغيرهن. ولا شك أن هذه الاختيارات ليست مطلقة، فهي قد ارتكزت على الكتب التي تلقى توزيعًا مستمرًّا وتتكرر طباعتها، مما يعني ثباتَ قيمتها لدى القراء بوجه عام، كما أنني لاحظت أن كثيرًا من روايات القائمة قد أصبحت أفلامًا سينمائية ناجحة، وهو ما يُعطيها رواجًا أكبر وتعريفًا أوسع، وتدعو هذه القائمة إلى وضع قائمة أخرى لأفضل الروايات العالمية وليست المكتوبة بالإنجليزية فقط، حتى نرى من بينها روايات لبروست وتوماس مان وماركيز ونجيب محفوظ. وقد يحفز نشر هذه القائمة بالعربية إلى إجراء استفتاء بين الأدباء والنقاد المصريين عن أفضل الروايات غير العربية التي أثرت فيهم، يضاف إلى الاستفتاء الذي أجرَته سابقًا صحيفة الدستور، وعرفنا منه أفضل عشر روايات مصرية، كما أنه قد يُحفز دور النشر العربية إلى ترجمة الروايات التي لم تصدر بالعربية منها، وما أكثرها.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/16/
توني موريسون ورواية «الفردوس»
صدرت مؤخرًا (فبراير ١٩٩٨)، عن دار «ألفريد نوب» بنيويورك رواية جديدة للكاتبة الأمريكية توني موريسون بعنوان «الفردوس»، وهي أول رواية تكتبها بعد حصولها على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٩٣. والخطوط العامة للرواية الجديدة تدور في نفس النهج العريضة للموضوعات التي تتناولها الكاتبة في رواياتها السابقة، خاصة روايتها «محبوبة»: فقدان البراءة، وافتئات ذكريات الماضي على الحاضر، وعدم القدرة على تحمُّل الخسارة والتغيير والألم. كذلك، تدور الرواية حول موضوعات ومشاكل السود الأمريكيِّين التي تنتمي موريسون إليهم. والفردوس هو اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة التي يحلم الفلاسفة والكُتَّاب بإقامتها على الأرض. ومدينتها الفاضلة هي بلدة صغيرة تسمى «روبي» في ولاية أوكلاهوما، كل سكانها من السود، أسَّسها في أواخر القرن التاسع عشر مجموعةٌ من العبيد الذين حصلوا على حريتهم بعد الحرب الأهلية الأمريكية. وفي أوائل الستينات من القرن العشرين، نرى «روبي» لا تزال تلك البلدة النموذجية مكتفية بذاتها، تسير الأحداث فيها بهدوء وسلاسة. هي تبدو من كل ناحية فردوسًا حقيقيًّا، فالجريمة فيها منعدمة، ولا حاجة بها إلى وجود الشرطة. وليس هناك محلٌّ للجوع، فإذا نزل بمحصول أحدهم الخراب، أو حلَّت به ضائقة مالية، تكاتف الجيران لإغاثته، والثمن الذي تعيَّن على السكان أن يدفعوه لحياتهم في ذلك الفردوس الأرضي هو العزلة التامة. فالبلدة كانت تبعد كثيرًا عن أي عمار، ولم تكن ترحِّب بالغرباء، فليس فيها فنادق أو مطاعم، ولا دور للسينما أو مستشفيات، كانت «روبي» وسكانها يقومون في حالة من الكمال السحري الذي يُنذر بالانقضاء في أي لحظة. ومع بداية أحداث الرواية، نجد أن سياسة البلدة في الانعزال والاكتفاء الذاتي قد وصل بها إلى القلق والوهن، ويبدأ الشباب في التشكيك في السياسة التي يتبعها الآباء والأجداد ويتصدَّون لمحاربتها؛ إذ يرون أنها سياسة بالية وتستوجب التغيير. وهناك قَسُّ الأبرشية الذي يحاول إقناع كبار السن من السكان بعراقة انتسابهم لقارة أفريقيا، فيردون عليه بأن العبودية هي ماضيهم، ولا يمكن ولا حتى لأفريقيا أن تُغيِّر من هذا الواقع. وتَبْرع الكاتبة في تصوير شخصياتها من سكان البلدة، ومنهم التوءمان ديكون وستيوارد، عميدَا عائلة مورجان. فستيوارد يمثِّل مصير البلدة كلها في تطلعاتها اليوتوبية؛ فكلما ربح شيئًا ماديًّا خسر مقابله شيئًا معنويًّا. أما ديكون فهو أقل هامشية وتكبرًا من ستيوارد، وهو رمز لإمكانية عودة الحيوية لهذا المجتمع. وتتعقد أحداث الرواية بالعبور فوق قصة «روبي» وسكانها إلى المكان الوحيد الذي يبعد أميالًا قليلة عن البلدة، وهو مبنًى مهجورٌ كان قديمًا ديرًا من الأديرة لهداية وإرشاد الفتيات من السكان الهنود الأصليين، وتسكنه الآن مجموعةٌ من النساء اللاتي يجمعهن الضياعُ والتشرد، بمن فيهن بعض النسوة ممن لفظَتهن «روبي» حين خرجن على النظام المتعارف عليه فيها. وترسم القصة شخصياتٍ عديدةً في هذا القطاع أيضًا، منها كونسولاتا العجوز، ومافيز الشابة التائهة التي قضَت على طفلَيها دون قصد حين تركَتهما في سيارة مغلقة حتى اختنقا، وغيرهما من الشخصيات المأساوية التي تحمل كلُّ واحدة منها جروحًا من نوع ما. ويمثل هذا الدير المهجور وسكانه مقابلًا مضادًّا لبلدة «روبي» المنظمة وسكانها المتنعمين، لا سيما وأنه يفتح أبوابه لكلِّ مَن تخذلها الحياة المثالية التي تصورها «روبي». وهكذا أصبح الدير يمثِّل للتقليديِّين من سكان البلدة كلَّ ما هو غريب ومخيف: الفوضى والضياع والانفلات. ويزيد الطين بلة أن قاطني الدير من النساء فحسب. ولهذا، لم يجد قادة مجتمع «روبي» المحافظون مخرجًا من الثورة المكبوتة التي تضطرم في صدر الشباب إلا بصبِّ جامِ غضبهم على نسوة الديرن. وكان لا بد أن تحدث مواجهةٌ بين رجال «روبي» وهؤلاء النسوة، ولكنها كانت مواجهةً عنيفة، انتهَت نهايةً فاجعة بالقضاء عليهن. وكما ذكر الناقد الأمريكي بروك ألن في مراجعته للرواية، التي اعتمدتُ عليها في جانب من هذه العجالة: «إن الفردوس، مثلها في ذلك مثل روايات موريسون الأخرى، ليست بالرواية السهلة القراءة، فهي كثيفة وغامضة، وهي تتطلب من قارئها تركيزًا وتمحيصًا، ولكنها تُكافئه على الجهد الذي يبذله. إنها عمل طموح، يُثير القلق، وهو برهان على أن توني موريسون لا تزال تتغير وتنضج في اتجاهات جديدة تُثير الدهشة.» وتوني موريسون من مواليد ١٩٣٢، درست في جامعة هوارد حيث حصلت على الليسانس في الآداب، ثم حصلت على درجة الماجستير من جامعة كورنيل عن موضوع الانتحار في أعمال فرجينيا وولف ووليام فوكنر. وبعد أن عملت بالتدريس زمنًا في جامعة هوارد، مارسَت عملية التحرير في دار راندوم هاوس للنشر حيث شجعت على نشر العديد من مؤلفات الكاتبات السود، ومنهن أنجيلا ديفيز. وتعمل موريسون منذ عام ١٩٨٩ أستاذة في جامعة برنستون الشهيرة في نيوجرسي. وقد برزَت توني موريسون على الساحة الأدبية بصدور روايتها الأولى المعنونة «العين الأشد زرقة» عام ١٩٦٩، عن فتاة سوداء لا تستطيع التكيُّف مع ثقافة البيض، وينتهي بها الأمر إلى كراهية الحياة كلها، ثم تلا ذلك روايتها «سولا» عام ١٩٧٤، عن امرأتين من السود وموقفهما المختلف تجاه مشكلة العنصرية، ولكن موريسون تقول إنها لم تعترف بنفسها ككاتبة إلا بصدور روايتها «نشيد سليمان» عام ١٩٧٧، التي تحكي رحلة الإنسان الشاقة المعذبة في سبيل التعرف على الذات وعلى حقيقة المجتمع وسر الحياة. وفي عام ١٩٨١، تصدر روايتها «طفل القار» التي تقع أحداثها في إحدى جزر الكاريبي، ولكنها أيضًا تسبر غور التوترات الطبقية والعِرقية، وتفوز روايتها التالية «محبوبة» عام ١٩٧٨ بالجائزة القومية الأمريكية بوليتزر، ثم تأتي رواية «جاز» عام ١٩٩٢ لتُصوِّر إيقاعات حي الزنوج في هارلم في العشرينيات، وجو العنف الذي يسوده. ومن تاريخ صدور هذه الروايات، نرى أن ثمة فاصلًا زمنيًّا متوسطُه أربعُ سنوات بين رواية وأخرى، مما يُستدل معه على مدى التأني الذي تدرس به المؤلفة أفكارَ قصصها وشخصياتها، قبل أن تشرع في كتابتها حين تكتمل لديها الصورة التي تريد التعبير عنها في رواية جديدة. وتذكر موريسون أن فكرة «الفردوس» قد جاءتها فور صدور روايتها السابقة «جاز»، وقبل عام من حصولها على جائزة نوبل للآداب، وهذا ما مكَّنها من المضيِّ قُدُمًا فيها وسط طوفان الشهرة والاحتفالات التي تلَت حصولها على الجائزة. وقد تحدَّثت في خطاب ستوكهولم عن قيمة الكتابة وقوة اللغة في صياغة الضمير الإنساني، مما دعا سامعيها إلى المقارنة بين كلمتها والكلمة التي ألقاها وليام فوكنر عام ١٩٦٢. وليس هذا هو وجه الشبه الوحيد بين موريسون وفوكنر؛ ذلك أنها تفخر دائمًا بأنها أول الأمريكيِّين مولدًا يحصل على الجائزة منذ حصول فوكنر عليها؛ إذ إن الأمريكيِّين الأربعة الذين حصلوا عليها في أثناء تلك الفترة هم ممن هاجروا إلى الولايات المتحدة من بلدان أخرى، وهم سول بيلو وإسحاق سنجر وتشيسلاف ميلوش وجوزيف برودسكي.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/17/
نجيب محفوظ في معجم عالمي
وما يهمُّنا في هذا المعجم الجديد — إلى جانب ذلك التناول الفريد — هو المواد العربية والإسلامية والأفريقية العديدة التي تضمنها، والتي تدخل المعاجم ودوائر المعارف لأول مرة، وعلى رأس هذه المواد المدخل الخاص بنجيب محفوظ. ورغم أن المعلومات المندرجة تحت المدخل هي المعلومات الأساسية فقط، ولا تمتد إلى أية تفاصيل، فهي كافية لمن يريد معرفة نبذة عامة عن حياة الكاتب، وما هي أهم أعماله واتجاهاته الأدبية، بل تذهب إلى حدِّ ذكرِ واقعةِ الاعتداء الغاشم الذي تعرَّض له كاتبنا الكبير عام ١٩٩٤. وقد اتسع المعجم لأسماء عدد آخر من الأدباء العرب المعاصرين، وكلُّهم من المصريين باستثناء جبران خليل جبران، وهم طه حسين، ويحيى حقي، ويوسف إدريس، ونوال السعداوي. أما العلماء والمفكرون والرحَّالة الأقدمون فيقدم منهم المعجم: البيروني، والفارابي، والغزالي، وابن الهيثم، وابن بطوطة، وابن خلدون، وابن رشد، وابن سينا، بأسمائهم العربية وليس بالأسماء التي عُرفوا بها في اللغات الأوروبية. ومن موضوعات الدين الإسلامي يقدم مُدخلات عن القرآن الكريم والحديث الشريف والإسلام والشريعة ورمضان والحج والإمام والجامع وعيدَي الفطر والأضحى. ومن الأسرات الحاكمة العربية والإسلامية هناك الأمويون والعباسيون والمرابطون والغزنويُّون والعثمانيون، وثمة مدخلات عن أهل السنة والشيعة والصوفية. وفي التراث الأدبي يقتصر على ذكر ليلى والمجنون وألف ليلة وليلة ورباعيات الخيام، كما أن ثمة مدخلًا أيضًا لأم كلثوم. ويقدم المعجم، على نفس النحو، مدخلات أساسية عن المظاهر الثقافية والتراث في أفريقيا وآسيا، وخاصة الصين واليابان، ولكن تبقى الموضوعات العربية والإسلامية بارزة في مجموعها على غيرها من الموضوعات غير الغربية. وطبعًا تُثير الاختيارات التي قام بها الأستاذان المصنِّفان تساؤلاتٍ عديدة، فلماذا اختارَا هذه الشخصية وليست تلك؟ ومن ناحيتنا، لا بد أن تُثارَ أسئلة؛ مثل: أين أحمد شوقي وبشارة الخوري وتوفيق الحكيم ولطيفة الزيات؟ ولماذا أم كلثوم دون عبد الوهاب؟ وأين ابن النفيس أو الإشارة إليه في مدخل وليام هارفي؟ وما إلى ذلك من أسئلة. والرد على هذه التساؤلات قد يستبين في الطريقة التي اعتمد عليها الأستاذان في تصنيف معجمهما، والتي أورداها في مقدمة قصيرة له. فهما قد عهدَا إلى عدد من الخبراء الأكاديميِّين في جامعاتِ كثيرِ من البلدان أن يقترحوا حوالي خمسين مدخلًا ثقافيًّا هامًّا في المجال الذي تخصصوا فيه. وقامَا بعد ذلك بالموازنة بين اقتراحاتهم، وخرجَا لكل مجال بقائمة تحتوي على الموضوعات التي تكررت أكثر من غيرها في إجابات الخبراء، ثم قام فريق من الباحثين المساعدين بجمع معلومات عن تلك الموضوعات من المراجع المتخصصة في مكتبات الجامعات في أمريكا، وتمَّ عرضُ المكتوب على متخصصين في كل باب لمراجعته، كما يذكر الأستاذان أنهما تلقَّيا مساهماتٍ معينةً من أساتذة من القارات الخمس تطوعوا بالمساعدة في هذا المشروع، بل وبكتابة المدخلات الخاصة بموضوعاتهم. ومن القائمة التي أوردها الأستاذان يشكران فيها كلَّ مَن عاونهم في هذا العمل، نلاحظ بدهشة ندرة الأسماء العربية، التي اقتصرت على اسمين أو ثلاثة، غير معروفين لدينا، وقد يفسِّر هذا بعض الهنات التي شابَت المعلومات عن الأدباء المصريين (على سبيل المثال) كالقول بأن طه حسين كان كفيفَ البصر منذ مولده، وإدراج رواية الأرض ضمن أعمال يوسف إدريس. وقد كتبت للأستاذَين بهذه الملاحظات لتداركها في أية طبعات مستقبلة للمعجم. ويتضح من طبيعة العمل ذاته أن ضيق المساحة والحجم الذي تقرر أن يصدر المعجم به قد حالَا بينه وبين أن يكون أكثرَ تمثيلًا مما هو عليه، ومكان ذلك هو المعاجم المفصلة أو دوائر المعارف. والمعجم على ذلك كما يقول صاحباه: «مجرد دعوة للقرَّاء إلى بدء عملية فهم تلك الثقافات التي لا يكاد المتعلمون في الغرب يعرفون عنها شيئًا.»
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/18/
الاحتفال بمئوية مولد جيمس جويس، ١٩٨٢
في يوم ١٦ يونيو احتفلت الأوساط الأدبية والفنية بنيويورك بما أصبح يُدعى «يوم بلوم»، وهو أصلًا يوم ١٦ يونيو عام ١٩٠٤، الذي تدور فيه أحداث — أو لا أحداث — رواية جيمس جويس الملحمية «عوليس». وقد تم تدشين الاحتفال باسم «يوم بلوم في برودواي»، وبرودواي هو اسم المنطقة الشهيرة التي تقع فيها دور المسارح والسينما والفن في المنطقة الغربية من نيويورك. أما آل بلوم فهم ليوم بلوم بطل الرواية وزوجته ماريون «موللي» بلوم، ثم الشاب ستيفن ديدالوس الذي يصبح في نهاية القصة الابن الروحي لبلوم. وشمل يوم الاحتفال عدة قراءات قام بها ممثلون مشهورون لأجزاء من الرواية العظيمة، وبعض المسرحة لمقاطع منها، وبعضًا آخر مصحوبًا بالموسيقى والغناء، كما أذاعَت إحدى محطات الراديو تسجيلًا لقراءة من الرواية بدأ من الساعة الثامنة صباحًا واستمر ١٧ ساعة حيث انتهى في الواحدة والنصف من صباح اليوم التالي من انتهاء المونولوج الداخلي لموللي بلوم. وعشية ذلك اليوم، أشهر يوم أدبي في التاريخ القصي، أذاعت المحطة رقم ١٣ للتليفزيون في نيويورك، التي تهتم بالبرامج الثقافية والفنية غير التجارية، برنامجًا عن «عالم جيمس جويس»، احتوى على لمحات من حياة الكاتب ومؤلفاته. وكان المعلق على هذا البرنامج السمعي المرئي الممثل الأيرلندي المعروف «بيتر أوتول»، وتقصَّى البرنامج حياة جويس، وذكريات طفولته التي بثَّها بعد ذلك في جميع أعماله، وركَّز على نهاية روايته الأولى شبه الذاتية «صورة للفنان في شبابه»؛ إذ هو يرحل عن وطنه أيرلندا إلى أوروبا كيما «أقابل حقيقة التجربة، ولكي أضع في مصهر روحي الضمير الذي لم يُخلق لبني جنسي»، مستعينًا «بالصمت، والنفي، والدهاء»، وداعيًا «أيها الأب القديم، أيها الصانع القديم، فلتعضدني الآن وإلى الأبد بروح من عندك.» وعرض البرنامج التلفزيوني تجوالات جويس وأسرته في «تريستا» و«زيورخ» و«باريس»، وظروف كتابة ونشر أعماله المعروفة، مركِّزًا على «عوليس» ثم روايته الأخيرة الأشد تعقيدًا «يقظة فينيجان»، كما ركز على المشاكل التي صادفها مع ناشريه الأيرلنديِّين، حتى إنه خصص إحدى قصائده للسخرية من الناشرين والطابعين وهي المعروفة بعنوان «غاز موقد». وكان من الإسهامات النادرة لهذا البرنامج تقديم صورة صوتية لجويس يتلو مقاطع من «عوليس» ومن «يقظة فينيجان»، وكذلك لمحات خاطفة من شريط سينمائي حي، يصور جويس وزوجته في زيوريخ وباريس، كما شاهدنا على شاشة التليفزيون جولة للكاميرا في بعض الطرقات والأماكن الشهيرة من مطاعم ومكتبات وتماثيل ظهرت في «عوليس» أثناء تجوالات ليون بلوم وستيفن ديدالوس في «دبلن» آنذاك. كما تعرفنا على «سيلفيا بيتش» صاحبة المكتبة المشهورة «شكسبير وشركاه» في باريس في فترة ما بين الحربين، والتي دعَّمت وشجَّعت جويس وغيره من الأدباء العالميِّين المشهورين، والتي نشرَت «عوليس» بعد أن آمنت بعبقرية جويس اللغوية والقصصية، كما أنها هي التي أشرفت في عام ١٩٢٤ على إجراء تسجيل بصوت جويس لبعض مقاطع روايتَيه، وهو من أوائل التسجيلات الفنية النادرة الموجودة لأصوات الشخصيات المعروفة، وهو نفس التسجيل الذي قدَّم البرنامج التلفزيوني أجزاءً منه، وظهرت أيضًا بالبرنامج تسجيلات نادرة لهارييت ويفر، وابنة عمة جويس، وشقيقته، وابنه، وحفيده ستيفن. وربما كان هذا الحشد الكبير في نيويورك للاحتفال بذكرى عملٍ روائي عظيم لكاتب عظيم، تكفيرًا عن ذنبٍ سبقَ أن ارتكبَته نيويورك بالذات في حق جويس. فقد كان ميناء نيويورك هو المكان الذي صادر فيه رجال الجمارك النُّسخ التي وصلَت إليه من «عوليس» للتوزيع في الولايات المتحدة وأحرقوها، وذلك بدعوى أنه من الكتب الخارجة على التقاليد. والواقع أن الأمر قد تطلَّب بعد ذلك اثنتَى عشرة سنة لنشر «عوليس» أخيرًا في الولايات المتحدة. وقد واجه جويس صعوباتٍ جمةً لنشرِ أيٍّ من أعماله؛ فقد رفض جميع الناشرين في أيرلندا نشرَ مجموعته القصصية «أناس من دبلن»؛ لما كانت تحويه من إشارات صريحة ضد شخصيات معروفة فيها، وتعريضات بالملكة فكتوريا وزوجها. وحتى حينما طبعها جويس بمعونة بعض أصدقائه، قام بعض المحافظين بشراء جميع النسخ وإحراقها خفية، كما أن نشر روايته الأولى «صورة للفنان في شبابه» لم يُصبح ممكنًا إلا بعد تدخُّل راعية جويس الآنسة هارييت ويفر في الأمر واضطرارها إلى إنشاء دار نشر خصيصًا ليصدر عنها هذا الكتاب. وبعد ذلك، توسَّط «عزرا باوند» لدى صاحبتَي المجلة النيويوركية الأدبية «ليتل ريفيو» لنشر «عوليس» على حلقات فيها، الأمر الذي رحبتَا به بحرارة. وظهرت في المجلة ثلاث عشرة حلقة من مجموع الحلقات الثماني عشرة التي تتكوَّن منها «عوليس»، وذلك في الفترة من مارس ١٩١٨ حتى ديسمبر ١٩١٩. وبعدها تفجرت فضيحة أدبية هائلة تمثَّلت في قيام إحدى جمعيات المحافظة على الأخلاق في نيويورك آنذاك بمقاضاة صاحبتَي المجلة لسماحهما بنشر محتويات «عوليس»، وكانت النتيجة أن مُنعت المجلة من نشر بقية الكتاب، وتمت مصادرة ما هو موجود منها، بل وأُدرجت السيدتان «مارجريت أندرسون»، «جين هيب»، صاحبتَا المجلة، في عداد أصحاب السوابق! وقد أعاق ذلك بالطبع أية إمكانية لنشر الكتاب في الولايات المتحدة. وتروي سيلفيا بيتش مدى الحزن الذي سيطر على جويس حين انتهى تمامًا من الكتاب بعد ثماني سنوات طوال من العمل الدءوب فيه وانتقل إلى باريس للعمل على نشره من هناك، ثم فشله التام في العثور على ناشر له. وحين رأت «بيتش» مدى حزنه ويأسه، فاتحَته في أن تقوم هي بنشر الكتاب بالإنجليزية عن المكتبة التي تمتلكها في باريس، وقبل جويس على الفور. وجرى العمل المحموم في جمع سطور الكتاب للانتهاء من طبعه وإخراجه في تاريخ يوافق عيد ميلاد جويس الأربعين، وفعلًا تسلَّم جويس في يوم ٢ فبراير ١٩٢٢ أول نسختين صدرتَا عن المطبعة، فأهدى واحدة إلى زوجته، وأعطى الأخرى لسيلفيا بيتش فعرضتها في واجهة مكتبتها ليراها مَن يريد من محبِّي الكاتب ومريديه. وقد بلغ من نجاح الرواية في باريس أن قامت بيتش بإصدار إحدى عشرة طبعة منها بعد ذلك. وقد طُبع من أول إصدار للرواية ألف نسخة مرقمة، أهديت النسخة رقم ١ منها إلى راعية جويس الآنسة «هارييت ويفر»، وقد وصل سعر النسخة من هذه الطبعة المرقمة. الآن «١٩٨٢»، إلى ما يقرب من أربعة آلاف دولار! وفي مقابل النجاح الذي لاقَته الرواية في باريس، كان الأمر مختلفًا بالنسبة للولايات المتحدة وإنجلترا، فقد صادرت الجمارك في «فولكستون» كلَّ النسخ المرسَلة إلى إنجلترا، وصادرت جمارك نيويورك النسخ المرسَلة للتوزيع في الولايات المتحدة، ولم تكن هذه هي الضربة الوحيدة التي تلقاها جويس من نيويورك، بل إن ما زاد الطين بلة أن عمد بعض لصوص النشر هناك إلى طبع نسخ مزورة مما يعرف بطبعات القرصنة وبيعها سرًّا، مما أضاع على جويس حقوقه في النشر، بالإضافة إلى صدور تلك النسخ المزورة مليئة بالأخطاء نتيجة لظروف طبعها، وقد عمل أصدقاء جويس على إصدار وثيقة احتجاج ضد هذه السرقة الأدبية المهينة، وقَّع عليها عددٌ من أبرز أدباء وعلماء وفناني العالم، منهم: أندريه جيد، وت. س. إليوت وأينشتاين ود. ﻫ. لورنس وبيرانديللو وﻫ.ج. ويلز وأوامونو وفيرجينيا وولف وهمنجواي، بل وصل الأمر بجويس أن رفع قضية في إحدى محاكم نيويورك ضد أحد هؤلاء الناشرين، ورغم صدور الحكم بإيقاف ذلك الناشر عن مواصلة هذا العمل غير المشروع، فإن ذلك لم يمنعْه أو يُعِق غيرَه من المضيِّ في هذا التزييف المربح، بكل ما يعنيه لجويس من ضياع حقوقه الأدبية والمادية. وقد استمر هذا الوضع المؤلم حتى ١٩٣٣، حين أقدمَت إحدى كبريات دور النشر بنيويورك — وهي «راندوم هاوس» — على مجابهة هذا الأمر وعلاجه بأن كلَّفَت محاميَها بالتقدم إلى محكمة نيويورك الفيدرالية بطلب بالتصريح لها بنشرِ «عوليس» في الولايات المتحدة. وتابع الجميع إجراءات القضية بشغف وقلق، وقدَّم المحامي آراءً عديدةً من الأدباء والصحفيِّين والمعلِّمين وعلماء النفس والتربية فيما يتعلق بالرواية، وتولَّى قاضٍ يُدعى جون وولزلي الفصلَ في القضية بعد أن قرأ بإمعان، وفحص جميعَ وثائقها، وأصدر في النهاية حكمة الموثق المشهور في ٦ ديسمبر ١٩٣٣ بالسماح بنشر «عوليس» في الولايات المتحدة. وكان نص الحكم وثيقة تاريخية هامة في سِجل حرية التعبير الأدبي والفني، نجح فيها ذلك القاضي المستنير في إدراك قيمة «عوليس» الأدبية ومدى أهميتها في إطارِ فنِّ الرواية الحديثة. كان مما ذكره في حيثيات الحكم «أن جويس قد سعى في كتابته «عوليس» أن يقوم بتجربة جادة في نوعٍ أدبيٍّ جديدٍ … لقد حاول جويس، بنجاح مدهش، أن يُبيِّن كيف يحمل تيار الشعور، بكل ما يحويه من انطباعات متغيرة دومًا، ليس فقط ما في بؤرة ملاحظة المرء للأشياء المحيطة به، بل وأيضًا مخلفات انطباعات سابقة، حديثة وقديمة، تطفو عن طريق تداعي الخواطر من مملكة اللاشعور، وهو يُظهر كيف تؤثر كلُّ هذه الانطباعات على حياة الشخصية التي يَصِفها وعلى سلوكها.» وقال الحكم أيضًا: «ولما كان جويس مخلصًا للأسلوب الفني الذي اتبعه، وحاول جهده أن يقصَّ على نحوٍ كامل ما تفكِّر فيه شخوصُه، فقد تعرَّض لهجوم شديد، وكثيرًا ما أُسيءَ فَهْمُ مقصده؛ ذلك أن سعيَه إلى تحقيق هدفه قد تطلَّب منه — بصورة عرضية — استخدام بعض الكلمات التي تعتبر غير لائقة بصورة عامة … وهذه الكلمات محل الانتقاد ما هي إلا كلمات سكسونية قديمة، معروفة لكل إنسان، وهي كلمات تستخدمها عادةً الشخصيات التي يسعى جويس إلى وصفِها»، وقال في النهاية: «… إن كتابًا مثل «عوليس» ما هو إلا محاولة مخلصة وجادة لخلق وسيلة أدبية جديدة لملاحظة البشر ووصفهم … وبناء على هذا، يمكن السماح بدخول «عوليس» إلى الولايات المتحدة.» وبعد أن أُذيعَ الحكم بدقائق، أبلغ إلى المسئولين في دار نشر «راندوم هاوس» بالهاتف، وعلى الفور بدأ عُمَّال المطبعة في صفِّ حروف الكتاب تمهيدًا لإصداره. وأخيرًا خرجَت أول طبعة من الرواية في نيويورك في أول عام ١٩٣٤، ولاقَت نجاحًا منقطعَ النظير، وأُعيد طبعها مرات عديدة، ويُعاد طبعها كلَّ حين إلى يومنا هذا، وهكذا أصلحت نيويورك خطأها في حقِّ الكاتب العظيم آخر الأمر، بل إن ذلك قد تم قبل السماح بطبع الرواية في إنجلترا عام ١٩٣٦. ومن جانب آخر، فإننا إذا نظرنا إلى جويس وأعماله في اللغة العربية، لوجدنا أن أولَ كاتب عربي تنبَّه إلى أعمال هذا الروائي كان مفكِّرَنا وأديبَنا المتجدد دومًا توفيق الحكيم. ففي كتابه «زهرة العمر» — وهو ترجمة ذاتية من خلال رسائل متبادلة بينه وبين صديق له في فرنسا — نجده، وهو المغرم بكل جديد غريب، يحكي قصةَ اكتشافه لعوليس جيمس جويس إبَّان دراسته للدكتوراه في باريس، ويخصُّه بأربع صفحات كاملة في إحدى رسائله، وهو يصفه بأنه كتاب عجيب، يعتبر مَن قرأه آنذاك ذوَّاقًا لا تخفَى عليه خافية، ويشرح فكرة جويس الرئيسية من ورائه، ثم يتخذه ذريعةً للمقارنة بين الروائيِّين الإنجليز والروائيِّين الروس. ورغم أن الحكيم لم يكن متحمسًا جدًّا للكتاب، إلا أنه يعترف بأنه مدرك للقيمة الأدبية التي تكمن في هذا العمل. أما مَن قدَّم للقارئ العربي «جويس» في مجمله وفي تفصيله بعبارة مشرقة خلَّابة، فهو الدكتور لويس عوض في مقالاته التي جمعها بعد ذلك في كتابه «في الأدب الإنجليزي الحديث». وكان أول مَن ترجم بعض فقرات من الكتاب، جاءت — على قلَّتها — مثالًا رائعًا ونموذجًا يُحتذَى في ترجمة لغة هذه الرواية الصعبة. ثم توالَت المقالات عن جويس ورواية تيار الوعي في كثير من المجلات العربية، وجاء تصريح لنجيب محفوظ قال فيه ما معناه إنه قد قرأ وتأثَّر بثلاثة من عمالقة الرواية الحديثة الغربيِّين، هم جويس في روايته «عوليس»، وبروست في «البحث عن الزمن الضائع»، وتوماس مان، وقد دل ذلك القول، الذي ورد في مقابلة أدبية مشهورة مع فؤاد دوارة، شبابَ الأدباء والروائيِّين إلى ضرورة قراءة هؤلاء الشوامخ وآثارهم تلك التي تعتبر علامات على الطريق. وقد صدرت في الخمسينيات ترجمة عربية لمجموعة القصص «أناس من دبلن» في سلسلة الألف كتاب، وصدرَت ترجمة «صورة للفنان في شبابه» عن دار الآداب ببيروت، وتُرجمت مسرحية جويس الوحيدة «منفيون» مرتين؛ مرة في مجلة «المسرح» القاهرية، ثم صدرَت ككتاب عن وزارة الإعلام في الكويت، كما نشرت مجلة «الشعر» بالقاهرة ترجمةً لعدد من قصائد جيمس جويس، وذلك في منتصف السبعينيات. وفي عام ١٩٧٥، أصدر الدكتور طه محمود طه، الذي كرَّس جلَّ وقتِه وجهده لدراسة جيمس جويس، السِّفر الفخم العظيم «موسوعة جيمس جويس» عن وكالة المطبوعات بالكويت، التي جاءت، والحق يقال، موسوعة بكل معنى الكلمة لكل ما يتصل بجويس من قريب أو بعيد، وكأنما كانت تلك الموسوعة إرهاصًا بين يدَي عمل عظيم تفخر به اللغة العربية، صدر أخيرًا عام ١٩٨٢، وهو الترجمة العربية التي قام بها الدكتور طه «لعوليس»، وصدرَت في جزأَين أنيقَين عن المركز العربي للبحث والنشر بالقاهرة، في وقت متفق مع الاحتفال في ذلك العام بالذكرى المئوية لمولد جويس. ويكفي ما ذكره المترجم القدير من أنه قام بالترجمة على مدى عشرين عامًا، سافر فيها إلى الأماكن التي عاش فيها جويس ووصفها في روايته، وراجع فيها شروح النص المختلفة مع كبار المتخصصين العالميِّين في أدب جويس، فكانت هذه الترجمة علامةً فارقة على درب ترجمة الذخائر الإنسانية إلى اللغة العربية، والتي يجدر ترشيحها لنَيل جائزة الترجمة، لا التشجيعية فحسب، بل والتقديرية أيضًا. ولا شك أن أثرها سوف يبين على مدى الحقبة القادمة في جيل القصاصين والأدباء العرب القادمين، ممن كان يصدُّهم عنها صعوبة قراءتها في لغتها الأصلية. وكل ما نرجوه هو أن يكتمل هذا العمل بإصدار ترجمات للأعمال النقدية التي تناولت هذه الرواية بالشرح والتفسير؛ كشرح «ستيوارت جلبرت» المشهور عليها، الذي فضَّ مغاليق كل فصل من فصولها، ووازى بينه وبين الفصل أو الحدث المماثل له في «أوديسة» هوميروس المشهورة؛ وذلك أن قراءة «عوليس» — حتى بالعربية — دون شروح من هذا القبيل سيفوِّت على القارئ العربي كثيرًا من نقاطها الهامة، كذلك فإن محبي جويس من أصحاب لغة الضاد لا يزالون يفتقرون إلى ترجمة لآخر أعمال جويس وأشدها غموضًا وتعقيدًا، وهي رواية «يقظة فينيجان». ويكفي للتدليل على مدى صعوبة ترجمتها إلى العربية أن نذكر أن تلك الرواية التي صدرَت عام ١٩٣٩، لم تصدر الترجمة الفرنسية لها إلا عام ١٩٨٢! ولا شك أن صدور ترجمتها العربية أمرٌ ضروري لإكمال آثار هذا الكاتب الأيرلندي العظيم أمام القارئ العربي.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/19/
ظاهرة لوليتا
ترجع علاقة جيلي من القرَّاء العرب بفلاديمير نابوكوف وروايته «لوليتا» إلى الترجمة العربية التي صدرت في لبنان في أوائل الستينيات، وظهرَت في الأسواق عند «مدبولي» كما تعوَّدنا أن نقول، فاشتريناها وقرأناها ولم تُخلف فينا أثرًا كبيرًا، ولا أعرف إذا كان ذلك راجعًا للترجمة أم للضجة التي صاحبَت الرواية بأنها مجردُ نتاج آخر للأدب المكشوف، ثم سمعنا بعد ذلك أنها صودرت من الأسواق. وفي خلال إقامتي في مدريد، كان من النادر الحديث عن نابوكوف أو روايته في ظل نظام حكم الجنرال فرانكو. ولكن حين بدأت غربتي في نيويورك عام ١٩٧٨، أخذتُ أتابع نابوكوف وأدبَه بطريقة أكثر تفصيلًا ومنهجية، ودُهشت للكم الوفير للكتب والدراسات التي تُخصص لهذا الكاتب، ناهيك بصدور العديد من الطبعات لأعماله، ثم كانت الواقعة التي بدَّدَت كلَّ شك، وهي اختيار ثلَّة من النقاد روايتَين من رواياته ضمن أعظم مائة رواية بالإنجليزية في القرن العشرين، وزاد من العجب أن احتلَّت لوليتا المركز الرابع من القائمة، قبل روايات د. ﻫ. لورانس وجون شتاينبك وهنري جيمس. كما جاءت رواية نابوكوف «نيران ذابلة» في المركز الثالث والخمسين. ولا شك أن الضجة التي صاحبَت صدور لوليتا، وموضوعها الذي يشار إليه عادةً بأنه هيام رجل في أواسط العمر بفتاة في الثانية عشرة من عمرها، قد حجب عن عيون الكثيرين من القرَّاء القيمة الأدبية للرواية، وهي القيمة التي يُدركها جيدًا نقَّادُ الأدب ودارسوه. وقد تضافرت عدة عوامل تجمَّعَت في زمنٍ قصيرٍ على بعث ظاهرة لوليتا ونابوكوف إلى السطح بصورة مكثفة، منها هذا الاختيار لرواية لوليتا، الذي وضع مؤلفنا جنبًا إلى جنب، مع رواد الرواية الحديثة: جيمس جويس وسكوت فتزجيرالد وفرجينيا وولف. وثاني تلك العوامل هي النسخة الجديدة لفيلم لوليتا الذي أُنتج عام ١٩٩٨، وقد استغرق إعدادُ الفيلم فترةً طويلة وتكلَّف مبالغَ طائلة، وأخرجه «أدين لابن» عن سيناريو كتَبَه ستيفن شيف. وقد تعاقب على إعداد سيناريو الفيلم أسماءٌ لامعة؛ مثل هارولد بينتر ودافيد ماميت، ولكن المنتج والمخرج لم يقتنعا إلا بالسيناريو الذي كتبَه شيف. وقد امتدح ديمتري، ابن نابوكوف، الفيلم الجديد بوصفه تصويرًا شديدَ الحساسية لرواية والده، أبعد ما يكون عن عروض الإثارة الرخيصة، وأقرب ما يكون لروح الرواية. ورغم حرص هيئة الفيلم على قصِّ أية مشاهد قد تُثير الاعتراض، فإنه أثار زوبعةً من الانتقاد والإعجاب على السواء، نتج عنها عدم عرض الفيلم على نطاقٍ تجاريٍّ واسع حتى في أمريكا نفسها، وإن احتفى به النقاد السينمائيون وعَمِلوا على إصدار طبعة خاصة بسيناريو الفيلم ليكون في خدمة الدارسين لفنِّ السينما. أما العامل الثالث فهو الاحتفال بمئوية مولد نابوكوف، التي تقع في أبريل ١٩٩٩، والتي سيُحييها عددٌ من المراكز العالمية في الدول التي ارتبطَت بالكاتب في مراحل مختلفة من حياته، وهي أساسًا روسيا والولايات المتحدة وسويسرا. وأول الأماكن التي ارتبط بها نابوكوف هي مدينة سان بطرسبرج (ليننجراد)، التي وُلد فيها في ٢٢ أبريل ١٨٩٩، وقد افتتحَت المدينة بالفعل متحفًا مؤقتًا للكاتب، في نفس المبنى الذي شهد مولده منذ مائة عام في أحد الأحياء الراقية بالمدينة، وقد نجا ذلك المبنى بأعجوبة من الحصار المدمر الذي قام به الألمان للمدينة خلال الحرب العالمية الثانية. وقد عاش نابوكوف مع أسرته الثرية في روسيا حتى عام ١٩١٩، واشترك والده في الحكومة التي تألَّفت برئاسة كيرنسكي، ولكن بعد استيلاء السوفييت على السلطة، غادرَت الأسرة البلاد إلى المنفى الأوروبي، مثلها مثل الآلاف من الروس الذين استقروا في الخارج، وأصبحوا يُعرفون باسم «المهجَّرين». ويذكر نابوكوف حياته في بطرسبرج في مذكِّراته التي كتبها بعنوان «تكلَّمي يا ذاكرتي»، وصدرَت عام ١٩٥١، ثم صدرَت طبعتها المزيدة عام ١٩٦٧. وسوف يتم الاحتفال بنابوكوف في المدينة بالاقتران مع إحياء المئوية الثانية للشاعر الكبير بوشكين، وذلك انطلاقًا من عملية هذا الاحتفال المزدوج الذي سيسمح باستخدام متحف بوشكين الرحيب لذلك الغرض، وأيضًا لأن اسمَي الكاتبَين يقترنان نتيجة للترجمة الإنجليزية التي أعدَّها نابوكوف لرائعة بوشكين الشعرية «يوجين أونيجين»، ونتيجةً للمنفى الذي تعرَّض له كلا الكاتبَين. ويحتوي المتحف الروسي على بقايا ممتلكات أسرة نابوكوف في روسيا قبل رحيلها، بالإضافة إلى ما قدَّمه ديمتري، الابن الوحيد لنابوكوف، من تذكارات ومخطوطات. أما الجهة الأخرى التي تحتفل بكاتبنا فهي جامعة كورنيل بالولايات المتحدة، وهي تحتلُّ مكانة بارزة في المحطات التي توقَّف عندها نابوكوف في حياته، فبعد رحيل أسرته عن روسيا، توجَّه نابوكوف إلى إنجلترا حيث التحق بجامعة كمبردج العريقة ليدرس بها الآداب الفرنسية والروسية، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٣. وانضم بعد ذلك إلى أسرته في برلين، التي كان بها جالية روسية كبيرة حيث بدأ يكتب دراسات أدبية تحت اسم «سيرين»، بالإضافة إلى قيامه بأعمال جانبية أخرى كيما يُحسِّن بها دخله، وتزوج نابوكوف عام ١٩٢٥ من «فيرا»، وأنجبَا ابنًا وحيدًا هو ديمتري، الذي سيتولَّى بعد ذلك الإشراف على تراث أبيه بعد وفاته. وقد اضطر الكاتب وأسرته إلى الرحيل من ألمانيا بعد سيطرة النازيِّين على البلاد، فتوجهوا إلى باريس حيث كتب نابوكوف أول رواية له باللغة الإنجليزية مباشرة، بعنوان «الحياة الحقيقية لسباستيان نايت». وقد شجع اختيار الكاتب للإنجليزية لغةً لإنتاجه المقبل على هجرته بعد ذلك إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤٠، في أعقاب سقوط فرنسا تحت الاحتلال النازي. وقد حصل هو وزوجته على الجنسية الأمريكية عام ١٩٤٥. وفي أمريكا، بالإضافة إلى نشاطه الأدبي الواسع تأليفًا وترجمة، التحق في عام ١٩٤٢ بالعمل مدرِّسًا للأدب الروسي في كلية «ولزلي» بولاية ماساشوستس؛ حيث ظل فيها إلى أن اختارَته جامعة كورنيل بولاية نيويورك عام ١٩٤٨ أستاذًا للآداب الروسية والأوروبية بها. ومن هنا أتى احتفال الجامعة في خريف العام الماضي بمرور خمسين عامًا على التحاقه للتدريس بها. وقد تركز الاحتفال في إقامة «مهرجان نابوكوفي»، شارك فيه أكثر من ٣٠ من الأكاديميين المتخصصين في أدب نابوكوف، ألقَوا محاضراتٍ عن الجوانب المختلفة من أدبه وإنتاجه، حضرها عددٌ كبير من المهتمِّين بالأدب والنقد والرواية. وتم أيضًا تقديم حوار مسرحي بين نابوكوف وإدموند ويلسون الناقد الأمريكي المشهور، الذي ساعد نابوكوف على نشرِ إنتاجه الأول في أمريكا، وكان من أخلص أصدقائه قبل أن يفترَ الودُّ بينهما في آخر أعوامهما. والحوار مسرحة للخطابات العديدة التي تبادلها الكاتبان، وقام بدور نابوكوف ابنُه ديمتري، الذي شارك على نحوٍ نشطٍ في كافة الاحتفالات. وصاحب تلك الأنشطة معرضٌ للمخطوطات والكتب النادرة، التي لدى الجامعة عن نابوكوف. ولوليتا هي الرواية التي شهرَت اسم نابوكوف، وأدخلَته إلى عالم الأضواء والثراء، رغم أنها وُلدت ولادةً عسرة. فبعد أن أتمَّها مؤلِّفُها في ١٩٥٤، لم يجد أيَّ ناشر لها، حتى إنه فكَّر في أن يحرقَها لولا أن زوجته منعَته من ذلك. ولمَّا عرضَت مطبعة أوليمبيا الشهيرة أن تطبعَها في باريس، رحَّب بذلك دون أن يعلمَ أنها متخصصة في طباعة الكتب الإيروسية، وإن كانت بعض منشوراتها قد استحالَت الآن إلى كلاسيات أدبية. وكان هذا أيضًا هو مصير لوليتا؛ فرغم أن صدورها بالإنجليزية في باريس قد قوبل بالصمت، إلا أن تقييمَ الروائي الإنجليزي المعروف «جراهام جرين» لها بأنها واحدةٌ من أفضل ثلاث روايات لعام ١٩٥٦، أخرجها من دائرة كُتُب الإثارة وسلَّط عليها أضواء النقَّاد الجادين، وعندما نُشرت الرواية أخيرًا في أمريكا عام ١٩٥٨، لم تلقَ أيَّ مشاكل قانونية، بل قابلها القُرَّاء والنقاد بحماس شديد رفع من شأن مبيعاتها إلى الحد الذي قرر نابوكوف معه أن يستقيلَ من عمله في الجامعة، وأن يتفرغ للكتابة في مدينة مونترو بسويسرا. وأهم ما يركِّز عليه النقاد المتحمسون لرواية لوليتا هو الأسلوب اللغوي الرفيع الذي كتب به نابوكوف روايتَه، المليء بالعديد من الإشارات والإحالات الأدبية والتاريخية، والبراعة الفنية التي رسم بها شخصيَّتَي همبرت ولوليتا بطلَي الرواية الرئيسيَّين، بالإضافة إلى الغور النفسي العميق الذي صوَّر به خواطر وأحلام وأوهام هاتين الشخصيَّتَين الفريدتَين، وهم يدفعون تهمةَ الإباحية عن مضمون الرواية، بقولهم إن الكثير يغفلون عن تصوير الرواية لأصل العقدة النفسية التي تسبَّبَت في هيام بطلها المرضيِّ بلوليتا الصغيرة، وهي الموت المفاجئ لحبيبته الصغيرة «أنابيل» حينما كانت في الخامسة عشرة من عمره، وهي العقدة التي لم تُفارقه، والتي جعلَته يبحث فيمن حوله عن صورة حبيبته التي انتُزعت منه انتزاعًا عنيفًا. ولقد قال ديمتري نابوكوف، الابن، إنه بعد مرور عشر سنوات على وفاة أيِّ كاتب، إما أن يهويَ إلى قاع النسيان، أو أن يثبتَ في مكانه، أو يصعدَ حثيثًا إلى سمت مجمع الخالدين. ويبدو أن ما حدث الآن لنابوكوف ولوليتا، دليل على أنه من بين الفئة الثالثة المحظوظة!
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/38697285/
روايات وروائيون من الشرق والغرب
ماهر البطوطي
«وثَمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمالٍ أدبية مختلفةِ اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجةً لتوارُدٍ في الأفكار والخواطر، أو نتيجةَ تأثُّرٍ مباشِر أو غير مباشِر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقارِبة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين.»يُعَد هذا الكتاب رحلةً مشوِّقة وممتعة في فنِّ الرواية العربية والعالمية؛ حيث يطوف بنا «ماهر البطوطي» عبرَ سلسلةٍ من المقالات المؤلَّفة والمترجمة التي تحدَّثت جميعُها عن فنِّ الرواية؛ فتناولَت الحديثَ عن الروائيِّين العالميِّين مثل: «نجيب محفوظ»، و«جيمس جويس»، و«توفيق الحكيم»، و«كافكا»، و«ألبير كامو»، و«باولو كويلو»، و«بهاء طاهر»؛ وعن الرواياتِ العالمية مثل: «أولاد حارتنا»، و«لوليتا»، و«الفردوس»، و«الكيميائي». كما تطرَّقت المقالات إلى شخصية «كمال عبد الجواد» في ثلاثية «نجيب محفوظ»، وأزمته مع الوجود وتفسيره، وتناوَلت كذلك قضيةَ المصادر العربية في القصص الأوروبي، مثل: «كليلة ودمنة»، و«حديث المعراج» الذي تأثَّر به «دانتي» في مَلحمته «الكوميديا الإلهية».
https://www.hindawi.org/books/38697285/20/
كتاب جديد وأخير لهمنجواي
يبدو أن إرنست همنجواي الذي ملأ عالم الأدب إنتاجًا وصخبًا إبان حياته، لن يكفَّ عن ملئها حتى بعد سبعة وثلاثين عامًا من رحيله. فقد طلعَت علينا الأنباءُ بالشروع في إعداد مخطوط لكتاب طويل سبق أن وضعه همنجواي عام ١٩٥٤، وتجهيزه كيما يصدرَ مع الاحتفال في ٢١ يوليو القادم بمرور مائة سنة على مولده. وهذا المخطوط هو نتاج الرحلة التي قام بها همنجواي إلى أفريقيا في عام ١٩٥٣؛ فقد كان من عادة الكاتب الكبير أن يستقيَ مادة كتبه من تجارب حياته التي يمر بها في شتى الأماكن والأوقات. والرحلة المشار إليها لم تكن أول مرة يزور فيها همنجواي أفريقيا، فقد سبق له أن قام بسفرة إلى أفريقيا في عام ١٩٣٤، أي قبل حوالي عشرين عامًا من زيارته الثانية، وكان بصحبته زوجته الثانية بولين بفايفر، وقد كتب همنجواي كتابه «تلال أفريقيا الخضر» عن تلك الزيارة الأولى. أما رحلته الثانية التي تتعلق بالكتاب الجديد فكانت بصحبة زوجته الرابعة ماري ولش، وتركَّزت في منطقة شرق أفريقيا التي تضمُّ الآن دول كينيا وأوغندا وتنزانيا، وصَحِبه في هذه الرحلة ابنُه الأوسط باتريك، من زوجته بولين، ومرشد الصيد بارسيفال، صديقه الحميم الذي رتَّب له أيضًا رحلتَه الأولى. وكان معهم كذلك مصورٌ خاصٌّ من قِبَل مجلة «لوك» الأمريكية، التي كانت قد تعاقدت مع همنجواي على كتابة مقال قصير عن الرحلة مقابل اشتراكها في توفير جزء من نفقاتها. وقد استغرقَت الزيارة الثانية قرابة خمسة أشهر، ومضَت على خير ما يرام، بيد أنها انتهت نهايةً سيئة في يناير ١٩٥٤، حين سقطت بهمنجواي وزوجته طائرةٌ صغيرة فوق شلالات مورشيزون، ولكنهما لم يُصابا إلا بجروح سطحية. وبعد أن عادَا على سطح قارب في النيل الأبيض، وأمكنهما أخيرًا العثور على أحد الطيارين التجاريِّين وافق على أن يطير بهما إلى عنتيبي بأوغندا، انفجرت الطائرة عند إقلاعها، وكانت هذه الحادثة الثانية هي التي تسبَّبَت لهما في إصابات خطيرة، وقد عاد الزوجان آخر الأمر إلى أمريكا بعد أن طيَّرت وكالات الأنباء أخبارًا بوفاة الكاتب في حادثة الطائرة، ونشرت صحفٌ عديدة نعيَه! وبينما كان همنجواي يتعافى من تلك التجربة الشاقة، وفي ظل الجو الذي أحاط به لحصوله على جائزة نوبل للآداب، قرر في نهاية العام أن يلوذ بضيعته الهادئة الكائنة في ضواحي هافانا عاصمة كوبا، كيما يتوفر على وضع كتابه عن تلك الرحلة الثانية لأفريقيا. وبعد أن أنجز همنجواي مخطوطًا أوليًّا للكتاب الجديد من ٨٥٠ صفحة، اضطر إلى تركه كيما يشارك في الإشراف على تصوير فيلم العجوز والبحر المأخوذ عن روايته المعروفة، ثم أعقب ذلك نجاح الثورة الكوبية بزعامة فيدل كاسترو، مما أرغم الكاتب الكبير على مغادرة كوبا نتيجة للموقف الأمريكي من الثورة، وخلَّف وراءه مخطوطَ الكتاب في خزانة حديدية ببنك هافانا، ثم جاءت بعد ذلك فاجعةُ انتحاره في يوليو ١٩٦١، بطلقة من بندقيته، وفيما بعد نجحَت ماري ولش في الحصول من كاسترو على تصريح بأخذ أوراق همنجواي وأدواته الشخصية من ضيعته الكوبية، والتي تحوَّلت بعد ذلك إلى متحف يحمل اسم الكاتب الشهير. وكان مخطوط الرحلة الأفريقية الثانية ضمن ما حملَته زوجةُ همنجواي من هناك. وقد أهدَت ماري ولش كلَّ متعلقات زوجها الأدبية إلى مكتبة جون كنيدي في بوسطن، التي خصَّصت لها قاعة مستقلة، وإن لم تتضمن مخطوط الكتاب المذكور، الذي احتجز بين الملفات غير العامة باعتباره لم يتمَّ نشرُه بعد. وقد ذكر تشارلس سكريبنر، سليل عائلة سكريبنر التي تولَّت إصدار مؤلفات همنجواي منذ العشرينيات، والتي انضوَت تحت دار سيمون شوستر للنشر، أن هذا الكتاب سيكون آخرَ كُتُب همنجواي حقيقة؛ إذ لا توجد أيُّ مخطوطات أخرى له في أي مكان بعد ذلك، وسيتولى باتريك همنجواي، الابنُ الأوسط للكاتب الكبير، مهمةَ تحرير الكتاب الذي سيصدر تحت عنوان «حقيقي مع اللمحة الأولى» وهي جملة تضمنها المخطوط، وتُشير إلى خداع الحواس في إدراكها للأشياء لأول وهلة، والفرق بين ذلك الإدراك وحقيقة الأشياء. وقد سبق صدور أربعةُ كُتُب لهمنجواي بعد وفاته هي: «عيد متنقل»، و«جزر في الغدير»، و«الصيف الخطير»، و«جنة عدن». والكتاب الجديد فيه ملامح أسلوب همنجواي المميز، سواء من ناحية اللغة أو المحتوى؛ ففيه ذكرُ باريس التي يعشقها الكاتب، وحديث عن عزرا باوند، والبيسبول، والشراب، والتأمل في الحياة، وهو يحتوي على معلومات مثيرة تخلط الواقع بالخيال، فلا يدري القارئ ولا الناقد هل ما يذكره همنجواي فيه قد وقع حقيقةً أم هو من القصص الخيالي. ومن هذه القصص أنه بينما كانت ماري ولش متغيبة في جولة شرائية في العاصمة الكينية، يتخذ همنجواي من فتاة تُدعَى ديبا، في الثامنة عشرة من عمرها، زوجة ثانية له. وكانت الفتاة من قبيلة «واكيمبا» الكينية، ويبدو أنها كانت علاقةً طارئة لم تَدُم سوى المدة التي قضاها همنجواي في رحاب تلك القبيلة. وقد جرى ذكرُ تلك الزيجة الأفريقية في السيرة الجامعة التي كتبها كارلوس بيكر عن همنجواي، كما أن هوتشنر صديق الكاتب الحميم يذكر في كتابه «بابا همنجواي»، أن الكاتب أشار لها في حديثه معه بعد عودته من الرحلة الثانية، وكان يعدُّ على أصابعه، ثم يقول في غموض: «في سبتمبر القادم سيكون لي ابنٌ أفريقي!» وعلى طريقةِ همنجواي في تشجيع بناء الأساطير حول حياتِه وكُتُبِه، لم يكن أبدًا ينفي أو يُثبت حدوثَ مثلِ هذه الوقائع، بيد أن ابنه باتريك، محرر الكتاب، والذي حضر السفرة الأفريقية، ينفي حدوثَ ذلك الزواج ويؤكد أنه من قبيل الخيال القصصي. وقد رجعتُ إلى الكتاب الذي أصدرَته ماري ولش عن حياتها مع همنجواي، وسردَت فيه بالتفصيل رحلتَها معه إلى شرق أفريقيا، وقد جاء ذكر الفتاة ديبا عرَضًا بوصفها «حبيبة همنجواي الأفريقية»، وقد وصف الكتاب وقائعَ الرحلة، بما فيها صيد الأسود والنمور والفهود، وخاصة الهوس الذي سيطر على ماري باصطياد أسد أسود مفترس، كان يهاجم قرية قبيلة واكيمبا ويَلْتهم ماشيتَها. وقد جاء ذكره أيضًا في كتاب همنجواي المنتظر، ويتعرض لقيام زوجته فعلًا باصطياد ذلك الأسد، الذي يفترش جلده أرضيةَ قاعة همنجواي بمكتبة كيندي، كما عثرت في كتاب ماري ولش على معلومة ألقَت الضوء على ما كنت قد شاهدتُه في متحف همنجواي بهافانا — في أثناء رحلة عمل للترجمة هناك — من وجود بعض التذكارات الفرعونية به؛ فقد ورد في كتابها أنهم توقَّفوا في مدينة السويس عند عودتهما بالباخرة من أفريقيا في طريقهما إلى فينيسيا. ورغم أن همنجواي قد بقيَ على ظهر الباخرة نتيجة لإصاباته في حادثتَي الطائرتين، فقد انضمَّت زوجتُه إلى جموع المسافرين في رحلة سياحية سريعة إلى القاهرة، زاروا فيها الأهرامات وأبا الهول والمتحف المصري وخان الخليلي، حيث اشترَت ماري ولش تلك التذكارات، وهي تذكر أيضًا في الكتابِ نفسِه قصةَ سفرها إلى كوبا خلال أسوأ علاقات بين البلدين، بعد محاولة خليج الخنازير الفاشلة، وكيف أنها نجحت في الحصول على موافقة السلطات الكوبية على الخروج بمخطوطات همنجواي وأرواقه إلى أمريكا. بَيْدَ أنها تذكر شيئًا هامًّا قد يتعارض مع تأكيد سكريبنر بأن كتاب الرحلة الأفريقية الثانية هو آخر كتاب لهمنجواي، فهي تسرد بين المخطوطات كتابًا عن ذكريات همنجواي عن الحرب العالمية الثانية. ولما كانت قد أشارت إلى الكتب الأربعة الأخرى التي صدرَت تباعًا لهمنجواي بعد وفاته، وأشارت أيضًا إلى مخطوط ذلك الكتاب الأفريقي الجديد، فلا بد أن كتاب الحرب العالمية الثانية شيء آخر مستقل، وسنسمع عنه في يوم من الأيام كيما يُضمَّ إلى تراث هذا الكاتب العظيم، الذي شغل الناس في حياته ويشغلهم بعد وفاته بأكثر من ثلث قرن.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/0.1/
تصدير المُراجِع
كنتُ أنتوي كتابةَ كلمةٍ موجزة عن فرجينيا وولف على نحو ما فعلتُ في كتابي الصغير «الأدب وفنونه» (١٩٨٤م)، الذي طُبع عدة طبعات، وكانت الطبعات تنفد في كل مرة، وأتحدثُ فيه عن فن كتابة القصة الحديثة والحداثية، ولكنني عندما قرأتُ مقدمة المُترجِمة، هنا بهذا الكتاب، التي تنثر فيها مفاتيحَ قراءة وولف التي أسمتها ناعوت: «الفرَس الحرون»، وجدتُ أنها تفي بالغرض، وهكذا اكتفيتُ بالمراجعة اللغوية. ولقد راعني أن الكاتبة المبدعة فاطمة ناعوت تؤمن بما أومنُ به في فن الترجمة، ألا وهو أننا لا نستطيع تحقيق الأمانة الحقَّة في الترجمة الأدبية، أو ما يمكن تسميته النقلَ الصادق للأثر الأدبي من لغة إلى لغة، إلا إذا اجتهدنا في ترجمة الأسلوب أيضًا، ومعنى ذلك تقديمُ صورةٍ كاملة للمعاني والمباني جميعًا في النص المترجَم؛ فالمبنى في الأدب له معنًى، وهو يتضافر مع دلالة الألفاظ التي قد تُستخدم في مبانٍ أخرى، ويشتبك معها في إيصال المعنى المتفرِّد الذي يتميز به كلُّ أثرٍ أدبي حقيقي شهد له النُّقَّاد، وتقبَّلته ذائقةُ الجمهور. والمباني تتفاوت بتفاوتِ ما ترمي إليه الكاتبةُ في هذه المجموعة، وهو لا يتفاوتُ بتفاوتِ ما يُسمى بالتيمة أو خيط الفكرة والصورة وحسب، بل أيضًا بتفاوتِ رؤية الكاتبة من موقفٍ شعوري إلى موقفٍ شعوري آخَر قد يتصل بسابقه أو يُمهِّد للاحقه، وربما كان مُغايِرًا لهذا أو ذاك. وهو ما نستدلُّ عليه باختلاف المبنى ولو اتصلَ الموقفان من الداخل. وقد دفعني إلى محاولة ترجمة الأسلوب فيما أُترجمُ من آثار أدبية إيماني بأن الأدب يستمدُّ من الشكل طاقةً خاصة به، وإهمال ذلك الشكل ينتقص من تلك الطاقة؛ فقارئ الشِّعر لا يكتفي بما يقول الشاعر؛ أي بما ينقله من فِكر قد يجد التعبير المنثور عنه (في الشرح أو الإيضاح)، بل يتذوَّق أيضًا أسلوبَ الشاعر في صوغ هذا الفكر؛ ولهذا كنتُ ولا أزال أُترجمُ الشِّعرَ شِعرًا، والنثرَ نثرًا، مُحاوِلًا في ترجمة الشعر إخراجَ الإيقاع الكامن في الأصل، استلهامًا لما أُحسُّه وأستشعره، ومُحاوِلًا في ترجمة النثر الأدبي إخراجَ نبضِ الأسلوب الذي يتبدَّى في أبنية العبارات، وما نستشفُّه في هذه الأبنية من حركة داخلية، عادةً ما تكون مقصورةً عليه وحده. وهذا ما تفعله فاطمة ناعوت هنا؛ إذ تنجح في تمثُّل أبنية فرجينيا وولف واستيعابها قبل نقلها بلون من المحاكاة يقترب من الإبداع الجديد، فهو بلغةٍ جديدة، وهو ترجمة (والترجمة في معناها الاشتقاقي نقلٌ للمكان) تنقلنا من مكان إلى مكان، فتُعيدُ فاطمة بناءَ المواقف الشعورية في القصص الأصلية بلغة الضاد، متيحةً للقارئ العربي فرصةَ الاطلاع على فنِّ فرجينيا، ولو اختلفت اللغة. والمترجِم الذي يختار هذا المركب الصعب لا بد أن يكون مُبدِعًا أولًا حتى يستطيع إبداع النص الإبداعي الجديد. وقد يتأثر في إبداعه هذا النصَّ الجديد بعصره، أو بتقاليد لغته، أو بأسلوب كتابته الخاصة المتفرِّدة، وقد يتأثر في الترجمة إذَن بهذا كله، وهذا لا غبارَ عليه، بل إنه محتوم؛ لأن النصَّ المُبدَع الجديد يُمثِّل صورةَ النص الأصلي الآن وهنا، وعند هذا المبدِع الذي يترجِم، ومن حقِّ جيلٍ لاحق أن يعيدَ تقديمَ الأثر الأدبي وفقًا لاختلافِ المكان والزمان؛ ولذلك تكثُر الترجماتُ للآثار الأدبية الكبرى، وتتبدَّى في كلٍّ منها هذه المؤثرات، جميعها أو بعضها. لقد نجحت فاطمة ناعوت فيما تصدَّت إليه هنا في هذه المجموعة: «أثرٌ على الحائط»، مثلما قدَّمَت لنا قبل سنوات كتابًا آخر لفرجينيا وولف ذاتها، عنوانُه: «جيوبٌ مُثقَلة بالحجارة»، ونرجو أن تتبعه بآثارٍ أدبية أخرى تُثري بها المكتبةَ العربية.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/0.2/
مقدمة المترجِمة
تُموِّه وولف السردَ عن طريق اللعب بالضمائر، فلا يَبِين هل تتحدث عن إنسان أم عن جماد، ثم تترك قارئَها يؤوِّل النصَّ كما يشاء، فلا قول فصلًا ثَمة أبدًا. وهنا مَلمحٌ تجريبي حديث في الأدب عمَّا كان قارًّا في حقبة وولف في بدايات القرن الماضي. والأهمُّ أن فكرةَ تهميش الإنسان أو إلباسه عباءةَ «الشيء» وإلغاء إنسانيته هي أحد ملامح الفكر ما بعد الحداثي في الأدب، من حيث تَشظِّي الإنسان وتفتُّته وتحوُّله إلى رقمٍ ضمن ملايين الأرقام، وسقوط فكرة مِحوريَّته الكون، إلى آخر سمات الفكر ما بعد الحداثي الذي بدأ يُدشِّن نفسه في ستينيات القرن الماضي. ولو تأملنا كيف أن وولف كتبَت هذا القصَّ بذلك النزع في عشرينيات القرن الماضي وما قبلها، لأدركنا كم هي سابقةٌ عصرَها. •••
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/1/
المرأة في المرآة
يجب على الناس ألا يتركوا المرايا مُعلَّقةً في غُرفهم أبدًا، إلا بقدرِ ما يتركون دفتر شيكات مفتوحًا أو خطابات اعتراف بجريمة بَشِعة. ليس بوسع المرء أن يقاومَ النظر، في تلك الظهيرة الصيفية، إلى المرآة الطويلة تلك، المعلَّقة خارج القاعة. وحدَها المصادفة قد رتَّبت الأمرَ على هذا النحو. من أعماق الأريكة في قاعة الاستقبال، كان بوسع المرء أن يرى الصور المنعكِسة في المرآة الإيطالية، ليس وحسب الطاولة الرخامية التي أمامه، بل يرى كذلك امتدادَ الحديقة في الخلف. بوسع المرء أن يرى ممرًّا طويلًا من العُشب يؤدي إلى صفوف من الزهور العالية، إلى أن تتكسر زوايا الانعكاس، ثم يَقطع الصورةَ إطارُ المرآة المُذهَّب. ولكن، بالخارج، كانت المرآة تعكس طاولة القاعة، زهورَ عبَّاد الشمس، مماشي الحديقة، على نحو بالغ الدقة بالغ الثبات حتى بدتِ الصورُ هنا سجينةً في واقعها ممنوعةً من الفرار. كان ذلك تباينًا غريبًا — كلُّ التغيرات هنا، في مقابل كل السكون هناك. ليس بوسع المرء ألا يُقلِّب نظره من صورة إلى أخرى. وفي تلك الأثناء، بما أن كلَّ الأبواب والنوافذ كانت مُشرعةً بسبب حرارة الطقس، كانت ثَمة تنهيدةٌ أبدية وصوتٌ مكتوم، صوتُ العابر المُرتحِل والبرودة القارسة، كما تبدو، تأتي وتروح مثل نفَس الإنسان، بينما الأشياء في المرآة كانت قد كفَّت عن التنفس ورقدَت ساكنةً في إغفاءة الأبدية. وفجأةً انتهت تلك الانعكاساتُ بعنف — ولكنْ دونما صوت. كِيانٌ أسودُ ضخمٌ جثَم في المرآة؛ طمسَ كلَّ شيء، شظَّى الطاولةَ إلى حزمة من الطاولات الرخامية المُعرورِقة بالوردي والرَّمادي، ثم تلاشت. على أنَّ الصورة كانت قد تبدَّلَت تمامًا. لوهلةٍ غدَت غيرَ واضحة المعالم وغيرَ منطقية ومنحرفةَ المركز كُليًّا. لا يستطيع المرءُ أن يربط تلك الطاولات بأيٍّ من أدوات الإنسان ومنافعه. وبعدئذٍ بالتدريج بدأَت بعضُ العمليات المنطقية تتمُّ عليها فتصنعُ شيئًا من الترتيب والنظام لتَخرجَ بها إلى خانةِ الخبرة العامة. يدرك المرءُ في الأخير أنَّ تلك الأشياء كانت مجردَ رسائل. كان الرجلُ ساعي البريد قد أحضرَ البريد. ها هي مُصْطفَّة فوق الطاولة الرخامية، جميعُها يَقطُر في البداية نورًا وألوانًا، ثم تغدو بعد برهة خشنةً فظَّةً مُصمَتة. ثم باتَ من الغريب أن ترى كيف أنها تقلَّصَت وانتظمَت وتجمَّعَت لتصنعَ جزءًا من الصورة، ثم لتمنحَنا ذلك السكونَ وتلك الأبديةَ اللذين تمنحهما المرآة. ها هي الرسائل ترقدُ هناك مُعتمِرةً حقيقةً جديدة ومعنًى جديدًا وثِقلًا أضخمَ أيضًا، كأنما تحتاج أزميلًا لكي تُزحزحَها عن الطاولة. وسواء أكان هذا وهمًا أم لم يكن، فقد بدَت لا مجردَ حفنة من الرسائل العابرة بل هي لوحاتٌ محفورة بالحقيقة الأبدية — إذا ما استطاعَ المرء أن يقرأها، إذَن لاستطاعَ أن يعرف كلَّ شيء لا بدَّ أن يعرفه عن إيزابيلا، نعم، وعن الحياةِ أيضًا. الأوراق داخلَ الأظرف تلك التي تُشبِه الرخام يجب أن تُمزَّق عميقًا وتُقذَف كثيفًا بالمعنى. سوف تدخل إيزابيلا، وتأخذها، رسالةً فرسالة، ثم تقرؤها بعناية كلمةً كلمة، وبعد ذلك بتنهيدةِ فهمٍ عميقة، كأنما كانت تنظرُ إلى قاع كل شيء، سوف تُمزِّق الأظرف إلى مِزَقٍ نحيلة ثم تربط الرسائلَ معًا وتُغلق دُرجَ الخِزانة بالمِفتاح، مع تصميمٍ حاسم ونهائي أن تُخفيَ ما لم تُرِد له أن يُعرَف. كانت الفكرة بمثابة التحدي. لم تشأ إيزابيلا أن يُعرَف عنها — لكنْ ما كان عليها أن تهرب أكثر. كان ذلك عبثًا، كان الأمر وحشيًّا. إذا ما أخفَت كثيرًا وعرفَت كثيرًا فَعلى المرء أن يُجبرَها على أن تفتح بأولِ أداةٍ تصل إلى اليد — الخيال. على المرء أن يُثبِّت عقله عليها في تلك اللحظة بالذات. على المرء أن يربطها هناك. يجب على المرء أن يرفض أن يتباطأ أكثرَ بقولِ أو بفعلِ مثل هذا لأنَّ اللحظة تمرُّ — مع وجباتِ العشاء والزيارات والأحاديث المهذَّبة. الآن وبحركةٍ سريعة من مقصِّها قصَّت غُصنًا صغيرًا من الترافيلرز جوي فسقطَ على الأرض. وخلال رحلة سقوطه إلى الأرض، تسرَّب بالطبع بعضُ النور إلى الداخل، داخلها هي، وبالطبع أيضًا كان بوسع المرء إذ ذاك أن يخترق كينونتها أكثر. عقلُها كان وقتها مليئًا بالوهن والندم … قصُّها غُصنًا شائخًا أصابها بالحزن لأنه كان يحيا قبل بُرهة، والحياةُ كانت عزيزةً عليها. نعم، وفي الوقت نفسه سيقترح عليها سقوطُ الغُصن كيف يجب أن تُميتَ نفسَها وتُميتَ كلَّ تفاهات الأشياء وزوائدها. وبسرعة أيضًا وهي تلاحقُ هذه الفكرة، بحاسَّتها اللحظية الطيبة، راحت تفكرُ أنَّ الحياةَ قد عاملتها على نحوٍ جيد؛ حتى ولو كان يجبُ أن تسقط فإنَّ عليها أن ترقدَ على التربة وتتحلل بعذوبةٍ داخل جذورِ زهرِ البنفسَج. لذا وقفَت تفكِّر. دون أن تجعل أية فكرة تظهر على ملامحها — إذ كانت من أولئك الكَتُومين الذين عقولُهم تقبضُ على أفكارهم في شبكة من غيوم الصمت — كانت مزدحمةً بالأفكار. عقلُها يُشبِه غرفتها، التي كانت الأضواءُ تتقدَّم فيها وتتأخَّر، تدورُ على قدمٍ واحدة ثم تخطو برهافة، تنشر أذيالها، وتثقب بمناقيرها لتصنعَ طريقَها؛ ثم غدا كلُّ كِيانها مغمورًا، مثل الغرفة ثانيةً، بغيمة من المعرفة العميقة، الندم الذي لا يُنطَق به، وعندئذٍ أصحبَت مليئةً بالأدراج المقفَلة، المتخَمة بالرسائل، مثل خزائنها. الكلام عن «إجبارها على فتح الأدراج» كأنها محارة، حيث استخدامُ أية أداة عدا أنعمِ وأدقِّ الأدوات وأكثرها مرونةً سيكون أمرًا شيطانيًّا وعبثيًّا. على المرء أن يتخيل — أنها هنا في المرآة. هذا يجعل المرء ينطلق. في البدء كانت بعيدة جدًّا حتى إن المرء لم يستطِع أن يراها جيدًا. ثم جاءت متباطئةً متأنِّية، إلى هنا تُصلِح زهرةً، وإلى هناك ترفع قرنفُلةً لتشتمها، لكنها أبدًا لا تتوقف؛ وطيلةَ الوقت كانت تبدو في المرآة أكبرَ فأكبر، تكتمل أكثر فأكثر لتغدوَ الشخصَ ذا العقل الذي كان المرء يحاول أن يخترقه ليفهمَه. يتحقق منها المرء بالتدريج — يُركِّب الخِصال التي اكتشفها المرءُ داخل جسدها المرئي. كان هناك فستانُها الأخضر-الرَّمادي، حذاؤها الطويل، سلتُها، وشيءٌ ما يَبرق في عنقها. جاءت خطوةً فخطوةً بالتدريج جدًّا حتى إنها لم تشوِّش لوحةَ الانعكاس على صفحة المرآة، بل فقط كانت تضيف إلى المرآة عنصرًا ما جديدًا يتحرك برشاقة فيحتل مواقع الموجودات الأخرى كأنما كانت تسأل تلك الموجودات، بتهذب، أن تُفسِح لها مكانًا. وأما الرسائل والطاولة وممشى الحديقة وزهورُ عبادِ الشمس التي كانت تنتظرُ في المرآة فكانت تنفصل وتُفسِح فيما بينها طريقًا حتى تتمكن هي أن تمرَّ وتُستقبَل فيما بينها. وفي الأخير، ها هي هناك، في القاعة. وقفَت كالموتى. وقفَت جوارَ الطاولة. وقفَت تامةَ السكون. لوهلة، بدأَت المرآة تسكب فوقها الضوء الذي بدا مناسبًا لها؛ الذي بدا كحَمْض يُذيب كلَّ ما هو سطحي وغير أساسي ليتركَ الحقيقةَ وحدَها. كان مشهدًا فاتنًا يَسلبُ العقل. كلُّ شيء كان يسقط عنها — الغيوم، الفستان، السلة، الماس — كلُّ ما كان يُسميه المرءُ نباتاتٍ مُتسلقةً ولبلابًا. ها هنا الحائط الصلب تحت كل هذا. ها هنا المرأة ذاتها. تقفُ عاريةً تحت الضوء الذي لا يرحم. ولم يكن من شيء هناك. كانت إيزابيلا خاويةً تمامًا. كانت بلا أفكار. كانت بلا أصدقاء. كانت لا تهتم بأحد. وأما رسائلها فلم تكن إلا بعضَ فواتير. انظر، وهي تقف هناك، عجوز وبارزة العظام، ناتئة العروق ومجعَّدة، بأنفها العالي وعنقِها المُتغضِّن، لم تُكلِّف نفسَها حتى عناء فتحها.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/2/
الميراث
«إلى سيسي ميلر.». فيما كان جِلبرت كلاندون، يلتقط بروشَ اللؤلؤ الذي يرقد بين مجموعة من الخواتم ومشابك الصَّدر فوق طاولةٍ صغيرة في غرفةِ استقبالِ زوجته، قرأ الإهداء: «إلى سيسي ميلر، مع حبي.» ليس من أحدٍ سوى آنجيلا يمكنه تَذكُّر حتى سيسي ميلر سكرتيرتها الخاصة. لكن كَمْ كان الأمر غريبًا، راح جلبرت كلاندون يفكر من جديد، حين تركَت زوجتُه كلَّ شيءٍ هكذا في منتهى النظام — لم تدَع أحدًا من أصدقائها إلا وتركَت له هديةً صغيرة من نوعٍ ما. كما لو أنها كانت تحدسُ بموتها. على أنها كانت في كامل صِحتها حينما غادرتِ البيتَ في ذاك النهار، قبل ستة أسابيع؛ وخطَت بعيدًا عن حاجزِ الرصيف الحجري في بيكاديلي فدهمَتها السيارة. كان في انتظار سيسي ميلر. طلبَ منها الحضور؛ لأنه كان يشعر، بعد كل السنوات تلك التي قضتها معهما، بأنه مَدِين لها بتلك المكافأة الرمزية. نعم، استمر في التفكير وهو جالسٌ هناك، كَمْ كان غريبًا أن تترك آنجيلا كلَّ شيء بمثل هذا النظام والترتيب. كلُّ صديق كان قد مُنح تَذكارًا من حُبها. كلُّ خاتم، كلُّ قلادةِ عنق، كلُّ صندوقٍ خزفي صغير — كانت مولعةً بالعُلب الصغيرة — تُرك مكتوبًا عليه اسمٌ ما. كلُّ تلك الأشياء كانت تحمل له ذكرى ما. كان قد أهداها هذا — الدولفين المَطلي بالمينا المرصَّع بعينين من الياقوت — اندفعَت إليه حين لمحتْه يومًا في شارع خلفي في فينيسيا. بوسعه أن يتذكَّر صيحةَ البهجة التي أطلقتْها يومَها. أما هو، بالطبع، فلم تترك له أيَّ شيء على وجه التخصيص، اللهم إلا مذكراتها الخاصة. خمسَ عشرةَ كراسةً صغيرة، مربوطة بشريط من الجلد الأخضر، تنتصب وراءه مباشرةً فوق مكتبها. دائمًا ما كانت تحتفظ بمذكراتها، منذ تزوَّجا. بعضٌ من — لا يستطيع أن يُسمِّيَها معارك — لنقلْ: بعضٌ من شجاراتهما القليلة — كانت بسبب تلك المذكِّرات. حينما كان يدخل عليها وهي تكتب، كانت من فورها تغلق الدفتر أو تضع يدها عليه. «لا، لا، لا،» كان يسمعها تقول، «ربما — بعدما أموت.» وإذَن فقد تركتْها له الآن، بوصفها الميراث. كانت المذكراتُ تلك هي الشيءَ الوحيد الذي لم يتشاركا فيه معًا حين كانت في قيد الحياة. سوى أنه كان واثقًا دائمًا أنها سوف تُعمِّر من بعده. لو أنها فقط توقَّفَت للحظةٍ واحدة، وفكَّرَت فيما تفعل، لكانت الآن حية. لكنها خطَت بعيدًا عن الحاجز الحجري، كما قال سائقُ السيارة في التحقيق. لم تعطِه فرصةً لتفادي الحادث … ها هي أصوات الناس في الردهة تقطع أفكاره. «الآنسة ميلر، يا سيدي،» قالت الخادمة. دخلَت عليه. لم يرَها وحدَها أبدًا في حياته، ولا، بالطبع، رآها من قبلُ دامعةً. كانت حزينةً على نحوٍ رهيب، ولا عجَب. فقد كانت آنجيلا بالنسبة إليها أكثر من مجرد صاحبة عمل. كانت صديقة. بالنسبة إليه، كان يفكر، وهو يدفع إليها بمقعد ويسألها أن تجلس، كان يفكر في أنها لم تكن مميزةً بين كل النساء من نوعها. هناك آلاف من سيسي ميلر — نساء ضئيلاتٌ كئيبات متَّشِحات بالسواد ويحملن حافظاتِ أوراق. لكن آنجيلا، بعبقريتها في التعاطف، اكتشفَت كلَّ ألوان المزايا والسجايا الحسنة في سيسي ميلر. تمتلك روحَ التكتُّم والعقلانية؛ صَمُوت جدًّا، جديرة بالثقة، بوسع المرء أن يخبرها بكل شيء، وهَلُمَّ جرًّا. لم تقوَ الآنسةُ ميلر على الحديث أوَّلَ الأمر. جلسَت هنالك تمسحُ عينيها بمنديلها. ثم جاهدَت للكلام. «اعذرْني، سيد كلاندون،» قالت. تمتم. بالطبع كان يفهم. هذا طبيعي جدًّا. بوسعه أن يُخمِّن ماذا كانت تعني زوجتُه لها. «كنتُ سعيدةً جدًّا هنا،» قالت، وهي تتفقَّد المكان من حولها بعينيها. تركَّزَت عيناها على طاولة الكتابة وراءه. هنا حيث كانتا تعملان — هي وآنجيلا. ذاك أن آنجيلا كان لها نصيب من الأعباء التي تُلقى على كاهل العديد من زوجات السياسيين البارزين. وكانت أعظمَ داعم له في عمله. كثيرًا ما رآهما هي وسيسي تجلسان إلى تلك الطاولة — سيسي على الآلة الكاتبة تكتب ما تُمْليه عليها آنجيلا من خطابات. لا شكَّ أن ميس ميلر كانت تفكِّر في ذلك، أيضًا. الآن كلُّ ما عليه فعلُه هو أن يعطيَها مشبكَ الصدر الذي تركته لها زوجتُه. ذاك الذي بدا له هديةً غير مناسبة. ربما كان من الأفضل أن تترك لها مبلغًا من المال، أو حتى الآلة الكاتبة. لكنَّ هذا ما كان هناك — «إلى سيسي ميلر، مع حبي.» و، وهو يتناول البروش، أعطاه لها مع كلمةٍ صغيرة كان أعدَّها من قبل. قال إنه يعرف أنها سوف تقدِّره. فزوجتُه كانت دائمًا ما تشبكه على صدرها … وهي ردَّت، وهي تأخذه وكأنما أعدَّت هي الأخرى كلمةً، أنه سوف يكون دائمًا مثل كَنزها الثمين … يُفترض أنْ كان لديها بعض الملابس الأخرى التي لن تتنافر جدًّا مع بروش من اللؤلؤ. كانت ترتدي معطفًا أسود وتَنُّورةً كانا معًا الزِّيَّ الخاص بعملها. ثم تذكَّر — أنها كانت في حداد، بالطبع. هي، كذلك، كان لديها مأساتُها الخاصة — شقيق، ذاك الذي كانت تكرِّس حياتها من أجله، مات قبل موت آنجيلا بأسبوع أو أسبوعين. أكان ذلك في حادثٍ ما؟ لا يتذكر — كانت آنجيلا قد أخبرته. آنجيلا، بعبقريتها في التعاطف، كانت مُحبَطةً لذلك على نحوٍ فظيع. في تلك الأثناء كانت سيسي ميلر قد نهضت. ترتدي قفازَها. من الواضح أنها شعرَت أنْ يجب ألا تُثقِل عليه. لكنه لم يكن يستطيع أن يدعَها تمضي دون أن يقول شيئًا عن مستقبلها. ما هي خُططُها؟ هل ثَمة أيُّ سبيل يمكن أن يساعدها عَبْره؟ كانت تحدِّق في الطاولة، حيث كانت تجلس إلى آلة الكتابة، وحيث ترقد المذكرات. و، حيث كانت تائهةً في ذكرياتها مع آنجيلا، لم تُجب على الفور على اقتراحه بمساعدتها. لذلك كرَّر: «ما هي خُططُك؟ ميس ميلر؟» «خُططي؟ أوه، كلُّ شيء على ما يُرام، مستر كلاندون،» هتفَت. «رجاءً لا تشغلْ نفسَك بأمري.» اعتبرها ترمي إلى أنها لم تكن في حاجة إلى مساعدة مادية. أدركَ أنه من الأفضل أن يجعل أيَّ اقتراح من هذا القبيل في رسالةٍ مكتوبة. كلُّ ما بوسعه فِعله الآن وهو يشدُّ على يديها هو أن يقول لها، «تذكَّري يا آنسة ميلر، إذا كان هناك أيُّ سبيل أستطيع به أن أساعدك، فسوف يكون ذلك فرحًا لي …» ثم فتحَ الباب. لوهلة، عند عتبة الباب، كأنما فكرة مباغتةٌ خطرت لها، توقَّفَت. «مستر كلاندون،» قالت، وهي تنظر إليه مباشرةً لأول مرة، ولأول مرة أدهشَه ذلك التعبير، العاطفي الحائر، في عينيها. «إذَن في أيِّ وقت،» أكملَت: «كان هناك ما أقدر أن أقدِّمه، تذكرْ، سوف أشعر، لأجل خاطر زوجتك، بكل فرح …». بهذا كانت قد مضَت. كلماتُها والتعبيرات التي صاحَبَتها كانت غير متوقعة. كأنها كانت تعتقد، أو تأمل، أن يحتاج إليها. فكرةٌ عجيبة، ربما خيالية، خطرَت له وهو يستدير ليعود إلى مقعده. هل من الممكن، طيلةَ تلك السنوات التي كان بالكاد يلحظها فيها، أن تكون هي، مثلما يقول الروائيون، قد مالت إليه ببعض الهوى؟ رمقَ سريعًا صورتَه في المرآة وهو يمُر. كان قد تخطَّى الخمسين؛ لكنه لا يقاوِم الاعتراف لنفسه بأنه لا يزال، كما أظهرَت له المرآة، رجلًا شديدَ التميُّز والوسامة. «مسكينةٌ سيسي ميلر!» قالها، نصفَ ضاحك. كم كان يتمنى لو يشارك زوجتَه تلك النكتة! عاد إلى مذكراتها على نحوٍ غريزي. «جِلبرت،» راح يقرأ، فاتحًا إياها على صفحةٍ عشوائية، «يبدو رائعًا للغاية …» كانت كأنما أجابت عن سؤاله. بالطبع، كأنها تقول له: أنتَ تبدو جذَّابًا للنساء. بالتأكيد شعرَت سيسي ميلر بذلك أيضًا. أكملَ القراءة. «كم أنا فخورةٌ أنني زوجتُه!» وهو أيضًا كان دائمًا فخورًا جدًّا أنه زوجُها. كم حدثَ كثيرًا، حينما كانا يتناولان العشاء بالخارج في مكانٍ ما، أنْ نظرَ إليها عبر الطاولة وقال لنفسه، إنها أجملُ النساء هنا! تابعَ القراءة. ذلك العام الأول الذي كان فيه مُرشَّحًا للبرلمان. وكانا يديران معًا دائرته الانتخابية. «وقتَ انتخاب جلبرت، كان الاستحسان بديعًا. كلُّ الحضور نهض وغنَّى: «لأنه كان زميلًا طيبًا وبشوشًا.» كان مستحوِذًا عليَّ تمامًا.» هو يذكر ذلك أيضًا. كانت تجلس إلى جواره على المنصَّة. واستطاع أن يرى اللمحة الخاطفة التي رمقتْه بها، كانت في عينيها دموع. وبعد ذلك؟ قلَب الصفحة. ذهبا إلى فينيسيا. يذكرُ تلك الإجازةَ السعيدة بعد الانتخابات. «كان الجليدُ يتساقط في فلورنسا.» ابتسم — كانت لا تزال تلك الطفلةَ؛ التي تُبهِجها الثلوج. «أخبرني جلبرت عن معظم طرائف تاريخ فينيسيا. أخبرني أن قضاة البندقية …» كتبت ذلك كلَّه بخطِّ يدها الذي مثل خطِّ تلميذة في المدرسة. واحدة من المُتع في السفر مع آنجيلا هي أنها توَّاقة جدًّا للتعلم. كانت جاهلةً على نحو مريع، اعتادت أن تقول ذلك، كأنما لم يكن ذلك إحدى مفاتنها. وبعد ذلك — فتح الكراسةَ التالية — كانا قد عادا إلى لندن. «كنتُ شغوفةً جدًّا لأترك انطباعًا جيدًا. ارتديتُ فستانَ زفافي.» بوسعه الآن أن يراها جالسةً جوار السِّير إدوارد العجوز؛ تقوم بغزو ذلك الرجل المسنِّ المُرعِب، رئيسه. استمر في القراءة بسرعة، مُلملِمًا المشهدَ تِلوَ المشهد من قُصاصاتها المُشظَّاة. حسن، إذا ما سارت الأمور على نحو مختلف، كان من الممكن أن يحدث ذلك. توقَّف هنا لكي يتأمل ما الذي كان من الممكن أن يحدث. العمل السياسي مقامرة، فكَّر مليًّا؛ لكن اللعبةَ لم تنتهِ بعد. ليس في سنِّ الخمسين. مرَّ بعينيه سريعًا على مزيد من صفحات، مليئة بالصغائر، مجرد أحداثٍ بسيطة سعيدة غير مميزة، تلك التي صنعَت حياتَها. تناول دفترًا آخر من المذكرات وفتحه عشوائيًّا. «يا لي من جبانة! تركتُ الفرصة تتسرَّب مرةً أخرى. لكنها أنانيةٌ مني أنْ أزعجه بشئوني الخاصة، بينما كان لديه الكثير من المشاغل. وأصبح من النادر جدًّا أن نقضي أمسياتِنا وحدنا.» ما معنى ذلك؟ أوه، ها هو التفسير — إنها تشير إلى عملها في «إيست إند». «استجمعتُ شجاعتي وتكلَّمتُ أخيرًا مع جلبرت. كان عطوفًا للغاية، طيبًا للغاية. لم يعترض.». يتذكر تلك المحادثة. كانت قد أخبرته عن شعورها بأنها عاطلة جدًّا، بلا فائدة جدًّا. وتمنَّت أن يكون لها أيُّ عملٍ خاص بها. تريد أن تعمل شيئًا ما — احمرَّ وجهُها خجلًا على نحو فاتن، يَذكُر، وهي تقول ذلك، فيما تجلس في هذا المقعد ذاته — لتساعدَ الآخرين. مازَحها قليلًا. ألم يكن لديها الكثير لتفعله من أجل أن تعتني به، عطفًا على الاعتناء ببيتها؟ ولكن، حتى لو أضحكها هذا، فإنه، بالطبع لم يعترض. وماذا كان ذلك العمل؟ ربما مقاطعة ما؟ لجنة ما؟ فقط عليها أن تَعِدَه ألا تُرهِق نفسها. لهذا السبب يبدو أنها كانت تذهب إلى كنيسة وايت-تشابيل. ترك جلبرت كلاندون الدفترَ ينزلق على الأرض. كان بوسعه أن يراها أمامه. واقفةً على الرصيف في بيكاديلي. عيناها شاخصتان؛ قبضتا يديها كانتا مُمسِكتَين بقوة. هنا جاءت السيارة … لم يستطِع أن يتحمَّل. يجب أن يعرف الحقيقة. خطا نحو التليفون. «ميس ميلر!» كان صمت. ثم سمعَ وقْعَ أقدام في الغرفة. «سيسي ميلر تتكلَّم» — جاء صوتها أخيرًا. «مَن،» سأل بصوت كالرعد، «يكون ب. م؟» كان بوسعه سماعُ تكَّاتِ ساعةِ الحائط الرخيصة فوق رفِّ موقدها؛ ثم تنهيدة طويلة مُتعَبة. وأخيرًا قالت: «إنه أخي.» لقد كان أخاها، أخاها الذي قتلَ نفسَه. «هل هناك،» سمع سيسي ميلر تسأل، «أيُّ شيء أستطيع أن أفسِّره؟» «لا شيء!» صاح. «لا شيء!» لقد تسلَّم ميراثه إذَن. لقد أخبرتْه بالحقيقة. زوجتُه خطَت بعيدًا عن الرصيف كي تلحق بحبيبها. زوجتُه خطَت بعيدًا عن الرصيف كي تهرب منه.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/3/
الاثنين أو الثلاثاء
كسول وغير مبالٍ، بخِفَّة ينفضُ الفضاءاتِ عن جناحَيه، يعرف طريقه، مالك الحزين الذي يمرق فوق الكنيسة، وتحت السماء. أبيض وقَصِّي. مستغرِقٌ مُنشغِل بذاته، إلى ما لا نهاية، حيث السماء تغطي ما تغطي، وتكشف ما تكشف، تتحرك، أو تبقى ساكنةً. بُحَيرة؟ سيطمسُ شواطئها! جبل؟ أوه، يا للكمال — الشمسُ تسيل كالذهب فوق منحدراته. وفي الأسفل تلك الشلالات. وبعد ذلك نباتاتُ السَّرْخس، أو ربما الريش الأبيض، إلى الأبد، إلى الأبد — التَّوق إلى معرفة الحقيقة، انتظارها، الاجتهاد في استخلاص المعنى من كلمات قليلة تقطُر، الرغبة الأبدية — (صرخة تنطلق جهة اليسار، أخرى جهةَ اليمين. عجلاتُ العربات تضرب ثم تتباعد. الحافلات العامة تكتظُّ في تصارع) — الرغبة والتَّوق الأبدي — والساعة الضخمة تُقسِم مؤكِّدةً بدقَّاتها الاثنتَي عشرة الحاسمة أنه وقتُ الظهيرة؛ الضوءُ يتساقط مثل رقائقِ قشورٍ ذهبية؛ تُظلِّل حشودَ الصغار — إنها الرغبةُ الأبدية تتوقُ إلى الحقيقة. الأحمر قُبَّة السماء؛ عملاتُ النقدِ المعدنيةُ تتدلى من الأشجار؛ ودخانٌ يزحفُ بطيئًا من المداخن مثل الذيول؛ نباح، صياح، هُتافٌ «حديد للبيع» — والحقيقة؟ مختالًا كطاووس، خفيفًا، كورقةِ شجر — ينجرف نحو الزوايا، يهبُّ كعاصفة على جوانب العجلات، مثل رشَّاش الفِضَّة، وطنٌ أم ليس وطنًا، مجتمِعةٌ أوصالُه، منتثِر، مُبدَّد في قشورٍ مبعثَرة، مُنجرِف في الأعالي، مُنحدِر نحو السفح، ممزَّق ومجروح، غارق، مُحتشِد ومترابِط — والحقيقة؟ والآن، عليه أن يستجمع ذِكراه جوار المدفأة المثبَّتة على مربَّع الرخام الأبيض. من عُمقِ العاج تطلعُ الكلماتُ وتثورُ وتنفضُ عنها عتمتَها، تُزهِر وتخترقُ دائرةَ الإدراك. الكتاب يسقط في وهج اللهب، في الدخان، في شرارات الومضة الخاطفة — أو يُبْحر الآن، الساحةُ الرُّخامية تتدلى كالمرمر من المآذن في الأسفل، والبحار الهندية، بينما الفضاء يتدفقُ أزرق مُندفعًا، والنجوم تُومض متلألئةً — الحقيقة؟ أم القناعة والرضا بالنهايات؟ كسول وغير مبالٍ، يعود مالكُ الحزين؛ السماء تحجب النجوم بغلالةٍ شفيفة. ثم تُعرِّيها.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/4/
بستان الفاكهة
على مسافةِ أربعةِ أقدام في الهواء فوق رأسها كانت التفاحات مُعلَّقةً. وفجأةً، تعالت ضجةٌ حادَّة النغمة كأنما رنينُ نواقيسَ من نُحاسٍ مشقوق تُقرَع بعنف، بغير انتظام، وعلى نحوٍ وحشي. لم يكن ذلك سوى أطفال المدرسة يُردِّدون جدول الضرب مجتمِعين في صوتٍ واحد، يُستوقَفون من قِبَل المعلِّمة، يُوبَّخون بغلظة، ثم يبدءون من جديد في تسميع جدول الضرب مرةً بعد مرة. لكنَّ هذا الصخب مرَّ على ارتفاع أربعة أقدام فوق رأس ميراندا، مُخترِقًا أغصانَ التفاح، ثم ضاربًا رأسَ الولد الصغير ابن راعي البقر الذي كان يجمع ثمار التُّوت الأسود من سِياج الشُّجيرات، بينما من المفروض أن يكون في المدرسة الآن، ما جعله يَجرح إبهامه بالأشواك. في الجوار، ثَمَّ نحيبٌ مُنعزِلٌ وحيد — حزين، بشري، وحشي. بريسلي العجوز كان في الحقيقة شديدَ الثَّمَل حدَّ العماء. آنذاك، الأوراق الأكثر ارتفاعًا في قمَّة شجرة التفاح، منبسطةٌ مثل أسماك صغيرة في مواجهة زرقة السماء الحزينة، على ارتفاع ثلاثين قدمًا فوق الأرض، كانت الأوراق تحفُّ بصوتِ جرسٍ يدقُّ برنينٍ موسيقي عميق وحزين. ذاك هو الأُرغن في الكنيسة يعزف إحدى التراتيل القديمة والحديثة. الصوت حلَّق سابحًا في العُلا ثم تشظَّى إلى ذرَّاتٍ دقيقة بأجنحةِ سِرب من عابري الحقول كان يطير بسرعةٍ هائلة — من مكان إلى مكان. ميراندا ترقد نائمةً على مسافة ثلاثين قدمًا للأسفل. ومن ثَم، أعلى شجرتَي التفاح والكُمَّثْرى، على ارتفاع مائتَي قدم من ميراندا التي كانت ترقد نائمةً في الحديقة، كانت أجراسٌ تُقرَع على نحوٍ مُتقطِّع مكتوم، عِظاتٌ نكِدة، لأن ستَّ نساءٍ بائسات من نسوة الأبرشية كُنَّ يؤدِّين صلاةَ الشُّكر بينما كبيرُ القساوسة يرفع الدعاء إلى السماء. وفي الأعلى، وبصوتٍ ذي صريرٍ حادٍّ، كان السهم الذهبي لبرج الكنيسة، الذي يشبه ريشةَ طائر، يدور من الجنوب إلى الشرق. الرياح تغيِّر اتجاهها. وفوق كل الموجودات كانت تُدمدِم وتُطلِق أزيزَها، فوق الغابات والمروج الخُضر والتلال، وفوق أميال من ميراندا التي كانت ترقد في الحديقة نائمةً. الرياح تَجرف كلَّ شيءٍ دون تمييز، من دون عينين ومن دون عقل، لا شيء قابلتْه كان بوسعه الصمود أمامها، إلى أن، دارَ السهمُ نحو الجهة الأخرى، الرياح تتحوَّل صوبَ الجنوب من جديد. على مسافةِ أميال للأسفل، في فراغ بسعة ثَقبِ إبرة، كانت ميراندا تقف مُنتصِبةً وتهتف بصوتٍ عالٍ: «أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي!» بطبيعة الحال كان حفلُ زفافها حينما عزَف الأرغنُ لحنَ الترانيم القديمة والحديثة، و، عندما قُرعَت الأجراس بعد أن أدَّت النساء السِّت الفقيرات صلاةَ الشُّكر في الكنيسة، راح الصوتُ المُتقطِّع المكتوم النَّكِد يدفعُها لأن تفكر أن هذه الأرض ذاتَها ترتعد تحت حوافر الحِصان الذي كان يَركض نحوها بسرعة («آه، يجبُ عليَّ أن أنتظر وحسب!»، تنهَّدَت بحسرة)، وبدا لها أن كلَّ شيء قد بدأ الآن يتحرك، يصيح، يمتطي صهوةً ما، كلُّ شيء بدأ يطير حولها ونحوها وخلالها وفْقَ تشكيلٍ منتظِم. ماري تُقطِّع الأخشاب، تُفكِّر ميراندا؛ وبيرمان يرعى الأبقار؛ وعرباتُ اليد قادمة لأعلى من ناحيةِ المروج؛ والرجلُ الراكبُ — ثم هي راحت تقتفي أثرَ الخطوط التي خلَّفها الرجالُ والعربات والطيور والرجل الراكب على أرض القرية، إلى أن بدَوا جميعا كأنما يُجرَفون ناحيةَ الخارج في كل اتجاه، جرفتهم دَقَّةُ قلبها. تَبدَّل اتجاهُ الرياح على ارتفاعِ أميال في الهواء؛ الريشة الذهبية لبرج الكنيسة تُصدِر صريرًا حادًّا؛ فتقفز ميراندا عاليًا وتصرخ: «أوه، سوف أتأخرُ على موعدِ الشاي!» ميراندا نامت في الحديقة، أوَهَلْ كانت نائمةً حقًّا، أم هل هي لم تكن نائمة؟
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/5/
الخال «فانيا»
«أليس يَرون عَبْر كل شيء — الروسيُّون؟ رغم كلِّ أقنعة التنكر الصغيرة التي وضعناها؟ الزهور في مواجهة الذبول؛ الذهب والمُخمَل في مواجهة الفقر؛ أشجار الكَرَز، أشجار التفاح — إنهم يرون من خلالها كذلك،» في تلك اللحظة دوَّت طلقةٌ نارية. «هنالك! الآن، ها هو قد أطلقَ النار عليه. إنها رصاصة الرحمة. أوه، لكنَّ الطلقات طاشت! الوغد العجوز، ذو اللحية المصبوغة عند الفودَين في معطفه الأيرلندي ذي المربعات لم يُصَب بأدنى سوء. … كان ما زال يحاول أن يُطلقَ الرَّصاص عليه؛ وفجأةً، انتصب واقفًا، استدار وارتقى السُّلَّم الدائري وأحضرَ مسدسه، ضغطَ على الزناد. استقرَّت الرصاصة في الحائط؛ ربما في ساق الطاولة. الرصاصة ضاعت سُدًى على أية حال. «دعنا ننسى الأمر كلَّه يا عزيزي «فانيا». لِنَعُدْ أصدقاءَ كما كنا في القديم،» كان يقول ذلك — والآن، كانوا قد ذهبوا. الآن بدأنا نسمع أجراس الخيول تُجلجِل في البعيد. وهل هذا حقيقي بالنسبة لنا أيضًا؟» قالت ذلك، فيما تتكئ بذقنها على يدها وتنظر إلى الفتاة التي تقفُ فوق خشبة المسرح. «سوف نستريح،» كانت الفتاةُ تقول ذلك الآن، وهي تُمسِك الخالَ «فانيا» بين ذراعَيها. «سوف نستريح،» قالت. كلماتُها كانت مثل قطرات، تتساقط — قطرة، في إثر قطرة أخرى. «سوف نستريح،» قالتها مرةً أخرى. «سوف نستريح أيها الخال «فانيا».» وأُسدلَت الستار. «بالنسبة لنا،» قالت بينما زوجُها يساعدها كي تضع عباءتَها فوق كتفَيها، «نحن حتى لم نقمْ بحشو المسدس بالرصاص. نحن حتى غير متعَبين.» وفي ممر الجمهور، وقفا ساكنين للَحظة، فيما كانت الفرقةُ الموسيقية تعزف: «فليحفظِ اللهُ الملكَ». – «أليس الرُّوسُ رهيبين وغيرَ أسوياء؟» قالت، وهي تأخذ ذراعه في ذراعها.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/6/
الفستان الجديد
السيدة «مايبيل» بدأ الشكُّ يُساوِرها، للمرة الأولى، بأن شيئًا ما كان خطأً، بمجرد أن خلعَت عباءتها، ثم ما لبثت مسز «بارنيت» أن أكَّدَت ذلك الشك، حين ناولتْها المرآةَ وراحت تُلامِس الفُرشاة بيدها كأنما لتجذب انتباهها، على نحوٍ مفضوحٍ بعض الشيء، إلى كل أدوات تصفيف وتجميل الشَّعر والبشرة والملابس، تلك المصفوفةِ فوق تسريحة الزينة، كلُّ هذا أكَّد الشك — بأنه لم يكن مناسبًا، لم يكن مضبوطًا أبدًا. ثم ظلَّ ذلك الشكُّ يتنامى داخلَها ويَقوى وهي ترتقي الدَّرَج إلى الطابق العُلوي حتى وثبَت مندفِعةً إلى — وقد وصل شكُّها إلى اليقين التام أثناء إلقائها التحية إلى «كلاريسا دالواي»، ثم توجَّهَت رأسًا إلى النهاية القصوى المعتِمة من الغرفة، إلى ذلك الركن المُنعزِل البعيد، حيث مرآةٌ مُعلَّقة، ثم، نظرَت. «لكنه، يا عزيزتي، فاتن للغاية!» قالت «روز شاو» فيما تنظر إليها من فوق إلى تحت وهي تَزِمُّ شفتَيها الهجَّائيتَين بتجاعيدهما الطفيفة، تمامًا كما كانت قد توقَّعَت — أما روز نفسُها فظهرَت في فستان على أحدث صيحات الموضة، تمامًا مثل كل الأُخريات، ومثلما هي الحال دائمًا. وأبدًا. نحن جميعنا مثل ذبابات تحاول أن تزحف فوق حافة الصَّحن، هكذا فكَّرَت مايبيل، وراحت تكرِّر تلك العبارة كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها وتُتمتِم، كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشف تعويذةً ما لتوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعل هذا الوجع المُبرِّح مُحتملًا. مقتطَفاتٌ خِتامية من شكسبير، سطور من كتب كانت قرأتها منذ عصورٍ سحيقة، جميعُها حضرَت في عقلها بغتةً حينما غمرَها الوجعُ، فراحت تردِّدها مرَّاتٍ ومرَّات. «ذباباتٌ تحاول أن تزحف،» ظلَّت تكرِّرها. لو كان بوسعها أن تظلَّ تردِّد هذا القول مِرارًا وتَكرارًا بما يكفي لأن تجعل نفسَها ترى الذبابات بالفعل، لو استطاعت لأَمكنَها أن تدخلَ في حال من الخدَر، القُشَعريرة، التجمُّد، فقدان الحس، والبكم. استطاعت الآن أن تشاهد الذبابات تزحف ببطءٍ خارج صحن الحليب بأجنحتها المُلتصِقة ببعضها البعض؛ وراحت تجتهد وتجتهد (وهي تقفُ في مواجهة المرآة، وتستمع إلى روز شاو) لكي تجعل نفسَها ترى روز شاو وكلَّ المدعوين الآخرين الواقفين هناك كذبابات، ذبابات تكدح وتكافح لكي ترفع أجسادَها خارجَ شيءٍ ما، أو داخلَ شيءٍ ما، ذبابات هزيلة، تافهة، مجهَدة مرهَقة واقعة في شرَك. على أنها لم تستطِع أن تراهم هكذا، لا أحدَ من بين الناس الآخرين. بل رأت نفسَها هي على تلك الشاكلة — كانت هي الذبابة، فيما الآخرون كانوا يعاسيب، فراشات، حشراتٍ جميلة، ترقص، ترفُّ بأجنحتها، تخطر برشاقة، بينما هي وحدها كانت من تجرُّ نفسها جرًّا إلى خارج الصَّحن. (الحسد والضغينة، أكثر الرذائل سوءًا، كانا خطيئتَيها الأساسيتين.) والآن فالأمر كلُّه كان قد تلاشى. الفستان، الحجرة، الحبُّ، الشفقة، المرآة ذات الزخارف المعقوفة، وقفص الكناريا — كلُّ شيء كان قد تلاشى، وها هي الآن تقبع في ركنٍ مُنزوٍ بقاعة استقبال مسز دالواي، تكافح عذاباتها، تلك التي استيقظَت شاسعةً على الواقع. على أنه من التفاهة بمكان، وضعةِ الأصل وضِيق الأفق، أن تهتمَّ إلى هذا الحد وفي عُمر كعمرها هذا مع وجود طفلَين، أن تظلَّ معتمِدةً تمامًا على آراء الناس وألَّا تمتلك مبادئَها الخاصة وقناعاتِها، ألَّا تكون قادرةً على أن تقول مثلما قال الآخرون، «هناك شكسبير! وهناك الموت! نحن جميعنا لسنا إلا سوسَ الحِنطة في كعكةِ القبطان» — أو أيًّا ما كان يقوله هؤلاء الناس. «الذبابة الآن في الصحن،» قالت لنفسها، «في المنتصف تمامًا، لا تقدر على الخروج، والحليب ..،» راحت تفكِّر وهي تُحدِّق بجمودٍ صوبَ اللوحة، «يلصق جناحَيها معًا.» «على طرازٍ عتيق جدًّا،» قالت لتشارلز بورت ما جعله يتوقف (وهو ما كان يكرهه بحدِّ ذاته) بينما كان في طريقه ليتحدث مع شخصٍ آخر. كانت تعني، أو هي حاولت أن تجعل نفسَها تظنُّ أنها كانت تعني، أن اللوحة، وليس فستانها، هي التي كانت على طرازٍ عتيق. وكلمةُ مجاملةٍ واحدة، كلمةٌ واحدة متعاطفة من تشارلز كان بوسعها في هذه اللحظة بالذات أن تبدِّل حالها كليًّا. فقط لو أنه قال: «مايبيل، تبدين فاتنةً هذه الليلةَ!» لكانت حياتُها كلُّها تغيَّرَت. سوى أن عليها في هذه اللحظة أن تكونَ واضحةً وصريحة. لأن تشارلز، بطبيعة الحال، لم يقلْ شيئًا من هذا القبيل. لقد كان هو المَكر وكان الخبثَ عينَه. اعتاد تشارلز دائمًا أن يكشف أعماق المرء، لا سيَّما إذا كان هذا المرء يشعر بالضعة على وجه الخصوص، بالخِسَّة، أو بالبَلَه. «مايبيل ترتدي فستانًا جديدًا!» قالها، والذبابة المسكينة كانت مُندسَّةً ومحشورةً في منتصف الصحن بالضبط. والحقُّ أنه، هو كان يريد لها أن تغرق، واثقةٌ هي من ذلك. كان بلا قلب، لم تكن لديه أية طيبة في عمقه، فقط طبقةٌ قِشرية من التودد الزائف. كانت الآنسة ميلان أكثرَ منه حقيقيةً بكثير، أكثرَ طيبةً. فقط لو كان بوسع المرء أن يشعر بذلك ولا يغيِّر شعوره، أبدًا. «لماذا،» سألت نفسَها — الإجابةُ على تشارلز بقحة وسلاطة لسان، سوف تجعله يرى أنها فقدَت أعصابها، أو أنها «منزعجة» كما يُسميها هو (منزعجة قليلًا؟ قالها ثم استمرَّ في الضحك عليها مع امرأةٍ هناك) — «لماذا،» سألَت نفسَها، «لا يمكنني أن أشعر بشيءٍ واحد دائمًا، أن أشعر بيقينٍ تام أن الآنسة ميلان على حق، وأن تشارلز على خطأ وأن أُصِرَّ على ما أشعر به، ألا يمكنني أن أحسَّ باليقين نحو الكناريا ونحو الشفقة والحب ولا أتخبَّط هكذا في أفكاري في لحظة بمجرد أن أدخل غرفةً ممتلئة بالناس؟» إنها من جديد شخصيتُها المتذبذِبة الضعيفة الممجوجة، التي دائمًا ما تخضع عند اللحظات الحَرجة بينما لا تكون مهتمةً بالفعل بعلم الأصداف البحرية والرَّخويات، وعلم الاشتقاق اللغوي، وعلم النباتات، وعلم الآثار، وتقطيع البطاطس ثم مراقبة عملية تخصيبها مثل ماري دينيس، مثل فيوليت سيرل. «وبالتالي من المستحيل الإبقاء على الفتيان هادئين» — كان هذا هو فحوى ما يقوله المرء. والسيدة هولمان، تلك التي لم تستطِع أبدًا أن تنال القَدْر الكافي من التعاطف ومن ثَمَّ كانت تنتزع بجشعٍ النَّذرَ القليل منه، كما لو كان حقَّها (لكنها كانت تستحق ما هو أكثر بكثير من أجل ابنتها الصغيرة التي سقطت هذا الصباح وتورَّم مفصلُ ركبتها)، أخذت مسز هولمان هذه المِنحة التعسة على مضض ونظرت إليها بريبة وازدراء كأنما هي عُملةٌ بخسةٌ من فئة نصفِ البِنْس في حين كان ينبغي أن تكون جنيهًا وألقَت بها في حافظةِ نقودها، يجب أن تصبر على الأمر، مهما كان وضيعًا وتعِسًا، الأوقاتُ غدَت عصيبةً، عصيبةً جدًّا؛ واستمرَّت السيدة المتألِّمة مسز هولمان في الكلام، بصوتها الذي يشبه صريرَ الباب، عن الفتاةِ ذات المفصل المتورِّم. آه، كان أمرًا مأساويًّا، هذا الجشع، جعجعةُ الكائنات البشرية، مثلهم كمثل صفٍّ من الطيور المائية الضخمة الشَّرهة، تعوي وتصفِّق بأجنحتها طلبًا للتعاطف — كان أمرًا مأساويًّا، بوسع المرء أن يشعر به وليس فقط أن يتظاهر بأنه يشعر به! إنها من جديد روحُها البائسة، ولا شك! لقد كانت دائمًا أُمًّا نَكِدة، هشَّة، غيرَ راضية، وزوجةً متذبذِبة، تترنَّح حول نفسها بتراخٍ وكسَل مثل بزوغ الشفق المُغبَّش الكاذب، لا شيءَ واضح جدًّا، لا شيءَ جسور جدًّا، لا شيءَ أكثر من شيء، مثل كل إخوتها وأخواتها، ربما باستثناء هيبورت — جميعُهم كانوا الكائناتِ نفسَها التعسةَ التي يجري في عروقها ماءٌ ولا تفعل شيئًا البتَّة. ثم في غمرة تلك الحياة التسلقية الزاحفة، وجدَت نفسَها فجأةً فوق ذروة الموجة. تلك الذبابة الضئيلة — أين قرأَت تلك القصة التي لا تني تقفزُ في رأسِها عن الصَّحن والذبابة؟ — التي ظلَّت تُصارِع طويلًا وتُكافِح. أجل، صحيحٌ أنها نَعِمَت بتلك اللحظات فيما مضى، سوى أنها الآن وقد غدت في الأربعين، لربما سوف يكون من النادر أكثر فأكثر أن تُعاوِدها تلك اللحظات. بالتدريج فيما بعدُ سوف تتوقف عن الكفاح. لكنه شيءٌ مؤسف! لم يكن ذلك أمرًا مُحتملًا! هذا ما جعلها تشعرُ بالخجل من نفسها! غدًا كانت سوف تذهب إلى مكتبة لندن. وكانت سوف تجد كتابًا ما رائعًا ونافعًا ومُذهلًا، بالصدفة البحتة، كتابًا كتبه كاهنٌ أكليروسي، أو كتابًا بقلم أمريكي لم يسمع به أحدٌ من قبل؛ أو أنها سوف تهبط جنوبًا نحو الشاطئ وتقوم بزيارة غير متوقَّعة، بالصدفة أيضًا، لرواق الجامعة حيث أحدُ عمالِ المناجم كان يحكي عن الحياة داخل حفرة تحت الأرض، وفجأةً سوف تغدو إنسانًا جديدًا. سوف تتبدَّل تبدلًا كليًّا. سوف ترتدي زيَّ الراهبات؛ وسوف يغدو اسمُها الأخت «كذا»؛ ولن تلقي بعدها بالًا للثياب أبدًا. ووقتها وإلى الأبد سوف تصبح واضحة تمامًا تجاه تشارلز بيرت والآنسة ميلان وهذه الغرفة وتلك الغرفة؛ وسوف يكون ذلك دائمًا وإلى الأبد، يومًا بعد يوم، كما لو أنها كانت تتمدَّد تحت الشمس أو تقطِّع لحمَ الضأن. ذلك ما سيكون! وهكذا نهضَت من على الأريكة الزرقاء، فنهض أيضًا في المرآة الزرُّ الأصفر هو الآخر، ثم لوَّحَت بيدها لكلٍّ من تشارلز وروز كي تُظهِر لهما أنها لا تُعوِّل عليهما قِيدَ أنملة، وبعدها تحرَّكَ الزرُّ الأصفر خارجًا من المرآة، فتجمَّعَت كلُّ الرماح في صدرها وهي تمشي صوب مسز دالواي لتقول لها: «عِمْتِ مساءً.» «لكنَّ الوقتَ لا يزال مبكرًا جدًّا على الذهاب،» قالت مسز دالواي، التي كانت على الدوام مهذَّبةً جدًّا وفاتنةً. «معذرةً لكن يجب أن أمضي،» قالت مايبيل وارينج. لكنها أضافت بصوتها الواهن المُتذبذِب الذي يبدو سخيفًا فقط حين تحاول أن تجعلَه قويًّا، «لقد استمتعتُ للغاية.» «لقد استمتعتُ للغاية،» قالت للسيدة دالواي، التي التقت بها على الدَّرَج. «أكاذيب، أكاذيب، أكاذيب!» قالت لنفسها، فيما تهبط درجات السُّلَّم، و«داخلَ منتصفِ الصَّحن بالضبط!» قالت لنفسها وهي تشكر مسز بارنيت التي ساعدتها في تدثير نفسها ولفِّها، لفَّةً إثرَ لفَّةٍ إثرَ لفَّة، في عباءتها الصِّينية، تلك التي ظلَّت ترتديها طيلةَ عشرين عامًا.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/7/
بيتٌ مسكون بالأشباح
أيًّا ما كانت الساعة التي تصحو فيها من نومك، كان ثَمة بابٌ يُصفَق. من غرفة إلى أخرى كانا يمشيان، يدًا في يد، يصعدان الدَّرَج ها هنا، يفتحان الأبواب ها هناك، ما يجعلُكَ موقنًا تمامًا — أن زوجًا من الأشباح لرجل وامرأة، له وجود. قالت: «هنا كنَّا قد تركناه،». وأضاف هو، «يا إلهي! نعم، لكن هنا أيضًا!» تمتمَت: «إنه في الدور العُلوي،». قال هامسًا: «وفي الحديقة،». «بهدوووء!» قالا معًا، «وإلا فسوف نوقظهما.» لكنَّ المشكلةَ ليست في أنكما قد أيقظتمانا. أوه، كلَّا. «إنهما يبحثان عنه؛ ها هما يسحبان الستارة،» قد يقول المرء هذا، ثم يستمر في قراءة صفحة أخرى أو صفحتين. «والآن ها هما قد وجداه،» قد يغدو المرء واثقًا من هذا، فيوقف القلم الرَّصاص فوق هامش الكتاب. وبعد ذلك، مُرهَقًا من القراءة، ربما يصعد المرء إلى الدور العُلوي لكي يرى بنفسه: البيتُ خالٍ تمامًا، الأبوابُ تنتصب مُشرَعةً، وحدها يماماتُ الأيك تُبَقبِق بصوتٍ يَزخرُ بالسعادة والرضا، كذا طنينُ ماكينات درس الحبوب يأتي مسموعًا جدًّا من ناحية المزرعة. «ما الذي أتى بي إلى هنا؟ ما الذي كنتُ أودُّ أن أكتشفه؟» يداي كانتا فارغتَين. «أمِنَ المحتمَلِ أن يكون في الدور العُلوي إذَن؟» التفاحات كانت في شرفة الطابق العُلوي. وها أنا ذا من جديد في الدور الأرضي، الحديقة ساكنة كعادتها، لا شيءَ سوى أن الكتاب كان قد انزلق داخل العشب. لكنهما كانا قد عثرا عليه في قاعة الاستقبال. لم يكن ثَمة من يستطيع أن يراهما. زجاجُ النافذة يعكس صورةَ التفاحات، يعكس صورةَ الزهور؛ كلُّ ورقات الشجر كانت خضراء في صفحة الزجاج. لو كانا قد تحرَّكا في قاعة الاستقبال، لكانت التفاحةُ أدارت جانبها الأصفر ولا شيء أكثر. لكن، في اللحظة التالية، لو أن الباب كان قد انفتح، لكانا انبسطا فوق الأرضية، أو تعلَّقا فوق الجدران، أو تدلَّيا من السَّقف — ماذا؟ كانت يداي خاويتَين. ها هو ظلُّ طائر السُّمان يَعبُر فوق السَّجَّادة؛ ومن أعمقِ آبار الصمت تسحب يمامةُ الأيك بقبقةَ صوتها الذي يُشبه هديرَ الماء. «الخزينة، الخزينة، الخزينة،» نبضُ البيت يخفق بنعومة. «الكنز مدفون؛ الغرفة …» توقَّف النبضُ برهةً. يا إلهي! أكان ذلك هو الكنز المدفون؟ بعد لحظة كان الضوء قد راح يخبو. في الخارج حيث الحديقة إذَن؟ لكنَّ الأشجارَ كانت تغزل وتنسج رقعةً من الظلام لأجل شعاع من أشعَّة الشمس كان يتسكع. ظلمةٌ ناعمة جدًّا، نادرة جدًّا، بهدوءٍ أغرقَت تحت سطحها الشعاعَ الذي دائمًا ما شاهدته يشتعل وراء الزجاج. الموت كان في الزجاج؛ الموت كان بيننا؛ الموت يأتي المرأةَ أولًا، منذ مئاتِ السنين، تاركًا البيت، مُغلِّقًا بإحكامٍ كلَّ النوافذ؛ ليتركَ الغُرفَ وقد أعتمَت. ثم يترك البيت ويرحل، يترك المرأة ويرحل، ويذهب صوبَ الشمال، يذهب صوبَ الشرق، يشاهد النجوم وقد تحوَّلَت صوب السماء الجنوبية؛ ثم يبدأ في تلمُّس البيت، ها هو قد عثرَ عليه هابطًا تحت المنخفضات. «الخزينة، الخزينة، الخزينة،» نبضُ البيت يخفق بسعادة. «الكنز لك.» الرياح تزأر عاليًا في الطريق المشجَّر. الأشجار تتقوَّس وتحني ظهورَها يمينًا ويسارًا. أشعةُ القمر تنتثر وتَسكبُ ضوءها بوحشية بين زخَّات المطر. لكنَّ أشعة المصباح تسقط مباشرةً من النافذة. والشمعة بثبات وحسمٍ تحترق. بينما الشَّبحانِ يجولان في البيت، يفتحان النوافذ، يتهامسان كي لا يوقظانا، يبحث الشَّبحان عن بهجتهما الخاصة. تقول هي: «هنا كنَّا ننام،» ويضيف هو: «قبلات بلا عدد.» «التجوُّل في الصباح —» «الفضَّة التي بين الأشجار —» «في الطابق الأعلى —» «في الحديقة —» «حينما كان الصيف يأتي —» «وفي الشتاء عند موسم الجليد —» الباب ينغلق في البعيد، يدقُّ برهافة ورقَّة مثلما خفقات القلب. إنهما يقتربان أكثر؛ يتوقفان عند فتحة الباب. الرياح تَسكن، قطراتُ المطر تنزلق مثل رقائقَ من الفضة على الزجاج. عيوننا بدأت تُعتِم؛ لم نعد نسمع أيةَ خطوات إلى جوارنا؛ لا نرى أيةَ سيدة تبسط عباءتَها الشَّبحية. يداه تحجبان الفانوس الزجاجي. «انظري،» قالها وهو يزفر. «يبدو أنهما نائمان. الحبُّ راقدٌ فوق شفاههما.» ينحنيان، يحملان مصباحهما الفضيَّ فوقنا، طويلة جدًّا تحديقتُهما نحونا، وعميقة. توقَّفا طويلًا. الرياح تندفع على استقامتها؛ اللهب ينحني بنعومة. أشعةُ القمر متوحِّشة تخترق الأرض والحائط، ثم تتجمَّع لكي تصبغَ الوجهَين المنحنيين، الوجهين المتأملين؛ الوجهين اللذين يُفتشان عن الشخصين النائمين اللذين كانا يسعيان وراء سعادتهما الخبيئة. «الخزينة، الخزينة، الخزينة،» قلبُ البيت ينبض في خُيَلاء. «سنواتٍ طوالًا —» يتنهد. «لقد عثرتَ عليَّ من جديد.» «هنا،» هي تُهمهِم، «نائمة؛ كنتُ أقرأ في الحديقة؛ أضحك، أُدحرِج التفاحاتِ في الشُّرفة العُلوية. ها هنا كنا قد تركنا كَنْزنا —» ينحنيان، الضوء الذي ينبعث منهما يرفع الجَفْنين عن عينيَّ. «الخزينة! الخزينة! الخزينة!» نبضُ القلب يخفق بشراسة. يصحوان، وأنا أهتف: «ربَّاه! أهذا هو كَنزُكما المخبَّأ؟ النور الذي في القلب.»
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/8/
صورٌ ثلاث
من المستحيل على المرء أن يتجنَّب رؤيةَ الصور؛ فلو كان أبي حدَّادًا، وأبوك كان أحد النُّبلاء في المملكة، فسوف نحتاج حتمًا إلى أن نكون صورًا لبعضنا البعض. لن يكون بوسعنا أن نهرب جماعيًّا من إطار الصورة عن طريقِ قولِ كلماتٍ مألوفة. أنت تراني مُنحنيًا أمام باب دكان الحدادة مُمسِكًا في يدي حدوةَ حِصان فتفكِّر وأنت تمرُّ إلى جواري: «يا له من مشهدٍ رائع يستحقُّ التصوير!»، وأنا، حين أراك جالسًا بثقة واطمئنان شديدَين في السيارة، تقريبًا كأنك ذاهب كي تنحني أمام حشود العامَّة، أفكِّر: «يا لها من صورة لإنجلترا الأرستقراطية العريقة المُترَفة!». كِلانا مخطئ تمامًا في حُكْمه دون شك، لكنَّه أمرٌ محتوم. وهكذا فقد رأيتُ الآن عند منعطفِ الطريق واحدةً من تلك الصور. ربما كان اسمها: «عودة البحَّار إلى الوطن»، أو ربما اسمٌ شبيه بذلك. بحَّارٌ أنيق شابٌّ يحمل مِخلاةً؛ فتاةٌ يدُها في ذراعه؛ والجيران محتشِدون حولهما؛ وحديقةُ كوخٍ ريفي صغير متوهِّجةٌ بالورود؛ حين يمرُّ المارُّ سوف يقرأ في أسفل تلك الصورة أن البحَّار كان عائدًا لتَوِّه من الصين، وأن ثَمة مأدبةً رائعة كانت بانتظاره في رَدْهة الدار؛ وأن هديةً في مِخلاته كان قد جلبها البحَّار لزوجته الشابَّة؛ وأنها سرعان ما كانت سوف تحمل وتُنجب له طفلَهما الأول. كلُّ شيء كان مضبوطًا وجميلًا وكما يجب أن يكون، هكذا يشعر المرءُ حيالَ تلك الصورة. ثَمة شيءٌ ما كان يوحي بالهناءة والرضا في مرأى مثل تلك السعادة؛ فالحياةُ تبدو أكثر حلاوةً وفتنةً عن ذي قبل. هكذا كان تفكيري وأنا أمرُّ بهم، ثم أقومُ بملء فراغاتِ الصورة بأكثر ما يُمكِنني من زَخمٍ واكتمال، أتأمَّل لون فستانها، لونَ عينَيه، وأرقب القِطَّة التي لها لونُ الرمل وهي تَنسلُّ خِلسةً حول باب الكوخ. لبرهةٍ من الزمن ظلَّت الصورةُ تسبح في عينَي، بحيث تجعل معظمَ الأشياء تبدو أكثر بريقًا ودفئًا، وأكثرَ بساطةً من المعتاد؛ وبحيث تجعل بعضَ الأشياء تبدو سخيفةً خرقاءَ؛ وبعضَ الأشياء خاطئةً وبعضَها صحيحةً وأكثرَ امتلاءً بالمعنى عمَّا قبل. في لحظاتٍ نادرةٍ خلال ذلك اليوم واليوم الذي يليه كانت الصورةُ تعود إلى العقل، فيفكِّر المرءُ بحسد، لكنْ على نحوٍ طيِّب، في البحَّار السعيد وفي زوجته؛ ثم يتساءل المرءُ عمَّا عساهما يفعلان، وماذا تُراهما يقولان الآن. الخيال يمدُّنا بصورٍ أخرى تنبثق من الصورة الأولى: صورة البحَّار وهو يقطِّع حطبَ الوقود، وهو يسحبُ الماءَ من البئر؛ فيما يتكلمان عن الصين؛ والفتاة التي وضعتْ هديتَه فوق رفِّ المِدفأة ليكون بوسع كل من يأتي أن يراها، راحت تَحِيكُ ملابسَ طفلهما القادم، بينما كلُّ النوافذ والأبواب مفتوحة على الحديقة بحيث تصفِّق الطيور بأجنحتها وتُرفرِف من مكان إلى آخر والنَّحلاتُ تطنُّ، و«روجرز» — هكذا كان اسمه — لا يستطيع أن يصفَ إلى أي مدًى كان كلُّ ذلك مُرضِيًا له بعد عُبابِ بِحار الصين. بينما كان يدخِّن غَلْيونَه، وقدمُه ممدودة في الحديقة. يرقد المرءُ في الظلام يصيخ السمع. بالكاد كان ثَمة صوت. ليس من شيء يمكن أن يرتبط به. ليس من صورة من أيِّ نوع ظهرَت لتُفسِّر الصوت، لتجعله مفهومًا للعقل. لكن حين بدأ الظلامُ ينقشع في الأخير، كان كلُّ ما يستطيع المرءُ أن يراه هو هيئة بشرية غامضة المعالم، بلا شكل تقريبًا، ترفعُ عبثًا ذراعًا عملاقة ضدَّ ظُلمٍ مُروِّع، وغامر. الطقس المعتدِل ظلَّ مُتواصِلًا. لولا تلك الصرخة الوحيدة في قلب الليل لأحسَّ المرءُ أن الأرضَ قد أرستْ قلوعَها في الميناء؛ وأن الحياةَ قد كفَّت عن الاندفاع أمام الرياح؛ لأنها وصلتْ إلى أحدِ الخلجان الصغيرة الساكتة وأرْخَت مَرساها هناك، وراحت بالكاد تتحرك الهُوَينى فوق صفحة المياه الهادئة. لكن الصوتَ ظلَّ يُلحُّ. أينما ذهبَ المرء، ربما كانت جولةً طويلةً صعودًا نحو التلال، شيء ما كأنه يمورُ باضطرابٍ تحت السطح، يجعلُ حالَ السلام والأمن والاتزان التي تحيط بالمرء تبدو إلى حدٍّ ما غيرَ حقيقية. كانت الخِرافُ تتجمع كعنقود على جانب التل؛ والوادي يتكسَّر في موجاتٍ تتناقصُ تدريجيًّا مثل شلَّال من المياه الناعمة. ثم يصلُ المرءُ إلى البيوت الريفية المنعزِلة. الجَروُ يتدحرج في الفناء. الفراشات تطفرُ وتثبُ في مرحٍ فوق نباتات الجولق. كلُّ شيءٍ بدا هادئًا وآمنًا لأقصى درجة. غير أن المرءَ يظلُّ يفكِّر، هناك صرخة قد مزَّقت الهدوء، كلُّ هذا الجمال كان ضالعًا في الجريمة مع الليل؛ الذي قَبِل وارتضى بأن يظلَّ ساكنًا، بأن يظلَّ جميلًا، في أيةِ لحظة يمكن أن يتمزَّق الهدوءُ ثانيةً. هذه الطِّيبة، هذا الأمان كان فوق السطح، وحسب. بعد ذلك، من أجل أن يُخفِّف المرءُ عن نفسه وطأةَ مِزاجه المضطرِب الوَجِل، ويُسرِّي عن نفسه، يتحوَّل إلى صورة «عودة البحَّار إلى الوطن». يتأمَّلها كلَّها مجددًا مُنتِجًا العديدَ من التفاصيل الصغيرة المتنوعة — اللون الأزرق لفستانها، الظلال التي تسقط من الشجرة الصفراء المُزهِرة — تلك التفاصيل التي لم نستخدمها من قبل. ها هما قد وقفا عند باب الكوخ الريفي، هو ومِخلاته فوق ظهره، وهي برفقٍ تكادُ تمسُّ كُمَّه بيدها. وقطة بلون الرمال تتسلل خلسةً من الباب. وهكذا يستمر المرءُ تدريجيًّا في احتواء الصورة بكلِّ تفاصيلها، يُقنِع نفسَه بالتدريج أن هذا السكونَ وتلك السعادةَ وذلكما الرضا والجمال من المحتمل جدًّا أن يمتدَّ تحت السطح أكثرَ من أيِّ شيءٍ غادرٍ أو مشئوم. النِّعاجُ التي ترعى، تموُّجاتُ الوادي، بيتُ المزرعة، الجرو، الفراشات الراقصة، جميعُها كانت في الواقع تشبه كلَّ شيء في العمق. وهكذا يَقفلُ المرءُ عائدًا إلى البيت وعقلُه مُثبَّت على البَحَّار وزوجتِه، مُكمِّلًا لهما صورةً تِلوَ صورة، ذلك أن صورةً وراء صورة للسعادة والرضا قد تتمدَّد وتطغى على ذلك القلق والاضطراب، تطغى على تلك الصرخة الشنيعة، حتى يتمَّ قمعُها وسحقُها فتسكن تحت وطأة إلحاحهم، خارجَ الوجود. ها هي القرية أخيرًا، وساحةُ الكنيسة التي لا بدَّ أن يمرَّ عبْرَها المارُّ؛ وتأتي الفكرةُ المعتادة، بمجرد أن يدخلَها، عن السلام الذي يعمُّ المكان، بأشجاره الصنوبر الظليلة، وشواهدِ أضرحته المصقولة، وقبوره المجهولة غير المُسمَّاة. الموتُ بهيجٌ ها هنا، هكذا يشعرُ المرء. حقًّا؟ انظر إلى تلك الصورة! ثَمة رجلٌ يَحفِر قبرًا، والأطفال يقومون بنزهةٍ خلوية جوارَه بينما مستغرِقٌ هو في عمله. وعندما تحمل المجرفةُ حفنةً من التُّربة الصفراء لتقذفَها عاليًا، يكون الأطفال مُستلقين هنا وهناك يأكلون الخبز والمُربَّى ويشربون الحليب من الأباريق الضخمة. زوجةُ حفَّار القبور، الحسناءُ السمينة، كانت تتَّكئ بجسدها على شاهد القبر بعدما بسطتْ مِئزرَها فوق العشب جوار القبر المفتوح كي تستخدمه كطاولةِ شاي. بعضُ كُتلٍ من الطمي كانت قد سقطتْ بين أغراض الشاي. مَن ذاك الذي سوف يُدفَن، أتساءل. هل ماتَ أخيرًا السيد دودسون العجوز؟ «أوه! كلَّا. إنه للشاب روجرز، البحَّار»، أجابت المرأةُ وهي تُحملِق في وجهي. «ماتَ منذ ليلتَين، قضى بحُمَّى أجنبيةٍ غريبة. ألم تسمعْ زوجتَه؟ لقد اندفعتْ في الطريق وصرختْ» … «هنا أيها الجندي، تغطَّيتَ تمامًا بالتراب!» يا لها من صورة!
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/9/
الأزرق والأخضر
من الثُّريَّا تتدلى الأصابعُ البلورية النحيلة المُستدقَّة. ينزلق الضوءُ عبر البلور صوبَ الأسفل، فيَقطرُ مثل بحيرة من الأخضر. على مدارِ اليوم تَظلُّ أصابعُ الثُّريَّا العَشرُ تَقطرُ أخضرَها فوق الرخام. ريشُ الببغاوات — صيحاتُها الخَشِنة — الشفراتُ الحادَّة لأشجار النخيل — خضراء، أيضًا؛ الإبَرُ الخضراءُ تلمع في الشمس. لكنَّ البلورَ الجافَّ يتقاطر فوق سطح الرُّخام؛ والبحيراتُ تُحوِّم فوق رمال الصحراء؛ والجِمال تتهادى عَبْرها؛ حطَّت البحيراتُ فوق الرخام؛ الاندفاع شذَّب حوافَها؛ لكنَّ الأعشابَ الضارَّة تسدُّها؛ هنا وهناك براعمُ زهرٍ بيضاء؛ ضفدعٌ يتخبَّط ويَثِبُ؛ في الليل تنتصب النجومُ هناك على نحوٍ ثابت. يأتي المساء، وتَكنسُ الظِّلالُ الأخضرَ عن سطح المَوقد؛ وعن سطح المحيط المضطرِب. لا بواخرَ آتية؛ الأمواج التي بلا هدف تتمايلُ تحت السماء الخاوية. إنه الليل؛ الإبرُ تَقطرُ بُقعًا من الأزرق. ويختفي الأخضر. الوحشُ ذو الأنف الأفطس يَبرزُ على السطح وينفجرُ من خلال منخارَيه البليدَين عمودان من المياه، مُتَّقِدان بالبياض في المركز، وعند الحواف يقذفان خيوطًا من الخَرَز الأزرق. ضرباتٌ من الأزرق تُسطِّر الجسمَ المِلاحيَّ الأسودَ لمخبئه. قاذفًا الوحلَ من الفم والمنخارَين راح يغنِّي، مُثقَلًا بالماء، أطبَقَ عليه الأزرقُ مُنقِّبًا عن البلورتَين المصقولتين لعينيه. مَرميٌّ على الشاطئ يرقد، خامدًا، بليدًا، تتساقط عنه قشورٌ زرقاءُ جافَّة. أزرقُها المعدني يُبقِّع الحديدَ الصَّدئ على الشاطئ. الأزرقُ هو عروقُ ألواح الزَّورَق المُحطَّم. وموجةٌ تتدحرجُ تحت الأجراس الزرقاء. لكنَّ الكاتدرائيةَ مختلفة، باردة، مُحمَّلة بالبخور، أزرقُ باهتٌ بلونِ وشاح السيدة مريم العذراء.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/10/
لقاء وفراق
قامت السيدة دالواي بتقديمهم، قائلةً إنكِ سوف تحبينه. كان الحوارُ قد بدأ قبل دقائق من قول أي شيء، ذلك أنَّ كلًّا من السيد «سيرل» والآنسة «آنينج» كانا ينظران نحو السماء، وفي عقل كلٍّ منهما راحت السماءُ تسكبُ إشارتَها لكنْ على نحوٍ مختلف تمامًا، إلى أن أصبح وجودُ مستر سيرل إلى جوار ميس «آنينج» كثيفًا وشديدَ الحضور بالنسبة لها حتى إنها لم تعد قادرةً على رؤية السماء ذاتها من جديد على نحوٍ واضح، بل غدَت السماءُ وكأنها مُتَّكئة على جسده الفارع، وعينيه العابستين، وشعره الرَّمادي، ويدَيه المشبوكتين، وكأنها جميعَها مُتَّكئة على تلك الكآبة السوداوية الصارمة (لكنها كانت قد أُخبرَت بأنها «كآبةٌ خادعة») في وجه «رودريك سيرل»، و، رغم أنها كانت تدرك مدى حمق هذه الجملة، وجدتْ نفسَها مُجبَرةً أن تقول: «يا لها من ليلةٍ جميلة!» حمقاء! حمقاء على نحوٍ أبله! لكن لو لم يكن بمقدور المرء أن يكونَ أحمقَ في سنِّ الأربعين وفي حضرة السماء، التي تجعل من أعقل الحكماء معتوهًا أبْلَه — مجردَ حُزْمة من القش — هي والسيد سيرل ذَرَّتان، مجردُ ذرتَين من الغبار، تقفان هناك في شرفةِ مسز «دالواي»، وحياتهما، اللتان يرصدُهما الآن ضوءُ القمر، في مثل طولِ حياة حشرة لا أكثر، وليستا أكثرَ أهميةً. – «حسنًا!» قالت الآنسةُ «آنينج»، وهي تربِّت على وسادةِ الأريكة بتأكيد. فجلس إلى جوارها. هل كانت لديه «كآبةٌ خادعة» كما يقولون؟ وبتحريض من السماء، التي بدا أنها تجعل من الأمر كلِّه تفاهةً صغيرةً — ما قالوه، وما فعلوه — راحت تقول من جديد شيئًا بالغَ التفاهة: وبسبب وجود السماء في عقله، بدأتْ كلُّ أضرحة أسلافه تظهرُ على الفور للسيد سيرل خلال ضوءٍ أزرقَ رومانتيكي حزين، وراحت عيناه تتَّسعان وتزدادان قتامةً وعُبوسًا، ثم قال: «أجل». – «نحن بالأصل عائلةٌ نورماندية، من تلك العائلات التي نزحتْ مع الغزاة. ذاك أن ثَمة من يُدعى ريتشارد سيرل، مدفون في الكاتدرائية. كان فارسًا حاصلًا على وسام ربطة الساق البريطانية.» – «هل تعرف كانتربيري؟» هل يعرف كانتربيري! ابتسمَ مستر سيرل، متأمِّلًا كمْ كان السؤالُ مضحكًا — ما أقلَّ ما كانت تعرف، هذي المرأة اللطيفة الهادئة التي يبدو عليها الذكاء وكأنها تلعب لعبةً ما، المرأةُ ذات العينَين الجميلتين، التي تضع في جِيدها عِقدًا قديمًا شديدَ الجمال — هل كانت تعرف هي ما الذي يعنيه ذلك. أن يُسأل هو تحديدًا ما إذا كان يعرف كانتربيري. عندما تكون أحلى سنواتِ حياته، كلُّ ذكرياته، الأشياءُ التي لم يكن قادرًا أبدًا على أن يخبرَ عنها أحدًا، على أنه حاول أن يكتبَها — آهٍ، بالفعل حاولَ أن يكتب (ثم تنهَّد)، عندما يكون كلُّ ذلك مُتمركِزًا في كانتربيري؛ فإن سؤالًا كهذا يجعله يضحك. تنهيدتُه، وبعدها ضحكتُه، كآبتُه وخِفَّةُ ظلِّه، كلُّ تلك الأشياء جعلته محبوبًا من الناس، وكان يعرف ذلك، غيرَ أن هذه المحبةَ لم تعوِّض خيبةَ الأمل، فلو كان قد استغلَّ حبَّ الناس له (مثل القيام بزياراتٍ طويلة للنساء العاطفيات، زياراتٍ طويلة، طويلة)، لأصبحَ الأمرُ أقلَّ مرارةً، إذ إنه لم يفعلْ أبدًا عُشْر ما كان بوسعه أن يفعل، أو ما كان يحلُم بأن يفعله، حين كان صبيًّا صغيرًا في كانتربيري. كان يشعر بتجدُّد الأمل مع الغرباء، لأن أحدًا منهم لن يقول إنه لم يفعل ما قد وعد به، كما أن استسلام الآخرين لفتنته كان يهبُه بداياتٍ طازَجةً ونشطةً — في الخمسين! لقد مسَّت هذه المرأةُ النبعَ. الحقولُ والزهورُ والبناياتُ الرمادية راحت تنهمر كلُّها داخلَ عقله، على هيئة قطراتٍ فِضِّية على جدرانِ عقلِه القاتمة الكابية، ثم تسيلُ منزلِقةً إلى الأسفل. بمثل هكذا صورة كانت قصائدُه تبدأ عادةً. يشعرُ الآن بالرغبة في بناءِ صور، أثناء جلوسه إلى جوار هذه السيدة الهادئة. – «إنها تشبه شجرةَ الفاكهة — كمثل شجرةِ كرزٍ مُزهِرة،» – «من الغريب أنكِ تعرفين كانتربيري،» قال مستر سيرل. «إنها دائمًا صدمة،» استطرَد، (السيدةُ ذات الشعر الأبيض كانت تمرُّ الآن)، «حين يقابلُ المرءُ شخصًا ما» (إذا لم يكونا قد تقابلا أبدًا من قبل)، «بالصدفة، كمثل المرء الذي يمسُّ حافةَ شيء حميم بالنسبة له، يمسُّه عَرَضًا، إذ إنني أفترض أن «كانتربيري» لم تكن بالنسبة لكِ سوى بلدةٍ قديمة جميلة ولا شيء أكثر. ربما قضيتِ فيها صيفًا مع إحدى العمَّات؟» (كلُّ ما في الأمر أن روث آنينج كانت سوف تحكي له عن زيارتها كانتربيري.) «وربما شاهدتِ المناظرَ الطبيعية هناك ثم رحلتِ ولم تعودي تفكرين بها مرةً أخرى.» لنتركه يفكر على هذا النحو؛ فهي لا تميلُ إليه، كانت تريده أن يمضي ولديه فكرةٌ سخيفة عنها. أما الحقيقة، فهي أن شهورَها الثلاثة في كانتربيري كانت رائعة. هي تتذكرها حتى أدقَّ التفاصيل، رغم كونها مجردَ زيارةِ صُدفة جاءت عَرَضًا، ذهابُها لرؤية الآنسة شارلوت سيرل، إحدى معارفِ عمتها. الآن حتى، كان بوسعها أن تردِّد الكلماتِ عينَها التي قالتها الآنسة سيرل عن رعدِ السماء. «حالما أصحو، أو أسمعُ صوتَ الرعد في الليل، «كنتُ أظنُّ أن شخصًا ما قد لقي مصرعه».» وبوسعها أن تبصرَ السجَّادةَ المُضلَّعةَ الثقيلةَ ذات الوبر الكثيف، والعينَين البُنيَّتَين الغامرتَين المتلألئتَين للسيدة المسنَّة وهي تقدِّم فناجينَ الشاي الناقصة، كانت تقول ذلك الكلام عن الرَّعد. دائمًا كانت تُراوِدها رؤى كانتربيري والسُّحب الراعدة وبراعمُ التفاح الشاحبة، والخلفياتُ الرمادية العالية للبنايات. الرعدُ كان يوقظها دائمًا ويحرِّضها على الخروج من حال الخدَر واللامبالاة المفرِطة التي تصاحب منتصَف العمر؛ «هيَّا استانلي، هيا،» قالت لنفسها؛ ها هو ذا، لن يفرَّ هذا الرجلُ من يدي، مثل كلِّ الآخرين، تحت هذا الافتراض الزائف؛ سوف أخبرُه بالحقيقة. – «لقد أحببتُ كانتربيري،» قالت. «أحببتِها،» راح يكرِّرها. «أستطيعُ أن أرى أنكِ أحببتِها.» أهدابُ استشعارها أعادت إليها الرسالة بأن رودريك سيرل كان لطيفًا. التقَت عيونُهما؛ الأدقُّ تصادمت، لأن كلًّا منهما كان يشعر أنَّ خلف العيون ثَمة كائنًا منعزلًا، يكمنُ في الظلام، بينما رفيقُه النشِط الخفيف الحركة كان على السطح يقوم بكلِّ المناورات والإشارات وحركات الشقلباظ، من أجل أن يُبقيَ العرضَ مستمرًّا، ثم فجأةً ينتصبُ ذلك الكائنُ واقفًا؛ يقذفُ عباءتَه بعيدًا؛ ثم يواجه الآخرَ مُتَحدِّيًا. كان ذلك مُفزعًا. كان ذلك مُروِّعًا. كانا كلاهما متقدِّمَين في العمر ومصقولَين بغلالة من الهدوء المتوهِّج، لدرجة أن رودريك سيرل كان أحيانًا يذهبُ إلى أكثر من عشرِ حفلات في فصل واحد من فصول السنة، من دون أن يشعرَ في العموم بأيِّ شيء، ربما فقط يحسُّ ببعض الندم العاطفي، وتُراوِده الرغبةُ في رسم الصور الجميلة مثل صورةِ شجرةِ الكرز المُزهِرة — وطوال الوقت يظلُّ راسبًا بداخله شعورٌ مُوغِل بالتفوُّق على كلِّ مَن في رفقته، شعورٌ بأن ثَمة منابعَ كامنةً ما زالت غير مُستغَلَّة، مما يجعله يعودُ إلى بيته غيرَ راضٍ عن الحياة، غيرَ راضٍ عن نفسه، متثائبًا، خاويًا، متقلِّبَ الأطوار عكِرَ المزاج. لكن الآن، على نحوٍ مفاجئ تمامًا، مثل صاعقةٍ بيضاءَ تبرقُ في غبش الضباب (على أن هذه الصورةَ صاغت نفسَها بنفسها بسبب البرق الذي بدأ يلوحُ في الأفق ويُنذِر)، الآن ها هي قد وقَعَت بالفعل، النشوةُ القديمة بالحياة؛ انقضاضُها المُباغِت الذي لا يُقاوَم؛ كانت غيرَ مُبهِجة، وكانت في الوقت نفسه ممتِعةً ومجدِّدةً للشباب وتملأ الشرايينَ والأعصابَ بخيوطٍ من الثلج والنار. إحساسٌ مُروِّع. «كانتربيري منذ عشرين عامًا،» قالت الآنسة «آنينج»، مثلما يبسطُ أحدهم رقعةً من الظلال فوق بقعةِ ضوءٍ باهر، أو مثلما يغطي أحدُهم ثمرةَ خوخ مشتعلة بورقةِ شجرٍ خضراءَ، إذ كانت الجملةُ تلك قويةً للغاية، يانعةً للغاية، ممتلئةً للغاية. أحيانًا ما كانت تتمنى لو أنها تزوَّجت. في بعض الأحيان كانت تبدو لها الدَّعةُ الفاترةُ التي تَسِمُ حياةَ الطبقات المتوسطة، بأجهزتها الأوتوماتيكية التي تحمي العقلَ والجسدَ من الكدمات والخدوش، مقارَنةً بالرعد وبراعم التفاح المزرقَّة الشاحبة في كانتربيري، تبدو لها حقيرةً وزائفةً. كان بوسعها أن تتخيَّل شيئًا مختلفًا، أشبه ما يكون بالبرق، أو أشد. كان بوسعها أن تتخيل شيئًا من الإحساس الفيزيقي الجسدي. كان بوسعها أن تتخيل و، على نحوٍ غريب جدًّا، ذاك أنها لم تكن قد رأته من قبل، فمن الغريب إذَن أن حواسَّها، أهدابَ الاستشعار تلك التي كانت ترتعشُ ثم تزجرُها لتتوقَّف، لم تعد ترسلُ لها الآن المزيدَ من الرسائل، الآن ترقدُ ساكنةً هامدة، كما لو كانت هي والسيد سيرل يعرفان بعضهما البعض معرفةً تامة، كانا كلاهما، في الحقيقة، متقاربَين جدًّا ومتَّحِدين بحيث لم يكن عليهما إلا أن يَطفُوَا وحسب جنبًا إلى جنب تحت هذا الشلال. بين كل الأمور، لا شيءَ أشد عجبًا من العلاقات البشرية، هكذا فكَّرت، تقلباتُ تلك العلاقات، وانعدامُ المنطق فيها. كراهيتُها الآن أخذتْ تتضاءلُ أمام حبٍّ هو الأكثر عاطفةً وتوهُّجًا، سوى أن كلمةَ «الحب» بمجرد أن تخطر ببالها، كانت ترفضها رأسًا، وتفكرُ مجددًا إلى أي مدًى كان العقل غامضًا ومبهمًا، بكلماته القليلة جدًّا إزاء كلِّ تلك الإدراكاتِ الحِسِّية المدهشة، تلك التناوباتِ بين الألم والمتعة. إذ كيف يسمي المرءُ كلَّ هذا. هذا ما كانت تشعرُ به الآن: الانسحابُ من العاطفة البشرية، اختفاءُ «سيرل»، والحاجةُ المُلِحَّة التي كان كلاهما واقعًا تحت وطأتها مداراةً للشيء المُتعس المخجل والمُحطِّ لطبيعة الإنسان، الشيء الذي يجتهد كلُّ إنسان أن يدفنَه بلباقة بعيدًا عن النظر. هذا الانسحاب، هذا الانتهاك للثقة، و، كأنما تبحثُ عن صيغةٍ مهذبة ومقبولة ومُعترَفٍ بها للدفن، راحت تقول: «بالتأكيد، مهما يفعلون، فلن يستطيعوا أن يُفسدوا كانتربيري.» ابتسمَ؛ ووافقها على الفكرة؛ ثم شبكَ ركبتيه في الاتجاه الآخر. لقد أتمَّت هي دورَها الخاص؛ وهو أيضًا أتمَّ دورَه. وهكذا وصلَت الأمورُ إلى النهاية. وفي التوِّ هبط فوقهما معًا خواءُ المشاعر الذي يُعطِّل الحواسَّ، حين لا شيءَ يتدفقُ من العقل، حين تبدو جدرانُه مثل لوح الأردواز؛ حين الفراغُ يؤلم، والعيونُ تتحجَّر وتثبُت على البقعة ذاتها — شكلٌ نمطيٌّ، دلوُ فحم — بدِقَّة مروِّعة، حيث لا عاطفة، لا فكرة، ولا تأثيرَ من أيِّ نوع قد يأتي ليغيِّره، ليعدِّله، أو حتى ليجمِّله، حيث نافورةُ المشاعر تبدو معزولةً مُحكَمةَ الغلق، وحين يغدو العقلُ صلبًا جامدًا يحذو الجسدُ حذوَه؛ يصبحُ صارمًا، كتمثال، حتى إنَّ أيًّا من مستر سيرل أو ميس «آنينج» لم يستطع أن يتحرك أو يتكلم. ثم أحسَّ كلٌّ منهما فجأةً كأن ساحرًا قد حرَّرهما، أو كأن ينبوعًا من الحيوية قد انبثقَ في كلِّ وريد، حين ربَّتت «ميرا كارترايت» بمكر على كتفِ السيد سيرل، قائلةً: «لقد رأيتُكَ في مَحفلِ الشِّعر والموسيقى، وأنتَ تجاهلتني. سافل.» قالت الآنسة كارترايت: «أنتَ لا تستحقُّ مطلقًا أن أتكلمَ معك مرةً أخرى.» واستطاعا أن يفترقا.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/11/
منظرٌ خارجي لكلية البنات
– «لأنه شيءٌ لعينٌ جدًّا وعلى نحو غير محتمَل»، قالت هيلينا. – «لعين،» رددت بيرثا مقلدةً صدى الصوت. ثم تثاءبت. – «نحن لسنا رجالًا مَخصيِّين.» – «لقد رأيتُها تتسلل من البوابة الخلفية بقبَّعتها القديمة تلك. إنهم لا يريدوننا أن نعرف.» – «هُم؟»، قالت آنجيلا. «هي.» بعد ذلك تأتي الضحكة. كُروتُ اللعب كانت تتناثر، تَسقطُ بأحمرِها وأصفرِها، الوجوهُ إلى الطاولة، والأيادي تداعبُ الكروت. بيرثا الطيبة، تميل برأسها وتتكئ على الكرسي، تتنهد بعمق. كان من الممكن أن تذهبَ إلى النوم بكامل رغبتها، لكن، منذ غدا الليلُ مرعًى مباحًا، حقلًا متراميًا غير محدود، منذ أصبح الليلُ ثراءً لا نهائيًّا، فإن على المرء أن يجوسَ عميقًا في دهاليز ظلمائه. يجب على المرأة أن تتزين به مع جواهرها. كان الليلُ مشتركًا في السرِّ فقط، فيما النهارُ واضحٌ ومقروءٌ ويرعى في كَلَئه السربُ كلُّه. الستائرُ كانت مرفوعةً. وغبشُ الضباب يملأ الحديقة. وفيما كانت تجلسُ على الأرض جوار النافذة (بينما الأخريات يلعبن)، كان جسدُها وعقلُها، الاثنان معًا، كأنهما نُفِخا عبر الهواء، كي ينتشرا ويتغلغلا خلال الشجيرات. آه، لكنها كانت ترغبُ في أن تتمطى في سريرها ثم تنام! هي موقنةٌ أن أحدًا سواها لا يشعر بالرغبة في النوم؛ هي توقن، عبر وهنِها الناعسِ وترنحات رأسها بفعل الرغبة في النوم، أن الأخرياتِ يقظاتٌ تمامًا. فعندما ضحكن جميعهن معًا، زقزَق عصفورٌ في نومته بالحديقة الخارجية، كأنما الضحكة … نعم، كأنما الضحكةُ (لأنها بدأت تغفو الآن) راحت تطفو عاليًا مثلما يطفو الضباب، ثم راحت تشبكُ نفسَها بشرائطَ مطاطيةٍ ناعمة في النباتات والشجيرات، حتى امتلأتِ الحديقةُ بالغيوم والأبخرة. وبعد ذلك، جاءت الرياحُ لتجرفَ كلَّ شيء، كان على الشجيرات أن تحني هاماتِها، فيما الأبخرةُ البيضاءُ سوف تهبُّ وتتخللُ العالم. بالفعل، كيف يمكن للمرأة بعد ذلك أن تندهشَ إذَن، وهي تستلقي في فراشها، لم تستطع أن تغلقَ عينيها؟ — ثمة شيءٌ قاهرٌ يمنعهما من الانغلاق — إذا كان الكرسيُّ وخزينةُ الأدراج يبدوان في الظلمة الخفيفة فَخمَين وجليلَين، والمرآةُ تبدو ثريةً ومهيبةً بما تحمله من لمحاتٍ نهارية رماديَّة شاحبة؟ تمتصُّ إبهامها مثل طفل (عمرها كان تسعة عشر عامًا في نوفمبر الماضي)، إنها تتمدَّد في هذا العالم الطيب، هذا العالم الجديد، هذا العالم الذي في نهاية النفق، إلى أن تدفعها رغبةٌ قويةٌ في رؤيته أو امتلاكه، فتقذفُ ببطانيَّتها، ثم تقودها تلك الرغبةُ إلى النافذة، وهناك، تنظرُ إلى الخارج صوب الحديقة، حيث يتمددُ الضباب، كلُّ النوافذ مفتوحة، إحداها بلونٍ أزرقَ ناريٍّ، وثمة شيءٌ ما يُدمدمُ على البُعد، إنه العالم بالتأكيد، والنهارُ الوشيك، «أوووه،» صرختْ، كما لو كانت في وجع.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/12/
روايةٌ لم تُكتَب بعد
مثلُ هذا التعبير التَّعِس، كان في ذاتِه كافيًا لكي يجعلَ عينَي المرء تتسللانِ فوق حافةِ الجريدة إلى حيث وجه تلك المرأة البائسة — الوجه الذي لا يُلفتكَ لولا تلك النظرة التي حملتْ، إلى حدٍّ بعيد، ملمحًا من قضاءِ الإنسان وقَدَرِه. الحياةُ، هي ما نراه في عيونِ الناس؛ الحياةُ هي ما يتعلمونه ويكتسبونه، وما اكتسبوه وتعلَّموه بالفعل، ودائمًا، على الرغم من هذا يحاولون إخفاءَه، ويجتهدون في التوقف عن الوعي ﺑ — بماذا؟ الحياةُ تشبه تلك التي، تبدو لنا. وجوهٌ خمسةٌ قُبالتي — خمسةُ وجوهٍ ناضجة — وتسكنُ المعرفةُ في كلِّ وجهٍ منها. والعجيب، برغم هذا، كم يرغبُ البشرُ في إخفائها! سيماءُ التَّكتُّمِ كامنةٌ في كلِّ تلك الوجوه: شفاهٌ مغلقة، عيونٌ تغلِّفُها الظلال، وكلُّ واحدٍ من الشخوص الخمسة يفعل شيئًا من شأنه إخفاءُ أو إفسادُ معرفتِه. أحدهم شرعَ في التدخين؛ وآخرُ أخذ يقرأ؛ وثالثٌ راحَ يفتِّشُ عن مفرداتٍ في قاموسِ جَيب؛ بينما راح رابعٌ يحدِّقُ في خريطة شبكةِ مسارِ القطار تلك المثبتة في إطارٍ قُبالتَه؛ والخامسُ — أخطرُ ما في الخامسِ أنها لم تكن تفعلُ شيئًا على الإطلاق. إنها تنظرُ صوب الحياة، تنظرُ وحسب. ولكن، آهٍ أيتها المرأة التعسة السيئةُ الحظ، هيا انضمِّي إلى اللُّعبة — خُذي دورَك الآن، إكرامًا لنا، اشرعي في التخفِّي! وكأنما سمعتني، رفعت المرأةُ بصرَها، تململتْ في مقعدِها قليلًا، ثم تنهدتْ. بدتْ كما لو كانت تعتذر، وفي ذات الوقت كأنما تقول لي: – «فقط لو كنتِ تعرفين!» ثم عادت مجددًا تنظرُ إلى الحياة. – «لكنني أعرف.» – «أنا أعلمُ الأمرَ كلَّه.» (السلامُ بين ألمانيا وقُوى التحالف تمَّ أمس التبشيرُ به رسميًّا في باريس — انتخاب «السينيور نيتي»، رئيسًا لوزراء إيطاليا — تحطُّم قطارِ ركاب في «دونكاستر» إثر اصطدامه مع قطار شحن بضائع …). – «جميعُنا يعرف — صحيفةُ «التايمز» تعرف — لكننا فقط نتظاهرُ بعدم المعرفة.» مرةً أخرى، تسللتْ عيناي فوق حافةِ الجريدة. فاختلجتِ المرأةُ، انتزعتْ ذراعَها على نحوٍ غريب، أرْخَتها في منتصف ظهرها ثم هزَّت رأسها. من جديد، أطرقتُ برأسي لكي أُغرقَها في مستودعي الكبير، مستودع الحياة. «خذْ ما شئتَ،» تابعتُ، «مواليد، وفَيات، زواج، نشرةُ أخبار البلاط الملكي، من عادات الطيور، ليوناردو دافنشي، جريمة قتل في «ساندهيل»، ارتفاعُ الأجور لمواجهة تكاليفِ المعيشة، — ياااه! خذْ ما شئتَ،» أعدتُها مرارًا، «كلُّ شيء في «التايمز»!، الحياة كلُّها.» من جديد، وبضجرٍ لا نهائي، أخذَ رأسُها في التحرُّك يمينًا ويسارًا حتى إذا ما هدَّه التعبُ جرَّاء الدوران المتسارع، سكنَ من جديد فوق عنقِها. لم تعد «التايمز» تمثِّل حائطَ حماية لي أمام مثل ذلك الحزنِ في عينيها. سوى أن الأشخاصَ الآخرين يَحُولون دون تواصلنا. أفضلُ ما يمكنُ اتخاذه ضدَّ الحياةِ هو أن تطوي الصحيفةَ مرارًا حتى تحصلَ على مربعٍ سميك منتظم الأضلاع. مربعٍ مُصمَتٍ وغيرِ مُنفِذ حتى للحياة. هذا بالضبط ما فعلت، ثم رنوتُ لأعلى مسرعةً، متسلحةً بالدرع الواقي الذي صنعتُه توًّا من الجريدة، غير أنها اخترقتْ حائطَ دفاعي وحدَّقت مباشرةً، وعلى نحوٍ ثابت، في عينيَّ كأنما تنقِّبُ في غُوريهما عن أثرٍ من شجاعة، لتحيلَها ضعفًا وصَلْصالًا رطبًا. سوى أن اختلاجتَها، وحدها، أفسدتْ كلَّ شيء، وأَدَتْ كلَّ أمل، وحسمتْ كلَّ خيال. ها هي محطة «الجسور الثلاثة»، بدأ القطار يزحفُ بنا ببطء حتى رصيف المغادرة، ثم توقف. تُرى هل سيغادرُنا الرجل؟ في الحقيقة لم أكن واثقةً من رغبتي، دعوتُ الله على الاحتمالَين، غير أني في الأخير تمنيتُ أن يبقى. في تلك اللحظة تحديدًا، انتبه الرجلُ، انتفضَ، كرمشَ جريدته وألقاها باستخفافٍ مثلما يتخلصُ المرءُ من شيءٍ انتهى منه وزهدَ فيه بعدما لم يعد في حاجة إليه، ثم اندفع بعنفٍ نحو باب القطار، وتركنا وحيدتَين. بعد انحناءةٍ طفيفة إلى الأمام وعلى نحوٍ فاترٍ لا لونَ له، بدأتِ المرأةُ الحزينةُ تتجاذبُ معي أطرافَ الحديث — تكلمتْ عن محطاتِ القطار وعن العطلات، عن الأشقَّاء في «إيستبورن»، وعن ذلك الوقت من العام الذي هو فصل اﻟ…، نسيتُ الآن، شتاء أم خريف. لكنها في النهاية نظرتْ من النافذةِ، وراحتْ تتأملُ — أنا على ثقةٍ — الحياة وحسب. أخذتْ شهيقًا ثم قالت: «البقاءُ بعيدًا — تلك هي الخسارة —» آه ها نحن نصلُ إلى بؤرة الفاجعة. – «زوجة أخي» — قالتها بينما المرارةُ في نبرتِها تشبه سقوطَ قطراتِ ليمونٍ على سطحٍ من الحديد البارد، وكأنها تتحدث — لا معي — بل مع نفسها، تمتمتْ: «هُراء»، كأنما أرادتْ أن تقول — «هذا ما يردده الجميع دومًا،» فيما تتكلم، كانت تتململُ في جِلستِها على نحوٍ عصبي كأن بشرةَ ظهرِها كما لدجاجةٍ منزوعةِ الريشِ في نافذة عرض محلٍّ لبيع الطيور. – «ياااه، تلك البقرة!» توقفت عن الكلام بغتةً على نحوٍ عصبي، وكأن البقرةَ الخشبيةَ الضخمةَ، في المرجِ الأخضرِ الذي مررنا به، قد صدمتها وأنقذتها من ارتكاب حماقةٍ ما. عندئذٍ ارتعدتْ، ثم تلوَّت بحركة زاوية شاذة، كما لم أرَ من قبلُ طيلة حياتي، وكأنما نوبة تقلُّصٍ حادَّة قد تسببتْ في التهابٍ وحَكَّة في بقعةِ الجلدِ فيما بين كتفيها. بعدها، عادت من جديد لتبدو كأكثر نساء الوجود شقاءً وحزنًا، ومن ثَم أيضًا، بدأتُ من جديد ألومُها وأستنكرُ عليها ذلك، لكن ليس بذات اليقين السابق، لأنه لو كان ثمةَ سببٌ، ولو علمتُ أنا هذا السببَ، إذَن لاختفتْ وصماتُ العار من الحياة. «زوجاتُ الإخوة،» قلتُ لها — زمَّت شفتيها وأمالتهما، كأنها ستبصقُ سمًّا في وجه الكلمة؛ لكنهما بقيتا مزمَّمتين. كلُّ ما فعلته هو أن أخرجتْ قفازَها وراحتْ تفركُ بشدة بقعةً على زجاجِ نافذة القطار. كانت تحكُّ كأنما لتمحوَ شيئًا من الوجود وإلى الأبد — وصمةً ما، تلوثًا ما لا ينمحي. في الواقع، ظلَّت البقعةُ راسخةً رغم جهودِها، ومن جديد غاصتِ المرأةُ في رِعدتِها وفي اشتباك ذراعيها، تمامًا كما توقعتُ أنا أن ستفعل. شيءٌ ما دفعني أن أُخرجَ قُفازي وأشرعَ في حكِّ نافذتي. كانت هناك بقعةٌ صغيرة على الزجاج أيضًا. بقيتْ، رغم كلِّ محاولاتي، مكانَها. عندئذٍ، تسرَّبت إليَّ حالةُ التقلص ذاتُها، لويتُ ذراعي وشبكتها خلف ظهري. وشعرتُ بأن بشرتي أيضًا كما لدجاجةٍ مبتلَّة في فاترينة محلٍّ لبيع الطيور؛ ثمة بقعةٌ في الجلد بين الكتفين بدأتْ تلتهبُ وتستحِكُّني، أشعرُ بها لزجةً، أشعرُ بها فجَّةً. هل يمكنني الوصولُ إليها؟ حاولت ذلك خلسةً، لكن المرأةَ لمحتني. وألقتْ في وجهي ابتسامةً تحملُ سخريةً لا نهائيةً، وحَزَنًا لا نهائيًّا. ابتسامة سرعان ما تلاشت من وجهها واحتوتها الظلال. لكنها تواصلتْ معي على أية حال، قاسمتْ أحدًا سرَّها في الأخير، وبعد أن سرَّبتِ سُمَّها، لم تكن لتقول المزيد. وبينما أتكئُ للوراء في رُكني الخاص، وأحجبُ عيني عن عينيها، وفيما أنظرُ إلى المنحدرات والتجاويف وحسب، الرَّماديات والأُرجوانيات ومناظر الشتاء الطبيعية، قرأتُ رسالتَها، حللتُ شيفرةَ سرِّها ورموزَه، قرأتُ الرسالةَ الخبيئةَ تحت نظرتها المحدِّقة. «هيلدا»، زوجةُ الأخ. هيلدا؟ هيلدا؟ هيلدا مارش — السيدةُ الناضرةُ، ذات النهدين العامرين، المرأةُ الرفيعةُ المقام. تقف هيلدا عند باب البيت بيدها عملةٌ فضية بينما سيارة التاكسي على وشك التوقف. – ها هي ميني البائسة، أكثرُ فقرًا من جندب، أكثر تعاسةً من أي وقت مضى — بعباءتِها القديمة ذاتِها تلك التي جاءت بها العام الماضي. حسنٌ، هذا حسنٌ جدًّا مع وجود أطفال، هذه الأيام، لا يستطيع المرءُ أن يفعل أكثر. «لا يا ميني، أنا سأدفعُ عنك، ها هي الأجرةُ أيها السائق — لن تُجْدي أساليبُك معي، لا تحاولي. تعالَي يا ميني. أوه، يمكنُني حملك، ضعي عنكِ سلَّتَكِ!». وهكذا تدخلان إلى غرفة الطعام. – «العمَّة ميني يا أولاد.» ببطءٍ تبدأ السكاكينُ والشوكُ في الهبوط على الطاولة. يُنكِّسان رأسيهما (بوب وباربارا)، يُعرضان عن المصافحةِ بجفاء؛ ثم يعودان ثانيةً إلى طعامِهما، يَسْترقان النظرَ بين فترات امتلاء الفم، ثم يعاودان المضغَ من جديد. [لكننا سوف نقفز فوق هذا، لنحذفْ هذا؛ الديكورات، الستائر، الصحن الصيني ذا الورود الثلاثية الأوراق، مكعبات الجبن الأصفر المستطيلة، ومربعات البسكويت البيضاء — نعم، لنهملْ كلَّ هذا، ولكن انتظروا! في منتصف وجبة الغداء، تحدث إحدى تلك الارتجافات؛ يحدِّق «بوب» في وجهِها، والملعقةُ في فمِه. – «أكملْ طبقَ البودينج يا بوب!» لكن هيلدا استنكرت هذا. «لماذا لا بدَّ أن ترتعش دائمًا هكذا؟» لنحذفْ هذا، نحذف، حتى نصلَ إلى بسطة الطابق العلوي؛ الدرابزين النُّحاسي للسُّلم، مشمع الأرضية الممزق؛ أوه نعم! ثَمة غرفة نومٍ صغيرة تُطلُّ من بين أسطح بنايات «إيستبورن» — الأسطح المتعرجة مثل العمود الفقاري ليرقات الفراشات، هذا الاتجاه، وذاك الاتجاه، مقلمةً بشرائحَ حمراءَ وصفراء، مع ألواحٍ من الأزرق الغامق.] والآن يا ميني، الباب مغلق، هيلدا تنزلُ بتثاقُل إلى البدروم؛ وأنت تفكِّين الشرائطَ عن سلَّتك، تضعين على سريرك قميصَ نوم هزيلًا، وإلى جانب بعضهما، تضعين فردتَي خُفٍّ مبطَّن بلبَّاد الفراء. أما المرآةُ — لا، أنت تتجنبين المرايا. بعض الترتيب المدروس لدبابيسِ القبعة. الصندوق الصغيرُ المصنوعُ من محار البحر، ربما بداخله شيء؟ ها أنتِ تهزينه؛ إنه زرارُ القميص، المصنوع من اللؤلؤ، الزرار الذي كان داخل الصندوق قبل عام — هذا كل ما هنالك. ثم هناك الزفرة، التنهيدة، ثم الجلوس إلى النافذة. الثالثة من مساء أحد أيام ديسمبر؛ السماء تمطر رذاذًا خفيفًا؛ ضوءٌ يأتي من الأسفل من نافذةِ سقيفة دكان بيع الأقمشة، وآخر من الأعلى يأتي من غرفةِ نومِ الخادمة — هذا الضوء انطفأ. فلم تجدِ المرأةُ شيئًا تنظرُ إليه. خواءُ اللحظة —، والآن، في أيِّ شيء تفكرين؟ (دعوني أختلس النظرَ إليها؛ إنها نائمةٌ أو تتظاهر بأنها نائمة؛ إذَن، تُرى فيمَ يمكن أن تفكِّر في الثالثة ظهرًا أثناء الجلوس جوارَ نافذةِ قطار؟ الصِّحة، المال، الفواتير، أم تفكر في الله؟). أجل، ميني مارش تصلِّي لربِّها، وهي تجلسُ على هذه الحافة من المقعد وتنظرُ صوب أسطح أبنية «إيستبورن». هذا مناسب جدًّا؛ ولعلها نظَّفت الزجاجَ أيضًا، لترى اللهَ على نحوٍ أفضل. لكن، أيُّ ربٍّ تَرى؟ من هو إله ميني مارش يا تُرى؟ إله الشوارع الخلفية ﻟ «إيستبورن»، إله الساعة الثالثة من بعد الظهر؟ عجوزٌ شرسٌ وطاغية — إله ميني مارش! أتُراه هو الذي أرسل الحَكَّةَ والبقْعةَ والرِّعشة؟ أمِن أجل ذلك كانت تصلِّي وتدعوه؟ إذَن، الشيءُ الذي حاولتْ محوَه من فوق زجاج النافذة كان بقعةً من الخطيئة! أوه، ميني مارش إذَن ارتكبتْ جريمةً ما! لديَّ اختياراتي الخاصَّة فيما يخصُّ الجرائم. الغابات تتحرك سريعًا وتطير — في الصيف تنمو عُشبةُ «الجريس» البرية ذات الأزهار الزرقاء؛ في تلك البدايات، مع قدوم الربيع، تنبتُ زهرةُ الربيع. أرحيلٌ ما؟ أشيءٌ من هذا؟ منذ عشرين عامًا مثلًا؟ هل ثمة عهودٌ أُخلفَت؟ لا، ليس من جانب ميني! هي كانت مخلصةً دائمًا. انظروا كيف كانت ترعى أُمَّها وتُمرِّضُها! كم أنفقتْ من مالٍ لبناء الضريح — أكاليلُ الزهر تحت الغطاء الزجاجي — زهورُ النرجس البري في الأصص. لكنني خرجتُ عن الموضوع. جريمة … ربما يقولون إنها أبقت على حزنها، طمست سرَّها — قمعتْ أنوثتَها، هكذا سيقول — رجالُ العلم. ولكن، أيُّ هراءٍ أرتكبُ حين آسرُها وأختصرُها في قفصِ الغريزة! لا — الأمر أبعدُ من ذلك. فيما تتجوَّل عبر شوارع «كرويدون» قبل عشرين سنة، كانت العُقدُ البنفسجيةُ اللَّون، في شرائطِ الستائر المخملية على فاترينة محلات بيع القماش التي تتلألأ تحت أضواء المصابيح الكهربائية، تخطفُ بصرَها. تتلكأُ — إلى ما بعد الساعة السادسة. لكنْ، مع هذا، ما زال بوسعها الوصولُ إلى البيتِ إذا ما ركضت. وهكذا، تندفعُ عبر الباب المروحي المصنوع من الزجاج. إنه وقتُ التصفياتِ السنوي، ثمة صَوانٍ مسطَّحةٌ ممتلئة حتى الحافة بالشرائط، تتوقفُ، تجذبُ هذه، تعبثُ أصابعُها في تلك التي تعلوها زهورٌ متفتِّحة — لا حاجة للانتقاء، لا حاجةَ للشراء، فكلُّ صينية تحمل مفاجآتها ودهشتها. – «لا نغلقُ المحل قبل السابعة.» وجاءت السابعة. تركضُ، تندفعُ مسرعةً صوب البيت، وصلتْ، لكن متأخرةً جدًّا. الجيران — الطبيب — الشقيق الرضيع — غلاية الشاي — احتراق الجسم بالماء المغلي — المستشفى — الموت — أو مجرد الصدمة من فكرته، اللوم والتوبيخ؟ أجل، لكنَّ التفاصيلَ لا تهمُّ! الأهمُّ هو ما تحملُه بداخلِها، البقعة، الجريمة، الفعلة التي تستوجب التكفير عنها، إنها هناك دائمًا، بين الكتفين. «نعم،» يبدو أنها تومئ إليَّ، «إنها الفعلة التي ارتكبتُها.» سواء ارتكبتِ خطيئةً أم لا، وأيًّا كان ما فعلتِ، أنا لا أعبأُ بهذا، ليس هذا ما أريد. (دعوني أختلسُ النظرَ ثانيةً — ما زالت نائمة، أو تتظاهر بأنها نائمة! بيضاء، مُتعَبةٌ مُستهلَكةٌ، الفمُ مُغلَق — بوجهها مسحةٌ من العناد والاستعصاء على المعالجة، ربما أكثر مما يظن المرء — لا ملمحَ واضح أو إشارة للغريزة) — ثمة جرائمُ عديدةٌ لا تناسبك؛ جريمتُك متواضعة؛ بينما القصاصُ جليلٌ ومَهِيب؛ لأن بابَ الكنيسة يُفتحُ الآن، المقعدُ الخشبي الصلب يستقبلُها؛ تركعُ فوق البلاط البني؛ كلَّ يوم، في الشتاء، في الصيف، في الغسق، في الفجر، (هي الآن في هذه الحال) تُصلِّي. كلُّ آثامها تسقطُ، تسقطُ، إلى الأبد تسقط. البقعةُ سوف تمتصُّ الآثامَ جميعها. إنها تتفاقم، يحمرُّ لونُها، تحترقُ. بعد هذا سوف تخز المرأة فتختلجُ وتتشنَّج من فرط الألم. الأولادُ الصغار بدءوا يظهرون. «بوب موجود على الغداء اليوم» — غير أن النساءَ المُسنَّات هن دائمًا الأسوأ. آه، إنه زنجي — يا له من رجلٍ مضحك! — هذا الرجل الذي يحمل الببغاوات — يا للكائنات الصغيرة المسكينة! أمَا من أحدٍ هنا يفكر في الرب؟ — هناك، فوق الجسر البعيد، يمسك عصاه — لكن لا — لا شيءَ هناك سوى الرمادي في السماء، أو، لو كانت السماءُ زرقاء، لولا تلك الغيوم البيضاء التي تُخفيه وراءها، ثم هذه الموسيقى — إنها موسيقى الشرطة العسكرية — وعمَّ يبحثون؟ هل يمسكون بهم؟ كم يحملق الأطفال! حسنًا، إذَن العودة إلى المنزل عبر الطرق الخلفية —. – «العودة إلى المنزل عبر الطرق الخلفية!» لهذه الكلمات معنًى؛ ربما نطقها رجلٌ عجوزٌ له لحيةٌ وشارب — لا، لا، لم يتكلمْ في الحقيقة؛ سوى أن لكلِّ شيءٍ معنًى — الإعلاناتُ المتكئةُ على بواباتِ البنايات — الأسماءُ فوق فتارين المَحالِّ — الثمارُ الحمراءُ في السِّلال — رءوسُ النساءِ في محال الكوافير — كلها تقول: «ميني مارش!» لكن، هناك ارتجافةٌ أخرى. هذا ما يحدث دائمًا! كنت أفكر بها فوق شلالات المياه، نحو الجنون مباشرةً، عندئذٍ، فجأةً مثل قطيعٍ من أغنام الحُلم، استدارتْ هي نحو الجهة الأخرى، وانزلقت بين أصابعي. البيضُ هو الأرخص. مربوطة بحبالٍ عند شواطئ العالم، لا جريمةَ من الجرائم، أحزان، تطرُّف، جنون المسكينة ميني مارش؛ ثمة وقتٌ دائمًا لتناول الوجبات السريعة؛ لن تراها في جوٍّ عاصفٍ بغير معطف مطر، لا تعدمُ الوعيَ كليةً برخص البيض. ولهذا، ستصلُ إلى البيت — وسوف تكشطُ حذاءها الطويل من الوحل. هل قرأتُكِ على نحوٍ صحيح؟ لكنه الوجه البشري — الوجه البشري فوق الحافة العليا لصفحة الصحيفة المحتشدة يحمل أكثر، ما زال يخبئُ أكثر. الآن، فُتحَتِ العينان، تنظران بحذر؛ وفي داخل العين البشريَّة ثمة — كيف يمكن أن نسمي هذا الشيء؟ — ثمة انكسار — انقسام لكنك حين تقبضُ على ساق النبتة، إذا بالفراشة تختفي — الفراشة التي تتشبَّثُ في المساء بأعلى الزهرة الصفراء — هلُّمِّي تحرَّكي، ارفعي يدك، بعيدًا، عاليًا، بعيدًا جدًّا. لن أرفع يدي. تشبَّثي ساكنةً، ثم، ارتجفي، يا حياة …، يا روح …، يا نفس …، يا أيًّا ما يكون من «ميني مارش» — أنا، أيضًا فوق زهرتي — والصقر فوق الزَّغَب — وحيدًا، وإلا فما جدوى الحياة إذَن؟ من أجل أن تعلو؛ تشبَّثْ ساكنًا في المساء، في منتصف النهار؛ تعلَّقْ ساكنًا فوق المنحدر. رجفةُ اليدِ — ستختفي، في الأعلى! ثم تتزنُ من جديد. وحيدًا، غيرَ مرئي؛ تشاهدُ كلَّ الأشياء الساكنة هناك في الأسفل، كلُّ شيء يبدو فاتنًا. لا أحدَ يرى، لا أحدَ يهتم. عيون الآخرين هي سجونُنا؛ أفكارُهم هي أقفاصُنا. الهواءُ في الأعلى، الهواءُ في الأسفل. القمرُ والخلود … أوه، لكنني أسقطُ في الحَلبة! هل تسقطين أيضًا؟ أنتِ يا من تقبعين في الركن، ما اسمك — امرأة «ميني مارش»؛ ألم يكن شيئًا شبيهًا بهذا؟ لكن لنعدْ —. إلى أية نقطة نعود، إلى أين؟ هي فتحَت الباب، تعلِّقُ مِظلَّتها على الحامل — هذا غنيٌّ عن القول؛ هكذا، أيضًا، نفحةٌ من رائحة لحم بقري تأتي من البدروم؛ قطرة، قطرة، قطرة. لكن الشيءَ الذي لا يمكنني الخلاص منه، الشيء الذي يجب عليَّ أن أتجاوزه، هو رأسٌ مُنكَّس، وعينان مغمضتان، تمتلكان جسارةَ كتيبة، وعماءَ ثور، هجومٌ ثم انفراطُ العقد في الهواء، هي، بغير شك، تلك الشخوص المختبئة خلف نبات السرخس، وكلُّ هؤلاء الرحَّالة من التجار. هناك، كنتُ أخفيتهم طوال هذا الوقت على أمل أن يتلاشوا بطريقة أو بأخرى، أو الأفضل أن يظلوا ينبثقون، لأنهم في الواقع يجب أن يفعلوا ذلك، إذا ما كانت الرواية ستمضي في طريق الجمع بين الثراء والتُّخمة، بين القَدَر والمأساة، كما تفعل الروايات عادةً، حين تتناول أحداثُها اثنين، إن لم يكونوا ثلاثة، من التجار الرُّحَّل، وبستانًا كاملًا من النباتات والدريقات. «سعف النخيل وأوراقُ تلك النباتات لا تخفي إلا جزءًا صغيرًا من التاجر المسافر وحسب —» نباتات الخلنج كان بوسعها إخفاؤه كليةً، وعلى سبيل المساومة، أعطني رميتَي الحمراء والبيضاء، التي من أجلها كافحتُ وتضوَّرتُ جوعًا؛ لكنها الخلنجيات في مدينة «إيستبورن» — في ديسمبر — فوق طاولة عائلة «مارش» — كلَّا، كلَّا، لن أجرؤ؛ كل الأمر عبارة عن كسرات خبز وآنية ملح للسفرة وكشكشات في غطاء المائدة ونباتات سرخس. ربما بعد برهة سيكون لنا وقتٌ بمحاذاة البحر. علاوةً على ذلك، فأنا أشعر، من جرَّاء تلك الوخزات اللطيفة من النقوش والزخارف الخضراء وشظايا الزجاج المتكسِّر، أشعر برغبة في التحديق والتلصُّص على الرجل الجالس في مواجهتي — رجل يمتلكُ القدْرَ الذي يمكنني تدبُّره. «جيمس موجريدج»، هل هو ذلك الرجل الذي يُطلقُ عليه آل مارش اسم «جيمي»؟ [ميني، يجب أن تعديني ألا تنتفضي أو ترتجفي مجددًا حتى أستقرَّ على الأمر]. التماسكُ الهائلُ للأنسجة؛ العمودُ الفقريُّ صلدٌ مثل عظامِ الحوت، مستقيمٌ مثل شجرةِ البلوط؛ بينما الضلوعُ تتفرَّعُ مثل الأشعة؛ اللحمُ البشري متوتر ومشدودٌ مثل نسيجِ المشمع؛ التجاويفُ الحمراء؛ حركاتُ القلب الانقباضية من امتصاص وضخٍّ، بينما من أعلى تتساقط قطعُ اللحم في مكعباتٍ بُنيَّة وتتدفقُ الجِعَة برَغْوتها لتتمخَّض مع الدم من جديد — وهكذا نصلُ إلى العينين. خلف الدريقات تبصرُ العينان شيئًا: أسودَ، أبيضَ، شيئًا موحِشًا؛ الآن الصحنُ ثانية؛ وراء الدريقات تبصرُ العينان امرأةً متوسطةَ العمر؛ «شقيقةَ «مارش»، هيلدا على شاكلتي أكثر»، الآن، تنظر العينان إلى شرشف الطاولة. «مارش بوسعه أن يدرك ماذا أصاب آل موريس …» سنناقش هذا الأمر لاحقًا؛ جاءَ طبقُ الجبن؛ الصحنُ ثانيةً؛ دعه يدور دائريًّا — الأصابعُ الضخمة؛ والآن المرأة الجالسة قبالته. «شقيقةُ مارش — لا تشبه مارش كثيرًا، أنثى بائسةٌ رثَّة متوسطةُ العمر … يجب أن تطعمي دجاجاتِك … بحق السماء، ما الذي أهاجَ ارتجافاتِها؟ ليس ما قلته أنا؟ هل أنا السبب كذلك؟ عزيزتي، عزيزتي، عزيزتي! يا لَتِلْك النسوة المتوسطات العمر! عزيزتي، عزيزاتي!». [أجل يا ميني؛ أعلمُ أنكِ ارتجفتِ، لكن مهلًا دقيقة — يا جيمس موجريدج!]. «عزيزتي، عزيزتي، عزيزتي!» كم يبدو الصوتُ جميلًا! مثل طرقةِ مِطرقةٍ فوق ضلعِ لحمٍ مغمور في التوابل، مثل خفقةِ قلبِ حوتٍ عجوز حينما تحتشد البِحارُ كثيفةً ضاغطةً عليه حين تتلبد المروجُ بالغيوم. «عزيزتي، عزيزتي!» ماذا تفعل نواقيسُ الجنائز للأرواح المضطربة كي تعزِّيها وتهدِّئ من روعِها، تحتضنُها في طبقاتِ الكتَّان، قائلةً، «الوداع، حظًّا طيبًا!» وبعد ذلك تقول، «أين تكمنُ سعادتُك؟» بالرغم من هذا سوف يقطف موجريدج زهرتَه من أجلها، وهذا ما كان، انتهى الأمر. والآن ما الخطوةُ التالية؟ «سيدتي، سوف يفوتك القطار،» فهم لا يتلكئون. ذاك هو طريق الرجل؛ ذاك هو الصوت الذي يُدوِّي صداه؛ صوت كاتدرائية القديس «بولس» وصوت الحافلات العمومية ذات المحركات. لكننا نكنس فتات الخبز بعيدًا. أوه يا موجريدج، ألن تنتظر؟ هل يجب أن تمضي؟ هل ستسافر إلى إيستبورن هذه الظهيرة في واحدة من تلك العربات الصغيرة؟ هل أنت ذلك الرجل المحبوس داخل صناديق الكرتون خضراء اللون، والذي، بين حين وآخر، يسدل ستائرها، وفي أحيان أخرى يجلس على نحوٍ مَهِيب شاخصًا للأمام مثل أبي الهول، ودائمًا هناك نظرة تشبه القبور، تشبه شيئًا من أدوات متعهدي الدفن الذين يجهِّزون الموتى، التابوت، بينما الغسق يحيط بالحصان والحوذيِّ؟ أخبرْني — لكنَّ الأبوابَ صُفقَت. لن نلتقي أبدًا من جديد. الوداع يا موجريدج! أجل، أجل، إني قادمة. تمامًا فوق قمة المنزل. لحظة واحدة، سوف أتريَّثُ برهةً. كم يتجول الوحل في العقل — كم من دوامات تتركها تلك الوحوش، المياه تتأرجح، والأعشاب الصغيرة تتماوج، خضراء هنا، سوداء هناك، تضربُ في الرمال، حتى تتجمع الذرَّات مجددًا بالتدريج، ثم تَنخل الرواسبُ نفسَها، ومن جديد من خلال العين، يبصر المرءُ كلَّ شيء صافيًا وساكنًا، وقتئذٍ، تصعد إلى الشفتين بعضُ الصلوات والدعوات من أجل الموتى، جنازةٌ للأرواح من تلكم التي يومئُ فيها المرءُ برأسه لهؤلاء الذين لن يلتقيَهم بعد ذلك أبدًا. جيمس موجريدج أصبح ميتًا الآن، رحل إلى الأبد. حسنًا يا ميني — – «ليس بوسعي مواجهة الأمر أكثر من هذا.» إذا ما قالت ذلك — (دعوني أنظر إليها. إنها تكنسُ قشر البيض نحو منحدراتٍ عميقة). لقد قالتها بالتأكيد، بينما تميلُ على حائط غرفة النوم، وتقتلعُ تلك الكراتِ الصغيرةَ التي تزيِّن حوافَ الستارةِ القرمزية اللون. غير أن النفسَ حين تتحدث إلى النفس، مَن يكون المتكلم؟ — الروحُ المدفونة؟ النفسُ التي أُقصيَت، وأُزيحت عميقًا، عميقًا، في عُمقِ السرداب المركزي لكهوف الموتى؟ النفسُ التي اعتمرتِ الوشاحَ الحاجبَ وتركتِ العالم — نفسٌ جبانةٌ ربما، لكنها جميلةٌ على نحوٍ ما، لأنها تحلِّق حاملةً مِشكاتَها المنيرة بغير توقُّفٍ أعلى وأسفل الدهاليز المعتِمة. «ليس بوسعي تحمُّلُ المزيد». هكذا قالت روحُها. «ذاك الرجل على مائدة الغداء — هيلدا — الأطفال.» أوه، أيتها السماء، هذا نشيجُها! ها هي الروحُ تنتحبُ مصيرَها، الروح التي طُردَت وأُزيحت على مقربةٍ من هنا، أو هناك بعيدًا، حتى تستقرَّ فوق السجاجيدِ الوطيئةِ — حيث مواطئ الأقدام الهزيلة — والمِزَقُ المنكمِشة لكل هذا الكونِ الآخذِ في التلاشي — الحبُّ، الحياةُ، الوفاءُ، الزوجُ، الأطفال، لا أعرف تحديدًا أيَّ بهاءٍ وروعة في لمحات مرحلة الأنوثة المبكِّرة. «ليس من أجلي — ليس من أجلي.» لكن، حينئذٍ — شطائرُ الفطائر، الكلبُ العجوزُ الأجرد؟ الحصيرةُ المزخرفة بالخرزِ التي يجب أن أتخيَّلها، ومواساة لُفافات الكَتَّان. إذا كانت ميني مارش قد دُهست وأُخذت إلى المستشفى، لكان سيهتفُ الأطباءُ والممرضاتُ أنفسُهم … هناك المشهد والرؤية — وهناك المسافة بينهما — البقعة الزرقاء في نهاية الطريق المشجَّر، بينما، برغم كل شيء، الشاي وافرٌ، وشطائرُ الكعك ساخنة، والكلبُ — «بيني، عدْ إلى سلَّتك أيها السيد، وانظر ماذا جلبتْ لك ماما!» وهكذا، تأخذين القفازَ ذا الإبهام المقطوع، تَتَحدِّين مرةً أخرى الروح الشريرة المتلصصة فيما يُعرف بالولوج داخل الثقوب، تجددين التحصينات، تجدلين الصوفَ الرمادي، تنسجينه للداخل والخارج. تنسجين للداخل والخارج، من جانب إلى جانب وتعيدين ذلك، تغزلين الشبكةَ التي من خلالها ترين الله ذاته … — صهٍ، لا تفكري في الله! كم هي الغُرَز مُحكَمة ومحبوكة! لا بدَّ أنك تفخرين برتقِك ونسيجك. يجب ألَّا ندعَ شيئًا يزعجها. لندعِ الضوءَ ينسابُ برهافة، ولْنجعلِ الغيمةَ تُظهرُ القميصَ الداخلي للورقةِ الخضراء الأولى. لندعِ العصفورَ يحطُّ على غصن الشجرة، ويهزُّ قطرات المطر المعلَّقة على مرفق الغصن … لماذا ترفعُ بصرَها إلى أعلى؟ هل هناك صوتٌ ما، فكرةٌ ما؟ آه، السماء! مرةً أخرى تعودين للشيء الذي فعلتِ، الزجاج السميك ذو الفيونكات البنفسجية؟ لكن هيلدا سوف تأتي. الخزي، العار والفضيحة، أوه، أغلقي تلك الثغرة. – «أوه، معذرةً! نعم، هذه إيستبورن. سوف أنزل هنا من أجلك. دعيني أجرِّب مقبض اليد.» [لكن يا ميني، برغم استمرارنا في الادعاء والتظاهر، فإنني قرأتك على نحوٍ صحيح — أنا معكِ الآن]. – «هل هذه كلُّ أمتعتك؟» – «نعم بكل تأكيد، أنا ممتنَّةٌ جدًّا.» (لكن لماذا تتلفتين حولكِ هكذا؟ هيلدا لن تأتي إلى المحطة، ولا جون؛ وموجريدج يقود سيارتَه في الجانب البعيد من إيستبورن). – «سوف أنتظر بجانب حقيبتي يا سيدتي، هذا أكثر أمنًا. قال إنه سيلتقي بي … أوه، ها هو ذا! هذا هو ابني.» وهكذا يمضيان سويًّا. حسنًا، ولكنني حائرة … بدون شك، يا ميني أنتِ تعلمين أكثر، شابٌّ غريب … توقَّفْ! سوف أخبره — ميني! آنسة مارش! — لا أعرف برغم هذا. ثمة شيء غريبٌ في عباءتِها فيما يحركها الهواء. أوه، لكن هذا غير صحيح، غير لائق ولا محتشم … انظروا كيف يتثنى فيما يمضيان نحو البوابة الرئيسية. لقد وجدت تذكرتَها. يا لها من نكتة! يمضيان بعيدًا، إلى الأسفل نحو الطريق، جنبًا إلى جنب … حسنًا، إن عالمي في حالٍ سيئة يصعب الخلاص منها! ما الذي أتكئُ عليه؟ ما الذي أعرفه؟ تلك ليست ميني. لم يكن هناك موجريدج على الإطلاق. مَن أنا؟ الحياة عاريةٌ مثل قطعة عظام. ولكنْ تبقى النظرة الأخيرة إليهما — بينما هو يخطو نحو الحاجز الحجري وهي تتبعه حول حافة البناية الضخمة، يملآنني بالحَيرة — يغرقانني من جديد. شخصان غامضان! أُمٌّ وابنُها. من تكونين؟ لماذا تمشين نحو الشارع؟ أين ستنامين الليلة، ثم، غدًا؟ أوه، كم تدور وتلتف مثل دوامة — تطفو بي من جديد! سأبدأ في تتبعهما. الناس يقودون السيارات في هذا الطريق وفي ذاك الطريق. الضوء الأبيض يتقطع وينسكب. النوافذُ ذات الزجاج السميك. زهورُ القرنفل وزهورُ الأقحوان. نباتُ اللبلاب في الحدائق المظلمة. عربات الحليب على الأبواب. أينما ذهبتُ، ثمة كائنات غامضة، أنا أراكما، تنعطفان عند الناصية، أمهاتٌ وأبناء، أنتِ، وأنتَ، وأنتِ. أُسْرعُ، أتتبعُهم. هذا لا بدَّ هو البحر كما أتخيَّل، مناظرُ الريف الطبيعية رماديةُ اللون، معتمةٌ مثل الرماد؛ المياهُ تدمدمُ وتتحرك. إذا ما سقطتُ على ركبتي، إذا ما مارستُ الطقوسَ الدينية، الألاعيبَ العتيقة، إنه أنتم، أيتها الكائنات الغامضة غير المعلومة، أنتم من أتعبَّد فيهم، فإذا فتحتُ ذراعي، فإنه أنتم من أعانق، أنتم الذين أجذبهم نحوي — أيها العالمُ الجديرُ بالحب!
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/13/
العلامةُ التي على الحائط
ربما كان منتصف يناير من العام الجاري حينما رفعتُ رأسي لأبصرَ لأول مرة الأثرَ على الحائط. لكي أحدِّدَ التاريخَ من الضروري أن أتذكَّر ماذا كنتُ أرى. لذا أفكِّر الآن في النار؛ ذلك الخيال المنتظم للضوء الأصفر فوق صفحة كتابي؛ الأقحوانات الثلاث في وعاءِ البلَّور الأسطواني فوق رفِّ الموقد. نعم، لا بدَّ أنه كان فصلَ الشتاء، وكنَّا للتوِّ قد تناولنا الشاي، ذاك أني أذكر أنني كنتُ أدخِّن سيجارةً حينما نظرتُ إلى أعلى ورأيتُ لأول مرة العلامةَ على الحائط. رفعتُ بصري عبر دخان سيجارتي فانغرزت عيناي لوهلةٍ على الفحم المتَّقد، فجال بخاطري ذاك الولعُ القديم بالعلم القرمزي يرفرفُ من فوق برج القلعة، وسرحتُ بفكري في موكب الفرسان الحُمْر وهم يصعدون جانبَ الصخرة السوداء. أراحني أن قطَعَ خياليَ مرأى العلامة تلك، لأنه كان ولعًا قديمًا، ولعًا لا إراديًّا، تكوَّن خلال طفولتي ربما. كان الأثرُ صغيرًا ومستديرًا، أسودَ على الحائط الأبيض، حوالي ست إلى سبع بوصاتٍ فوق رفِّ الموقد. لكَم تحتشدُ أفكارُنا بيسرٍ حول شيء جديد، مُعليةً من شأنه قليلًا، مثلما يحملُ النملُ قشَّةً صغيرةً بحماس محموم، ثم يتركها … إذا ما كانت العلامةُ لمسمار، فلا يمكن أن يكونَ لصورة، لا بدَّ أنه كان نموذجًا لتمثالٍ صغير — تمثالٍ لسيدةٍ بتجاعيدَ بيَّضتها البودرةُ، ووجناتٍ منثورة بالبودرة، وشفاهٍ حمراءَ كالقرنفل. تلك حيلةٌ بالطبع، لأن الناسَ الذين امتلكوا هذا البيتَ قبلنا كانوا يختارون الصورَ على هذا النحو — صورةٌ قديمة لغرفةٍ قديمة. هذا نمطُ البشر الذين كانوه — بشرٌ مثيرون جدًّا، ولذا أفكرُ فيهم كثيرًا، في تلك الأماكن الغريبة، لأن المرءَ لن يقابلَهم ثانيةً، وأبدًا لن يعرفَ ماذا حدث بعد ذلك. أرادوا أن يتركوا هذا البيتَ لأنهم ودُّوا أن يغيروا طرازَ أثاثهم، هكذا قال، وكان على وشك أن يقولَ إن الفنَّ برأيه لا بدَّ أن يحملَ أفكارًا وراءه حينما انفصلنا، كما ينفصلُ رجلٌ عن سيدةٍ عجوز لكي يصبَّ الشاي، أو كما ينفصلُ شابٌّ ليضربَ كرةَ التنس في الحديقة الخلفية لفيلَّا في ضاحية، أو كما يندفع أحدُهم ليلحق القطار. أما بالنسبة للعلامة، فلستُ متأكدةً بشأنها؛ لا أعتقدُ أن مسمارًا صنعها على كل حال؛ فهي أكبرُ وأكثرُ استدارة من أن يصنعها مسمار. بوسعي أن أنهضَ، لكنْ إذا نهضتُ ونظرتُ إليها، فنسبة عشرة إلى واحد لن يكونَ بوسعي أن أتأكد؛ لأنه بمجرد أن يتم شيءٌ، فلا أحدَ ثمة قادرٌ أن يعرف كيف تمَّ. أوه! وا أسفاه، ذلك لغزُ الحياة؛ اعتباطيةُ الفكرة! جهلُ البشرية! لكي نعرفَ كمْ قليلًا ما نتحكم فيما نمتلك — يا لها من مصادفةٍ سبَّبتْ عيشَنا بعد كل تلك الحضارة التي صنعناها — دعوني أحصيَ القليلَ وحسب من الأشياء التي يخسرُها المرءُ خلال حياته، البداية، ذاك أنها تبدو أكثرَ المفقودات غموضًا — ما تقضمه القطةُ، ما يقرضه الفأرُ — ثلاثةُ صناديقَ زرقاء باهتة من أدوات تجليد الكتب؟ ثم هناك أقفاصُ العصافير، الأطواقُ الحديدية، الزلَّاجات الفولاذية، دلوُ الفحم الذي يعود لعصر الملكة آن، طاولة البلياردو، الأرغن اليدوي — كلُّها ذهبت، والمجوهراتُ أيضًا. الأوبال والزمرد، الراقدةُ حول جذور اللفت. يا لها من ورطةٍ أن تكونَ متأكدًا! السؤالُ هو هل ثمة ثيابٌ على ظهري، ذاك أنني أجلسُ محاطةً بالأثاث الصلب في هذه اللحظة. لماذا، إذا ما أراد أحدُهم أن يقارنَ بين الحياة وبين أي شيء، فلا بد أن يشبِّهها بمخلوق يتم نفخُه عبر أنبوب بسرعة خمسين ميلًا في الساعة — يهبط من النهاية الأخرى دونما دبوسٍ واحد في شعره! يُقذَف عاريًا تمامًا عند قدمَي الرب! متكوِّمًا رأسًا على عقب في مرج الزهور البيض مثل طردٍ من الورق البُنِّي رُمي عشوائيًّا في مكتب بريد! وشعرُه يطير وراءه مثل ذيل حصان سباق. نعم، ربما هذا ما يعبِّر عن تسارع الحياة، الخرابُ السرمدي وإعادة الترميم؛ كلُّ شيء عرَضيٌّ، كلُّ شيء عشوائي. لكنْ فيما بعد الحياة. يأتي الهدمُ البطيءُ لسيقان النباتات الخضراء السميكة حتى إن كأسَ الزهرة، وهي تنحني على عودِها لتموت، يغمرُ المرءَ بالضوء الأُرجواني والأحمر. لماذا، رغم هذا، لا يولدُ المرءُ هناك كما يولد المرء هنا، ضعيفًا، لا قدرةَ له على الكلام، لا يقدرُ أن يركِّزَ بصره، يتلمَّس طريقَه بين جذور العشب، عند أنامل أقدام العمالقة؟ كأنما يقول أيٌّ من هذه هي الأشجار، وأيها رجالٌ ونساء، أو ما إذا كان هناك مثل هذه الأشياء، التي لن يكونَ المرءُ في ظرفٍ يسمح له بعملها لخمسين سنة أو حولها. لن يكونَ هناك أيُّ شيء سوى فضاءات من النور والعتمة، تقطعُها سيقانُ نباتاتٍ سميكة، وطويلة قليلًا ربما، بقعٌ على شكل الزهر بلون غير محدد — قرنفلياتٌ وأزرقات قاتمة — تلك التي، بمرور الوقت، سوف تصبح أكثر تحديدًا، تصبحُ — لا أعرف ماذا … لكن تلك العلامة على الحائط ليست ثقبًا على الإطلاق. ربما حتى قد تسببت فيها مادة سوداء دائريةٌ ما، مثل ورقة وردة صغيرة، تخلَّفت منذ الصيف، وأنا، بما أنني لستُ ربةَ منزل حاذقة — رحتُ أنظرُ إلى الغبار على رفِّ الموقد، على سبيل المثال، الغبار الذي، كما يقولون، يدفن طروادة ثلاث مرات، مجرد شظايا آنيةٍ ترفضُ نهائيًّا الإبادة والزوال، على ما أرى. الشجرةُ خارج النافذة تضربُ برقَّة متناهية لوحَ الزجاج … أودُّ أن أفكر بهدوء، بسكون، برحابة، لا أُقاطَع أبدًا، ولا يكون عليَّ أن أنهضَ عن مقعدي، أودُّ أن أنساب بيسر من فكرة إلى فكرة، دون أي شعور بالعداء، ودون عقبات. أودُّ أن أغوصَ عميقًا وعميقًا، بعيدًا عن السطح، بحقائقه القاسية المعزولة. لأهدئَ نفسي، سأقبضُ على أول فكرة تمرُّ … شيكسبير … حسنٌ، سوف يفعل مثلما يفعل غيره. الرجلُ الذي أجلسَ نفسَه بثباتٍ على مقعد وثير، وراح يُمعنُ النظرَ في النار، وبذا — انهمرَ على عقله من فردوس علوي وابلٌ من الأفكار لا يتوقف. أراح بجبهته على يده، والناس، يتلصصون عبر الباب المفتوح، — لأن هذا المشهد من المفترض أن يحدث في مساءٍ صيفيٍّ — لكن لكم هو بليد، هذا السردُ التاريخيُّ! لم يثرني على الإطلاق. أتمنى لو أصادفُ طريقًا مبهجًا للأفكار، الطريق الذي يعكس على نحو غير مباشرٍ ثقتي بنفسي، لأن تلك هي أكثر الأفكار بهجةً وتردادًا حتى في عقول الملونين المتواضعين، الذين يؤمنون حقيقةً أنهم يكرهون مديحَهم. هي ليست أفكارًا تمدحُ المرء مباشرة؛ ذاك هو جمالها؛ أنها أفكار مثل هذه: لا بدَّ أن أثبَ لأعلى لأرى بنفسي ما إذا كان الأثر على الحائط بالفعل مسمارًا، أو ورقةَ ورد، أم شَرخًا في الخشب؟ ها هي الطبيعةُ مرةً أخرى ولعبتها القديمة في حفظ النَّفْس. ها هو قطارُ الأفكار، الذي تلاحظه الطبيعة، يهددها بفقد الطاقة، حتى ولو ببعض التصادم مع الواقع، لأنه مَن ذا الذي بوسعه أن يرفع إصبعًا ضد جدول الأولويات في مرجع ويتيكر؟ رئيس الأساقفة في كانتربيري متبوعٌ باللورد السامي تشانسلر؛ واللورد السامي تشانسلر متبوعٌ برئيس أساقفة يورك. كلُّ شخصٍ يتبعُ شخصًا، هذه فلسفة ويتيكر؛ والشيءُ الأهمُّ هو أن تعرفَ مَن يتبع مَن. ويتيكر يعرف، فدعْ ذلك يريحُك بدلًا من أن يزعجَك، هكذا تنصحك الطبيعة، وإذا لم تستطِع أن تكون مرتاحًا، إذا كنتَ يجب أن تُهدِرَ ساعةَ السلام تلك، ففكِّرْ في العلامة على الحائط. والحقُّ، الآن وأنا أثبت عيني عليها، أشعرُ أنني قبضتُ على لوح خشبي في البحر؛ أشعرُ بإحساسٍ مريحٍ بالواقع الذي على الفور حوَّل كلًّا من رئيس الأساقفة واللورد السامي تشانسلر إلى ظلِّ الظلال. هنا شيء محددٌ، شيءٌ حقيقي. وهكذا، حينما يستيقظُ المرءُ من حُلُمٍ مرعبٍ في منتصف ليل، فإنه يشعلُ الضوءَ ويرقدُ ساكنًا، يتعبَّد في خِزانة الملابس، يتعبد في الأشياء الجامدة، يتعبد في الواقع، يتعبد العالمَ المجهول الذي هو دليلٌ على وجودٍ ما خارج عالمنا. هذا هو ما يودُّ المرءُ أن يتأكدَ منه … الخشبُ شيء مبهجٌ لأن نفكرَ فيه. يأتي من الأشجار؛ والأشجار تنمو، ولا نعلمُ كيف تنمو. لسنواتٍ وسنوات ظلَّت تنمو، دون أن تُعِيرنا أيَّ اهتمام، في المروج، في الغابات، وعلى جوانب الأنهار — كلُّ الأشياء التي يحبُّ المرءُ أن يفكرَ بها. الأبقارُ تَحفُّ أذيالَها تحتها في الأمسيات الحارة؛ يطلون الأنهارَ باللون الأخضر حتى إذا ما غطستْ بطةُ الماء يتوقَّعُ المرءُ أن يرى ريشَها كلَّه أخضرَ حينما تصعدُ فوق الماء من جديد. أحبُّ أن أفكر في السمكة تتزنُ ضدَّ التيار مثل علَم يرفرف؛ وفي خنافس الماء تنقضُّ بهدوء على قِباب الطمي فوق قاع النهر. أحبُّ أن أفكرَ في الشجرة نفسها: — أولًا الإحساسُ الجاف المُغلق بأن تكون خشبًا؛ ثم صرير العاصفة، ثم ارتشاح النسغ اللذيذ البطيء. أحب أن أفكر بها، أيضًا، في ليالي الشتاء منتصبةً في الحقل الخاوي بأوراقها جميعًا ملتفةً حول نفسها، لا شيءَ حانٍ أمام رصاصات القمر الحديدية، عمودٌ عارٍ فوق الأرض يهدد بالتداعي، السقوط، طوال الليل. أغنيةُ الطيور يجب أن تُسمع في يونيو عالية جدًّا وغريبة؛ وكم لا بدَّ ستكون أقدامُ الحشرات عليها باردة، وهي تمشي في رحلةِ الصعود النشط فوق تجاعيد قشرة الشجرة، أو وهي تدفئُ نفسَها فوق المظلَّة الخضراء الرقيقة للأوراق، ثم تنظرُ إلى الأمام بعيونها الحمراء الحادة … واحدة فواحدة تتقصفُ الأليافُ تحت وطأة الضغط البارد للتربة، ثم تأتي العاصفةُ الأخيرة، وتسقط، الأغصان الأعلى تغطسُ عميقًا في التربة من جديد. رغم هذا لا تنتهي الحياة؛ ثمة مليونُ حياةٍ صابرة وحريصة موجودة للشجرة، في كلِّ أنحاء العالم، في غرف النوم، في السفن، على الأرصفة، في غرف الخياطة، حيث يجلس الرجالُ والنساءُ بعد الشاي، يدخنون السجائر. هذه الشجرة مليئة بالأفكار السِّلمية التعايشية، بالأفكار السعيدة. كان يجب أن آخذ كلَّ واحدة على حدة لكنَّ شيئًا ما يعترض الطريق … أين وصلتُ في أفكاري؟ حول ماذا كان كلُّ هذا؟ شجرة؟ نهر؟ المنحدرات؟ تقويم ويتيكر؟ حقول الزنابق؟ لا أذكر شيئًا. كلُّ شيء يتحرك، يسقط، ينزلق، يتلاشى … ثمة ثورةٌ مفاجئة للمادة. شخصٌ ما يقف ورائي ويقول — «سأخرج أشتري الجريدة.» «نعم؟» «رغم أنه لا جدوى من شراء الجريدة … لا شيء يحدث أبدًا. اللعنةُ على هذه الحرب؛ لعن اللهُ هذه الحرب! … كلُّ شيء باقٍ كما هو، لا أدري لماذا علينا أن نحتفظ بحلزون على حائطنا.» آه، العلامةُ على الحائط! كانت حلزونًا.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/14/
الضوءُ الكاشف
القصرُ الإنجليزي الذي يعودُ إلى القرن الثامن عشر كان قد تحوَّلَ إلى نادٍ في القرن العشرين. وكان من المبهج، بعد تناول العشاء تحت وهجِ الضوء الساطع في القاعة الفخمة ذات الأعمدة والثريَّات، أن يخرجوا إلى الشرفة المُطلَّة على الحديقة الرحبة. كانتِ الأشجارُ بكامل أوراقِها، ولو كان القمرُ هناك، لكان بوسع المرء أن يرى الشرائطَ الملونةَ بالوردي والأصفر الفاتح على أشجار الكستناء. لكنها كانت ليلة بلا قمر؛ دافئةً جدًّا، بعد نهارٍ صيفيٍّ معتدل. كان ضيوف مستر ومسز آيفيمي يشربون ويدخنون في الشرفة. كأنما ليريحوهما من عبء الحديث، ليسلوا أنفسَهم دون أي جهد من طرفيهما، وأعمدةُ الضوء كانت تتدحرجُ من السماء. كان وقتَ سلام؛ والقوَّات الجوية تتدرب؛ تبحثُ في الجو عن طائرات العدو. وبعد توقُّف لحظيٍّ لاستكشاف بقعةٍ مشكوك في أمرها، استدار الضوءُ وتدحرج، مثل أجنحةِ طاحونة هوائية، أو مثل قرون استشعار حشرة استثنائية تتفحصُ واجهةَ شاهد ضريح؛ هنا شجرةُ الكستناء المكسوةُ بكامل أزهارها، وفجأةً ضربَ الضوءُ الشرفةَ على نحو مباشر، وللحظةٍ واحدة برقَ سطحٌ دائري لامع — ربما هي مرآةٌ في حقيبة إحدى السيدات. «انظروا!» هتفتْ مسز آيفيمي. مرَّ الضوء. وراحوا في العتمة من جديد. «لا، لا، لا،» اعترضتْ. لا أحدَ ثمة بوسعه أن يخمن؛ هي وحدَها التي كانت تعلمُ؛ هي وحدَها التي كان بوسعها أن تعرفَ، لأنها كانت كبرى حفيدات الرجل ذاته. كان قد حكى لها الحكاية. أية حكاية؟ إذا ما أحبوا، بوسعها أن تحاولَ أن تقصَّها عليهم. ما زال هناك وقتٌ قبل بدء المسرحية. «لكنْ من أين أبدًا؟» راحت تفكر. «في العام ١٨٢٠م؟ … لا بدَّ أنه كان هذا التاريخ حينما كان جَدِّي صبيًّا صغيرًا. أنا لا أُصغِّر من عمري» — لا، على أنها كانت منتصبةً ومليحة — «وكان رجلًا طاعنًا في العمر حينما كنتُ طفلةً — حين حكى لي الحكاية. رجلٌ طاعنٌ في العمر ووسيم، بكتلةٍ من الشعر الأشيب، وعينين زرقاوين. لا بدَّ أنه كان صبيًّا جميلًا. لكنْ غريب الأطوار … كان ذلك طبيعيًّا،» راحت تفسِّر، «بالنظر إلى الطريقة التي عاشوا بها. اللقب كان كومبر. جاءوا إلى العالم. كانوا من النبلاء؛ امتلكوا أراضي في يوركشاير. لكن حينما كان صبيًّا صغيرًا لم يعد هناك إلا البرج. لم يعد البيتُ إلا بيتَ مزرعة صغيرًا، ينتصبُ وسط الحقول. رأيناه منذ عشر سنوات وذهبنا إليه. كان يتوجَّبُ علينا أن نتركَ السيارةَ ونترجَّلَ عبر الحقول. لم يكن هناك من طريق إلى البيت. البيتُ كان يقفُ وحيدًا تمامًا، والعشبُ ينمو فوق البوابة … وثمة دجاجاتٌ تنقر هنا وهناك، تركضُ داخل الغرف وخارجها. كلُّ شيء أصبح طللًا وحطامًا. أتذكَّرُ صخرةً سقطتْ فجأةً من البرج.» توقفت عن الكلام. «هنالك عاشوا،» استأنفتْ، «الرجلُ العجوز، والمرأةُ والولد. لم تكن زوجتَه، ولم تكن أمَّ الولد، كانت مجرد عاملةَ حقل، فتاةً كان الرجل قد استحضرها لتعيشَ معه حينما ماتت زوجتُه. سببٌ آخر وراء ربما لماذا لم يزرهم أحدٌ — وراء لماذا البيتُ كلُّه قد آل إلى خرابٍ وحطام. لكنني أتذكَّرُ معطفًا عسكريًّا على الباب؛ وكتبًا، كتبًا قديمة، آلتْ إلى التحلل. كان قد علَّمَ نفسَه كلَّ ما يعلمُ من خلال الكتب. كان يقرأ ويقرأ، هو أخبرني بذلك، كتبًا قديمة، كتبًا ذات خرائطَ مطويةٍ معلَّقةٍ بين الصفحات. جذبَ الكتبَ إلى أعلى البرج — الحبلُ ما يزال هناك ودرجاتُ السُّلم المكسورة. وهناك مقعدٌ ما زال في الشرفة بقاعدة ساقطة؛ ومِصْراعا النافذة يتأرجحان مفتوحَين، وألواحُ الزجاج مُهشَّمة، والمنظرُ يمتدُّ لأميال وأميال عبر المستنقع.» توقفتْ عن الكلام كأنما كانت هناك في البرج تنظرُ من النافذة التي يتأرجح مصراعاها. استأنفتْ: «لكننا لم نستطِع أن نجدَ التليسكوب.» في قاعة الطعام وراءهم كان صخبُ الأطباق يزداد عُلوًّا. لكنَّ مسز آيفيمي، في الشرفة، بدتْ مرتبكةً، لأنها لم تستطِع أن تجدَ التليسكوب. «لماذا تليسكوب؟» سألها أحدهم. «لماذا؟ لأنه لو لم يكن هناك تليسكوب،» ضحكتْ وأكملتْ، «لم أكن لأجلسَ ها هنا الآن.» وهي بالتأكيد كانت دون شك جالسةً هناك الآن، امرأةً منتصبةً في منتصف العمر، بشيء أزرقَ فوق كتفيها. كانت صامتةً. الجميعُ ينظر إلى النجوم الآتية في الظلام متخللةً الأشجار. بدتِ النجومُ دائمةً جدًّا، لا تتغير أبدًا. وغرق ضجيجُ لندن بعيدًا. بدت المائة عام لا شيء. شعروا كأنما الصبيُّ ينظرُ إلى النجوم معهم. بدَوا كأنما كانوا معه، في البرج، ينظرون عبر المستنقعِ إلى النجوم. ثم أتى صوتٌ من الخلف يقول: «أنت على حق. اليوم الجمعة.» «استداروا جميعًا، انزاحوا، شعروا بأنفسهم يسقطون إلى الشرفة من جديد.» «آه، لكن لم يكن هناك من أحد ليقول له هذا،» تمتمتْ. نهض الاثنان ومشيا بعيدًا. «كان وحيدًا،» استمرتْ. «كان نهارًا صيفيًّا لطيفًا. أحد نهارات يونيو. نهارٌ من تلك النهارات الصيفية المُتقَنة حيث تبدو كلُّ الأشياء ساكنةً في الجو الحار. كانت الدجاجاتُ تنقر في فناء الحقل؛ والحصانُ العجوز يخبط الأرضَ بأقدامه في الإسطبل؛ والرجلُ العجوز ينعسُ والكأس في يده. والمرأة تجلو الدلوَ في غرفة الغسيل. ربما سقطتْ من البرج صخرةٌ. وبدا كأنما النهارُ لن ينتهي أبدًا. ولم يكن لديه أحد ليتكلم معه — ولا شيء ثمة يفعله. تمدد العالمُ كلُّه منبسطًا أمامه. المستنقعُ يعلو ويهبط؛ السماءُ تلتقي بالمستنقع؛ أخضرُ وأزرق، أخضرُ وأزرق، دائمًا وأبدًا.» في نصفِ ضوء، كان بوسعهم أن يَرَوا مسز آيفيمي وهي تنحني فوق الشرفة، ذقنُها ساقطٌ فوق يديها، كأنما كانت تشاهدُ المستنقعَ من قمَّة البرج. «لا شيء هناك سوى المستنقعِ والسماء، المستنقع والسماء، دائمًا وأبدًا.» تمتمتْ. ثم أتتْ بحركة، كأنما كانتْ تديرُ شيئًا على محورِه. «كيف يبدو شكلُ كوكب الأرض عبر التليسكوب؟» سألتْ. أتت بحركةٍ صغيرة أخرى كأنها تدوِّرُ شيئًا ما. فتحتْ مسز آيفيمي ذراعيها ثم ضمَّتهما كأنما تُقبِّل شخصًا. «كانت المرةَ الأولى التي يرى فيها رجلًا يقبِّل امرأةً — في التليسكوب — أميالًا وأميالًا بعيدًا عبر المستنقع!» دفعتْ شيئًا ما بعيدًا عنها — التليسكوب على ما يبدو. وجلستْ منتصبةً. «بعد ذلك ركضَ نزولًا على الدَّرَج. ركضَ عبر الحقول. ركضَ أسفل الممرات، وأعلى على الطريق الرئيسي، عبر الغابات. ركضَ أميالًا وأميالًا، وتمامًا حيث كانت النجومُ تشعُّ فوق الأشجار كان قد وصلَ إلى المنزل … مغطًّى بالغبار، يدفقُ بالعَرَق …». توقفتْ. كأنما كانت تراه. «وحينئذٍ، وحينئذٍ … ماذا فعل حينئذٍ؟ ماذا قال؟ والفتاةُ …» أخذوا يحثُّونها على الكلام. سقط شعاعٌ من الضوء على مسز آيفيمي كأنما شخصٌ ما قد ركَّز بؤرةَ تليسكوب عليها. (كان سلاحُ الطائرات، يبحثُ عن طائرات العدو.) وكانت قد نهضتْ. وشيء أزرقُ فوق رأسها. كانت ترفعُ يدها، كأنما تقفُ عند مدخل الباب، مذهولةً. «أوه الفتاة … لقد كانت أ —» ترددتْ، كأنها كانت على وشْك أن تقول «أنا.» لكنها تذكَّرت؛ وصحَّحت قولَها. «الفتاةُ كانت جدتي الكبرى،» قالت. استدارتْ لتبحثَ عن عباءتها. كانت على المقعد وراءها. «لكن خبِّرينا — ماذا عن الرجلِ الآخر، الرجل الذي جاء من ناحية المنعطف؟» سألوها. «ذلك الرجل؟ أوه، ذلك الرجل،» تمتمتْ مسز آيفيمي، وهي تُقوِّس ظهرهَا لتلمسَ عباءتَها (كان الضوءُ الكاشف قد غادر الشرفة)، «إنه كما أظن، قد تلاشى.» «الضوء،» أضافت، وهي تلملمُ أشياءَها حولَها، «يسقطُ فقط هنا وهناك.» الضوءُ الكاشف كان قد اختفى. راحَ الآن يركِّزُ على المدى الشاسع لقصر باكينجام. والوقتُ قد حان ليذهبوا إلى المسرحية.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/15/
الرجلُ الذي أحبَّ نوعه
مُهرولًا عبرَ ساحةِ دينس في ذلك الأصيل، اصطدمَ بريكيت إليس بريتشارد دالواي، أو بالأحرى، بمجرد أنْ مرَّ كلٌّ في طريقه، راحتِ اللمحةُ التي رمقَ بها كلٌّ منهما الآخرَ، من تحت قبَّعتِه، وفوق كتفِه، راحتْ تتَّسعُ ثم تمخَّضتْ في الأخير عن معرفة؛ لم يلتقيا منذ عشرين عامًا. كانا في المدرسة معًا. وماذا كان إليس يعمل؟ القضاء؟ بالطبع، بالطبع — كان قد تابعَ القضيةَ على صفحاتِ الجرائد. لكنْ من المستحيلِ الحديثُ هنا. ألا يمرُّ علينا في المساء. (إنهم يسكنون في المكان القديم ذاتِه — بالضبط بعد المنعطف). شخصٌ واحدٌ أو شخصان سوف يأتيان. جويسون ربما. «أصبحَ الآن مغرورًا بشكل شنيع،» قال ريتشارد. «حسنٌ — إلى المساء إذَن،» قال ريتشارد، ومضى في طريقِه، «فَرِحٌ جدًّا» (كان هذا حقيقيًّا بالفعل) أن يلتقي بهذا الرجل الشاذ، الذي لم يتغيرْ ولو قليلًا منذ كان في المدرسة — هو الولدُ نفسُه الصغيرُ الرخوُ، الممتلئُ، الذي يطفرُ التحيُّزُ والمحاباةُ من كلِّ جزءٍ فيه، لكنَّه لامعٌ على نحوٍ استثنائي — فازَ بجائزةِ نيوكاسيل. حسنٌ — لقد ابتعد. تمنَّى بريكيت إليس، مع هذا، وهو يستدير ليشاهد دالواي فيما يختفي، تمنَّى الآن لو لم يكنْ قد قابله، على الأقل، لأنه كان قد أحبَّه دائمًا على نحوٍ خاص، تمنَّى لو لم يَعِدْه بحضور ذلك الحفل. كان دالواي متزوجًا، ويقيم حفلات؛ لم يكن هذا أسلوبَه على الإطلاق. ثم سيوجب عليه ذلك أن يجدَ ثوبًا أنيقًا. على أية حال حينما بدأ المساءُ يزحفُ، كان قد افترضَ، كما يقول، أنه لا يودُّ أن يكونَ وقحًا، لا بدَّ أن يذهب إذَن. يا لها من استضافةٍ مرعبة! كان هناك جويسون؛ وليس ثمة ما يقولُه كلٌّ للآخر. اعتادَ أن يراه في الماضي ولدًا صغيرًا فخمًا متأنِّقًا؛ وقد نشأ على اهتمامه بنفسه—، وهذا كلُّ ما هنالك؛ لم يكن من مخلوقٍ آخرَ بالقاعة يعرفه بريكيت إليس. ولا مخلوق. لذلك، وبما أنه لا يستطيع أن يذهبَ فورًا، دون أن يقول كلمةً لدالواي، الذي بدا مأخوذًا بواجباته على نحو كُلي، يتحرك هنا وهناك بنشاطٍ في صديريةٍ بيضاءَ، فقد كان عليه أن يقفَ هناك. تلك هي نوعية الأمور التي تثير اشمئزازَه. التفكيرُ في أنَّ أولئك الرجالَ والنساءَ الناضجين، المسئولين، يفعلون ذلك في كلِّ ليلةٍ من حياتهم! تغضَّنَت الخطوطُ في وجنتَيه المحلوقتين الزرقاوين الحمراوين وهو متكئٌ على الحائط في صمتٍ تام، بينما كان هو يعمل مثل حصانٍ، بالرياضة حافظَ على جسمه ممشوقًا؛ فكان يبدو قويًّا وصلبًا، كأنما قد أُغرِق لشاربه في الصَّقيع. انتصبَ واقفًا؛ انزعج. ملابسُه الهزيلةُ جعلته يبدو أشعثَ رثًّا، تافِهًا، وشديدَ النُّحولِ بارزَ العظام. كسولين، ثرثارين، مبالغين في ثيابهم، من دون فكرة واحدة في رءوسهم، راح الرجالُ والنساءُ المتأنِّقون هؤلاء يتحدثون ويضحكون؛ وشاهدَهم بريكيت إليس ثم راح يقارنُ بينهم وبين آل برانر الذين، حينما كسبوا قضيتَهم ضدَّ آل فينرز بريوري وأخذوا مائتَي جنيه على سبيل التعويض (أقل من نصفِ ما كان يجب أن يأخذوا) راحوا وأنفقوا خمسةَ جنيهاتٍ لشراء ساعةٍ كبيرة له. كان ذلك سلوكًا مهذبًا منهم؛ السلوكُ الذي يمسُّ المرءَ ويحرِّكُه، ثم حَمْلَق بتَجهُّمٍ أكبرَ في أولئك الناس، المبالغين في مظهرهم، الساخرين، الناجحين المُزدهرين، ثم قارَنَ بين ما يشعرُ به الآن وبين ما شعرَ به في الحاديةَ عشرةَ من صباح ذلك اليوم حينما زارَه كلٌّ من العجوز برانر والسيدة برانر، في أفضل ملابسهما، عجوزان محترمان ونظيفا المظهرِ إلى أقصى حدٍّ، ليعطياه ذلك الرمزَ البسيطَ، وبينما كان العجوزُ يضعُ الساعةَ الهدية، وقفَ منتصِبًا تمامًا ليقولَ كلمتَه، حول امتنانِه لكَ واحترامِه لأنكَ سلكتَ كلَّ طريقٍ ممكنة لإدارة قضيتنا، ثم رفعتِ السيدةُ برانر عقيرتَها وتكلمتْ، حول كيف أنهم يشعرون أنَّ كلَّ هذا كان بفضلِه. وأنهم يُقدِّرون بعمقٍ كرمَه — لأنه، بالطبع، لم يتقاضَ أتعابًا. وبينما حملَ الساعةَ ليضعَها فوق منتصفِ رفِّ الموقد، كان يرجو ألا يرى وجهَه مخلوقٌ. أَمِنْ أجل هذا كان يعمل — أهذه هي مكافأتُه؛ ثم راح ينظر إلى الناس الذين كانوا بالفعل أمام عينيه الآن كأنهم يرقصون على ذلك المشهدِ في غرفتِه وكأنه كان مكشوفًا لهم، وبينما راح المشهدُ القديمُ يخبو — ويخبو آلُ برنار — تبقَّى هناك وكأنما تخلَّف عن ذلك المشهد، هو نفسُه، ليواجَه هذا الحشدَ العدوانيَّ، رجلٌ تامُّ الصراحةِ والوضوح، بسيطٌ غيرُ معقَّدٍ، رجلٌ من العامة (شدَّ قوامَه وأصلحَ هندامَه) يلبسُ ثيابًا مُزْرية، يُحملِقُ في الناس، دون أثرٍ لنعمةٍ واحدة، رجلٌ غيرُ قادرٍ على إخفاءِ مشاعره، رجلٌ واضحٌ وصريح، كائنٌ بشريٌّ عاديٌّ، يحاربُ الشرَّ، الفسادَ، يباري المجتمعَ غيرَ الرحيم. لكنْ يجب ألا يستمر في الحملقة. وضعَ الآن نظارتَه على عينيه وراحَ يفحصُ الصور. قرأ العناوينَ على كعوب أغلفة صفِّ الكتبِ المرصوصة؛ دواوينُ شعريةٌ في الغالب. كثيرًا ما تاق إلى إعادةِ قراءة بعضٍ من الكتب التي كان يفضلها قديمًا — شيكسبير، ديكنز — دائمًا ما تمنَّى أن يجدَ الوقتَ ليزورَ الجاليري الوطني، لكنه لم يستطِع — لا، لا أحد يستطيع. المرءُ بالفعل لا يستطيع — في هذا العالم بشروطِه الراهنة. ليس والناسُ طيلةَ النهار يحتاجون مساعدتَك، يطلبون عونَك بصخبٍ شديد. ليس هذا عصرَ الرفاهية. ثم راح ينظرُ إلى المقاعدِ الوثيرةِ وسكاكينِ الأوراق والكتبِ المرصوصةِ بعناية، ويهزُّ رأسَه، مُدركًا أنه أبدًا لن يجدَ الوقتَ، وأنه أبدًا لم يكن مسرورًا ليفكِّرَ أن لديه الجرأةَ، لكي يتحملَ نفقاتِ مثل تلك الكمالياتِ المُترَفة. الناسُ ها هنا قد يُصدَمون إذا ما عرفوا ماذا يدفعُ مقابل تبغه، أو كيف أنه استعارَ ثيابَه. إسرافُه الوحيدُ الأوحدُ كان اليختَ الصغيرَ الواقفَ على حدود نورفولك. هذا ما سمحَ به لنفسِه، لأنه يحبُّ مرةً واحدةً في العام أن يذهبَ بعيدًا عن الناسِ كلِّها ويستلقي على ظهرِه في حقل. ظلَّ يفكرُ كيف أنهم كانوا سيُصدَمون — هذا الحشدُ الأنيقُ — إذا ما عرفوا مقدارَ البهجةِ التي يحصِّلُها بما كان عتيقَ الطرازِ بما يكفي لأن يسميه حبَّ الطبيعة؛ الأشجارُ والحقولُ التي عرفَها منذ كان صبيًّا صغيرًا. وأخيرًا جاء ريتشارد دالواي. «أودُّ أنْ أقدِّمَ لكَ الآنسةَ أوكيفي،» قال. راحتْ ميس أوكيفي تُحدِّق فيه مليًّا. كانتْ إلى حدٍّ ما امرأةً متغطرسةً ذاتَ مزاجٍ حادٍّ في الثلاثينيات من عمرها. احتاجتْ ميس أوكيفي قطعةَ ثلجٍ أو شيئًا تشربُه. والسببُ وراء أنها طلبتْ من بريكيت إليس أن يعطيَها ما تحتاجُه بطريقةٍ أشعرته بالغطرسة، وعلى نحوٍ غير لائق، هو أنها كانت قد رأت امرأةً مع طفلَيها، شديدَي الفقر، شديدَي التعب، يستندون إلى حاجزِ الساحةِ الحديدي، ويحدِّقون في الداخل، في ذلك الأصيل الحار. أليس بوسعِهم أن يدخلوا؟ كانت تفكِّرُ في ذلك، وبينما بدأ إشفاقُها عليهم يعلو مثل موجة؛ اشتعلَ داخلَها السخطُ. لا؛ بل راحت في اللحظةِ التالية توبِّخُ نفسَها، بخشونة، كأنما تصفعُ أذنيها بيديها. كلُّ قُوى العالمِ ليس بمقدورها فِعلُ ذلك. لذلك التقطتْ كرةَ التنس وقذفتها للوراء. كلُّ قُوى الوجودِ ليس بمقدورها فِعلُ ذلك، قالت في غضبٍ شديد، وكان هذا هو السبب الذي جعلَها تقولُ في لهجةٍ آمِرة، لرجلٍ لا تعرفُه: «أعطني قطعةَ ثلج.» وقبل أن تستهلكَها بوقتٍ طويل، وفيما كان بريكيت إليس يقفُ إلى جوارها دون أن يقولَ أيَّ شيء، أخبرَها أنه لم يحضرْ حفلًا منذ خمسة عشر عامًا؛ أخبرَها أن بدلتَه كان قد استعارَها من زوجِ شقيقته؛ وأنه سوف يريحُه كثيرًا أنْ يذهبَ ويقول إنه رجلٌ صريح، حدَثَ وامتلكَ حُبَّ الناسِ العاديين، وبعدها سوف يخبرُها (وظلَّ خَجِلًا من ذلك فيما بعد) عن آلِ برانر وعن الساعة، لكنها قالت: بعدها (لأنه لم يكن قد شاهدَ العاصفة)، هل قرأ بعضَ الكتب؟ من جديد: لا، وبعدها، وهي تضعُ قطعةَ الثلجِ في كأسِها، هل قرأ شِعرًا من قبل؟ بدأ شعورُ بريكيت إليس يتصاعدُ داخلَه حتى كاد يقطعُ رأسَ تلك السيدةِ الشابة، ليجعلَ منها ضحيةً، يذبحها، يجعلها تجلسُ هنالك، حيث لا أحدَ يقاطعهما، على مقعدين، في الحديقة الخالية، لأن كلَّ الضيوفِ كانوا بالأعلى، هناك حيث لا تقدرُ أن تسمعَ إلا الطنينَ والدندنةَ والهمهمةَ والخشخشةَ، مثل مجنونٍ يرافقُ أوركسترا من الأشباح ينصتُ إلى قِطَّة أو اثنتين تنسلان خِلسةً عبر العشب، وحفيف أوراقِ الشجر، والثمارِ الحمراء والصفراء مثل مصابيحَ صينيةٍ يرتعشُ ضوءُها هنا — وهناك الحديثُ بدا مثل موسيقى رقصةٍ مسعورة لهيكلٍ عظمي تُعزَفُ لشيء حقيقي جدًّا، ومملوء بالمعاناة. «يا للجمال!» قالت الآنسة أوكيفي. أوه، إنها جميلة، هذه الرقعةُ من العُشب، ومن حولها تتكتَّل أبراجُ ويستمينستر سوداء، شاهقةٌ في الهواء، بعد قاعة الاستقبال تلك؛ التي غدت ساكنةً، من بعد ذلك الصَّخب. رغم كلِّ شيء، فقد كان لديهم ذلك — المرأةُ المتعَبةُ، والطفلان. أشعلَ بريكيت غليونَه. سوف يصدمُها هذا؛ عبَّأه بالتبغ المفروم الخشِن — خمسةُ بنساتٍ ونصف البنس للأوقية. فكَّر في كيف سوف يستلقي في ذَورقِه يدخِّن، بوسعه أنْ يرى نفسَه، وحيدًا، في الليل، تحت النجوم يدخِّنُ. لأنه ظلَّ هذه الليلةَ يفكِّرُ كيف سيبدو إذا ما رآه أولئك الناسُ هنا. قال للآنسة أوكيفي، وهو يحكُّ عودَ ثقاب في كعبِ حذائه، إنه لا يقدرُ أن يرى هنا أيَّ شيء جميل على نحو خاص. قالت ميس أوكيفي «ربما، لأنكَ لا تَحفِلُ بالجمال.» (كان قد أخبرَها أنه لم يشاهدِ «العاصفة»، وأنه لم يقرأ كتابًا؛ وكان زَرِيَّ المظهر، الشارب، الذَّقن، وسلسلة الساعة الفضَّية.) راحتْ تفكرُ أنْ لا أحدَ يحتاج أن يدفعَ بنسًا واحدًا من أجل ذلك؛ المتاحفُ دخولُها مجانيٌّ والجاليري الوطني أيضًا؛ والريفُ. بالطبع كانت تعرفُ أوجهَ الاعتراض — الغسيلُ، الطهوُ، الأطفالُ؛ لكنَّ جذرَ الأشياء، ما كان يخشى أن يقوله الجميعُ، هو أن السعادةَ رخيصةٌ رِخَصَ التراب. بوسعكَ أن تحصلَ عليها مجانًا. الجمال. حينئذٍ جعلها بريكيت إليس تعلمُ الأمر — تلك المرأة الشاحبة، الحادَّة، المتغطرسة. أخبرها، وهو ينفثُ تبغَه الخشن، عمَّا فعله ذلك اليوم. الاستيقاظُ في السادسة؛ لقاءات؛ استنشاقُ رائحةِ مياه الصَّرفِ في حيٍّ قذرٍ مزدحم؛ ثم ساحة المحكمة. هنا أصابَه التردُّد، تمنَّى أن يخبرها شيئًا عن أعماله ونشاطاته الاجتماعية. لكنه قمعَ تلك الأمنيةَ، فكان أكثر فظاظةً. قال إن أكثر ما يصيبه بالغثيان، أن يسمعَ تلك النسوةَ المُتخماتِ أكلًا، المتأنقاتِ ثيابًا (مطَّت شفتيها، لأنها كانت نحيلةً، وفستانُها ليس على آخر صَيحة) وهنَّ يتحدثن عن الجمال. «الجمال!» قال. لم يكن قادرًا على أن يفهم معنى الجمال في مَعزِل عن الكائنات البشرية. وهكذا حدَّقا معًا صوب الحديقة الخاوية حيث يتمايل الضوءُ ويترنح، وثَمة قطَّةٌ تتباطأ في المنتصف، رافعهً مِخلَبَها. الجمالُ بمعزلٍ عن الكائنات البشرية؟ ماذا كان يعني بذلك؟ سألتْ فجأةً. حسنٌ هذا: وقد أخذ يتأنَّقُ أكثرَ فأكثرَ، حكى لها قصةَ آل برانر والساعة، من دون أن يُخفي تفاخُرَه بها. ذلك كان جميلًا، قال لها. لم يكن لديها كلماتٌ لتعبِّرَ بها عن الاشمئزاز الذي أثارته حكايتُه في نفسِها. أولًا غرورُه؛ ثم عدمُ اللياقةِ في الكلامِ عن المشاعر الإنسانية؛ كان ذلك عبثًا بالمقدسات؛ ليس من إنسانٍ في العالم بوسعه أن يحكي حكايةً ليثبتَ بها أنه أحبَّ نوعَه. ثم ليس بالطريقة التي حكى بها — كيف أن الرجلَ العجوزَ وقفَ ثم ألقى كلمتَه — ترقرقتْ عيناها بالدموع، آهٍ، لو أن أيَّ شخصٍ قال لها ذلك أبدًا! ولكن الآن، من جديد، شعرت أن حدثًا كهذا هو إدانةٌ أبديةٌ للإنسانية؛ فلمْ يصلِ الأمرُ سوءًا إلى حدِّ الولعِ بحكي مشاهدَ عن ساعاتِ الحائط للتفاخر؛ آل برانر يلقون كلماتٍ وخُطَبًا من أجل بريكيت إليس، ثم هذا البريكيت إليس سيظلُّ يحكي كيف أنهم أحبُّوا نوعَهم؛ وأن الآخرين دائمًا كسالى، مشبوهون، وخائفون من الجمال. ثم تشتعل الثورات؛ من الكسلِ والخوفِ وهذا الولع بتأليفِ المشاهِد. لكنَّ هذا الرجلَ يظلُّ ينهلُ بهجتَه من آلِ برانر؛ أما هي فاستنكرتْ على نفسِها أن تظلَّ تعاني دائمًا وأبدًا من تلك المرأةِ الفقيرةِ التعسة التي أُوصِدَ بابُ الساحة في وجهِها. لذلك جلسا صامتَين. كلاهما كان غيرَ سعيد. بالنسبة إلى بريكيت إليس لم يكن على الأقل مُبرَّرًا له ما قاله؛ إذ بدلًا من أن ينزعَ عنها شوكتَها راحَ يضغطُ عليها إلى الداخل؛ سعادتُه التي حصَّلَها بالنهار كانت قد انهارتْ. أما الآنسةُ أوكيفي فقد كانت ملخبطةً ومنزعجة؛ كانت مُشوشةً بدلَ أن تكونَ صافية. «للأسف أنا أحدُ هؤلاء الناسِ العاديين،» قال هذا، وهو ينهض، «الذين يُحبُّون نوعَهم.» وعلى إثر ذلك فقد صرخَت تقريبًا الآنسة أوكيفي: «وأنا أيضًا!» كارهَين بعضهما البعض، كارهَين البيتَ الزاخرَ بالناس الذين منحوهما تلك الأمسيةَ المؤلمة، المخيِّبةَ للآمال، نهضَ هذان العاشقان لنوعَيهما، ودون كلمةٍ واحدة، افترقا إلى الأبد.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/31725752/
الفستان الجديد
فرجينيا وولف
«نحن جميعُنا مثل ذُبابات تحاول أن تَزحف فوق حافة الصحن. هكذا فكَّرَت «مايبيل»، وراحَت تكرِّر تلك العبارةَ كما لو كانت ترسم علامةَ الصليب على صدرها، وتُتمتِم كما لو أنها كانت تحاول أن تكتشفَ تعويذةً ما لتُوقفَ بها هذا الألم، لكي تجعلَ هذا الوجعَ المبرحَ محتمَلًا.»مجموعةٌ قصصية كلُّ قطعة فيها كأنها فرَسٌ حَرُونٌ لا يمكن توقُّع خطواته القادمة؛ فبِجُموحٍ صَوْغي، ورُعونةٍ لُغوية، وتهشيمٍ للجملة والحدَث، تَنقلك «فرجينيا وولف» إلى عالَمٍ سرديٍّ لا يعتمد على الحَبكة والحكاية بقدرِ ما يعتمد على التجريب الجامح الذي لا يَعتدُّ بالحدَث ولا بالشيء، بل بأثرِ هذا الحدَث على ذلك الشيء. كما تعكس المجموعةُ عالَم «فرجينيا وولف» الأدبي والخاص؛ ففي قصة «المرأة في المرآة» تتجلَّى تيمةُ الالتفاف في الضمائر؛ وفي قصة «الفستان الجديد» تتجلَّى تيمتَا التداعي الحر للأفكار والمونولوجِ الداخلي، وهما من سمات تيار الوعي؛ وفي قصة «لقاء وفراق» تتوسَّل مشاعرها الخاصة لتبُثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها، إذ تحكي عن الرعد وما يُسبِّبه لإحدى بطلات القصة من فزع وخوف؛ وفي قصة «الأرملة والببغاء» استخدمَت موجوداتٍ من حياتها الخاصة، مثل اسمِ زوجها «ليونارد وولف» واسمِ النهر الذي ألقَت بنفسِها فيه مُنتحِرةً عام ١٩٤١م.
https://www.hindawi.org/books/31725752/16/
الأرملةُ والببغاء
كان الخطابُ يحملُ العنوان: «ميسيرز. ستيج آند بيتل، ٦٧ هاي ستريت، لويز، سُسيكس.» فتحتْ مسز كيج وقرأتْ: «سيدتي العزيزة: نتشرفُ بإخطاركم بوفاة شقيقكم جوزيف جون أخيرًا!» «لقد أوصى لكِ بكلِّ تَرِكته،» لكن انقلب كلُّ هذا إلى صالحها الآن. بثلاثة آلاف جنيه، فضلًا عن البيت، وإلخ، إلخ، بوسعها هي وأسرتها أن يعيشوا إلى الأبد في رفاهية عظمى. عقدتِ العزمَ أن تزورَ رودميل في الحال. أقرضَها قسُّ القرية الأبُ صامويل تولبويز، جنيهين وعشرة سنتات، لتدفعَ أجرةَ السفر، وعلى اليوم التالي كانت استعداداتُ السفر كاملةً. كان الأهم من كلِّ هذه الأمور هو العناية بالكلب شاج أثناء غيابها، لأنها وعلى الرغم من فقرها كانت متفانيةً من أجل حيواناتها، قد تُقصِّرُ في حقِّ نفسها لكنها أبدًا لا تبخل على كلبها بقطعةٍ من العظم. «مَن الذي كان يزعق قائلًا: «لستُ بالبيت»؟» سألت مسز كيج. «إنه هذا الطائرُ الملعون!» قالت مسز فورد على نحو نَكِد جدًّا، مشيرةً إلى ببغاء رمادي ضخم. «إنه يصرخ فيطيِّرُ عقلي. هكذا يجلسُ هناك طيلةَ النهار مُحدودِبًا على عموده الحجري.» كان طائرًا وسيمًا للغاية، كما أمكن مسز كيج أن ترى؛ لكنَّ ريشَه كان مُهمَلًا على نحو بائس. «ربما هو غيرُ سعيد، أو ربما جائع،» قالت. لكن مسز فورد قالت إنه مجرد مِزاج عكِر؛ فقد كان ببغاءَ بحَّارٍ وتعلَّم منه لغة الشرق. وأضافتْ أن مستر جوزيف كان مولعًا به للغاية، وأطلق عليه اسم جيمس؛ ويُقال إنه كان يتكلم معه كأنه مخلوقٌ عاقل. وسرعان ما غادرت مسز فورد. وفي الحال اتجهت مسز كيج إلى صندوقها فأخرجت بعض السكر كان معها وقدَّمته للببغاء، قائلةً في نبرة طيبة للغاية إنها لا تقصد له أيَّ إيذاء، لكنها وحسبُ شقيقةُ سيده، جاءت لتأخذَ ملكيةَ البيت، وسوف تراعيه ليكونَ كأسعد ما يمكنُ لطائر أن يكون. ثم أخذت المصباحَ ودارتْ في البيت لترى أيَّ نوع من المنقولات خلَّفها لها شقيقُها. وكانت خيبةَ أمل مُرَّة. ثقوبٌ بالسجاجيد جميعِها. قيعانُ المقاعد ساقطةٌ. فئرانٌ تركض على رفِّ الموقد. والفُطْرُ كان ناميًا على أرضية المطبخ. لم تكن هناك قطعةٌ واحدة من الأثاث تساوي سبعة بنسات ونصفًا؛ لكن مسز كيج شجَّعتْ نفسها بالتفكير في الثلاثة آلاف جنيه التي ترقد آمنةً دافئةً في بنك لويز. قررتْ أن تسافر إلى لويز في اليوم التالي لكي تطالبَ بأموالها من ميسرز. ستيج وبيتل الاستشاريَّين بالمجلس القضائي، ثم تعود إلى البيت بأسرع ما يمكنها. السيد ستاسي الذي كان ذاهبًا إلى السوق مع بعض الخنازير السمينة، عرض مجددًا أن يأخذها معه، وحكى لها وهُما في الطريق بعضَ القصص المرعبة عن شبابٍ غرقوا أثناء محاولاتهم عبورَ النهر أثناء علوِّ المد. كانت الخيبةُ مخبأةً للسيدة العجوز الفقيرة بمجرد أن دخلت مكتبَ السيد ستيج. «أتوسَّل إليكِ أن تجلسي يا سيدتي،» قال، في جلال بصوتٍ أجش. «الحقيقةُ هي أنكِ يجب أن تواجهي بعضَ الأخبار المُحبطة. منذ أرسلتُ إليك خطابي وأنا عاكفٌ على مراجعة أوراق مستر براند. ويؤسفني أن أخبركِ أنني لم أتمكَّن من العثور على أي أثر للثلاثة آلاف جنيه. مستر بيتل، شريكي، سافرَ بنفسه إلى رودميل وبحث جيدًا في العقار باهتمام بالغ. لم يجد شيئًا أبدًا — لا ذهبَ، لا فضةَ، ولا أيَّة أشياء ثمينة من أي نوع — عدا ببغاء رمادي جميل أنصحُك بأن تبيعيه لمن يريد. إن لغته، كما يقول بنيامين بيتل، شديدةٌ للغاية. لكن هذا لا يفرق كثيرًا. أكثر ما أكرهه هو أن تتكبَّدي مشاقَّ الرحلة دون طائل. التركةُ تافهةٌ حقًّا ولا قيمةَ لها؛ وبالطبع أتعابُنا في الحسبان.» إلى هنا توقف عن الكلام، وكانت مسز كيج تعلمُ أنه يريدها أن تمضي. كانت محبطةً جدًّا وتكاد تُجَن. فإنها ليست وحسب قد اقترضت جنيهين وعشرة سنتات من الأب صمويل تولبويز، بل أيضًا ستعودُ إلى بيتها خاويةَ الوفاض، لأن الببغاء جيمس لا بدَّ أن يُباع لكي تجدَ أجرةَ السفر. راحتِ السماءُ تمطرُ بغزارة، لكن مستر ستيج لم يضغط عليها لتبقى، وملأها الحنقُ أسفًا على ما فعلت. وبرغم الأمطار بدأت تأخذ طريق العودة ماشيةً عبر المروج إلى رودميل. مسز كيج، كما أخبرتكم بالفعل، كانت كسيحةً في ساقها اليمنى. تسيرُ في أفضل الأحوال ببطء شديد، والآن، ماذا مع يأسها وخيبة رجائها والطمي الذي تخوضه على الضفة، تقدمُها كان بالطبع بطيئًا للغاية. وبينما تتحرك بتثاقل، بدأ النهارُ يُعتم ويعتم، فأصبح من الصعب جدًّا أن تستمر صعودًا للطريق حذاءَ النهر. ربما سمعتموها تزمجرُ وهي تسير، وتشكو شقيقَها الخبيثَ جوزيف، الذي وضعها في كل تلك المصاعب «رسولٌ مُكلَّف،» راحت تقول، «ليوقعَ العذابَ بي. لقد اعتاد أن يكون دائمًا ولدًا صغيرًا قاسيًا ونحن أطفال،» ومضت تقول: «كان يحبُّ أن يعذِّبَ الحشراتِ المسكينة، رأيته بعيني يقصُّ بالمقصِّ يرقةَ فَراشة. كما كان أيضًا حقيرًا للغاية. اعتاد أن يخبئ مصروفَه في شجرة، وإذا ما أعطاه أحدُهم كعكةً للشاي، كان ينزعُ السكر ويحفظه لعشائه. لا شكَّ عندي أنه الآن مشتعلٌ تمامًا في جهنم، لكن بماذا يريحني ذلك في هذه اللحظة؟» سألتْ، وبالتأكيد لم يكن ذلك إلا راحةً ضئيلةً جدًّا، لأنها اصطدمتْ بقوة ببقرة كانت تسير على ضفة النهر، وتدحرجت في الطين مرارًا ومرارًا. انتشلتْ نفسَها بأقصى ما استطاعت وواصلت المشيَ من جديد مُجهَدةً. بدا لها أنها ظلَّت تمشي لساعات. صارتِ السماءُ الآن سوداءَ بلون القار وبالكاد كان بوسعها أن ترى يدَها أمام أنفها. وفجأةً تذكرتْ كلماتِ الفلاح ستانسي عن منخفضِ النهر فورد. قالتْ لنفسها: «على أي نحو سأجد طريقي؟ إذا ما كان المدُّ والجزْر عاليًا، فسوف أخوضُ في المياه العميقة وأُجرَفُ نحو البحر في لحظة! كثيرٌ من الأزواج غرقوا هنا؛ فضلًا عن الخيول، والعربات، وقطعان الغنم، وأجولة القش.» في تلك اللحظة حدث شيءٌ رائع. برق في السماء ضوءٌ مبهرٌ، كأنما كشَّافٌ عملاق، أضاء كلَّ ورقةِ عشب، فأبان لها أن الفورد لا تبعدُ أكثرَ من عشرين ياردة. كان مدُّ القمر وجَزْره منخفضًا، والعبورُ سيكون سهلًا فقط لو لم ينطفئ الضوءُ حتى تصلَ إلى هناك. «لا بدَّ أنه نيزكٌ أو أي شيء رائع،» قالت وهي تعرجُ مسرعةً. كان بوسعها أن ترى أمامها قريةَ رودميل متألقةً بالوهج. «بارِكْنا واحمْنا يا رب!» هتفت. «هناك بيتٌ يشتعل — الشكرُ لله» — لأنها أيقنتْ أن الأمر سيستغرقُ على الأقلِّ بضعَ دقائقَ حتى تُخمَدَ النيرانُ في البيت، وفي تلك الأثناء بوسعها أن تكون بالفعل قد اتخذت طريقها للمدينة. «إنها رياحٌ عليلة التي لا تهبُّ عاليًا،» قالت وهي تعرج باتجاه رودميل. وهي واثقةٌ أنَّ بوسعها أن ترى كلَّ بوصةٍ في الطريق، وكانت قد دخلتْ شارعَ القرية تقريبًا حينما ضربتها الفكرةُ: «قد يكون بيتي أنا الذي يشتعلُ كالجمر أمام عيني!» وكانت مُحقَّة. جاء ولدٌ في منامته يرقصُ بحماقة ويصرخ: «تعالَي وشاهدي بيت جوزيف براند وهو يحترق!» كان الفلاحون يتحلقون في دائرةٍ حول المنزلِ حاملين دلاءَ ماءٍ مملوءةً من بئر في مطبخ بيتِ الكاهن، يلقونها على ألسنة اللهب. لكن النيرانَ كانت صَمُودًا قويةً، وحالما وصلت مسز كيج كان السقفُ قد سقط. «هل أنقذَ أحدُكم الببغاءَ؟» صرختْ. «اشكري الربَّ أنكِ لم تكوني بالداخل أنتِ نفسُك يا سيدتي،» قال الأبُ جيمس هوكسفورد، القس. «لا تقلقي بشأن تلك المخلوقات الخرساء. لا شكَّ عندي أن الببغاء قد اختنق برحمة الربِّ فوق عموده الحجري.» لكن مسز كيج كانت مُصرَّةً أن ترى بنفسها. وكان لا بدَّ أن تُمنَع بالقوة من أهل القرية، الذين سجلوا أن المرأةَ لا بدَّ أن تكون مجنونةً لكي تجازفَ بحياتها من أجل طائر. «يا للمرأة المسكينة،» قالت مسز فورد، «لقد فقدتْ كلَّ ممتلكاتها، لكنهم أنقذوا صندوقًا خشبيًّا قديمًا، به أغراضُها الليلية. لا شكَّ أننا قد نُصابُ بالهوس أيضًا لو كنَّا مكانَها.» هكذا قالت مسز فورد، ثم أخذت مسز كيج من يدها وقادتها إلى كوخها الخاص، حيث ستنامُ الليلة. كانت النارُ الآن قد أُخمِدَت، وذهبَ كلٌّ إلى بيته لينام. لكنَّ المسكينةَ مسز كيج لم تستطِع أن تنام. ظلَّت تضربُ أخماسًا في أسداس وهي تفكر في حالها التعسة، وتتساءلُ كيف سيمكنها أن تعودَ إلى يوركشاير وتردَّ للأبِ صموئيل تولبويز المالَ الذي اقترضته منه. وفي الوقت نفسه كانت حزينةً للغاية حين تفكرُ في المصير المشئوم الذي حلَّ بالببغاء التعس جيمس. كانت قد أولعت بهذا الطائر حبًّا، وتعتقد أنه امتلك قلبًا حنونًا حتى إنه ظلَّ ينوحُ بعمق لموت العجوز جوزيف براند، الذي لم يفعل أبدًا شيئًا طيبًا لأيِّ مخلوق بشري. لكَمْ كانت مِيتةً بشعةً لطائر بريء، فكَّرتْ؛ فقط لو أنها كانت هناك في الوقتِ المناسب، لكانت جازفتْ بحياتها لإنقاذِ حياته. كانت ترقدُ في الفراش تراودُها تلك الأفكارُ حينما فاجأتها دَقَّةٌ رهيفةٌ على النافذة. تكررتِ الدقةُ ثلاثَ مرَّاتٍ أخرى. نهضت مسز كيج من الفراش بأسرع ما يمكنها وذهبتْ إلى النافذة. وهناك، ولدهشتها القصوى، كان هناك جالسًا على حاجز النافذة البارز ببغاء ضخم. كان المطرُ قد توقَّفَ وبدتِ الليلةُ لطيفةً مُضاءةً بنور القمر. فزِعتْ بشدة لوهلة، ثم تبيَّنتْ أنه جيمس الببغاءُ الرمادي، فغمرتها البهجةُ لفراره. فتحتِ النافذةَ ولاطفته بأن ربَّتتْ على رأسه مراتٍ، ثم سألته أن يدخل. ردَّ الببغاءُ بأن هزَّ رأسَه برقَّة من جانب إلى جانب، ثم طارَ نحو الأرض، خطا بعيدًا عدةَ خطوات، وهو ينظرُ إلى الخلف ليرى ما إذا كانت مسز كيج ستأتي أم لا، ثم عاد إلى عتبة النافذة، حيث كانت تقفُ في ذهول. «هذه الكائناتُ تحملُ بسلوكاتها من المعاني أكثرَ بكثير مما نعرفُ نحن البشر،» قالت لنفسها. «حسنٌ جدًّا يا جيمس،» قالتْ بصوتٍ عالٍ، مُحدِّثةً إياه كأنما هو إنسان. «سآخذ كلمتَك كما هي. فقط انتظرْ حتى أرتِّبَ مظهري على نحو مناسب.» وهكذا شبكتْ على كتفيها عباءةً ضخمة، وتسللتْ بخفَّةٍ نحو الأسفل بأكثر ما بوسعها أن تفعل، وخرجت من دون أن توقظَ مسز فورد. «لا ترفع صوتَك باهتياج يا جيمس؛ سوف تؤذي نفسَك هكذا،» قالت له مهدِّئةً. لكنه كرَّرَ هجومَه على بلاطات الطوب بعنفٍ أكبرَ وأكبر. «أيُّ معنًى يمكنُ أن يكونَ وراء ذلك؟» قالت مسز كيج، وهي تنظرُ بدقَّة إلى أرضية المطبخ لتفحصَها. كان ضوءُ القمر كافيًا ليُظهرَ عدمَ استواء طفيفًا في رصِّ بلاطات الطوب، كأنما كانت قد انتُزِعَت من مكانها ثم أُعيد رصُّها دون موازاةٍ تامةٍ مع البلاطاتِ الأخرى. كانت قد ثبَّتتْ عباءتَها بدبوسٍ كبير، والآن دسَّتِ الدبوسَ بين بلاطاتِ الطوب فوجدت أنها مرصوصةٌ جوار بعضها البعض دون تثبيت. وسرعان ما انتزعتْ بلاطةً بين يديها. وبمجرد أن فعلت ذلك حتى حجلَ الببغاءُ ووثبَ على البلاطة المجاورة للبلاطة المنزوعة، وظلَّ يدقُّ بمنقاره بذكاء، ويصرخُ: «لستُ في البيت!» ما جعل مسز كيج تفهمُ أن عليها أن تنزعَها. وهكذا استمرا معًا في انتزاع البلاطات تحت ضوءِ القمر حتى أصبحتْ لديهما مساحةٌ عارية عن البلاطات بحوالي ستة أقدام في أربعة أقدام ونصف القدم. هنا ظنَّ الببغاءُ أنها مساحةٌ كافية. ولكن ماذا يجب أن يُفعل بعد ذلك؟ راحت مسز كيج تستريح الآن، وقد قررت أن تمتثل تمامًا لتوجيهات الببغاء جيمس عن طريق تتبُّع سلوكه. ولم يُسمح لها بالاستراحة طويلًا. بعد النبش هنا وهناك لعدة دقائق في الأساسِ الرملي، كما ربما تكونون قد رأيتم دجاجةً تخربشُ في الرمل بمخالبها، كان قد استخرجَ من الرمال شيئًا مدفونًا بدا أوَّل الأمر مثل كتلةٍ صخرية مستديرة تميلُ إلى اللون الأصفر. أصبحت إثارتُه لا حدَّ لها حين راحت مسز كيج تساعده. ولدهشتها وجدتْ أن كلَّ المساحة التي كشفاها عن بلاطاتها كانت مرصوصةً بلفائفَ طويلةٍ من تلك الصخور الصفراء المستديرة، مرصوصةً بترتيب جوار بعضها البعض حتى إن تحريكها كان مهمةً كبيرة. لكن ماذا يمكن أن تكون؟ ولأي غرضٍ خُبئتْ هنا؟ لم يكادا يزيلان الطبقةَ العلوية، وبعد ذلك قطعةً من المشمَّع المدهون بالزيت موضوعة تحتها، حتى بدا أمام عيونهما أكثرُ المناظر إعجازًا — هناك، في صفٍّ وراء صفٍّ، كانت آلافٌ من الجنيهات الذهبية البريطانية الجديدة، مصقولة وفاتنة يشعُّ بريقُها تحت ضوءِ القمر! هذا، إذَن، كان مخبأ الرجلِ الشحيح؛ هكذا تأكد أن لا أحدَ ثمة سوف يكتشفُ المكانَ بأن اتخذَ وسيلتين احتياطيتين استثنائيتين. أولًا المكان، كما كان قد أُثبِت فيما بعد، أنه قد بنى حدودَ المطبخ فوق البقعة التي خبأ فيها كنزَه، حتى إنه لولا النار قد دمَّرته، فإن لا أحدَ ثمة كان بوسعه أن يُخمِّن وجودَه؛ وثانيًا كان قد طلى الطبقةَ العليا من الجنيهات الذهبية بمادةٍ لزجةٍ ثم لفَّها في تراب الأرض، حتى إذا حدث لأية مصادفة وانكشفَ أحدُها فإنه لا أحدَ سوف يشكُّ أنها أيُّ شيء سوى بعض الحصى كما يمكن أن تكونوا قد رأيتم أيَّ يومٍ في الحديقة. وهكذا، ليس إلا صدفة استثنائية لحريق وحصافةِ ببغاء بواسطتهما هُزمَ مكرُ جوزيف العجوز وخبثُه. الآن راحت مسز كيج والببغاء يعملان بكدٍّ لاستخراج الخبيئة كاملةً — التي مقدارها ثلاثة آلاف قطعة ذهبية، لا أقل ولا أكثر — ثم وضعتها في عباءتها التي كانت مبسوطةً على الأرض. وبمجرد أن وضعت الثلاثة آلاف قطعة نقدية في كومة، طار الببغاء عاليًا في الهواء ثم حطَّ برقَّة بالغة فوق رأس مسز كيج. وبهذه الوضعية عادا إلى كوخ مسز فورد، في خطوات بطيئة للغاية، لأن مسز كيج كانت عرجاء، كما قلتُ من قبل، وأيضًا الآن قد غدت مثقَلةً بمحتويات عباءتها. لكنها وصلت إلى غرفتها دون أي أثر يشي بزيارتها إلى المنزل المنهار. بقي أن نقولَ الآن إن مسز كيج عادتْ بأمانٍ إلى سبيلسبي؛ أخذت صندوقَها الأسودَ للبنك؛ وعاشت مع جيمس الببغاء وكلبِها شاج في راحةٍ قصوى وسعادةٍ ناعمة حتى بلغتْ عمرًا أرذلَ. وليس قبل أن ترقدَ على فراشِ الموتِ شرعتْ تحكي للقسِّ (ابن الأب صموئيل تولبويز) الحكايةَ كاملةً، مُضيفةً أن البيتَ كان قد أُحرقَ عمدًا بتدبير من الببغاء جيمس، الذي كان واعيًا بالخطر المُحدق بها على ضفَّة النهر، فطار إلى حيث غرفة الغسيل، وقلَبَ الموقدَ الزيتي الذي كان مُحتفظًا ببعض القطَع الدافئةِ من أجل عشائِها. وبهذا العمل هو لم ينقذها من الغرقِ وحسب، بل كشفَ كذلك عن الثلاثةِ آلاف جنيه، التي لم يكن لها أن تُكتشف بأية وسيلةٍ أخرى. وتلك كانت، راحتْ تضيفُ، مكافأةً لها على حُنُوِّها على الحيوانات. ظنَّ القسُّ أنها كانت تهيمُ في أفكارها. لكن المؤكدَ أنه في اللحظةِ التي خرج فيها النفَسُ من الجسد، صرخَ الببغاءُ جيمس صرخةً مدوِّية: «لستُ بالبيت! لستُ بالبيت!» ثم سقط من فوق عموده الحجري جثةً هامدة. وكان الكلبُ شاج قد ماتَ قبل ذلك بعدة سنوات. زُوَّار رودميل ربما ما زالوا يشاهدون حطامَ البيت، الذي احترق قبل خمسين عامًا، وكان شائعًا أن يُقال إنكَ لو زرتَه في ضوءِ القمر ربما سمعتَ الببغاءَ ينقرُ بمنقاره على بلاطةِ الأرضية، بينما آخرون يرون امرأةً عجوزًا تجلسُ هناك في عباءةٍ بيضاء.
فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. فرجينيا وولف: إحدى أيقونات الحركة الأدبية في إنجلترا في القرن العشرين، وأول مُستخدِمي تيار الوعي كطريقة للسرد. وُلدت «أدالاين فرجينيا وولف» في ٢٥ يناير ١٨٨٢م بلندن، لأسرةٍ ثَرِية؛ فكان والِدها رجلًا نبيلًا، وكانت والدتها تعمل عارضةً للحركة الفنية. عاشت «فرجينيا» في جوٍّ عائلي يهتم بالأدب والثقافة؛ فكان لوالِدها مكتبةٌ كبيرة، وكان يشجِّعها لكي تصبح كاتبة، وهو ما ساهَم في تشكيلها الأدبي، وكان لأخواتها غير الشقيقات دارُ نشرٍ قامت بنشر بعض أعمالها. وبالرغم من اقتصار التعليم الجامعي في الأسرة على الذكور — إذ كانت الفتيات يَتلقَّين تعليمَهن في البيت — فقد تمكَّنت هي وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات في كلية الملك في لندن؛ حيث درَسن الكلاسيكيات والتاريخ (١٨٩٧–١٩٠١م)، وأصبحنَ على تواصُل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالي للنساء وحركة حقوق المرأة. تزوَّجت «فرجينيا» من المنظِّر السياسي والمؤلِّف والناشر «ليوناردو وولف» عام ١٩١٢م، وأسَّسا معًا دارَ نشر هوجارث عام ١٩١٧، التي نشرت معظم أعمالها، وبالتدريج مالت «فرجينيا» إلى حياة العُزلة بعيدًا عن لندن؛ فاتخذت مَسكنًا دائمًا لها في مُقاطعة ساسكس. كان لها تأثيرٌ كبير على الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي في القرن العشرين، فإلى جانب مُساهمتها في تكوين مجموعة بلومزبري الفنية والأدبية، تركت مجموعةً متميِّزة من المؤلَّفات الأدبية التي ساهَمت في تدشينِ تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي، الذي ظهر جليًّا في أعمالها، مثل: «رحلة الخروج» (١٩١٥م)، و«الليل والنهار» (١٩١٩م)، و«غرفة جاكوب» (١٩٢٢م)، و«السيدة دالوي» (١٩٢٥م)، و«أورلاندو» (١٩٢٨م)، و«الأمواج» (١٩٣١م)، و«بين الأعمال» (١٩٤١م)، و«بيت تسكنه الأشباح» (١٩٤٤م) وهو مجموعةٌ قصصية نُشِرت بعد وفاتها. اتَّسمَت «فرجينيا» برهافة الحس الشديدة، التي أثَّرت على حالتها النفسية والعصبية؛ فقد تعرَّضت لأول انهيار عصبي عَقِب وفاة والدتها عام ١٨٩٥م، ثم كان لوفاة أختها التي كانت بمثابةِ أمٍّ لها عام ١٩٠١م، ثم وفاة والِدها عام ١٩٠٥م، تأثيرٌ سيئ على حالتها العصبية؛ حيث توالَت عليها نوباتُ الانهيار العصبي، بالإضافة إلى تعرُّضها لطفولةٍ مُضطرِبة بسبب التحرُّش بها من قِبَل أخوَيها غير الشقيقَين. وظلت طوال حياتها تتعرَّض لنوباتٍ من الانهيار العصبي دخلَت على إثرها مصحةً للأمراض العقلية بسبب مُحاوَلاتها المتكرِّرة للانتحار، وفي ٢٨ مارس ١٩٤١م نجحت في الانتحار، عندما ارتدَت معطفَها وملأَت جيوبَه بالحجارة، وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/1/
التنظيم السري
في ركن النادي الذي يجمعنا للسمَر، تنطلق الآراء كالمفرقعات، لا تترك كبيرة ولا صغيرة حتى تمزِّقها جدلًا. وتتصارع المشروعات ووسائل تنفيذها حتى تُبَحَّ منَّا الأصوات إلا ذلك الصديق القديم. لا يشترك في همومنا الجِدِّيَّة برأي أو ﺑ «لا» أو ﺑ «نعم». قد يُثرثر في الأمور العابرة، ولكنه عند الجد يلوذ بالصمت. يغيب عنا بنظرة شاردة، يتخذ من هامش الحياة وطنًا. على ذلك لم يخرج من قلوبنا لمودته الدافئة وجذوره المتأصلة في منابتنا. ويومًا اتصل بي تليفونيًّا في الديوان، وقال لي: أود مقابلتك غدًا صباحًا في محل توت عنخ آمون. فوافقت من فوري، وفي الموعد جلست أنتظره. وهلَّ عليَّ دون تأخير، فرُحنا نشرب القهوة ونتبادل نظرات التمهيد، وهو يرنو إليَّ جادًّا حتى خُيِّل إليَّ أنه استعار شخصية جديدة تمامًا. وقرَّب رأسه مني، وقال: فكِّرْ قبل أن تتكلم؛ فالكلمة هنا ارتباط أبدي. فأثار اهتمامي لدرجة لم أتوقَّعْها، وحدَجْته بنظرة داعية للمزيد من الإفصاح. قال: لم يكن مفرٌّ من هذا التحذير، ثم أدخلُ في الموضوع رأسًا! فقلت واهتمامي يتصاعد: ادخلْ. فكَوَّر قبضته الضخمة وتساءل: آنست منك رغبة في العمل؟ فلمحت أول بصيص نور، وسألته في دهشة: كيف عرفت ذلك؟ – من متابعتي للمناقشات! فقلت بدهشة أكثر: حسبتك لا تنتبه إلى أقوالنا! فابتسم ولم ينبس، فقلت: هاتِ ما عندك. فاعتمد على المائدة بمرفقيه وسألني: أتعني ما تقول حقًّا؟ فقلت بصدق: كل كلمة، كل كلمة! – إذن فأنت ترغب في العمل؟ أدركت مغزى تحذيره ولكن وعائي كان طافحًا بما فيه، فقلت مندفعًا إلى مصيري: أجل. – العمل — بخلاف الكلام — باهظ التكاليف. فقلت بتحدٍّ: أُدرك ذلك تمامًا. فقال ببطء: الندم فيما بعدُ غير مجدٍ. – أعتقد ذلك. – والتراجع يعني الموت. – طبعًا .. طبعًا. فقال بارتياح: صدقني حدسي. فقلت وأنا أغالب انفعالاتي الداخلية: يا لك من داهية! فقال كالمعتذر: هي الحياة. فقلت بشيء من الحدة: أو هو الموت، ليفعل الله ما يشاء. – بداية طيبة. فقلت بشوق: هات ما عندك. فقال بسرعة: ما لديَّ قليل، أقل مما تتصور، أسرة مكونة مني وأربعة آخرين ستعرفها مساءً، عدا ذلك لا أعرف إلا شخصًا أتلقى منه الأوامر. – ولكن الأسرة وحدة في كلٍّ، وعلى رأس الكل رئيس، ماذا تعرف عن ذلك؟ فقال ببساطة: لا شيء. فتساءلت في حيرة: ونظل نعمل في الأسرة يحيط بنا الظلام؟ – ربما، وربما انتقلت إلى أسرة من مرتبة أعلى. – ومتى أصِل إلى مركز الرئيس الأعلى؟ – علمي علمك، المهم العمل والهدف! وتفحَّصَني بنظرة ثاقبة، وقال: إنهم أدرى بما يحقق الأمان والنجاح. ومر بي نهار لم يمر بي مثله في حياتي، كمن يبدل لحمه ودمه وخلاياه وروحه، كمن يُولد في دنيا جديدة ذات قوانين جديدة، كمن يُوَدِّع الطمأنينة واللامبالاة ليستقبل المغامرة والموت. لم يبقَ لي من الماضي إلا الاسم، وحتى هذا سرعان ما يتغير. وفي المساء انعقد أول اجتماع للأسرة في بيت صغير بمصر القديمة. كنا خمسة، على رأسنا الصديق القديم المرموز إليه ﺑ «أ». لِمَ لا؟ لقد أصبحنا رموزًا لتحقيق أهداف. وجلس على رأس المائدة ينقِّل عينيه بيننا، مكتسيًا مهابة جديدة وتأثيرًا نافذًا. قال: أُرحب بكم في أسرتنا التي جمعتنا على الخير، هي التي أخرجتنا من العبودية، وطهَّرتنا من عبادة الأصنام، فلنجعل من الكمال زينتنا، ومن الحب رابطتنا، ومن الطاعة شعارنا، ولنعمل في نطاق ما نعرف — ولا نسأل عما لا نعرف — واحذروا الخطأ؛ فلا خطأ يمر بلا عقاب. وتتابعت الاجتماعات لمذاكرة الأهداف والوسائل، أو لمعرفة الأجوبة عن بعض أسئلة عاجلة، ومناقشة الاقتراحات. وطيلة الوقت استحوذ رئيسنا المباشر «أ» على إعجابي بعقله الراجح وحدسه الصادق وخُلقه المتين، مع قوته الجسدية الخارقة، كأنما هو بطل من أبطال المصارعة الحرة، وإن ساءتني جديته الصارمة التي تضنُّ بالابتسامة، فضلًا عن الدُّعابة. وعزَّيت نفسي قائلًا: إنه لولا ضرورة هذه السجايا لعمله ما اختاره الرئيس الأعلى للجماعة الذي يضع، ولا شك، الرجل المناسب في المكان المناسب، والذي تتسلَّل إلينا أوامره من مثواه المجهول عبر مندوبين مجهولين كذلك، حتى إن «أ» نفسه لا يعرف مِن ذاك الجهاز المعقد إلا فردًا واحدًا. وقد رأيته يلوذ بالصمت في أعقاب مناقشة ثقيلة جرت في أحد الاجتماعات، فقلت بعفوية: ألا يحسن أن يجتمع رؤساء الأُسَر بالرئيس الأعلى في اجتماعات دوريَّة لنطمئنَّ على سير الأمور؟ فاستيقظ من صمته راميًا إياي بنظرة صُلبة، ثم قال: ارتكبتَ عدة أخطاء دفعةً واحدة! وراح يعدِّد على أصابعه قائلًا: قطعتَ عليَّ تفكيري، تدخَّلتَ فيما لا يعنيك، خالفتَ وصية من الوصايا! فهالني الأمر وقلت معتذرًا: إني آسف يا سيدي. – لا بدَّ من العقاب، وإني أحكم عليك بالامتناع عن التدخين شهرًا كاملًا، ابتداءً من هذه الساعة! وصدمني الحكم، ولكني لم أنكص عن تنفيذه — رغم ثقله — بوازع من ضميري. على أننا كنا نشعر في الوقت نفسه بأننا موضوعون تحت مراقبة خفية يمارسها جهازنا الغامض، بالإضافة إلى مطاردة الشرطة المستمرة. هذا ما تطوَّعنا للخدمة فيه بدافع تلك الرغبة الجنونية المقدسة في تغيير الكون. حسبنا أن نؤمن بأننا ضمن الصفوة المختارة بدقة، رسَمَ خطوطَها ذلك الرئيسُ الأعلى الذي صار — هو وجهازه — أسطورة يتحدث عنها الناس في كل مكان. وتنشط دوائر الأمن العام إلى اكتشافها بكل سبيل، انطلاقًا من حوادثها المتكررة ومنشوراتها السرِّية المثيرة. وما أدري يومًا ونحن مجتمعون حول المائدة إلا و«أ» ينظر نحوي ويسأل: أين القلم الرصاص الذي وجدته أمامك في الجلسة السابقة؟ فقلت ببراءة: لعلي أخذته معي. فسأل ببرود: من أين علمت أنه وُزِّع للامتلاك؟ فقلت في استياء: سأرده في المرة القادة، أو أبتاع بديلًا عنه. فقال ببرود أشد: نحن نعتبر ذلك نوعًا من السرقة! فقلت بغضب: لقد بعنا الحياة نفسها دون مقابل؛ فكيف نُتهم بسرقة قلم رصاص؟ فقال بهدوء هو أشد من الحدة: لا تمنَّ علينا بالتضحية؛ فإنك لا تُضحي من أجلنا، ولكننا نُضحي جميعًا من أجل الهدف، وقد حكمتُ عليك بألا تستعمل يدك اليسرى لمدة شهر! ركِبَني هَمٌّ ثقيل، فذهبت إلى مطعم «فلسطين» بالسكة الجديدة لتناول العشاء. وجلست إلى أقرب مائدة إلى فتاة وحيدة. لاحظت رغم هَمِّي أنها لم تطلب شيئًا، ولم يقترب منها الجرسون. ولاحظت أيضًا أنها تنظر نحوي بجرأة وثبات لا يصدران إلا عن امرأة هوًى. على جمال كانت ولكن منظرها أوحى بالفقر، بل والجوع أيضًا. قالت لي عيناها: «ادعوني للعشاء من فضلك.» ورقَّ قلبي لها فابتسمت، وسرعان ما ردتِ الابتسامةَ بأخرى مبتذلة. قلت إنها ما زالت تشق طريقها الوَعرة، وأشرت إلى المقعد الخالي أمامي، فانتقلتْ إليه دون تردد. تناولنا عشاءً من المكرونة والخبز الجاف، فالتهمت طعامها بنهَم وبلا حياء. حلَّ الارتياح مكان التوتر في وجهها، وتبادلنا الابتسام دون تعارف، ثم سألتها لأبدِّد الصمت: مِن هنا؟ فقالت بنبرة ذات معنًى: مسكني فوق المطعم. لم تكن في رأسي خطة نهائية، فنظرتُ في الساعة، فسألتني: نقوم؟ فاستسلمتُ بلا حماس وبلا فتور، فتأبَّطتْ ذراعي ومضَتْ بي نحو مدخل المبنى في عطفة خلفية. لستُ من مدمني ذلك ولا من الهواة، ولكنها تعرض لعازب. وكانت رقيقة وثرثارة وغير مُحنَّكة، فدار حديثها حول ضجيج العاصمة. وسألتني: ما ليدك اليسرى؟ فقلت بامتعاض: روماتيزم خفيف. فقالتْ مجامِلة: ولكنك في عِزِّ الشباب. فقلتُ بضيق: أمراض عصرنا لا تُفرق بين شيخ وشابٍّ. وغادرتُها وهي تقول: لتكن أُولى الزيارات لا آخرها. وصادفتني متاعب متلاحقة في البيت والديوان لعدم استعمال يدي اليسرى، بالإضافة إلى سوء المزاج الناتج عن الامتناع عن التدخين. وتمخَّض اجتماع الأسرة التالي عن مكدِّرات جديدة لم تكن في الحسبان؛ إذ التفت «أ» نحوي قائلًا: ما زلتَ ماضيًا في طريق الضلال! فنظرتُ إليه مبهوتًا، فقال: الزنا بعد السرقة. فالتهبتْ وجنتاي وغضَضْت بصري، فقال: كأنك لا تُدرك خطورة زلَّتِك؟! فقلت باستماتة: هفوة شخصية، لا تمس سلوكي العام. – هراء، المرأة أشد خطورة من الشرطة. فقلت مدافعًا: الزواج عسير جدًّا في هذه الأيام. فقال ببرود: في الهدف ما يغني ويُسلي عن سواه. وواصل عقب صمت قصير: إنك كثير الجدل، فمتى تتعلم الطاعة؟ وفكر قليلًا ثم قال: مراعاةً لظروفك، سأكتفي بتغريمك مائة جنيه تؤديها على أقساط. وجدتُني في مأزق. كِدت أندم على فكرة التطوع نفسها، ولكن لم يغِبْ عني أن التراجع الآن يعني الموت. وتعزَّيت بما أحرز من نجاح حين عرض الآراء، وتنفيذ ما أُكلَّف به من أعمال. وتخيلت رئيسنا الأعلى — قياسًا على «أ» — في صورة عملاقة جبَّارة، جديرة حقًّا بالإجلال والخوف. ومازج شوقي إلى معرفته رغبةٌ في البقاء بعيدًا عن بابه. ولم أُخطئ بعد ذلك، وتقدمت في الدرس والتدريب تقدمًا محمودًا سمعت من أجله الثناء تلوَ الثناء، فتلاشى الحرَج وذكرى العقوبات. وفي ختام اجتماع هام للأسرة، استبقاني «أ»، ووضع أمامي مظروفًا مغلقًا، وقال: تسافر إلى «…»، وتقابل «…» الكاتب بالمحكمة، وتُسلِّمه الرسالة خِفْية، وتعمل بما يشير به عليك. كنت تدرَّبْت تمامًا على وسائل معرفة المكان، ومواعيد القطارات والاتصالات الخفِيَّة. وشرعت في العمل خطوة فخطوة، حتى سلمت الرسالة للرجل. وأشار عليَّ بالنزول في فندق بالبلدة والانتظار. وفي الصباح جاءتني سيارة فورد قديمة، ودعاني السائق إلى الجلوس إلى جانبه، وانطلق بها بلا تعارُف أو كلام. وفي وسط الطريق قال: في الصندوق الخلفي حقيبةٌ جلدية. ووقف على مبعدة من البيت الذي تجتمع فيه الأسرة بمصر القديمة. حملت الحقيبة رغم ثقلها، وسرت بها نحو البيت. غالبتُ توتري لدقة الموقف وخطورته، ثم وضعتها على المائدة أمام «أ»، وجلست مزهوًّا وأنا أشعر بأنني هجرت دنيا الناس إلى الأبد. وفتح «أ» الحقيبة، فحال غطاؤها بيني وبين رؤية ما بداخلها. ودام فحصه ربع ساعة، ثم أغلق الحقيبة وقال: أمضيت وقتًا في المقهى، ناسيًا أن الغريب يلفت الأنظار في البلدان الصغيرة. فخفق قلبي متوقعًا عقوبة جديدة، ولكنه قال: ولكنك عبرتَ البحر بسلام! فشاع في نفسي الرضا، وامتلأتُ ثقة وإحساسًا بالنصر، وقمت بأعمال قيِّمة على مدًى غير قصير، في وثَبات متلاحقة حققت لي مركزًا لا بأس به. واستدعاني «أ» ذات يوم، فوجدته وحده بحجرة الاجتماع. أجلسني في أقرب مقعد إليه، وقال لي: تقرَّر أن تفارقنا إلى أسرة جديدة. نظرت إليه مليًّا وأنا أُغالب انفعالاتي، ثم سألته في حذَر: أتسمح لي بسؤال أو أكثر؟ فحنى رأسه بالإيجاب، فسألته: ماذا يعني أسرة جديدة؟ – أسرة الزميل الوحيد الذي أعرفه خارج أسرتنا، ويُدعى «ب»، وهي وحدة ضمن وحدات متصاعدة، لا فكرة لي عن عددها، تنتهي بالجهاز الأعلى. فداخلني ارتياح، وسألت: وما نوع العمل في الأسرة الجديدة؟ – لا أدري! – مَن الذي رشحني للأسرة الجديدة؟ فأجاب ببساطة: عملك. وقام آخذًا بيدي إلى حجرة صغيرة داخلية، وهو يقول: دعني أقدمك إلى رئيسك الجديد. وجدناه جالسًا ينتظر. ومن عجَب أنْ طالعني بصورة مناقضة تمامًا لتخيُّلي له. تصورته يفوق «أ» في القوة والعملقة، فإذا بي حيال شاب يكبرني بأعوام، جميل المحيا، رقيق الحاشية، يأسر الناظر إليه بلطفه وعذوبته. كيف يرأس هذا الشاب أسرة هي أقرب في موقعها من الرئيس الأعلى، وعليها مهام — ولا شك — تجاوزها في الشدة والعنف؟! وكيف يضع رئيسنا الأعلى ثقته في شخصينِ تقطع الدلائل بتناقضهما الكامل؟ تُرى متى يُتاح لي مقابلة ذلك الرئيس العجيب الذي أَقَضَّ مضاجع الشرطة، وأثار الرأي العام لدرجة الهوَس؟ وتبادلت مع «ب» كلمات رقيقة، فاستحوذ على حبي من اللحظات الأولى. ومضى بي في سيارته الصغيرة ١٢٨ إلى حديقة «الوردة البيضاء» بطريق سقارة. سألته قبل أن ندخل: أعندك فكرة عن هذه الحديقة؟ فدخل مبتسمًا وهو يتأبط ذراعي. وسرعان ما احتوَتْنا مقصورةٌ تكتنفها الخضرة والأزهار، وتحبو فوقها أشعة الشمس في مطلع شتاء لطيف. وجدت الأسرة الجديدة بكامل عددها، وهي مكونة مثل أسرتي الأولى من خمس، ولكني عجبت لاختياره مكان الاجتماع في حديقة سيئة السمعة لا يرِدُها عادةً إلا طلاب الحب المحرَّم. وقلت: لعله داهية ذات قشرة ذهبية، أو ماء تحت تِبْن. وشربنا الشاي بسرور وارتياح وهو يقول: أهلًا بكم في أسرتنا الجديدة. وتفكَّر قليلًا ثم واصل: لكلٍّ منكم سابقته المحمودة المتسمة بالشدة والخطورة، ونحن الآن بصدد عمل جديد ذي أسلوب آخر، لا تنكُّر للماضي، ولكننا نستكمله بأسلوب جديد كل الجِدَّة، وإلا ما دعت الضرورة إلى إنشاء أسرة جديدة، مستهدفين في النهاية غاية واحدة، وإياكم والاستهانة بعملكم الجديد ذي المظهر الخادع؛ فمثلكم مثل زارع يرمي في الأرض ببذرة لا تكاد تُرى، ولكنها ستنمو ذات يوم شجرةً باسقة يلوذ بظلِّها المعذبون في الأرض. وصمت قليلًا ثم قال: كانت مهمتكم السابقة التصدي للوجه القبيح، والانهيال على قبحه باللكمات الصادقة، أما مهمتكم الجديدة فهي التغنِّي بالوجه الجميل المنشود، حلم اليوم وحقيقة الغد، ولكن أي أغانٍ وأي ألحان؟! .. أغانٍ جديدة وألحان جديدة. الْتَمع في الأعين حب استطلاع وَهَّاج فقال: سأكون المؤلف والملحن، وستكونون المغنين، وسأضع في كل حنجرة اللحن الذي يناسبها! وضَح في الوجوه ما يشبه الذهول، فقال: المهمة ظاهرها الترفيه، ولكنها تنطوي على جدية فائقة، ويحف بها الخطر من كل جانب .. فليوطن كلٌّ نفسه على التضحية. وقلَّب عينيه في وجوهنا متسائلًا: هل من أسئلة؟ وفي الحال سألته: أنعتبر حديثك من المجاز والرمز؟ فأجاب ببساطة: بل إنه واقع وحقيقة! – هل حقًّا تُحفِّظنا ألحانًا لننشدها؟ – بكل تأكيد. – لكننا لسنا مغنِّين. – كل فرد يستطيع أن يُغني في حديقة عامة، فيسمعه من يشاء أن يسمع. – من ناحيتي لا أملك أي موهبة غنائية. – لا يهم. العبرة باللحن، أما الأغنية فأغنية حب من لون جديد! – قد يعتبر الجمهور غناءَنا تكديرًا لصفوه. – ربَّما. – وقد يسخر منَّا. – ربما. – وقد يعتدي علينا. – ربما؛ ولذلك لا بد من توطين النفس على التضحية. فقال زميل منفعلًا: عملنا السابق أخفُّ رغمَ عُنفه. فأجاب باسمًا: محتمَل جدًّا. وترددتُ قليلًا ثم قلت: لديَّ سؤال وأخاف العقاب. فقال «ب» بسرعة: لا موضع للعقاب في قاموسنا. فسألته: وما جدوى الأغاني والألحان والغناء؟ فقال بهدوء: أكبر مما تتخيَّل! فسألت مندفعًا بشجاعة جديدة: وهل وافق رئيسنا الأعلى على عمل أسرتنا؟ فقال باسمًا: لسنا إلا أدوات تنفيذ. ثم بنبرة حماسية: اسمحوا لي أن أدعوكم إلى عشاء من الشواء والنبيذ لنتعاهد على الحب والعمل ونحن في أطيب حال. وشرَعْنا في الحال في الحفظ والتدريب، ثم في العمل. وتعرضت لحرج ومتاعب لا نهاية لها. آمنت بأن عملي الجديد أشق من القديم، رغم إحساسي بأنني أعمل في جوقة موسيقية تحت إشراف شاعِر وملحن في آنٍ. وعجبت لشأنه، وعجبت أكثر لشأن رئيسنا الأعلى الذي يستعمل كل هذه الحيل المتناقضة والأساليب المتضاربة لتحقيق أهدافه. واستقرت في وجداني عبارة «ب»: «لا موضع للعقاب في قاموسنا.» فشجعني ذلك على التخفيف من توتر أعصابي بزيارة جديدة لفتاة مطعم فلسطين بعد انقطاع، رغم ما سمعت من إدانة لذلك، وتحذير من المرأة التي هي أشد خطرًا من الشرطة، ورغم علمي المسبق بأن سلوكي لن يخفى عن رئيسي كما لا يخفى سلوك أحد من أفراد الجهاز بعامة. وسُرت الفتاة بزيارتي سرورًا أنساني قلقي ووساوسي، وهداني إلى اكتشاف جانبٍ رقيق في قلبها لا يوجد عادةً في حومة الاحتراف. وقال لي «ب» في أول اجتماع تلا مغامرتي: لا اعتراض لي على الحب. فاشتعل وجهي بالحياء فقال: ولكنه دونما رباط عبءٌ على نقاء القلب. ففطنت إلى ما يشير إليه، وقلت باستنكار: ولكن … فقاطعني: لا تستشهد بمأثورات حياة قد أعلنتَ الحرب عليها! ثم تحول إلى موضوع الاجتماع كأنما قال قولته الأخيرة في المسألة. وجاء زواجي من الفتاة مغامرة لا تقل في خطورتها عن كبرى مغامراتي التي قمت بها وأنا عضو في أسرة «أ». وفي ليلة الزفاف أتى «ب» دون دعوة، وأهداني قارورة من أفخر أنواع النبيذ الأحمر. وهمس في أذني وأنا معه آخر الليل: صُن سرك في أعماق قلبك وحده. وواصلتُ حياتي ما بين الديوان والحدائق العامة وعش الزوجية فوق مطعم فلسطين. وكان الاجتماع لم يُسبق بمثله؛ إذ تخلف عنه لأول مرة أحد الزملاء. وأشار «ب» إلى المقعد الخالي وقال بأسًى: أُلقي القبض عليه. فذُهلت أنفسنا وتغيرت ألواننا، فقال: لعله تهاون في الكتمان. فقال زميل: قد يدفعه التعذيب إلى الاعتراف بما يهدد أمن الأسرة. فقال: من أجل ذلك سنؤجل اجتماعاتنا إلى أجَل غير مسمًّى، وسنختار مكانًا آخر. على أني متيقن أنه سيتحدى الموت قبل أن يعترف! رجعت إلى وحدتي الأولى. وانسربت إلى نفسي سموم الهواجس والمخاوف، فتوقعت أن تصل إلى عنقي القبضة الحديدية في أي وقت من ليل أو نهار. أجَل، كانت حياة كل زميل مجهولة تمامًا من بقية الزملاء خارج نطاق العمل المشترك، ولكن أيُّ ضمان ثمة لذلك؟! كانت أيام خوف وضياع. وصادفني يومًا أحد الزملاء في ميدان العتبة. صافحني خارقًا تقاليدنا الثابتة وقال: معذرة، ثمة أخبار غاية في الخطورة. تولاني رعب من قبل أن يُفصح، واستوضحته بعينيَّ دون لساني، فقال: قبضوا على رئيسنا «ب» نفسه! فهتفت بفزع: من أين لك هذا؟ قال بغموض: شائعات تطايرت في مكان عملي، والشائعة في مكان عملي تُعتبر خبرًا! تجهم وجهه حتى الظلمة، وقال: ويقال إنه قُتل وهو يُستجوَب! هتفت: يا للفظاعة! فقال: وثمة همس عن أن زميلنا المقبوض عليه أولًا قد باع نفسه، ودلَّ على الرجل! فقلت باضطراب: يجب أن نهرب. فقال بحنق: لا خوف من ناحيته بعدُ؛ فقد وُجد في السجن ميتًا بالسُّم، والتحقيق جارٍ مع الجميع. وتابعت الصحف ولكنها لم تُشِر من قريب أو بعيد إلى جماعتنا. تُركنا في الظلام، وانقطعت الصلة بيننا وبين الجهاز، وانطويت على سري دون شريك أحاوره أو ألتمس عنده العَزاء. واحتوتني غربة وسط عالَم مُعادٍ لا أدري متى ينتشلني اليأس من العذاب. واستدعاني رئيسي المباشر في الديوان وسألني: ما لك؟ لست كعادتك، أهو الزواج؟ فادعيت المرض فقال: قُمْ في إجازة تجنبًا لمزيد من الأخطاء. هربت من الديوان لأسقط بكليتي في قبضة نفسي. أما زوجتي فأرادت أن تُخفِّف عني بعض ما لمست من اضطرابي فقالت: ستكون أبًا يا حبيبي. فتظاهرت بسرور لم أعُد أتذكر طعمه أو رائحته. واتجه فكري إلى رئيس الجهاز الأعلى، فتساءلت عما يدبر لرتق الفتق الذي مزَّق جهازه؛ كيف يصل ما انقطع؟ وهل يعلم بما نعاني في ضياعنا، أو يفكر في التخلص منا حفظًا لأمن جماعته كما تخلص من زميلنا الخائن؟! وانطوت الإجازة، ورجعت إلى عملي، وكلما مرَّ يوم دون مفاجأة أخلدت إلى شيء من الطمأنينة، حتى بتُّ أعتقد أني راجع حتمًا إلى تفاهة الحياة ومرارتها اليومية كفرد من ملايينها الذين يتعذَّبون ويتشكَّون ويتصبرون وينتظرون دون جدوى. وقلت لنفسي على سبيل التعزِّي: لعل التفاهة في النهاية أرحَمُ من الخوف والضياع. وتعاقبَت الأشهُر حتى خرج وليدي الأول إلى الوجود، ومضيت أنهمك في مجريات الحياة اليومية. وذات صباح وعقب أُبوتي بشهر، دق جرس الباب فذهبتْ زوجتي لترى الطارق، ثم عادت لتقول بدهشة: يقول إنه مندوب شركة الشرق للتأمين! فذهبت بنفسي إلى الباب، وسألته عما يريد، فقال بصوت عريض مليء: اسمح لي بخمس دقائق، إني قادم من أجل ابنك، ربنا يحفظه بعين رعايته. وجلسنا في حجرة الاستقبال متواجهينِ. كان متوسط الطول، متين البنيان، أنيق المظهر، بشوش الوجه كما يجدر بتاجر، قوي النظرات، بيده حقيبة، وجاءت زوجتي مدفوعة بحب الاستطلاع، فانتظر حتى جلست وقال: جئت يوم الجمعة لأضمن لقاءك، ومهمتي هي صميم عملي؛ فنحن نتابع المواليد ونزور الأُسر لإقناع الآباء بالتأمين على الأبناء، ويا بخت مَن يرى غده في يومه! فسألته زوجتي: أيكلِّفنا ذلك ما لا نطيق؟ فأجاب بنبرة مُشجعة: التأمين أصلًا للذين لا يملكون، وهو درجات، ولكلٍّ درجته، وإن بَعْد العسر يسرًا. وفتح حقيبته فتناول كراسة أعطانيها وهو يقول: إنها حاوية لكافة الأنواع، وستجد فيها ما يناسبك إن شاء الله. ونهض قائمًا، فاصطحبته إلى الباب مودعًا. ودسَّ في يدي ورقة، وصافحني وهو يهمس: لا علاقة لي بشركة التأمين، اقرأ ما في الورقة بعيدًا عن عينَي زوجتك، ستجد فيها المكان والوقت فلا تتأخر. قال ذاك وذهب. وددت لو بقي دقيقة أخرى ليبلَّ ريقي الجاف. هكذا بُعثتُ فجأة واشتعلت روحي بالنار المقدسة من جديد. رجعتُ إلى الحياة ومعاناة الإحساس المُضني بحمل الأمانة. وفي الموعد كنت في بيت عتيق بالقلعة، يقع في بقعة فاصلة بين العمران من ناحية وبين مدينة الأموات من ناحية أخرى. وكالعادة الأسرة الجديدة مكوَّنة من خمس يرأسها «ج» (مندوب شركة الشرق)، أما الأربعة الآخرون فكان اثنان منهما — أنا أحدهما — من أسرة المرحوم «ب»، وواحد زاملته في أسرة «أ»، والرابع جديدًا لم تقع عليه عيناي من قبل. قال «ج»: مضى ما يقارب العام دون اتصال. فقلت من فوري: عام محنة وعذاب. أما زميلي من أسرة «ب» فتساءل: هل عادت أسرتنا القديمة، أسرة «ب»، برياسة جديدة؟ فقال «ج»: أسرة «ب» موجودة برياسة جديدة، أما هذه الأسرة فهي أسرة جديدة بالنسبة لكم. وتنحنح ثم واصل حديثه: لم يمضِ العام هدرًا، كلا، ولكنه مضى في التحري والمتابعة والمراقبة، كان على رئيسنا الأعلى — وهذا محض ظن مني — أن يطمئن إليكم، وأن يسبر غَور الشرطة وعيونها الشرهة، وأعتقد أني تلقيت أوامره في الوقت المناسب. وقلت لنفسي إن هذا الرجل يعني ما يقول، وإنه قادر على ملء الفراغ بالثقة، وسرعان ما أحببته. أما هو فقال: أهلًا بكم في أسرتكم الجديدة، هي الأخيرة أيضًا، يليها مباشرةً الجهاز الأعلى، ولا أُخفي عنكم أني أتلقى التوجيهات من السكرتير العام نقلًا عن الرئيس الأعلى حفظه الله ورعاه. وأشعل سيجارة، آذنًا بإشارة لنا بالتدخين لمن شاء، ثم قال: ولعلكم تتساءلون عن أسلوب العمل، أول ما أقول إنه يقوم بصفة مبدئية على القواعد المرعية في الأسرتين السابقتين، فلا يجوز أن تُهمَل تجربة ناجحة أثبتت جدواها، فلا تنسوا ما تمرَّستم به في أسرتكم الأولى، وما تمرستم به في أسرتكم الثانية، بالإضافة إلى ما سيجِدُّ، ولا تنسَوا أن جميع الأُسر وحدات في أسرة كبيرة واحدة ذات هدف واحد ورئيس واحد. وقلَّب عينيه في وجوهنا، ثم واصل حديثه: وفي كل أسرة طالبوكم بحب زملائكم فيها، وهو أول مطلب أطالبكم به في نطاق أسرتكم، ولكنكم مطالَبون إلى ذلك بحب الجميع بلا تفرقة؛ وفاءً بحق المنبع الذي منه نهلتم، ولو لم يبادلوا حبكم بحبٍّ مثله؛ لجهلهم بوجود أسرتكم! وتمهل قليلًا ثم قال: وعملنا عجيب، ومحيِّر إلا لمن يعقل. يحتاج إلى الصبر كما يحتاج إلى التهور، إلى التضحية بالمال والروح والحرص على المال والروح، إلى الاعتماد على النفس والتوكل على الله، إلى الزهد في كل شيء، والشكر على كل طيب، إلى حب الحياة وحب الموت! وانتظر حتى نفذت كلماته إلى أعماقنا، وراح يقول: وقد ألفتم الطاعة فيما مضى، وما زلتم مطالَبين بها هنا فيما أنقل إليكم من أوامر. ولكنكم مطالَبون بالإبداع فيما عدا ذلك. لا راحة ولا كسل ولا رجوع إليَّ إلا فيما أبلغت من أوامر صريحة، وقد تمرستم بكافَّة الأساليب، ولكم أن تضيفوا إليها ما تقتنعون بصوابه، ومصيركم رَهنٌ بفطنتكم. ولأول مرة أشعر بأن المهمة أشقُّ مما تصورت؛ فإذا به يقول: وما العاقبة؟ .. قد تكون الشرطة والعياذ بالله، أو ميتة بطولية، أو الترقي إلى مكتب الرياسة! ولم أتمالك أن رفعت إصبعي؛ فأذِن لي بالكلام، فقلت: تصورت أنني كلما اقتربت من الرياسة أن تجب الطاعة أكثر، ويقل الاعتماد على النفس. فقال بثقة: تصوُّر خاطئ؛ فرئيسنا حُر، وما كانت ثورته إلا من أجل الحرية. فتماديت في السؤال قائلًا: لمَ لا يسمح لنا القائد لنستمد منه الشجاعة والقوة؟ فأجاب: لا سبيل إلى ذلك إلا بالعمل إلى ذلك؛ فهو يتابع العمل بكل يقظة. فتماديت أكثر قائلًا: رغم ذلك؛ فقد ترك «ب» لجلَّاديه يقتلونه! فرَنَا إليَّ طويلًا حتى عصرني الندم، ثم قال بصوت مهموس: لا أحد يملك أن يقطع برأي في مصير زميلنا العزيز … وتبادلنا نظرات هاتفة جياشة، ولكنه قال بعجَلة وحزم: آن لنا أن نرفع الجلسة التي ما قصدت بها إلا التعارف، وإلى اللقاء! وتعاقبت الاجتماعات، وتتابعت الأوامر، وكثرت الاجتهادات، وأنجزنا أعمالًا كبارًا، حتى لاح النصرُ في الأفق مثل إشراقة الفجر. وسقط كثيرون متلفِّعين بالبطولة، فزادنا ذلك استبسالًا وإصرارًا، وجعل رئيسنا «ج» يقول لنا كلما اجتمعنا: حقًّا إنكم لرجال! أو يقول: سيرحل الشر عما قليل؛ فقد يئس من الأرض. وكان ذا حلم يشجِّع على المناقشة، فقلت له ذات مرة: أما آن لي أن ألقى الرئيس؟ فقطَّب في غير غضب، وسألني في عتاب: أيداخلك شك في عدالة تقديري؟ فقلت بسرعة وصدق: معاذ الله يا سيدي. – ألا يكفيك ما أنت في شغل به؟ فقلت بتوسل: أصبحت يا سيدي وكأنني من مجانين العشق. فضحك ضحكة خفيفة، وقال: مَن يدري؟ لعلك رأيته وأنت لا تدري. فرمقته بذهول غير مصدق، فقال: إنه — على مدى علمي — لا يعيش في برج عاجي، ولكنه يمارس حياته بين الناس، وربما غَشِي الأماكن التي تجوبها للعمل أو الراحة. فقلت منكرًا: لو لمحته للفت نظري بقوة شخصيته. فقال باسمًا: ما أكثر الأشياء الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسنا في الأمور العابرة! ردَّدت قوله على مسمع قلبي طويلًا، وكِدت أُشغل به عن كل شيء، لولا نداء العمل الذي لا يكف عن الصراخ. ••• وتواصل النجاح واقترب الشروق، حتى انفجر رأي لم يقنع بكافة الإنجازات التي تمَّت، وتلهَّف على النصر النهائي. من أي أسرة انبثق ذلك الرأي؟ أم هل انبثق في الأُسر الثلاث في وقت واحد؟ بدأ بدعوة إلى عقد مؤتمر عام تحت الإشراف المباشر للرئيس الأعلى؛ لإعادة النظر في الخطة من أولها إلى آخرها. ولما لم تلقَ الدعوة القبول وقع ما يمكن اعتباره التمردَ الأول في الجماعة؛ فقد اجتمع ممثلون عن الأسر، وتسابقوا في عرض تصوراتهم الجديدة. واحتدم النقاش حتى انتهى بكل فريق إلى التحيز إلى أسرته، وإيثار أسلوبها على جميع الأساليب والمناداة العامة بالانضواء تحت لوائها. وزلَّت القدم زلة أخرى فراح كل فريق يسخر من أساليب الفرق الأخرى. وارتفعت موجة الغضب إلى تبادل السباب والشتائم، ثم انزلقوا إلى الاشتباك بالأيدي والأرجل، وتمزقت الوحدة، وانعزل الناس الطيبون وهم يذرفون الدمع، متوقِّعين أن تنقضَّ الشرطة في الوقت المناسب، فتقوض البناء من أساسه. ولم أصدق ما أرى وما أسمع، وقطَّع الأسى قلبي، وهُرِعت إلى رب أسرتي، وقلت له: ما حدث لا يُصدق. فقال بحزن: هذه الأمور تحدث. فتساءلت بحسرة: أبعد مشارفة النصر نقع في اليأس؟ فهتف بحدة: لا تلمس اليأس بلسانك! – أما يزال لديك أمل؟ فقال بنبرة قوية واضحة: انتظر، كلا، لا تنتظر. اندفع بلا تردد لصنع ما هو صادق وطيب، ما هو إلا امتحان؛ وككل امتحان، فالأجوبة الصحيحة معروفة من قبل. وتلقيت كلماته كما يتلقَّى الظمآن قطرة من الماء العذب.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/2/
مَمرُّ البُستان
بعد تردد طويل أجمعت على الذهاب. نشدت الستر في الليل، وغُصت في عطفة السنبلة المستكنَّة تحت أمواج الظلام. عرفت طريقي بضوء الذاكرة الخفي، هاتِك الظلمة ومرشِد القدم. وتسللت من الباب الحديدي الموارب، ففغمتني رائحة بخور أليفة. ومن حسن الحظ أنني لم أجد في الدار أحدًا من الزوار، فطالعتني وحدها متربِّعة على أريكتها الفارسية، في ثوب مُزخرف بألوان شتى هادئة على هيئة أَهِلة وزهور، مرسوم بحنايا جسم مدمج فصيح، وجفنين شبه مُسدَلين، على أنامل تعبث بأوراق اللعب، لا تمل في وحدتها من استطلاع الغيب. لم ترفع عينيها نحوي، كأنما عرفَت القادم من وقع خُطاه، وكأنما تعمدت تجاهله. ولفرط شعوري بالإثم لم أجرؤ على مبادءتها بالتحية، فجلست على أقرب كرسي إليها لائذًا بالصمت. واصلتْ قراءة الورق، ومضيتُ أفكر في طريقة لفتح الحديث بعد أن تبخر من رأسي ما كنت أعددته تأثرًا بجو الحجرة المفعم بالذكريات، وبفتنة الإغراء الماثلة في تراخٍ. وتظاهرت بالاهتمام كأنما كاشفها الورق بحقيقة غير عادية، فهمست: فِعْل آخر يناطح عناده! وندت عنها آهة مليحة، وتمتمت تُكمل الرؤيا: سيلهب ظهرَه سوطٌ مُحملة أطرافه بالرصاص! فقلت في تسليم مجيبًا على تعريضها بي: ما مضى قد مضى، وعليَّ أن أنظر إلى الغد. وكأنها بوغتَت بوجودي، فنظرت نحوي بدهشة وهتفت ساخرة: دستور يا أسيادي! فوضعت مظروفًا متوسطًا بين يديها، وقلت: جئت لأسدد ديوني، وأنظر إلى الغد. فقالت تُخاطب الورق: جاء ليسدِّد ديونه وينظر إلى الغد. فقلت برجاء: يجمعنا العيش والملح، وأنتِ سيدة العارفين! فقالت بجدية لأول مرة: هذه أمور تقع كل يوم. فقلت بحرارة: لم يعد الزمن يأذن إلا بمطلب واحد. فأجابت بهدوء: الأمان. فقلت متشجعًا: الأمان، وكلما شاورت في الأمر صاحبًا أشار إلى رجل واحد! فقالت باسمةً: إنه مَن يشار إليه في هذه الأيام. فقلت بأسًى: ولم أجد مَن أستشفع به إليه؛ لِما عُرف عنه من كراهية للوساطة، ولكنهم قالوا لي إنَّ كلمتكِ أنتِ لا يمكن أن تخيب عند أي عظيم. فقالت في مباهاة: هذا حق لو أنه كان من أصحابي. فتنهَّدتْ، ولم أدرِ ما أقول، فقالت في ملاطفة: اعرف طريقك بنفسك. فندت عني ضحكة ساخرة، وقلت: ها أنتِ تهزلين! لو يجيء مرة واحدة لملكته كالآخرين، ولكن أغلب رواد حانة القمر من أصحابي إلا هو. فقلت في حسرة: آهٍ لو تقع هذه المعجزة! وتبادلنا النظر مليًّا. وفاضت عيناها بحيوية طارئة، وضحكتْ، ثم سألتني: ما رأيك؟ فرمقتها بنظرة متسائلة، فقالت: أن تقوم أنت بالمهمة. – أي مهمة؟ – المجيء به إلى هنا. – ولكن كيف؟ فقالت بجدية: إنه يغادر حانة القمر عند منتصف الليل، ثم يخترق ممر البستان إلى الميدان حيث تنتظره سيارته؛ فالممر هو أنسب مكان للقائه. – ولكنه أبعد ما يكون عن معرفتي! فأغرقتْ في الضحك، وقالت: تقترب منه بأدب أولاد الناس الطيبين، وتقول هامسًا: «أتريد كأسًا جميلًا؟ بيت نظيف مكنون!» فقطبتُ غاضبًا من سخريتها، وأشَحْت عنها بوجهي، فسألتني: ألا يعجبك اقتراحي؟ فقلت بحدة: اسخري ما شئتِ من ورطتي! فقالت بجدية: إني جادة، إن كان الأمان يهمك حقًّا. فصحتُ متسخطًا: كيف تتصورين أن أفعل بنفسي ذلك؟! – ما هي إلا مغامرة عابرة يعقبها تحقيق المراد. فتساءلتُ بازدراء: أليس لديكِ الكثيرون ممن يحترفون ذلك؟ فقالت بإباء: لست في حاجة إلى أحدٍ منهم. – وهل أكون أنا أول مَن تختارين؟! – ما هي إلا مغامرة عابرة، ألا تفهم؟ – كلَّا، لا أفهم. – بل عليك أن تفهم، ولا بأس أن تختار موضعًا في الممر بعيدًا عن نور المصباح لتتشجع بالظلام. – وكرامتي؟ – إني لا أدعوك إلى الاحتراف، ما هي إلا حيلة لمرة واحدة، ولك أن ترفضها إن يكن لديك سبيل آخر. لدى عودتي لم أرَها ما أمامي من شدة انفعالي. لم يداخلني شك في قوة سيطرة المرأة على الرجال، ولكني رفضت السقوط بتصميم غاضب شرس، حتى خُيل إليَّ أني لم أعد أكترث للأمان، مرفأ الإنسان الأخير وهو على الحافة. وكأنما هان عليَّ أن ألقى غول الغلاء وشظف العيش والمهانة والفترة الحرجة من العمر، واشتعلت في رأسي حرب بلا هوادة ولا توقُّف، ورحت أجوب المقاهي والحانات في ليلٍ لا يريد أن يتزحزح. وقُبيل منتصف الليل بقليل وجدتني واقفًا في ممر البستان عند أقصى موقع عن نور المصباح. ماذا جاء بي؟ لعلي أردت أن أُلقي نظرة من قُرْب على ذلك الرجل الذي لم أرَ إلا صورته في الصحف في بعض المناسبات. وكأنه كان يتحرك بانضباط فلكي؛ فعند منتصف الليل تمامًا أهلَّ من ناحية حانة القمر بقامته المديدة يمزق السكون بوَقْع خطاه الثقيلة. خفق قلبي وتهاويتُ من عليائي. ولما حاذاني في مسيره تقدمت منه خطوة، وسرعان ما تشتت عقلي في مخاوف شتى، فكدتُ أرى الأصابع تشير إليَّ. عند ذلك امَّحت ذاكرتي وشلَّ لساني. وانتبه هو إليَّ فضرب بشبا عصاه الأرض محتجًّا على اقترابي المفاجئ، فتراجعت ومضى في سبيله. ولم يدم ذلك طويلًا؛ ففي أثناء النهار لم أُعفِ نفسي من اتهام. لماذا ذهبت إلى ممر البستان؟ لِمَ اقتربت من الرجل خطوة؟ وهل منعني حقًّا من الكلام إلا تشتت عقلي ووقوعه فريسة للمخاوف؟ الحقيقة أنني أخاف الناس. هم الأشباح التي تطاردني. تُرى هل ينفعوني غدًا لو قاسيت شظف العيش والهوان؟! وانسقت بقوة إلى مطاردة الأشياء الغريبة عن ذاتي، ولم أُبالِ أن أتخذ موقفي في ممر البستان قبيل منتصف الليل. وانتظرت في تصميم وحيرة معًا حتى أقبل الرجل نحوي في طريقه إلى الميدان، واقتربت منه وأنا أهمس: لديَّ كأس ونديم جميل وبيت آمن! والتفت نحوي التفاتةٌ سريعة. كان الظلام يفصل بيننا، ولكنه أحاط ولا شك بهيئتي. وسرعان ما أشاح عني بوجهه، وقال وهو يمضي بنبرة غاضبة: عليك اللعنة. احترقتُ حياءً وخِزيًا فلم يغمض لي جفن. لقد بعتُ أعز ما أملك بلا ثمن. رضيت بالهوان ولكنه أعرض عني بكل ازدراء. ومع الليل ذهبت إلى عطفة السنبلة، وما إن رأتني مقبلًا على مجلسها حتى هتفت: الخيبة مسطورة على وجهك! فقلت وأنا أنحط فوق الكرسي يائسًا: لنبحث عن وسيلة أخرى. وحكيت لها ما حصل، فقهقهتْ ساخرة، وقالت: يا لكَ من بغل! تتعرض لجنابه بهذا المظهر الوقور الأنيق؟! فسألتها حانقًا: وماذا كان بوسعي أن أفعل؟ فاسترسلتْ في الضحك، ثم قالت: لعله ظنك شخصًا من خصومه يروم الإيقاع به. – على أي حال، فإن ذلك يؤكد وجوب البحث عن سبيل آخر. فقالت بجدية: لا سبيل لك غير ذلك؛ فلتصحح التجربة. فتفرست في وجهها الجميل غير مصدق، فقالت: البس الرداء المناسب لغايتك. رجعت غاضبًا عليها، وغاضبًا على نفسي، غاضبًا على رغبتي المُلحَّة في الأمان. ومضت أيام وأنا مستغرق في حوار مجنون مع ذاتي، حتى وجدتني مرتديًا جلبابًا وطاقية وحذاءً باليًا، أنتظر في ذات الموقع بممر البستان قبيل منتصف الليل. ومن شدة إحساسي بالهوان هان عليَّ فلم أعد أُبالي به. ولما أزفت الساعة أقبل بقامته المديدة، فتوثبت للعمل حتى حاذاني، فدنوت منه وأنا أقول: عندي ما يسر العين وتشتهيه النفس. فلوَّح بعصاه حتى تقهقرت مذعورًا، وقال بامتعاض وسخرية: ماذا قلت يا صاحب السمو؟! ورجعت إلى داري وأنا أُلملم نفسي المبعثرة، وأغوص في أعماق خيبة جامعة. وتضاعف سخطي ولكن تضاعف تصميمي أيضًا. وذهبت إلى السيدة وقصصت عليها قصتي متحديًا، غير أنها هزت رأسها في أسف وقالت: حقًّا إنك لبغل، وفي حاجة إلى مَن يسندك لدى كل خطوة تخطوها. فقلت ثائرًا: اقتربت منه لا فرق بيني وبين أحقر صعلوك. فتساءلت ساخرة: وصوتك؟ – صوتي؟ – خاطبته يا حضرة بالصوت الذي اعتدت أن تخاطب به مرءوسيك؟! فقلت بارتياب: لا أظن. فقاطعتني: لا تُبدد الوقت، إني خبيرة بهذه الشئون! وغبتُ أيامًا قضيتها في التفكير والحزن والتدريب دون أدنى تفكير في التراجع. وكيف أتراجع بعد أن بعت كل شيء بلا ثمن؟ ولما رجعت إلى موقعي بممر البستان كان الصبر قد أنهكني، وكذلك القلق والأسى. ولما حانت اللحظة المرتقبة تقدمت بخفَّة وحنيت رأسي بذل، وقلت بانكسار ولكن بمرارة لم أستطع التخلص منها: عندي شيء طيب، في مكان محترم وآمن. فمضى دون اكتراث بي. ولما هممت بإسماعه صوتي من جديد نهرني قائلًا: الأجدر أن تدعو الناس إلى المآتم! وسرعان ما فطنتُ إلى زلتي، بل الحق أنني حنقت على نفسي لغلبة المرارة على صوتي، واعترفت بكل شيء للسيدة لأتقي سخريتها، وقلت بتسليم: لن أعود إلى المحاولة. فتساءلت في استنكار: أتيئَس بعد أن لم يبقَ إلا قيراط من الصبر؟ فنفخت قائلًا: لا نهاية للأخطاء، وقد مللت! فقالت لي بنبرة مشجعة متجنبة أي إثارة من السخرية: فكِّر قليلًا يا صاحبي القديم، كيف يمكن أن تستسلم لليأس وأنت على قيد خطوة من النجاح؟ إنك متوهم أنك صبرت بما فيه الكفاية، ولكن ما قيمة الصبر بغير الرضا؟ وقد أبديت إصرارًا لا بأس به؛ إذ من كان يتصور أنك تُقدم على ما أقدمت عليه؟ ولا تنسَ في النهاية أنك تسعى إلى اصطياد رجل ولا كل الرجال. فقلت بريبة: يخيَّل إليَّ أنه ليس من أهل ذلك؟ فقالت ضاحكة: بل هو ذلك نفسه! ثم مواصلةً بجدية: ولولا ثقتي من ذلك ما عرَّضتك للتجربة، وأنا لست ممن يخونون العيش والملح. وتركتها بروح منتعشة، وتفتَّح الورد في صدري من جديد، فصبرت أيامًا ولا هَم لي في الحياة إلا ممر البستان، حتى وجدتني في الموقع أنتظر. ورأيته مقبلًا بقامته المديدة، فالتزمت موقفي حتى مرَّ .. ثم تبعته بخشوع وأنا أهمس: لا تدَعْ فرصة العمر تفوتك! فلم يلتفت نحوي ومضى. فتبعته بعِناد وأنا أهمس: بيت آمن ويليق بجنابك. وإذا به يسألني فجأة: أين؟ فقلت بسرور لم أجرِّبه من قبل في حياتي كلها: عطفة السنبلة، البيت الثالث إلى يمين الداخل. وكنا اقتربنا من الميدان فنادى سائق سيارته، ولما جاء مهرولًا، صاح به آمرًا: اقبض على هذا الرجل ونادِ الشرطي! فوضعت راحتي على فم السائق باستماتة، وقلت وأنا أنتفض كالمصعوق: كلَّا .. انتظر .. لست منهم .. أنا رجل محترم. فأمره بإشارة أن يدعني وشأني، وتساءل متهكمًا: محترم؟ فقلت وما زلت أنتفض كالمصعوق: إليك بطاقتي. وتناولها وراح ينظر فيها ثم تساءل: كأنك محتال. فاندفعت أقص عليه قصتي بصراحة كاملة، مذ اجتاحني نشدان الأمان، فأزاح بقية مطالب الحياة عن كاهلي. وصمت مليًّا وهو يتفحصني على ضوء الشعاع الهابط من مصباح في الميدان، ثم قال ببرود: إياك أن تريني وجهك مرة أخرى! ••• وعقب أيام لم أحصِها جررت قدمي إلى عطفة السنبلة، وكأنما قد طعنت في العمر أعوامًا مديدة. ولما شارفت مدخل الدار برزت من تلافيف الظلام عجوز، واعترضت سبيلي قائلة بصوتها الهرم: السيدة معتكفة. فعرفت صاحبة الصوت وتساءلت: ماذا وراءك يا أم بركة؟ فعرفت بدورها صوتي، وقالت: السيدة تُطالبك بتجنب الزيارة حتى تُرسل في طلبك. فخفق قلبي وتساءلت: هل تنتظر السيدة زائرًا مهمًّا؟ فقالت أم بركة: لا عِلْم لي بشيء، اذهب مصحوبًا بالسلامة. ولم أجد مفرًّا من الرجوع. وتكشفت لي سُحب الغموض عن أمل. ما كانت تتخذ هذا القرار لو لم تكن تنتظر زيارة هامة. وما معنى قولها «حتى تُرسل في طلبك» لو لم يكن للأمر علاقة بمشكلتي؟ أسفر الظلام عن أمل، وخفق قلبي بالرؤى، ولاح لي الأمان بوجهه المشرق وراء غبش الظلام. لم يبقَ إلا التحلي بالصبر. وها هو التلهُّف يحيل الصبر عذابًا حقيقيًّا. ومرت الأيام، وعذاب الصبر يتفجر ويزداد افتراسًا. همي الوحيد هو الانتظار، وتساؤلي المتردد هو: متى يجيء الرسول؟!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/3/
البُستاني
كان وما زال حلمي الوردي أن أستقر بعد المعاش في بيت ذي حديقة صغيرة، وأن أُكرس بقية العمر لفِلاحة الأزهار والبساتين. ومن أجل تحقيق هذا الحلم رسمت لنفسي خطة طويلة الأمد؛ أن أبذل في عملي أقصى ما أملك من جهد؛ كي أرقى في سُلمه إلى درجة تضمن لي معاشًا محترمًا، وأن أسيطر على سلوكي ونظام معيشتي؛ كي أدخر من مرتبي ما ييسر لي بناء البيت المنشود بعد انضمامي إلى إحدى الجمعيات التعاونية، وأن أدرس دراسة متأنية فِلاحة الأزهار والبساتين. ولو أن الخطة نُفذت في كتمان وحكمة ما تعرضت لقيل أو قال، ولكنني كنت وما زلت من الآدميين الذين لا يخفون أسرار أحلامهم، فعرف جميع الصحاب حلمي الوردي وما أُعد له، وعلم به آخرون، حتى عُرِفت على مر الأيام، وعلى سبيل المزاح، بالبستاني. وجرت المقادير في مجاريها غير عابئة بحلمي الأثير، فتعرض العالَم لويلات من الحروب والأزمات، فمضت الأسعار في ارتفاع، وقِيَم النقود في الهبوط، ولم تتحقق وفرة بلا حساب إلا فيما أنتجت من بنين وبنات. والأدهى من ذلك كله أني لم أحظَ برئيس ينتفع بمواهبي، فيرشحني لدى حلول الفرصة للترقية. وكنت أقول بصوتٍ باتَت الشكوى سمة غالبة على نبرته: يا سادة، ألا يلقَى عملي المتواصل عندكم شيئًا من الجزاء؟ ولما لا أجد أُذنًا صاغية أقول: وإذا عزَّ العدل أفلا يوجد شيء من الرحمة؟ فيقول لي رئيسي: انتبه لواقعك يا بستاني، أين الإنتاج الذي تحدِّث عنه؟ ما أنت إلا مستخدَم عادي دون المستوى المطلوب. فأقول مستميتًا في الدفاع: ولكني مجتهد، ولكل مجتهد نصيب. فيضحك قائلًا: لم يعد العصر يحفل بالأمثال القديمة، اليوم نحن نربط الحوافز بالإنتاج. وجعلت أغوص في الحيرة والظلام. أقلعت عن ذكر حلمي الوردي، ولكنه ظل فرجتي وحلم يقظتي. وكلما لمحت لونًا أخضر تراءت لخيالي الحديقة، فتنقلت بين ورودها وأزهارها، مُلقيًا خبرتي في خدمتها، متلقيًا منها مسرات الأريج والألوان. غير أن زوجتي لم يكن يشغلها إلا مستحقَّات البقَّال والجزَّار والدروس الخصوصية، ولا تكف عن تذكيري. وعانيت أمر تحمُّل الأعباء ومرارة الإخفاق، حتى رقَّ لي رفقاء الطريق من زملائي الخائبين، فهمس في أذني أحدهم: كيف تحتمل الحياة بلا ابتسامة؟ فسألته: خبرني كيف يروق لك الابتسام؟ فهمس بإغراء: عليك بخمارة «خذ واشكر». كان في غاية الوقار والتعاسة، فعجبت لشأنه، وقلت بفتور: كيف تدعوني إلى مزيد من الإنفاق؟! فضحك قائلًا: معاذ الله! هل يعزُّ عليك ادخار قرش واحد، ولو بالرجوع مشيًا على الأقدام مرة؟ تكلَّمَ بثقة ويقين، فقلت أجرب، وهكذا اهتديت إلى خمارة «خذ واشكر»، في عطفتها الأثرية «زاوية العابدين» بالباب الأخضر. وهي أشبه بمغارة في جوف جبل، تعيش في ليل دائم يغوص في عمق المبنى الضيق المُهلهل التي تقع في أسفله، يفضي إليها باب مقوَّس الهامة ولا نافذة فيها، ذات شكل بيضاوي، وفي نهاية عمقها يقوم برميل ضخم ذو صنبور سفلي، يجلس إلى جانبه على أريكة عجوز يُدعى عبد البر، وتصطفُّ على جناحيها أخْوِنَة خشبية ومقاعد من القش المجدول. ويُقدَّم الشراب في كوب صغير مضلع لا يملأ عين الظامئ، وهو شراب مجهول الهوية لا يَعرف كنهه حتى الراسخون في السُّكْر والعربدة. وسرعان ما تبين لي أن قلة من رواد الخمارة من يستطيعون تجرُّعَ الكوب حتى ثمالته، وكثرة تقنع بنصفه لشدَّة مفعوله، وبقاء أثره حتى الفجر. وما كدتُ أرشف منه رشفات، حتى أكرمني غاية الكرم، فاغتال بنفثاته الزاحفة وُحوشَ الهموم التي تطاردني ليل نهار، وأحل محلها الأُنس والرضا والبشاشة. ووجدتني وسط الحديقة أغرس جذورًا جديدة، وأقطف أزهارًا يانعة. ومال صاحبي نحوي قائلًا: هلم نناقش همومنا الملحَّة. فقلت محتجًّا: أريد الحديث عن الورود وأنواعها. فقال ضاحكًا: ها قد وصلت إلى الحديقة. فسألته: ألا تسمع تغريد البلابل؟ واندفعنا نُغني معًا: وكانت تقاليد الخمارة ترحب بالغناء. ومن كلِّ ركن ترامت أغنية مشرقة، وجلس عبد البر، بلا حراك وهو يبتسم. ••• وحرصت على كتمان السر ما وسِعَني ذلك، غير أن الخمر ذات رائحة ناطقة من المتعذر إخفاؤها إلى الأبد، من أجل ذلك افتُضح أمري، وتلقيت فيضًا من اللوم والتعنيف، وكانت زوجتي أول البادئين، فقالت لي: أكان ينقصنا هذا الداء؟ فقلت لها بصدق: إني أؤدي ثمنه مشيًا على الأقدام، ولم يمس الميزانية بسوء. فتساءلتْ: والأولاد الذين يكبرون يومًا بعد يوم؟ فقلت بضيق: ربنا يستر. ولكن السر انتشر في أماكن كثيرة، تعدى من لسان إلى لسان، فدعاني بالكاساتي مَن سبق أن أطلقوا عليَّ البستاني. وتجلى أثر ذلك في موسم الترقيات، فقال لي رئيسي متهكمًا: كنت ذا هم واحد فأصبحت ذا همين. فقلت محتدًّا: يا أهل العدل والإنصاف، احكموا على عملي، ولا شأن لكم بسلوكي خارج الديوان. فقال الرجل بامتعاض: ولكن الثقة لا تُفرق بين هذا وذاك. فقلت محتدًّا أكثر: المسألة أنني بلا شفيع! ••• واستجاب القدر لشكاتي الخفية فجاد عليَّ بالشفيع المنشود. كنت في خمارة «خذ واشكر» على أحسن حال. وحكيت لصاحبي حالي بيني وبين رئيسي، وأنا مغمض العينين فقال لي: سيكون لك الشفيع الذي تريد. فالتفتُّ إليه متسائلًا، ولكنه كان قد اختفى تمامًا، وحل محله آخر لم أرَه من قبل. كان يرتدي عباءة من كتان أبيض ذات ذيل من جلد النمر وعلى رأسه عمامة خضراء. عجبت بهيئة وجهه التي تُذكِّر بوجه الأسد، رغم ميل جسده إلى القِصَر. وسألته بدهشة: من أنت؟ .. وأين جليسي؟ فأجاب بهدوء مُفعَم بالثقة: إني شفيعك. ولم يداخلني شك في صدقه أو قدرته، وتلقَّيت ذلك فيما يشبه الإلهام الذي لا يُناقَش. من أجل ذلك قمت وأنا أقول: خير البر عاجله. واصطحبته إلى بيت رئيسي في الزيتون، في تلك الساعة المتأخرة من الليل. وطرقت الباب بشجاعة لا أدري من أين مأتاها، ففتح الباب بنفسه، ونظر إليَّ بذهول واستياء لم يحاول إخفاءه. وجلس قبالتنا في حجرة الاستقبال متجهم الوجه، فقلت: معذرة عن زيارة في وقت غير مناسب. فقال دون مجاملة: هذه الساعة من الليل! فأومأت إلى رفيقي وقلت: أقدم لسيادتك شفيعي. فلم يحول بصره عني، وقرأت في ناظريه توجسًا وقلقًا، فالتفتُّ إلى صاحبي، وقلت برجاء: تكلم يا سيدي. فقال الشفيع بهدوئه المكين: إنه يستحق الترقية لدرجة جديدة في طريقه الطويل! فنظرت إلى رئيسي، وهو غائص في روبه البني القاتم، فإذا به يتمادى في القلق والخوف. وأشفقت من إحراجه فنهضت قائمًا، وأنا أقول: موعدنا الغد يا سيادة الرئيس. ••• وجاءت ثمرة الشفاعة بعكس ما قدَّرت؛ فقد تقرر إحالتي على المعاش قبل بلوغي السن القانونية بخمسة أعوام. ولم تُجْدِ الشكاوى المتلاحقة التي رفعتها إلى الجهات المختصَّة. وساء مركزي في أسرتي وفي الأماكن الأخرى. وكاد بناء أسرتي أن ينهار لولا سعيُ أهل الخير لإلحاقي بأعمال إضافية، فعملت مُصححًا بمطبعة السعادة، وكاتبًا على الآلة الكاتبة بالقطعة في مكتب توكيل. وبات حلم امتلاك البيت والحديقة خرافة، ولكني لم أكفَّ عن ممارسة أحلام اليقظة في خمارة «خذ واشكر». وجعلت أقول لصاحبي: كأنما جاء الشفيع ليخرب بيتي. فقال الرجل: ولكن حالتك اليوم أحسن مما كانت، وأنت في الخدمة. فقلت متشكِّيًا: ولكني أعمل كالثور في الساقية. فقال باسمًا: الصبر مفتاح الفرج. فقلت بحنَق: وددت لو يجيء مرة أخرى لأسأله. فقال ساخرًا: خلِّها على الله، بلا مناقشة ولا وجع دماغ. ••• وبلغتْ دراستي لفِلاحة الأزهار والبساتين غاية يُعتدُّ بها، فسنحت لي فكرة مثيرة، وهي أن أستثمر معلوماتي متطوعًا بلا أجر. ألا يجعل ذلك من الحلم حقيقة؟ ومن المستحيل ممكنًا؟ إن الحدائق الخاصة في حيِّنا متوفرة بكثرة تفوق الحصر، وإذا عَرضت على أصحابها خدماتي؛ فلن يرفضوها ولو على سبيل مجاملة الجار. بذلك لا يُهدر عنائي الطويل المتواصل، ولا يتلاشى سروري في الحياة. وها أنا أمضي البقية الباقية من حياتي في الخضرة بين الأزهار دون حاجة إلى تدبير أو شراء أو بناء، وكأنني أملك بدَل الحديقة الواحدة عشرًا. هكذا حققت حلمي متجاوزًا كافة عقبات الطريق.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/4/
النسيان
اشتعل خيالي فانفجرت موجاته في جميع الأرجاء، ولكنه لم يلمَّ بالمدينة اللانهائية. إنها تربض في أي مجال من مجالات البصر، كائنًا عملاقًا بلا حدود ولا تناسق، ملوِّحة بآلاف الأذرع والسواعد والأصابع، تستوي فوقها آلاف مؤلَّفة من الأبنية الشاهقة المجللة بطابع العصر المتعجرف التيَّاه، وأخرى متهرِّئة حال لونها في قبضة الزمن الجارف، وثالثة آيلة للسقوط يلتصق بها سُكَّانها في استسلام وإصرار، وفي فِجاجها يتلاطم الناس في صخب، ويتلاقون في غفلة وضوضاء، وتتابع الباصات والسيارات والكارو والجِمال وعربات اليد عازفة أصواتها المتضاربة. والحوادث كثيرة، والأفراح صارخة، والجنازات زاعقة، والمشاجرات دامية، والعناق حارٌّ، وحناجر تنادي على سِلَع من الشرق والغرب والجنوب والشمال، ويختلط الأنين الشاكي بشهقة الحمد والرضا. مأوى المهاجرين من الكفر مثل طوق نجاة في البحر العاصف. يستقبلني شيخ القبيلة المهاجرة قائلًا: ابن جديد، أهلًا بك في أسرتك. فألثم يده وأقول: شكرًا لك يا عمِّي. ووجدت مقعدي في المعهد ينتظر أيضًا. وكنت عند حسن الظن فتُوِّجتِ الرحلة بالنجاح، وأُلحقتُ بالعمل في مصلحة المساحة، وأنا أقول «مَن جَدَّ وَجَدَ». ومن العمل تسللت إلى المقاهي والأصحاب، ولكن بحذر المتقشِّفين. وراودتني أحلام القلوب الصائمة. وفي مأوانا ورود متفتِّحة. ودارت العجلة بالأصباح والأصائل والأماسي. وحدث شيء مألوف؛ حلم عابر يُذكر أو يُغفل، ولكن يبدو أنه ومض في عيني ومضة لم تغب عن بصَر شيخنا الثاقب، فقال لي وهو متربِّع على أريكته يناجي حبات مِسبحته: في نفسك شيء يدور. فقلت باسمًا: جاءني في المنام شخص، وحذرني من النسيان. فتفكر مليًّا ثم قال باسمًا أيضًا: إنه يذكِّرك بالشباب! وفطنت إلى ما يلمح إليه. وفي مهجرنا لا تَحول الصعاب بين المرء وبين ما يشتهي قلبُه. قبيلة متآخية متراحمة. والحجرة تتَّسع لزوجين بمثل ما تتسع لفرد. والعروس جاهزة منتظرة، وثمة تسهيلات جمة ومساعدات ميسرة. ويقول الشيخ: لنلتزم بالسُّنة الشريفة، وعلى بركة الله. وتُطلى الحجرة، وتؤثَّث بالجديد المناسب، وتستقبل عروسَين في تلك المدينة الهائلة التي لا تبالي بأحد. والحياة في مهجرنا تقوم على التضامن، وتتفتَّق عن حِيَل كثيرة للتغلُّب على عسرة الأيام. وأقول لنفسي وأنا في غاية السعادة: طريقنا عبَّدَته أقدام أسلافٍ كرام. وانهمكت في الحب والزواج والأبوة والعمل. وجعلت أقول للشيخ: الفضل لله ولك. فيقول بامتنان: بيتُنا مثل سفينة نوح في هذا الطوفان الذي يحدِّق بنا. فقلت له: عمي، الناس تحسدنا وتغبطنا. – ويزداد ذلك كلما أمعنَّا في الزمن. وانتبهت ذات ليلة على الحُلم يعود من جديد. ويحذرني ذلك الرجل من النسيان. رأيته كما رأيته في المرة الأولى أو هكذا خُيِّل إليَّ؛ الرجل هو الرجل، والكلام هو الكلام. واستمع الشيخ إليَّ باهتمام ثم قال: عوَّدتنا أن تحلم بهواجسك. فقلت: قلبي مطمئنٌّ وخالٍ من الهواجس. – حقًّا؟! ألا تفكر في مستقبل أسرتك؟ فقلت كالمحتج: سعيد في هذا الزمان من يستعدُّ ليومه. – وماذا تفعل غدًا إذا ألحَّت عليك المطالب؟ فلُذْت بالصمت في كآبة، فقال: افعل كما يفعل كثيرون، استعِنْ بعمل إضافي. ويسَّر لي بنفوذه التدريب في مركز سباكة. وبرعت في ذلك براعة محمودة، ورحت أستثمر خبرتي الجديدة مساءً بعد فراغي من عملي الرسمي، وتوفَّرت أرباحي فتراكمت مدَّخراتي. وتابَع الشيخ نجاحي بارتياح وهو يقول: هذا خير من الانحراف، وزماننا يطالبنا بأن نكون كالقطط بسبعة أرواح. ودبَّ في أوصالي نشاط باهر، وانتشيت بحب الحياة، وتغافلت عن فوضاها الضاربة في كل موضع؛ وأغراني ذلك باكتراء شقة غُرمت فيها خُلوًّا لا يُستهان به. وودَّعني عمِّي في شيء من الفتور وهو يقول: هكذا تجري الأمور. وآمنت بأنه لا طمأنينة لحي بغير العمل والمال، وبأن أسعد ما نناله في دنيانا مستقبَل مأمون. وحافظت على اعتدالي بقدر الإمكان، فلم يجدَّ جديد في حياتي سوى التدخين واللحوم الدسمة والحلوى الشرقية. وتخرَّج أبنائي وبناتي في مدارس اللغات، وأقبل مع الأيام كلُّ شيء حسن. وفي غمرة حياتي العذبة انتبهت ذات ليلة على الحلم يعود للمرة الثالثة، ويحذرني الرجل من النسيان كعادته. رأيته كما رأيته في المرتين السابقتين، أو هكذا خُيِّل إليَّ؛ الرجل هو الرجل، والكلام هو الكلام. وعجبت ولم أفلح في الاستخفاف به. ولم يكن الشيخ قريبًا لأحاوره. وكنت قد انقطعت عنه فترةً غير قصيرة لانهماكي في العمل، فكرهت أن أزوره زيارة غير بريئة لمنفعة. وساورني قلق تسلَّل لسلوكي، فعانت منه زوجتي، وقالت لي: خير من ربنا وشر من أنفسنا! فقلت باستهانة: ما هو إلا حلم على أي حال! فقالت مصدقة: ولا أراك تنسى شيئًا. ولكني لم أستطع التملص من قبضة الحلم العجيب. ظل يطاردني ويشغل بالي، وتحت تأثيره اندفعت من الطوار إلى الطريق لأعبره دون انتباه لحركة المرور. فجأة وبلا انتباه، وانقضَّت عليَّ سيارة من قريب، فلم تستطع أن تتحاماني أو تفرمل قبل أن تصدمني وتطيح بي كالكرة. فقدت الوعي تمامًا، حتى استيقظت في المستشفى على حال لا يُرجى معها أمل. ••• ومن منطلق العِبرة والأسى يحدِّثنا الشيخ فيقول: نُقل إلى المستشفى تُظلُّه سحابة الموت السوداء، فأُجريت له جراحة خطيرة، وثبت من التحقيق وشهادة الشهود بأنه اندفع إلى الطريق فجأة وكأنما يقصد الانتحار، وبأنْ لا مؤاخذة ألبتة على السائق. وجلست جنب فراشه وقد علمت بأنه لا أمل في نجاته، وزارنا صاحب السيارة مواسيًا ومتطوعًا لمدِّ يد المساعدة، فمكث قليلًا ثم ذهب. وتحرَّك جَفنَا ابن أخي، وتجلَّت ومضة ضعيفة في عينَيه، فأدنيت أذني من فيه، وسمعته يهمس: إنه الرجل، هو هو صاحب الحلم. وكانت آخر كلمات ندَّت عن شفتَيه.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/5/
صاحبةُ العِصْمة
يوم جاءت كان يوم بياض نهاره توارى في عتمة غاشية تحت السُّحب المتراكمة، ونسائمه جالت مثقلة بالبرودة تسفع الوجوه وترعد الأطراف، ونُذُر المطر تهيم في الفضاء. وتوجَّس الناس فحملوا السلع إلى أعماق الحوانيت، ولاذت عربات اليد بالأفنية. لم يبقَ في الحارة إلا الصغار يتحدَّون عبوس الجو بمرحهم المستهتر. جاءت في حنطور يتأوَّد فوق أديم مبلط، يشده حصان مهزول، ويسوقه حوذي عجوز نعسان، مسبوقة في اليوم السابق بأثاث فخيم بهر الأعين المتفحصة. وقف الحنطور أمام آخر بيت من ناحية القبو، فمرَقت منه إلى الداخل امرأة رشيقة محجبة، لم يكشِف نقابها المحكم عن ملمحٍ من ملامحها، وتبِعَتْها عجوز سافرة مقوَّسة الظهر من الهرَم. أذاعت صاحبة البيت بأن الدور الثاني والأخير اكترته أسرة ذات شأن ووزن، ولكن لم يتصور أحد أن تتكون من امرأة وحيدة وخادم عجوز. ولما دارت العربة بصعوبة لضيق المكان لترجع من حيث أتت، وثَبَ رجل نحو الحوذي وسأله: من أين جئت بحمولتك؟ فأجاب العجوز وهو يهز اللجام مستحثًّا حصانه على السير: من زين العابدين. ولم يُشبع الجواب نَهَم أحد، وأخذ الرذاذ يرش الأرض. وقال صوت: الخير على قدوم الواردين. فتعجب آخر: أي خير في هذا الجو العاصف! ورغم انهماك الخلق في غيابات الحياة اليومية وانغماسهم في الحساب، نفثوا مع أبخرة أفواههم الظنون وجاشت صدورهم بالأَخيِلة المحرَّمة، واستفحل الخطب بتسلُّل أنباء عن ترملها المبكر ووحدتها المثيرة وترفعها المتحدي، وما خلَّفتْه وراءها من احتدام الأهواء الجامحة. تقول مالكة البيت بفخار: أرمل الشيخ النقيب صاحب الوقف المعروف باسمه، وشرطه الأول أن يبقى استحقاقها ساريًا ما بقيت أرمل، فإذا تزوجت سقط حقها في الريع. ويطالبها صاحب الوكالة بوصفها فتقول: لمحة عابرة، ولكنها ثمرة ناضجة قُبيل منتصف العمر، ليس كمثل جمالها شيء. ويتجهم وجه المرأة الغامق مثل قشرة الدوم، وتقول محتجة: لا تُرحب بلقاء أحد، ولا أنا صاحبة البيت، أُصبح على وجه خادمتها الكركوبة أم طاهر، أما كوثر هانم … ويقاطعها أكثر من رجل: اسمها كوثر؟ – كوثر البدري كما هو مرقوم في عقد الإيجار. وأم طاهر تجول في الحارة مع تعاقُب الأيام. تطوف بالجزَّار والبقَّال والفاكهي والعطار والبنَّان وتُعرض عن المتطفلين. وسيدتها قابعة في أعماق ذاتها، لا تُغادر البيت، لا تلوح في نافذة، ولكنها غزت الأخيلة بسحرها الخبيء، وأشعلت الوجوه والأطراف بوَقْع نظرتها المتسلِّلة الخفية من وراء النوافذ المغلقة، تَرى ولا تُرى، تقيم وتزن وتحكم من جانب واحد، وهم تحت رحمة مجهولها لا عِلْم لهم بما يَروق أو يُسخِط، بما يفتح الأبواب أو يُغلقها، بما يُقرِّب أو يُبعِد. وهي وفدت إلى الحارة في وقت استقر فيه زحل في برج الحظ المائل، فأرسل نحسه ليغمر القاصي والداني. ثقلت الأرواح ففقدت خفة مرحها، وصمَّت الآذان عن سماع الغناء، وجفَّت القلوب فتلاشت خفقة الحب والحنان، ومضت الشمس تُشرِق وتَغرُب والقمر يسطَع ويأفُل، فلا يظفر بمن يدهش أو يفرح أو يتذكر، ولكن احتدم البيع والشراء وتناطح الربح والخسران، وتوالى الملء والتفريغ، وكثر الغش والحلف بالطلاق، والحج لعقد الصفقات والزواج لتأمين الدعارة، واندلاع الخصومات لأتفه الأسباب، حتى حارَ من أمره ينسون، الشاب المجهول الأب النحيل الجسم ذو قلب الطفل ووجه العذراء، ما بال أحد لا يداعبه أو يعطف عليه كالأيام الماضية؟ ما زال سقَّاء الحارة يطوف على البيوت بالقِرَب ولا يجد عند المساء من يلهو معه أو يَطرَب لصوته إذا غنَّى. وفدت إلى الحارة وهي على تلك الحال، فما فعل مجيئها إلا أن أرَّث الطمع وهيَّج الجشع وقدح زناد الهدم والتخريب. وقال مدَّعو الحكمة: إن امرأةً هذا حالها لا تُفرِّط في الوقف من أجل الشرع، ولكنها في النهاية تمهِّد فراشها للزنا لصاحب القسمة والنصيب؛ فيفوز بالحب والمال معًا. وفي الليالي الساهرة التي يحتفلون فيها بالصفقات الرابحة تنهزم جحافل الليل أمام أضواء الكلوبات، وتغصُّ الأرض بالجماهير، وتزدحم الأبواب والنوافذ بالنساء. وترتسم هامتها وراء خِصاص النافذة فتنبض العروق بالحماس، ويثمل بالنشوة السكارى والمفيقون، فيتبارون في الرقص والمصارعة والمزاح، يقدمونها قرابين تحت النافذة؛ استثارة للرغبات الكامنة وتمهيدًا للاقتحام. ويراقب شيخ الحارة ما يجري بعين تطفح بالكآبة، فيحدس قلبه المتاعب المقبلة في طيات السُّحب، ولم يجد من يحاوره إلا ينسون المستقر في رحاب الطيبة والأسى، فيقول له: لا يتذكرون قتلى أسلافهم يا ينسون. فيسأله الفتى الذي سعد بإقباله: كيف قُتلوا يا شيخنا؟ فيقول ماضغًا مرارة الذكرى: لأتفه الأسباب، يا ينسون. ومضت أيام ذاك الشتاء العاتي، دون أن تصيب شهوة مرماها، فانفجر غضب الكبرياء في القلوب المحتدمة بالضجر، وتمخَّضت ليالي الغُرَز عن مكيدة، فاختفت أم طاهر هاجرةً خدمة السيدة الوحيدة، وتعهَّدت مالكة البيت بالامتناع عن تقديم أي مساعدة للجميلة المتوارية. دبَّروا ذلك ليُجبروا المرأة على الظهور والمشي في السوق، ثم يكون بعد ذلك ما يكون. ولم تكن المكيدة مما يتفق مع تقاليد الحارة وشهامتها الموروثة، ولكنها لم تنبُ عن ذوقها الذي اكتسبته أخيرًا في دوَّامة الأعاصير الجارية، ووعدت الجميع بإشباع نهمهم ودغدغة غرائزهم، وتحقيق أخيلتهم المحمومة. ولم تشغلهم أعمالهم عن التربص بالمسكن المغلق. عما قليل ستهلُّ عليهم بقامتها الممشوقة، كاشفة عن ذاتها، ويتهادى إلى الآذان صوتها الناعم. وباقتراب اللحظة المترقبة اضطرمت المنافسة في الأعماق، وتوتَّرت العلاقات، واندلع الاستفزاز في المحاجر، فأنذر بأوخم العواقب. مَنَّى كلٌّ نفسه بها، ورأى ذاته في مرآة الوجود الأجدرَ والأحقَّ بملكيتها شرعًا أو سفاحًا. وتوثب شيخ الحارة للعمل ولكن الأحداث لم تُمهله، فنشِبت معارك وحشية، كلما سد ثغرة انفتقت ثغرة، وتعرَّت الأنفس بلا حياء. وجمع الشيخ عزيمته ومضى إلى البيت، وطرق باب الست. ومن وراء شرَّاعة الباب المواربة قال: أنا شيخ الحارة. فجاءه صوتٌ غاية في العذوبة وهو يقول: انتظرتك من أول يوم! – عظيم، ماذا ترين حلًّا لهذه الوحلة؟ فقالت بعتاب: ظننتك قادمًا بالحل! – الوحش انطلق بلا رادع، ولن يرجعه إلى قفصه إلا أن تذهبي بسلام. فقالت بأسًى: جئت هربًا من هذا الوحش! فتفكر قليلًا ثم قال: اختاري أحدهم. فقالت بازدراء: لا خيار بين هؤلاء الحُقراء. – منهم من يُعَدُّ من أغنى الأغنياء. – ليس المال ما ينقصني. – ستخرجين اليوم أو غدًا إلى حارتهم. – لم أعتَدِ الجوَلان في الطرقات. – لن يسعى إليكِ الطعام على قدمين؟ فصمتتْ مليًّا ثم قالت: يا شيخ الحارة، أرسِل إليَّ الفتى ينسون! فهتف الرجل ذاهلًا: ينسون؟! فقالت بهدوء: نعم. إنه يصلح للخدمة. – سيغرونه بهجرك كما فعلوا مع أم طاهر وصاحبة البيت! – قلبي يحدثني بخلاف ذلك. – أخاف عليه سوء العاقبة. – أرسله، ودَعِ الأمر لي. وانتبه الرجال، فإذا ينسون يعمل في خدمة السيدة الجميلة. يذهب ويجيء في طمأنينة الغافل عن النُّذُر المُحدِقة به. وتغير منظره. خطر في جلباب صوفي وطاقية بيضاء ومركوب أحمر. وفي حمَّام السلطان تجلَّى لونه الحقيقي لأول مرة. وثبت لكلِّ ذي عين أنَّ له شبابًا ورونقًا. وتفاقمت الشائعات المُغرضة عن العلاقة بينه وبين كوثر هانم. ولم تنهزم المرأة، ولكنها تحدَّت الجميع بإرادة لم تجرِ لأحد في بالٍ. استدعت المأذون في رابعة النهار، وأتت — من بين معارف أسرتها — بشاهدينِ خطيرينِ، حمل حضورهما معها فصل الخطاب، هما شيخ الأزهر ومدير الأمن العام، وقالت المرأة لشيخ الحارة: ضحيت بنصيبي في وقف النقيب قانعةً بالحب والأمان، ومدَّخَر من المال يكفي لبدء حياة جديدة. ••• وحتى اليوم أتذكر هذه الحكاية كأسطورة من أساطير الصِّبا، ولكني أتذكر أيضًا أن أبي أقسم لي مرة أنها حكاية حقيقية، وأنه عاصرها على عهد شبابه المُولِّي.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/6/
في أثَر السيدة الجميلة
ذات صباح مبكِّر دافئ صادفتها عند منعطف البرج، وليس في الطريق غيرنا سوى الكنَّاس. كنت قادمًا من المنعطف من ناحية، وهي قادمة من الناحية المقابلة وبيننا أشعة الشمس المشرقة تحبو فوق الأرض الخضراء. ألقيت نظرة عابرة فشُدَّت بقوة باهرة؛ لتستقر فوق صفحة وجه ذات مواصفات خاصة لا جدوى من وصفها. الجميلات كثيرات، ولكنَّ إحداهن تُخصُّ بميزة سرِّية يتسلَّل منها إلى قلب ما نداءٌ مبهم لا يقاوَم. قوته الحقيقية في الأمر الصادر منه، وقوته الحقيقية أيضًا في الاستجابة الحارَّة إليه التي لا تفسير لها. من أجل ذلك وقعتُ أسيرًا بلا معركة، أو من خلال معركة لم أشعر بها قط. انشرح صدري بقوة عجيبة، واستسلم قلبي بلا قيد أو شرط، كأنها غاية الدنيا وثمرتها النهائية، هي ما أريد، وما تعلو على جميع ما تَعِدُ به الدنيا من جاهٍ ومال وسعادة. ونسيت شواغلي جملة، وهموم اليوم والغد، وما كنت ماضيًا لأؤديه مما يمتُّ بصلة لأسرتي أو عملي. تلاشى كل شيء، ولم يبقَ إلا هذه الصورة العذبة المتوَّجة لجسم رشيق يمضي بها في مشية معتدلة هادفة على مبعدة أمتار، وأنا في أثرها مركِّز الوعي في حركتها اللدنة المتتابعة. وهالني وأثقل مهمتي هالة الجدِّيَّة التي تكسوها، ورصانة الخطو التي تحملها بعيدًا عن ألفة المرح وأمل القرب. تُرى ماذا أبغي؟ ولكنني أبغي شيئًا محددًا ولا أملك خطة واضحة. المسألة بكل بساطة أنني عاجز عن الانفصال عنها مهما تكن العواقب. إنه أمر خطير في الواقع. ليس لهوًا ولا عبثًا، ولكنه فقدان كامل للذات، واندفاع أهوَجُ في سبيل جديد لم يلِجْ من قبل في جدول أعمالي. ضعت بالطول والعرض، وأصبح الماضي كله في خبر كان. وبعد مسيرة دقائق مالت الفتاة — أو المرأة — إلى المستشفى، ودخلت فواصلت سيري أمتارًا ثم توقفت تحت شجرة. أتعمل في المستشفى أم تعود مريضًا؟ لم أفكر في الذهاب على أي حال، ولا في التخلي عن أن أكون ظِلًّا لها. وتذكرت في فترة الانتظار حريتي، وبأنه لا يمكن إرجاع الزمن خطوة والإفاقة من هذه السَّكرة الغامرة؟! ومن شدة شعوري بالأَسْر دعوت إرادتي أن تمدني بالرعاية الواجبة، ووردت على ذاكرتي تجربة سابقة متشابهة، ولكنها بعيدة عن التطابق. ثمة سحر كان، نفثته نظرة ساجية تحت ظلال حاجبين مقرونين وفترة جنون طال وفعل بي ما لا يُقال، ولكن التجربة الجديدة، رغم ذلك، جديدة تمامًا وغير مسبوقة بنوعها، ولا تبدو القديمة بالقياس إليها إلا «بروفة» باهتة. ومر وقت ثقيل قبل أن تُغادر المستشفى مقبلة نحو موقفي ماضية في طريقها. ولدى مرورها بي تلقيت نظرة عابرة، فلم أدرِ إن كانت تذكَّرَتني أم لا، وذهبتْ مجلَّلة بجدِّيَّتها ومناعتها وفِتنتها الغامضة، ساحبةً إياي وراءها. وانقضَت حوالي نصف ساعة قبل أن يتراءى لنا ميدان التحرير. وصاحبني تساؤل دائم عن جدوى إصراري أو معناه أو الهدف منه، ولكنه لم يقلل من حدة نشاطي المندفع. وساورتني احتمالات ممكنة كأن تستقل سيارة فتغيب عن أفقي، ولكنني لم أنثنِ عن السير. وأظنها على علم ما بمتابعتها، ولكنها لم تُبدِ عن أي ردة فعل، فضلًا عن أنها لا يعتريها تعب أو ضجر. وقلت لنفسي: إن محاولة التعارف خطوة لا بأس بها، وربما تمخَّضت عن جديد، وهي على أي حال خيرٌ من السير الأخرس. وأسرعت لألحق بها، وهمَمْت بالكلام عندما أقبل نحوها رجلٌ قوي البنيان فخم المنظر، وهو يهتف متهللًا: أشرقت الأنوار. تصافحا بحرارة، فواصلتُ السير حتى وجدت مأوًى قريبًا وراء حجرة تفتيش كهربائية. وراقبت انهماكهما في حديث غير مسموع. وأشار الرجل إلى محل «باباز»، فمضت برفقته إليه ثم اختفيا داخله. أنْتظِرُ أم أدخُل؟ لبثت فترة تمزُّق وحيرة، ثم اقتحمتُ المحل كأنما أبحث عن شخص ما. وجعلت أجول في الأركان ببصري، فرأيتهما جالسَين حول مائدة، أمامها زجاجة بيبسي، وأمامه فنجان قهوة وهو باسط أمامه صفحة يتلوها بعناية، وتبادلا حديثًا حول التلاوة، في الغالب. فدوَّن الرجل بعض الملاحظات، ثم صفق داعيًا الجرسون فأسرعتُ إلى الانتظار في الخارج وخرجا في أعقابي، فتصافحا أمام المحل، أما الرجل فرجع إلى الداخل، وأما المرأة فسارت نحو شارع خيري، وفي الحال تحركتُ في خَطِّي المرسوم. وبعد مسيرة دقائق انحرفتْ نحو دكان ساعاتي، فوقفتُ تحت شجرة مستقبلًا حرارة متصاعدة وأصواتًا متضاربة، وزحمة تنقضُّ ما بين مركبات وآدميين، وكأنما الدنيا تقذف بأناسها وآلامها من كافة الأنواع والأشكال. وغادرَتِ المحل بعد ربع ساعة، فتواصلت المطاردة المحمومة الخفيَّة. كيف يتأتى لي أن أهمس في أذنها بما أريد وسط هذا الانفجار الآدمي الآلي الذي يتعاظم بين دقيقة وأخرى تلهبه أشعة الشمس والأنفاس الحارة؟ رأيتها تتَّجه نحو «البنك الأهلي» وتغوص داخله، فتوقفت في ضيق شديد، ثم دخلتُ وراءها متعللًا بفكِّ ورقة مالية. لمحتها تقف أمام شباك لعله لصرف الشيكات، ثم تقف جنب أريكة مكتظَّة تنتظر. ولبثت واقفًا، ولكنني خفت أن أثير ريبة فذهبت خارجًا، وانتظرت أمام بيَّاع جرائد ومطبوعات، رحت أتفحصها وأراقب باب البنك في الوقت ذاته. حتى متى أستطيع اتقاء الشعور بالتعب؟ ها هو الوقت يمضي في توتُّر أعصاب وتصلب عضلات. ثم تلوح في باب البنك بشموخها الفطري، فيخفق فؤادي بارتياح عابر عميق. أتبعها متجدِّد النشاط متحيِّن الفرصة للالتحام بها، ومهما كلفني ذلك من مخاطرة. ولكنها مالت إلى السنترال. هذا مكان لا يثير الوجود فيه تساؤلًا أو ريبة. دخلتُ بجرأة، وانتظرت قريبًا من المدخل أتابع سعيها لطلب رَقْم ما. وسمعت العاملة وهي تقول لها «رقم ١١»، رأيتها وهي تدخل المقصورة وتسحب الباب خلفها. تُرى ألم يُفتن بها سواي؟ أي قضاء قُضِي به عليَّ هذا الصباح؟ ثمة تعب خفيف بدأ دبيبه في ساقيَّ، وهناك شبح الإحباط أيضًا. وظل الشك المؤرق. ويوجد أيضًا شعور قائم بتفاهة كلِّ شيء خارج نطاق المغامرة المجنونة. ها هي خارجة من المقصورة بوجه مورَّد بالرضا. تحرَّكْ .. تحرَّكْ .. لا يجوز التراجع بعد ما كان. لعلها نسِيَتني تمامًا ولكن لا محيد عن السير، بلغ رِكابنا شارع طلعت حرب، فبلغ الزحام والحر أشده. ولا فرصة البتة للمناورة. أسبقها مرَّة وأتأخر عنها أكثر الوقت؛ لعلها تتذكر رجل البرج. لم أتمكن من قراءة أصابعها أهي متزوِّجة؟ مخطوبة؟ حرة؟ وصادفتها امرأة من معارفها فانتحيتا جانبًا، وتوقفتُ مائلًا نحو باب عمارة. ما أجمل ابتسامتها وأرشق إشارتها! وانتهى اللقاء فواصلتْ سيرها مارةً أمامي، لمحتني ما في ذلك شك. وكردٍّ على ذلك زادت من سرعتها ومن جدِّيَّتها. وأعود للتساؤل عن معنى ذلك. ولكن لا حيلة للعقل في الموضوع كله. أو لعله يقرُّني على سلوكي طالما أجد فيه أملًا أو سعادة. يقول لي: استمر إذا شئت، ولكن لا تتورط في خطأ. وأصبح الشعور بالتعب واضحًا. وعرَّجتْ إلى شارع البورصة المكتظ بالسيارات الواقفة على جانبيه. ويقل الزحام هنا لدرجة تُغري بالجرأة. ودون تردد أحث الخطى حتى أحاذيها فوق الطوار. أنظر نحوها، فتتلقَّى نظرتي بعين متحفزة. أقول: هل … ولكنها تقاطعني بصرامة: احترمْ نفسك. – أود أن أتشرَّف. ولكنها لم تسمعني غالبًا؛ لاندفاعها إلى الأمام. إنه رفضٌ صادق. تكاثف الإحباط والشعور بالتعب. يجب أن أعدل عن مطاردة عقيمة، لكنني لم أستطع. إنه حكم مؤبد فيما بدا. ورأيتها تدخل مكتبة الفجر الجديد. دخلتُ وراءها مطمئنًّا كما دخلت السنترال، ورحت أُقلِّب عيني في الكتب وأسترق النظر. امتدت يدها البضة القمحية إلى كتاب «القوى الخفية». ابتسمتُ رغم القهر، وتناولتُ نسخة تحية لها. ثم تبعتها إلى الخارج كالمنوَّم. ودخلنا أيضًا صيدلية، واضطررت إلى ابتياع حُق أسبرين. بدأت قدماي تشكوان. توسطت الشمسُ السماء. عجبت لطول ما انقضى من النهار. ولم أجد أمامي إلا الحظ فلَعَنْته وتساءلت: على وجه مَن أصبحت اليوم؟ وعبرتني عتمة الهواجس، فلم أدرِ كيف وصلنا إلى شارع التحرير. ورأيتها ماضية نحو مطعم «الشامي»، فسرعان ما نهشني الجوع. وبجرأة اخترت مائدة مقابلة لها. ودون مبالاة غادرتْ مائدتها إلى أخرى في أعماق المحل. صفعة متوقعة على أي حال. وأمرتْ بطبق شاورمة مع السلطة الخضراء، وختمتْ بفنجان قهوة. وأنا أرقب مدخل المحل بعناية وغمرتني رغبة في الاستلقاء، وعلى عكس ما قدَّرت استفحل إحساسي بالتعب. ولما رأيتها تتهادى خارجة قمت من فوري فتبعتها. وتريَّثتْ أمام محل أثاث لترى في مرآةٍ معروضةٍ الطريقَ وراءها. ورأتني بلا شك، وواصلت سيرها في هالة تنطق بالغضب والاحتجاج. وصدَرت إليها إشارات من سيارات عابرة تدعوها للركوب، فتجاهلَتْها ومضتْ في شموخ مَنيع. المصيبة أنها لا تكل ولا تمل ولا توحي بقصد هدف محدد. على الأقل هي تعلم، أما أنا فلا أعلم، وحتى اليأس القاطع تمنَّيته. وعثرت بشيء فوق الطوار فكدت أفقد توازني، وارتطمت برَجُل قذفني بجملة كالطعنة: «فتَّحْ عينك.» وانضاف إلى الإرهاق العام إحساس بالظمأ ورغبة في إفراغ المثانة، وبألم نصفي في الرأس. وثمة تساؤل مقلق: هَبْها استجابت، فماذا عندي لأقدِّمه؟ لماذا يتمادى فيَّ الجنون بلا طائل؟ ورأيتها تتجه نحو حديقة «لبتون»، فتجدد أمل مُبهم. ووجدتها تمضي إلى مائدة عامرة بالرجال والنساء، وتُستقبل بمناورة بالغة. آثرت في الحال أن أنتظر في الخارج لشدة الزحام، ولكن حتى متى أنتظر؟ ما بي قوة، والصبر يتلاشى بسرعة. وتذكرت العمل الذي كان عليَّ أداؤه والمواعيد التي أخلفتها، والرسائل التي كان عليَّ تحريرها. ولكن ما جدوى الندم؟ واشتد ضغط المثانة، جُلْت بنظرة زائغة، اقتربت من سيارة واقفة. انهارت قوى المقاومة. استسلمت وأنا أتلفَّت. وعندما أخذت أُزرِّر البنطلون غمَرَني ظل رجل طويل، مكفهر الوجه، صاح: على السيارة يا وقح! رمقته بعين خجول معتذرة، ولكنه دفعني بغضب فترنحت فاقدًا صوابي، وبغير تقدير للأمر لطمته، فما كان منه إلا أن انهال عليَّ ضربًا، حتى تركني على أسوأ حال. جعلت أمسح وجهي بمنديل وأُجفف به دمًا سال من أنفي، ثم أُسوي رباط الرقبة والسترة. أصبح منظري زريًّا، وتضاعف تعبي وضعفي. عليَّ الآن أن أذهب بلا تردُّد، غير أنني لم أتحرك. حملت تعاستي ووقفت على ساقين تئنَّان من التوجع. ما زلت أنتظر وأُناجي جنوني البيِّن. وتهادت إلى سمعي أغنية «الزهر في الروض ابتسم»، فتابعتها بأسًى لا يناسب معانيها بحال. وخطر ببالي بيت أبي العلاء: غير أنني فكَّرت في اغتيال الرجل الذي انهال عليَّ ضربًا، ولعلها أنسب نهاية لرحلة سخيفة عقيمة لا معنى لها. وانتبهت منزعجًا إلى ما حولي، وأنا أرى نُذُر المغيب تحدث بالوجود وتطوق جسدي الذي أنهكه السير وهاضَتْه اللكمات. ولأول مرة أفكر جادًّا في الإقلاع عن جنوني والرجوع من خيبتي القوية. وهممت بالتحرك عندما رأيتها تغادر مدخل الحديقة وحدها، وتتجه بخطوات ثابتة نحو شارع الشيخ ريحان. توهَّج الأمل من جديد في قلبي الذابل، وتناسيت هواجسي وتبعتها وأنا أجُر نفسي جرًّا، وأُحِدُّ من بصري المنجذب إلى ظهرها لتكاثف العتمة. وقُبيل نهاية الشارع بقليل فقدت ذاتي بغتة. لم أُدرك قبل مرور ثوانٍ أنني سقطت في حفرة. زُلزلت مفاصلي، وفغمت خياشيمي رائحةٌ ترابية عميقة لم أعهدها من قبل. ولم يبقَ مني على السطح إلا عنقي ورأسي. حاولت الخروج ولكن خذلتني قواي الخائرة. وأرسل عينيَّ صوب المرأة بآخر ما أملك من طاقة على اللهفة، فلا أعثر لها على أثر. أفلتت إرادتي وأشواقي، وهيهات أن ألحق بها! الأمر يقتضي معجزة إن يكُن ثمة مجال للمعجزات. وانتظرت أن يقترب مني عابر سبيل لأستنجد به. وبلغ مني الإعياء غايته، فأسندت رأسي إلى حافَة الحفرة مستسلمًا إلى قدري.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/7/
السَّيد «س»
عبثًا أحاول تذكر حياتي في مجراها المفعم بالوجود قبل ساعة الميلاد. تلك النبضة المنبثقة من تلاقي جرثومة متوترة ببويضة متلهِّفة في أول مأوًى آمنٍ يُتاح لي. في أي غيب كنت أهيم قبل ذلك منطلقًا مع تيار متصل غير محدود من الذكور والإناث، تشارك في مهرجانه قُوًى عديدة من النبات والحيوان وعناصر الطبيعة من ماء وتراب وحرارة وبرودة، في تناغُم مع دورة الأرض والقمر والشمس في حضن درب التبَّانة العظيم الماضي في حوار دائم مع دروب لا نهاية لها. لعل إشارات من ذلك الغيب تتجلى في أحلامي في صور أفراح غامضة وكوابيس ثقيلة، سرعان ما تتلاشى في كون النسيان العنيد، مُخلِّفة في النفس قلقًا يتلاطم مع الواقع الصلد، ناشرًا تساؤلات عديدة، ودعوات مغرية للرقص والتنقيب. وأما كهنة آمون؛ فقد أخفوا أسرارهم. وأما كهنة الهند؛ فقد أعلنوا سيطرتهم على مسيرة الماء البشري منذ أقدم العصور، ولكن لا سبيل إلى اليقين في هذه المسألة، ولو سلمت برأيهم لتعذر عليَّ معرفة الخطيئة التي ارتكبتها في زمن سحيق، والتي يكفِّر عنها شخصي الراهن بمعاناته المستمرة التي لا يجد لها تفسيرًا. فلنؤجِّل القول في ذلك إلى حينه، ولنُلقِ نظرة على يوم الميلاد. إنه يوم تخفق له أفئدة البشر وتحوطه بالبركات من خلال طقوس أبديَّة. يجيء المخاض على أنغام أهازيج شجيَّة، تنطرح المرأة على الفراش في جوٍّ مضمَّخ بأنفاس الخلق، ترعاها يد الخبرة، وتحدِّق بها القلوب المترَعة بالأشواق، هامسة بالإشفاق داعية بالسلامة، مترقِّبة إذن يد العناية بالفرج، مسبِّحة للخالق، منتظرة بين آونة وأخرى أن تنجاب الدماء الحارَّة والأنفاس المتلاحقة عن صرخة حياة جديدة، مكلَّلة بالظفَر، في لحظة صراع محتدم مع الموت المقدس. ومن حسن الطالع أن الأشهر التسعة المنقضية في الظلمات لم تتلاشَ في العدم، حفِظَتْها من الضياع ذاكرة خاصة غير الذاكرة المرصودة للحياة اليومية. سجَّلت حياة النطفة المزهوة بتوحدها كما سجلت تحولها إلى علَقة. وعليه فلم يندثر تقلُّبها بين السرور والألم، وما تلقَّت من انبساط وانقباض، من راحة وتوتر، من رضًا وسخط، وما واكب نشأة العظام من اضطراب، واستقبال اللحم بنشوة سانحة. أما المخ والوعي فقد أضفيا جديَّة جاوزت حدود المقام. أصبح الغذاء من هموم الحياة اليومية، والفضاء غير المحدود مدعاة للتأمل، والزمن عبئًا لا يُستهان به، حتى متى يستمر ذلك؟ وما معنى هذه الحياة؟ ولكن تغير الأمر عند اقتراب الفترة من نهايتها، وما زامل ذلك من إحساس بالشيخوخة. فلن يهوِّن أبدًا الرحيل إلى المجهول، أهو العدم؟ أثمة حياة أخرى؟ ويأبى العقل أن يصدق ذلك أو يتعلق بأمل مخادع، وما هي إلا خدعة سخيفة لا معنى لها. وما إن تلقَّفَتْني يد الدنيا حتى مُحي الماضي محوًا تامًّا فكأنه لم يكن. هنا ينقض الضوء والطقس والأنفاس والأصوات ويعلو البكاء لأول مرة. وتمر فترة لا أمان فيها، وكأنني أهوي في فراغ، ويمر دهر حتى أُلَفَّ في الأقمطة، وكأنما رجعت إلى موطني المنسيِّ. وينسكب الدفء في فيَّ، ويحتويني حضن ستبقى ذكراه معي طويلًا. وتمر فترة يتذكَّرُها الحالمون جنة وارفة متناسين متاعبها وأشجانها، من افتقاد الأمان والشبع أحيانًا، واقتحام صوت مزعج أو مداعبة قاسية، ورضع الحزن مع لبن أم لا تصفو لها الحياة دائمًا، وغزو أمراض عدة تفسد مذاق الحياة. ثم تتطفل الحضارة بثقلها لتصب الوافد الجديد في قالب مهذب، يسيطر فيه على أجهزته المختلفة، ويتعلم المشي والكلام، ويُستعان على ذلك بالحوافز والردع. ولا بأس بالزجر بل والضرب، وتلوح السعادة كخيال لا يتحقق أبدًا. وما إن يقوم على رِجْلين، وربما قبل ذلك، حتى يلحق به آخر، فيشعر شعورًا خفيًّا بأنه أصبح موضة قديمة، وأنه يُدفع دفعًا إلى دخول عالم جديد هو عالم التربية الواعية الهادفة. ويتناسى الجاحدون عهده، ويفكرون في طريقة مهذبة للتخلص منه، فيعرِّفونه بالله، بجحيمه قبل جنَّته، وشياطينه قبل ملائكته، فلم أُدرك مزايا الجنة ولكني ارتعدت أمام رعب الجحيم. ولم أتذوَّق حلاوة الملائكة ولكني تجرَّعت غُصص الشياطين، وأحدَقَ بي عالَم منذِر بالولايات. وألِفْت النَّهْر والصَّفع واللعن والعصا. وبذلت قُصارى جَهدي لأنعم بأبسط المطالب وأتفادى من العدوان، وأُحمَل ذات يوم إلى المدرسة فأضيف إلى عذاب الأهل عذاب الأغراب. وأتساءل أي حياة هذه؟ وهل لو كنت خُيرت كنت اخترتها؟ وإنه لممَّا يبعث على الضحك أن أتذكَّر تلك الفترة في زمن قادم باعتبارها الفردوس المفقود. ولكن مهلًا! فلعل هذا الحكم لا يخلو من صدق، فما خلا يوم من ضحكة صافية أو لعبة جديدة، أو هيام عذب بأصحاب ومواسم وحلوى وسينما وغناء، بالإضافة إلى ساعات صفو وهناء في رحاب الأسرة. وحتى في أشد حالات الضيق، هناك الخيال ألوذ به فيرحل بي إلى عوالم غريبة، ويخلق الحياة في الجماد، ويُبدع الحكايات، ويتلقى من الوجود صورًا للأشياء والنساء والرجال، والعلاقات سينضجها الزمن ويحوِّلها إلى معانٍ ما كانت تخطر بالبال. وبفضل ذلك كله أتدرب على تمثيل أدوار لم يَأْنَ زمانها بعد، فأقوم برحلات إلى بلاد الواق الواق، وأخوض معارك ضارية، وأتزوج، وأُتاجر وأربح أموالًا طائلة. وأصلي وأصوم فأضمن الجنة. ولكن أيضًا أتشاجر فيُشَج رأسي، وأعشق قريبة تكبرني بعشرة أعوام، وأتحايل لأُغوِيَها فآكل علقة مناسبة. مَن علَّمك هذا الكلام يا ولد؟ خبر أسود. وأنت في البيضة، وأتوسل إليها دامع العين بألا تشكوني إلى أمي. ولكن مَن علَّمك ذلك؟ في السينما رأيت أشياء، ومن شباك بدروم جارتنا الفقيرة رأيت أيضًا، ألا تعرف جزاء من يتلصَّص على الناس؟ توبة .. توبة. ولا تتاح النجاة حتى أوافق على حمل رسالة سرية منها إلى أخي! ويجد جديد، فتحصل أمور، وتلوح أعراض، ويتكلم مُدَّعو الحكمة من الأصحاب، إنه البلوغ. الشعر لا ينبت لغير ما سبب، والصوت لا يخشوشن لمجرد التغيير، وتمتلئ النظرات البريئة بدماء الغرض والهوى، وتحل بالبدن قوة مجهولة ماكرة غادرة، تضغطه بدغدغة حادَّة، وتسكب في الشرايين نارًا، يستهين بزواجر الجحيم ونواهيه، يحول بيني وبين الله والطاعة والعهود، ولم تعد الأشياء هي الأشياء، ولكنها تنقلب موضوعات للرغبة والحلم والسطو ومرتعًا للخيال النهِم. وربما تحصل أمور من نوع آخر وفي نفس الوقت، كردَّة فعل، وتفكير حادٌّ يُروي ظمأه من ندى السحاب الأبيض المشغوف بالتعالي، فيخفق القلب خفقة لم يخفق مثلها مذ كان فكرة هائمة في عالَم الغيب، ويستوي الحب أمامه كنجمة متألقةٍ في سماء مكفهرة، تحوطه العناية الملائكية وتسبح في السماوات السبع، تمطر وابلًا من الأفراح والآلام، فتنبت في الأرض أزهارًا وأنغامًا، وتستجيب للغة خفيَّة. فتثب هنا وهناك وراء المستحيل، في عالم مسحور فيه كل شيء إلا الأمل، مُجِدَّة وراء موسيقى الكلمات وحُمرة أوراق الورد، وفضِّيَّة شعاع القمر وحكمة صمت الموت. وبعد عناء طويل يجيء الشك على غير ميعاد، ملوِّحًا بسياطٍ محمَّلة أطرافها بالرصاص، كلما ألهبته تحدى العُرف والأب والأم وأركان المعبد. وبشيء من التردُّد يرمي بنفسه في بئر الجنون الأحمر، وينهل من شراب مزاجه الشهد والسم، ليمحق المكر والخداع، بإشباعه حتى الموت، وتركه جثةً من الخمود والأسى. هكذا .. هكذا .. هكذا. وبوحي من حظٍّ حسن تتراءى مرآة عاكسة للزمن بلا حلم أو خيال. كان من الممكن أن يحدث غير ذلك، فما هي إلا احتمالات تطاول احتمالات، ولكلٍّ قصته. من أجل ذلك تمتلئ المدارس والمعاهد وتمتلئ السجون. وأمضي في سبيلي طاويًا ذكرياتي في زاوية أرجو لها النسيان. أصبحت كائنًا جادًّا، أُحيِّي الأهل صباحًا والأصحاب مساءً، وأتلقى في اهتمام بالغ حظي من تراث البشر وخبرتهم. وتهل علينا متاعب من نوع جديد. ما رأيك؟ هذا الدرس يتطلب عمرًا لإتقانه. أجل .. وهناك أيضًا الأزمة الجديدة، صدقت ونحن مدعوُّون غدًا لاجتماع هام، صدِّقْني لا مناص من أن يذهب هذا الجيل كله إلا الجحيم. وماذا عن مستقبلنا نحن؟ لا شيء يُعادل ما نبذل من جهد. ورغم كل شيء تبدأ الحياة العملية متعثرة محدودة الأمل، محفوفة بحياة سياسية غاية في القلق والاضطراب، وحياة جنسية لا تقل عنها قلقًا واضطرابًا. وتتعدد الطرق هنا أيضًا. كان يمكن بشيء من الانتهازية أن يُقبل وجه أكثر إشراقًا وأقل جدارة. وكان يمكن التمادي في التجارب المُرة حيث يفضي الطريق إلى السجن أو الصعلكة. ولكنْ قادَتْنا الرغبة الحميمة في البقاء إلى الرشد المتواضع، فاستقررنا فوق كرسي الروتين تحت مظلة من نسيج العنكبوت، ورضينا بلون تقليدي من الحب أفضى بنا إلى نوع تقليدي من الزواج، ورحنا نَعْبر الجسر الذي عبره قبلنا الملايين، نعمل بلا حماس، ونشهد بعين الأسى تبلُّد عواطفنا ونقار الأُسَر النامية وصراع الجنسين المعروف، وتطوف بنا مسرات لا يستهان بها، مثل الأبوة الدافئة، وانتصارات صغيرة تتحقق برضا المدير، أو نجاح نكتة مكشوفة أو كسب عشرة طاولة وإحراز فوز سياسي مؤقَّت، وهكذا .. وهكذا .. وهكذا. ونصحو ذات عيد ميلاد فإذا بالشباب قد ولى وصمتت أهازيجُه، وجاء عصر العقل مصحوبًا بالعناء الاقتصادي، والدروس الخصوصية، وجزية الطب والدواء، والشجار لأتفه الأسباب، والبكاء على الأطلال، وارتفاع ضغط الدم لأول مرة، وأكثر من جراحة إجهاض تحت شعار تنظيم الأسرة، وإقبال شركة التأمينات مشكورة للمشاركة في الرزق المحدود. ويحفل سيرك الأبناء بألعابه المتنوعة، فهذا ابنٌ يهيم في ملعب الكرة، ويرتكب الثاني حماقة كادت تُغرق السفينة كلها، أما الثالث فقد استبدل بإله الآباء والأجداد خواجا غيَّر مفهوم اللغة، وأخيرًا فقد أطلق الرابع لحيته، وقذف الجميع بتهمة الكفر. وانهالت عليَّ التُّهَم من كل جانب، رجعي .. جاهل .. تقليدي .. كافر. ونفَّست شريكتي عن بلواها بتحميلي مسئولية كل شيء، نتيجة التدليل والدلع، ربنا يعاقبك على أنانيتك وزيغان عينك وسوء معاملتك لي. ولم أصدق أذنيَّ، ورحت أذكر بأغاني عبد الوهاب في ضوء القمر على شاطئ النيل، والسعي المرهق لاختيار هديَّة إحياء لذكرى الزواج، وسهر الليالي إلى جنب فراش المرض. رغم ذلك كله سارت القافلة بسلام على قدر الإمكان. ارتفعتُ درجة بعد درجة وكبر المرتب وتغير المكتب والحجرة، ولولا الغلاء المتصاعد وهزائم الحروب المتعاقبة لمضيتُ برأس مرفوع مكلَّل بهالة روتينية وشمخة بيروقراطية. ولكن ذُل الحاجة والتورط في الأعمال الإضافية خرق للائحة. ومعاناة الأبناء ومرارة شكواهم من قلة المصروف، كل أولئك أطفأ مشاعل المجد وأحل روح التسول مكان زهو العظمة. حتى الخادم اضطُررنا للاستغناء عنها أو أنها بالحرى استغنت هي عنا. ولم أجد إلا المواعظ أُلقيها يمنة ويسرة، لا خيار فإما النجاح وإما الموت، الترف من سوء الخُلق، أعرضوا عن الدنيا تُقبل عليكم، سيدنا محمد عاش على التمر واللبن، وسيدنا عمر تغير لونه من أكل الزيت، والدولة الرومانية سقطت لانغماسها في مطالب الجسد، كذلك الدولة الإسلامية. ويردُّون عليَّ ومعهم أمهم: ألقِ مواعيظك على الحُكام، على أصحاب الملايين، على اللصوص والخطَّافين والطُّفَيليين، نحن نريد لقمة وبدلة وأقلَّ مصروف معقول، أي مدير أنت؟ ما جدوى خدمتك الطويلة في حكومة لا ترعى حقها لموظفيها، تُنفق على الحفلات بغير حساب، وتضن عليكم بالمليم. وأتساءل ما العمل؟ يجب ألا تتوقف حياتنا وإلا ضعنا. الأسهل أن ندبر حياتنا في حدودنا المتاحة من أن نحاسب الحُكام والمسئولين، ونعرض أنفسنا لمخالبهم الحادة المفترسة، ألا ترونهم يرمون أعداءهم بالإلحاد دفاعًا عن غنائمهم، فإذا قامت ثورة إسلامية تنمروا لها وللإسلام دفاعًا عن غنائمهم؟! فلا الإسلام يهمهم ولا الإلحاد، ولا يعبدون إلا المال والجاه، وأنا رجل ضعيف، بدأ الشيب زحفَه إلى شعري قُبيل الأوان، ولا غاية لي في دنياي إلا أن أبلغ بكم بر الأمان، فساعدوني يرحمكم الله كي ننجو من الغرق. وفي زحمة الغياهب تعترض سبيلي تلك المرأة اللعوب وتغمز لي بعينها. يا للهول! هل بقي فيَّ شيء ما زال يلفت نظر الحِسان؟ في وقدة الاشتعال داعبتني نسمة متألقة بالزهو، وفرحة واردة من الغيب، حتى اختَلْت في مشيتي، وأصررت على حلق ذقني كل صباح. وعند حساب التكاليف المطلوبة بحدها الأدنى حضرني ملاك الرحمة، ألا يلزمني تقديم هدية، أو أكثر أي مكان ولو ليومٍ واحد، وإعداد عشاء وشراب كالأيام الخالية؟ وكبحت أهوائي بقوة لا تُتاح إلا للمفلسين، وهربت معتلًّا بمختلف الأعذار، وخرجت من التجربة موسومًا بنظرة احتقار لا تزول مثل الوشم، وأشاعت الغندورة في كل مكان بأني مصاب بداء خفي كريه الرائحة، وكلما صادفتني في طريق هتفت بي كيف حالك يا أقرع؟ فأحمد الله على أنني رأيت برهان ربي في الوقت المناسب. وهكذا .. وهكذا .. وهكذا. وأصحو ذات يوم لأجد أن الكهولة أيضًا قد ولَّت، وأنني أتخذ الإجراءات المعهودة؛ تمهيدًا للإحالة على المعاش، وأنني أودع بصفة نهائية التعاليم المالية ولائحة المخازن والمشتريات. وبقدرة الرحمن الرحيم انحلت عقدة الأزمة فتخرج الأبناء ومضى كلٌّ في سبيله. ووجدت وشريكتي أنفسنا بين يدي الشيخوخة بلا دفاع، فبالإضافة إلى الضغط أصبحت ذا كُلًى عليلة وعانيت مُرَّ أرَقٍ مستمر. أما الشريكة؛ فقد خلعت ثوب الأنوثة وباتت بين بين، وخانها عضوان هامَّان هما القلب والجهاز الهضمي، واصطبغت بصفرة ضاربة إلى الزرقة، ونبتت لها شُعيرات عند طرف أنفها واستغرقتها الصلاة والصوم. ومهما يكن من أمر فحالُنا خير من حال كثيرين، ألم أتمَّ رسالتي على خير وجه ورغم الظروف الشرسة المتحدية؟! ولكن للأسف جَدَّت أمور لم تكن في الحسبان، فاثنان من الأبناء وجدا عملًا مجزيًا في الخارج فودعناهما بقلب حزين، وأصبح أحد الاثنين الباقيين زبونًا مزمنًا للشرطة والنيابة، أما الأخير فقد تورط فيما لم يجرِ لي في بالٍ وحُكم عليه بعشرين سنة. وربما استطعت أن تتصور حالي، ولكنك ستعجز تمامًا عن تصوُّر حال شريكتي. إنها لا تكف عن الدعاء على الدولة برمتها. ونابت عن ابنها السجين في تكفير المجتمع كله، وأرادت أن تحجَّ لتدعو على الدولة في بيت الله الحرام، ولكن من أين لي المال الذي أُحقق به رغبتها؟! وجعلت أهرب من البيت إلى الصحاب في المقهى، ونازعتني نفسي إلى زيارة الأماكن التي شهدت طفولتي وصباي وأحلامي السعيدة، وتتابع أمام عينيَّ شريط حياتي بجميع ما حفل به من متناقضات وعِبر، وكلما شيَّعت صديقًا أو زميلًا إلى مثواه الأخير لاح لي يومي وهو يقترب، وقلت لامرأتي: إن خير ما نفوز به في هذه الحياة هي الحكمة، فإذا عرفناها عرفنا الرضا وسلمنا بأنه لا شيء في الحياة يستحق الحزن أو الأسف، فلنسلم أمرنا لله؛ فكل ما جاءنا من عنده. ولم يمهلني المرض لمعاشرة الحكمة طويلًا، فانطرحت على الفراش بلا حول، وقال لي كل شيء: إنها النهاية. وتساءلت تُرى ما مذاقك أيها الموت؟ وكيف تحل إذا حللت، وعلى أي حال نترك هذه الدنيا المليئة بالإغراء والخداع؟ وذات صباح دهمتني هذه اللحظة الفريدة المقدسة، فقدت الوزن والتوازن، وانغمست في شعور كامل الجدَّة لم ينبض به الوجدان من قبل، قلت: إنني سأسبح أو أطير، وإنني أستقبل عالمًا لم يُطرق من قبل، وإن الضوء هادئ لدرجة السحر وإنه بلا نهاية، وإنني مستسلم بلا اكتراث أو ألم أو ضيق، وإن أهازيج البشر تعزف من حولي. وانفلتُّ من الجسد إلى الحقيقة المُطْلقة، وتجلى لي ما قبل الميلاد وعبوري بالدنيا والمستقر الأخير منظرًا واحدًا جامعًا متكاملًا كالوردة الكاملة، لا يخفى لها أريج ولا سر، فثملت بالاستنارة والسعادة الحقيقية، ولم يبقَ معي من ذكريات الدنيا إلا المثل الشعبي الذي يقول: اللي تحمل همه ما يجيش أحسن منه.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/8/
شارع ألف صِنف
شارع ألف صنف، للأحلام والحقائق، مطهى الرغبة في سخائها وتنوعاتها، وتلخيص مركَّز معجز لشهوة الحياة. تقوم على جانبيه ذوي الطوارين العريضين المسقوفين أشياء ناطقة بألف لسان. حوانيت متلاصقة ومتراصة مُبهرة بأناقتها، ثمينة بمعادنها؛ تخطف الأبصار بشتى الألوان، فيجد كل عضو في الجسم البشري وكل نزعة في الجهاز العصبي ما يشتهيه من أغذية متعددة الجنسية ومرطبات وخمور وملابس وأدوات منزلية، وروائح عطرية، وأدوية ومقويات ولعب أطفال، وسيارات وأجهزة طبية وكهربائية ووسائط للاستهلاك والإنتاج، يضطرب بينها تيَّار من الخلق لا ينقطع من الجنسين وكافة الأعمار، سوقًا لمن يشتري، ومرتادًا لمن يتفرج. وفي وسط جناحه الأيمن يقع مقهى «عكاظ»، مقهًى وخمارة ومطعم، ولكنه يختص برجال الأعمال وعقد الصفقات، وندر أن يطوف به زبون عادي، بالإضافة إلى القوَّادين والنصَّابين وبنات الهوى ممن لا تتم صورة الوجود إلا بهم. وفي الأدوار العليا من العمائر توجد فنادق وبنسيونات، يأوي إليها عادةً رجال الأعمال غير القاهريين، وفي رحاب حصانتهم ينعم أهل الهوى بمنازل للدعارة شبه آمنة. من أجل ذلك جرى تاريخه منذ قديم في سلام نسبي، فلم ترد أخباره في صفحات الحوادث شأن غيره من الأماكن التي تلاحقها عين الشرطة الساهرة. ومن أجل ذلك أيضًا لفت مجيء ذلك الزبون الطارئ الأنظار، وبخاصة وأنه لم يزُر مقهى عكاظ زيارة عابرة لتناول فنجان قهوة أو كأس كونياك أو طبق مكرونة. كلا، لقد اختار مجلسًا في عمق المقهى غير بعيد من البوفيه. يحتله من الضحى حتى منتصف النهار، ثم يعود إليه من الخامسة حتى وقت التشطيب. ذو مظهر متواضع، ببدلة اقتصادية، ووجه أربعيني ناطق بأصله الشعبي، فلا هو من رجال الأعمال، ولا من أصحاب الصفقات، ولا من رواد الفُرجة والشراء، ولا من طلاب اللهو. يأمر بفنجان قهوة، ويجلس هادئًا مبرأً من سمات الانتظار والتململ، لا يسعى لمعرفة أحد ولا يشجع أحدًا على معرفته، كأنه غائب تمامًا عما يدور حوله. وتلك واقعة تمر، فلا تستحق الذكر في أي مقهًى إلا مقهى عكاظ الذي لم يألف إلا أعضاءه المعروفين. لذلك اكتسب شهرة منذ الأسبوع الأول لظهوره. لفت الأنظار وأثار جملة من التساؤلات. وتطوع قواد لاستخراجه من قوقعته فجلس فيما يليه وسأله عن الساعة، ولكن الرجل أشار صامتًا إلى ساعة المقهى المثبتة في الجدار فوق الميزان ولم ينبس بكلمة. وضاق به الجميع، واعتبروا حضوره غزوًا لحصنهم الحصين. ومر وقت قبل أن يُعرف اسمه بمحض الصدفة؛ إذ رن جرس التليفون، فرفع نادلٌ السماعةَ ثم نادى: السيد منصور زيان. فقام الرجل إلى التليفون تُحدق به الآذان. – آلو. – … – هات ما عندك. – … وطالت مكالمة المتحدث، وأخيرًا قال السيد منصور: طظ. وأرجع السماعة إلى موضعها، وعاد إلى مجلسه دون أن يشفي غليل أحد، فازداد غموضًا وازدادوا ضجرًا. ولم يجدوا بُدًّا في النهاية من إهماله. وشُغلوا عنه بحادث يعتبر غاية في الاستثناء في هذا الشارع، وهو كبس الشرطة لبنسيون وسَوْق من وُجِدَ فيه من نساء ورجال إلى القسم. تبودلت نظرات حائرة، ونوقش الموضوع على أوسع نطاق، كيف حدث ما حدث مما يُعَدُّ خرقًا للتقاليد المرعيَّة؟! ونظر قوادٌ ناحية منصور، وهمس: جاء النحس مع النحس. ولم يكترث أحد لقوله. ولكن لم يكد يمر شهر على الحادث حتى استُدعي كبير من رجال الأعمال بتهمة التهرُّب من ضرائبه المستحقَّة، فاهتزت الأفئدة وانتشر الذعر مثل صرخة بِلَيلٍ. ماذا يحدث في الدنيا؟ ليس اليوم كالأمس. ثمة نذير شرٍّ يزحف. ولغير ما سبب منطقيٍّ تضاعف الضيق بالسيد منصور، باعتباره شؤمًا كما قال القواد ذات يوم. وعندما ضُبطت سلع مُهربة من الجمرك، وقُبض على أصحابها انفجر الذعر، وعقد الرجال اجتماعًا للتشاور. شعروا بأنهم مطاردون، وبأن دورهم آتٍ لا ريب فيه. وقال أحدهم: عنَّت لي فكرة، إنه ليس نحسًا فحسب! – تعني سي منصور؟ – أجل. – إنه مُرشد ذو دور مرسوم. – ولكنه لا يُبارح مجلسه؟ – لا علم لنا بما يفعل قبل ذلك أو بعد ذلك. وتراكم الشك، حتى صار يقينًا بلا دليل. لم يجئ لتزجية الفراغ. ماذا يحمله على المجيء يومًا بعد يوم؟ ما عمله؟ كيف يعيش؟ وأجمعوا على أنه مرشد لحساب جهة معادية، وأن عمله لن يتم إلا بالقضاء عليهم أجمعين. واقترح بعضهم التخلص منه. ولكن ألا يُعَدُّ ذلك حمقًا غير مُجدٍ، واستفزازًا لقوة مجهولة لا يُستهان بها؟ واقترح البعض احتواءه وشراءه بأي ثمن، ولديهم المال والنساء. ولعل مناسبة الاحتفال برأس السنة الجديدة أن يتيح فرصةً فريدة لاصطياده. وتزيَّن المقهى في الليلة السعيدة بالورد وتشكيلات المصابيح الكهربائية الملوَّنة، وتوسطته طاولة طويلة صُفت فوقها قوارير الويسكي بغير حساب، وجلس إليها في الوقت المناسب الرجال من أكبر رجل أعمال إلى أصغر قواد، وبقي الرجل وحده بمجلسه المختار. وانضمت إلى الموجودين مجموعةٌ مختارة من الحِسان في أحسن صورة وعلى أتم استعداد. وانطلقت الأنخاب كالشهب حتى تغلغل المرح في أعماق الكآبة. والتفت أحدهم نحو الرجل وقال: هلا شرَّفْتنا يا سيد منصور؟ فبسط راحته على صدره شاكرًا صامتًا مصرًّا على توحده. ولكن الآخر لم ييأس، فملأ له كأسًا ورجا أقرب الجلوس إليه — امرأة — أن تقدمها له، ففعلت برشاقة وقال رجل الأعمال: من أجل خاطرنا. ولكنه أعاد الكأس إلى الطاولة معلنًا عن شكره بإحناءة من رأسه، لائذًا بصمته. وتساءل رجل الأعمال مداريًا وقدة غضبه: كيف تمر بك هذه الليلة كغيرها من الليالي؟ فخرج منصور من صمته، قائلًا في غير ما اكتراث: الواقع أنها كغيرها من الليالي. فقالت المرأة محتجة: لا .. لا .. وأستطيع أن أُثبت ذلك. وقال رجل أعمال آخر: أذكر رجلًا يُشبهك تمامًا إلا أنه يرتدي جبة وقفطانًا. فقال منصور: لعله أنا دون سواي! – ولكنه بجبة وقفطان؟ – هذا هو ردائي في غير فصل الشتاء! – بدلة في الشتاء وجبة وقفطان في الصيف؟ – بالتمام والكمال! وتبادلوا نظرات ساخرة، غير أنهم تقدَّموا خطوة جديدة مع تماديهم في الشراب، فراحوا يقدمون أشخاصهم واحدًا في أثر واحد؛ ليحملوه على تقديم نفسه، ولكنه تابعهم في غير اكتراث، وتحدَّى عربدتهم بالإصرار على الصمت. أي إهانة؟! وقالت المرأة: إن هذا يعادل أن تتعرى امرأة أمام رجل، فيتخذ من جسدها مسندًا لرسالة يروم كتابتها. وسأله الرجل واجمًا: ألا ترغب في تقديم نفسك؟ فأجاب في برود: كلَّا. أيقنوا من أنه يتكلم من موقع قوة وثقة، وأن وقاحته لن تقف عند حد. وانقلب الرجل غاضبًا فهتف: اغرُب عنا قبل أن تُفسد علينا ليلتنا! فقال بتحدٍّ: الواقع أنكم تفسدون عليَّ ليلتي. – لا خير فيمن لا يحب الناس. فكرَّر ساخرًا: لا خير فيمن لا يحب الناس. وخافوا إن استسلموا للطعام والشراب أن تنحل عُقدة ألسنتهم، فتبوح له بأسرار ينفذ بها إلى مصارعهم، ففسدت السهرة بالفعل ومضت في توتر وتعاسة. وأقسموا ليهتكنَّ سره. وعهدوا إلى قواد معروف بالنشاط أن يتجسس عليه ليوافيهم بخبره. وانطلق الرجل في أثره وانتظروا. ومرت أيام وكل شيء يجري على حاله، ولكن الرجل لم يرجع من رحلته ولم يظهر له أثر. وانتظروا أكثر وسحابة سوداء تمطرهم بالقلق، ولم يُسفر الانتظار عن شيء. فُقِد المرشد لا ريب في ذلك، وفي أثناء ذلك سقط مُتهرِّب آخر ومهرِّب مخدرات ذو وزن في الهيئة الاجتماعية. وأظل الذعر الشارعَ العتيد فانطفأت أنواره. وتطوع قواد جديد بالعمل مدعمًا بحذَر أشد، ولكن ظُلمة المجهول ابتلعته كما ابتلعت صاحبه. وتمطى كابوس الخوف فاختفى القوادون، وتعطلت الدعارة، وانكمش الانحراف. ولبث الرجل الغامض بمجلسه، أفنديًّا في الشتاء وبلديًّا بقية العام. وتتابع السقوط وهرب مَن هرب. وقال له أحدهم، وهو يتأهب للذهاب: عرفتك، ما أنت إلا عميل لدولة أجنبية، اختارتك لتحطيم القوى الوطنية. فهز الرجل رأسه في دهشة وتساءل: عمَّ تتكلم أيها السيد الفاضل؟! وتحير صاحب المقهى العجوز الذي رأى كثيرًا وسمع كثيرًا. رأى الحادثات وهي تقع، ولكنه لم يعرف لها تفسيرًا. دالت دولة الرجال الأقوياء فتساقطوا مثل أوراق الشجر الجافة. انقلب الشارع من حال إلى حال، ذهب أناس وجاء أناس، تراجع زبائن وقَدِمَ زبائن، أُلغيت وظائف ونشطت وظائف جديدة، واستقبل المقهى روادًا عاديِّين لا علم لهم بسابقيهم، ولم يبرح الرجل الغامض مكانه، ولا بدا عليه أنه يدرك من حقائق الأمور أكثر مما يدرك هو. ويجيء قوم من هواة المعرفة فيحدقون بصاحب المقهى، ويقولون: كل شيء حدث تحت سمعك وبصرك، فخبرنا عما حصل يرحمك الله. فيقول الرجل ببراءة: عِلْمي علمكم يا سادة، وها هو الرجل الذي جعلوا منه أسطورة، مثلي ومثلكم، ما سمعت منه كلمة غريبة ولا شهدت منه فعلًا غير مألوف، فلست أملك علمًا أضن به عليكم، وما أعرف أكثر مما تعرفون من أن دنيا برمتها اختفت كما تختفي مدينة في أعقاب زلزال مُدمر، ونشأت مكانها دنيا جديدة، فسبحانَ علام الغيوب!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/9/
المسخ والوَحْش
أعجبتني حكاية الشاطر حسن في بلاد الواق الواق. غادر ذات يوم أسرته كما يغادر الفرخ بيضته وراء حلم غامض، فأسعده حظه الميمون بلقاء سيدنا الخضر. وقرأ سيدنا في وجهه براءة الفطرة ونقاء الحلم، فحدثه عن مأساة مسوخ تُعساء مسخهم وحش آدمي أحجارًا غير كريمة، فأشعل في قلبه رحمة وهِمَّة. ووهبه فرصة فريدة لتحرير المسوخ وإرجاعها إلى إنسانيتها المهدرة، وذلك بقتل الوحش. ودله على المكان الملقاةِ فيه الأحجار الممسوخة، والوسيلة التي يقتل بها الوحش، فمضى إلى بلاد الواق الواق، ورأى بعينيه الحزينتين الأحجار الآدمية. وتربص بالوحش حتى جاء في وقته المعلوم فأكل وشرب ونام، فوثب عليه وقتله. وفي الحال تلاشت الصفة الحجرية واستوت الأحجار بشرًا يُهلِّلون فرحًا ببركة الحياة المُستردة. ورحتُ أتذكر الحكاية وأنا بمجلسي المعهود في خمَّارة نجمة الصبح ورأسي مشعشع بالنشوة. وكالعادة غِبتُ في أعطاف حلم ورديٍّ، ثم انتبهت على رجلٍ يجلس إلى جانبي يمزج النبيذ بعصير الليمون، ملتفٍّ بعباءة أرجوانية، معتَمٍّ بعِمامة خضراء، يبهر الناظر بلحية بيضاء مسترسلة، حتى ثغرة صدره. ولم يكن التطفل من شيم أهل خمارتنا، ولكن الأُنس حل بي، فحدس قلبي أنه صديق يشعُّ الخير من ومضات عينيه. قلت مُرحبًا: أهلًا. فقال بنبرة باسمة: صحتك. واستسلمت للنشوة إلى مراقيها حتى هتفت: هذه ليلة ولا كل الليالي. فسألني بعذوبة: كيف اهتديت إلى هذه الخمارة التي بالكاد لا يعرفها إلا رُوادها؟ فقلت جذلًا: بحسن الحظ وحده، ومن يومها لم يعد يؤرقني شيء. فتساءل بصوت يمتزج فيه الحنان بالسخرية، كما يمتزج في قدحه النبيذ بالليمون: ولا المسوخ؟! دقت كلمة المُسوخ ناقوس اليقظة في قلبي، فتساءلت: أي مسوخ تعني؟ – هم مسوخ ذوو مسوخ من ضحاياهم، ولا نجاة لهؤلاء أو أولئك إلا بقتل الوحش! فتهدَّج صوتي وأنا أقول: لعمري إنك لَسيدنا الخضر دون غيره! – لا أهمية لذلك، المهم مَن يكون الشاطر حسن؟ وهم بالقيام فأمسكت براحته، وسألته بشغف: متى أراك ثانية؟ فقال واقفًا معلنًا عن قامته الطويلة النحيلة: لا أهمية لذلك. وذهب مشيَّعًا بمودتي الخالصة. وبقوة آسرة، ودون مقدمات، آمنت بأنني صاحب رسالة، وأنه آنَ لي أن أودع أحلام اليقظة. ولكن من يكون المسوخ؟ ومن يكون مسوخ المسوخ؟ ومن يكون الوحش؟ وكيف فاتني أن أستجوبه؟ ولم يغِبْ عني السر، فالحقيقة أن محضره يشتت الإرادة. وجدتني في محضره طوع خواطره، مسلوب المنطق، لا أزيد عما يريد حرفًا. هذه هي الحقيقة. ولذلك لم يداخلني شك في أنه ولي من الأولياء. وأدركت بعد فوات الوقت أنني لم أنتبه لقيمة الوقت، وأنني عبرت معه لحظة من اللحظات التي تُسترجع فيما بعد بشق الأنفُس، فيعتدُّها الخيال إحدى الفرص التي لا تتكرر ولا يجدي معها الندم. واستَدعيتُ بإشارةٍ النادلَ عم زياد البرلسي، ثم سألته: هل تعرف الشيخ الذي كان يجلس إلى جانبي؟ فقطَّب متذكرًا وقال: شغلني العمل عن ذلك. – ولكنك قمت بخدمته، وقدمت إليه طلبه؟ – لعله كان يجلس في مكان ما ثم انتقل إليك بقدحه. وكان من الممكن أن أعتبر المسألة حالًا من أحوال السُّكْر تذهب بذهابه، ولكن لا جدوى من مخادعة النفس، فالأمر أخطر مما يُتصوَّر. نفذ السهم إلى مركز اليقين. وما كان في وسعي أن أتحلل من مهمة ألقتها الأقدار على عاتقي، فأرضى هانئًا بالعودة إلى آفة اللاشيء. وألقيت نظرة على مَن حولي من السكارى، فإذا بهم يسبحون فوق تيار من الهموم المتضاربة، ويناقشونها بندًا بندًا بغير ملل. الأسعار، التهريب، الاستيلاء على أراضي الدولة، الثروات غير المشروعة، سوء المعاملة، الطوابير، الديون، النفوذ الأجنبي، القذارة، المجاري، المذابح، وغيره مما لا يحيط به حصر، ولكن لا أحد يتحدث عن مسوخ أو مسوخ المسوخ أو الوحش. ومتشجعًا بحنان الليالي المتتابعة سألت: هل رأى أحد منكم الشيخ ذا العباءة الأرجوانية؟ فانطرحتْ لحظة صمت، ثم اندفعت أصوات ضاحكة تُغني: لم يبلَّ أحد ريقي، وغرقوا في الضحك والهناء، فعدت أسأل: مَن المسوخ؟ هل جرى لكم عِلم بذلك؟ فماجوا بحركات الضحك الراقصة، غير أنني سألت بإصرار: ومن يكون الوحش؟ فصاح أحدهم: أخوكم وصل، فلتحفظنا بركة دعاء الوالدين! أقلعت عن السؤال. وغادرت الخمَّارة وأنا أعد نفسي من مواليد تلك الليلة العجيبة. وكلما أقبلتُ على الخمارة أقبلت على أمل في أن أرى الشيخ من جديد، ولكن دون جدوى. وطيلة نهاري أتساءل عمن يكون المسوخ وعمن يكون الوحش. وكلما مررت بحيوان أو شجرة أو حجر استحوذ على خيالي، ولمحت في صميم جوهره مسخًا من بني آدم يئن ويتعذب. وساءتني التفرقة في المعاملة بيني وبين الشاطر حسن، فبقدر ما أعَانَه الخضر على أداء مهمته بقدر ما أعرض عني، تاركًا إياي للكدح والعذاب. وانتهت بي الحيرة إلى اتخاذ قرار جريء، وهو أن أسأل أهل الرأي والخبرة، مستشهدًا بقول القائل «لا خاب من استرشد.» واتجه ذهني أول ما اتجه نحو السيد «م» وهو من البارزين في الحزب الوطني الديمقراطي. توسلت إلى مقابلته بصديق، ثم عرضت عليه حيرتي، وسألته: من هم المسوخ؟ ومن هم مسوخ المسوخ؟ ومن هو الوَحش؟ ولم يأخذ من التفكير إلا أقصر وقت ثم قال بثقة: عندنا نوعان منهم، مسوخ من العملاء الملاحدة، ومسوخ المسوخ هم المخدوعون من أتباعهم، والوحش في هذه الحال هو الشيوعية أو إن شئت الاتحاد السوفييتي. ومسوخ من التيار الديني المنحرف، ومسوخ المسوخ هم أتباعهم من المخدوعين. والوحش في هذه الحال بعض الدول مثل إيران وليبيا. وتركته شاكرًا وبي غصة من خيبة الأمل؛ إذ مهما تكن ثقتي في نفسي ورسالتي؛ فمن أين لي بالقوة التي أقتل بها الاتحاد السوفييتي وإيران وليبيا؟ ولكن همتي لم تفتُرْ، فاتجه تفكيري في الحال نحو الأستاذ «أ» المُعترَف بحكمته في حزب التجمع، واستقبلني سيادته بلا أدنى صعوبة، فعرضت عليه حيرتي، ثم سألته: من هم في رأيك المسوخ ومسوخ المسوخ، ومن هو الوحش؟ فاعتدل في جلسته، وابتسم ابتسامة العالم بكل شيء، وقال: يستوي عندي أن تكون سائلًا بريئًا، أو أن تكون قادمًا من طرف السيد وزير الداخلية، ولكن ذلك لن يمنعني من إجابتك، طالما أننا نعمل في وضح النهار، فاعلم أن المسوخ هم عملاء الغرب، ولا يوجد مسوخ المسوخ؛ لأنه لا أتباع لهم، وما الملتفُّون حولهم إلا مجموعة من الانتهازيين، تجدهم بأشخاصهم في رحاب كل حكومة، أما الوحش فهو الإمبريالية العالمية أو إن شئت الولايات المتحدة الأمريكية. فأكدتُ لسيادته أن حيرتي نابعة من ذاتي، ولا علاقة لها بالسيد وزير الداخلية، وشكرت له بيانه، ثم غادرته مُوقنًا بأن الصعود إلى القمر بلا تكنولوجيا أيسر عليَّ من قتل ذلك الوحش الجديد. ومع ذلك صمَّمت على السير في طريقي حتى نهايته. تذكرت صديقًا قديمًا انخرط منذ أعوام في تيار ديني متطرف، فقصدته دون تردد. استقبلني مداريًا فُتورَه؛ إكرامًا للعهد القديم، ولكنه امتنع في الوقت نفسه عن مصافحتي متمتمًا: معذرة، لا أصافح كافرًا! وكنت موطِّنًا نفسي على تحمُّل أي سلوك يجيئني منه، فقبلت عذره. وعرضت عليه حيرتي ثم سألته: مَن هم المسوخ؟ ومَن مسوخ المسوخ؟ ومَن يكون الوحش؟! فقال من فوره: المسوخ هم حُكام البلاد الإسلامية ورجال الدين بها، ومسوخ المسوخ هم جمهرة المسلمين، وأما الوحش فهو نظام الحكم في كل مكان. وغادرت موضعه مغموسًا في المرارة. خُيل إليَّ أن القضاء على الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة معًا أيسر من القضاء على الوحش الجديد، ولكني لم أنثنِ عن مسيرتي. وتذكرت الأستاذ «ن» الذي يُمثل فكر الوفد كخير ما يكون التمثيل. واستقبلني سيادته بحرارةٍ لا توهب عادة إلا للأصدقاء. وعرضت عليه حيرتي، ثم سألته: مَن هم المسوخ، ومَن هم مسوخ المسوخ، ومن هو الوحش؟ فقال باسمًا في ثقة تامة: المسوخ هم جميع السياسيين غير الوفديين، ولا أتباع لهم في الحقيقة، فالبلد وفدي مائة في المائة، أما الوحش فهو النظام الدكتاتوري الذي لم يُوفَّق بعدُ إلى قناع يُخفي به وجهه. وتركته شاكرًا، وأنا أقول لنفسي حقًّا: إن هذا الوحش يبدو أقرب إلى اليد من الوحوش الأخرى، ولكن بالقياس إلى قوتي الذاتية يمكن القول بأن «سي أحمد أخو الحاج أحمد». ولم يبقَ في جدولي إلا المثقفون، فاخترت الأستاذ «أ»؛ لمنزلته المعترف بها من الجميع. واستقبلني بحياد، فعرضت عليه حيرتي ثم سألته: من هم يا أستاذ المسوخ؟ ومن هم مسوخ المسوخ؟ ومن هو الوحش؟ فأجابني بجفاء: المسوخ هم الجهلة، وتجدهم في كل موقع لا بقاء لهم إلا بالقوة، ومسوخ المسوخ أتباعهم، وهم أجهل منهم ولكنهم أكبر دهاء وانتهازية، أما الوحش فهو الجهل. وتركته وأنا أتساءل، وكيف يمكنني قتل الجهل؟ أجل إني أعتبر الأستاذ «و» خير من يُجسد الجهل، ولكن هل يزول الجهل بقتله؟ ووجدتني أغوص أكثر وأكثر في دوامة لا فكاك منها، حتى ورد على خيالي مولاي العارف بالله الشيخ «ص» فقصدته من فوري، واستقبلني — كالعادة — باسمًا مُرحبًا، ولكنه بادرني قائلًا: أعرف ما ساقك إليَّ اليوم! فلم أُدهش لسابق علمي بقدرته على النفاذ إلى أعماق القلوب. وقال متعني الله بعمره ونورانيته: ما المسوخ إلا عُشاق هذه الدنيا الفانية، ومسوخ المسوخ هم المبهورون بما يملك سادتهم من زخارف زائلة، أما الوحش فهو النفس الضالة. وعُدتُ إلى بيتي وأنا أقول لنفسي: حقًّا إن هذا الوحش لا يُستهان بأمره، ولكن قتله ممكن، ولن يعرضني لقبضة القانون. وأعلنت الحرب، وأقسمت على الصمود والتصدي مهما طال بي الزمن. ولم أهجر بطبيعة الحال خمارةَ نجمة الصبح التي عرفتُ أستاذي العارف بالله في ركن من أركانها. وفي ذات ليلة وأنا ثمل بنشوتي في مجلسي المختار انتبهت على وجود صاحب العباءة الأرجوانية إلى جانبي، وهو يمزج النبيذ بالليمون. وهتفت: يا للسعادة! لقد جئت أخيرًا. ولكنه لم يُعِرني أدنى اهتمام، فقلت: لقد عملت بمشورتك، وها أنا أقاتل الوحش حتى أقتله. وأصرَّ على تجاهلي تمامًا، ولم يُلقِ عليَّ نظرة واحدة، ولم تهب عليَّ من ناحيته نسمة أُنس أو مودة. وأفرغ قدحه في فِيهِ، ثم نهض متجهِّمًا وذهب. تركني لحيرة لم تخطر لي في بال.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/10/
البَقاء للأصلح
المنة لله، لا أحمل في الدنيا همًّا. مترجِم محترَم، ومالِك بيت مكوَّن من ثلاثة أدوار وبدروم، متزوج وموفَّق، وأب لشاب وشابة متزوجينِ، وإلى هذا كله فإنني حسن الهضم لهموم الدنيا الصغيرة. في العصاري — عدا أيام الشتاء — أجلس في شُرفة الدور الأوسط برفقة زوجي والقهوة والفول السوداني واللب الأبيض، يترامى أمام أعيننا شارع البطريق بحوانيته وجراجه العمومي، نتفرج على كل مَن هبَّ ودب. من مجلسنا نرى سُكَّان بيتنا في الذهاب والإياب، علي كمال ساكن الدور الأعلى وهو محامٍ، ونُطلق عليه «الأستاذ»، وصاحب الدور الأول مدكور البقلي، ونُطلق عليه «الشيخ» رغم أنه أفندي وذلك لإرساله لحيته. أما البدروم فتقيم فيه ست محسنة رضوان وندعوها «المحمل» لسمانتها. وعلى صِغَر البيت؛ فكل أسرة مستقلة بذاتها لا تعرف من أصول الجيرة إلا التحية العابرة عند اللقاء النادر. من أجل ذلك انطوت كل أسرة على أسرارها، فلا أعرف عن أي منها شيئًا يستحق الذكر. غير أنني لاحظت دون جهد كثرة زوار الأستاذ والشيخ، أما ست «محسنة»؛ فكانت تعيش في عُزلة شبه مُطْلقة. وذات يوم طلب الأستاذ مقابلتي فاستقبلته مُرحبًا ومداريًا قلقي حيال قسماته الحادة ونظرته الثاقبة. اعتذر عن تطفله بأسلوب لبِق ثم قال: حرصًا على وقتك سأدخل في الموضوع مباشرة. فشجَّعته بابتسامة فقال: أنا في حاجة إلى البدروم والدور الأول، وسيعود عليك ذلك بخير وفير! فقلت وأنا في غاية الدهشة: ولكن لكلٍّ ساكنُه، وأنت أدرى بقوانين المساكن! فقال بثقة: سيضطرون إلى إخلاء مسكنيهما، ولكن يجب أن نتفق قبل ذلك. فتساءلت في حيرة: كيف؟ فَكَوَّرَ قبضته السمراء تحت ذقنه، وقال: ثبت لديَّ أن مدكور البقلي من الخطِرينَ، وأنه جعل من شقته مُلتقًى لنفَر من التيار المتطرف. فتولاني خوف وقلق وقلت: لا عِلْم لي بذلك، ولا شأن لي به. – طبعًا، سأتكفَّل بالواجب، ولكنَّا علينا أن نتفق أولًا. – وست محسنة رضوان؟ فضحك ضحكة مقتضبة وقال: اصحَ يا نائم، إنها تنتظر حتى يجثم النوم، ثم تستقبل أهل الدعارة! ففزعت هاتفًا: لا! – هي الحقيقة، وسوف تلمسها بنفسك. – إنك مُقْدِم على مغامرة خطيرة! – إني واثق من نفسي تمامًا. وشملنا صمت غير قصير، ولما استرددت أنفاسي سألته: وماذا تفعل بالشقَّتين؟ سأجعل من البدروم مطبعة، ومن الدور الأول دارًا للنشر، وسيكون لك عقْد مناسب. وقلت وأنا أنفخ: تلزمني مهلة للتفكير والتشاور مع الهانم. فقام وهو يقول: طبعًا، ولكن ليكن الموضوع سرًّا بيننا. وأفضيت بهمي كله إلى زوجي، فقلَّبت الأمر على وجوهه، ثم انتهت إلى أنه إذا صح ما يدعيه الأستاذ ونجح تدبيره، فسوف يتطهر البيت ويضاعف الدخل. وما علينا من بأس طالما أنه لن يورطنا فيما لا نحب. ولكن قبل أن يتم اللقاء مع الأستاذ طلب الشيخ مدكور البقلي مقابلتي. توقعت من فوري مزيدًا من الارتباك والهواجس، وخُيل إليَّ أنه شعر بطريقة ما بما يدور حوله فبادر للعمل. وتقابلنا فاعتذر عن إزعاجي وقال: يقتضيني دِيني أن أُصارحك بالحق الذي علمته، فقد ثبت عندي أن الدور الأعلى ما هو إلا خلية هدامة، وأن البدروم بؤرة فسق، وسأقوم بما يفرضه عليَّ ديني وضميري. انهالت عليَّ كلماته كطلقات الرصاص، فغرقت في دوامة صاخبة وتمتمت: أي فظاعة لم تجرِ لي في بال! – إنك رجل طيبٌ وحسَنُ الظن بالناس، وسيكون خلاص بيتك على يديَّ إن شاء الله، وفي مقابل ذلك أرجو أن توافق على تأجير الشقَّتَين لي! فتساءلت بذهول: ما حاجتك إليهما؟ – سأجعل من البدروم مطبعة ومن الشقة دار نشر، وعلى أن يتم الاتفاق بيننا على ذلك. فقلت وأنا أغوص أكثر وأكثر في الدهشة والارتباك: أعطني مهلة للتفكير. فقام وهو يقول: لك هذا يا أخي في الإسلام، وليكن الأمر سرًّا بيننا، ولكن تذكَّر أن خير البر عاجله. ولما علمتْ زوجي بما دار بيننا بردَ حماسها الأول، وبدا لها الأمر أشد تعقُّدًا وخطورة، فخافت التورط فيما لا تُحمد عقباه، وتفكرَتْ مليًّا ثم انتهت إلى رأي، فقالت: علينا أن نمتنع عن أي اتفاق ثم ننتظر. فارتحت إلى رأيها، وعزمت على مصارحة الرجلينِ بأنه لا شأن لنا بالموضوع. ولا اتفاق نرتبط به قبل أن ينجلي الموقف. ولم تكد تمضي ساعات على ذهاب الشيخ حتى رنَّ جرس الشقة، وإذا بست محسنة رضوان تطالعني بجسمها المترامي، في فستان بُني محتشم، معتمرة بخمار أبيض. تمتمت: دستوركم. ثم مضت نحو حجرة الاستقبال تتبختر كالتختروان، وجلست وهي تقول: أود الاجتماع بك والست حرمك. وقد كان. وفي أثناء الجلسة استرقتُ النظر مستطلعًا، فبدَتْ لي غير ما تبدو من بعيد، لا لحسنها ونضجها الأنثوي فحسب، ولكن لتلك النظرة التي لا يخفيها التصنع، نظرة مليئة بالخبرة والمجون. فقلت لنفسي: إنها ولا شك كما يُقال عنها. وقالت المرأة بنبرة جريئة وناعمة: كان يجب أن نتعارف من قبل كما يليق بامرأة وحيدة مثلي، ولكني شعرت بأنكما تُؤْثِران العزلة. ثم مغيرةً درجة صوتها إلى مقام أدنى مشحون باهتمام أكثر: ما علينا، ها هي الضرورة تسوقني إليكم، وتدعونا جميعًا للدفاع عن النفس! فأقبلتْ زوجي نحوها بتركيز أكثر قائلة: خيرًا؟ – يصدق على بيتنا المثل القائل: يا ما تحت السواهي دواهي، وبفضل من سهري المعتاد وراء الشيش المُغلق عرفت أشياء وأشياء. وتساءلت أعيننا دون أن تنبس شفاهنا، فواصلت المرأة: تبين لي أن الدور الأعلى وَكْر هدامين، وأن الدور الأول وكر منحرفين، رأيت بعيني وسمعت بأذني، وأخْوف ما أخاف أن يكون المسكنان قد تحوَّلا إلى مخزنينِ للذخيرة، وأن نكون عرضة للهلاك ونحن لا ندري! فاستعاذت زوجي بالله بصوت متهدِّج، فقالت ست محسنة: اطمئني فإني أعرف كيف أدافع عن نفسي، وعن الناس الطيبين، غير أنه لي رجاء، هو أن أستأجر شقتيهما بعد خلوهما! فتسرعت زوجي قائلة: لكِ هذا، يا ست محسنة. أما أنا فسألتها: وما حاجتكِ إليهما؟ فقالت باسمة كاشفة عن سِنَّتين ذهبيتين لأول مرة: بصراحة سأجعل الدور الأول كافتيريا، والآخر مطعمًا على أحدث طراز، وسيدر العقد الجديد عليكم أكثر مما تُدر عمارة؛ ولذلك يجب أن يتم بيننا اتفاق مبدئي! ومن منطلق تجربتي السابقة بالموقف نفسه، قلت: تلزمنا مهلة للتفكير. – صدقني لا ضرورة لذلك، سيتم كل شيء بأسرع مما تتصور! فتمتمتُ: مهلة قصيرة. – أمهلك ولا تنسَ صاحبة الفضل في تخليصك من شر مؤكد. ثم وهي تمضي في سبيلها: يكفيني كلمة شرف! فقالت زوجي بحرارة: كلمة شرف لا رجوع عنها! وحقًّا تتابعت الأحداث بأسرع مما تصورنا. في تلك الليلة اقتحم رجال الأمن الشقتين، وسمعنا أنهم عثروا على أدلة بينة، وخُتمت الشقتان بالشمع الأحمر. ولما زايلنا الذهول والانفعال، قلت لزوجي: ستطالبنا بإتمام الاتفاق. فقالت بثقة: إنها صفقة رابحة، ولعله من الأوفق أن ننتقل نحن إلى الدور الأعلى بعيدًا عن الضجة: فقلت بقلق: ولكني أُرجِّح أن ما قيل عنها حق وصدق. – لو صح ذلك لقُبض عليها أيضًا! – لها عينان فاجرتان. – إنها بالنسبة إليَّ صاحبة فضل، ولسنا المسئولين عن الأخلاق في البلد. وكان للمرأة ما أرادت. وتحول بيتنا إلى كافيتريا ومطعم على أحدث طراز. في بادئ الأمر ساورني شك في نجاح المشروع؛ لبُعد مكانه عن وسط المدينة، ولكن سرعان ما أذهلني نجاحه، وإقبال السيارات الفارهة عليه، حاملة أناسًا ما كان يخطر ببال أنهم سيشرفون بيتي المتواضع بحال من الأحوال. المنة الله، لا أحمل في الدنيا همًّا.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/11/
الفَأر النرويجي
من حُسن الحظ ألا نكون وحدنا في هذه المحنة. وقد دعانا السيد «أ. م» بوصفه أقدم مُلاك الشقق في العمارة إلى اجتماع في شقته لتبادل الرأي. لم يزد عدد الحاضرين عن عشرة، بما فيهم الداعي السيد «أ. م». وهو فضلًا عن أقدميَّته أوسعنا ثراءً وأرفعنا مركزًا. ولم يتخلف عن أحد، كيف يتخلف، والمسألة تتعلق بالفئران وغزوها المُحتمل لبيوتنا وتهديدها لأمننا وسلامتنا؟ ويبدأ الداعي بصوتٍ ملؤه الجدية «تعلمون …»، ثم يسرد ما تردده الصحف عن زحف الفئران وأعدادها الهائلة وتخريبها البشِع. وترتفع أصوات من أركان الحجرة: ما يقال يفوق الخيال. – هل رأيتم الريبورتاج التلفزيوني؟ – ليست فئرانًا عادية، ولكنها تُهاجم القطط والآدميين. – ألا يُحتمل أن يوجد شيء من المبالغة في الموضوع؟ – لا .. لا، الواقع أكبر من أي مبالغة. ثم يقول السيد «أ. م» بهدوء واعتزاز برياسته: على أي حال ثبت أننا لسنا وحدنا، هذا ما أكده لي السيد المحافظ. – جميل أن نسمع ذلك. – فما علينا إلا أن ننفذ التعليمات بدقة، ما يجيء منها عني مباشرة، أو ما يجيء عن طريق السلطة. وخطر لأحدنا أن يسأل: هل يكبدنا ذلك تكاليف باهظة؟ فلجأ إلى الدين قائلًا: الله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها. – المهم ألا تكون مُرهِقة. فلجأ إلى الحكمة قائلًا: لا يُدفَع الشرُّ بما هو شر منه! وعند ذاك قال أكثر من صوت: ستجدنا إن شاء الله من المتعاونين. فقال السيد «أ. م»: نحن معكم، ولكن لا تعتمدوا علينا كل الاعتماد، اعتمدوا أيضًا على أنفسكم، ابدءوا على الأقل بالبديهيات. – عين العقل والصواب، ولكن ما البديهيات؟ – اقتناء المصايد والسموم التقليدية. – عظيم. – الإكثار ما أمكن من القطط في بئر السلم، وفوق السطح وفي الشقق أيضًا إذا سمحت الظروف. – لكن يُقال إن الفأر النرويجي يهاجم القطط؟ – لن يخلو القط من فائدة. ورجعنا إلى مساكننا بروح عالية وعزيمة صادقة. وسرعان ما غلب التفكير في الفئران على سائر همومنا. فكثر ورودها علينا في أحلامنا، وشغلت أوسع مساحة في حوارنا، وتصدَّت لنا باعتبارها المشكلة الأولى في وجودنا. ومضينا ننفِّذ ما تعهدنا به، ولبثنا ننتظر مجيء العدو. يقول بعضنا: إنه لم يبقَ من الزمن إلا أقله، ويقول آخرون: سنلمح ذات يوم فأرًا يمرق، فيكون النذير بأن الخطر قد دهم. وتضاربت التفسيرات حول تكاثر الفئران. هو في رأي نتيجة لخلو مدن القنال حين الهجرة، وفي رأي يرجع إلى سلبيات السد العالي، ورأي يحيله إلى نظام الحكم، وكثرة ترى فيه غضبًا من الله على عباده لتنكرهم لهداه. وبذلنا جهدًا مشكورًا للاستعداد الرشيد لم يتهاون فيه أحد. وفي اجتماع تالٍ بمسكن السيد الفاضل «أ. م»، قال حفظه الله: سرَّني ما اتخذتم من أسباب الوقاية، وأسعدني أن أرى مدخل عمارتنا وهو يموج بالقطط، أجل إن البعض شكا إليَّ تكاليف تغذيتها، ولكن كل شيء يهون في سبيل الأمن والأمان. وقلَّب عينه في وجوهنا بارتياح، ثم تساءل: تُرى ما أخبار المصايد؟ فأجاب أحدنا وهو مربٍّ فاضل: سقط عندي فأر هزيل في فئراننا الوطنية. – أيًّا تكن هوية الفأر فهو مؤذٍ، أما اليوم فيهمني أن أبلغكم بوجوب المزيد من الحيطة بعد أن أصبح العدو على الأبواب، وسوف تُوزَّع علينا كميات من السم الجديد المطحون في الذرة، يوضع في الأماكن الحساسة مثل المطبخ مع الحذر الشديد لحماية الأطفال والدواجن والحيوانات المستأنسة. وحصل فعلًا ما وعد به الرجل، وقلنا حقًّا: لسنا وحدنا في المعركة، وتدفق منا الثناء على جارنا الهُمام، ومحافظنا الجليل. أجل حَمَّلنا ذلك الكثير من الانتباه يُضاف إلى همومنا اليومية. كذلك وقعت أخطاء لا مفر منها، فقُتلت قطة في إحدى الشقق، وعدد من الدجاج في شقة أخرى. ولكن لم تحدث خسائر في أرواح البشر. وكلما مضى وقت اشتدَّ توتر أعصابنا ويقظتنا، وثقل على قلوبنا هم الانتظار، فقلنا: وقوع البلاء ولا انتظاره. ويقابلني جار ذات يوم في محطة الباص، فيقول لي: سمعت من ثقة أن الفئران أهلكت قرية وزمامها كله. – لا أثر لهذا الخبر في الجرائد! فحدجني بنظرة ساخرة ولم ينبِسْ. وتخيلت الأرض سائلة بحشود من الفئران لا أول لها ولا آخر، وجموعًا من المهاجرين تهيم على وجهها في الصحراء، أيمكن أن يقع هذا يا ربي؟! ولكن ما وجه الاستحالة في ذلك؟ ألم يُرسل الله من قبلُ الطوفانَ والطير الأبابيل؟ هل يكُف الناس غدًا عن كفاحهم اليومي ليرموا بما يملكون في أتون المعركة؟ وهل ينتصرون أو تكون النهاية؟ في الاجتماع الثالث بدا السيد «أ. م» منشرحًا وراح يقول: تهانيَّ يا سادة، النشاط متقد على أكمل وجه، والخسائر ضئيلة لا تُذكر ولن تتكرر بإذن الله، وسوف نُصبح من أهل الخبرة في مقاومة الفئران، وربما استعانوا بنا في المستقبل في أماكن أخرى، والسيد المحافظ في غاية من السعادة. وأراد أحدنا أن يشكو قائلًا: الحق في أعصابنا … ولكن السيد «أ. م» قاطعه: أعصابنا؟! .. لا تُفسد نجاحنا بكلمة طائشة! – متى يبدأ الهجوم الفأري؟ – لا أحد يستطيع أن يقطع برأي، ولا أهمية لذلك، طالما أننا مستعدون للمعركة. ثم واصل بعد فينة صمت: التعليمات الجديدة ذات خطورة خاصة، وهي تتعلق بالنوافذ والأبواب وأي ثقب في جدار أو غيره. أغلقوا النوافذ والأبواب، افحصوا حافة الباب السُّفلية بصفة خاصة، فإن وُجد زيق تنفذ منه قشَّة أقيموا وراءه عوارض خشبية لتسده بالكامل، وعند التنظيف صباحًا يبدأ بحجرة فتُفتح نوافذها، يكنس فرد ويقف آخر مسلحًا بعصًا للمراقبة، ثم تُغلَق النوافذ ويُنتقل إلى حجرة تالية بنفس الأسلوب، وبانتهاء التنظيف تكون الشقة علبة محكمة الإغلاق أيًّا كان المناخ. وتبادلنا النظرات في وجوم، وقال صوت: من المتعذر الاستمرار في ذلك. فقال الرجل بوضوح: بل عليكم أن تلتزموا بالدقة البالغة في التنفيذ. – حتى في الزنزانة توجد … وسرعان ما قاطعه بحدة: نحن في حرب، أي في حال طوارئ، وليس الخراب فقط ما يهددنا، ولكن الأوبئة أيضًا والعياذ بالله يجب أن نحسب حسابها! ومضينا ننفذ ما أُمرنا به صاغرين. وغُصنا أكثر في مستنقع الترقب والحذر، وما يصحبه من ضيق وملل. واشتد توتر الأعصاب، فتُرجم إلى منازعات حادة يومية بين رب البيت وربتها والأبناء. ورُحنا نتابع الأنباء فصار الفأر النرويجي بجسمه الضخم وشاربه الطويل ونظرته المُنذرة الزجاجية نجمًا من نجوم الشر يجول في أخيلتنا وأحلامنا، ويستقطب جل أحاديثنا. وفي آخر اجتماع قال السيد «أ. م»: بشرى، خُصِّصت فرقة من أهل الخبرة؛ لتفقُّد العمائر والشقق والمحالِّ المعرضة للخطر، وذلك دون المطالبة بأية رسوم إضافية. وكان خبرًا سارًّا استقبلناه بارتياح عام، وأملنا أن نزيح عن صدورنا بعض العَناء الذي تعانيه. وذات يوم أخبرنا البوَّاب أن المندوب تفقَّد مدخل العمارة وبئر السلم والسطح والجراج، فبارك جماعات القطط المنتشرة هنا وهناك، ونبه عليه بالمزيد من اليقظة والإبلاغ عن أي فأر يظهر، نرويجيًّا كان أو مصريًّا. وعقب انقضاء أسبوع واحد على الاجتماع دق جرس الشقة، وإذا بالبواب يبشرنا بقدوم المندوب مستأذنًا في التفتيش. لم يكن الوقت مناسبًا؛ إذ كانت زوجي قد فرغت لتوها من إعداد الغداء، غير أنني هُرعتُ إلى الخارج لأُرحب بالقادم. وجدتني أمام رجل متوسط العمر مكتنز الجسم ذي شارب غليظ يُذكِّر وجهه المربع بوجهِ قطٍّ بأنفه القصير المطموس ونظرته الزجاجية. رحبت به مداريًا ابتسامة كادت تنقلب إلى ضحكة، وقلت لنفسي: حقًّا إنهم يحسنون الاختيار. وسرت بين يديه ومضى يتفقد المصائد والسموم والنوافذ والأبواب، ويهز رأسه بارتياح. غير أنه رأى في المطبخ نافذة صغيرة مصفحة بغشاء سلكيٍّ ذي ثقوب بالغة الصغر، فقال بحزم: أغلقوا النافذة. وهمت زوجي بالاحتجاج، ولكنه بادرها قائلًا: الفأر النرويجي يقرض السلك! ولما اطمأنَّ إلى نفاذ أمره راح يتشمم رائحة الطعام معلنًا استحسانه، فقلت له: تفضل. فقال ببساطة: لا يأبى الكرامةَ إلا لئيم! وفي الحال أعددنا له مائدة وحده، زاعمين له أننا سبقناه. وجلس إلى المائدة، وكأنما يجلس في بيته، وجعل يلتهم الطعام بلا حرَج ولا حياء وبنَهَمٍ عجيب. ومن باب الذوق غادرناه وحده، غير أنني رأيت بعد حين أن أطوف به؛ لعله في حاجة إلى شيء. وفعلًا جدَّدت له طبقًا، وفي أثناء ذلك لاحظت تغيرًا مثيرًا في منظره شد إليه عينيَّ بقوة وذهول. خُيل إليَّ أن هيئة وجهه لم تعد تُذكر بالقط، ولكنها تُذكر بالفأر، بل الفأر النرويجي نفسه. ورجعت إلى زوجي ورأسي يدور، لم أصرح لها بما رأيت ولكنني طالبتها بأن تشجِّعه وترحب به، فغابت دقيقة أو دقيقتين، ثم رجعت شاحبة اللون وحملقت في وجهي ذاهلة، ثم تمتمت: أرأيت شكله وهو يأكل؟ فأحنيت رأسي بالإيجاب فهمست: إنه لأمر مذهل يعز عليَّ التصديق. فوافقتها على رأيها بهزة من رأسي الدائر. ويبدو أن إغراقنا في الذهول أنسانا مرور الوقت، فانتبهنا مع صوته آتيًا من الصالة، وهو يقول بمرح: عامرًا! فاندفعنا نحوه ولكنه كان قد سبقنا إلى الباب الخارجي وذهب. لم نلمح منه إلا ظهره المترجرج، ثم التفاتة سريعة ودَّعتنا بابتسامة نرويجية خاطفة. ووقفنا وراء الباب المُغلق نتبادل نظرات حائرة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/12/
قاتل قديم
صدرت «يوميات علاء الدين القاهري» فاقتحمَتْ عزلة شيخوختي، عاصفة بهدوئها وانقطاعها عن الحياة العامة. عاد اسمه يطاردني وينكأ جرحًا في كبريائي. ويُذكرني بفترة الاحترام والتقدير، وعهد النفور والرفض، وأخيرًا الفشل. وأقتنى الكتاب، وأنهمك في قراءته، بدءًا من مقدمة ابن أخيه، فأقف على سر تأخير النشر ربع قرن عقب مصرع الرجل احترامًا لوصيته، وأغوص بين السطور؛ لعلي أعثر على حل اللغز الذي حيرني. وينبثق من إحدى اليوميات بصيص نور فأمتلئ بالاستنارة وأنتفض من الذهول، وأهتف في حجرتي المُغلقة: كان القاتل بين يدي طوال الوقت! واخترقت الضباب إلى حجرتي في نقطة الشرطة، فرأيت رجلًا يندفع داخلًا مضطربًا شاحب الوجه بجسمه الطويل المفتول، ويقول لاهثًا: الأستاذ قتيل في فراشه. وتفحصته بعين محترفة متسائلًا عمَّن يعني فقال: الأستاذ علاء الدين القاهري. فأشعل اهتمامي، وأدركت في الحال أن الروتين سينحرف عن مجراه المألوف. – أنا خادمُه، ذهبت إلى بيته صباحًا كالعادة، رأيت باب حجرة نومه مفتوحًا، فألقيت نظرة فرأيته في فراشه غارقًا في دمه. واستجابةً لاستفسار قال: أُغادر بيته ليلًا وأعود إليه في الصباح، فأفتح الباب بمفتاح. أما المفتاح الآخر ففي حوزة الأستاذ. لم أضيع وقتًا أكثر من ذلك، فأبلغت المأمور وذهبت إلى بيت الأستاذ بصحبة قوة من الجنود والمخبرين. وفي الطريق غمرتني ذكريات. ذكرت حماسي لفكرة أيام الدراسة، الذي زحف عليه الفتور فيما بعد وخُتم بالرفض. كان أستاذًا جامعيًّا مرموقًا، ومؤلفَ كتبٍ تعتبر المرجع الأول في الدعوة للحضارة الغربية والنقد المر للتراث، فحظِيتْ بقلة من المعجبين وكثرة من الناقمين. وجرى الزمن وتغير، فبلغ سن المعاش، واعتزل في بيته، واقتصر اتصاله بالناس على استقبال بعض الزملاء ممن على شاكلته في الرأي، وبعض الشباب من المعجبين. وعانى الجو العام من اختناق في الفكر على المستويين الرسمي والشعبي، فلم يُعِدْ طبع كتبه، ولم يتيسر الاطلاع عليها إلا في دار الكتب، وخاصة لأصحاب الرسائل الجامعية. رغم ذلك كله بقي اسمه حقيقة ثقافية ذات وزن ثقيل في الجيل المخضرم وقلة من الشباب، فلم تغب عني خطورة الجريمة وأثرها المنتظر. ودرست موقع البيت في الخارج وسط صف من بيوت مماثلة شيدَتْها جمعية تعاونية. بيت صغير أنيق أبيض من دور واحد، وحديقة صغيرة تعبق برائحة الياسمين. ورأيت الجثة منكفئة على وجهها، والغطاء منحسر عن نصفها الأعلى، والدم يُغطي مؤخَّر الرأس والقفا وينداح فوق الحشيَّة والوسادة. غلفه وجه الموت الأخرس المغترب. بهتت صلعته، وتمدد أنفه الكبير الأقنى في صفحة ضاربة للزرقة غائصة في اللامبالاة. لا أثر للمقاومة ثمة، وكل قطعة أثاث مستقرة في موضعها في طمأنينة تامة، وفي الحال لحِق بي المأمور ومدير الأمن والنائب العمومي، وجرى فحصٌ شامل للمسكن ومحتوياته. وبهرنا نظامه الدقيق وترتيبه الحسن، فلا يشذ شيء عن موضعه، عدا صينية على خوان في حجرة الاستقبال تحوي عددًا من أقداح الشاي في قراراتها شيء من السائل، ووعاء معدني مفضَّض به بقايا من البسكوت المُطعَّم بالشيكولاتة، ونافضة مليئة بأعقاب السجائر. وصوان الملابس لم يُمَسَّ، والساعة والولاعة، كما عثرنا على مظروف به مائة جنيه. وتبُودل حديث أَولي بين المسئولين: الجريمة لم تُرتكب من أجل السرقة. – احتمال راجح ولكن يقتضي مزيدًا من التحرِّي. – هناك باب الخصومة والانتقام. – هل تدخل في هذا الباب الخصومة الفكرية؟ – لكن الأجيال الجديدة لا تكاد تعرفه، وإن وجب أن يمتد البحث لكل شيء. – والعلاقات الخاصة المجهولة أيضًا. وعرفت القنوات التي ستتدفق منها التحريات، ثم بدأ التحقيق باستجواب الخادم عم عبده مواهب. رجل في الخمسين، يعمل طاهيًا وشغَّالًا عند الأستاذ منذ عشرين عامًا، وهو محور البيت كما يخلق ببيت أعزب يعيش وحده. ينتهي عمله عقب تقديم العشاء في الثامنة، ثم يُغادر البيت حوالي التاسعة ليمضي إلى مسكنه بمصر القديمة ثم يرجع في الصباح قبل استيقاظ الأستاذ عادةً. ويخالف هذا النظام في الليالي التي يستقبل فيها الأستاذ جماعة من أقرانه أو مريديه من الشُّبان. فربما تأخر ميعاد ذهابه إلى منتصف الليل. وبالنسبة لليوم الذي قُتل الأستاذ في ليلته، عَقَد الأستاذ جلسة مع أربعة من الشبان ممن يترددون كثيرًا عليه، وهم طلبة دراسات عُليا، معروفون جيِّدًا بالاسم والصورة لدى عم عبده مواهب. غير أن عم عبده شعر بصداع فاستأذن في الانصراف حوالي العاشرة، ولما رجع صباحًا كالعادة اكتشف الجريمة. – هل تشك في أحد الزوار الأربعة؟ – أبدًا .. (ثم بتوكيد) أبدًا .. أبدًا. – لماذا؟ – كانوا يحبونه وكان يعاملهم بعطف الوالد ورعاية الأستاذ، والعِلم عند الله، والكلمة الأخيرة لك. وقلت لنفسي: أمامنا جريمة قتل، القاتل كان في داخل البيت وجدنا مفتاح البيت الخاص بالأستاذ في درج المكتب. وجدنا باب البيت ونوافذه سليمة، وكانت النوافذ مغلقة من الداخل. وكخطوة أولى حجزت عم عبده والطلبة الأربعة، وانطلقنا في قنوات التحريات. بحثنا مصادر الثروة فوضح لنا أنه لا يملك إلا معاشه وحسابه في المصرف المتحصل من فوائد شهادات الاستثمار، وليس في ميزانه الصرفي ما يدل على أنه سحب مبلغًا أكثر من المعتاد صرفه كل شهر لتغطية نفقاته. ولم تدلنا التحريات عن الطلبة وعم عبده مواهب على أي علاقة مريبة أو شُبهة من الشبهات، وفُتِّشت البيوت تفتيشًا دقيقًا، وكان عم عبده يعيش في مسكن صغير هو وزوجه. أما أبناؤه الثلاثة فيعملون في السعودية. ولما سئلت زوجته عن ميعاد عودته ليلة الحادث، أجابت بأنها تنام مبكرة، ووضح أنه لا فكرة لها دقيقة عن الوقت. وكان بعطفة السد القائم بها مسكنه مقهًى عند المنعطف، شهد صاحبه بأن عم عبده غشِيَ المقهى ليلتها كعادته، فلم يتناقض ذلك مع أقوال الرجل الذي قال إنه قصد المقهى؛ ليعالج صداعه بالقهوة والأينسون وخلافه. أما عن الوقت؛ فلن يستطع الرجل أن يحدده لانشغاله المتواصل بعمله. وضحت لنا براءة الطلبة، فلم يبقَ في يدي إلا عم عبده مواهب. هو الذي يمكنه دخول البيت في أي وقت ودون عائق ثم يغادره بسلام، ولكن لماذا يقتل الأستاذ؟ والحق — وأُقرر ذلك من واقع خبرة ودراسة — أنه رجل ورع طيب مستقيم، وبعيد أن يكون حزنه على الأستاذ تمثيلًا أو زائفًا، وبعيد أيضًا أن يُوحي وجهه بالجريمة أو الشر، وغضبت حيال الغموض الجاثم، وتعلق الأمل بالعلاقات الخاصة الخفية. وقلت لعم عبده مواهب: حدثني عن سلوك المرحوم كرجل لم يتزوج قط؟ فأجاب متجهمًا: لا أعرف شيئًا. – تكلم. ألا تريد أن تُبرئ نفسك؟ – لي الله، لن يأخذني بجريمة غيري. – لكل منا هفواته وعيوبه، فحذارِ أن تُدافع عن القاتل بحسن نية! ولكنه أصرَّ على موقفه. وجاءني مُرشد باللبَّان الذي شهد بأنه رأى في بيت الأستاذ في أثناء تردده عليه امرأةً متوسطة العمر على جمال ملحوظ. وبعد مواجهة بين اللبان وعم عبده، قلت للأخير بحزم: هات ما عندك عن هذه المرأة. فقال بقلق: ربنا أمَر بالستر. فقلت بحزم أشد: وأمَرَ بعقاب القاتل، فتكلم لتخلص نفسك من الشبهة المُحيقة بك. فاعترف قائلًا: هي أرملة على علاقة قديمة بالأستاذ، تعيش في أسرة فقيرة، ولكنها لا تتسامح فيما يمس العرض. ولو انكشف سرها لتعرضت للهلاك. ووعدته بأن نستدرجها إلى التحقيق في تكتم. وعرفت ما يلزمني عن المرأة، مسكنها، أولادها، أخيها الميكانيكي المعروف بفظاظته، وغرفت أيضًا أن عم عبده كان يسفر أحيانًا بين الأستاذ والمرأة على كره شديد منه. داخلني شعور بأن الحقيقة ستُقذف إليَّ بعد تمنعها العسير. ولما رأيت المرأة فتر حماسي. وجدت امرأة تكاد من سذاجتها أن تشارف البلاهة. وصارحتني بأنها استسلمت للرجل لشدة حاجتها ولعطفه وكرم أخلاقه، وأن موته سد في وجهها باب الرجاء. وقالت إنها كانت تزوره نهارًا تجنبًا لإثارة الشبهة عند أحد وخاصةً أخاها، وأنها لم تدخل بيته طوال الأسبوعين السابقين للحادث، مستشهدة في ذلك بعم عبده مواهب. ورجع الغموض إلى ما كان وربما أشد. ونشط خيالي في طرح الفروض، فحام حول أخيها الميكانيكي، ولكن قُطع الشك باليقين عندما أثبتت التحريات بأن الشاب كان محبوسًا في قسم الخليفة يوم الجريمة؛ لتورطه في مشاجرة. انتهى. لم يسفر التحقيق ولا التحريات عن شيء، وقُيدت الجريمة ضد مجهول. وقلت لنفسي وأنا من القهر في نهاية: هذه الأمور تحدث أيضًا! – ها أنا أعود إلى الجريمة بعد انقضاء خمسة وعشرين عامًا على ارتكابها، وبعد أن تركتُ الخدمة منذ خمسة أعوام أو يزيد. أعادني إليها نشر «يوميات علاء الدين القاهري». ورحت أقرأ بشغف مُدركًا الأسباب التي جعلت الأستاذ يُوصي بتأخير النشر ربع قرن؛ لتعرضها لأشخاص رأى من المستحسن ألا يهتك الستر عن أفكارهم إلا بعد وفاتهم، أو في الأقل بعد انتهاء خدمتهم الرسمية. وفي إحدى اليوميات قرأت: «عم عبده مواهب صارحني برغبته في ترك خدمتي، فانزعجت جدًّا؛ لشدة حاجتي إليه خاصة في هذه المرحلة الحرجة من العمر والوحدة، ولأمانته واستقامته وطيبة قلبه وتقواه. وقلت له: إني أعاملك كصديق يا عم عبده. فتمتم: لا يُنكر النعمة إلا لئيم. – إذن لا تتركني، والعمل على أي حال أفضل من الفراغ. فغمغم: لا حيلة لي يا سيدي. – بل يوجد سبب، لا تُخفِ عني شيئًا. فصمت مليًّا ثم قال: قلبي يقشعرُّ مما أسمع أحيانًا في مجالس الزوَّار! فقلت بدهشة: لن يأخذك الله بذنوب غيرك، لك عليَّ أن أُسكت الحوار إذا دخلت الحجرة لخدمة … وما زلت به حتى عَدَل عن رأيه. ولكن يبدو أنه لم يكفَّ عن التنصت، وقد ضبطته مرة لِصْق الباب، وأنا ذاهب لبعض شأني فعاتبته عتابًا مرًّا، وذات يوم وهو يقوم على خدمة إفطاري، حانت مني التفاتة إلى مرآة، فلمحت صورته المعكوسة تنطق بالحنق والغضب، فاعترضتني كآبة وتساءلت: كيف أحتفظ برجل يضمر لي هذا الشعور الأسود؟!» وفي مكان آخر من اليوميات وكظرف مشابه، قرأت هذه العبارة عن عم عبده مواهب: «يجب التخلص منه في أقرب فرصة، وقد ناقشت مشكلته في إحدى الجلسات الثقافية، فأثنى الزوار عليه وقالوا: إنه مثَلٌ للاستقامة والطيبة، ولكني على خبرة بما يمكن أن يصدر عن هذه الأنماط إذا جُرحت ضمائرها، يجب التخلص منه في أقرب فرصة، مهما صادفني من صعوبات في إحلال آخر محله.» امتلأت بالاستنارة متأخرًا جدًّا، وهتفت: كان القاتل بين يديَّ طوال الوقت! الآن قد سقطت العقوبة، واندثر التحقيق، وتُوفِّي الكبار الذين باشروا التحقيق أو أشرفوا عليه، ولعل القاتل قد لَحِق بهم أو سبقهم إلى جوار ربه. وأمكنني أخيرًا أن أقف على الباعث على الجريمة الذي ضللته وقتها، تُرى هل مات الرجل أو ما زال حيًّا؟ ولم أستطع مقاومة الرغبة في السعي وراءه رغم إفلاته القانوني من العقوبة. تمنَّيت أن أعثر عليه، ولو لأعلن انتصاري العقيم. ولن يتضح عقمه — لجهله غالبًا بالقانون — حتى أكاشفه بذلك. وانتقلت من مصر الجديدة إلى مصر القديمة مدفوعًا بحب استطلاع ورغبة متوارية في الانتقام. وجدت عطفة السد كما كانت ببيوتها العتيقة، والمقهى القائم عند المنعطف لم يكد يتغير إلا وجه صاحبه. وكان عم عبده انقطع عن زيارة المقهى منذ سنوات، فطرقت بابه واقتحمت مسكنه .. استقبلني بدهشة، ببصر ضعيف، ولم يتذكرني، وطالعني بوجه كثير الغضون وسوالف ناصعة البياض، كالزغب تبرز من حافة طاقية بيضاء قلت له: إنك لا تتذكرني. فبسط راحته متسائلًا فقلت: ولكنك لم تنسَ، ولا شك مصرع الأستاذ علاء الدين القاهري! فومضَتْ في سحابة عينه نقطة لامعة، وقطَّب في حذر. – أنا ضابط التحقيق، كلانا تقدم به العمر. فتحرَّكت شفتاه من همس لم أتبينه، ولكني قرأت في صفحته أمارات الانسحاق. وقلت بثقة: أخيرًا انكشفت الحقيقة، وثبت أنك قاتله! واتسعت عيناه في ذهول، ولكنه خرِس فلم ينبس. وقام بجهد وصعوبة، ولكنه ما لبث أن انحط فوق الكنبة. أسند رأسه إلى الجدار ومدَّ ساقيه، وتقلصت عضلات وجهه نافثة زرقة ترابية، وفتح فاه، ربما ليقول شيئًا لم يقله أبدًا، ثم استسلم أمام قوة مجهولة، فمال رأسه على كتفه. وجزعت فهتفت به: لا تخف. انقضى زمان الجريمة، اعتبر حديثي مزاحًا. ولكنه كان قد أسلم الروح. ••• أقدمت على مغامرة لأحقق نصرًا عقيمًا، فبُؤْت بهزيمة جديدة أفقدتني ما كنت أحظى به من راحة البال. ومن حين لآخر أتساءل في ضيق: ألا أُعتَبر أنا أيضًا قاتلًا؟!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/13/
الخندق
رغم عنايتي الملحوظة بنظافة جسدي وصحتي العامة؛ فإن الإحساس بالقذارة والمرض يلح عليَّ كفكرة ثابتة أو جو ثقيل جاثم. لست أقيم في جسد وأطراف فحسب، ولكن أيضًا في شقة عتيقة بالية وعطفة هرمة تغوص في النفايات. تعرَّى السقف من الطلاء، وتكشَّف في مواضع عن عروق لا لون لها، وتشقَّقت الجدران في خطوط متوازية ومتقاطعة، وانفجرت الأرضية عن نتوءات وثغرات تلاطم باطن القدم تحت الأكلمة المتهرئة. والسقف والجدران تنضح صيفًا بالحرارة بالمُحرقة، وترشَح شتاء بالرطوبة أو برشاش المطر. والسُّلم آخِذ في التآكل، ودرجة منه تصدعت، فتهاوى نصفها وأصبحت عثرة في طريق الصاعد والهابط، وخطرًا لا يُستهان به في ظلمة الليل. هذا بالإضافة إلى الشق الطولي الذي يسوخ في جناح البيت الخارجي الملاصق لدورات المياه، وهو جناح تقشر ملطه وكلسه وبرزت أحجاره. وعطفة الحسني اختفى طوارها تمامًا، ولا أحد يذكر أنه كان لها طواران سواي بوصفي من مواليد هذا البيت، بخلاف أسرتَي إبراهيم أفندي ساكن الدور الأوسط والشيخ محرَّم ساكن الدور الأرضي، اللتين وفدتا إلى البيت منذ عشرين عامًا على أكثر تقدير. على أيام صباي كان البيت كهلًا لا بأس به، والعطفة ذات أديم مبلط بالأحجار وطوارينِ، لا تقل في رونقها عن شارع الشرفا الذي تنحدر إليه. اختفى الطواران تحت الأتربة والنفايات، وهذه تتراكم يومًا بعد يوم زاحفة من الجانبين نحو وسط الطريق الضيق. وعما قليل لن يبقى للسكان إلا ممر كالخندق يذهبون منه ويجيئون، وربما ضاقت حافتاه عن أن تسع جسم ست فوزية حرم إبراهيم أفندي. يطبق على وجداني شبح القِدم وتوقُّع الانهيار وتفشِّى القذارة، فيطاردني الإحساس بالمرض والخوف أيضًا. وحيد في شقَّة تفرَّق ساكنوها بين البيوت الجديدة والمقابر، وموظف بالإضافة. موظف وحيد في بيت آيل للسقوط، يئنُّ في قبضة الغلاء، يتساءل عن مصيره لو وقع زلزال أو غارة جوية في هذه الأيام المنذرة بالحروب، أو ماذا يحدث لو استوفى البيت عمره المتهالك فمات حتفَ أنفه، وبلا سبب خارجي. وأعقد العزم على مطاردة الهواجس بنفس القوة التي تطاردني بها، أن أسلم أمري لله، ألا أتعجَّل الهم قبل وقوعه، أتناسى همومي في المقهى بين الصحاب من الموظفين الكادحين، أو بين يدي التلفزيون، تلفزيون المقهى. غير أن الهم يرجع كأكثف ما يكون في اليوم الأول من كل شهر. يوم يحسب حسابه الشيخ محرم وست فوزية التي تنوب عن زوجها في المعاملات لقوة شخصيتها، كما أحسب حسابه ألف مرة. في هذا اليوم يهلُّ علينا عبد الفتاح أفندي ساعي البريد ومالك البيت القديم. رجل في الخمسين، ما زال متمسكًا بطربوشه، ثقيل الظل، ربما لا لعيبٍ فيه. أنتبه إلى حضوره عندما يترامى إليَّ صوت ست فوزية، وهي تنهره بخشونة وتُلقمه الحجر تلو الحجر. أما أنا فأعالجه بالكياسة ما استطعت. أستقبله وأجالسه على كنبة وحيدة، وأقدم له الشاي. ويطيب له أن يرد التحية فيسألني: بودي أن أجيء مرة، فأجدك مكملًا نصف دينك! فأسأله وأنا أداري غصة: عندك عروس وزيجة بالمجَّان؟ فينفخ بخار الشاي ويحسو حسوة ذات فحيح، ويهز رأسه دون أن ينبس. وأقدم له الإيجار، ثلاثة جنيهات، فيتناولها باسمًا في سخرية، يفنِّدها بين أصابعه، يقول: أقل من ثمن كيلو لحمة، والاسم مالك بيت. ثم يواصل متشجعًا بصمتي: أموال أيتام يعلم الله. فأقول: مظلومان يتناطحان، ولكن ما الحيلة؟! – لولا احتلالكم للبيت لبِعتُه بالشيء الفلاني. ثم بنبرة وعظية: وهو آيل للسقوط، ألم تنذركم اللجنة؟ فأتساءل: وهل نُلقي بأنفسنا إلى الشارع؟! أفتقد دائمًا الشعور بالاستقرار والأمان كما أفتقد الإحساس بالنظافة والصحة. على ذاك فحالي خير من الآخرين، فإني على الأقل وحيد. عن عجز لا عن رغبة ولكني وحيد. حبيس كَبْت ووحدة وبيت آيل للسقوط وعطفة تُدفن تحت النفايات. أقوم بالمعجزات لأفوز بلقمة هنية ولو على فترات من الزمن، وكسوة تستر ماء وجه مدير إدارة فرعية. أحلم بمسكن مما أرى في إعلانات الجمعيات التعاونية، وعروس مما أشاهد في صفحة العرائس الأسبوعية، أو حتى مثل ست فوزية. أتعزى بقراءة «حلية الأولياء»، بحياة الأولياء الصالحين الزاهدين المتوكلين الطارحين لهموم الدنيا تحت أقدامهم واللائذين بطمأنينة خالدة. غير أن خبرًا عارضًا عن سقوط منزل أو عن إخلاء عمارة بقوة الشرطة عقب تصدُّع جانب منها، يهزني من الأعماق، يستردني من فردوس الأولياء، يملؤني بالرعب، أين يذهبون؟ ماذا يبقى لهم من المتاع؟ كيف يتصرفون؟! ويتضاعف إحساسي بالوحدة رغم انتمائي إلى أسرة كالقبيلة متناثرة في أنحاء المدينة الكبيرة. إخوة وأخوات وأقارب ووحدة خانقة! العواطف طيبة، ولكن لا بيت يُرحب بجديد. كل بيت بالكاد يسع سكانه. وكل فرع ينوء بهمومه. قد أجد ملاذًا ليوم أو أسبوع. أما الإقامة الدائمة فهي ورم سرطاني لا يُحتمل. وأُهرع إلى المقهى فهو جنة المأوى. أجتمع بالزملاء فأستروح العزاء في تبادل الشكوى. ومن عجب أنني معدود بينهم من المحظوظين لتوحُّدِي وخفة حمولتي. وحدتي المرعبة قيمة محسودة. يا بختك لا زوجة ولا بنت ولا ولد. لا مشكلة أجيال ولا زواج بنات ولا دروس خصوصية. بوسعك أن تأكل لحمة مرة في الأسبوع وربما مرتين. مسكنك الوحيد الذي لا يشهد شجارًا ولا نقاشًا. وأهزُّ رأسي في رضًا ولكني أتساءل في باطني: هل نسوا آلام الكبت والوحدة؟! غير أني أجد في أنينهم المتواصل سلوى مثل دفقة ضوء تُلقَى على قبر. ويقول لي أحدهم مرة: عندي حل لكافة مشكلاتك. فأنظر إليه باهتمام وأنتظر، فيقول: زيجة، توفر المسكن واليسر، ولا تكلفك مليمًا واحدًا. ثم فيما يشبه الهمس: امرأة تناسب المقام. وأتخيل في الحال امرأة لا تملك من الأنوثة إلا شهادة السجل المدني. وسيلة شاذَّة من وسائل الإنقاذ مثل الانحراف والجرائم الخفية، طوق نجاة مثل جثَّة طافية. الحق أنني فقدت الأمل، ولكني ما زلت محتفظًا بالكبرياء. من أجل ذلك يَصِفونني بالطيبة كمرادف للبلاهة. أتصبَّر وأقاوم. أعود إلى كتاب «حلية الأولياء» وأقرأ جرائد المعارضة. ربما ألجأ أحيانًا إلى حيل الطُّفَيليين ولكنها زلة تُغتفر. أزور بيوت الأهل في غير أوقات الغداء؛ إمعانًا في إظهار البراءة على أمل أن أُدعى إلى وليمة، ولكن روح العصر لم تعُد تؤمن بهذه التقاليد العريقة. ويختلف الأمر بالنسبة للمواسم والأعياد فيسعدني الحظ بوليمة أو وليمتين في العام. وما إن يتهادى إليَّ صوت ربة البيت وهي تقول: ما أنت بالغريب ولا بالضيف، اعتبر نفسك في بيتك. ما إن تلوح هذه الإشارة الخضراء، حتى أنقضَّ على المائدة مثل نسر جائع، وكأنما أشهد العشاء الأخير. الأدهى من ذلك كله أنني مواطن عادي، لا طموح عنده ولا خيال. نلت من التعليم ما يكفي، وألحقتني القوى العاملة بإدارة ما. ما تمنيت بعد ذلك إلا بنتًا طيبة وشقة صغيرة. انقلبت الدنيا، لا أدري كيف، وماجت بالعجائب. وتحددت إقامتي في البيت المتهالك. وكلما ارتفع مرتبي انخفض كأنه فزورة من فوازير رمضان. ذاب شبابي في التضخم، وكل يوم أغالب أمواجًا هادرة تهددني بالغرق. ويقال لي: هاجر ففي الأسفار مليون فائدة. ولكني بطيء الحركة ومشدود للأرض، ولم أستسلم لقبضة اليأس. من حين لآخر تومض في سمائي المُظلمة بارقة. تنعشني تصريحات الوزراء وطلقات المعارضة ونوادر الأولياء. ألم يكن ابن حنبل يتصدق بالجوائز السنية وهو يتضوَّر جوعًا؟ وأتسلى أحيانًا في نافذتي، وأنا أرقب ست فوزية وهي تتبختر في الخندق بين حافتيه المطبقتين. وذات يوم قررت أن أزور مدفن الأسرة بعد انقطاع طويل باعتباره الملجأ الأخير إذا وقعت الواقعة. هناك توجد حجرة الرحمة كما توجد دورة للمياه، فهي مأوى من لا مأوى له. رأيت القبرين القديمين تحت السماء وشُجيرات الصبار في الأركان. أما حجرة الرحمة إلى يمين القادم؛ فقد انقلبت خلية نحل تموج بالنساء والأطفال والأثاث البالي المكوم ومواقد الغاز والحلل، وتعبق بروائح التقلية والفول والباذنجان والزيت المقلي. رمقتني أعين المستوطنين بتوجس، وقرأت في أعماقها نذر التحدي. ابتسمت في استسلام، ووقفت قبالتهم متحررًا من القوة والمجد. وقلت لامرأة ذكرني حجمها بست فوزية: لا بأس، ولكن ما العمل لو احتجت إلى الحجرة كمأوى؟ فقالت ضاحكة: أنت صاحب حق ونحن ضيوفك، ننزل لك عن ركن، والناس للناس. فقلت ممتنًا في الظاهر: جوزيتِ خيرًا. ومرقت إلى القبرين لأتلو الفاتحة. تخيلت الأجيال التي لم يبقَ منها إلا هياكل عظمية. رعيل من أهل الحِرَف والتجار والموظفين وستات البيوت، وخالٌ لم أُدرك عصره، ولكني سمعت الرواة يحكون أسطورة استشهاده في ثورة ١٩١٩. وقفت مليًّا وأنا أناجيهم بصوت غير مسموع: أمدوني يرحمكم الله بإيمانكم، وهبني يا خالي شيئًا من شجاعتك!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/14/
عندما يأتي الرَّخاء
مات الأب ففقد الابن عرشه؛ ذلك أنه كان وحيد أبوَيه، وليَّ العهد المدلل، المغموس في نعيم الحنان. ما إن بلغ الحُلم حتى زوَّجه أبوه ليفرح به، فأنجب بدوره ابنًا وحيدًا، وزوَّجه في حياة أبيه ليفرح به أيضًا. أما الأب المدلَّل فأفسده الدلع، فقعد عن التعليم دون أن يحصل على الابتدائية. وأما الحفيد فقد نال التجارة الثانوية بطلوع الروح. وعقب وفاة الأب (الجد) وجَدَ الخليفة الأول نفسه وحيدًا عاطلًا، والخليفة الثاني كاتبًا على الآلة الكاتبة. – كان أبي سمسارًا رزقه موفور، ولكن ينفق عن سعة، عِشنا في حياته كالملوك غير أنه لم يخلِّف شيئًا. أورثه بيتًا من ثلاثة أدوار ودكان بالسيدة، يقيم هو في دور وابنه في دور، ويقبض إيجار الدور الثالث والدكان ستة جنيهات كل شهر، مثل مرتَّب ابنه. أجل، كان المبلغ كافيًا لمعيشة أسرة في مطلع القرن، ولكنه لا يهيِّئ لها أي لون من ألوان الترفيه المشروع. – كيف أطيق هذه الحياة؟! أنا ربيب النعيم، طعامي طعام ولائم، وملبسي أنموذج للأناقة، مجلسي في قهوة الشيشة، ونزهتي عند كشكش بك ومنيرة المهدية؛ كيف أطيق هذه الحياة؟ ويقول له ابنه معاتبًا: لِمَ عجَّلت بتزويجي؟ .. ها أنا أبٌ وأنا دون العشرين. فيجيبه متنهِّدًا: إنما الأعمال بالنيات يا بُنَي! أنا أيضًا وجدتني زوجًا لبنت تكبرني بأعوام، قبل أن أفرِّق بين الألف والباء! وكان المُستحقَّ الوحيد لوقفِ جدِّه للمرحومة أمه، فزار لأول مرة إدارةَ الأوقاف الأهلية مسوقًا بنبضة أمل، رغم ما سبق له علمه عن طريق أبيه. وقال له الموظف المختص: ثروتك على الورق ضخمة؛ أربع قطع أراضي فضاء بالمنشية، ومال بدل ناتج عن دخول قطعة خامسة في التنظيم مقداره أربعون ألفًا من الجنيهات. فتساءل بصوت متهدِّج؛ كيف يمكنه الانتفاع بثروته؟ فقال الموظف: لا شيء للأسف، الأرض وقف لا تُمَس، والمال وقف لا يُمَس، وهو مُودَع في البنك بلا فوائد؛ لأن الفوائد ربًا، والربا حرام، وكل حرام في النار. وهذه النار التي تندلع في قلبه وآماله؟! لم يعد له من حديث إلا الوقف والحرمان. ويطوف بالأراضي الفضاء المطروحة كخرائب، ويسأل عن أجر المثل، فيحسب ثمنها بما لا يقل عن ثمانين ألفًا من الجنيهات بالإضافة إلى مال البدل، وراح يهذي بالثروة والحرمان والفقر والحظ. وقال له عمه: بِعْ بيتك واستثمِرْ ثمنه في عمل نافع. ولكنه يقول معترفًا بالحقيقة الصخرية: لا أصلح لشيء يا عمي. ويستطرد باسمًا في حياء: الله يغفر لك يا أبي. والزمن يسترق الخُطى، لا يُبالي ولا يُمهل، فيتوغل الرجل في الشباب حتى يرقى ذروته ويُطل على الرجولة دون أدنى رغبة فيها. تتبلور شخصيته بين الأصحاب والأقارب نمطًا للإنسان الشاكي الباكي، مجنون الوقف ومال البدل وأجر المثل. يضحك منه في الخفاء مَن يشفق من الجهر، ويعالنه بالسخرية مَن يضيق به، ومن وراء وراء يقولون عنه: سيُجَنُّ ذات يوم. – بل جُن فعلًا وما كان كان. وتغزو مظاهر الحضارة حتى الأحياء الوطنية. وجاوزت السيارات حدود النُّدرة، وكذلك المطاعم والملاهي. وانطلق الرعيل الأول من الحِسان سافراتِ الوجوه بأعين مكحولة وشفاه مصبوغة. هذا وامرأته منهمكة بين الطهي والغسيل والمكنسة، فبرزت الست العاملة وتوارت الأنثى المغرية. وهو خلقه الله جميلًا يحب الجمال، فتنمَّر وتوثَّب للنزاع والنكد. تقول امرأته: ما حيلتي؟! ابتُليت به أفظع مما ابتُلي هو بالحياة. ويقول هو: أنا غنيٌّ محكوم عليه بالفقر، والدنيا حلوة. ويقول له عمه: الدنيا حظوظ، ولله في خلقه شئون، والسعيد من يمتثل لإرادة الله. فيقول: أنا مظلوم .. مظلوم .. مظلوم. – وما الحيلة يا ابن أخي؟ – أحرام أيضًا أن أشكو الظلم؟! فيقول الرجل مداريًا ضيقه بابتسامة لا لون لها: أليس لكل إنسانٍ همومه؟! وتتوثق العلاقة بينه وبين إدارة الأوقاف؛ يصبح نجمًا في سمائها المنسوجة من خيوط العنكبوت، ويمدون له في حبل الأمل. – ألا تتابع حملات الجرائد على جمود الوقف؟ – انتظر خيرًا قريبًا. وتنشب الحرب العالمية الثانية، يتسنَّم ذروة الرجولة فينحدر نحو الكهولة، ويتلقى من الغيب نُذرًا في صورة شُعيرات بيضاء لمعت في سوالفه وشاربه الذي يعتز به أيَّما اعتزاز. وتشرئب الأسعار برءوسها في بُطء واستمرار، فيهتز الباقي من أمنه. على حين تنتشر مظاهر الحضارة واللهو، وتتلألأ الشوارع بالسيقان والأذرع والنحور، ويتدفق المنهل العذب يدعو الشاربين للورود، وتُسرع زوجته إلى الكهولة والخراب. – كان في البيت رجل واحد، فأمسى فيه اثنان! وتقول امرأته لجارة لها: لو تحقَّقت أمنيته في الصباح لتزوج عليَّ قبل مجيء المساء، لا حقَّق الله أمنيته! ويقول له ابنه: لم تعد الحياة كما كانت، القروش مثل العصافير سرعان ما تطير. ويقول له موظف الوقف الأهلي: لا يمكن مواجهة أعباء الحياة برِيع بيتك، انزل عن كبريائك وحرَّر عريضة بطلب شيء من الخيرات. وبعد تردد راقت له الفكرة. ولما لم يكن يُحسن الكتابة، فقد تولاها عنه الرجل. وقال له برجاء: ربنا أمر بالستر. فقال له الموظف: سرُّك في بئر. وتزوره مندوبة الوزارة لإجراء التحريات التقليدية. تتفقد البيت وأثاثه القديم وهو يتابعها بكآبة، ثم يقول لها بدافع من كبريائه: سلي يا ابنتي عن أصلي في إدارة الأوقاف. فتقول له بعذوبة: أعرف كل شيء. وانتبه إلى نضارة وجهها وهندسة جسمها لأول مرة. سألها في دعابة: ألا تمنح الوزارة بدلًا من المرتب أشياء عينية؟ فتساءلت في براءة: مثل ماذا؟ فقال ضاحكًا: مثلك يا ابنتي! فودَّعته ضاحكةً. وصرخت زوجته: تحت سمعي وبصري ولا تتورع عن المغازلة؟! فقال بجدية مصطنَعة: غازلتها بالأصالة عن نفسي، ونيابة عنك أيضًا. فصاحت: ما يؤدِّبك إلا الفقر. وتقرَّر له مرتب من الخيرات مقداره ثلاثة جنيهات شهريًّا. وسأل الموظف ممتعضًا: ثلاثة جنيهات؟! فقال الرجل: مناسب جدًّا بالقياس إلى أمثاله. – لا يساوي ما بذلت من كرامتي. – الأُسَر التي أناخ عليها الدهر أكثر مما تتصور. على أي حال زار المفتِّشة في إدارة التحريات؛ في الظاهر ليشكرها، وفي الحقيقة ليتملى شبابها ونضارتها. ورجع إلى بيته وفي قلبه حلم، وأنجب الحلم أحلامًا أخرى عن فيلا وسيارة ومائدة. أما الواقع فلم يتمخَّض إلا عن غلاء يرتفع، ومغريات تنتشر، وشيب يتفشَّى، وضغط دم — ذلك الداء المتوارث في أسرته — يستقر. وتمزقت روابط الزوجية حتى حل الكره محل الرحمة. تقول له: لا أرى في وجهك إلا العُبوس. فيقول: حب الحياة ليس جريمة. – اشكر ربك على الابن والصحة. – ابني يتأوه وصحتي تلِفَت. – إني رفيقة عمرك. – هذه هي المصيبة. – تأخذني برتقالة وتعرض عني قشرة. – بل قشرة من أول يوم. ورقَّ الابن لأمه، فاقترح عليها أن تقيم معه بعض الوقت، ولكنها قالت له معتذرة: سيبحث عن خادمة، ولا أستبعد أن يتزوجها. وتتقدم الأيام فيكثر كل شيء سيِّئ، ويقل كل شيء حسن. ويتلقى الرجال أنباء قيام ثورة يوليو وهو يعاني من أوجاعه، فلا يثير اهتمامَه أيُّ حدث عام. ويتلقى بعد ذلك أنباء حل الوقف وتوزيعه على أصحابه، وهو طريح الفراش بصفة نهائية. ويسرِّح بصره في الغيب طويلًا، طويلًا، طويلًا، ثم يتُمتم: حكمتك يا رب!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/15/
عندما يأتي المساء
تنفجر عواصف الخماسين الغبراء الساخنة في عز أيام الربيع. توفيت الست الكبيرة عن ثمانين عامًا مُخلفةً لابنتها فيلا بالهرم وبضعة آلاف من الأموال السائلة. وكانت الابنة الستينية تقضي مع زوجها السبعيني الفترة المتبقية من العمل يظلهما الوفاق والهدوء واليسر. وحركت الثروة الطارئة الطموح إلى حياة جديدة، فقالت الزوجة: نستطيع الآن أن نعيش في فيلا جميلة بالهرم، وأن نُغادر هذا الشارع الكئيب. فتجلت في عينَي الزوج نظرة فاترة وغمغم: الهرم؟ ثم واصل: شقتنا مريحة، عِشرة عمر طويلة، بدأ بشهر العسل، وجميع المعارف والأحباب حولنا. فقالت بازدراء: لو تكن جنة لحق لنا أن نملَّها. ولم تأخذ معارضته مأخذ الجد، وراحت تفكر بصوت مرتفع: الفيلا تحتاج لتجديدات بسيطة، وشيء من الديكورات، وبها أثاث يمكن الاحتفاظ به وبيع ما يماثله من أثاثنا مثل حجرة السفرة والمطبخ، ويلزمنا شيء من التنجيد أيضًا. النقود متوفرة والحمد لله، ومما يزيد من مزاياها أنها تقع في شارع داخلي مسفلت ومشجر وهادئ بالقياس إلى الشارع العمومي. واعترت الزوجة كآبة، فراح يفكر بصوت مرتفع أيضًا: بين الجناين موقع عتيق حقًّا ولكن العمارة جديدة نسبيًّا، شُيدت منذ خمسين عامًا، ومؤكد أنها تستطيع أن تحافظ على صلاحيتها خمسين عامًا جديدة، الشقة لا ينقصها شيء، شمسها متوفرة وهواؤها طيب، وأهم من ذلك كله يوجد حولنا جيران العمر. أنا رجل عجوز، فراغي طويل، ولولا بقية من أصدقاء ما تحملت الحياة، بنتي الوحيدة وزوجها في السعودية، والأقارب لا يتلاقون في هذا الزمان إلا في الجنازات الهامة! وحدجته بنظرة أطل منها العناد والتجهم، وتساءلت: أنُضحِّي بما أتاح الله لنا من عيشة راضية من أجل مزاجك الشخصي؟! اشتعلت أعصابه السريعة الاشتعال، وقال بمرارة: عنادكِ يفترس إنسانيتكِ، قدِّري حال رجل لم يعُد له حظ من الدنيا إلا نفرًا من الأصدقاء. – حسبت أن لك زوجة أيضًا! – طبعًا .. طبعًا .. ولكن الرجل لا يستغني عن أصدقاء العمر! – التلفزيون فيه الكفاية، ولكنك مدمن سهر. – كُفِّي عن العناد وفكري بإنسانية. – فكر أنت بشيء من العقل. في البدء كان الحب. في الشباب الباكر كان الزواج. هو مهندس ري وهي ست بيت وحاملة للابتدائية أيضًا. أنجبا ابنة وحيدة، طبيبة متزوجة من طبيب، ويعملان في السعودية. عبرا سنوات التعارف والتوافق وعثرات الاختلاف في الذوق والعادات بنجاح، حتى استقرا في سَكينة الشيخوخة. رغم ذلك قال لنفسه بقلَق: إنها عنيدة، وإذا تسلطت عليها فكرة انقلبت حجرًا صلدًا لا سبيل إلى التفاهم معه. وقالت لنفسها: إنه طفل مدلل عصبي ويبيع بالدنيا مزاجه. وشرعت في تجديد الفيلا، فانقبض صدره وغشِيَته سُحب المخاوف. وقال لها: أجِّريها مفروشة تدر عليكِ الشيء الفلاني. ولكنها قالت بإصرار: ما حاجتنا إلى النقود في هذه السن؟ ولا ابنتنا في حاجة إليها، ولكن من حقنا أن ننعم بشيء من الراحة والجمال وحسن الختام. – وأصحابي؟! تذكِّري أزمة المواصلات، الانتقال معناه العُزلة، وفي العزلة قضاء عليَّ! – ربنا يكملك بالعقل وسداد الرأي. لم يعشق هواية مما تثري الفراغ. تُرك لتيار الزمن بلا طوق نجاة. يستيقظ من نومه حوالي الظهر وينتظر المساء. تديُّنه صادق وبسيط لا يشغل له بالًا. يُهرَع مع الليل إلى منظرة صديق على المعاش كان مُعلم لغة عربية، يملك بيتًا صغيرًا ذا حديقة صغيرة، ويوافيهما ضابط جيش عجوز على المعاش أيضًا وصيدلي قبطي اعتزل العمل. يتسامرون، يلعبون النرد، يحتسون الشاي أو المرطِّبات تبعًا للفصول، يدخنون، ثم يفترقون عند اقتراب الفجر إلى مساكنهم المتقاربة في «بين الجناين». في الزمان الأول كانت البيوت تطل على الحقول والحدائق، وتعبق بشذا الحِناء وتغوص في الهدوء. اليوم اكتظَّت بالبيوت والسكان، والخرائب الموقوفة التي انقلبت أسواقًا لتجارة الخردة وقطع الغيار القديمة، وازدحم الطريق بالصِّبْية، وصار ناديًا أهليًّا للعب الكرة، ولكن القلب ما زال يجِد سلواه في المناجاة والسَّمَر. ماذا يتبقَّى لي في الحياة إذا حُرم من هذه السلوى الباقية؟! وقال لها أخيرًا بنبرة حاسمة: لن أُغادر هذه الشقة إلا إلى القبر. فقالت بحنَق: إذا تم إعداد الفيلا؛ فلن أبقى هنا لحظة واحدة. فارتفع صوته وهو يقول: أنتِ امرأة عنيدة بلا قلب. فهتفت: أنت أناني لا يهمك إلا مزاجك. – لي عليكِ حق الطاعة. – الطاعة من حق العاقل. – قلة أدب. – أنا بنت ناس علموا الناس الأدب. – لي الجنة على احتمال عِشرتكِ. – الحق أني أنا الشهيدة، لولا صبري لعشت طيلة عمرك وحيدًا. – أنا؟! – نعم .. آه لو أفرغَ قلبي ما فيه! – جنس جاحد حقيقة. – أَجْري عند الله وحده، هل نسيت افتضاح سلوكك عام ١٩٢٦؟! – ١٩٢٦! يا ألطاف الله! إني لا أتذكر ما يقع بالأمس. – ولكنني لا أنسى، ولا أنسى فجورك، وأنت مفتِّش ري بكفر الشيخ في ١٩٣٠! – حقًّا إنكِ ذاكرة مذهلة لحفظ أنباء السوء، وتنسين ما عدا ذلك، نسيتِ على سبيل المثال أنني ضحيت بأجمل عروس من أجلك. – بل سال لعابك دائمًا طمعًا في مساعدات بابا الله يرحمه .. أناني ونفعي! – قذارة وقلة أدب. – اخرس! وانتفض واقفًا ووجهه يموج بالغضب، فانتصب عنقها في تحدٍّ رغم توقعها عدوانًا قياسًا على مرات متباعدة، لا تستطيع أن تنساها أبدًا. غير أنه كظَم غيظه، وقال وهو يغادر الحجرة: ليكن في علمك أن مغادرة الشقة تعني الطلاق. فصرخت: إني أُرحب به، وإن جاء متأخرًا. وعلى أثر رسالتين تلقتهما من الأم والأب، حضرت الابنة من السعودية دون إبطاء. انفردت بالأم محاولة إقناعها ففشلت، ولم تكن أكثر توفيقًا مع أبيها. وجمعت بينهما وقالت: من المُبكي والمضحك معًا أن يجري للطلاق ذكر بينكما في هذه المرحلة من العمر، فليغفر الله لكما هذه السقطة اللسانية الشنيعة. ونقَّلت بينهما عينًا حزينة وواصلت: انتقلي يا ماما إلى الفيلا، وابقَ يا بابا في الشقة، وأجِّلا قراركما الأخير للزمن والوحدة. وشملهم صمت ثقيل خفَّفته بدعابات متكلفة صدرت عن نفس مليئة بالشجن، ثم ودعتهما راجعة إلى مقر عملها، وقد اقتنع كل طرف بأنها منحازة إليه في أعماقها، وإن أبت أن تُعلن رأيها مجاملة للطرف الآخر. ووقع الانفصال ممزِّقًا لأول مرة وحدةَ حياة مشتركة طويلة العمر. انتقلت الزوجة لتستقبل حياة أنيقة ثرية مترعة بالوحشة. ولبث الزوج في شقة مقفرة عارية الحجرات إلا حجرة نومه المكونة من فراش مفرد وصُوان قديم وكليم صغير، واقتصر المطبخ على الأوعية والأواني الضرورية وموقد بوتاجاز صغير ومائدة ذات مقعد وحيد وفريجدير لحفظ الطعام. وتم الاتفاق على أن تُجهِّز له طعامَه الأسبوعي طاهيةُ الأسرة في يوم معين، على أن يقوم هو بإعداد الوجبات وغسل الأواني. وكان ينام نهاره كله هربًا من وحدته، وينتظر على لهف ميعاد السهرة التي يمارس فيها حياته الحقيقية. وحاول الأصدقاء أن يجدوا للمشكلة حلًّا آخر ولكنه قال: لا تشغلوا بالكم يا جماعة، المهم أن تسعفني الصحة حتى النهاية. واعتبرت الزوجة أن كل يوم يفوت من غير أن يُقِرَّ بخطئه إهانةً مُتجددة لكرامتها وجرحًا يغوص في كبريائها. ويشتد حقدها وغضبها، وتعالج الوقت الطويل الملقى عليها بزيارة الأقارب لتشريحه بلا رحمة وفضح ما خفي من مساوئه. ويبلغه ذلك فيرد اللطمة بعشر أمثالها، حتى تجسدت حياتهما المشتركة في صورة سوداء تثير الفزع. وجرى الزمن والخصام يزداد سوءًا وفظاعة. وانعقدت السهرة ذات ليلة وهو غائب على غير عادة، ولكنه جاء متأخرًا عن موعده، وهم يتجاذبون القلق والظنون. وقال كالمعتذر: شعرت بوعكة مما يطرأ في تغير الفصول. وكانت الوحدة التي يعيش مهملًا في طياتها تحزنهم، فأقبلوا يناقشونها بجدية: لا تأمن للحاضر، وعليك أن تفكر في المستقبل. فقال بهدوء وهو يداري ضيقه: فعلت ذلك كثيرًا! – وكيف انتهيت؟ – قررت أن أكف عن التفكير. وضحك ثم واصل: أعرف ما يقلقكم، ماذا أفعل لو أقعدني المرض، أو حضرني الموت! سأكون سعيدًا إذا قدر لي موت خاطف، وإن تكن الأخرى؛ فما جدوى التفكير إلا مكابدة الهم قبل وقوعه؟ – ولكن لكل مشكلة حل. فهتف: فات أوان الوفاق، ثم إنها عنيدة، والاستسلام يعني بالنسبة لي انتحارًا بطيئًا. وضحك عاليًا وقال: إذا حم القضاء، وجدني الموت وحيدًا لا مفرَّ، وما عليكم إذا تخلَّفتُ ليلة، ولم يُفتح بابي إلا أن تتخذوا الإجراءات المألوفة، وآسف مقدمًا على إزعاجكم.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/16/
تحت السمع والبصَر
حقًّا إن الشارع خالٍ أو شبه خالٍ فيما يبدو، ولكن لا يخلو شارع من آدميين. إنه شارع جانبي يوصل بين طريقين عموميين. وهو سكني لا توجد به إلا دكان كواء. مع هبوط المساء من فوق رءوس الأشجار على الجانبين أغلقه صاحبه وذهب. سبحت أضواء مصباحين في أول الطريق وآخره في العتمة المتزايدة، فأضفَتْ على الجو لونًا غامضًا بين النور والظلام. واستقرت سيارتان متباعدتان في موقفَيْهما بحذاء الطوار مسربلتين بغطاءين من الشمع الرمادي، وانتظرت بقية الفراغات السيارات القادمة. وخيَّم على الشارع هدوء خامل جدير بمعبر نادر الرواد، وأضاءت نوافذ المساكن بالأنوار، وهي مفتوحة لتلقِّي نسائم الربيع .. من أجل ذلك انتشرت أصوات تلك المشاجرة الزوجية من إحدى النوافذ، فبلغت النوافذ القريبة وتمادت في ذيوعها حتى كدَّرت هدوء الشارع. – أنت وحش. – أنتِ مجنونة. – لن أبقى في هذا البيت ساعة أخرى. – مجنونة. – في يدي الدليل، مصيرك المحتوم مستشفى الأمراض العقلية. – مصير أمك وأخواتك. – تحطمين تحفة ثمنها مائة وخمسون جنيهًا! – سأشعل النار في هذا البيت العفن. ويعلو الصراخ مختلطًا بصوت هادر ومزيد من طقطقة التحطيم مصحوبة بعويل أطفال. ومر عابر بالشارع فتوقف قليلًا تحت النافذة، ثم ضحك طويلًا وواصل سيره. وتجلت أشباح آدميِّين في النوافذ القريبة. ولما استمرت المعركة نوقشت على نطاق واسع. – خناقة حامية. – ليست الأولى. – لكنها الأعنف. – ألا يمكن عمل شيء؟ – مثل ماذا؟ – أنتدخل مثلًا؟ – لكننا لا نعرفهم، نتقابل أحيانًا في مدخل العمارة فلا نتبادل تحية. – الواجب. – قد يسوءهم ذلك. – لن تنتهي الليلة على خير. – ربنا موجود. – الرجل مجنون وبريق عينيه المخيف لا يُنسى. – لا تبالغي، هي أيضًا لها حركات عصبية مريبة. – هو السبب هذا واضح. – أو العكس تمامًا وهو ما أعتقد. – لكل رجل شيطانه. – ولكل امرأة. – الرجال ظالمون بالفطرة. – ما هم إلا ضحايا. – ضحايا؟! – الله شهيد. – معركة غير متكافئة وسيقع أذًى لا شكَّ فيه. – حطمتْ في غضبها تحفةً ثمنها مائة وخمسون جنيهًا. – من عذابها أو جنونها. – من أدراك أنتَ؟ – أهذه حنجرة امرأة عاقلة؟! – أفقدها وعيها. – المعركة تشتد ولا أحد يبالي بالأطفال. – أمه وأخواته وراء ذلك كله. – لا، المسألة أخطر من ذلك، فتشي عن الميزانية. – يُرى كثيرًا وهو يشتري الخمور. – هي أيضًا متبرجة أكثر من اللازم. – ألا ترى أن المعركة لا تقف عند حد؟ – أجل اشتد النزاع وارتفعت الأصوات أكثر، وتوكد أن الليلة لن تمر بسلام. – اترك ذراعي يا مجرم. – مجنونة لا تحسب حسابًا للفضيحة. – دعني أطلب النجدة. – إذن أطلب مستشفى الأمراض العقلية. – تضربني؟! ستدفع ثمن اللطمة غاليًا. وينفجر صوات مخيف، ثم ينكتم الصوت تحت ضغط راحة يدٍ فيما بدا. ولأول مرة تجيء فترة سكون عدا عويل الأطفال، وتمتد دقائق وإذا بالصوت يهبط إلى الشارع. شبح المرأة يُغادر باب العمارة مهرولًا نحو الطوار الآخر. تتبعها الأعين على ضوء المصباح البعيد. – هربت من البيت. – لعله الحل الوحيد. بملابس البيت وغالبًا لا تملك مليمًا. – تُرى أين يقيم أهلها؟ – هل نتركها في الطريق؟ – لو آويناها لوجدنا أنفسنا طرفًا في المعركة. – كيف تتصرف المسكينة؟ – تستقل تاكسي، وهناك ستجد مَن يؤدي عنها الأجرة، لم يتحرك أحد لنجدتها. – مرةً رجل تدخل بحسن نية، فاتهمه الزوج ووقع في مصيبة. – يا لها من دنيا مُخيفة! – ما باليد حيلة. وقبل أن تبلغ المرأة منتصف الشارع، اندفع شبح الزوج من باب العمارة، فاشتعل الاهتمام لأقصى حد. جرى نحو المرأة حتى أمسك بها، تراءت وهي تقاومه وتراءى وهو يجذبها بشدة. صرخت مستغيثة بالناس فاشتد في جذبها، وبلغ الصراع أعنف أحواله. ويمر عابر جديد للشارع، فيقف على مبعدة ويهتف: كفَى هذا لا يليق. فصاح به الزوج: ابعد وإلا حطمت رأسك. يبتعد الرجل خطوات، يتردد قليلًا ثم يمضي في طريقه. وتنطلق من حنجرة الزوج صرخة كالعواء: تعضينني يا كلبة .. سأقتلك. ويركلها ركلة حانقة غاضبة متأججة بالرغبة في الانتقام، فتقع المرأة متلوية صارخة. ولم يقنع الرجل بذلك، فما زال ألمه الحاد يستفزه إلى المزيد، فعدا نحو العمارة صائحًا: سأذبحك عليكِ اللعنة، وعلى الدنيا ألف لعنة. وسرى الرعب في المُطلين من النوافذ. – ركلها ركلة قاتلة. – ولكنه جُن وسيرجع بسكين يُجهز بها عليها. – لا، مجرد كلام. – نطلب النجدة. – سنصبح أسرى إجراءات معقدة حتى يصدر الحكم. – لا بد من طلب النجدة. – سيصدق علينا المثل القائل: خيرًا تفعل شرًّا تلقى. – هل نتركها ملقاة حتى تُذبح؟ – لن يحدث شيء، هي عضته وهو ركلها وانتهى الأمر. – نذهب إليها؛ فقد تكون في حاجة إلى إسعاف. – ليس الآن فقد يرجع المجنون! وأصر رجل في العمارة المقابلة على الطوار الآخر على طلب النجدة. وطلبها بالفعل، وحثها على الإسراع، وسُئل عن اسمه ورقم تليفونه، وهمس لزوجه بذلك، فحذرته العواقب فأغلق السكة. أما الزوجة فمضت تزحف على أربع، وتئن وتستغيث وقد بُح صوتها. وهرع نحوها عابر جديد فانحنى فوقها، وحاول مساعدتها على القيام وهو يتساءل عما حل بها. وعند ذاك ظهر الزوج مرة أخرى، وانقضَّ نحو المرأة رافعًا يده بالسكين. رآه الرجل الذي خف لمساعدة الزوجة ففزع من منظره، وفزع أكثر لما رأى السكين في يده. وتراجع مهرولًا وهو يهتف: اعقل .. ستُلقي بنفسك إلى الهلاك. ولكن الجنون كان قد تسلط تمامًا على وعي الزوج، وأصدر قراره بالخراب الشامل. هَوَت يده بالسكين في الرقبة فغاصت فيها حتى مقبضها، منتزعة صرخة غليظة يائسة ذات نبرة عدمية، مصحوبة بحركة عنيفة نهائية لا أمل بعدها. ورغم أنه كان يلهث إلا أنه وقف في غاية من الهدوء والاستسلام والبلادة والزهد ملقيًا بكل شيء وراء ظهره. صوتت امرأة في النافذة. سقطت أخرى مغمًى عليها. اشتد توتر الأعصاب. – لا بد من الاتصال بالنجدة. – ما الفائدة؟ ستجيء عاجلًا أو آجلًا. – لعله ما زال يوجد أمل في إنقاذها. – هيهات! إنهم يحققون مع الشهود كما لو كانوا متهَمين. وربما وجدت نفسك متورطًا في خطأ لا يفطن إليه إلا رجال القانون. – مهما يكن من أمر؛ فعلينا أن نعترف بأن موقفنا شاذ، وأنه لا يُصدَّق. – عندي أمثلة بالعشرات تشهد بحماقة من يحشرون أنفسهم في مثل هذا الأمر. – الحق أننا أخطأنا ولا عذر لنا. – ما جدوى الكلام؟ ضاعت الست. وضاع الرجل، وضاع الأطفال. وربما لم نُعْفَ بعد ذلك كله من الاستجواب. وقد حصل فتحققت مخاوفهم. وأدلى كلٌّ بشهادته منتحلًا لنفسه شتى المعاذير. فمن كان يظن أن خلافًا زوجيًّا يفضي إلى تلك النهاية؟ ومن يجرؤ على التعرض لقاتل تلبَّسته حال جنونية؟ وكلهم أنكر واقعة الاتصال بالنجدة، وأكثر من واحد قال: إنه القدر، وأن الحذر لا ينجي من القدر. ويحكي الضابط الحادثة في مجالسه ويقول بمرارة: كان من الممكن إنقاذ المرأة والرجل، ولكن ذلك ما حدث دون زيادة!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/17/
آخِر الليل
غادر الجحيم عند منتصف الليل. جميع أنوار الشارع المستقيم والشوارع المتقاطعة تنصهر في باطنه، تنفجر في نافورة من الأضواء المتضاربة، وأعلى العمائر يتراقص. لا ملمح هداية يستدل به في خط سيره، ولا علامة يسترشد بها، فر الجميع وتلاشَوا. السيارات تَقلُّ بعض الشيء، الآدميون لا ينتهون. يترك نفسه لقدميه، كما اعتاد أن يعتمد عليهما في الملمَّات، ومن تَقُدْه قدماه فلا يضل. ثمة قصة عن حمار مرموق، ولكن ما هي؟ ها هو رجل قادم من الناحية الأخرى، سيرتطم به إذا سار في خط مستقيم، لكن القادم ينتبه إليه، ينحرف، لا شبرًا أو شبرين، ولكن إلى وسط الشارع كأنما يهرب. الجبان. تضاعف شعوره بقوته الكامنة ودار رأسه تيهًا، ولم يعد يقلق لنسيان قصة الحمار المرموق. واصل سيره يخوض الليل والأنوار، يعرض عن أبواب المحالِّ المغلقة، ويتجاهل المارَّة. ووجد نفسه أمام مطعم «الرائد»، فانطلق داخله حتى وقف أمام طاولة صاحبه الذي رمقه بنظرة حذرة: الدنيا صغيرة رغم ما يقال عنها، أنا قادم إليك من آخر الدنيا. فهزَّ الرجل رأسه متعجبًا: لن أوصيك؛ فلست في حاجة إلى توصية وأنت العليم بالزبائن، وعارف طلبي؛ تشكيلة محترمة من الكباب والكفتة والطرب مع كافة السلطات والمخلَّلات، سخِّن العيش، ولا تنسَ الحلوى. هل يطول الانتظار؟ فقال المعلم: بل نُرسلها إلى البيت كالعادة. – تُشكر. ودس يده في جيبه، ولكن الآخر عاجله قائلًا: سنرسل الفاتورة مع الطعام. فرفع يده تحيةً ثم ذهب. رجع إلى خوض الليل والأنوار وتجاهل المارَّة. وعاد يحاول تذكر قصة الحمار المرموق، حتى وجد نفسه أمام محل «الكبير» الحلواني المعروف، فاندفع حتى وقف أمام صاحبه: الدنيا صغيرة رغم ما يُقال عنها. فقال الرجل باسمًا: وأنت قادم من آخر الدنيا. – عمرك أطول من عمري. – أعرف المطلوب؛ تشكيلة من البسبوسة والكنافة والبقلاوة بأنواعها المختلفة. – كبير ابن كبير. – وستسبقك إلى البيت مع الفاتورة. فرفع يديه شكرًا ومضى إلى العالَم الآخذ في النعاس. واقتحمته ذكرى عزيزة جدًّا؛ ذكرى ذلك الرجل الذي صاحَبه يومًا مثل ظله. شد ما يستحق الرثاء بحكايته الغريبة! وخليق به أن يقول له: شد حيلك واضرب الدنيا بالمركوب؛ فهي دنيا لا تستأهل إلا ضرب النعال. هو ثالث ثلاثة أشقاء وأصغرهم. نعم أصغرهم يا عزيزي، فاشترك الآخران في تدليلك فترة من الزمن، ولو على سبيل المجاراة ومداراة الغيرة المتأصلة. وشاء الحظ، وهو كل شيء في الدنيا، أن يوفَّقا في المدارس؛ فيصير الأكبر وكيل وزارة للمالية والأوسط كبير مفتِّشي الري، على حين أبى الحظ أن تحظى بأي قدر من التوفيق، فحتى الخط لا تفكه. ولكن ما قيمة ذلك لشخص قُدِّر له أن يملك بالوراثة مائة فدان؟! وملكتها يا عزيزي، ورحت تستمتع بها، وتغدق في الوقت نفسه على مساكين الأصدقاء وما أكثرهم! فانهالت عليك الاتهامات لا أول لها ولا آخر، ورُميت فيما رميت به بالسفَه، واستصدروا عليك حكمًا بالحَجْر. سرقوك الشياطين، وقتَّروا عليك الرزق حتى انسدت في وجهك الطرق، ولم يكن عجيبًا بعد ذلك أن تقسم لتجلبنَّ عليهم الفضيحة والعار. ووجد نفسه أمام حانة إيديال. هشَّ وبشَّ، واقتحم ستارها المُسدَل ذا الخيوط الخرزية البيضاء. رأى الفُرسان في الركن الأيمن حول الكئوس. وجَموا لحظة وهم ينظرون، فقال ليُذهِب عنهم الروعة: لا ترتاعوا .. أخوكم من طين مثلكم! فغلبهم الضحك، وقال أحدهم: نقدِّم لك كأسًا؟ فقال باستعلاء: لا أسمح لقذارة بالدخول في معدتي، ولكني سأهنِّئك قريبًا بوكالة الوزارة! – ربنا يسمع منك! وسأله آخر: أصحيح ما يُقال؟ – وما هو؟ – أنه عُرضت عليك وزارة الصناعة فرفضتها؟ فقال بإباء: لست ممن يبيعون أنفسهم عند أول طلب! – حتمًا ستقبلها في ظروف أفضل؟ – وعند ذاك تهنأ البلد قبل أن أهنأ أنا. – رَجُل ولا كل الرجال! – أنتم مدعوُّون عندي لقضاء سهرة رأس السنة. – وستكون ليلة ولا كل الليالي. وغادر الحانة إلى عالم التيه. ومرة أخرى ذكر الرجل الذي صاحبه يومًا مثل ظله. من الجحود ألا يزوره ليعزِّيه بكلمتين. إن موقفك يوم عزمت على أن تلطِّخ غرورهم بالعار موقف لا يُنسى. خلعت البدلة يا بطل واستبدلت بها جلبابًا أزرق، واقتنيت عربة يد وسرحت ببطيخ في مجالهم الحيوي، وعلى مرأًى من الذاهب والجائي. وارتعدت منهم المفاصل، وساقوا عليك الأهل والأصدقاء، ولكنك صمدت صمود الأبطال، واضطُرُّوا في النهاية أن يتجاهلوك متظاهرين باللامبالاة، فتماديت في التحدي، وقضيت لياليك في غُرَز عرب المحمدي. يا فارس الفرسان وضارب الدنيا بنعلك، وحتى يتاح لي لقاؤك، تقبَّل على البعد إعجابي وتقديري. أما أنتِ يا نوسة، يا سليلة الشرف، وكنز الجمال والفتنة، فحسبنا تعذيبًا لأنفسنا. الدلال له حد، أو هذا ما ينبغي له. اخترتكِ من بين آلاف من كريمات الأسر العريقة، ولم أختركِ للأسباب التي يجري وراءها الجشعون؛ لا لأصلكِ الطيب، أو أخلاقكِ الكريمة، أو تعليمكِ الراقي، ولكني اخترتكِ من أجل الحقيقة السافرة؛ عينيكِ اللوزيتين السوداوين بكحلهما الرباني، وصدركِ الملهم، وخلفيتكِ التي تجلُّ عن الوصف. ما يجوز أن نفترق بعد اليوم دقيقةً واحدة يا زينة نساء الأرض. ضاع منا وقت طويل بلا طائل، وضياعه كفر بالنعمة. إني قادم يا نوسة، فارجعي إلى قسمتك ونصيبك؛ فإن جميع طلباتك مستجابة. سر المأساة كلها في كلمة؛ أنني وُلدت في عصر يتشرد فيه الملوك في بلاد الغربة كالمتسوِّلين بعد أن خلَّفوا عروشهم وراءهم بيد السُّوقة، ثم إنهم بعد ذلك لا يأمنون الغدر ولا ينجون من المؤامرات. بذلك تنبَّأ قارئ الكف، ولكنني لم آخذه مأخذ الجد في وقته، وتركت الزمن يجري كيف شاء حتى استحكم الحصار. وقادته قدماه في تجواله إلى البنك الأهلي الغارق في نومه مُسدل الأجفان. لعله من الحكمة أن يسحب من حسابه بعض المال ليواجه نفقاته الكثيرة، ولكنه لا يستطيع أن ينتظر حتى الصباح. وخُيل إليه أنه أصبح على حال تمكِّنه من الاهتداء إلى منزله العامر، وأن هيئة الأشياء آخذة في التغير رويدًا رويدًا، وأن رأسه يتغير أيضًا؛ حتى المشي لم يعد مستساغًا إلى غير ما نهاية، وأن جسمه يطالب بحظه من الراحة. ألعن الساعات ساعةٌ تعرف فيها مَن تكون وكم يتبقى من الزمن، وتعرف أيضًا أن الوقت صيف، وأن الجو عدو الإنسان، وأنه يُرغم على التسليم دون شرط. ها هو النيل يجري في حال من الكآبة والاستسلام، بعد أن كُبِّل بالأغلال وأذعن لمشيئة البشر. وتحت الكوبري توجد أريكة من الصوان خالية، لم يشغلها صعلوك من صعاليك الليل بعد. تحسَّسها براحته، ومضى إلى شاطئ النيل، فعبر الحاجز الحجري ثم انحدر نحو الماء. خلع جلبابه مُبهَم اللون وعلَّقه بفرع شجرة، فبدا عاريًا كما ولدته أمه، وراح يغوص في الماء حتى غمر صدره ليزيل عن جسده الحرارة والعرق في تلك الساعة من الليل، وغنى بصوت كالخوار «البحر بيضحك ليه»، وغسل وجهه ورأسه الأصلع، ثم صعد راجعًا إلى الطوار آخذًا جلبابه بيده، وانتظر حتى جف جلده وارتدى الجلباب، واستلقى فوق الأريكة. وما لبث أن تلاشى في الغيب فتصاعد شخيره مثل نقيق الضفدع.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/53135869/
التنظيم السري
نجيب محفوظ
«ما أكثرَ الأشياءَ الجديرة بجذب الأنظار، لولا انغماسُنا في الأمور العابرة!»يُعَد هذا الكتاب واحدًا من أهمِّ وأبرز مجموعات «نجيب محفوظ» القصصية التي تتميَّز بعمق المعنى وثَراء الرؤى الفكرية والفلسفية. كُتِب خلال عقد الثمانينيات؛ حيث كانت البلاد تَمُوج بمختلِف التيارات الفكرية والسياسية، فضلًا عن وقوعها تحت نِير الانفتاح الاقتصادي؛ فجاءَت قصصه معبِّرةً عن ذلك المشهد العام، ولكن في قالبٍ رمزي فريد أتقنه «محفوظ» بطريقة احترافية؛ وهو ما نلمسه بشكل خاص في قصة «التنظيم السري» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث تحكي عن رجلٍ قرَّر الانضمامَ إلى أحد التنظيمات السرية، أملًا في تحقيق الحرية والعدالة للمجتمع، ومن خلاله نتعرَّف على ثلاثِ أُسَر تراتُبية للتنظيم يتدرَّج فيها، لكلٍّ منها نمَطُها الخاص في العمل. أمَّا قصة «البقاء للأصلح» فتَسرد حكايةَ بيتٍ مكوَّن من ثلاثةِ طوابق وبدروم، يسكن مالِكه في الطابق الثاني ويؤجِّر ما سِواه، فيتنافس المستأجِرون للسيطرة على البيت، ولكن تُرى لمَن ستكون الغَلَبة؟ وإلى جانب هاتين القصتَين يضمُّ الكتابُ قصصًا أخرى محمَّلة بالكثير من الرمزيات حول تلك المرحلة.
https://www.hindawi.org/books/53135869/18/
القتل والضحك
ما أكثر الراحلين! أُدهش وأتحير كلما طافت أشباحهم بذاكرتي، أسباب متنوعة، متضاربة وأحيانًا متناقضة، ولكنها تفضي إلى نهاية واحدة، ويطاردني حلم ثابت. يلح عليَّ في أوقات الفراغ، وما أطولها، حلم خليق بصاحب ثأر تخلَّى عن إنجاز مهمته. وهو لا يفارقني حتى في ذلك البيت الخلوي الذي صادفته ذات يوم ناشدًا النسيان ساعة أو بعض ساعة. أجلس إلى جانب المعلمة المتربعة فوق كنبة تركية مثل قاعدة تمثال — ضمن زوار — وأتفحص بعنايةٍ المكان ومعروضاته. أتصفح الوجوه البيضاء والسمراء والسوداء، البدينة والملفوفة والنحيلة، وهن جميعًا على أتم الاستعداد، على مألوف التقاليد بتقديم الشراب، فتهش المعلمة وتثني على الأصل الطيب قائلة: إن جل زبائنها يجيئون عادة من بين الصفوة. والشهادة لله أن المكان أنيق والأثاث كريم والنظافة متألقة ورائحة البخور مخدرة مقدسة. أما السيدة اللحيمة، فتُباهي قبل كل شيء بالأمن والأمان. وأظلني الحلم القديم بجناح يقطر دمًا، وبهمسات داعية للخير والفلاح. ووقع الاختيار على بيضاء نحيلة لا حول لها، فقلت للمعلمة «الحمراء»، أي ذات الفستان الأحمر: سرعان ما صرنا وحدنا في الحجرة الصغيرة الكاملة، فراحت تتجرد من فستانها وقميصها وتستلقي في تسليم وسلامة. اقتربت من الفراش بكامل ملابسي يقودني الحلم القديم. أعابث الخد والعُنق وأغوص في اللحظة الحاسمة. وبسرعةٍ أُطوِّق العنق الرقيق الطويل بقبضتي، وأشد عليه بكل ما أوتيت من قوة، غير متأثر بمقاومة يديها وعنف ركلات قدميها في الهواء، واستغاثة عينيها الجاحظتين البائسة الملهوفة على النجاة. ولم أفكَّ قبضتي حتى سكن كل شيء سكون الموت. وأقف وأنظر وقلبي يلهث في دقات متتابعة. وأرى الموت وهو يضع قناعه فوق الوجود المتهالك، ويرسم على صفحته النائية آي البعد واللامبالاة. وأفكر في النجاة مؤجلًا ما عداه. دون عجلة كيلا أثير التساؤل. ونظرت إلى نفسي في مرآة صغيرة في موضع عاكس للفراش والجثة. وأجهضت قشعريرة اقتحمتني بقوة غير حميدة. وقلت لنفسي مُعزيًا ومُشجعًا: أديتُ ما كان عليَّ أن أؤديه. ها أنا أمضي نحو الباب أفتحه، أتركه مواربًا زيادة في إبعاد الشُّبهات، وأسير متمهلًا نحو الباب الخارجي متجاهلًا المكان والحاضرين. وعندما أنتهى إلى الطريق النائم في ليل الصيف، أحث الخُطى مدفوعًا برغبة طارئة في الهرب نحو الشارع الرئيسي. وأبلُغ بنسيون ليدا وسط المدينة في الهزيع الأخير من الليل. أتناول حبة منوِّم لا أتعامل معه عادة إلا عند الشدائد. صحوت من نومي قبيل الظهر مشتعل الرأس بالكسل والذكريات. طلبت الإفطار ولكني حسوت الشاي وحده، وأنا أقول لنفسي: أنت من الآن فصاعدًا قاتلٌ جارٍ البحثُ عنه. تُرى هل أحل مشكلتي بقوة الإرادة أو أنني أسير من سيِّئ إلى أسوأ؟ وماذا عن حياتي الجديرة بالتأمل في هذه الساعة الفاصلة الدامية؟ فَرْدٌ أُعد للخيَّال، ولكنه يتعيش من السمسرة. معارفه بلا حصر ولا صديق له، يمقت فكرة الزواج والإنجاب. وذهبت إلى البلفدير بالهرم لأنفرد بنفسي وأفكر. جو لطيف في أواخر الربيع والجلوس يحلو في حديقة النخيل وأُصص القرنفل. غالبًا لم يعرفني أحد من الزبائن المعدودين. هناك لا يُسأل أحد عن هويته، ولكن حتمًا ستحصر التهمة في جريمة يود الجميع أن تندثر وتختفي. أرفع قدح البيرة وأتخيل ما حدث. المُعلمة تتساءل عما أخر البنت عن الرجوع إلى الصالة. تُرسل في طلبها. إما تَفَضح صرخة فزع الجريمة، وإما يُحبس الفزع في الصدور، ويُدفن السر في بئر. في الحال الأولى يَنفضُّ السامر في عجلة ولَهْوجة، ويفر كلٌّ إلى حال سبيله. في الحال الثانية يتواصل العمل في أمان. وفي الحالتين تفكِّر المعلمة كيف تخفي الجثة وتحمي نفسها وعملها من قبضة القانون. الجميع الآن يعملون على طمس أي أثر يمكن أن يؤدي إليَّ، يتمنون لي السلامة ضمانًا لسلامتهم وسمعتهم. أستطيع أن أُهددهم وهم لا يستطيعون. لكن هل تنجح المعلمة في إخفاء معالم الجريمة؟ ألا ينسرب إليها الخطر من منفذ لم يجرِ لحذرها في خاطر؟ تناولت غدائي في البلفدير مع مزيد من البيرة والنشوة. وعند هبوط العتمة مضيت في تاكسي إلى الشارع. وتفحصت البيت وأنا أمر به. وجدته مُسربلًا في هدوئه ورأيت النور يشع في نافذتين، وكأنما يواصل تقديم خدماته اليومية. ولم يكدر صفوي في الليلة التالية إلا أنني رأيت في نومي استغاثة الفتاة البائسة، وهي تغوص في الانكسار بين قبضتي. ولكن ذلك كان أهون ما توقعت. وتساءلت عن مُستقرها الأخير: أيكون قعر النيل أم مفازة في الصحراء، أم مدفنًا في باطن حديقة البيت الخلفية؟ سيشترك الجميع في جريمة الإخفاء بدافع الرغبة في النجاة والدفاع عن لُقمة العيش. وأفظع من ذلك يُنسى في وقت أقصر من ذلك. وأتصفح الجرائد بعناية دون العثور على ما يكدر الطمأنينة. رغم ذلك لم يغِب عن وجداني ما حصل دقيقة واحدة. إنه حي بكل تفاصيله هناك. وهو يزعجني أيما إزعاج؛ ولذلك تخطر لي أفكار جنونية لا بهدف التنفيذ ولكن حبًّا في استعراضها ليس إلَّا، كأن أبعث برسالة من مجهول إلى قسم الشرطة. ولكني وجدت وسيلة للترويح عن النفس مأمونة العواقب في مقهى «العائلات»؛ حيث تجمعني الأماسي ببعض الصحاب. رويت لهم تفاصيل الجريمة باعتبارها من بنات الخيال، واستطلعت تصوراتهم عما يمكن أن يحدث. أجمعوا على أن مصلحة الجميع تقتضي إخفاء آثارها، غير أن أحدهم قال: ويُعثر على الجثة ولو بعد حين، وربما بمصادفة لا تجري على بال، ثم يُنتزع القاتل من مكمنه الآمن. ضايقني ذلك بطبيعة الحال، وخِفتُ أن يتلاشى الأمل، بارتكاب الجريمة، في حياة أشد معاناة. وما الحيلة وكلما نظر نحوي رجل توهمت أنه كان هنالك تلك الليلة؟ أو كلما سمعت وَقْع قدم ورائي تصورت أن أحدهم يتبعني؟! وضاعف صاحبي من كربي عندما قال لي: أتذكر جريمتك الخيالية؟ .. حكيتها لصديق مخرج تلفزيون، فأثارت خياله، وقرر أن يجعل منها نواة فيلمه القادم. ضايقني ذلك، وآيسني بصفة قاطعة من النسيان. وضايقني أكثر أن جاء المخرج مع صاحبي ذات مساء للمناقشة. قال: أنت صاحب الفكرة وتستحق مكافأة رمزية، هل تستطيع أن تصيغها في قصة؟ فحركت رأسي نفيًا فقال: طبعًا هي بصورتها الراهنة مستحيلة. – مستحيلة؟! – لا بد من باعث على الجريمة، الحب والخيانة مثلًا، أو يكون القاتل مهزوز العقل، فيتصور أنه بقتلِ امرأة من هذا النوع، فهو يحارب الرذيلة مثلًا. فندَّت عن منكبي حركة استهانة فقال: لا جريمة بلا باعث، ولا بد أن ينال القاتل جزاءه أيضًا. فقلت وأنا أداري غيظي: هذا قانون الجرائم الخيالية، أعني الروائية. – العمل يجب أن يكون معقولًا وأخلاقيًّا. فندت عن منكبي حركة الاستهانة، فقال ضاحكًا: يبدو أنك لا تصلُح أن تكون مؤلفًا. فقلت ساخرًا: ولكني أصلح أن أكون قاتلًا. فقهقه ضاحكًا، وتفرس في وجهي بمودة، وقال: على كل حال فالفكرة تعد بقصة جيدة إذا اهتدينا إلى باعث مثير ومقنع، واقترحنا خطة محكمة؛ للكشف عن الجثة والقبض على القاتل. فتساءلت بكآبة باطنة: مثل ماذا؟ الخطة المحكمة لا تُرتجل، ولكنها تُسبَق بتأمل وتفكير ومراجعة الأفلام المشابهة، غير أنه على سبيل المثال يمكن أن نتصور للضحية عاشقًا مخلصًا يحفزه اختفاؤها للعمل، أو أن تُكتشف الجثة بالمصادفة عن طريق بستاني الحديقة أو صياد في النيل، الفروض هنا لا حصر لها. انتهت المناقشة وانتهى اللقاء، فسقطتُ في دوامة الظنون، وغلبني ميل جامح لملاحظة الناس والأشياء. أسير متمهلًا رغم الزحام أو أجلس قريبًا من الطريق لأتصفح الوجوه والحركات ووسائل المواصلات والسِّلَع وواجهات المحالِّ والمباني. أتصفحها بعناية عالِم مُكلف بوصفها وتحليلها. ووجدتُني وجهًا لوجه مع المعلمة في بقَّالة السعادة بشارع البستان. رغم السيادة والخبرة والدهاء شحب لونها وانهزمت أمام خوف جاثم. تجاهلتْني فخانها الاضطراب غير أنه لم يلمس هزيمتها سواي. ولما انتهينا من التسويق وقفنا أمام الدكان متقاربين، فقالت همسًا: ها أنت حقيقة لا خيال. نظرت نحوها كالمُنكر. فتساءلتْ: لِمَ فعلتَ فعلتك المنكرة؟ تساءلت كالداهش: حضرتك تكلِّمينني؟ فمضت عني وهي تقول: منك لله! كدت أضحك، وغمرني إحساس بالأمان، بل فكرت في تكرار التجربة في بيت جديد. غير أنه كان إحساسًا عابرًا. وارتددت إلى الملاحظة والغوص في صميم الأشياء. وفي أوقات الفراغ أتذكر قول المخرج: «الفروض لا حصر لها.» هذه هي الحقيقة الغائبة عن ملاحظتي، ولكنها تتضارب في عقل أو أكثر ليلَ نهار. يوجد فاعل أصلي هو أنا، وشركاء هم المعلمة ومن ساعدها على إخفاء الجريمة، وتوجد الضحية أيضًا. لا يمكن أن تبقى هذه الأشلاء مبعثرة إلى الأبد. وغير محتمل أن أظل منفردًا بنفسي بلا نهاية. وقمت بزيارة غير متوقعة للمخرج في مكتبه. استقبلني بابتسامة عريضة قائلًا: حُلت المشكلات كلها تقريبًا. فأعلنت رضاي متمتمًا: مبارك! – وجدنا الخطة المحكمة، اكتُشفت الجثة وقُبض على المعلمة، وقرأ القاتل قصته خبرًا في الجرائد فقرر الانتحار، تُرى ما رأيك في أفضل وسيلة للانتحار؟ فاقشعر بدني وتساءلت: ماذا تقصد؟ – نحن أمام عدة اختيارات، ضع نفسك في مكانه، فماذا كنت تختار؟ فازدردت ريقي وقلت: أخفها ألمًا! فقال ضاحكًا: أنت تُفكِّر في نفسك، ولكني أفكر في أمرين، أولًا: أشدهما تأثيرًا في الجمهور. وثانيًا: أصلَحُهما من الناحية الجمالية للكاميرا! وقلت لنفسي: يا له من رجل سعيد!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/83136409/
فراشة دودة ورق العنب
مأمون عبد اللطيف الرحال
«أنا فراشةُ ورقِ العنب، يَدعونني عثَّة الصقر الطنَّانة، وعثَّة أبو الهول، ودودة ورق العنب، وفراشة سفنكس. أتبع فصيلةَ فراشات الصقر التي يَندرج تحتَها عشراتُ أنواعِ العثِّ والفراشات.»أنا فراشةٌ ليلية جميلةُ الشكل، كبيرةُ الحجم، أتغذَّى على رحيق الأزهار، أَنشَط في المساء، ويَتوقَّف نشاطُ يَرقاتي في النهار. وأنا مُسالِمة، ألعب مع أصدقائي من الحشرات والكائنات الأخرى دورًا مهمًّا في تلقيحِ العديد من النباتات الزهرية، وزيادةِ المحاصيل الزراعية. تعالَ لتعرف عني أكثر!
https://www.hindawi.org/books/83136409/1/
فراشة دودة ورق العنب
ما إن تأذن شمس الربيع في شهر نيسان بالمغيب خلف الأفق، ويحلُّ المساء رويدًا رويدًا، وتروح أزهار حديقتكم تتفتَّح باسمةً للمساء، مزهوَّةً بجمالها وتعدُّد ألوانها، ناشرةً شذاها وعبير أزهارها؛ حتى ترَوني أحوم حولها بحركات سريعة، أتوقَّف أمام إحداها ثانيةً من الزمن أرتشف رحيقها اللذيذ بخرطومي الطويل، وأنتقل إلى أخرى بحركة خاطفة فيها الكثير من الخِفة والمهارة وسرعة المناورة. كثيرون ممَّن رأوني للوهلة الأولى ظنُّوا أنني الطائر الطنَّان، ذلك العصفور الصغير؛ حيث أمتاز بطيراني السريع، وخفة حركاتي، وسرعة رفرفات أجنحتي التي لا تكاد تُرى، ممَّا يجعلني كثيرة الشبه بذلك الطائر. وفي حقيقة الأمر أنا فراشة ليلية، جميلة الشكل، كبيرة الحجم، يصل طول جسمي إلى ٤ سنتيمترات، والمسافة بين نهايتَي جناحَي ٧ سنتيمترات. أنشط مساءً وأتغذَّى على رحيق الأزهار، عاملًا بذلك على القيام بمهمَّة حيوية وخدمة جليلة لنباتاتكم، ولكم، ولأنعامكم؛ حيث أساعد على نقل حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى، فتتلقَّح الأزهار، وتتكوَّن الثمار، وتتشكَّل البذور، ويزداد الإنتاج. أقوم بوظيفتي الحيوية تجاه عائلتي التي أنتمي إليها من أجل استمرار أجيالنا، فأضع مجموعةً من البيوض على السطح السفلي لورقة النبات يتراوح عددها بين ٥٠ إلى مائة بيضة. وبعد مرور ١٣ يومًا على وضع البيوض تفقس عن يرقات خضراء صغيرة مُخطَّطة جائعة، يميُّزها ذلك القرن في نهاية جسمها. يتوقَّف نشاط يرقاتي نهارًا، وتختفي عن عيون المفترسين من الطيور والحشرات الأخرى. ولكن ما إن يأتي المساء حتى تنشط وتنتشر تتغذَّى على الأوراق فتنمو ويكبر حجمها، وتزداد شهيتها وشراهتها للأكل يومًا بعد آخر، إلى أن تبلغ يرقاتي الجائعة حجمها الكامل في أوائل شهر تموز، مؤدِّيةً إلى تجريد النباتات من أوراقها، ولافتةً نظركم إلى الضرر الكبير الذي تسبِّبه، الأمر الذي يزيد نقمتكم عليها نتيجة ظهور أعراض الضعف على الأشجار، وانخفاض إنتاجها، وتدَنِّي جَودة محصولها الذي تنتظرونه من الثمار والأوراق. وفي نهاية طَورها اليرقي تُسقط اليرقات نفسها إلى التربة لتدخل طَورًا جديدًا، متحوِّلةً إلى عذراء مكبَّلة تبقى هكذا مدةً تتراوح بين أسبوعَين إلى ثلاثة أسابيع. إلا أن هذه العذارى المكبَّلة، ورغم عدم حراكها فإنها لا تسلم من أصحاب تلك الأشجار المتضرِّرة الحاقدين عليها، فيبحثون عنها في التربة، وبين الأعشاب وأوراق الأشجار المتساقطة، ويجمعون منها ما استطاعوا للتخلُّص منها قبل أن تخرج من شرنقتها فراشةً جديدةً تشبهني تمامًا، تطير وتتابع دورة حياتها. أمَّا العذارى التي كُتِب لها النجاة فقد تبقى في حالة بيات شتوي حتى العام القادم، لتخرج بعدها في فصل الربيع فراشةً جميلةً تطير في الحقول، وتتغذَّى على غبار طلع الأزهار، حبوب اللقاح، وتتكاثر لضمان استمرار نسلنا وسلالتنا، مقدِّمةً خدمةً جليلة للنباتات وبقية الكائنات الحية خلال نقلها حبيبات اللقاح من زهرة إلى أخرى، عاملةً بذلك على زيادة إنتاجها من الثمار والبذور في أكثر من ١٠٠ نوع من النباتات الزهرية. واسمحوا لي أن أدافع عن نفسي وأقول لكم: أنا فراشة مسالمة، أتغذَّى على رحيق الأزهار، وألعب مع أصدقائي من الحشرات والكائنات الأخرى دورًا هامًّا في تلقيح العديد من نباتاتكم الزهرية، وزيادة إنتاج محاصيلكم الزراعية. وإذا كانت الظروف المناخية والبيئة مناسبة، فقد يكون لي أكثر من جيل في السنة؛ ولهذا تشاهدونني كثيرًا بين الحين والآخر أزور نباتات حديقتكم والأزهار التي تفَتَّحت على شُرفات منازلكم. أمَّا الأضرار التي تشاهدونها على أوراق أشجاركم ونباتاتكم المزروعة: من العنب، والتفاح، والبطاطا، والبندورة، وغيرها من نباتات منازلكم المتسلِّقة: كالدالية، والخميسة، وما يتبعها من ضَعف وتدهور في حالتها، وانخفاض إنتاجها، فتعود إلى يرقاتي الخضراء بحجمها الكبير، وشهيتها النهمة؛ فهي المسئولة عن تلك الأضرار أثناء تغذيتها على أوراق تلك النباتات، من أجل نموِّها واكتمال دورة حياتها. ويمكنكم الاستدلال على وجود يرقاتي على شجرة العنب، أو على غيرها من الأشجار في حديقة منزلكم، من خلال مشاهدة الأضرار على الأوراق المأكولة، أو مشاهدة أفرع مجرَّدة تمامًا من الأوراق. كما يمكنكم رؤية براز اليرقاي المميَّز تحت الشجرة، حيث يكون على شكل كرات كبيرة الحجم، ذات لون أسود، تشبه بعر الأغنام أو الماعز. وللحَدِّ من أضرار يرقاتي النهمة يمكنكم جمعها بأيديكم، وإبعادها عن أشجاركم الجميلة؛ للمحافظة على أوراقها سليمة، تؤمِّن لكم الهواء النقي، والظل، والجمال. وختامًا أعزائي الأطفال أعرِّفكم على نفسي أكثر فأقول لكم: أنا فراشة ورق العنب، يدعونني عثَّة الصقر الطنانة، وعثَّة أبو الهول، ودودة ورق العنب، وفراشة سفنكس. أتبع فصيلة فراشات الصقر التي يندرج تحتها عشرات أنواع العث والفراشات، من رتبة حرشفية الأجنحة، في طائفة الحشرات، من شعبة مفصليات الأرجل. أمَّا نسبي فينتهي إلى المملكة الحيوانية.
مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها.  بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية.  أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية. مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها. بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية. أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/0/
إهداء
null
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/1/
فان جوخ
ويبدأ السائر في خُطى فان جوخ جولته في العاصمة الفرنسية ذاتها، باريس التي تردَّد عليها الفنان مراتٍ كثيرة، وعاش فيها فترتين طويلتين نوعًا ما، ورسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته، ضمَّها فيما بعد كتابٌ فنيٌّ مدروسٌ بعنوان «فان جوخ في باريس»، صدر عام ١٩٨٨م احتفالًا بمرور مائة عام على إقامته الثانية في العاصمة الفرنسية، وكانت إقامته الأولى هناك في منتصف مايو ١٨٧٥م حين نُقل للعمل بها في فرع مؤسسة «كوبيل وشركاه» للوحات والمطبوعات الفنية، واستمرَّت حتى أبريل ١٨٧٦م، ولكن زيارته الثانية هي التي تركت آثارها العميقة في تشكيله الفنيِّ، بعد أن كان قد قرَّر تكريس نفسه لفنِّ الرسم، وقد فاجأ فنسنت أخاه ثيو بوصوله فجأة إلى باريس في فبراير ١٨٨٦م، وأقام الأخَوان في شقة فسيحة في الطابق الثالث من المنزل رقم ٥٤ شارع «ليبيك» بمونمارتر، وهو الأثر الوحيد الباقي حتى الآن في هذا الحيِّ العتيق من بين المقاهي وصالات الرسم ومحلات الأدوات الفنية التي كان يرتادها الرسَّامون في ذلك الوقت، ويمكن للزائر أن يرى على هذا المبنى اللوحةَ التذكاريةَ التي وضعَتها بلديَّة باريس وتُبيِّن إقامة فان جوخ فيه، حيث سكنَه في الفترة من فبراير ١٨٨٦م حتى فبراير ١٨٨٨م، وللأسف لا يسمح سكان الشقة الحاليُّون لأحدٍ بزيارتها أو بتصويرها من الداخل، كما أن اللوحة التذكارية قد سُرقت عدة مراتٍ على يد هُواة جمع التذكارات الفنية المتعلِّقة بالمشاهير. ومعظم لوحات فان جوخ الموجودة في باريس معروضةٌ في متحف دورساي، الذي أقامَته الحكومة الفرنسية عام ١٩٨٦م على أنقاض محطة سكَّة حديدية، وأودعَت فيه — ضمنَ ما أودعَت — لوحات الانطباعيِّين والمُحدَثين التي كانت موجودة في متحف «جي دي بوم» الذي ضاقَت مساحته عن استيعاب الزوَّار المتلهِّفين على رؤية روائع اللوحات الفنية التي طبَّقَت شهرتها الآفاق، ومن أهم لوحات فان جوخ الموجودة في باريس: صورة الدكتور جاشيه، كنيسة أوفير، غرفة الفنان في آرل، ومن عجَبٍ أن معظم اللوحات التي رسمها فنسنت إبَّان إقامته في باريس عن العاصمة كما كان يراها في زمنه، مثل نهر السين ومطاعم باريس وطواحين مونمارتر ومقاهيه، هي كلُّها الآن إما في متحفه الشامل بأمستردام، وإما في مجموعاتٍ خاصَّة. والمدينة الفرنسية الثانية التي يحُجُّ إليها عشَّاق فان جوخ هي «آرل»، التي تقع في جنوب البلاد من بين مدن إقليم البروفانس الشهير، وقد نزح فان جوخ إليها سعيًا وراء الإلهام والشمس التي يستطيع أن يقوم في ظِلالها بدراساته للضوء، وكان يحلُم بإقامة مستعمرة للرسَّامين هناك حيث يعملون جنبًا إلى جنبٍ ويتبادلون الخبرات الفنية، وقد وصل إلى آرل بالقطار في ٢٠ فبراير ١٨٨٨م، حيث خُيِّبَت آمالُه الأولى بالثلج الذي كان يُغطِّي كلَّ شيءٍ، وبمشاكلِه مع صاحب الفندق الرخيص الذي كان يتشاجر معه بسبب اللوحات والألوان التي كان ينثرها فنسنت في كلِّ مكان، ولكن مُقامه بالمدينة طاب حين تعرَّف على ساعي البريد «جوزيف رولان» الذي ساعده على تأجير منزل صغير بسعرٍ بَخسٍ، اشتُهر هذا المنزل بعد ذلك باسم «المنزل الأصفر» بعد أن خلَّده الفنان بلوحة بهذا العنوان، وكان رولان هو صديقه الوحيد في المدينة، فرسم له فان جوخ أربع لوحاتٍ مختلفة، وتعوَّد الفنان على العمل المستمرِّ في كلِّ الأنحاء، وطَفِقَ يرسم الحقول والفلاحين والأنهار والكباري والميادين والمقاهي والناس، ولما اشتدَّت وطأة الوَحدة عليه، أرسل إلى صديقه الرسَّام جوجان الذي وافاه في آرل وأقام معه في المنزل الأصفر، وشرعا يرسمان معًا، ولكن حِدَّة طِباع فان جوخ وبُدائيَّة جوجان جعلتهما في شِقاقٍ مستمر، انتهى بالحادثة المشهورة التي قطع فيها فنسنت أذنَه في أول صورة من صور «جنونه». ولقد دفع ما حدث سكانَ آرل إلى كتابة التماس وقَّع عليه الكثيرون، يحتجُّون فيه على وجود ذلك «المجنون» في وسطهم، ويطلبون إبعاده عنها، وانتهى الأمر إلى إلحاقه بمصحَّة «سان بول» ببلدة سان ريمي القريبة من آرل، وكان الذي أوصى بذلك هو الطبيب الذي عالجه في مستشفى آرل، ويُدعى الدكتور «فيلكس ري»، والذي رسم له فان جوخ صورة امتنانًا منه له، ولكن والدة الطبيب لم تُعجِبها اللوحة، فاستخدمتها لسدِّ ثغرة في أحد أبواب منزلها! وهي موجودةٌ الآن في متحف بوشكين بموسكو. وأمضى فان جوخ في مصحَّة سان بول بسان ريمي الفترة من ٨ مايو ١٨٨٩م حتى ١٥ مايو ١٨٩٠م، وقد قام فنسنت في ذلك العام برسم مجموعة من أشهر لوحاته وأهمِّها، منها: أشجار السرو، وأزهار السوسن، والليلة المُرصَّعة بالنجوم، ومناظر المصحَّة وبعض نُزلائها، وقد رسم صورة لطبيبه المعالِج الدكتور «ري» امتنانًا له. كذلك ترجع إلى هذه الفترة لوحة «فترة الراحة للمسجونين»، التي نقلها عن لوحة لجوستاف دوريه، والتي ذكر أستاذنا الكبير نجيب محفوظ أنها من بين اللوحات التي تركَت في نفسه أثرًا بالغًا. وزائرُ آرل يمكنه الاشتراك في رحلة على الأقدام يُنظِّمها مركز الاستعلامات بالمدينة لزيارة الأماكن الهامَّة المرتبطة بفان جوخ، بصحبة أحد الشُّرَّاح، وتبدأ من مُتنزَّه آرل الذي يتوسَّطه تمثالٌ للفنان، أما المنزل الأصفر فإنه غير قائم الآن؛ إذ إن الغارات الألمانية على المدينة إبَّان الحرب العالمية الثانية قد دمرَته تمامًا، وإن كان بإمكان الزوَّار أن يرَوا مكانه في ميدان لامارتين، والآثار التي ما زالت باقية كما هي من أيام إقامة الفنان هناك. وهناك أيضًا جولة مصحوبة بمرشد في سان ريمي، يتوجَّه فيها الزائر إلى مصحة سان بول التي لا تزال قائمة، ويرى الطبيعة المحيطة بها التي أوحَت لفان جوخ أعماله، وكلُّها على ما كانت عليه أيامه، ومنها أشجار الزيتون، وأشجار السرو التي كان الفنان يُشبِّهها في رسائله لأخيه بالمِسلَّات الفرعَونية. ومِن عجَبٍ أن آرل المدينة التي شهدت أفراح فان جوخ وأتراحه، والتي تنكَّرت للفنان في محنته وهاجمه سكانها أبشعَ هجوم، حتى إنهم كتبوا التماسًا جمعوا له التوقيعات بطلب ترحيله عنها خوفًا من تصرُّفاته، هي نفسها المدينة التي تعيش اليوم اقتصاديًّا على اسم فان جوخ؛ فالسيَّاح يقصدونها من كلِّ مكان، والمحلات تبيع تذكاراته من كلِّ شكلٍ ولون، ونُسَخ لوحاته متوافرةٌ في كل الأحجام. ورَغم ذلك، لا يوجد في آرل ولا في سان ريمي أيُّ لوحة أصلية من لوحات فان جوخ، وإنما هي خُطاه وروحه ووجوده يلمسها الزائر في كل الأنحاء. وبعد خروج الفنان من المصحَّة، يتوجَّه إلى منزل أخيه ثيو بباريس، لرؤية زوجة أخيه وطفلهما الذي سمَّياه على اسم الفنان: فنسنت، ثم يشدُّ الرِّحال إلى بلدة إلى الجنوب من باريس هي «أوفير سيرواز» كانت قد جذبَت عديدًا من الرسَّامين من قبل، منهم سيزان وبيسارو، حيث اعتزم البقاء هناك تحت رعاية طبيبٍ يُدعى جاشيه كان فنانًا وراعيًا للفنانين. وأوفير مليئةٌ بالآثار المرتبطة بفان جوخ، ولذلك فزيارتها ضروريةٌ للساعين في خُطى الفنان، ولكن يجب على الزائر أن يعرف أن المَبيت في أوفير شبه مستحيل؛ إذ ليس بها أيُّ فنادق، فعليه المَبيت، والأمر كذلك إن أراد، في مدينة «بونتواز» على مَبعَدة ربع ساعة بالسيارة من أوفير. وأهم الآثار في البلدة هي مقهى فان جوخ الذي يعلوه البيت الصغير الذي تُوفي الفنان فيه بعد أن أطلق الرصاص على نفسه في حقلٍ مجاورٍ بينما كان يرسم هناك. والبيت الآن متحفٌ يَؤمُّه الزوَّار ويشاهدون فيه غرفة فان جوخ التي اكتراها بعد وصوله إلى أوفير، وملحقٌ به صالة مبيعاتٍ لكلِّ التذكارات التي يمكن تخيُّلها عن الفنان ولوحاته، أما المقهى فيتحوَّل في ساعات الطعام إلى مطعمٍ فاخرٍ يُقدِّم وجباتٍ غالية الثمن، وفي مواجهة المقهى، يوجد مبنى البلدية الذي رسمه فان جوخ في لوحة شهيرة، ووراء المقهى هناك سُلم حجَري نصعد عليه ونسير بعده في طريقٍ تحفُّه الفيلَّات الخاصة، ومنها منزل الدكتور جاشيه. وينتهي بنا الطريق إلى كنيسة أوفير التي خلَّدها الفنان في واحدة من أشهر لوحاته، ويمكن أن نرى بوضوحٍ الطابع التأثُّري في الرسَّام من مقارنة الكنيسة في الواقع، وقد استحالت في اللوحة إلى انطباع شامل يعكس رؤية الفنان لها وليس كما هي في الواقع. وفيما وراء الكنيسة، هناك طريق طويل يشقُّ حقول القمح المترامية الأطراف التي طالما رسمها فان جوخ، مما يُعيد إلى أذهاننا على الفور لوحته الأخيرة «غِربان فوق حقل قمح». وتجيء هذه الذكرى نذيرًا بالنهاية الأليمة التي لاقاها الفنان في أوفير؛ إذ يقودنا الطريق إلى مقبرة البلدة حيث دفن فان جوخ في ٣٠ يوليو ١٨٩٠م، وهو يرقد هناك إلى جوار أخيه ثيو الذي مات بعده بستة أشهرٍ في هولندا، ولكن زوجته التي تعلم مدى حبِّ الأخوين نقلَت رُفاته إلى أوفير ليرقد إلى جوار أخيه، ولا ينقطع الزوَّار يومًا عن زيارتهما وإلقاء الزهور على قبريهما؛ تلك الزهور التي هامَ بها فنسنت ورسمها في كثيرٍ من لوحاته. وقد قمتُ أنا وزوجتي بعد أن طُفنا بأماكن فان جوخ الفرنسية، بوضع زهرتين على مثواه هو وأخيه؛ تَذكارًا لزيارتنا، وتقديرًا لهذا الرسَّام الذي أمتعَتنا لوحاته وما تزال تُمتعنا في كلِّ حين.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/2/
لوركا بين غِرناطة ونيويورك
وقد وُلد لوركا في قرية «فوينتي فاكيروس» من أعمال غرناطة، إحدى محافظات مقاطعة الأندلس الإسبانية، وكان مولده في ٥ يونيو ١٨٩٨م، في منزل عائلته هناك: ٦ شارع ترينيداد، وهو منزلٌ أندلسيٌّ أصيل، اشتهر بساحته المميَّزة التي انتقلَت إلى العِمارة الأندلسية منذ أيام العرب، وبأزهار الياسمين التي تتبدَّى على جدرانه، وقد شهد هذا المنزل السنوات الخمس الأولى من طفولة لوركا، وطبع في نفسه جوَّ القرية بما فيها من جمال الطبيعة وبساطة الحياة القروية وقصص الأطفال التي وعاها في ذاكرته، ولا غَروَ أنه بعد أن تمَّ رفع الحظر عن الشاعر وفكَّر المسئولون في إقامة متحفٍ له، لم يجدوا لهذا الغرض أفضل من هذا البيت الذي شهد مولده؛ ومِن ثَم فقد افتُتح المتحف عام ١٩٨٦م، وتمَّ تأثيثه — بقدر الإمكان — على النحو الذي كان عليه إبَّان إقامة الأسرة فيه، ويضمُّ مُتعلَّقات الشاعر بما فيها مهده وصوره ومخطوطاته ونُسَخٌ من كتبه وما كُتب عنه، ولهذا فإن زيارة المتحف هي أول شيءٍ في الرحلات التي تُنظِّمها شركات السياحة للمهتمين بلوركا وفنِّه، ومن المُهِم أيضًا أن نعلم أن اسم الشارع الذي يقع فيه المتحف قد تغيَّر ليصبح شارع الشاعر غرسيه لوركا. كان والد الشاعر فديريكو رودريجث، من كبار المزارعين وأصحاب الأراضي في المنطقة، أما والدته «فسنته لوركا» فكانت تعمل مدرِّسة بالقرية قبل زواجها، وأنجبا ولدين: فديريكو وفرانسسكو، وبنتين: كونشا وإيزابل، وقد انتقلَت الأسرة بعد ذلك إلى قرية مجاورة هي بلد روبيو — أو «بلد الربى» — حيث كان الأب يمتلك ضَيعة هناك، وقد شهدَت تلك القرية مسارح الصبا المبكِّر للشاعر، وتعرَّف فيها على كثيرٍ من القصص التي حدثَت لأُسرٍ في القرية، والتي ألهمَته بعد ذلك حبكة مسرحيتَيه الشهيرتين «يرما» و«بيت برناردا ألبا»، كما استلهم أحداث الزِّفاف الدامي من واقعة أخرى حقيقية في إحدى القرى المجاورة. ثم تنتقل زيارة لوركا الأندلسية إلى مدينة غِرناطة مع انتقال الأسرة إليها عام ١٩٠٨م بحثًا عن المدارس المناسبة لتعليم الأولاد والبنات، ويلتحق فديريكو بمدرسة القلب المقدَّس، التي بقيَ فيها حتى حصوله على البكالوريا، واستأجرت الأسرة شقَّة مناسبة في وسَط المدينة، ولكن الأب يبتاع ضَيعة صغيرة خارج غرناطة لتمضية فصل الصيف والإجازات بها، وأسماها «بستان سان فنسنت»، ووجد لوركا في غرناطة متنفَّسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجهٍ بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلة في قصر الحمراء بكلِّ أُبَّهته وروعته، ورياض «جنة العريف» الملحقة به، مما أشعل خيال الشاعر وجعله يقارن بين تلك العظمة الحضارية ﻟ «مملكة غرناطة» وبين واقع المدينة والأندلس عامة، ذلك الذي كان متدهورًا في ذلك الحين بالنسبة إلى بقية المُقاطَعات الإسبانية. كذلك احتكَّ الشاعر الصبيُّ بعالم الغَجَر، وكثيرًا ما كان يذهب إلى هناك مع أصدقائه؛ للتعرُّف على حياتهم وأغانيهم وأقاصيصهم، التي انعكست بعد ذلك في كثيرٍ من قصائده، لا سيَّما ديوانَيه «حكايا الغجر» و«الغناء العميق». كذلك حملته قدماه إلى التجوُّل في حيِّ «البيازين» العربيِّ الأصل، الذي احتفظ باسمه منذ أيام بني الأحمر، والذي لا يزال يُطالِع زائريه إلى اليوم بلافتاتٍ تقول بالعربية: «الحي العربي يُرحِّب بكم». ويبقى لوركا في غرناطة حتى عام ١٩١٩م، وقد حفلَت تلك الفترة بنشاطه الفني والأدبي المبكِّر، حيث كان دائم التردُّد على المركز الفني في غرناطة، كما كانت له ندوته الثقافية في ركنٍ من أركان مقهى «ألاميدا» هناك، وإلى تلك الفترة ترجع صداقته للموسيقار الإسباني العالمي مانويل دي فايا، وللأستاذ الجامعي فرناندو دي لوس ريوس الذي سيمدُّ له يد العون دائمًا بعد ذلك. وبالإضافة إلى بَدء العديد من قصائده المشهورة، شهدَت تلك الفترة صدور كتابه الأول بعنوان «انطباعات وصور». وبعد أن حصل على البكالوريا عام ١٩١٥م، التحق بكلية الحقوق جامعة غرناطة استجابة لرغبة والده، ولكنه درس أيضًا في كلية الآداب التي كان يهفو إليها، ومن الغريب أنه تخرَّج في كلية الحقوق، وإن يكن بعد سنواتٍ كثيرة، ولم يعمل بشهادتها قط، ولكنه لم يتخرَّج أبدًا من كلية الآداب! وتضمُّ الرحلة السياحية المُنظَّمة التعرُّفَ على كلِّ هذه المغاني الغرناطية المرتبطة باسم لوركا، وزيارة بستان سان فنسنت الذي تمَّ تزويده هو الآخر ببعض مُتعلَّقات الشاعر، وقد حَوَّلت بلدية غرناطة المكان إلى مزارٍ سياحيٍّ يُسمَّى «متنزه غرسيه لوركا»، وشرعَت في إقامة ما سيصبح أكبر حديقة ورود في أوروبا في تلك البقعة. وفي عام ١٩١٩م يشعر لوركا أن جوَّ غرناطة يضيق عن تحقيق آماله وطموحاته الفنية، فينجح في إقناع والديه بالسماح له بالانتقال إلى العاصمة مدريد، على وعدٍ بالحضور إلى غرناطة كلَّما استطاع ذلك، لا سيَّما طوال أشهر الصيف، وهو وعدٌ وفَّى به لوركا على الدوام، حتى زيارة صيف ١٩٣٦م التي كلَّفته حياته ذاتها. وفي مدريد، تتفتَّح أزهار لوركا الفنية على أجمل وجه، ويبلغ فيها ما كان يحلم به من شهرة ومجد، وأقام الشاعر عشر سنواتٍ في المدينة الجامعية بمدريد، وكانت مركزًا ثقافيًّا هامًّا يجتمع فيه صفوة الأدباء والفنانين، حتى إنها أصبحَت تُعرف باسم «أكسفورد الإسبانية» حيث تعرَّف هناك عليهم، وارتبط مع بعضهم بصداقاتٍ وطيدة مثل سلفادور دالي ولويس بونيويل ورافاييل ألبرتي وغيرهم. ويتردَّد لوركا على متاحف المدينة المشهورة وعلى رأسها «البرادو» صِنو اللوفر الفرنسي في العراقة، وعلى مركز مدريد الثقافي «الأتينيو» حيث يلتقي بكبار مفكِّري وأدباء عصره ومنهم: أونامونو، أورتيجيا إي جاسيت، منندث بيدال، أنطونيو ماتشادو، خوان رامون خيمينيث. كما تشهده عضوًا في اللقاءات الأدبية التي تُعقد في مقاهي العاصمة البارزة، ومنها مقهى «خيخون» الذي لا يزال قائمًا حتى الآن في قلب مدريد، والذي رأينا فيه في أوائل السبعينيات، تلك اللقاءات الأدبية التي كان نجمها آنذاك «كاميلو خوسيه ثيلا» الذي حصل على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٨٩م. وقد قضى لوركا زُهاءَ عشر سنواتٍ في المدينة الجامعية، ثم انتقل إلى شقة واسعة في شارع القلعة الرئيسي في مدريد، وتوالى إنتاج لوركا الأدبي والفني منذ عام ١٩٢٠م من مسرحياتٍ ودواوين شعرٍ ومعارض رسم؛ فعرض له مسرح إنسلافا «سحر الفراشة اللعين» التي لم تنجح لغرابتها على الجمهور الإسباني آنذاك، ثم صدر له ديوانَا «كتاب أشعار» و«حكايات الغجر»، فلقيا نجاحًا كبيرًا خاصَّة الديوان الغجري الذي ذاعت قصائده على كل لسانٍ وتُرجمت إلى عديد اللغات. وفي عام ١٩٢٩م يمرُّ الشاعر بأزمة نفسية طاحنة، لا يجد مخرجًا منها إلا في قبول منحة للسفر إلى نيويورك لدراسة اللغة الإنجليزية لمدة سنة، وتُمثِّل نيويورك لمحبِّي لوركا العالمَ الثاني الذي يتلمَّسون فيه آثارَه وخطاه، بما تُمثِّله من نقيض تام للعالم الأندلسي الذي عاش فيه قبل ذلك، ويقيم لوركا في قاعة «جون جاي» بجامعة كولومبيا بنيويورك، وبدلًا من حضور الدروس بانتظامٍ والتوفُّر على دراسة اللغة، نجده يمضي جُلَّ وقته مع المثقفين والأدباء الإسبان المقيمين في نيويورك مثل: «داماسو ألونصو» و«آنخل دل ريو»، والشاعر «ليون فيليبي» الذي قرأ معه أشعار والت ويتمان وتأثَّر بها، ونراه يطوف مع رفاقه في أرجاء المدينة الهائلة التي أحدثت في نفسه صدمة كبيرة نظرًا لسيطرة المادة والمال على كل مناحي الحياة فيها. وقد تبدَّى أثر الزيارة الأمريكية في قصائد ديوانه «شاعرٌ في نيويورك»، الذي لم يُنشر إلا بعد وفاة لوركا، ونرى في هذه القصائد صورًا شعرية بالغة الغرابة، وهي تعبيرٌ عن عجز الشاعر عن فهم تلك الحضارة المختلفة تمامًا عن حياته في إسبانيا، وقد ظهرَت في قصائد الديوان الكثيرُ من معالم نيويورك التي تركَت في نفس لوركا أكبر الأثر: ناطحات السحاب المتطاولة، خاصَّة مبنى «كرايزلر»، وملاهي وشاطئ «كوني أيلاند»، وحيُّ المال في وول ستريت، ونهر الهدسون، وجسر بروكلين؛ بَيد أن حي الزنوج في هارلم كان هو الواحة التي استراح إليها في تلك الفترة؛ فقد شعر تجاه الزنوج المطحونين بنفس الودِّ والقرب الذي شعر بهما تجاه الغجر وتجاه الناس البسطاء في حي البيازين في موطنه، وكتَب عنهم بعض قصائد الديوان، وأشهرها «أنشودةٌ إلى ملك هارلم». وبعد زيارة إلى كوبا، يعود لوركا إلى إسبانيا وقد تجدَّد نشاطه وعادت إليه حيويته. وتتوالى الأحداث السياسية في بلاده، فيتنازل الملك عن العرش وتُعلَن الجمهورية في ١٤ أبريل ١٩٣١م، وينفِّد لوركا مشروعه بإقامة المسرح الشعبي المتنقل «لابارَّاكا» ليطوف به في القرى والنجوع مقدِّمًا التراث الإسباني لجموع الشعب، وهو يوالي في الوقت نفسه نشر قصائده الجديدة في كبريات المجلات الأدبية في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، وينشر ديوان «الغناء العميق» الذي وضعه من قبل، و«مرثية مصارع الثيران» الشهيرة، ويعمل في قصائد ديوان «شاعر في نيويورك»، وديوان «التماريت»، اللذين يصدران بعد موته. كما تشهد هذه السنوات تركيز لوركا جهده في تأليف الأعمال المسرحية، ومنها مسرحيات «الإسكافية العجيبة» و«إذَن فلتمرَّ خمس سنوات» و«الآنسة روزيتا العانس»، ولكن قمة النضج الدرامي والغنائي المسرحي عنده تتمثل في الثلاثية الأندلسية التي تشتمل على مسرحيات «الزفاف الدامي»، و«يرما» و«بيت برناردا ألبا». وتتفجَّر الأزمة السياسية بين اليمين واليسار في إسبانيا إلى حدٍّ يُفضي إلى وقوع تمرُّد ١٨ يوليو ١٩٣٦م الذي قام به العسكريون الملكيون، مما أدَّى إلى اندلاع الحرب الأهلية الشرسة التي عصفَت بالبلاد ثلاثة أعوامٍ طوال. وكان لوركا قد توجَّه كعادته إلى بستان سان فنسنت بغِرناطة لقضاء الصيف مع أسرته، ولكن في ظهيرة يوم ٢٠ يوليو، تستولي العناصر الموالية للملكيين على غرناطة وتسيطر على الموقف فيها، وتقوم من فورها بتصفية العناصر المُناوِئة وعلى رأسها عمدة المدينة، وهو زوج أخت لوركا، وفي ظلِّ هذه الظروف، ترى الأسرة أن يقيم لوركا لدى صديقه الشاعر لويس روسالس، الذي كانت أسرته من قادة الفالانخ الملكيين، ولكن يد الغدر والحقد تطال الشاعر حتى في مأمنه، فيُلقَى القبض عليه في ١٦ أغسطس، ويُساق بعدها إلى قرية فيزنار لِيُعدم ليلة ١٩ أغسطس ١٩٣٦م في منطقة تحمل اسمًا عربيًّا هو «عين الدمعة»؛ ليسقط ضحية الفوضى التي سادت في تلك الأيام العصيبة، وللإشاعات التي ربطَت بينه وبين اتجاهاتٍ سياسية لم يكن له فيها ناقةٌ ولا جمل. وتمضي الزيارة الغرناطية إلى نهايتها في تلك المنطقة التي أعادت البلدية تخطيطها وزرعتها بالأشجار المُحبَّبة إلى لوركا: أشجار الحور وأشجار الزيتون، فتحوَّلت إلى بستانٍ ضخم، ووضعت هناك لوحة تذكارية باسم لوركا. وهكذا، في نهاية الأمر، يردُّ التاريخ الاعتبارَ للشاعر الإسباني العظيم.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/3/
بيير لوتي صديق مصطفى كامل
وقد بدأ لوتي نشاطه الأدبي في عام ١٨٧٢م بنشر أولى مقالاته عن زيارته لجزر «إيستر»، وقد قام بعد ذلك بزياراتٍ عدة إلى تاهيتي والسنغال والجزائر، وكان دائمًا يئُوب بعد كل رحلة إلى روشفور حيث يستقرُّ مدة في بيت الأسرة هناك. ثم تقع واحدة من أهم رحلاته، حيث ينتقل مع سفينته إلى ميناء سالونيك في البلقان التابع آنذاك للإمبراطورية العثمانية، ويمكث فيها ثم في الأستانة طول الفترة من أغسطس ١٨٧٦م حتى مارس ١٨٧٧م، وفي سالونيك يقع في غرام سيدة تركية فائقة الجمال تُدعَى آزيادي، التي ألهمَته رواياته المشهورة، ويحتال على لقائها بمساعدة صديقه صامويل في عرض البحر في منتصف الليالي. وحين يعلم رؤساؤه بمغامراته الليلية تلك، يَصدُر الأمر بنقله إلى الأستانة (القسطنطينية قديمًا)، ويعود إلى إقامته في حاضرة الخلافة العثمانية هُيامُه الفني والأدبي بالشرق الإسلامي الذي كانت تركيا رمزًا له في ذلك الوقت، ويدفعه ذلك الشعور إلى الاختلاط بالسكان بوصفه من الألبان المسلمين وتزيَّا بزِيِّهم، وأقام في حي أيوب الأنصاري الإسلامي القُح، وكان طبيعيًّا أن يقوم بتعلُّم اللغة التركية، التي كانت لا تزال أيامها تُكتب بحروفٍ عربية، وقد شهد لوتي إبَّان إقامته عزل السلطان مراد وتولِّي السلطان عبد الحميد سُدَّة الخلافة العثمانية. ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ منذ انتقال لوتي إلى القسطنطينية، حتى انتقلت إليها آزيادي مع زوجها التركي بعد أن أقنعته بنقل تجارته إلى العاصمة، وتستمرُّ لقاءات العاشقين حتى صدور الأوامر بعودة البحرية الفرنسية إلى بلادها، ويفكر لوتي جِديًّا في الاستقالة والبقاء في البلاد التي أحبَّها وبالقرب من آزيادي، إلا إنه يضطر إلى التخلِّي عن هذه الفكرة إشفاقًا على والدته التي كان يُكِنُّ لها حبًّا عظيمًا. وكان وداع آزيادي للوتي مأساويًّا، وانعكس بعد ذلك في الرواية التي وصف فيها الكاتب حياته في تركيا وقصة غرامه، إذ إنَّها تنتهي بموت العاشقَين على نحوٍ فاجع. وبعد عودة لوتي إلى روشفور تنشُب الحرب بين تركيا وروسيا، ويتناهى إلى سمعه خبر موت زوج آزيادي التركي، ولكن جميع محاولاته من أجل إحضارها إلى فرنسا كي يتزوجا ويستقرَّا معًا تبوء بالفشل، ومن هنا نشأَت الأسطورة التي ربطَت بين لوتي وآزيادي التي أصبحَت رمزًا لهُيامه بالشرق، وللحب الضائع الذي سيذهب بعد ذلك بحثًا عن أطلاله في تركيا، وسيُخلِّده، إلى جانب الرواية الشهيرة، في الآثار التي سيجلبها من هناك إلى بيته في روشفور، ويرجع إلى هذا الوقت إقامته للصالون التركي في الطابق الأول من منزله، والذي يرى فيه الزائر الطنافس والآثار التركية إلى جوار لوحة لآزيادي رسمتها أخت لوتي بناءً على وصفه لها. وقد صدرت رواية آزيادي عام ١٨٧٩م بعد مفاوضاتٍ كثيرة مع الناشرين، وبدون اسم المؤلف، ولكنها لم تلقَ نجاحًا يُذكر نظرًا لنهايتها الفاجعة، ولكن ذلك لم يُثنِ الناشر الفرنسي عن طلب رواية جديدة من لوتي، مما شجع الأخير على وضع رواية أخرى مستوحاة من فترة إقامته في جُزُر تاهيتي، ويعرض الناشر الرواية الجديدة على جولييت آدم، وكانت هذه السيدة راعية للمفكرين والأدباء، وسيكون لها أثرٌ بالغٌ في حياة ونشاط كلٍّ من بيير لوتي ومصطفى كامل فيما بعد، وكانت تُصدر مجلة أدبية هي «لانوفيل ريفيو» (هي نفس المجلة التي نشرت فيها مقالاتٍ لمصطفى كامل)، فنشرت فيها على حلقاتٍ رواية لوتي الجديدة، وأطلقت عليها عنوان «زواج لوتي»، وقد لاقت الرواية نجاحًا ورَواجًا ساحقَين، وصدرت في كتابٍ عام ١٨٨٠م، وقد شجَّع هذا النجاح مؤلفنا على إصدار رواية ثالثة هي «قصة فارس» عام ١٨٨١م، وهي أول كتابٍ يصدُر باسمه الأدبي الذي اختاره لنفسه: بيير لوتي، وقد دفع نجاح الروايتين إلى اهتمام القراء بالرواية الأولى آزيادي، فأُعيد طبعها عدة مرات، وذاعت شهرة لوتي في فرنسا كلها، وأجمع مشاهير الأدباء على الإعجاب به: إسكندر دوماس الابن، أناتول فرانس، إرنست رينان، كما كان مارسيل بروست من قرائه الحميمين. ويرحل لوتي مع سفينته إلى الجزائر، وتلهمه الزيارة قصتين: «سلمية» و«سيدات القصبة الثلاث»، كما أقام بعدها صالونًا عربيًّا في بيته بروشفور، ولمَّا ضاق المنزل عن احتواء ما يجلبه الكاتب من أسفاره، عمد إلى شراء المنزل المجاور وضمِّه إلى منزله، وهكذا فبعد سفره إلى الشرق الأقصى، أسَّس معبدًا يابانيًّا (باجودا) في إحدى القاعات، وإن لم يبقَ له أثرٌ في المتحف الحالي، وخلال السنوات التالية يقيم لوتي في المنزل «الصالون الأحمر» و«الصالة القوطية» اللذَين يمكن زيارتهما الآن، كما يفتتِح صالة للآثار القديمة يسمِّيها رمزيًّا باسم صالة الموميات، ولا يضمُّها المتحف الحالي. ويُلبِّي لوتي الرغبة الأساسية الثانية لوالدته، فيتزوَّج في أكتوبر ١٨٨٦م من «بلانش فرييه»، ويسافران إلى إسبانيا لقضاء شهر العسل في مدريد ثم في ربوع الأندلس وقصر الحمراء بغرناطة الذي ترك في نفسه أثرًا بالغًا، انعكس بعد ذلك في طريقة تأسيسه للقاعات العربية والإسلامية في منزله. ويزور لوتي بعد ذلك إستانبول مرتين، كانت ثانيَتهما بدعوة شخصية من السلطان عبد الحميد الذي اجتمع به في قصر يلدز الشهير، وقيل إن سبب الدعوة حثُّ لوتي على الكتابة عن تركيا، وهو ما فعله في مجموعته المسمَّاة «القسطنطينية ١٩٠٠م». ويستغلُّ لوتي زيارته في حِمَى السلطان كي يحمل معه شاهد قبر حبيبته آزيادي، بعد أن اقتفى آثارها وعرَف بوفاتها، ولا يعلم أحدٌ على وجه اليقين ما إذا كان الشاهد الذي أتى به لوتي من تركيا والموجود الآن في متحفه بروشفور هو الشاهد الأصلي أم هو نسخةٌ منه طلب لوتي إعدادها على سبيل الذكرى، وقد وضع لوتي هذا الشاهد في قلب الجامع الذي شيَّده في صالة ضخمة من المنزل الثاني الذي وصله بمنزله الأصلي، وقد حصل على مكوِّنات هذا «الجامع» لدى زيارة له إلى دمشق، من أنقاض جامعٍ أثريٍّ هناك تمكَّن من شرائها ونقلها بحرًا إلى روشفور، ويشكِّل هذا الجامع «اللوتي» أهمَّ الصالات التي يضمُّها المُتحف حاليًّا. وينفِّذ لوتي رغبة ثالثة لوالدته عام ١٨٩٤م، قبل عامين من وفاتها وهي قيامه بزيارة الأماكن المقدَّسة في فلسطين، وقد وصل إلى هناك مرورًا بمصر وبيروت ودمشق، ونتج عن هذه الرحلة ثلاثة كتبٍ هامَّة هي: «الصحراء» و«القدس» و«الجليل». بَيد أن الزيارة الرئيسية له إلى مصر كانت في الفترة من ٢٤ يناير حتى ٣ مايو من عام ١٩٠٧م، حين زار الديار المصرية بدعوة من الزعيم الوطني مصطفى كامل، وكان لوتي قد تعرَّف على مصطفى كامل في فرنسا عن طريق جوليت آدم التي لعِبَت دورًا كبيرًا في دعم القضية المصرية في فرنسا ضد الاحتلال البريطاني، وهكذا يحصل لوتي على «إجازة بدون مرتب» لمدة ستة أشهرٍ يسافر فيها إلى مصر ويزور معالمها زيارة تفصيلية، ويطَّلع على جهاد صديقه «مصطفى» ضدَّ الإنجليز، الذين كان لوتي يُكِنُّ لهم كراهية عميقة، وقد كتب خلال الزيارة رسائل من مصر كانت تُنشر في النسخة الفرنسية من جريدة «اللواء» التي يُصدرها مصطفى كامل، في نفس الوقت الذي تُنشر في الفيجارو الفرنسية، وكان نتاج هذه الزيارة كتاب لوتي «موت أنس الوجود» الذي يقصُّ بالتفصيل خطواته في وادي النيل، وقد رتَّب له صديقه المصري العظيم زيارة شيخ الأزهر والخديوي، وكل معالم القاهرة، بما في ذلك زيارة خاصة له وحده إلى المتحف المصري على ضوء الشموع برفقة مديره الفرنسي الشهير جاستون ماسبيرو، ثم تبدأ رحلته إلى الصعيد بالذهاب إلى المنيا بصحبة مصطفى كامل، ثم يستقلُّ وحدَه «دهبية» فاخرة خاصة بالخديوي تهبِط به حتى أسوان، وتستغرق إقامته بالدهبية ستة أسابيع، يطوف خلالها بمدن الصعيد وقُراها، يستمتع فيها بالنيل وبالآثار الفرعونية العظيمة، ولا يُفسد عليه تلك المتعة إلا «أبناء وبنات كوك» كما كان يُسمَّى السياح الذين تجلبهم شركة توماس كوك إلى كل الأنحاء! ويلحق به مصطفى كامل في الأقصر، ويزور معه معبد الكرنك، أما لوتي فيعود من أسوان إلى القاهرة في الدهبية ذاتها، ويمكث فيها حتى سفره إلى الإسكندرية ليستقلَّ السفينة إلى مارسيليا. وقد نشرَت اللواء والفيجارو أول مقالتين عن الزيارة بينما كان لوتي لا يزال في مصر، ثم توالت المقالات في الصحيفتين حتى بلغت عشرين مقالة، وبعد ذلك، صدرت المقالات في صورتها النهائية في كتابٍ بعنوان «موت أنس الوجود»، وأنس الوجود هو معبد فيلة ذلك «المنتحي بأسوان دارًا»، الذي خلَّف انطباعًا عميقًا في نفس لوتي لدى زيارته له في مكانه الأصلي (قبل نقله إلى مكانه الحالي عند بناء السد العالي)، وقد لاقى الكتاب نجاحًا باهرًا جعله أكثر كتب لوتي غير القصصية مبيعًا، وتلقَّاه النُّقاد لقاءً حسنًا، وإن انتقدوا فيه النبرة العالية لكراهية الإنجليز التي تسوده، وقد أرجع البعض تلك النبرة الحادَّة إلى اقتناع لوتي بآراء مصطفى كامل وبعدالة قضيته وكفاح الشعب المصري لإجلاء الإنجليز عن مصر. وقد وقع نبأ وفاة مصطفى كامل على لوتي وَقع الصاعقة، مما جعله يُهدي كتابه إليه، بهذه العبارة البليغة: «إلى ذكرى صديقي العزيز والنبيل مصطفى كامل باشا، الذي وافته المنيَّة في ١٠ فبراير ١٩٠٨م إبَّان جهاده العظيم في إعلاء صرح الوطن والإسلام في مصر.» ويضمُّ الكتاب خواطر متنوعة وحقائق تاريخية عن القاهرة في الوقت الذي زارها فيه لوتي، مع التركيز على المساجد الأثرية وضواحي العاصمة، وعن الأزهر الشريف «مركز الإسلام» وعلومه ودراساته، وعن قدماء المصريين والنيل، ثم عن مدن الصعيد الثرية وخاصَّة الأقصر وجزيرة فيلة، وتجدُر الإشارة إلى أنه كان من الصعب العثور على هذا الكتاب ولو بلُغتِه الأصلية حتى عام ١٩٩٠م، حين أعيد نشره مع مقدِّمة عن احتفاء الصحافة المصرية بزيارة لوتي، ومع مقتطفاتٍ من يوميات لوتي غير المنشورة عن زيارته المصرية، ولا شك أن ترجمة هذا الكتاب إلى العربية مهمٌّ للتعريف بجانبٍ من اهتمام لوتي بمصر وبالشرق عمومًا، كما أن وجود ترجمات عربية لأعماله تُوضع نُسَخ منها في متحفه لَهُو خير تحيَّة لهذا المؤلف الفرنسي الذي شغف بالعرب وبالإسلام على نحو ما تُبدي حياته وأعماله على حدٍّ سواء.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/4/
في عرين الأسد
وعلى الرَّغم من قلَّة المعلومات عن حياة شكسبير، إلى الحدِّ الذي تشكَّك معه الكثيرون في وجوده أصلًا، ونسبوا أعماله إلى أدباء آخرين معاصرين له، فإن آثاره الباقية في مسقط رأسه، ستراتفورد — أبون — إيفون، غزيرةٌ ووافيةٌ وتستحقُّ شدَّ الرحال إليها، بل وتَكرار الزيارة مرات ومرات؛ ذلك أن الكثيرين من عشاق الشاعر الدرامي يحرصون على رؤية أماكن معيَّنة في بلدة شكسبير تحت كل الأوقات والظروف الممكنة؛ ليستخرجوا منها ملامح قد تكون قد أثَّرت في شخصيته، أو صورًا خيالية يكون قد استخدمها في شعره ومسرحياته، ولهذا فإن ستراتفورد — أبون — إيفون هي بلا منازع من أهم مناطق الجذب للسياحة الأدبية في العالم. وتقع البلدية في مقاطعة واركشير، في الشمال الشرقي من لندن، وتشمل الآثارَ التي لا تزال موجودة في المنزل الذي وُلد فيه الشاعر، والمدرسة التي تعلَّم فيها في صباه، ومنزل والدته ماري آردن، ومنزل الشاعر ناش زوج حفيدة شكسبير الذي يضمُّ متحفًا نموذجيًّا للفترة التي عاش فيها شكسبير، ثم كوخ «آن هاثاواي» زوجته، وكنيسة الثالوث المقدَّس حيث يوجد قبره. وقد رتَّب المكتب الإعلامي للبلدة جولة شاملة تضمُّ كل هذه الأماكن بتذكرة واحدة مخفَّضة، تسهيلًا للسائحين والزوَّار الذين يتوافدون على البلدة من كل أنحاء العالم، والذين يبلغ متوسطهم (٢٠٠٠) ألفَي زائرٍ كل يوم. وقد وُلد وليام شكسبير في ٢٣ أبريل ١٥٦٤م في شارع هنلي بستراتفورد، وأمُّه هي ماري آردن، وكان أبوه جون شكسبير تاجر أصوافٍ وصانع قفَّازات. التحَق شكسبير بمدرسة ستراتفورد حين بلغ السابعة من عمره، واستمرَّ فيها حتى سن الرابعة عشرة، وكان يقوم بالتدريس فيها أحد خرِّيجي جامعة أكسفورد الشهيرة، وتتركَّز الدراسة في اللغة اللاتينية، وبعض النصوص الإنجليزية، والكتاب المقدس، ولا بُدَّ أن شكسبير قد بدأ دراسته لكتاب بلوتارك عن حياة العظماء في هذه المدرسة، وهو الكتاب الذي استمدَّ منه حبكة بعض مسرحياته، وكتاب «هولنشيد» في التاريخ الذي اعتمد عليه في كثيرٍ منها مثل مكبث وهملت والمسرحيات التاريخية. وحين كان شكسبير في الثامنة عشرة من عمره تزوَّج آن هاثاواي التي كانت تكبُره بسبع سنوات. وطبقًا للتقاليد السائدة آنذاك، انتقلت الزوجة للإقامة مع زوجها في منزل أسرة الزوج بشارع هنلي، حيث أنجبا ثلاثة أطفال: سوزانا، ثم التوأمين هامنت وجوديث، وهكذا بدا وكأن شاعرنا قد كُتب عليه أن يعيش حياة تقليدية هادئة في بلدته الصغيرة وبين أسرته، ولكن القدَر كان قد خطَّ له غير ذلك، فقد وقعت أحداثٌ غامضة، إما نتيجة مشاكل قانونية، وإما مشاكل زوجية، أرغمت شكسبير على مغادرة البلدة والتوجُّه إلى العاصمة لندن، حيث بدأ حياته كمسرحيٍّ هناك. وكانت إنجلترا حين وفَد شكسبير إلى لندن تمرُّ بأكثر أوقاتها إثارة وأهمية، بعد أن اكتشفت مؤامرة كاثوليكية للإطاحة بملِكتها البروتستانتية إليزابيث الأولى، وتنصيب ابنة عمِّها ماري ملكة إسكتلندا على العرش بدلًا منها، بمساعدة فيليب الثاني ملك إسبانيا، وبعد إعدام ماري، عمد الملك الإسباني إلى تجهيز حملته البحرية المعروفة باسم «الأرمادا» لتأديب إنجلترا، وكانت البلاد تغلي استعدادًا للحرب آنذاك، وبعد اندحار الإسبان وخروج إنجلترا منتصرة، عمَّت البلاد فترةٌ من الرخاء والازدهار ترعرعت في ظلِّها الآداب والفنون، وأُنتجت من بين ثمارها روائع شكسبير. وقد عمل شكسبير بعد انتقاله إلى لندن في أعمالٍ مختلفة، أهمُّها كممثِّلٍ مسرحي، ولكن شهرته كمؤلف مسرحي وشاعر طغَت على كل شيءٍ عداها. ويتَّفق النُّقاد على أن كتاباته بدأت بمسرحية «كوميديا الأخطاء»، وانتهت بمسرحية «هنري الثامن»، وتخلَّلتهما مسرحياته الكبرى مثل: ريتشارد الثالث، وروميو وجولييت، وهاملت، ومكبث، والملك لير. ويبلغ عدد مسرحيات شكسبير ٣٧ مسرحية عدا السونيتات الشهيرة وعددها ١٥٤ سوناتة، ثم ثلاث قصائد طويلة هي «اغتصاب لوكريس»، و«فينوس وأدونيس» و«العنقاء والسلحفاة». وقد ازدهرت أحوال شكسبير المالية بعد فترة من انتقاله إلى لندن، مما مكَّنه من المشاركة في ملكية مسرح «الجلوب» في لندن، الذي كانت مسرحياته تُقدَّم على خشبته، كما أنه اشترى منزلًا مستقلًّا لأسرته في ستراتفورد أطلق عليه اسم «نيو بليس»، ولم يبقَ منه الآن سوى أساساته، بعد أن أمر أحد موظفي البلدية في منتصف القرن الثامن عشر بهدمه إثرَ مُشادَّة حول الضرائب المستحقَّة على المبنى؛ بَيد أنه لا يزال يوجد بئر المياه الخاصة بالمنزل وشجرة توتٍ عتيقةٌ ضخمةٌ يقال إن شكسبير قد زرع نبتَتَها بنفسه في ذلك المكان. وبعد الاستقرار المالي والأدبي الذي حقَّقه الشاعر في لندن، عاد إلى ستراتفورد في ١٦١٠م، وتُوفي ١٦١٤م في نفس اليوم الموافق لمولده: ٢٣ أبريل، عن ٥٢ عامًا، ودُفن في كنيسة الثالوث المقدَّس بستراتفورد، ويرى الزوَّار قبر شكسبير في الكنيسة، وعليه السطور التي أعدَّها بنفسه قبل وفاته وهي تقول — كما ترجمها الدكتور لويس عوض: «أيها الصديق الكريم؛ مرضاة ليسوع أحجِم عن نبش الرماد المحتوَى ها هنا، بُورك مَن تجاوز عن هذه الأحجار، واللعنة على من حرَّك رميمي.» وأهم الآثار في البلدة هو المنزل الذي وُلد فيه شكسبير، وفيه يرى الزائر ما يُفترض أن يكون عليه مهد الشاعر وليدًا، ويشرح المرشد كيف جلبوا إلى البيت من الأثاث والأدوات ما يمثِّل العصر الذي عاش فيه شكسبير، حتى يبدو للرائي، كما كان يوم كان يعيش فيه؛ كما يحتوي البيت على عددٍ من مخطوطات أعمال شكسبير وطبعاتها النادرة يتفحَّصها الزائرون عبر أغطية زجاجية. وقد مرَّ هذا المنزل بمراحل متعددة بعد وفاة أفراد الأسرة، فقد كان حتى عام ١٨١٣م محلًّا لتأجير العربات والجِياد، مع لوحة صغيرة تشير إلى أن شكسبير قد وُلد في هذا المنزل، وحين انتشرت شائعةٌ بأن ثريًّا أمريكيًّا من المُولَعين بالفنون يعتزم شراء المنزل ونقله إلى أمريكا، سارع الغيورون بالاكتتاب لشراء المبنى وتحويله إلى متحفٍ لشكسبير. وما بين عامَي ١٨٤٧ و١٩٣٠م، كانت جمعية شكسبير تمتلك كل الآثار الشكسبيرية في البلدة، واكتفى الأمريكان الذين يحاولون وضع بصماتهم أينما استطاعوا، بلوحة في البلدة تُبين المشاهير من أمريكا الذين زاروا ستراتفورد — أبون — إيفون! ومن معالم البلدة الأخرى تمثال شكسبير الذي يتوسَّط أحد ميادينها، ويرجع تاريخه إلى عام ١٧٦٨م، وقد تبرَّع به آنذاك الممثِّل الكبير دافيد جاريك بعد أن عجزَت البلدة عن جمع المال اللازم لإقامة التمثال، بَيد أن متعة زيارة «عرين الأسد» لا تكتمل إلا بمشاهدة إحدى مسرحياته هناك، في مسرح شكسبير الملكي، وهي تجرِبةٌ فريدةٌ مررتُ بها، ولم يُضارعها إثارةً غير تجرِبة حضور مسرحية روميو وجولييت التي قدَّمَتها فرقة «الأولد فيك» عند سفح الأهرامات المصرية في أوائل الستينيات. ولشكسبير شهرة كبيرة في اللغة العربية والعالم العربي، وقد قُدِّمَت العديد من مسرحياته على المسرح منذ أوائل القرن العشرين، وصدرت عنه عدة كتب، أشملها كتاب العقَّاد «التعريف بشكسبير»، وكتاب لويس عوض «البحث عن شكسبير»، وهناك ترجمة رائعة للسونيتات لبدر توفيق، وقد تُرجمت معظم مسرحياته إلى العربية، ومن أشهر مترجميه: خليل مطران ولويس عوض ومحمد حمدي وجبرا إبراهيم جبرا ورياض عبود ومصطفى حبيب، وقد توفَّر منذ سنوات عدة الدكتور محمد عناني على إصدار ترجمات جديدة للمسرحيات الكبرى، وهي ترجمات فريدة تجمع بين النثر والشعر، على نحو ما يرِد في النص الأصلي، ومن ثَم فقد جاءت أقربَ ما تكون إلى الأصل في سلاسة وطلاوة لم يجتمعا من قبل في الترجمات السابقة، وكلنا أملٌ أن يُصدر الدكتور عناني المزيد من هذه المسرحيات، ثم تُجمع في مجلد أو مجلدين فتكون مرجعًا للمسرحيات الشكسبيرية بالعربية، كما هو الحال في اللغات الرئيسية الأخرى.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/5/
الجنة الأرضية
وقد عاش مونيه في جيفرني حتى وفاته، وبعدها سقطت الحدائق فريسةَ الإهمال حتى كادت تندثر آثارها، وفي عام ١٩٦٦م، أهدى ميشيل مونيه، ابن الفنان الكبير، الضَّيعة كلها إلى أكاديمية الفنون الجميلة في فرنسا، بَيد أن عملية إعمار البيت والحدائق على نفس النمط الذي تركه مونيه لم تبدأ إلا عام ١٩٧٧م، وذلك على يد المهندس جيرالد فان كمب، الذي سبق له إعادة الحياة إلى قصر فرساي، وتمَّت عملية جيفرني بالاستعانة بكل من عرف الفنان وعاصر حياته عن قرب، ومع تلقِّي التبرُّعات المالية الكافية لتغطية ذلك المشروع الكبير، والتي جاء معظمها من المليونيرة الأمريكية أتشيسون والاس، التي كانت من عشاق فن مونيه، والتي تم وضع لوحة تُشيد بفضلها على باب المتحف. وافتُتح المتحف وحدائقه لأول مرة في سبتمر ١٩٨٠م، ومنذ هذا التاريخ أصبحت تلك البقعة مزارًا «فنيًّا» لمحبِّي هذا الفنان الشهير الذي تنتشر لوحاته في كل متاحف العالم. ويستقبل المتحف نصف مليون زائر كلَّ عام على مدار سبعة أشهر في السنة، ويطوف الزوَّار ببيت الفنان بحجراته المتعددة، ويتعرَّفون على أدواته وعاداته في الرسم وفي المأكل والمشرب. والمنزل برتقالي اللون تتسلقه الورود الكثيفة من كل لون ونوع، وهناك بعد ذلك الأتيليه الذي كان الفنان يعمل فيه، وهو يضمُّ الآن قسمًا للمبيعات يشمل كل ما يتصل بالفنان من تذكارات ولوحات، ثم يخرج الزائر إلى الحدائق الغنَّاء التي صمَّمها مونيه بنفسه، ومن خلال الممرات الضيقة المغطَّاة بالحصباء، يسير المرء بين مئات من أحواض الزهور المختلفة من ورود وسوسن وزنابق متنوعة وأزهار الخشخاش التي خلَّدها الرسَّام في لوحاته، وتنقسم الحديقة إلى قسمين كبيرين يربط بينهما ممر أرضي يقوم تحت الطريق العام الذي يشقُّ الضَّيعة، كما أن أماكنها المشهورة تُعرف بأسماء معيَّنة؛ فهناك «الركن النورمندي» الذي يخترقه طريق مغطًّى بالأقواس الحديدية التي تغطِّيها الورود من كل جوانبها، ثم هناك «حديقة المياه» التي أنشأها مونيه بتحويل مجرى نهر صغير يمرُّ بالقرية إلى داخل حديقته، مما أثار أيامها خوف السكان من أن تؤدِّي «النباتات الغريبة» التي يزرعها الفنان إلى تسميم مياه الأنهار التي يعتمدون عليها! وقد استلهم مونيه في إنشاء بحيرته رسوم الحدائق اليابانية التي كانت شائعة بين الفنانين آنذاك، وفي حديقة المياه يوجد الجسر الياباني الشهير تغطِّيه نباتات «الوستريا» المتسلِّقة، وجسورٌ أخرى أصغر منه، وثمَّة أشجار الصفصاف بتعريشاتها الكثيفة في كل مكان، حيث تبدو أشعة الشمس من خلالها كأنها «دنانير تفِرُّ من البنان»، ثم هناك الزنابق التي تُزهر في أركان البحيرة طوال الصيف، والتي رسمها الفنان في لوحاتٍ ضخمة الحجم معظمها الآن في متحف الأورانجيري بباريس، وبعضها في متحف الفن الحديث بنيويورك. وإنَّ ما ينتاب الزائر الذي يتجوَّل في أنحاء ذلك الفردوس الأرضي، هو التفكير فيما يرى من بديع صنع الله الذي يتجلَّى في ألوان الأزاهير والأشجار والمياه والطيور، ثم فيما خَطَّته ريشة الفنان في لوحاته التي تصوِّر هذه الأشياء نفسها، فيجد بالطبع أنه لا مجال للمقارنة؛ فالطبيعة الإلهية الحية لا يُضارعها أيُّ شيءٍ من صنع الإنسان المخلوق. ويقفز إلى ذهننا نحن أبناء لغة الضاد ما ترنَّم به أحمد شوقي مبيِّنًا نفس هذا المعنى حين قال متحدِّثًا عن الربيع: وقد وُلد كلود مونيه في باريس عام ١٨٤٠م، وانتقل مع أسرته بعد ذلك إلى مدينة الهاسر الشمالية الساحلية بمقاطعة نورماندى، حيث قضى فترة صباه؛ وقد بدا ميله إلى الرسم منذ طفولته، فكان يرسم صورًا كاريكاتورية لزملائه ولمدرِّسيه بدلًا من الإصغاء إلى الدروس، وتعرَّف هناك بعد ذلك إلى الرسَّام النورمندي «يوجين بودان»، الذي علَّمه الاهتمامَ برسم البحر والسماء والطبيعة من حوله، ثم رسخ اهتمامه بالضوء وآثاره على الموضوعات التي يرسمها خلال إقامته لمدة عام في الجزائر، إبَّان فترة تجنيده التي كانت ستستمرُّ ستة أعوام لولا إصابته بالتيفود وإخراجه إثرَ ذلك من الخدمة العسكرية. وانتقل بعد ذلك إلى باريس حيث رفض الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، مفضِّلًا — عِوَضًا عن ذلك — تلقِّي دراسات وتدريبات حرَّة في أكاديمية خاصَّة كان من بين الدارسين فيها رينوار وسيزلي وبازيل، الذين جمعتهم أواصر الصداقة بمونيه، وأصبحوا يلتقون في مقاهي باريس يتناقشون في أمور فنهم مع غيرهم من الفنانين، وقد تعرَّفوا هناك على سيزان وبيسارو وموريزو وديجا ومانيه، وكلهم كانوا يتَّصِفون بالانطباعية في وقت من الأوقات. كانت تلك المجموعة من الفنانين قد اختطَّت لنفسها نهجًا في الرسم يختلف عن الطرق التي كانت سائدة أيامها، تلك التي كان كبار الرسامين يتبعونها في باريس، والذين كانت أعمالهم تُعرَض في الصالون السنوي الذي يُقام تحت رعاية الدولة، والذي لم يكن يتضمَّن إلا الأعمال الكلاسيكية التي يرضي عنها رجال أكاديمية الفنون الجميلة. وبدلًا من ذلك، كان هؤلاء الرسَّامون الانطباعيون يرقبون الطبيعة عن كثب ويدرسون الظاهرة المرئية بطريقة تكاد تكون علمية، ثم ينقلون أفكارهم عن كل ذلك إلى لوحاتهم، ورَغم أنهم اتجهوا في رسمهم إلى تصوير موضوعات الحياة اليومية، فقد تجنَّبوا الموضوعات القبيحة أو المُبتَذلة، وكان أفراد المجموعة يُجِلون الرسَّام إدوار مانيه، وتعلَّموا منه الكثير، وكان مانيه رائدهم في الثورة على الصالون الرسمي، حين رفض صالون عام ١٨٦٣م لوحته الشهيرة «إفطار على العشب» ولوحات عددٍ آخر من المجدِّدين، فثارت ثورتهم إلى الحدِّ الذي دفع الإمبراطور نابليون الثالث إلى إنشاء صالونٍ آخر لهم عُرف باسم «صالون المرفوضين». وبعد زيارة استمرَّت عدة شهورٍ إلى لندن عام ١٨٧٠م تعرَّض فيها مونيه لتأثيرات عملاقَي الرسم البريطانيين «كونستابل» و«تيرنر»، عاد إلى باريس ليستأنف نشاطه في الرسم بين أحضان الطبيعة؛ فأنجز مع زميله رينوار عديدًا من اللوحات عن نهر السين وضفافه ومقاهيه ونسائه، وقد تحلَّقت جماعة مونيه وزملائه حول إدوار مانيه، حيث كانوا يعقِدون ندواتهم الفنية في مقهى «جيربوا» الشهير آنذاك في مونمارتر، حيِّ الفنانين. وبعد ذلك، حين رفض الصالون الرسمي أعمال خمسة من أفراد تلك الجماعة، هم مونيه وسيزلي ورينوار وديجا وبيسارو، نظَّموا مَعرِضًا مستقلًّا لهم عام ١٨٧٤م في صالون المصوِّر الفوتوغرافي الشهير «نادار»، وقد تعرَّضت أعمالهم لسخرية المشاهدين والنُّقاد، وأطلق عليهم أحدهم اسم الانطباعيين نقلًا عن عنوان لوحة مونيه الشهيرة «انطباع شروق الشمس»، ثم لصقت بهم هذه التسمية منذ ذلك الوقت، وأصبحت علَمًا على تلك المدرسة التصويرية، ورَغم أن أفراد تلك الجماعة كانوا ينضَوون في البداية تحت شعار جماعي، فقد كان لكلٍّ منهم أسلوبه المغاير للآخرين، ثم تفرَّقت بهم السبل بعد ذلك، وأصبح لكل واحدٍ منهم نهجه الخاصُّ به، وكان الوحيد الذي ظلَّ على إخلاصه لأسس الانطباعية وتقاليدها حتى النهاية هو كلود مونيه. كان مونيه يتجه في لوحاته إلى رسم موضوعات حيَّة مما يدور حوله وما يراه في حياته اليومية ويرسم في الأماكن المفتوحة في أحضان الطبيعة، وقد انصبَّ اهتمامه على الضوء، فأخذ يدرس الطريقة التي يسقط بها على الأشياء في كل وقتٍ من أوقات النهار، وأحبَّ مونيه رسم انعكاسات الأشياء في صفحة المياه، حتى أنه شيَّد لنفسه قاربًا خاصًّا طاف به فوق المياه بينما هو يرسم ما يراه أمامه وما يراه على صفحة النهر، وكثيرًا ما كان يرسم الموضوع الواحد في أوقاتٍ مختلفة من أوقات النهار وفي فصولٍ مختلفة، كيما يُبيِّن كيف يختلف مرأى الموضوعات باختلاف الضوء المُلقَى عليها، وأفضل الأمثلة على تلك الطريقة هي لوحاته عند حزم التبن في الحقول، وكاتدرائيَّة روان، ومبنى البرلمان في لندن. وقد عانى مونيه من الفاقة في السنوات التي صاحبت معرِض الانطباعيين الأول، ولكن أحواله المالية تحسَّنت تدريجيًّا بعد ذلك، حتى تمكَّن آخر الأمر من الانتقال إلى جيفرني والاستقرار هناك وسط منشآته الفنية، وحين يرى المرء هذه الضيعة، ويشاهد منزل الفنان هناك فيتعرَّف على طريقة حياته، يدرك تمامًا أنه كان يعيش في سَعة وترف لم يعرفهما كثيرٌ من أقرانه في ذلك الوقت، خاصَّة وأن بعضهم كان يَلقَى نهايته في جوٍّ من البؤس والفقر، وما مِثالا موديلياني وفان جوخ منه ببعيد. وقد أنفق مونيه الكثير من الأموال على فنِّه وحدائقه، فكان يدفع المال الوفير للمزارعين في الحقول كيما يتركوا أكوام التبن ليرسمها في أوقاتٍ زمنية متباينة. كذلك صرف الكثير من أجل تحويل مجرى نهرٍ صغيرٍ إلى حدائقه حتى يُشكِّل منه بحيرته الأساسية، وكان يبتاع بأيِّ مالٍ يصله المزيد من الأرض المحيطة به كي يوسِّع من حدائقه ويزيد من أنواع الزهر والشجر والنباتات الجديدة فيها. وقد تُوفي كلود مونيه في ٥ ديسمبر ١٩٢٦م، وشيَّع جثمانه كبار رجال الفن والدولة في عصره، ودُفن في القرية التي أحبَّها والتي خلَّد اسمها متحفه الذي يؤُمه عشاق الفن في كل مكان، وقد أصبحت لوحاته الآن تباع بأعلى الأسعار في سوق الفن العالمية، ولا تتفوَّق عليها من هذه الناحية إلا لوحات فان جوخ.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/6/
قاهرة نجيب محفوظ
كثيرًا ما يُقال في دوائر الأدب العالمي أنه لو افتُرض أن زالت مدينة دبلن من الوجود، لأمكن إعادتها مرة أخرى بناءً على ما وصفها به جيمس جويس في روايته «عوليس»، ويكاد هذا القول ينطبق كذلك على أحياء القاهرة القديمة وكتابات نجيب محفوظ عنها، مع بعض الاختلافات التي أملَتها روح الإبداع، ومعظم روايات وقصص «الأستاذ» يدور في القاهرة، وقليلها في الإسكندرية، ونادرًا ما يَرِد الريف والقرية في أعماله، ولا عجب؛ فهو قد عاش حياته في العاصمة، ما بين أحيائها القديمة والجديدة، عشِقَها، وطاف بشوارعها وحواريها وأزقَّتها، وتنقَّل بين مقاهيها، وجال في منطقة «وسط البلد» كما نسمِّيها نحن القاهريون؛ فانعكست كلُّ هذه الأماكن في رواياته وقصصه وخاصَّة الأحياء القديمة، وأول ما يلفت النظر إلى استحواذ القاهرة القديمة — قاهرة المُعز — على قصص وروايات الأستاذ، عناوين الروايات التي أخرجها في فترته الواقعية الصِّرفة، مثل: خان الخليلي، وزقاق المدق، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، ومن الجدير بهذه المنطقة أن تكون بداية لمشروعٍ جديدٍ للسياحة في مصر، وهو السياحة الأدبية، وهو نوعٌ قد استقرَّ في كثيرٍ من الدول الأوروبية، خاصَّة إسبانيا وفرنسا؛ ففي إسبانيا هناك «طريق سرفانتس» ودون كيخوته، وطريق لوبي دي فيجا، وطريق لوركا، وهكذا … وهي رحلاتٌ تشمل زيارة الآثار المتعلِّقة بهؤلاء الكتَّاب، وفي فرنسا تقوم مكاتب الإعلام في كثيرٍ من المدن بتنظيم جولاتٍ لشرح أعمال وحياة الفنانين والأدباء الذين عاشوا فيها، مثل: آرل بالنسبة لفان جوخ، وكومبور لشاتوبريان، وشارلفيل لرامبو، وغيرها كثير، وبالفعل، بدأت الكتب السياحية التي تُكتب بالفرنسية عن مصر تتضمَّن فصولًا عن نجيب محفوظ وقاهرته وأعماله، بالإضافة إلى فنانين مصريين آخرين. وقاهرة نجيب محفوظ تشمل أساسًا مناطق الجمالية والغورية والحمزاوي وباب الخلق والدرب الأحمر والحلمية والموسكي والأزبكية وباب الشعرية والبغَّالة والحسينية والسكاكيني والوايلي. وعَصَبُ هذه المنطقة هو شارع المعزِّ لدين الله، الذي يخترق معظمها، والذي تُعرف أجزاءٌ منه بأسمائها القديمة، ومنها بين القصرين وقصر الشوق؛ واسم بين القصرين يرجع إلى العصور الماضية، حين كان المكان بين قصرين كبيرين أحدهما غربي والآخر شرقي، وتضمُّ المنطقة مجموعاتٍ أثرية متكاملة، تَشِي بمرور العصور التاريخية عليها، وكلٌّ منها ينتمي لفترة تاريخية واضحة في تاريخ القاهرة، منها مجموعة قلاوون الأثرية، ومجموعة السلطان الناصر، ومجموعة السلطان برقوق، ومجموعة عبد الرحمن كتخدا، وأحد مراكز العالم المحفوظي يتمثَّل في المشهد الحُسيني، حيث مقام سيدنا الحسين الذي يتردَّد ذِكره كثيرًا في روايات الأستاذ، ويُمثِّل خيطًا جاريًا في كل أجزاء الثلاثية، حيث لكل شخصية فيها نظرتها الخاصة للحسين، خاصَّة كمال عبد الجواد الذي تلقَّي أول صدمة له عندما عرف من مدرِّس التاريخ أن مسجد الحسين لا يضمُّ رفاتَه بعكس ما كان يظنُّ دائمًا؛ بَيد أن بعض كتب التاريخ يقصُّ علينا أن رأس الشهيد الكريم سيدنا الحسين مدفونٌ في مقامه، حين نُقلت إلى القاهرة من «عسقلون» بعد أن تهدَّدت تلك المدينة الحملات الصليبية عام ١١٥٣م. وهذه المنطقة عامرةٌ بالمساجد الأثرية: جامع المؤيَّد، جامع تغري بردي، جامع الغوري، جامع السلحدار، جامع أبي الدهب، الجامع الأزرق، جامع السلطان برقوق، جامع الفكهاني، الجامع الأقمر، ثم جامع الحاكم بأمر الله الذي كان قد طاله الإهمال إلى أن قامت طائفة البهرة الهندية بتجديده وتعميره. وهناك علامات بارزة في حياة نجيب محفوظ ورواياته، فهي عامرة بالأسبلة والوكالات والخانقاوات والقصور والمدارس القديمة والزوايا والحارات والقصبات، ومن هذه: بيت السحيمي الذي يرجع إلى عام ١٦٤٨م، وهو الآن ملك للدولة، وبيت الرزاز، ووكالة الغوري، ووكالة قايتباي، ثم قصر المسافر خانة الذي فقدناه حديثًا ونأمل أن يُستعاد بكل رَونقه. ومن المعروف أن نجيب محفوظ قد وُلد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في الجمالية، في ميدان بيت القاضي الذي كان يقع في مواجهة قسم شرطة الحي، والقسم لا يزال في مكانه، إلا إن بيت مولد الأستاذ قد حلَّ مكانه الآن منزلٌ حديث، وكانت نوافذ البيت الجانبية تُطل على درب قرمز، الذي ورد ذكره في الثلاثية، حيث اختبأت الأسرة فيه هربًا من الغارات الجوية. وبالقرب من درب فرمز مبانٍ أثرية عديدة، قام المعهد الأركيولوجي الألماني بترميمها ونالت جائزة أغا خان عام ١٩٨٣م. وقد بدأ نجيب محفوظ دراسته في كُتَّاب الحي الذي يقع في حارة «الكبابجي»، وآثاره المتهدمة لا تزال موجودة، ثم التحق بمدرسة خليل أغا الابتدائية، التي كانت تقوم مكانها إدارة الجامع الأزهر، ثم في مدرسة بين القصرين الابتدائية، وكان من أوائل المقاهي التي تُطالعها عيناه مقهى «خان جعفر» ما بين ميدان بيت القاضي والحسين، والذي كانت تُتلَى فيه قصص أبي زيد الهلالي على الربابة، قبل ظهور الراديو الذي قضى على هذا الفن الشعبي الجميل ذي التاريخ الطويل. وفي سينما الكلوب المصري شاهد أول العروض السينمائية في حياته، وكانت أشرطة المغامرات والمسلسلات الصامتة؛ وقد ذهب بطل «قصر الشوق» إلى هناك لمشاهدة أفلام شارلي شابلن الأولى. وفي الحسين أيضًا يقع مقهى الفيشاوي الذي يمثِّل أحد أشهر أماكن التجمع المحفوظي؛ ومن المقاهي الأخرى في هذه المنطقة قهوة أحمد عبد الله في خان الخليلي، التي قال عنها الأستاذ أنه ذكرها بالاسم في الثلاثية من فَرْط إعجابه بها. وفي عام ١٩٢٤م تنتقل أسرة نجيب محفوظ إلى حي العباسية، حيث اشترى والده بيتًا هناك بعد أن غادرت معظم الأسَر حي الجمالية، وكانت العباسية أيامها تختلف عن عباسية أيامنا هذه، فقد كانت تتكوَّن من بيوتٍ منفصلة على هيئة فيلات، تقوم مكانها الآن العمائر الحديثة الشاهقة. والعباسية هي المحور الثاني في حياة الأستاذ ورواياته؛ فمن المعروف أن مقاهي العباسية لعبت دورًا هامًّا في لقاءاته مع أصدقائه وخلصائه؛ فهناك تقع «قهوة عرابي» التي كانت الشلة تجتمع فيها مساء كل خميس، ومن قبلها مقهى قشتمر الذي أصبح الرابطة التي تجمع شخصيات رواية بنفس الاسم، والعباسية وأهل العباسية مذكورون بالتفصيل في رواية «صباح الورد»، كما أن قصة حب كمال عبد الجواد لعايدة شدَّاد، في الجزء الثاني من الثلاثية، تدور كلها في سرايا آل شداد في العباسية، التي كانت تمثِّل أيامها الفروق الطبقية بين سكانها وسكان الأحياء الشعبية التي ينتمي إليها كمال. وقد تجسَّدت تلك الفوارق في القول الذي تردَّد بين كمال وسليم عن الفرق بين «ابن التاجر وابن المستشار»، وكانت صدمة كمال في حبِّه الفاشل لعايدة من التجارِب التي صهرت روحه وأثَّرت في مستقبل حياته، وهي من أحداث الثلاثية التي تمسُّ قلوب قارئيها أكثر من غيرها؛ فمَن منَّا لم تكن له مثل هذه التجرِبة؟ سواءٌ كان الاسم عايدة أم شريفة أم ليلى… وقد ذكر نجيب محفوظ أن قصة عايدة لها أساسٌ واقعيٌّ في أول حبٍّ رومانسيٍّ يمرُّ به في حياته، مع فتاة كان يراها في الشُّرفة فيبدو وجهها له كلوحة الجيوكندا، فتاة «كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحرُّكاتها»، ويُقارن هذا بعايدة شداد «ذات الطابع الباريسي». والأساس الذاتي في شخصية كمال عبد الجواد والمؤلف لا يحتاج إلى بيان، وقد أشار إليه الأستاذ بنفسه حين قال: «ولقد صوَّرتُ قصتي مع تلك الفتاة في قصر الشوق، مع تعديلاتٍ تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية.» وقد تنقَّل الأستاذ في وظائف كثيرة، بدأت بوظيفة في إدارة الجامعة، ثم تنقَّل في مكاتب وزراء الأوقاف، تخلَّلتها وظيفة بمكتبة الغورية، ثم تقلَّد مناصب هامَّة في مجال السينما بوزارة الثقافة، حتى أُحيل إلى التقاعد عند بلوغه الستين عام ١٩٧١م. ولنجيب محفوظ أثر عميق عريض في ثقافة كل عربي، وقد حظِيَ بمكانة ثابتة في ميدان الرواية والقصة لم يحظَ بها أي روائي عربي آخر، حتى كُلل عملُه الدءوب في ذلك المجال بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٨٨م، واتساعِ شهرته الأدبية إلى أقطار العالم أجمع. ومن المناسب أن تبني مصر على هذه الشهرة العالمية لتلبية الطلب العالمي على المعلومات عن أديبنا الكبير بطرق شتَّى، منها الاهتمام بتنظيم «طريق نجيب محفوظ»؛ ليكون بندًا من بنود السياحة الأدبية التي دعوتُ إليها في أول هذا المقال، ويتطلَّب هذا الاهتمامَ بكل ما يتعلَّق بالأستاذ وأعماله من أماكن، بالإضافة إلى اختيار أحد القصور المناسبة كيما يكون مركزًا لنجيب محفوظ، يُعرَض به كل ما يتعلَّق بحياته وأدبه، ويجد فيه الزوَّار نُسَخًا من أعماله بكل ما صدرت به من لغات. وقد صدرت عدة كتب باللغات الأجنبية عن نجيب محفوظ، غير أنه لا يزال هناك كتاب هام أعدَّته مصورة أمريكية معروفة هي السيدة «بريتالي فا»، التي أعدَّت كتابًا مصوَّرًا عن الأماكن المذكورة في روايات نجيب محفوظ، مع نبذة قصيرة عنها، وقد زارت هذه الفنانة نجيب محفوظ عدة مرات، وحصلت منه على مقدِّمة للكتاب جعل لها عنوانًا «كتاب في الحنين»، وهي في حدِّ ذاتها دُرة شاعرية يُبدي فيها حنينه إلى تلك الأماكن وإعجابه بكتاب السيدة لي فا، وإن عدم نشر هذا الكتاب حتى الآن لهو خسارة لكل عشاق أدب الأستاذ في بلادنا وفي الغرب، وآملُ أن تلتفت إليه أجهزة النشر عندنا، خاصَّة المجلس الأعلى للثقافة، الذي بوسعه إصدار طبعة عربية من الكتاب بالصورة المرجوَّة، والجامعة الأمريكية بالقاهرة بالنسبة لطبعة اللغة الإنجليزية. [صدر الكتاب بعد ذلك عن الجامعة الأمريكية في القاهرة.] وهذا المقال يجيء لنجيب محفوظ في ذكرى شهر مولده، واحتفاءً بأهمِّ كتابٍ صدر حديثًا عن الأستاذ، وهو كتاب الأستاذ رجاء النقاش. لقد ألقى ذلك الكتاب أضواء كثيرة على أفكار ومشاعر وحياة الأستاذ بصورة تجعل شخصيته وأدبه تتضِح أمام الباحثين والدارسين على نحوٍ شاملٍ ودقيق. وإني لأعجب للضجَّة التي أثارتها آراء الأستاذ السياسية؛ ففي الكتاب آراء ومقترحات أخرى جديرة أيضًا بالنقاش والحوار الجادَّين، وبدلًا من ذلك هاجم عددٌ من النُّقاد نحيب محفوظ لتلك الآراء التي يختلفون معه فيها، بل وتعدَّى هجومهم إلى مُحرِّر الكتاب، دون أن يلتفتوا إلى أنه وعدَ بكتابٍ آخر تعليقًا على ما جاء بالكتاب الأول، ودون أن يدركوا أن ما ذكره الأستاذ في الكتاب من آراء سياسية مبثوث بوضوح في رواياته وقصصه، مثل: ثرثرة فوق النيل، والخوف، والكرنك، وتحت المظلة، وأمام العرش وغيرها. إن ردَّ الفعل الذي سبَّبه هذا الكتاب لهو أصدق دليلٍ على أزمة النقد التي يمرُّ بها الأدب العربي الآن، والتي نرجو أن يُنهَض منها في وقت لا يطول.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/7/
البحث عن بروست
ورَغم أن عالم مارسيل بروست يتركَّز في إيلييه — كومبريه حيث يوجد متحفه، فقد وُلد في باريس في ١٠ يوليو ١٨٧١م، ووالده هو الدكتور أدريان بروست الذي أصبح طبيبًا ذائع الصِّيت، وتزوَّج من جان فايل، سليلة عائلة ثريَّة يهودية الأصل، وأنجبا ولدين هما مارسيل وروبير. وفي حين سار روبير على درب أبيه وأصبح طبيبًا هو الآخر، ورث مارسيل خصائص الأم؛ إرهاف الحس، والخيال المتَّقد، والهُيام بالموسيقى والرسم، وقد ارتبط مارسيل بأمه ارتباطًا وثيقًا بلغ حد الهوَس، وبادلته هي تلك الرابطة الأسرية الوثيقة، حتى أصبح يرى أن أقصى عذابٍ يمكن أن يقع له هو أن تكون بعيدة عنه أو أن يفقد حبَّها له، وقد انعكس هذا التعلُّق والحبُّ في روايته في المشهد الخالد في أول جزء، الذي يُصوِّر حالة الراوي وهو صبي، إذ لا يستطيع أن ينام قبل أن تحضُر إليه أمُّه وتقبِّله قبلة المساء. وقد كانت فترة الصِّبا لبروست حاسمة في تكوينه في المستقبل؛ إذ انكبَّ على القراءة والتأمُّل، خاصَّة عندما تكون الأسرة في «إيلييه»، حين تعوَّد أن ينزوي في أي ركن قصيٍّ من منزل عمته هناك، أو ينطلق بعد الغداء إلى الحقول، يلتهم الكتب التهامًا، ويحلم ويحلِّق في أجواء الخيال، وكان من بين ما قرأ في فترة صباه الأولى كتابان كان لهما أكبر الأثر في إنتاجه فيما بعد، وهما «ألف ليلة وليلة»، ورواية جورج إليوت «طاحونة نهر فلوص»، وكانت ألف ليلة تلقَى رَواجًا هائلًا في الغرب كله منذ صدورها لأول مرة بالفرنسية عام ١٧٠٤م بترجمة «جالان» الشهيرة، وقد ذكر بروست بعد ذلك أنه قرَّر أن يكتب كتابًا في ضخامة ألف ليلة وليلة وأهميتها، على أن يَستعيض عن الأحداث المتوالية فيها بالتحليل وبالتفاصيل النفسيَّة الدقيقة للشخصيات التي سيخلقها، على نحو ما فعلت جورج إليوت في روايتها. ويبيِّن استطلاعان للرأي ملأهما بروست حين كان في الرابعة عشرة من عمره وفي الثامنة عشرة، على التوالي، أن مؤلِّفِيه المفضلين هم جورج صاند، وأناتول فرانس، وبيير لوتي، وبودلير، وأنَّ أحبَّ الموسيقيين إليه موزار وبيتهوفن، وثمَّة إجابةٌ في الاستطلاع الأول لم يلتفت إليها النُّقاد ولم يبحثوا في أصلها، وهي إجابته عن الشخصيات التاريخية التي يُفضِّلها، إذ كان من بينها: نبيُّ الإسلام محمد ﷺ. ويلتحق بروست بليسيه «كوندرسيه» بباريس، حيث يحصل على البكالوريا عام ١٨٨٩م، ويمرُّ بعدها بفترة من النشاط المحموم، امتزجت فيها الصداقة بالعلاقات الاجتماعية والتعرُّف على الشخصيات البارزة. أما من ناحية الدراسات الجامعية، فقد التحق بكلية العلوم السياسية وكلية الحقوق، كذلك دأَبَ على حضور المحاضرات التي كانت تُلقَى في جامعة السوربون، ونحن نعرف أنه قد واظب وتأثَّر إلى حدٍّ بعيد بآرائه عن الزمن والديمومة ودور الذاكرة، التي ترفد كلها جميع أحداث روايته الكبرى. أما على صعيد النشاط الاجتماعي، فقد تعرَّف بروست في تلك الفترة التكوينية من حياته على معظم الشخصيات والأصدقاء الذين اتخذهم بعد ذلك أمثلة للشخصيات التي تزخر بها روايته، وبعد الدراسة واجهَ بروست عملية صعبة هي اختيار مهنته في الحياة، وهذه أيضًا نجدها في الرواية، حين يتردَّد مارسيل في الرواية بين العمل بنصيحة والده وهي الالتحاق بالسلك الدبلوماسي الذي يضمن له حياة محترمة، أو التفرُّغ للكتابة. وقد اختار بروست أن يصبح كاتبًا، وساعده على ذلك توفُّر دخلٍ مناسبٍ له من والديه، خاصَّة والدته، وكذلك سوء حالته الصحية التي عانى منها منذ أن كان في العاشرة من عمره حين أُصيب بحالة شديدة من الرَّبو وضيق التنفُّس، رافقته طوال حياته وأثَّرت في الطريقة التي يقضي بها أيامه، وأدَّت في نهاية الأمر إلى وفاته ولم يَكَد يتعدَّى الخمسين من عمره. وهكذا بدأ بروست في موافاة الصحف الشهيرة بمقالاته التحليلية، ثم أصدر أول كتبه «المباهج والأيام» عام ١٨٩٦م، بمقدِّمة من أناتول فرانس أشهر كاتب في زمانه، فلقِيَ ترحيبًا متواضعًا من القرَّاء والنُّقاد، وبعد ذلك توفَّر بروست على دراسة أعمال وحياة الكاتب الإنجليزي جون راسكن، وكتب عنه عدة مقالاتٍ تعريفية، ثم أخرج ترجمته لكتاب راسكن «إنجيل إميان» الذي يعمر بالتذوُّق الفني والمعماري للآثار الشهيرة وخاصَّة الكنائس والكاتدرائيات الأوروبية، وفيما بين هذين الكتابين، قام بروست بزيارة عدة بلدانٍ أوروبية منها هولندا وفينيسيا، حيث شاهد روائع رسوم المدرسة الفلمنكية ولوحات رمبرانت، ولكن أكثر ما أثَّر فيه هو الرسَّام الهولندي «فرمير»، وخاصَّة لوحته «منظر دلفت»، وهي المدينة التي عاش فيها الرسَّام في القرن السابع عشر، وتتردَّد في رواية بروست أصداءُ تلك الرحلات، ولوحات فرمير الذي كان موضعَ دراسة يُجريها «شارل سوان» أحد أبطال الرواية الرئيسيين. ثم يواجه بروست ما بين سنتي ١٩٠٣ و١٩٠٥م أشدَّ ضربات الحياة إيلامًا له؛ وهي وفاة والده، ثم والدته التي لم يكن يتصوَّر الحياة بدونها. وليس أدلُّ على أثر ذلك فيه من اضطراره إلى دخول مصحَّة عصبية بعد وفاة الأم، حيث قضى شهورًا عدة للعلاج، وبعد ذلك بدأ فترة عزلته الحادَّة واستبطانه الذاتي العميق، وهي الظروف التي أحاطت بإخراجه رائعته الكبرى «البحث عن الزمن الضائع». ففي تلك المرحلة، سيطر عليه إدراكه بأنه قد خرج من الجنة التي كانت توفِّرها له أمه، وأنه قد حان الوقت الذي يعيد فيه خلق تلك الجنة عن طريق وصفها على الورق، ذلك أن «الفردوس الحقيقي الوحيد هو الفردوس المفقود». وانتقل بروست إلى مسكنٍ مستقلٍّ، في تلك الشقة الشهيرة في شارع هوسمان، التي قام بتبطين غرفة نومه فيها بالفلِّين؛ حتى تعزله تمامًا عن ضجيج الحياة الخارجية. واشتدَّت عليه نَوبات الرَّبو، إلى الحدِّ الذي أصبح معه يقوم الليل وينام النهار حين تضطرم الحركة ويثور الغبار الذي يؤجِّج حساسيته المرَضية. وساعدته تلك العزلة النسبية على أن يركِّز كل تفكيره وانتباهه في البدء في روايته التي يحكي فيها عن نفسه، عن الزمن الضائع، حيث يصبُّ فيها كل ما وقع له من أحداث، ويصوِّر فيها ما عرف من شخصيات، ويصِفُ ما رآه من أماكن. وهو هنا لا يلتزم بالتتابُع الزمني للأحداث، بل على ما تمدُّه به الذاكرة من وقائع وأفكارٍ تتولَّد الواحدة فيها من الأخرى، مازجًا تداعِي الأفكار بالتحليل النفسي بتيَّار الشعور، على نحوٍ فريدٍ جعل من روايته إحدى دور القصص في القرن العشرين. وقد ترك له أبواه ثروة كبيرة أتاحت له أن يتفرَّغ للكتابة، وأن ينفق عن سَعة على نفسه وخدمه، وفي سبيل جمع المادة اللازمة للرواية، وهكذا بدأ أخيرًا في تسطير الكتاب الذي سيُخلِّد اسمه، وانتهى من جزئه الأول «طريق سوان» عام ١٩١٣م، وحين رفضها الناشرون، ومنهم «أندريه جيد»، في دار «نوفيل ريفيو» أقدَمَ بروست على طبعها على نفقته الخاصة. وبعد صدور الكتاب، وإدراك النُّقاد لمدى قيمته، أعادت النوفيل ريفيو النظر، ووافقت على نشر بقية الأجزاء، ولكن اندلاع الحرب العالمية الأولى عطَّل النشر، فلم يخرج الجزء الثاني بعنوان «في ظلال الصبايا المتجمِّلات بالأزهار» إلا في نوفمبر ١٩١٨م مع إعلان نهاية الحرب. وقد شنَّ المعجبون ببروست وكتابه حملة كبيرة أدَّت إلى حصول الكتاب على جائزة الجونكور، وهي أسمى الجوائز الأدبية في فرنسا، وتوالى بعدها صدور الأجزاء الأخرى، والرواية تتضخَّم يومًا بعد يومٍ نتيجة الإضافات السابغة التي يُمليها بروست عند مراجعته الأصول الطباعية. فصدر الجزء الثالث «طريق جيرمانت» عام ١٩٢٠م، والجزء الرابع «سُدوم وعَمُورة» عام ١٩٢٢م، أمَّا بقية الأجزاء فلم تصدُر إلا بعد وفاة المؤلف في ١٨ نوفمبر ١٩٢٢م، وهي: «السجينة» (١٩٢٣م)، و«اختفاء ألبرتين» (١٩٢٥م)، ثم الجزء الأخير «الزمن المستعاد» (١٩٢٧م). وكان بروست قد انتقل من شقة شارع هوسمان إلى مسكنٍ آخر بشارع «هملان»، وهو الذي شهد سنواته الأخيرة القاسية وهو يصارع المرض ويسابق الزمن حتى ينتهي من آخر جزءٍ في الرواية، ويصوِّر فيه حالته حين أدرك أن مهمَّته في الحياة أن يصير كاتبًا يضع كل حياته بين دفتَي كتابه الحافل، ولمَّا كان لا يستطيع العمل إلا ليلًا، ويغمره القلق ألا تمهله الحياة الفرصة لإكمال كتابه الضخم، فقد مثَّل حالَه بحال شهرزاد التي لا تعرف كل ليلة ما إذا كان السلطان شهريار سيمنحها مهلة كيما تكمل قصصها على مدى ألف ليلة وليلة. هذا هو الكاتب الذي سطَّر روايته بدماء قلبه، وضحَّى بحياته في سبيل إكمال كتابه؛ بَيد أن محبِّي بروست لا بُدَّ أن يضيفوا إلى قراءة الرواية التعرُّف على عالمه بزيارة بلدته كومبريه والتجوُّل في متحفه، وهو أصلًا منزل «العمَّة ليوني» الذي كانت العائلة تنزل فيه عند زياراتها المتكرِّرة للبلدة، ويتعرَّف الزائر على غرفة الطعام والمطبخ الذي كانت تعمره الخادمة «فرانسواز» في الطابق الأرضي، ثم يصعد إلى الطابق الثاني ليرى غرفة مارسيل الصغير التي بدأت الرواية فيها، ثم غرفة العمة ليوني حيث تذوَّق مارسيل كعكة «المادلين» مع رشفة شاي بالليمون؛ وفي الذكرى التي استعادها الراوي بعد ذلك فأعادت إلى ذاكرته بلدة كومبريه بأحداثها وكنيستها وسكانها بما فيهم شخصيات القصة، خاصَّة سوان وآل جيرمانت. وبروست معروفٌ جيدًا لدى القراء والأدباء العرب، وروايته وأسلوبه القصصي ضرورتان لازمتان لكل من أراد أن يسير في درب الرواية. وقد ذكر الأستاذ نجيب محفوظ أنه يحمَد الله على أنه قد قرأ رواية بروست في إبَّان الشباب كيما يحتمل طولها وصعوباتها، وقد قام الدكتور نظمي لوقا بترجمة الجزء الأول من الرواية، وصدر ضمن مطبوعات كتابي بعنوان «غرام سوان»، وترجمتُه سلِسة مِطواعة، وإن كانوا قد أخذوا عليها حذفَ الكثير من العبارات والأوصاف. ولهذا فقد صارت ترجمة جديدة للأستاذ إلياس بديوي بالتعاون مع قسم الترجمة في البِعثة الفرنسية للأبحاث والتعاون بالقاهرة، وهي ترجمةٌ كاملةٌ وأمينة، وإن كانت قد ضارعت الأصل في صعوبته وشدَّته على القارئ. وبالترجمة بعض الإبهام، زادت فيه اللغة التي يألفها القرَّاء المصريون، وهو ما يحملنا إلى الدعوة إلى الاتفاق بين المترجمين على مستوى العالم العربي على طريقة لتوحيد ترجمة أسماء الأعلام بالعربية حتى لا يزداد القارئ حَيرة وبلبلة، ومن المناسب أن تضطلع منظَّمة الثقافة العربية بمثل هذا المشروع حتى لا يكون أمامنا عشرة طرق لنقلِ اسم واحد من لغته الأصلية، وهو ما يحدث الآن للأسف الشديد.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.