text
stringlengths
1
1.34k
برينستون حين عادت المطارات في مختلف أنحاء أوروبا إلى استقبال الطائرات بعد إغلاقها بسبب ثورة بركان أيسلندا فإن ذلك لم يكن لأن كمية الرماد البركاني في الغلاف الجوي قد هبطت بل بسبب إعادة تقييم الخطر الذي يفرضه الرماد البركاني على سلامة الطائرات ولكن هل كانت معلومات علمية جديدة هي التي أدت إلى رفع الحظر على الرحلات الجوية أم أن ذلك كان انعكاسا للصعوبات الشخصية والاقتصادية الناجمة عن الحظر
فعلى مدى ستة أيام ألغيت نحو ألف رحلة فتكبدت شركات الطيران نتيجة لذلك خسائر تجاوزن المليار دولار وتقطعت السبل بما يقدر بنحو خمسة ملايين مسافر وخسر الاقتصاد البريطاني مليار جنيه إسترليني وتأثر آخرون على نحو مماثل فقد أصبح مزارعو الزهور في كينيا الذين كانوا يعتمدون على النقل الجوي لحمل منتجاتهم قصيرة العمر إلى أوروبا بلا أي دخل فجأة وتعرض ستة عشر مريضا بالسرطان والذين كانوا في حاجة ماسة إلى عمليات نقل نخاع العظام للخطر الشديد بسبب العجز عن نقل نخاع العظم جوا من الولايات المتحدة أو كندا
في حوادث وقعت في الماضي تعرضت طائرات النفاثة تحلق عبر الرماد البركاني في الولايات المتحدة وإندونيسيا والفلبين والمكسيك لخسارة قدرة محركاتها مؤقتا وفي حالة واحدة هبطت إحدى الطائرات لآلاف الأقدام ولو أن طاقمها نجح في الهبوط بها بسلام ولكن لم تتأكد أية دلائل تشير إلى أن الرماد البركاني القادم من أيسلندا والأكثر انتشارا في الهواء فوق أوروبا قد يتسبب في مشاكل مماثلة والواقع أن القرار الذي اتخذ بحظر الرحلات الجوية كان مستندا إلى وجهة نظر مفادها أن أي مستوى من الرماد البركاني في الغلاف الجوي يفرض بعض الخطر على الطائرات وأن هذا الخطر مهما كان ضئيلا فإن وظيفة الحكومة طبقا لتعبير رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون تتلخص في ضمان سلامة الناس أولا
ومن الواضح أن الحكومات الأوروبية حين قررت حظر الرحلات الجوية أعطت الأولوية المطلقة للسلامة ولكننا لم نر أيا من هذه الحكومات تبني تصرفاتها وقراراتها استنادا إلى هذا المبدأ في العديد من المجالات الأخرى فعلى الطرقات في مختلف أنحاء العالم يموت نحو شخص يوميا ولا شك أن خفض السرعة القصوى للسيارات على الطرق إلى كيلومترات في الساعة من شأنه أن يمنع أغلب الحوادث وأن ينقذ العديد من الأرواح ولكننا لا نفعل ذلك لأننا نعطي السلامة أولوية أدنى من رغبتنا في إنفاق وقت أقل في القيادة
إن الثمن الذي قد ندفعه طوعا في سبيل تأمين سلامتنا ليس من الممكن أن يكون بلا حدود وقد يكون من غير المقبول أن نحدد سعرا لحياة البشر ولكن كلما ازداد إنفاقنا على السلامة كلما أصبح المتوفر لدينا من أموال لتحقيق أهدافنا الأخرى أقل وتستخدم الحكومة البريطانية رقما يزيد قليلا عن مليون جنيه إسترليني كحد عام لإنقاذ حياة إحصائية على سبيل المثال من خلال تحسين السلامة على الطرق وفي الولايات المتحدة سنجد أن وزارة النقل على استعداد لرفع ذلك المبلغ على مليون دولار أو ما يقرب من أربعة أمثاله بأسعار الصرف الحالية لتحقيق نفس الغاية ولكن هل هذا يعني أن السلامة تحظى بالأولوية المطلقة في الولايات المتحدة ولكن ليس في بريطانيا
كان جيوفاني بيسيجاني رئيس الاتحاد الدولي للنقل الجوي قد انتقد حظر الرحلات الجوية زاعما أن أحدا لم يهتم بإجراء تقييم للمخاطر ولكن يبدو أن الرأي العام في الإجمال كان مؤيدا للقرار وفي مقابلات أجريت مع مسافرين عاديين عالقين في المطارات قالوا إنهم يفضلون أن يتعطلوا في أحد المطارات على أن يجدوا أنفسهم في طائرة تهوي من السماء
ولكن ماذا لو كان بعض المسافرين أكثر تسامحا مع المخاطر أو كانوا في حاجة أكثر إلحاحا للسفر من غيرهم في كتابه التقليدي عن الحرية يذكر جون ستيوارت مِل موقفا حيث يعتزم رجل ما عبور جسر نعرف أنه غير آمن وطبقا لوجهة نظر جون ستيوارت مِل فمن المبرَر أن نوقف ذلك الرجل لكي نتأكد من إدراكه للخطر المقبل عليه وبمجرد إدراكه للخطر فإن القرار يرجع إليه وذلك لأنه وحده القادر على الحكم على مدى أهمية رحلته والموازنة بين ذلك وبين الخطر الذي قد يعرض نفسه له
صحيح أن السلامة الجوية تختلف قليلا لأن سقوط طائرة قد يقتل بعض الناس على الأرض ولكن الخطر الأعظم على الإطلاق يحيط بالركاب وأفراد الطاقم وإذا ما أحيطوا علما بالمخاطر ورغم ذلك ظلوا راغبين في السفر ربما عرضت شركة الطيران على أفراد الطاقم أجرا إضافيا كما هي العادة في تعويض العاملين في المهن الخطرة فهل يجوز لنا أن نمنعهم من اتخاذ القرار بالطيران
في النهاية وبعد أن أثبتت الرحلات التجريبية من دون ركاب أن المحركات لم تتعرض للتلف وبعد أن أكدت شركات تصنيع محركات الطائرات لسلطات الطيران أن محركاتهم قادرة على العمل بأمان وسط مستوى منخفض من الرماد البركان في الغلاف الجوي انفتحت سماء أوروبا من جديد كما أعلنت الهيئة الدولية للطيران المدني عن اعتزامها تشكيل مجموعة من الخبراء لمساعدتها في تقديم الإرشاد والمشورة لصناعة الطيران فيما يتصل بتقرير المستوى غير الآمن من الرماد في الغلاف الجوي
الآن وبعد أن تبين لنا حجم التكاليف المترتبة على إعطاء الأولوية المطلقة للأمان فقد بات من الواضح أن الأمر لا ينحصر في مسألة تقنية وأنا على ثقة من أن بعض الخبراء تفكروا في القضية الأخلاقية الأساسية المتمثلة في تحديد المستوى الذي يتعين علينا أن نطلبه من الأمان
حزب شيوعي بلا شيوعية
برينستون كان المرسوم المقدس الذي أصدره رئيس روسيا فلاديمير بوتن باختيار أليكساندر ميدفيديف خليفة له في انتخابات مارس/آذار القادم الرئاسية التي يفترض فيها أن تكون ديمقراطية بمثابة البرهان على أن قادة روسيا لم يتغيروا مثقال ذرة ويبدو الأمر على نحو متزايد وكأننا سوف نرى نفس الأسماء في الأخبار لعقود أخرى من الزمان كما كانت الحال أثناء حكم ليونيد بريجينيف
وطبقا لجليب بافلوفسكي المُنَظِر الإيديولوجي الرائد لدى نظام بوتن فإن النظام الروسي الحالي مثالي في كافة جوانبه باستثناء جانب واحد وهو أنه أي النظام لا يعرف أعداءه والحقيقة أن الأمر يبدو وكأن كل مسئول في الكرملين يقرأ كارل شميت المنظر القانوني النازي الذي قال إن تحديد العدو يشكل المهمة المركزية للسياسة
وانطلاقا من فكر شميت اختار رجال بوتن حزبا ليبراليا اتحاد القوى اليمينية باعتباره عدوهم الأول فبادروا إلى فض اجتماعات ذلك الحزب بالاستعانة بقوات شرطة مسلحة وسمحوا باعتقال قادته وضربهم وأطلق بوتن على أنصار الحزب لقب &الذئاب&
المدهش في الأمر أن هذا السلوك العدواني لم يكن ردا على أي خطر أو تهديد واضحين فقد ارتفعت أسعار النفط حتى بلغت عنان السماء ومعها ارتفعت أسهم بوتن هذا فضلا عن سيطرة أتباعه على كل شيء ذي قيمة بداية من غازبروم إلى اللجنة الانتخابية المركزية ومنذ نجح الكرملين في تهدئة الشيشان بالعنف ثم بالمعونات وبعد سجن أو هجرة الخصوم القادرين ماليا ومع إنفاق &الاستثمارات العامة& الهائلة أثناء الأعوام الأخيرة والتي كانت بمثابة الرشوة للشعب تحت إشراف ميدفيديف شخصيا لم يعد هناك وجود لأي قوة معقولة قادرة على أن تشكل تحديا جادا لرجال بوتن إلا أن نظامهم في ورطة رغم كل هذا وهم يدركون ذلك تمام الإدراك
لقد أصبح الاقتصاد الروسي أكثر اعتمادا على الغاز والنفط من أي وقت مضى أما الإصلاح العسكري فقد تراجع إلى الخلف ورغم الدخول المتزايدة إلا أن أهل روسيا أصبحوا أقل تعليما وأسوأ صحة مما كانوا عليه حين تولى بوتن السلطة فما زال أفراد الشعب الروسي يتوفون في سن مبكرة للغاية وأصبحت مشاركة روسيا في شئون العالم ملطخة بالسم والفساد
والآن تعمل احتكارات الدولة على هدم كل ما بناه القطاع الخاص ومع توفر المزيد من الأموال بات بوسع البيروقراطيين من ذوي التعليم الرديء أن يوظفوا المزيد من البيروقراطيين من ذوي التعليم الرديء ونتيجة لهذا فقد أخفق النظام في حكم البلاد التي أصبحت بلا زمام كما يدرك حكامها ذلك وهو ما أصابهم بحالة من الهلع
كان بوتن يسعى في المقام الأول إلى إخضاع كافة القوى في البلاد لسيطرة أجهزة الأمن الروسية لقد شهد أبناء جيله من ضباط هيئة الاستخبارات والأمن الداخلي ( ) انهيار الحزب الشيوعي وكافة الأجهزة الحكومية التي كانت &توجه وتسيطر& حتى على هيئة الاستخبارات والأمن الداخلي وبوصول بوتن إلى السلطة نالت الأجهزة الأمنية ثأرها فقد أصبح رجالها أقوياء ومتغطرسين وفاحشي الثراء كما أصبحوا عُصاة ومتمردين أيضا
في العام نشر الجنرال فيكتور تشيركيزوف الذي أصبح ممثلا لبوتن في شمال غرب روسيا مقالا مجَد فيه هيئة الاستخبارات والأمن الداخلي باعتبارها السلطة الوحيدة غير الفاسدة في بلد فاسد ولقد أبرز هذا المقال قبل كل شيء الولاية الثانية للرئيس بوتن وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول نشر تشيركيزوف (الذي أصبح الآن رئيسا لواحد من أكثر الأجهزة الأمنية غموضا وقوة الإدارة الفيدرالية لمكافحة المخدرات) مقالا آخر أعرب فيه عن حزنه وأسفه للانحطاط الذي بلغه زملاؤه حيث قال في نبرة تذمر &لقد تحول المحاربون إلى تجار&
في وقت سابق كان جنرالات أحد الأجهزة المنافسة هيئة الأمن الفيدرالي ( ) قد اعتقلوا نائب تشيركيزوف بتهمة &التنصت غير القانوني& وفي إشارة علنية يائسة اعترف تشيركيزوف بفشل مشروع بوتن في إعادة الحياة إلى الحكم الروسي من خلال تكليف الأجهزة الأمنية بهذه المهمة
حتى الآن ما زال نائب تشيركيزوف في السجن ويعتقد أغلب الناس أن بوتن عاجز عن التدخل دفاعا عنه ففي ظل غياب سيطرة الحزب الشيوعي خان ضباط الأمن مبادئهم الأخلاقية فانخرطوا في مساومات شرسة واستخدموا العنف كلما سارت الأمور على غير هواهم وقد يكون من المفهوم أن يحدث هذا لأفراد الشعب الروسي العاديين بيد أن تشيركيزوف كشف أن البطانة المحيطة بالرئيس بوتن أيضا تعيش نفس الموقف
ما العمل حين يحول محاربو هيئة الاستخبارات والأمن الداخلي القدامى سيوفهم وأجهزة تنصتهم نحو بعضهم البعض إن قضية تشيركيزوف تجسد كابوس بوتن ولكن إذا ما المرء خانته غرائزه فقد يذهب فريسة لكوابيس أشد هولا
الآن وقد ترك قوم بوتن أفكار ومبادئ الليبرالية الجديدة التي سار عليها أسلافهم وبعد أن تحرروا من سحر عشيرة الاستخبارات والأمن الداخلي السابقين أصبحت المهمة تتلخص في إعادة خلق حزب &كلي القدرة& يسيطر على الأجهزة الأمنية والإدارة والتجارة وكثير غير ذلك ولسوف يكون هذا الحزب خاضعا للسلطة المركزية لزعامة شخصية ولسوف يعمل على تقليص الدولة إلى كيان قانوني وهمي
سوف يكون زعماء هذا الحزب على يقين من جدارتهم العالمية التي لا تضاهيها حرفية ومهنية عشيرة الاستخبارات والأمن الداخلي كان الرئيس بوريس يلتسين قدر أصدر قرارا شخصيا بتحريم تشكيل الخلايا الحزبية في المؤسسات التي تديرها الدولة ولكن خبراء الحقوق والقانون من أتباع بوتن سوف يعملون على إلغاء هذا القرار ولسوف يكون للحزب خلايا أو لجان في كل مصنع وكل مؤسسة وكل وحدة عسكرية وكل قسم في كل جامعة إلى آخره ومع توحد أعضاء الحزب وتكاملهم بفضل الكاريزما الشعبية التي يتمتع بها زعيمهم وبفضل انضباط الحزب فلسوف يصبح بوسعهم توحيد هذه الدولة البائسة المخربة
هذه هي خطة بوتن ولسوف يتولى منصب الأمين العالم للحزب كما فعل الزعيم السوفييتي السابق يوري أندروبوف رجل هيئة الاستخبارات والأمن الداخلي الوحيد الذي حكم روسيا قبله وكما كانت الحال في العصر السوفييتي فسوف يتحول مسئولو الدولة والحكومة إلى مجرد أتباع للحزب الدور الذي سيلعبه الرئيس ميدفيديف تحت إشراف الأمين العام بوتن وبالطبع نعرف جميعا أن مدة تولي منصب الأمين العام لا تحدها قيود دستورية
في النهاية لم يأخذ بوتن سوى ما تركه له التاريخ ليس الأفكار ولا المبادئ بل مجرد زمرة من المتلهفين إلى إحكام قبضتهم على السلطة كان لينين و تروتسكي في حاجة إلى الحزب لتحويل إيديولوجياتهما إلى واقع حقيق أما بوتن و ميدفيديف فيبتكران إيديولوجية الهدف منها ترسيخ حزبهما
وإنها لأيديولوجية غريبة فباتهام المحاربين بالتحول إلى تجار واتهام التجار بالتحول إلى لصوص يتنصل الحزب من أصوله الماركسية ولسوف يعمل هذا الحزب على إخضاع كل من يقوم بعمل حقيقي التجار والمحاربون والصحافيون وغيرهم لمنظريه الإيديولوجيين الذين تتلخص وظيفتهم الوحيدة في البحث عن أعداء
حل فيدرالي من أجل فلسطين
لندن في الشهر الماضي وأثناء زيارة قمت بها إلى مدينة نيويورك تصادف أنني كنت مقيما في نفس الفندق الذي يقيم به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ولتوفير الأمن لرئيس الوزراء الإسرائيلي تحول الفندق إلى حِصن تماما كما هي حال إسرائيل ذاتها
كان نتنياهو في الولايات المتحدة لحضور جولة أخرى من محادثات السلام في الشرق الأوسط ولقد قدمت الولايات المتحدة العديد من المغريات والحوافز لحث إسرائيل على تجميد بناء مستوطناتها في الضفة الغربية لمدة تسعين يوما أخرى ولكن الإسرائيليين رفضوا ووصلت الأمور إلى طريق مسدود آخر
كيف إذن قد تكون احتمالات التوصل إلى السلام عن طريق التفاوض بين شعبين يطالبان بنفس الأرض
الإجابة هي احتمالات ضعيفة للغاية إن كافة جهود السلام التي بذلت منذ اتفاقات أوسلو في عام كانت تستند إلى الحل القائم على دولتين وبموجب هذه الحل يفترض أن تسلم إسرائيل الأراضي المحتلة إلى دولة فلسطينية وأن يتخلى الفلسطينيون عن أي مطالبات على الدولة اليهودية ومن المفترض أن يعيش الطرفان من بعد ذلك في سعادة دائمة
وحتى الآن يشكل الحل التفاوضي القائم على تقديم الأرض في مقابل السلام المبدأ الرسمي الذي يتبناه الغرب وعلى حد تعبير وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في خطاب ألقته مؤخرا فإن السلام العادل الدائم الشامل لابد وأن يقوم على دولتين وشعبين
وفي الوقت عينه يبحث كل من طرفي النزاع فلسطين وإسرائيل عن بدائل أحادية الجانب لعملية السلام المحبطة المعطلة فالفلسطينيون ينادون بالاعتراف الدولي بدولتهم في حين يستخدم الإسرائيليون سياسته الاستيطانية لوأد الدولة الفلسطينية بالاستيلاء على الأراضي التي قد تقوم عليها
ولقد أكَد الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سوف يطالب في حالة انهيار أحدث جولة من محادثات السلام باعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية تقوم على حدود عام وهذا الشهر اعترفت البرازيل والأرجنتين بدولة فلسطين ومن المتوقع أن تحذو حذوهما سلسلة من بلدان أميركا اللاتينية
والآن يضع عباس أوروبا نُصب عينيه وقد يطلب من تركيا أن تلعب دور الوسيط بينه وبين أوروبا وتتلخص اللعبة في استخدام الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية مستقلة لممارسة الضغوط على الولايات المتحدة لحملها على التراجع عن دعمها غير المشروط للسياسات الإسرائيلية
إن مسألة الأمن تظل تشكل مصدر القلق والانزعاج الرئيسي في نظر إسرائيل ويتلخص المبدأ الغربي الرسمي في هذا الصدد في أن أمن إسرائيل في الأمد البعيد يعتمد على نجاح عملية السلام وفي الممارسة العملية كانت إسرائيل تتخذ تدابير أخرى لتأمين مستقبلها وكان التركيز الإعلامي منصبا على الجدار الأمني الذي نجح بكل تأكيد في الحد من مستوى العنف
ولكن المفتاح لضمان أمن إسرائيل في نظر الصقور الذين يسيطرون على السياسة الإسرائيلية الآن يعتمد على عمق الدفاع والذي يشكل التوسع الاستيطاني ضرورة لا غنى عنها لتحقيقه وتتألف وصفة الصقور للبقاء من ثلاثة عناصر الدعم العسكري والاقتصادي المستمر من جانب الولايات المتحدة والحدود التي يمكن الدفاع عنها من خلال برنامج الاستيطان الاستراتيجي ونحت الضفة الغربية الفلسطينية لتحويلها إلى مناطق عديدة منعزلة أو سلطات تابعة غير قادرة على تشكيل معارضة منظمة للسياسات الإسرائيلية
هكذا وفي حين يسعى عباس إلى خلق واقع جديد على الأرض من خلال حشد التأييد الدولي للدولة الفلسطينية فإن إسرائيل تسعى إلى التفوق عليه بجعل مثل هذه الدولة غير قابلة للحياة
إن البديل المثالي لهاتين الاستراتيجيتين يتلخص في عملية سلام لا تهدف إلى إنشاء دولتين بل إلى إرساء الأساس الاقتصادي والسياسي لدولة اتحادية فيدرالية واحدة والواقع أن حل الدولتين كان منذ البداية ضربا من الوهم ذلك أن مساحة الأرض المتاحة لم تكن كافية قط لإشباع رغبة التملك العاطفية لدى كل هؤلاء الذين يطالبون بالأرض وبمرور الوقت أصبح سحب المستوطنين الإسرائيليين من الضفة الغربية والقدس الشرقية مستحيلا بقدر استحالة أي محاولة تبذلها إسرائيل لطرد ما تبقى على أراضيها من عرب
إن اليهود الإسرائيليين عازمون على البقاء في الضفة الغربية والقدس الشرقية والعرب الإسرائيليين عازمون على البقاء في إسرائيل وهذه هي الحقائق على الأرض التي تقضي على الآمال الفلسطينية في إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة بقدر ما تقضي على الآمال الإسرائيلية في إقامة دولة يهودية بالكامل
فضلا عن ذلك فإن مبدأ الأرض في مقابل السلام لم يكن متوافقا مع المنطق قط من المنظور الاقتصادي وإذا كان لنا أن نسترشد بتعويض الفلسطينيين عن الأضرار التي لحقت بهم فسوف يتبين لنا أن السبل الأفضل كانت متوفرة دوما عوضا عن تأسيس دولة جديدة كسيحة مبتلاة بالفقر وتعتمد على المساعدات الخارجية
ويبدو أن أغلب الناس لا يتذكرون الآن أن بروتوكولات باريس في إبريل/نيسان من عام نشأت اتحادا جمركيا بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة في ظل مجلس اقتصادي مشترك للفصل في المنازعات التجارية ولا شك أن الحركة الحرة للسلع والعمالة ورأس المال بين الجانبين كانت لتشكل دفعة اقتصادية هائلة للناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني
وكان هذا ليرسي الأساس أيضا لإقامة دولة اتحادية فيدرالية وكان الجانب الفلسطيني ليستفيد من إنتاجية المستوطنين في الضفة الغربية والضرائب التي يدفعونها ولكن هذه التوقعات الحميدة تقوضت بفعل العنف الذي كان مطلوبا للحفاظ على الدولة اليهودية وتمكين نشوء دولة فلسطينية
وتظل وجهة النظر الرسمية تؤكد أن تسوية الدولتين المضمونة دوليا هي وحدها القادرة على جلب الأمن المطلوب لإنعاش الاقتصاد في الأراضي الفلسطينية ولكن من المحتمل تماما أن تعمل السياسات الفلسطينية الأحادية التي تدعمها الولايات المتحدة ضمنا على خلق الظروف المؤقتة القادرة على توفير السلام بالقدر الكافي لتمكين النمو الاقتصادي من تهدئة المشاعر القومية الفلسطينية
ويبدو أن القضية الفلسطينية لم تعد الشغل الشاغل حتى بالنسبة للدول العربية وعلى هذا فإن استراتيجية نتنياهو في الدفاع من العمق تحظى بفرصة أفضل للنجاح مقارنة بالمساعي التي يبذلها عباس لإقامة الدولة من خلال الاعتراف الدولي والواقع أن مشروع نتنياهو ليس أخلاقيا ولكن هذا لا يعني أنه لن ينجح ولو لبعض الوقت على الأقل
إتحاد كونفيدرالي من أجل كوسوفو
إن الوقت يوشك على النفاذ في كوسوفو وإذا لم يتم التوصل إلى تسوية مدعومة من جانب الأمم المتحدة بحلول بدايات شهر ديسمبر/كانون الأول فمن المرجح أن تعلن الأغلبية الألبانية من السكان في المنطقة الاستقلال من جانب واحد وهو التحرك الذي أعلنت الولايات المتحدة إنها قد تدعمه
ولسوف تكون هذه الخطوة مشئومة فلسوف تستشيط روسيا غضبا لأنها تخشى أن يؤدي انفصال كوسوفو سواء حاز ذلك على اعتراف دولي أو لا إلى تشجيع الحركات الانفصالية في الإمبراطورية السوفيتية السابقة ولسوف تكون صربيا أيضا أشد معارضة فلقد أكد دوسان بروروكوفيتش وزير الدولة الصربي لشئون كوسوفو أن بلاده ربما تلجأ إلى القوة للحفاظ علي سيادتها الإقليمية وحتى لو ترددت الحكومة فقد تدفع الجماعات القومية المتطرفة رئيس الوزراء فوجيسلاف كوسوتينكا إلى إرسال قواته فالتواجد الحالي للأمم المتحدة في كوسوفو ضعيف للغاية ( &مراقب عسكري& و رجل شرطة فقط) إلا أن تمركز جندي من قوات حلف شمال الأطلنطي هناك من شأنه أن يجعل أي صدام مسلح في غاية الخطورة
بعد ثمانية أعوام من الخضوع للإدارة الدولية تذوقت الأغلبية الألبانية في كوسوفو طعم الحرية وباتت متلهفة إلى الاستقلال الكامل لكن صربيا تدعي أن الإقليم يظل يشكل جزءا حيويا من تقاليدها التاريخية والثقافية فضلا عن ذلك فلن تقبل الجماهير الصربية هذا الاستقلال وهي الجماهير التي راقبت بقدر عظيم من الصدمة والإحباط &صربيا العظمى& وهي تتفكك تدريجيا كما حدث مؤخرا بانفصال الجبل الأسود إن صربيا ليست مستعدة للقبول بأكثر من &حكم ذاتي معزز& في كوسوفو علاوة على قدر من الصلاحيات التي تسمح لها بالدخول في اتفاقيات دولية
مع هذا ورغم ما يبديه الطرفان من رفض المصالحة إلا أن الفرصة ما زالت سانحة للتسوية وتقريب وجهات النظر لكن هذا لن يتسنى إلا في حالة إحياء وتجديد مؤسسة قديمة من مؤسسات المجتمع الدولي وهي الاتحاد الكونفيدرالي بين أكثر من دولة
وبواسطة قرار ملزم من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فمن الممكن أن تحصل كوسوفو على السلطة الكاملة والكُلية علي مواطنيها وأراضيها علاوة على صلاحية محدودة للعمل على الصعيد الدولي ومن الممكن تفويض كوسوفو بإبرام الاتفاقيات التجارية والاتفاقيات المتعلقة بالأفراد (علي سبيل المثال دخول وتحركات الأجانب وتسليم المتهمين) فضلا عن الحق في الانضمام إلى لأمم المتحدة (وهو ما لا يتطلب السيادة الكاملة أو الاستقلال الكامل
على هذا النحو ستحظى كوسوفو ببعض المظاهر الضرورية للدولة ولكن سوف يتم تكوين هيئة مكلفة باتخاذ القرار وتتألف من مندوبين من كوسوفو وصربيا والاتحاد الأوروبي ولسوف تحصل هذه الهيئة على السلطة كاملة فيما يختص بشئون السياسة الخارجية الرئيسية (علي سبيل المثال التحالفات والعلاقات بالمؤسسات الدولية الاقتصادية) والدفاع والحدود (إذا ما أبدت كوسوفو رغبتها في الانضمام إلى ألبانيا) والتعامل مع الأقلية الصربية في كوسوفو وبهذا تشكل كوسوفو وصربيا كيانين دوليين منفصلين يربط بينهما اتحاد كونفيدرالي يستند إلى هيئة مشتركة لاتخاذ القرار
مما لا شك فيه أن هذا الاتحاد الكونفيدرالي سوف يكون غير متوازن وذلك لأن سيادة الحكومة الصربية على بقية صربيا سوف تظل كاملة وغير محدودة بينما ستكون سيادة حكومة كوسوفو على كوسوفو مقيدة ولتجنب استئثار أحد الأطراف باليد العليا وفرض قرارات استبدادية فلابد وأن تتألف الهيئة المشتركة لاتخاذ القرار من أربعة مندوبين صرب ومندوبَين من كوسوفو إلى جانب ثلاثة مندوبين من الإتحاد الأوروبي وبهذا يكون لزاما على الجانبين اكتساب تأييد مندوبي الاتحاد الأوروبي فضلا عن ذلك يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يشكل قوة عسكرية صغيرة ولكن مؤثرة ( جندي) لدعم قرارات الهيئة المشتركة
وكما هي الحال في أي تسوية فإن كلا الطرفين المتنافسين سوف يربحان ويخسران نتيجة لتنفيذ هذه الترتيبات حيث ستحتفظ صربيا بماء وجهها وتظل قادرة على إبداء رأيها في الأمور الحاسمة المتعلقة بكوسوفو بما في ذلك أسلوب التعامل مع الأقلية الصربية أما كوسوفو فلسوف تنال استقلالا محدودا كما سيرتقي وضعها من إقليم تابع لدولة ذات سيادة إلي عضو دولي قادر على الدخول في اتفاقيات معينة مع الدول الأخرى بل وحتى الانضمام إلى الأمم المتحدة
سوف يستفيد الإتحاد الأوروبي أيضا وذلك من خلال الإسهام في استقرار منطقة شديدة التقلب وبالتالي سيتمكن الاتحاد الأوروبي من مراقبة كوسوفو ومنع أي نزاع قد يتحول إلى أعمال عنف
الميزة الأخيرة في هذا الحل أنه مؤقت فالتاريخ يؤكد أن الاتحادات الكونفيدرالية تتحول عاجلا أو آجلا إلى اتحادات فيدرالية ( كما حدث في الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا) أو قد تدفعها عوامل الاختلاف إلي الانفصال (كما حدث مع الجمهورية العربية المتحدة التي تأسست في العام ثم انفصلت بعد بثلاث سنوات إلى مصر وسوريا)
وبهذا يشكل الاتحاد الكونفيدرالي الذي أدعو مرحلة انتقالية (تدوم لخمس أو عشر سنوات) وفي نهاية هذه المرحلة من المرجح أن تنال كوسوفو استقلالها كاملا فضلا عن ذلك فإن تأجيل الحل النهائي على هذا النحو من شأنه أن يمنحنا الوقت الكافي للتحقق من فرص كوسوفو في الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي ويمنح كوسوفو بالتالي بتقاسم &السلطة السيادية& مع دول أخرى مستقلة الأمر الذي قد يؤدي إلى تهدئة المطالب القومية الخطيرة من جانب أهل كوسوفو
أوروبا محافظة
في الأسبوع الماضي التقى توني بلير وجاك شيراك وجيرهارد شرودر في برلين ولقد افترقوا بعد أن تعهدوا بإعادة الحياة إلى مشروع نماء أوروبا لقد سمعنا هذا الوعد الفارغ من قبل
بدلا من الوعود فإن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى اتخاذ اتجاه جديد وأقول هذا بصفتي زعيما للحزب الذي كان في طليعة المؤيدين لارتباط بريطانيا بأوروبا ولقد كانت أول حكومة تتقدم بطلب انضمام في مطلع الستينيات حكومة محافظين كما كانت حكومة محافظين تلك التي حملت المملكة المتحدة إلى التجمع الاقتصادي الأوروبي في عام ولقد عملت مارغريت ثاتشر مع جاك ديلور لصياغة السوق الواحدة في عام
لذا فليس لدي شك في أن بريطانيا لابد وأن تحتفظ بنفوذها داخل الاتحاد لكن السياسة التي تنتهجها بريطانيا تجاه الاتحاد الأوروبي كثيرا ما أدت إلى علاقات أسوأ بين الدول الأعضاء وليس العكس فكلما وجدنا أنفسنا أمام مبادرة جديدة من مبادرات الاتحاد الأوروبي كان رد فعلنا التقليدي غالبا هو رفض المبادرة ثم التصويت ضدها ثم ينتهي الاقتراع ونخسر التصويت ثم نتبنى المبادرة على مضض بينما نلقي باللائمة على كل من عدانا لقد سئم كثير من الأوروبيين من الاعتراضات البريطانية المتكررة وكذلك أنا
بطبيعة الحال هناك متطلبات أساسية لابد وأن تتقبلها كافة الدول الأعضاء في المقام الأول تأتي الحريات الأربع للسوق الواحدة حرية نقل السلع والخدمات والأفراد ورأس المال لكن السوق الواحدة لا تتطلب سياسة اجتماعية أو سياسية واحدة بل تتطلب ما هو أقل من هذا بكثير أي سياسة عامة مشتركة للضرائب إن السماح لكل دولة بإتباع السياسات التي تناسبها في هذه المجالات من شأنه أن يعمل على تشجيع المنافسة أما فرض معايير مشتركة فهو يعني المزيد من التأخر لأوروبا حيث ستلجأ كل من الدول الأعضاء إلى تحميل جيرانها ما ستتكبده من تكاليف
أي من المجالات ينبغي تطبيقه على كل الدول الأعضاء وأيها ينبغي أن يكون اختياريا أعتقد أن كل دولة من الدول الأعضاء ينبغي أن تتولى إدارة تلك السياسات التي لا تؤثر بشكل مباشر وذي وزن على الدول الأعضاء الأخرى
في الأمور التي تخدم المصالح الوطنية ينبغي أن يكون لكل دولة من الدول الأعضاء الحق في أن تقرر إما أن تحتفظ بكامل سيطرتها على تلك الأمور أو تتعاون مع الدول الأخرى ويتعين على أعضاء الاتحاد أن يشكلوا سلسلة من الدوائر المتداخلة ينبغي أن تكون المجموعات المؤتلفة من الأعضاء قادرة على اقتسام المسئوليات في مجالات مختلفة من اختيارها
وهناك حوادث سابقة لهذا الأمر حلف شمال الأطلنطي على سبيل المثال يتمتع بالمرونة منذ إنشائه فقد وقعت فرنسا على عضوية الحلف لكنها فيما بعد رفضت تسليم قواتها المسلحة إلى القيادة المركزية للحلف ونفس المرونة كانت متاحة فيما يتعلق بمسألة اليورو واتفاقية شينجين والفصل الاجتماعي
من الممكن لهذه الحوادث السابقة أن تمتد فحتى الآن كان على الجميع أن يتحركوا إلى الأمام معا في حين تتفاوض الدول الأفراد على مناطق بعينها لا ترغب في المشاركة فيها ولكن منذ عام استُحدِث إجراء في إطار المعاهدات يدعى بالتعاون المعزز من شأنه أن يسمح لبعض الدول الأعضاء بالاستمرار في المزيد من التكامل في مجال بعينه دون إشراك كل الأعضاء الآخرين
بدلا من دخول الدول الأعضاء في مفاوضات مشحونة بالانفعالات حول مبادرة جديدة لا ترغب في المشاركة في بعض مجالاتها فتستطيع الدول التي تساند المبادرة أن تقبل المشاركة ببساطة فحسب والدول التي تريد المزيد من التكامل فلها أن تفعل ذلك ولا حاجة بها إلى جر بريطانيا والدول الأخرى خلفها وهي تصرخ وترفس في غضب لأن الآخرين غير ملزمين بالانضمام إليها وبهذا نستطيع أن نتحرر من ذلك الصراع العنيف الذي أصبحت تتسم به العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي
أنا لا أتحدث عن أوروبا ذات سرعتين فإن هذا يعني ضمنا أننا متفقون جميعا على غايتنا التي نصبو إليها لكننا مختلفون فقط على السرعة التي ينبغي أن نتحرك بها إلى هذه الغاية لا أريد أن أبلغ الغاية التي يطمح إليها البعض من شركائنا لكنني أيضا لا أريد أن أسد عليهم الطريق
هناك من يزعم أن هذا يعني أن الدول التي تختار عدم المشاركة في المزيد من التكامل ستفقد نفوذها لكن النفوذ ليس غاية في حد ذاته بل هو وسيلة إلى غاية لا تحتاج بريطانيا إلى مقعد على طاولة الاجتماعات حين يتم اتخاذ القرارات بشأن اليورو فاقتصاد بريطانيا لم يتأثر تأثرا سلبيا بعدم اشتراكها في عملة اليورو واحتفاظنا بالجنيه الإسترليني لا يعني أننا نعارض اليورو أو نتمنى له أن يخفق
ينبغي أن يكف الاتحاد الأوروبي عن محاول القيام بكل شيء وأن يكتفي بالتركيز على القيام بأمور أقل بشكل أكثر فعالية كما ينبغي عليه أن يمنح الدول الأعضاء الفرصة لكي تتوصل إلى فهم لأوروبا يتناسب مع تقاليدها الوطنية في إطار الاتحاد الأوروبي
على هذا الأساس يعارض المحافظون البريطانيون الدستور المقترح نحن لا نتفق مع الكثير من محتوياته بالطبع لكننا أيضا نعارض فكرة وضع دستور للاتحاد الأوروبي من الأساس هناك فرق شاسع بين جماعة من الأمم تربط بينها معاهدة وبين كيان منفرد له شخصيته القانونية المستقلة ويستمد سلطاته من دستور خاص به سواء أسميناه دولة أم لا
إذا تم قبول هذا الدستور بأي هيئة تشبه الهيئة المقترحة له فإن الاتحاد الأوروبي سيكتسب الكثير من خصائص وصفات الدولة فيصبح له رئيس ووزير للخارجية ونظام قانوني خاص به ولن يستمد قانون الاتحاد الأوروبي سيادته من قرارات البرلمانات الوطنية بل من دستور فوق قومي إنه لتغيير جذري وليس مجرد ممارسة تنظيمية كما يقترح البعض
لا أعتقد أنه من الصواب أن نحدث تغييرا بهذه الضخامة دون أن نستشير بكل حرص أولئك الناس الذين نحكم نيابة عنهم فالبرلمانات المنتخبة لا تمتلك حرياتنا بل إنها تحميها ولا يجوز لها أن تنتقص من تلك الحريات دون تفويض صريح وأي اقتراح بشأن دستور جديد لابد وأن يعرض على الشعب البريطاني وعلى الشعوب في كل دولة من الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي
مؤامرة ضخمة
نيويورك أهذا هو عصر نظرية المؤامرة إن الكثير من الأدلة تشير إلى أننا نعيش عصرا ذهبيا من أهم سماته تكهنات المواطنين وتوثيق الأحداث والاستدلال الذي بدأ يتخذ لنفسه هيئة واضحة على شبكة الإنترنت عادة وينتشر بشكل فيروسي إلى مختلف أنحاء العالم وفي هذه العملية تستمد نظيرات المؤامرة من هوامش الخطاب العام حيث كانت حبيسة الماضي عموما أو كانت بعض الأحيان في قلب السياسة
لقد أدركت هذه الحقيقة بالمصادفة فبعد أن ألفت كتابا حول اختطاف السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة أثناء سنوات بوش وجدت نفسي أثناء بحثي في بعض التطورات الجديدة أمام محادثات حية على شبكة الإنترنت تتبنى سردا يقوم على وجود تلاعب من وراء الكواليس
ولقد تعرضت لبعض المواضيع الرئيسية في هذا السياق ومن بين المواضيع المتكررة في الولايات المتحدة تلك الرواية التي تؤكد أن أهل النخبة العالمية يتآمرون عن طريق مجموعة بيلدبيرغ ومجلس العلاقات الخارجية بين جهات أخرى لإقامة &حكومة عالمية واحدة& يسيطرون عليها بدلا من الحكومات الوطنية وفي بعض الأحيان يشتمل الأمر على المزيد من التفاصيل الفلكلورية التي توسع دائرة عضوية هذه العصابة لتتضمن منظمات مثل جماعة التنوير ( ) والماسونيين وعلماء رودس أو كما هي الحال دوما اليهود
الحقيقة أن السمات المميزة لهذا السرد مألوفة لكل من دَرَسَ عملية انتقال فئات معينة من القصص في أوقات الأزمات وفي المجال الأدبي فإن نظرية المؤامرة هذه تشبه بروتوكولات حكماء صهيون التي تصور مجموعة من أهل النخبة العالمية السرية تتمتع بقوة عظيمة وتسعى إلى تحقيق أهداف شريرة وتاريخيا لا تتغير أهداف مثل هذه المجموعات كثيرا إحداث نوع من التغيير النوعي المخيف تحت قيادة أشخاص عالميين متحضرين ومثقفين
يعرف الطلاب القدامى من منطقة فايمار بألمانيا أن الاضطرابات والصدمات المفاجئة التمدين السريع وتمزق الروابط الأسرية والاجتماعية التقليدية وتخفيف القيود الجنسية والانهيار الاقتصادي كانت سببا في دفع العديد من الألمان إلى تقبل النظريات التبسيطية التي بدا الأمر وكأنها تعالج ارتباكهم وتعرض عليهم مغزى أضخم لمعاناتهم
وعلى نحو مماثل تؤكد حركة &حقيقة الحادي عشر من سبتمبر& أن هجوم تنظيم القاعدة على البرجين التوأم كان في الحقيقة &مهمة من الداخل& وفي بلدان العالم الإسلامي ثمة نظرية مؤامرة منتشرة على نطاق واسع تفيد بأن الإسرائيليين كانوا وراء تلك الهجمات وأن كل اليهود الذين كانوا يعملون في المبنيين لم يغادروا بيوتهم في ذلك اليوم
عادة تطفو نظريات المؤامرة إلى السطح حيثما كان التعليم ضعيفا وفي المجتمعات التي تفتقر إلى الصحافة المستقلة الدقيقة كيف إذا تكتسب مثل هذه النظريات أتباعا في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الديمقراطية الغنية في هذه الأيام
إن الفيض الذي يغرق العالم من نظريات المؤامرة اليوم يتغذى على نفس الظروف التي دفعت الناس إلى تقبل مثل هذه النظريات في الماضي التغير الاجتماعي السريع والشكوك الاقتصادية العميقة إن وجود &عدو& واضح المعالم يتبنى &خطة& لا يختلف عليها اثنان يشكل من وجهة نظر علم النفس تصورا مريحا مقارنة بالتطور الفوضوي للمعايير الاجتماعية ونجاح أو فشل الرأسمالية غير المقيدة وفي حين أن نظريات المؤامرة غالبا ما يكون من الواضح أنها غير عقلانية إلا أن التساؤلات التي تطرحها غالبا ما تكون صحية حتى وإن كانت الإجابات غير مستندة إلى مصدر سليم أو كانت مخطئة تماما
في البحث عن أجوبة يتفاعل المواطنون على نحو عقلاني مع حقائق غير عقلانية ويعتقد العديد من المواطنين ومعهم الحق في ذلك أن وسائل الإعلام في بلدانهم تتقاعس عن التحقيق في الإساءات والانتهاكات وتوثيقها والصحف في أغلب البلدان المتقدمة إما أن تناضل نضالا شديدا أو تغلق أبوابها وصحافة التحقيقات هناك كثيرا ما تكون هي أول ما يستغنى عنه والحقيقة أن تركيز ملكية وسائل الإعلام والسيطرة عليها من الأسباب التي تزيد من عدم ثقة عامة الناس فيها الأمر الذي يمهد الطريق أمام لجوء المواطنين إلى الاستقصاء بأنفسهم لسد هذا الفراغ
وعلى نحو مماثل ففي هذا العصر حيث أصبحت جماعات الضغط مطلقة اليد في تشكيل السياسات العامة إن لم يكن وضعها فإن العديد من الناس يعتقدون عن حق أيضا أن المسؤولين الذين انتخبوهم ما عادوا يمثلونهم ومن ثم ينشأ لديهم الدافع للاعتقاد في وجود قوى غير مرئية
وأخيرا حتى العقلاء من الناس أصبحوا أكثر تقبلا لبعض نظريات المؤامرة وذلك لأننا أثناء السنوات الثماني الماضية شهدنا في حقيقة الأمر عددا من المؤامرات المعقدة فقد تآمرت إدارة بوش لدفع الأميركيين وغيرهم إلى حرب غير شرعية بالاستعانة بأدلة ملفقة فهل من الغريب إذا أن يحاول العديد من العقلاء فهم الواقع السياسي الذي أصبح مبهما وحين نجد حتى المسؤولين عن لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر وقد تبرءوا من استنتاجاتهم التي توصلوا إليها (وذلك بعد أن اكتشفوا أنها كانت مبنية على أدلة مستمدة بواسطة التعذيب) فهل من المستغرب أن يطالب العديد من الناس بتحقيق ثان
في كثير من الأحيان يكون المواطنون الذين ينقبون عند هوامش الخطاب السائد لملاحقة مثل هذه النظريات هم أنفسهم الذين ينشرون الأخبار التي تتجاهلها وسائل الإعلام الرئيسية على سبيل المثال تطلب الأمر التدخل من جانب أليكس جونز وهو أحد &منظري المؤامرات& لإظهار وثائق عن استخدام تكنولوجيا الميكروويف من جانب قوات الشرطة ضد مواطنين أميركيين ولقد أكدت صحيفة نيويوركر هذه الرواية بعد وقت طويل دون نسب الفضل إلى المصدر الأصلي
أن ميل وسائل الإعلام الرئيسية إلى تجنب فحص أو نشر ما يستحق النشر بالفعل مما تتداوله شبكة الإنترنت من نظريات المؤامرة يعكس في الواقع تحيزا طبقيا إذ أن نظريات المؤامرة تُعتَبَر مبتذلة أو تافهة وعلى هذا فإن الصحافيين الرسميين من ذوي التعليم الراقي يميلون إلى تجاهل حتى التساؤلات المهمة أو البيانات ذات المصادر الجيدة التي يستخرجها المحققون المواطنون باعتبارها غير محددة المصدر
إن المشكلة الحقيقية في هذا التنظير المحموم للمؤامرات هي أنه يؤدي إلى تهييج مشاعر المواطنين ولكن بدون منحهم أساسا صلبا من الأدلة التي تمكنهم من بناء نظرتهم إلى العالم وبدون أي نوع من الإرشاد البنَاء الذي من شنه أن يسمح لهم بتوجيه مشاعرهم وهذا هو السبب الذي يجعل الكثير من خيوط المناقشة تتحول من مجرد تكهنات مسلية من جانب المواطنين إلى خطاب الكراهية وجنون العظمة وفي هذه البيئة المحمومة وفي غياب المصادقة التحريرية أو الأدوات اللازمة للتعرف على المصادر يتحول المواطنين إلى فريسة لزعماء الدهماء والغوغاء كما رأينا أثناء الأسابيع الأخيرة في إطار الاجتماعات الحاشدة التي نظمتها سارة بالين بعد أن اتهمت نظريات الإنترنت باراك أوباما بأنه إرهابي أو على صلة بالإرهابيين
لقد بات لزاما علينا أن نغير اتجاه تدفق المعلومات في عصر الإنترنت ولابد وأن نسمح للمواطنين بتسريب المعلومات وتناقل الروايات وإرسال الخيوط إلى مراسلي صحافة التحقيقات ويتعين عليهم أن ينظموا كيانات جديدة على شبكة الإنترنت حيث يدفعون رسوما في مقابل الحصول على التقارير الاستقصائية المباشرة التي لا تتدخل فيها ضغوط شركاتية ولابد من تدريب المواطنين المهتمين بالتحقيقات الصحافية على أسس الصحافة السليمة كيفية البحث عن المعلومات وتأكيد الروايات بالاستعانة بمصدرين مستقلين على الأقل واستخدام الكلام المنقول بقدر من المسؤولية وتجنب إخفاء هوية المصادر
بهذا فقط يصبح من الممكن أن يؤخذ المواطنون على محمل الجد باعتبارهم موثقين ومحققين للوضع الذي نعيشه جميعا وفي وقتنا هذا حيث صارت الغلبة للأكاذيب الرسمية فلابد وأن تحرص الطاقة الاستقصائية الصحية على تسليط الضوء وليس الاكتفاء بتوليد الحرارة
عدوى الأفكار الرديئة
نيويورك لقد تحول الركود الأعظم في عام إلى ركود في شمال الأطلسي إذ لم يغرق في النمو البطيء ومعدلات البطالة المرتفعة غير أوروبا والولايات المتحدة في الأساس وليس الأسواق الناشئة الكبرى والآن تسير أوروبا وأميركا كل على حدة وسوية إلى الفصل الختامي من كارثة كبرى فقد أدى انفجار فقاعة إلى الاستعانة بحوافز كينيزية (تتماشى مع مبادئ جون ماينارد كينز) وهي الحوافز التي نجحت في تفادي حالة أشد عمقا من الركود ولكنها عملت أيضا على تغذية عجز كبير في الموازنات وكانت الاستجابة لهذا العجز الخفض الهائل للإنفاق بمثابة الضمان لاستمرار مستويات البطالة المرتفعة إلى حد غير مقبول (إهدار هائل للموارد وقدر مروع من المعاناة) وربما لأعوام
وأخيرا ألزم الاتحاد الأوروبي نفسه بمساعدة بلدانه الأعضاء المتعثرة ولم يكن بيده أن يختار فبعد أن هددت الاضطرابات المالية بالانتشار من بلدان صغيرة مثل اليونان وأيرلندا إلى بلدان ضخمة مثل إيطاليا وأسبانيا أصبح بقاء اليورو عُرضة لخطر متزايد ولقد أدرك زعماء أوروبا أن ديون الدول المتعثرة قد ترتفع إلى مستويات لا يمكن تخيلها ما لم يتمكن الاقتصاد في تلك الدول من العودة إلى النمو وأن ذلك النمو لا يمكن تحقيقه من دون مساعدة
ولكن بعد أن وعد زعماء أوروبا بقدوم تلك المساعدة في الطريق عادوا فضاعفوا الرهان على اعتقادهم بأن البلدان غير المتعثرة لابد وأن تخفض إنفاقها أيضا ولا شك أن برامج التقشف الناجمة عن ذلك سوف تعيق نمو أوروبا وبالتالي نمو أغلب الاقتصادات المتعثرة ففي نهاية المطاف لا شيء قد يساعد اليونان أكثر من النمو القوي لدى شركائها التجاريين ومن المؤكد أن النمو المنخفض سوف يلحق الضرر بعائدات الضرائب ويقوض الهدف المعلن بضبط الأوضاع المالية
والواقع أن المناقشات التي دارت قبل الأزمة أوضحت مدى ضآلة ما تم فيما يتصل بإصلاح الأساسيات الاقتصادية وتشكل المعارضة الشديدة التي أبداها البنك المركزي الأوروبي لما يُعَد ضرورة أساسية في نظر كل الاقتصادات الرأسمالية إعادة هيكلة ديون الكيانات الفاشلة أو المفلسة دليلا على استمرار هشاشة النظام المصرفي الغربي
وقد زعم البنك المركزي الأوروبي أن دافعي الضرائب لابد وأن يتحملوا العبء الكامل عن ديون اليونان السيادية الرديئة خشية أن تؤدي أي مشاركة من جانب القطاع الخاص إلى إحداث أزمة ائتمان وهو ما قد يفرض مدفوعات ضخمة على سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان بل وربما يغذي المزيد من الاضطرابات المالية ولكن إذا كان هذا الخوف حقيقي بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي إن لم يكن يتصرف بالنيابة عن مقرضي القطاع الخاص فكان من الواجب عليه بكل تأكيد أن يطالب تلك البنوك بزيادة رؤوس أموالها
وعلى نحو مماثل كان لزاما على البنك المركزي الأوروبي أن يمنع البنوك من التعامل مع سوق سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان حيث تحتجز الآن رهينة لقرارات وكالات التصنيف حول ما يمكن أن يُعَد أزمة ائتمانية والواقع أن واحدا من الإنجازات الإيجابية التي حققها زعماء أوروبا في إطار قمة بروكسل الأخيرة كان البدء في عملية كبح جماح البنك المركزي الأوروبي وسلطات وكالات التصنيف الأميركية
والواقع أن الجانب الأكثر إثارة للفضول في موقف البنك المركزي الأوروبي كان ذلك التهديد الذي أطلقه بعدم قبول أية سندات حكومية أعيدت هيكلتها كضمان إذا قررت وكالات التصنيف أن إعادة الهيكلة لابد وأن تصنف باعتبارها حدثا ائتمانيا بيد أن المقصود من عملية إعادة الهيكلة بالكامل كان سداد الدين وتيسير إدارة ما تبقى منه وإذا كانت السندات مقبولة كضمان قبل إعادة الهيكلة فمن المؤكد أنها أصبحت أكثر أمانا بعد إعادة هيكلتها وبالتالي فهي مقبولة بنفس القدر
إن هذه الواقعة تخدم كتذكرة بأن البنوك المركزية عبارة عن مؤسسات سياسية تحمل أجندة سياسية وأن البنوك المركزية المستقلة تميل إلى الوقوع أسيرة (على الأقل إدراكيا) لدى البنوك التي يفترض أن تتولى تنظيم عملها