text
stringlengths
1
1.34k
وغني عن القول إن هذه التصريحات أكَدَت على حقيقة مفادها أن أراضي اليابان ومياهها الإقليمية باتت مهددة بالقوة في بحر الصين الشرقي من قِبَل الصين والدرس المستخلص الآن هو أن اليابان لا يجوز لها عندما يتعلق الأمر بالنزاعات الإقليمية أن تذعن لمحاولات تغيير الوضع الراهن المدعومة بالقوة
وكان رد الصين على الأزمة في أوكرانيا كاشفا بشكل خاص فعلى مدى ثلاثة عقود من الزمان أعلنت الصين مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة باعتباره القاعدة الأكثر أهمية التي تحكم العلاقات الدولية ولكن عندما أقدَم بوتن على غزو أوكرانيا أثبتت الصين مدى خواء تمسكها بهذا المبدأ فبدلا من إدانة غزو روسيا شبه جزيرة القرم وضمها امتنعت الصين عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وكانت انتقاداتها الموجهة إلى حكومة أوكرانيا الشعبية الجديدة أشد من تلك التي وجهتها إلى سلوك بوتن اللصوصي
إن كل دولة في آسيا لابد أن تستخلص استنتاجا واحدا فقط من موافقة الصين الضمنية على استيلاء بوتن على شبه جزيرة القرم وهو أن الصين أيضا ترى أن القوة تصنع الحق وإذا كانت تتصور أنها قادرة على الإفلات من عقوبة غزو أي أرض متنازع عليها سواء في بحر الصين الشرقي أو منطقة الهيملايا الهندية فإنها كانت لتفعل ذلك ونتيجة لهذا فإن الردع الفعال يتطلب مسارعة البلدان الآسيوية إلى تعزيز دفاعاتها والتوحد في المطالبة بالالتزام بالقانون الدولي حتى تدرك الصين أن أي استيلاء على الأراضي على طريقة بوتن سوف يكلف اقتصادها ثمنا باهظا
في المستقبل القريب سوف تعمل اليابان بالتعاون مع مجموعة الدول السبع الكبرى على ضمان عدم تسبب طموحات بوتن الطائشة في تعريض أجزاء أخرى من أوكرانيا للخطر وبالفعل قررت اليابان تقديم مساعدات اقتصادية لأوكرانيا بقيمة مليار يوان ( مليار دولار أميركي وهو التعهد الأكبر على الإطلاق من قِبَل أي دولة منفردة بما في ذلك الولايات المتحدة حتى الآن
قبل غزو شبه جزيرة القرم أظهرت المفاوضات الإقليمية بين اليابان وروسيا علامات التقدم وعلاوة على ذلك شهد عدد كبير من اتفاقات التعاون الاقتصادي الثنائية مثل المشاريع التي شملت الغاز الطبيعي المُسال تقدما ملموسا
ولكن من الواضح الآن أن بوتن لا يكتفي بإعادة روسيا إلى ركود أواخر العصر السوفييتي بل ويؤيد أيضا مقولة الزعيم السوفييتي السابق ليونيد بريجينيف ما نحصل عليه نحتفظ به ومن هنا فإن حديث بوتن عن التوصل إلى اتفاق مع اليابان بشأن الأراضي الشمالية كان في الأرجح كاذبا كمزاعمه بأن الروس في شبه جزيرة القرم كانوا معرضين للخطر وبالتالي في احتياج إلى الحماية من قِبَل القوات الروسية
والأمر الأكثر أهمية هو أن اليابان تدرك أن العودة إلى العمل المعتاد في التعامل مع روسيا العدوانية التي لا تتورع عن تقويض النظام الدولي من الممكن أن يُكسِب آخرين أقرب إلى الديار الجرأة الكافية لتبني تكتيكات بوتن غير الشرعية فقد ولت أيام انغلاق اليابان على ذاتها وهي الآن ترى تهديدات في أماكن أخرى من العالم في سياق أمنها الخاص وسوف يكون رد فعلها مناسبا
نقاط تحول إلى مستقبل آسيا
طوكيو يُقال إن أسبوعا يُعَد زمنا طويلا في عالم السياسة ولكن لعل الأحداث التي شهدتها آسيا على مدى الأسبوع الماضي تحدد هيئة المنطقة لعقود مقبلة
فتايلاند وهي واحدة من أكثر الدول ازدهارا في آسيا تبدو عازمة على تحويل نفسها إلى دولة فاشلة ويبدو أن الانقلاب العسكري الذي فُرِض في أعقاب إطاحة المحكمة الدستورية في تايلاند بحكومة منتخبة على أسس قانونية زائفة من غير الممكن أن يؤدي إلا إلى سلام سطحي وما لم تكن المؤسسة العسكرية في تايلاند مستعدة للعمل كوسيط نزيه حقا بين رئيسة الوزراء المخلوعة ينجلوك شيناواترا (وأنصارها) والنخبة المناهضة للديمقراطية في بانكوك والتي سعت إلى الحصول على الحق في حكم الأقلية الدائم فإن الهدوء النسبي اليوم قد يتبدد لكي تحل محله عاصفة أكثر خطورة
وإلى الشرق من تايلاند كانت فيتنام أحدث دولة آسيوية تستشعر وطأة السياسة الصينية المتمثلة في فرض الحقائق على الأرض أو في هذه الحالة فرض الحقائق في البحر لتعزيز مطالباتها السيادية على مناطق متنازع عليها وكان رد فعل حكومة فيتنام قويا في مواجهة منصة النفط الاستكشافية الضخمة التي أقامتها الصين بالقرب من جزر باراسيل المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي كما كان رد الفيتناميين العاديين الذين قرروا تدبير أمورهم بأنفسهم أكثر قوة فانخرطوا في أعمال شغب واستهدفت هجماتهم الاستثمارات الصناعية الصينية
إن سلوك الصين الذي يستند إلى قرارات أحادية الجانب كشف عن سلاسة خبيثة من المشاعر المناهضة للصين والكامنة تحت السطح في العديد من البلدان الآسيوية وقد أكدت على هذا الاتجاه الاحتجاجات المتجددة على الاستثمارات في مجال التعدين في ميانمار هذا الأسبوع والتي يستخف بها قادة الصين باعتبارها تافهة أو يعتبرونها على نحو أو آخر غير مرتبطة بممارساتهم العدوانية والواقع أن قادة الصين مثلهم في ذلك كمثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتن الذي يواجه كراهية شعبية واسعة النطاق في أوكرانيا يتصورون كما يبدو أن الاحتجاجات الشعبية ضدهم ليت سوى نتاج لمؤامرة أميركية
ولكن برغم ازدرائهما المشترك لأي تعبير عن الإرادة الشعبية فإن الرئيس الصيني شي جين بينج والرئيس الروسي بوتن تصارعا خلال الزيارة التي قام بها بوتن إلى شنغهاي للاتفاق على صفقة غاز جديدة يحتاج إليها الكرملين بشدة وكان بوتن ينظر إلى الصين باعتبارها خيارا احتياطيا إذا سعى الغرب إلى عزل روسيا في أعقاب ضمها لشبه جزيرة القرم وكانت فكرة بوتن تتلخص في إمكانية تحويل اقتصاد روسيا باتجاه شراكة مع الصين
ولكن شي جين بينج تردد كثيرا ولم يوقع على اتفاق الغاز إلا بعد أن عرض عليه بوتن تخفيضا حادا طويل الأمد والواقع أن ثقة شي جين بينج في النفس لم تعكس احتقار القيادة الصينية لسوء إدارة بوتن لاقتصاد روسيا فحسب بل وأيضا حقيقة مفادها أن المخاوف الصينية بشأن الطاقة تضاءلت كثيرا في الآونة الأخيرة ويشير الانتشار الناجح لتكنولوجيا التكسير الهيدروليكي في شينجيانج إلى أن الصين مثلها في ذلك كمثل أميركا سوف تتمكن قريبا من الاعتماد على احتياطياتها من طاقة الصخر الزيتي وعلاوة على ذلك فإن الإمدادات الوفيرة من الغاز القادمة من ميانمار وآسيا الوسطى سوف تزود الصين بالإمدادات الكافية من الطاقة لعقد كامل على الأقل
وقد كشفت المساومة الصعبة التي تديرها الصين مع روسيا عن حدود التعاون الثنائي بين البلدين وهذا من شأنه أن يخلف عواقب جيو استراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة لآسيا والعالم ويبدو أن الصين الآن سعيدة برؤية بوتن وهو يستفز الغرب ويتحدى زعامة أميركا العالمية ولكنها غير مستعدة لتمويل الادعاءات الروسية باستحقاق مكانة القوة العالمية بأموالها النقدية ويبدو أن الصين مهتمة بدلا من ذلك بتحويل روسيا إلى دولة تابعة كتلك التي يسعى بوتن إلى إقامتها في أوكرانيا
ولكن أكثر الأحداث مصيرية على مدى الأسبوع الماضي وقعت في اثنتين من أكبر الديمقراطيات في آسيا الهند واليابان فلم يكن الفوز الساحق الذي حققه نارندرا مودي في الانتخابات العامة في الهند نصرا شخصيا كبيرا لابن بائع الشاي فحسب بل وقد يمثل انفصالا حاسما عن السياسات التقليدية الداخلية النظرة في الهند ذلك أن مودي عازم على إصلاح اقتصاد الهند وقيادة البلاد إلى الصف الأول من القوى العالمية
وهنا لن يجد مودي حليفا أكثر ثباتا من رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الذي كان من بين أوائل زعماء آسيا الذين دعموه في سعيه إلى قيادة الهند ولأن مصالح البلدين في مجال الأمن الإقليمي تكاد تكون متطابقة تماما فلابد أن يكون حيز العمل التعاوني المتاح للبلدين لتحسين الأمن الإقليمي والرخاء المشترك كبيرا وقد تشكل أزمة تايلاند اختبارا مبكرا جيدا لقدرة البلدين على العمل معا لأن كلا منهما لديه مصلحة قوية في عودة تايلاند السريعة إلى الديمقراطية والمصداقية اللازمة للعمل كوسيط نزيه في إنهاء الأزمة هناك
في الأسبوع الماضي خلق آبي لنفسه حيزا سياسيا كبيرا للعمل كشريك استراتيجي ليس فقط للهند بل وأيضا لغيرها من حلفاء اليابان وخاصة الولايات المتحدة وبهدوء قامت لجنة معينة من قِبَل حكومة آبي هذا الأسبوع بتقديم إعادة تفسير لعنصر أساسي في الفقرة التاسعة من دستور اليابان وللمرة الأولى منذ نهاية حرب منطقة الباسيفيكي في عام سوف تتمكن قوات الدفاع عن الذات اليابانية من المشاركة في الدفاع الجماعي عن الذات وهذا يعني أن اليابان قد تبادر إلى مساعدة حلفائها إذا تعرضوا لهجوم
وبطبيعة الحال حاولت الصين وغيرها في آسيا لتكدير هذا التغيير بتوجيه الاتهامات إلى اليابان بالعودة إلى النزعة العسكرية ولكن التفسير الجديد للمادة التاسعة يبشر بالعكس تماما فهي تقضي بدمج المؤسسة العسكرية اليابانية ضمن منظمة تحالف كانت وسوف تظل العمود الفقري لبنية السلام السائدة في آسيا وسوف يعرض آبي هذا بكل وضوح عندما يلقي الخطاب الرئيسي في سنغافورة في حوار شانجري لا وهو الاجتماع السنوي للقادة العسكريين والمدنيين في آسيا
إن فوز مودي وزيادة قدرة آبي على الوقوف بجانب حلفاء اليابان عاملان من الممكن أن يساعدا في صياغة علاقات ثنائية أكثر عمقا وإذا تفهمتهما الصين على الوجه الصحيح فمن الممكن أيضا أن تعزز توازنا استراتيجيا أعظم في المنطقة والآن بات من الممكن أن تعمل أكبر القوى في آسيا الصين والهند واليابان والولايات المتحدة على تشكيل نظام أشبه بذلك النظام المتناغم الذي منح أوروبا قرنا من السلام الكامل تقريبا في القرن التاسع عشر
بالطبع سوف يستلزم مثل هذا النظام أن تبادر الصين إلى تنحية هدف الهيمنة الإقليمية جانبا وينبغي لأي صيني واضح البصيرة أن يكون قد أدرك بالفعل أنه ما لم تدخل الصين حربا ظافرة فإن تحقيق مثل هذه الهيمنة في حكم المستحيل والآن هو الوقت المناسب لكي ترسخ الصين صعودها في إطار نظام آسيوي إقليمي مستقر ومقبول لدى كل الأطراف والواقع أن هذا يشكل بالنسبة للصين نقطة التحول المطلقة في عملية تحديثها
التطهير في بيونج يانج
طوكيو أثناء الحرب الباردة كان مصطلح عِلم الكرملين يُشار إليه لوصف الجهود الرامية إلى فهم ما كان يجري على مستوى القيادات العليا في الاتحاد السوفييتي بل وراء الستار الحديدي كله وكان المتخصصون في دراسة الكرملين يراقبون (بكل طريقة ممكنة) من كان في صعود ومن كان في هبوط بين القيادات السوفييتية الأساسية وكان الاهتمام الأكبر بمعرفة من وقع على وثيقة رسمية أو من قام بزيارة قبر لينين في الميدان الأحمر عند استعراض العروض العسكرية
وكان كل هذا يسيرا هينا مقارنة بمحاولات فك شفرة النظام في كوريا الشمالية حيث الحقيقة أشد غموضا
ولنتأمل هنا ما حدث في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول كان تشوي ريونج هاي نائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية لحزب العمال الكوري حاضرا بوضوح على خشبة المسرح في الاحتفال بالذكرى الثانية لرحيل القائد العزيز كيم جونج إل أول احتفال كبير بعد تطهير وإعدام جانج سونج ثيك نائب الرئيس الأسبق للجنة الدفاع الوطني وقد بدا خطاب تشوي الذي أطلق فيه التهديدات ضد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وكأنه يمهد الطريق لترقيته سياسيا
كان جونج سونج ثيك يُعَد وصيا من نوع ما على كيم جونج أون الوريث الشاب لأسرة كيم وكان من المعتقد أنه الرجل الثاني في النظام ولكنه كان مدينا بمنصبه لزوجته كيم كيونج هوي الشقيقة الوحيدة لكيم جونج إل والد الراحل كيم جونج أون
الواقع أن براعة جانج فضلا عن الاستفادة منه كمحاور مع الصين مكنته من الحفاظ على موقعه برغم انفصاله لفترة طويلة عن زوجته ولكن في كوريا الشمالية تشكل رابطة الدم أهمية كبرى فكل شيء بما في ذلك الإيدولوجية والمصالح الوطنية يأتي في الأهمية تاليا للحفاظ على أسرة كيم والواقع أن إرث الزعيم العظيم كيم إل سونج وولده الزعيم العزيز كيم جونج إل يحدد كل القرارات الكبرى
وكنت أعتقد لفترة طويلة أن الممسك الحقيقي بزمام السلطة منذ وفاة كيم جونج إله كان أخته كيم كيونج هوي وليس أي شخص آخر وفي ثقافة كوريا الشمالية لا يجوز للنساء تولي المناصب أو الزعامة ولكن يبدو أنها كانت الوحيدة بين أفراد الأسرة التي يثق فيها كيم جونج إل وعندما أقعده المرض كانت هي التي تتخذ القرارات
وكان ارتباطها بالدم بأسرة كيم هو السبب حتى بعد تطهير زوجها وإعدامه (واحتجاز بقية أفراد أسرته) وراء احتفاظها بموقفها السياسي بل قيل إنها هي التي اتخذت القرار بتطهير زوجها ورغم أنه من غير الممكن أن نعرف ما إذا كانت هي أيضا التي اقترحت قتله فليس من المستغرب أنها كانت تعتقد مع تدهور صحتها أنها لا تستطيع أن تترك أسرتها تحت رعاية زوجها
ولعل الجانب الأكثر إثارة للرهبة في إعدام جانج هو أن الأمر يبدو وكأنه جزء من نوبة السعار التي حصدت أرواح عدد من كبار المسؤولين والجنرالات وكانت إراقة الدماء شخصية للغاية ففي شهر أغسطس/آب يُقال إن كيم جونج أون أمر بإعدام رفيقته السابقة وأفراد فرقتها الموسيقية رميا بالرصاص ويُقال إن إعدامهم نُفِذ أمام أسرهم
في أماكن أخرى من العالم الشيوعي أدينت مثل عمليات التطهير القاتلة هذه منذ فترة طويلة أولا في الاتحاد السوفييتي من قِبَل خروشوف بعد إدانته لستالين ثم في الصين من قِبَل دنج شياو بينج بعد رد اعتباره إليه وعودته إلى السلطة في أواخر سبعينيات القرن العشرين صحيح أن هذا الإصلاح لم يجعل هذه الأنظمة أكثر إحسانا أو رحمة ولكنه جلب درجة من الاستقرار والقدرة على التنبؤ بسلوكياتها أما كوريا الشمالية التي كانت سلوكياتها دوما الأقل قابلية للتنبؤ بين الدول الشيوعية الشمولية فإنها لا تزال في عالم الشفق
والأمر الأكثر إثارة للانزعاج والقلق هو التساؤل حول ما إذا كانت الصين تنزلق إلى مسار مواز في عهد الرئيس شي جين بينج فمنذ حكم دينج كان هناك تفاهم بعدم المساس بأعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني حتى بعد تقاعدهم ولكن شي استهدف بحجة معركته ضد الفساد عضو المكتب السياسي المتقاعد تشو يونج كانج الذي يُقال إنه الآن تحت الإقامة الجبرية يواجه اتهامات بالكسب غير المشروع ومزاعم حول قتله لزوجته بل وأيضا محاولة اغتيال شي
ولعل تركيز الصين منذ دنج على الحكم بالإجماع لم يجعل البلاد أكثر ديمقراطية ولكنه ساعد على الأقل في منع عودة ظهور طائفة جديدة من الشخصيات على غرار ماو تسي تونج والسؤال اليوم هو ما إذا كان استهتار شي بهذا الاتفاق الأبدي داخل الحزب يشكل خطوة أخرى نحو إعادة خلق حكم الرجل الواحد في الصين وبالتالي الحكم التعسفي التام
في كوريا الشمالية كان الحكم التعسفي مهما كان مستغربا وعاجزا هو القاعدة دوما بطبيعة الحال والآن بعد تطهير جانج تحولت المسؤولية عن الفشل الاقتصادي في كوريا الشمالية نحو تشوي والآن يعيش كل المسؤولين والأشخاص المتصلين به تحت ظل سيف الجلاد فمن المؤكد أنه سوف يتحمل اللائمة عندما تحتاج الأسرة المالكة إلى كبش فداء لمشاكلها المتصاعدة
وقد يؤدي تطهير جانج إلى تفاقم هذه المشاكل سوءا ففي حين خسرت الصين نقطة اتصال مريحة مع نظام كيم فربما خسرت كوريا الشمالية القناة الوحيدة التي قد تتمكن من خلالها من دعم نفسها فمن غير الممكن أن ينجح حكام كوريا الشمالية في إنعاش الاقتصاد ما دامت العقوبات الدولية مستمرة ويبدو من المؤكد أن العقوبات سوف تظل سارية طالما استمر النظام في ممارسة سياسة حافة الهاوية النووية فالآن لم تعد الصين التي كانت بمثابة الشريان الذي يمد أسرة كيم بالحياة راغبة في تقديم شيك على بياض
ومن هنا نستطيع أن نقول إن اليوم الذي سوف يتعين على كيم جونج أون وعشيرته تحمل المسؤولية عن الظروف الأليمة التي تعيشها البلاد يقترب بسرعة بل وقد يأتي ذلك اليوم بعد وفاة كيم كيونج هوي مباشرة وإذا كان الأمر كذلك فإن الفصل الأخير من سلاسة كيم ربما بدأ بنوبة قرارات الإعدام الحالية ولو أن الخاتمة بالنسبة لشبه الجزيرة الكورية وشرق آسيا على حد سواء تظل موضع شك إلى حد كبير
الحياد الجديد
طوكيو على مدى سنوات الحرب الباردة استخدم الاتحاد السوفييتي كل تهديد أو إغراء يمكن تخيله بما في ذلك الجائزة الكبرى المتمثلة في إعادة التوحيد من أجل إضفاء طابع الحياد على ألمانيا ولكن زعماء ألمانيا من جناحي اليسار واليمين من كونراد أديناور إلى فيلي برانت رفضوا كل الجهود السوفييتية تُرى هل تنجح النزعة التجارية الاستبدادية الآن في تحقيق ما فشلت الشيوعية في تحقيقه
إن أي دولة تلتحق بعضوية تحالفات أو كيانات مثل الاتحاد الأوروبي تفعل هذا لأن مثل هذه الجماعات تحرص على جعل الفوائد والالتزامات المترتبة على عضويتها لا تقل في وضوحها وبعدا عن الغموض عن أي مستوى قد يبلغه أي شيء في العلاقات الدولية ولكن بالنسبة لألمانيا وكوريا الجنوبية فإن العلاقات مع حليفين تاريخيين منظمة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة على التوالي كانت تتغير أمام أعيننا
ومن خلال المشتريات الضخمة والوعود بزيادة هذه المشتريات من قِبَل النظامين الاستبداديين المغرقين في النزعة التجارية في روسيا والصين فربما أوشك البلدان بالاستعانة بالتجارة على تحقيق ما عجز السوفييت عن تحقيقه بالرشوة والتهديدات والواقع أن حجم تلك التجارة مبهر مع نمو الصادرات الألمانية إلى الصين من مليار دولار أميركي قبل عشر سنوات إلى مليار دولار في عام في حين زادت صادرات كوريا الجنوبية من مليار دولار إلى مليار دولار خلال نفس الفترة
ويبدو أن شكلا من أشكال الحيادية المستترة يدخل الآن على دبلوماسية البلدين واستشهد هنا بالرحلة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينج مؤخرا إلى كوريا الجنوبية وعدم رغبة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في فرض عقوبات فعَالة على روسيا بعد تدخلها في أوكرانيا وتركيز زيارتها للصين التي اختتمتها للتو على الأعمال التجارية فقط وفي كل من ألمانيا وكوريا الجنوبية يبدو أن فكرة أن التحالفات التاريخية ربما تكون فوائدها الملموسة أقل من الفوائد المترتبة على الحياد الضمني وخاصة من حيث الصادرات بدأت تترسخ وخاصة بين النخبة من رجال الأعمال
وكانت الزيارة التي قام بها شي إلى سول خطوة أخرى جريئة في إطار الجهود المنتظمة التي تبذلها الصين لفطم كوريا الجنوبية من التزامها بالنظام الاقتصادي الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة ومن خلال عرض السماح لكوريا الجنوبية بتسوية حساباتها التجارية الثنائية بعملة الرنمينبي وإطلاق أول مبادرة صينية كورية جنوبية على الإطلاق نحو كوريا الشمالية يسعى شي إلى إقناع زعماء كوريا الجنوبية بأن مستقبل البلاد بما في ذلك إعادة توحيد شطري شبه الجزيرة الكورية سوف يتحدد في بكين وكانت الدعوة التي وجهتها الصين على كوريا الجنوبية للمشاركة في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الجديد (إلى جانب بلدان أخرى في آسيا والعالم العربي ولكن مع استبعاد اليابان والهند) بمثابة الإضافة إلى الجهود التي يبذلها شي لخلق نظام مالي بديل حيث يحاكي البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية عمل البنك الآسيوي للتنمية
الواقع أن احتضان الصين لكوريا الجنوبية يشكل جزءا من استراتيجية طويلة الأجل لتحويلها إلى دولة تابعة من حيث السياسة الخارجية وقضايا الأمن الوطني (تماما كما انصاعت فنلندا للاتحاد السوفييتي طيلة سنوات الحرب الباردة) ولكن برغم التودد إليها من قِبَل كل الأطراف المنهمكة في الصراع للحفاظ على الاستقرار في شمال شرق آسيا فإن كوريا الجنوبية الآن معرضة لخطر العزلة فكل لفتة من قِبَل الجنوب نحو أحد أطراف النزاع الصين والولايات المتحدة واليابان وكوريا الشمالية تستثير قدرا كبيرا من الضغوط التي يفرضها آخرون حتى أن حكومتها يتعين عليها على نحو أو آخر أن تبتكر سياسة تعويضية
على سبيل المثال في أعقاب مطالبة الرئيسة باك كون هيه بأن يكَرِم شي جين بينج الرجل الكوري الذي اغتال رئيس الوزراء الياباني وهو الطلب الذي استجاب له شي على الفور بدأت تناقش الانضمام إلى مفاوضات التجارة الحرة (الشراكة عبر المحيط الهادئ) التي تقودها الولايات المتحدة من أجل تهدئة مخاوف الولايات المتحدة ومع استمرار الصين في ملاحقة حملة دعائية مناهضة لليابان طيل عام شعرت باك بأنها ملزمة ببذل بعض الجهد لإحياء العلاقات مع اليابان من خلال إرسال مبعوث خاص إلى رئيس الوزراء شينزو آبي بهدف الدخول في محادثات بشأن تسوية الخلافات بين البلدين
ونظرا لافتقارها إلى الأمان وهو نتاج ثانوي لانقسام شبه الجزيرة الكورية الذي طال أمده فإن كوريا الجنوبية تحتاج في المقام الأول إلى شركاء هادئين وثابتين ولكن التغيرات المتكررة الطارئة على السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة في التعامل مع شمال شرق آسيا في السنوات الأخيرة كانت سببا في إرباك صناع السياسة في كوريا الجنوبية في حين تفرض السياسة الصينية على قادة كوريا الجنوبية رغم اتساقها خيارات يبدو أنهم غير مستعدين لخوضها
ونتيجة لهذا يبدو أن النخبة في كوريا الجنوبية تنقسم إلى فصائل موالية للصين وأخرى موالية للولايات المتحدة تتجاوز الخطوط الحزبية والأرجح أن المستفيدين الوحيدين على مدى فترة من الزمن كانوا أولئك الذين يدعون إلى إضفاء الطابع الفنلندي على شبه الجزيرة الكورية
ومن ناحية أخرى كان تأثير السياسية الخارجية الألمانية المتمثلة في تعميق العلاقات الاقتصادية مع روسيا واضحا خلال الأزمة الأوكرانية فبرغم لوم ميركل المتكرر للكرملين حول تدخله في أوكرانيا فإن الرأي العام الألماني وخاصة بين كبار رجال الأعمال في البلاد جعل يديها مقيدتين والواقع أن الشركات الأميركية الكبيرة كانت بمثابة العقبة الرئيسية التي حالت دون فرض ذلك النوع من العقوبات الشاملة التي ربما كانت لتثني الرئيس الروسي فلاديمير بوتن عن ضم شبه جزيرة القرم وتقديم الدعم المستمر (الذي حرضت عليه روسيا ذاتها) للتمرد في شرق أوكرانيا
وهذه ليست الحالة الوحيدة في الآونة الأخيرة التي تنأى فيها ألمانيا بنفسها عن حلفائها وشركائها ففي ليبيا عام رفضت ألمانيا تقديم حتى الدعم المادي البدائي للتدخل العسكري الذي نظمته النخب البريطانية والفرنسية كما فشلت ألمانيا على نحو مستمر في الوفاء بالتزامها بإنفاق من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع في ذات الوقت الذي أصرت فيه على التزام اقتصادات الاتحاد الأوروبي المتعثرة بموازنات متقشفة تحد من عجزها بحيث لا يتجاوز نسبة ثابتة من ناتجها الاقتصادي
والواقع أن ألمانيا كانت طيلة أزمة منطقة اليورو تقدم أقل القليل ودائما في آخر لحظة ممكنة لمساعدة شركائها في الاتحاد الأوروبي ويبدو أن هوس الزعماء الألمان بالحفاظ على العقد الذهبي في بلادهم من الصادرات دفعهم إلى التزام الصمت كلما تعلق الأمر بمواضيع مثل انتهاكات حقوق الإنسان في الصين وسلوكها العدواني في التعامل مع جيرانها في آسيا والآن يكافأ هذا الصمت بأول جلسات مشتركة لمجلس الوزراء بين دولة ديمقراطية وأخرى استبدادية شيوعية والتي من المقرر أن تعقد في برلين في خريف هذا العام
يبدو أن القوة الاقتصادية في كل من ألمانيا وكوريا الجنوبية أنتجت وهما متمثلا في استقلالية السياسة وهو ما يعمل على شق صدع عميق بين البلدين وحلفائهما وهو الصدع الذي تسبب الكشف عن تجسس الولايات المتحدة على ميركل بشكل خاص في تعميقه بيد أن كلا من ألمانيا وكوريا الجنوبية لن تكسب إلا القليل في حين تخاطر بالكثير إذا أقدمت على خفض مستوى علاقاتها مع حلفائها لصالح حيادية ذات دوافع تجارية وإن كانت غير رسمية وأيا كانت الفوائد القصيرة الأجل التي قد تحصل عليها أي منهما فسوف تقابلها نقاط ضعف استراتيجية في مواجهة روسيا والصين
إنهاء حروب التاريخ في شرق آسيا
طوكيو ذات يوم قال جورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا الذي قاد بلاده إلى النصر في الحرب العالمية الأولى إن الحرب أكثر أهمية من أن تترك للجنرالات والآن تكتشف اليابان أن التاريخ أكثر أهمية من أن يُترَك لمحرري الصحف
في تسعينيات القرن العشرين تسببت صحيفة أساهي شيمبون في إحداث عاصفة نارية في اليابان وكوريا الجنوبية عندما نشرت سلسلة من المقالات التي استندت إلى شهادة الجندي الياباني السابق سيجي يوشيدا بشأن نساء المتعة النساء الكوريات اللاتي أرغمن على تقديم خدمات جنسية للجيش الإمبراطوري الياباني خلال الحرب العالمية الثانية والآن اعترفت صحيفة آساهي بأن اعترافات الجندي كانت بلا أساس وتنصلت من الأدلة الأساسية الداعمة للمقالات
ويبدو أن هذا التراجع يثير اليوم نفس القدر من الإحراج والانتقادات الدبلوماسية اللاذعة الذي أحدثته السلسلة الأصلية في اليابان وكوريا الجنوبية ولكن في وقت حيث لا يسع أي من البلدين أن يسمح للانتهاكات الحزبية أو الإساءات السخيفة للتاريخ بإفساد وتعكير العلاقات الثنائية بينهما فإن عمل صحيفة أساهي الطائش يصبح أكثر من مجرد صحافة بالغة السوء فقد أدخل عنصرا خطيرا في الدبلوماسية الإقليمية
يقول بعض المراقبين إن اليابان وكوريا الجنوبية ينبغي لهما أن يتبعا مثال فرنسا وألمانيا ففي التصالح بينهما في أول عقدين بعد الاحتلال النازي لفرنسا أدرك زعماء هذين البلدين إن العلاقات الأمنية والاقتصادية بينهما أكثر أهمية لرفاهة مواطنيهم من أن يسمحوا بتفاقم الأحقاد القديمة وقد علموا أن العنف الوحشي الذي اتسمت به الحرب العالمية الثانية كان نتيجة مباشرة للخصومات والعداوات التي تفاقمت منذ حروب نابليون والتي سُمِح لها بالاستمرار بعد عام
لقد حظيت فرنسا وألمانيا في شخص شارل ديجول وكونراد أديناور باثنين من أعظم رجال الدولة في القرن العشرين وزعيمين كانا قادرين على تمييز الصورة الكاملة للتاريخ عبر ضباب السياسة اليومية المبتذلة ولم يكن ولاؤهما للمواطنين الذين انتخبوهما فحسب بل وأيضا لأجيال الماضي التي تحملت عواقب العداوة الفرنسية الألمانية وأجيال لم تأت بعد والتي قد تستفيد من المصالحة
بطبيعة الحال لا تشبه العلاقة بين اليابان وكوريا نظيرتها بين ألمانيا وفرنسا لأنهما لم يخوضا سلسلة من الحروب ضد بعضهما البعض ولكن من الواضح أن لا أحد قد يستفيد من جولة جديدة من المناقشات التاريخية المحتدمة ولتجنب هذه النتيجة فإننا في احتياج إلى زعماء من أمثال ديجول وأديناور ولن تتمكن بلدان شمال شرق آسيا من إنشاء بنية دائمة حقا من السلام إلا عندما يصبح بوسعنا أن نناقش الماضي من دون تعريض المستقبل للخطر
وكما ذَكَر الأدميرال دينيس بلير القائد السابق لأسطول الولايات المتحدة في المحيط الهادئ في مؤتمر عقد مؤخرا فإن تاريخ آسيا منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى عام تقريبا لم يكن جميلا بأي شكل من الأشكال ولا أعتقد أن أي بلد يستطيع أن يزعم احتكاره للصلاح والاستقامة أو الشعور بالذنب والخزي في ذلك الوقت وأضاف بلير إن محاولة توزيع الأدوار من كان على حق ومن كان على خطأ لن يساعد أبناءنا وأحفادنا في فهم ماذا حدث هناك
إن اليابان وكوريا الجنوبية في احتياج إلى تحمل المسؤولية عن المستقبل وليس الهوس بالماضي وقد وصف تقرير حكومي رسمي ياباني حديث كوريا الجنوبية بأنها الدولة التي تشارك اليابان أوثق علاقة تاريخية وفي مجالات مثل الاقتصاد والثقافة ولا شك أن العديد من خبراء السياسة الخارجية والاستراتيجيين في كوريا الجنوبية إن لم يكن أغلبهم يتقاسمون هذه المشاعر ولكن الأمر يتطلب زعامة ملتزمة لتجاوز حروب التاريخ واستغلال الإمكانات الكاملة للتعاون الياباني الكوري وهو الأمر الذي ترغب فيه بقوة الحليفة الرئيسية للبلدين الولايات المتحدة في سعيها إلى جر الصين إلى نظام آسيوي سلمي ودائم
لفترة طويلة كانت المناقشات التاريخية المفرطة في عدم الاعتدال والتي كانت مدفوعة غالبا بروايات صحفية متحيزة تسمم العلاقات الثنائية والآن مع احتدام حرب كلمات جديدة يتعين على زعماء اليابان وكوريا الجنوبية أن يتراجعوا خطوة إلى الوراء لكي يتأملوا أين تكمن المصالح الحقيقية لشعبيهم اليوم وفي المستقبل وأن يشرعوا بهدوء في اتخاذ التدابير اللازمة لضمان المصالحة الدائمة
الصين والاختيار الثلاثي العصيب
بكين أشار رجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل روبرت مونديل إلى أن أي اقتصاد يمكنه الحفاظ على اثنتين ولكن اثنتين فقط من ثلاث سمات رئيسية استقلال السياسة النقدية وسعر الصرف الثابت وتدفقات رأس المال الحرة عبر الحدود ولكن الصين تحاول الآن الموازنة بين السمات الثلاث وهو ما أصبح الحفاظ على استمراره أمر متزايد الصعوبة
للوهلة الأولى قد لا تبدو الحال على هذا النحو فبعد نجاح بنك الشعب الصيني إلى حد كبير في الحفاظ على استقلال سياسته النقدية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة وإدارته النشطة لسعر صرف الرنمينبي فمن الطبيعي أن نستنتج أن الصين تفرض ضوابط صارمة على تدفقات رأس المال والواقع أن الصين حررت الاستثمار المباشر الأجنبي المتجه إلى الداخل قبل أكثر من عشرين عاما وخففت الضوابط المفروضة على قسم كبير من حساب رأس المال منذ ذلك الوقت
ولم تكن الجهود التي تبذلها الصين لتنظيم تدفقات رأس المال عبر الحدود فعالة بشكل كبير قط فأثناء الأزمة المالية الآسيوية في تسعينيات القرن العشرين اضطرت الصين إلى اتخاذ تدابير صارمة لمنع هروب رؤوس الأموال وفي أوائل القرن الحادي والعشرين بدأ رأس المال القصير الأجل يتدفق إلى الصين حيث راهن المستثمرون على ارتفاع قيمة الرنمينبي وفي الفترة من إلى راهنوا على ارتفاع أسعار الأصول ومنذ تدويل الرنمينبي في عام ارتفعت مستويات المراجحة على أسعار الصرف وتجارة الحمل
من المؤكد أن ضوابط رأس المال التي تفرضها الصين برغم أنها غير محكمة تعمل على زيادة تكاليف المعاملات أو نقل رأس المال القصير الأجل من وإلى الصين وبالتالي تخفف من الضغوط الصعودية المفروضة على سعر صرف الرنمينبي وفي ظل ظروف قصوى فإن هذا من الممكن أن يلعب دورا حاسما في الأمن المالي في الصين ولكن رأس المال يستمر في التدفق وإن لم يكن بحرية كاملة عبر حدود الصين
ويثير هذا تساؤلا واضحا كيف تمكنت الصين من تحدي توازن مونديل الثلاثي المستحيل بالحفاظ على الأهداف الثلاثة في نفس الوقت تكمن الإجابة في سياسة التعقيم التي تنتهجها الصين
فقد كدست الصين فائض حساب رأس المال لأكثر من ثلاثين عاما فضلا عن فائض تجاري كل عام منذ عام ويعمل بنك الشعب الصيني على الإبقاء على سعر الصرف مستقرا من خلال التدخل القوي في سوق الصرف الأجنبي وهو ما يخلق من السيول قدرا كبيرا للغاية من السيولة حتى أن السلطات بات لزاما عليها أن تتدخل بعمليات تعقيم واسعة النطاق لتجنب المبالغة في الزيادة المستهدفة في القاعدة النقدية
وفي الصين على عكس الوضع في البلدان المتقدمة غالبا ما تكون السياسة النقدية وسياسة التعقيم واحدة وتعتمد درجة توسع السياسة النقدية على درجة تعقيم السيولة التي خلقها التدخل في سوق العملة
تُعَد عمليات السوق المفتوحة أكثر الأدوات النقدية استخداما في التعقيم ونظرا للفائض المزدوج لدى الصين فقد باع بنك الشعب الصيني كل السندات الحكومية التي كان يكدسها في عام ومنذ ذلك الوقت كان يبيع سندات البنك المركزي حيث تحتفظ البنوك حاليا بنحو تريليون يوان ( مليار دولار أميركي) من هذه السندات
ومن بين أدوات التعقيم الأخرى المهمة نسبة الاحتياطيات إلى المتطلبات والتي عندما يتم رفعها تحتجز كمية كبيرة من السيولة في النظام المصرفي وحاليا تبلغ هذه النسبة التي غيرها بنك الشعب الصيني مرة منذ عام نحو وهو ما يعادل ضعف النسبة في البنوك الكبرى في الولايات المتحدة
وأيا كانت الآلية فإن تكاليف التعقيم مرتفعة للغاية فبادئ ذي بدء من خلال الحفاظ على سعر صرف حقيقي بأقل من قيمته انزلقت الصين إلى ما يسمى فخ الدولار فعززت من أهمية الدولار الأميركي على المستوى الدولي على حساب الصين وسوف يصبح عدم عقلانية هذه السياسة واضحا بشكل متزايد بمرور الوقت
ويؤدي التعقيم أيضا إلى سوء تخصيص جسيم للموارد وبشكل شديد الوضوح من خلال العمل كإعانة دعم لقطاع التصدير على حساب بقية قطاعات الاقتصاد وينبع شكل أقل وضوحا من سوء تخصيص الموارد من حقيقة مفادها أن من يبيعون النقد الأجنبي هم فقط الذين يحصلون على السيولة ولكن الاقتصاد بالكامل يستشعر الآثار ونتيجة لهذا فإن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تنتج منتجات غير قابلة للتداول تُحرَم من الأموال التي تحتاج إليها بشدة وتعاني من العوامل الخارجية السلبية التي يفرضها التعقيم
وعلاوة على ذلك تعمل النسبة المرتفعة من الاحتياطي والشراء القسري لسندات البنك المركزي على الحد من أرباح البنوك التجارية بشدة وهي الظاهرة التي سوف تشتد بفعل تحرير أسعار الفائدة وسوف يعمل السعي إلى تحقيق العائد من الأموال المتاحة على دفع البنوك إلى الدخول في استثمارات أشد خطورة
وهناك أيضا التكاليف شبه المالية ولكن من حسن الحظ أن هذا لا يشكل حتى الآن مشكلة كبرى بالنسبة للصين على الرغم من انخفاض العائدات على الأصول الأجنبية وذلك نظرا لانخفاض تكاليف التزامات بنك الشعب الصيني المقابلة
مع هذا وبرغم أن التكهنات بتخلي الصين عن ضوابط رأس المال بهدف دعم الاستقلال النقدي تبين أنها لم تكن صحيحة على مدى العقد الماضي فإن هذه المرة قد تكون مختلفة ففي ظل الصعوبة المتزايدة التي تواجهها البلاد في الإبقاء على توازن ثالوث مونديل المستحيل مع تحرير الصين لأسعار الفائدة وتدفقات رأس المال القصيرة الأجل فإن المرء لا يملك إلا أن يأمل أن يسمح زعماء الصين بتعويم الرنمينبي أخيرا في حين يبقون على ضوابط رأس المال القائمة
حريق الصين في المرة القادمة
بكين في وقت سابق من هذا العام تفشت الشائعات حول الهلاك المالي الوشيك في الصين نتيجة لانهيار سوق الإسكان أو عجز الحكومات المحلية عن سداد ديونها ولكن في الأشهر الأخيرة استقر الاقتصاد ولم يعد هناك شك في قدرة الصين على تحقيق النمو بنسبة تتجاوز هذا العام ولأن الحكومة الصينية لديها مجال واسع للتدخل في السياسات العامة فلا ينبغي لهذا التحول أن يكون مفاجئا ولكن الصين نجحت في تأجيل يوم الحساب المالي وليس تفاديه بالكلية
الواقع أن المشاكل الجوهرية التي أدت إلى انطلاق أجراس الإنذار في المقام الأول بما في ذلك الفقاعات العقارية وديون الحكومات المحلية والنمو السريع في أنشطة الظل المصرفي وارتفاع نسب استعانة الشركات بالروافع المالية (الإنفاق بالاستدانة) تظل بلا حل وتتلخص المشكلة الأشد تهديدا للاستقرار الاقتصادي والمالي في الصين بين كل هذا في تركيبة من ارتفاع تكاليف الاقتراض وانخفاض ربحية الشركات غير المالية وارتفاع نسب الروافع المالية للغاية لدى الشركات
وفقا لدراسة حديثة أجرتها الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لدى الشركات غير المالية في الصين كانت بنهاية عام وقد وجدت ستاندرد آند بورز أن إجمالي ديون هذه الشركات بعد عام واحد بلغت تريليون دولار أميركي لتتفوق بذلك على ديون الولايات المتحدة المستحقة التي تبلغ تريليون دولار وهو ما يجعل الصين الدولة الأكثر إصدارا لديون الشركات على مستوى العالم
وليس هناك ما يشير إلى أن النسبة قد تنخفض في أي وقت قريب وهو أمر مقلق بشكل خاص نظرا لانخفاض الربحية وارتفاع تكاليف الاقتراض التي تواجهها المؤسسات الصناعية في الصين والواقع أن ربحية الشركات الصينية كانت أعلى قليلا من في العام الماضي وفي عام لم تتجاوز أرباح أكبر شركة في الصين (أغلبها مملوكة للدولة)
ومن ناحية أخرى ظلت أسعار الفائدة على القروض المصرفية للشركات غير المالية قريبة من برغم تسجيلها انخفاضا طفيفا على مدى العام الماضي وفي الربع الثاني من هذا العام تجاوز سعر الفائدة السنوي على القروض للشركات غير المالية الصغيرة
ومع عدم كفاية الأرباح التي يمكن استخدمها في الاستثمار فسوف تعتمد الشركات غير المالية بشكل متزايد على التمويل الخارجي ومع زيادة نسب الروافع المالية لدى هذه الشركات ترتفع كذلك علاوات المخاطر المفروضة عليها الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع تكاليف قروضها وتقويض أرباحها وسوف يكون من الصعب كسر هذه الدورة المدمرة على سبيل المثال إذا خفضت الشركات من استثماراتها فإنها بهذا تضعف نموها وتزيد من نسب روافعها المالية
لا شك أن الصين تغلبت على تحد مماثل في قطاعها العام في الفترة فقد سعت إلى تنفيذ الاستثمارات المعززة للنمو في البنية الأساسية والتنمية العقارية لإزالة الانكماش في حين حافظت على أسعار فائدة منخفضة بشكل مصطنع لاحتواء ارتفاع الدين العام
ولكن الكثير تغير منذ ذلك الحين والواقع أن نموذج النمو القائم على الاستثمار والذي سهل تحقيق النمو بمعدلات تجاوزت في العقد التالي لعام كان سببا في تفاقم الضعف البنيوي والذي بات علاجه واجبا الآن والواقع أن الصين لابد أن تكبح وتيرة الاستثمار العقاري الذي مثل أكثر من من الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأخيرة وهي الخطوة التي سوف تقود بلا شك إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وبالتالي انخفاض ربحية الشركات غير المالية في الصين إلى مستويات أدنى
وعلاوة على ذلك يعني التحرير المستمر لأسعار الفائدة والذي يحدث علنا وخلسة أن تكاليف الاقتراض المنخفضة بشكل مصطنع أصبح الحفاظ عليها صعبا بشكل متزايد ورغم أن بنك الشعب الصيني لا يزال رسميا يحدد سقفا لأسعار الفائدة على الودائع فإن البنوك التجارية بالتعاون مع المؤسسات المالية غير المصرفية وخاصة شركات الائتمان تستخدم منتجات إدارة الثروة لاجتذاب الودائع بأسعار فائدة السوق الحرة بحكم الأمر الواقع ونتيجة لهذا فإن بنك الشعب الصيني يفقد السيطرة على أسعار الفائدة على قروض الشركات وبالتالي لم يعد لديه سوى خيارات قليلة لتقييد نسب الروافع المالية
ورغم هذه المخاطر فمن السابق للأوان أن نراهن على اندلاع أزمة ديون شركات في الصين فبادئ ذي بدء لا أحد يدري عند أي مستوى من استعانة الشركات بالروافع المالية تندلع الأزمة ففي عام عندما بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليابان شعر العديد من خبراء الاقتصاد والمسؤولين اليابانيين بالقلق خشية اندلاع أزمة وشيكة وبعد عقدين من الزمان تقريبا تجاوزت النسبة ورغم هذا لم تندلع أي أزمة
وعلاوة على ذلك لم تستكمل الصين بعد إصلاحاتها نحو السوق وهو ما قد يطلق العنان لإمكانات نمو كبرى في العديد من المجالات ونظرا للدور الذي تلعبه العوامل المؤسسية في مشكلة ديون الشركات في الصين فإن مثل هذه الإصلاحات قد تقطع شوطا طويلا على الطريق إلى حل هذه الشكلة
يتعين على زعماء الصين أن يغتنموا الفرصة التي تزودهم بها هذه الاستراحة من عدم الاستقرار وانعدام الثقة لمضاعفة جهود الإصلاح وإن لم يفعلوا فبوسعهم أن يتوقعوا انطلاق أجراس الإنذار مرة أخرى وفي المرة القادمة قد لا يكون لديهم الأدوات التي يحتاجون إليها لإسكاتها
معضلة الدفاع الأوروبي
باريس برغم أن مواطني أوروبا يؤيدون إلى حد كبير إنشاء سياسة أمنية ودفاعية مشتركة فإن أغلب زعماء أوروبا أظهروا افتقارا واضحا للاهتمام بإنشاء مثل هذه السياسة بما في ذلك اجتماع المجلس الأوروبي في الشهر الماضي ولكن ما هي الأسباب وراء هذا التناقض
لعل أحد التفسيرات المحتملة أن الحكومات الأوروبية المرهَقة ماليا تفتقر إلى السبل اللازمة لتلبية توقعات مواطنيها ولكن هذا التفسير غير مقنع لأن نفس المسألة صيغت بعبارات متطابقة تقريبا قبل ثلاثة عقود عندما لم تكن القيود المفروضة على الميزانية تمثل مشكلة والواقع أن البعض قد يزعمون أن مثل هذه القيود لابد أن تستحث إنشاء بنية دفاعية أوروبية لا أن تعوقها ذلك أن البلدان الأعضاء بالكامل سوف تكون بذلك قادرة في نهاية المطاف على تجميع مواردها وتنسيق البرامج وترشيد التكاليف فتصبح بالتالي قادرة على الحد من الأعباء المالية التي تتحملها الحكومات منفردة
وهنالك تفسير آخر أكثر مصداقية يتلخص في الاختلاف الواسع في تفسيرات الأوروبيين لفكرة السياسة الأمنية الأكثر نشاطا وقوة والواقع أن المناقشات الدائرة حاليا في أوروبا حول استخدام القوة تهيمن عليها ثلاث وجهات نظر رئيسية تؤيدها فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا
ففرنسا التي تدخلت مرة أخرى في أفريقيا لاستعادة النظام في جمهورية أفريقيا الوسطى هذه المرة هي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تبدو مهتمة حقا بتلبية المطلب الشعبي بإنشاء بنية أمنية أوروبية أكثر قوة وينظر الفرنسيون إلى أوروبا بوصفها قوة عظمى نوعا ما وهي المكانة التي تعني ضمنا قدرة عسكرية موازية
وبرغم أن وجهة النظر هذه ربما تكون نابعة من قدرات فرنسا السياسية والعسكرية المتفوقة تاريخيا فإنها تعكس أيضا المصالح الحالية للبلاد فبوصفها القوة العسكرية الأعظم في أوروبا (برغم الميزانية الدفاعية الأكبر لدى المملكة المتحدة) تستطيع فرنسا أن تلعب دورا أساسيا في أي عملية عسكرية أوروبية واسعة النطاق
ومن جانبها تشارك المملكة المتحدة فرنسا نفس اعتقادها بأن القوة العسكرية تُعَد شرطا أساسيا للفعالية الاستراتيجية وهي تزعم أن معارضتها للبنية الدفاعية الأوروبية تنبع من اعتقادها بأن منظمة حلف شمال الأطلسي وبالتالي الولايات المتحدة تشكل أهمية بالغة بالنسبة للدفاع الأوروبي ولكن لأنه لم يسبق أن فكرت أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي جديا في استبعاد حلف شمال الأطلسي فإن هذه الحجة تبدو أكثر قليلا من مجرد عذر
والحقيقة هي أن النوع الوحيد من الترتيبات الدفاعية المقبولة لدى البريطانيين هو ذلك الذي يُدار من قِبَل تحالف من الدول الأوروبية التي تعمل تحت أعلامها الوطنية كما حدث في ليبيا ووفقا لوجهة نظر المملكة المتحدة فإن العمليات الأوروبية لابد أن تقتصر على الأهداف الإنسانية وحفظ السلام وبرغم دعم بريطانيا لمكافحة القرصنة قبالة القرن الأفريقي فإن هذا كان أقرب إلى العملية الشرطية وليس العسكرية وكان مدفوعا بالمصلحة المشتركة المتمثلة في حماية طرق التجارة من الشرق الأوسط وآسيا
أنا رؤية ألمانيا للدافع الأوروبي فتختلف تمام الاختلاف عن المنظور الفرنسي أو البريطاني فخلافا لبريطانيا تدعم ألمانيا السياسة الأمنية والدفاعية الأوروبية وتسلط الضوء بفخر على ميزانيها العسكرية المتسقة ومشاركتها الرئيسية في المهام الأوروبية (المشاركة الأكبر من المشاركة الفرنسية المجهَدة) وبرغم أن ألمانيا تشارك المملكة المتحدة اعتقادها بأن منظمة حلف شمال الأطلسي تتحمل المسؤولية الأساسية عن حماية أوروبا فإن نظرنها للمشاركة الأوروبية أكثر تقييدا فوفقا لوجهة النظر الألمانية لابد أن يقتصر التدخل العسكري الأوروبي على حدود القارة ويجب ألا يشمل العمليات القتالية
الواقع أن غالبية مواطني أوروبا يفضلون أن يقتصر نشر القوات الأوروبية على المهام غير القتالية وحتى الآن كان الهدف من كل العمليات العسكرية الأوروبية تقريبا إجلاء الرعايا الأوروبيين أو تسليم المساعدات الإنسانية أو الحفاظ على السلام في أعقاب الصراع
تفسر هذه الآراء المتباينة حالة عدم اليقين المحيطة بتدخلات فرنسا الأخيرة في أفريقيا وقدر أعرب الفرنسيون عن أسفهم إزاء الدعم الضئيل الذي قدمته بقية أوروبا لعملياتها في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والذي تجسد في رفض ألمانيا إنشاء صندوق لعمليات البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي
ولكن نظرا للضرورة القصوى التي فرضتها الأوضاع في ليبيا ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى فإن هذا الافتقار إلى الدعم لم يكن سببا في تقويض الجهود الفرنسية بقدر ما كان التشاور مع الزعماء الأوروبيين مسبقا ليقوضها ولعل الألمان كانوا ليرفضون التدخلات على أية حال لو استشيروا