text
stringlengths
1
1.34k
الذهب بعشرة آلاف دولار
سان فرانسيسكو لم يكن من السهل قط أن ينخرط المرء في محادثة عقلانية حول قيمة الذهب ومؤخرا مع ارتفاع أسعار الذهب بما يزيد على في غضون الأعوام العشرة الماضية فقد أصبح الأمر أصعب من أي وقت مضى ففي شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي نشر كل من مارتن فيلدشتاين ونورييل روبيني وهما من أبرز خبراء الاقتصاد مقالا تحريريا حيث شكك كل منهما في مقاله بشجاعة في مشاعر السوق الصاعدة مشيرا بحكمة إلى المجازفات والمخاطر المحيطة بالذهب
ولكن من المؤسف أن أسعار الذهب واصلت ارتفاعها منذ نشر المقالين حتى أن أسعار الذهب سجلت رقما قياسيا بلغ دولار مؤخرا وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي كان العديد من أنصار الذهب يزعمون أن الأسعار تتجه حتما نحو دولار والآن وبتشجيع من الارتفاع المستمر في قيمة الذهب يزعم البعض أن أسعار الذهب تتجه إلى الارتفاع إلى ما هو أعلى من ذلك الرقم
ومؤخرا شرح لي أحد المستثمرين الناجحين في مجال الذهب أن أسعار الأسهم كانت هزيلة لأكثر من عشرة أعوام قبل أن يتجاوز مؤشر داو جونز علامة الألف في أوائل ثمانينيات القرن العشرين ومنذ ذلك الوقت استمر المؤشر في الصعود حتى تجاوز العشرة آلاف نقطة والآن بعد أن عبر الذهب حاجز الألف السحري فما الذي يمنعه من الارتفاع إلى عشرة أمثال
لا أحد يستطيع أن ينكر أن توقع ارتفاع أسعار الذهب إلى مستويات أعلى كثيرا من مستوياته الحالية ليس بالخيال المحض كما قد يبدو الأمر فبعد تعديل الأسعار الحالية وفقا للتضخم سوف يتبين لنا أنها لم تقترب حتى من الارتفاع القياسي الذي سجلته في يناير/كانون الثاني فآنذاك بلغ سعر الذهب دولار أي أكثر من دولار بالقيمة الحالية للدولار ولكن ما حدث في يناير/كانون الثاني كان ارتفاعا شاذاأثناء فترة اتسمت بانعدام الاستقرار السياسي الجغرافي وعند مستوى دولار فإن أسعار اليوم ربما كانت أكثر من ضعف متوسط السعر المعدل وفقا للتضخم في الأمد البعيد ما الذي قد يبرر إذن أي زيادة كبيرة أخرى في أسعار الذهب نسبة إلى مستوياتها الحالية
من بين الإجابات على هذا التساؤل بالطبع الانهيار الكامل للدولار الأميركي ففي ظل مستويات العجز التي ارتفعت إلى عنان السماء والسياسة المالية التي فقدت الدفة التي توجهها لا يملك المرء إلا أن يتساءل ما إذا كانت إحدى الإدارات الشعوبية قد تلجأ بتهور إلى طباعة أوراق النقد وإن كنتم تشعرون بالقلق إزاء هذا الاحتمال فإن الذهب قد يكون حقا وسيلة التحوط الأكثر جدارة بالثقة
لا شك أن البعض قد يزعمون أن السندات المعدلة وفقا للتضخم تشكل وسيلة أفضل وأكثر مباشرة في التحوط من التضخم مقارنة بالذهب ولكن أنصار الذهب محقون حين يعربون عن قلقهم بشأن ما إذا كانت الحكومة سوف تحترم تعهداتها في ظل ظروف أكثر شِدة وكما أشرت أنا وكارمن راينهارت في كتابنا الذي نشر مؤخرا عن تاريخ الأزمات المالية تحت عنوان هذه المرة مختلفة فإن الحكومات التي تعاني من عجز في النقود السائلة قد تلجأ قسرا في الكثير من الأحيان إلى تحويل الديون المعدلة إلى ديون غير معدلة وفقا للتضخم حتى يصبح في الإمكان خفض قيمة هذه الديون بفعل التضخم وحتى الولايات المتحدة ألغت الفقرات الخاصة بتعديل القيمة وفقا للتضخم في عقود السندات أثناء أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين أي أن هذا قد يتكرر في أي مكان
ورغم ذلك فمجرد إمكانية حدوث التضخم البالغ الارتفاع لا تجعله أمرا محتملا لذا يتعين على المرء أن يتوخى الحذر حين يزعم أن ارتفاع أسعار الذهب يرجع إلى توقعات التضخم ولقد زعم البعض بدلا من ذلك أن مسيرة الذهب الصاعدة الطولية كانت مدفوعة جزئيا بتطوير الأدوات المالية الجديدة التي تعمل على تيسير المتاجرة والمضاربة في الذهب
وقد يكون في هذه الحجة مسحة من الصدق وقد تنطوي أيضا على قدر من المفارقة فقد انهمك علماء الكيمياء في القرون الوسطى فيما نعتبره اليوم بحثا عبثيا عن السبل الكفيلة بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب أليس من قبيل المفارقة إذن أن تتمكن الخيمياء المالية من الزيادة من قيمة سبيكة من الذهب إلى مستويات بالغة الارتفاع
في اعتقادي أن الحجة الأكثر إقناعا لتبرير المستويات المرتفعة التي بلغتها أسعار الذهب اليوم تتلخص في الصعود المثير الذي حققته أسواق آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي ومع اكتساب جحافل من المستهلكين الجدد للقوة الشرائية فإن الطلب سوف يرتفع حتما الأمر الذي لابد وأن يدفع أسعار السلع الأساسية النادرة إلى الارتفاع
وفي الوقت عينه تحتاج البنوك المركزية في الأسواق الناشئة إلى تكديس الاحتياطيات من الذهب والتي لا تزال تحتفظ بها بنسب أقل كثيرا من نظيراتها لدى البنوك المركزية في البلدان الغنية ومع انخفاض جاذبية اليورو كوسيلة للتنوع بعيدا عن الدولار فمن الطبيعي أن يكتسب الذهب قدرا أعظم من الجاذبية
لذا أجل هناك أسس صلبة تدعم الارتفاع في أسعار الذهب اليوم ولو أن الأمر أكثر عُرضة للجدال فيما يتصل بما إذا كانت هذه الأسباب قد تستمر وإلى أي درجة في دعم ارتفاع الأسعار في المستقبل
وهناك في واقع الأمر عامل جوهري أكثر حسما في دعم ارتفاع أسعار الذهب وقد يتبين أن هذا العامل أكثر عُرضة للزوال من العولمة إن أسعار الذهب بالغة الحساسية لتحركات أسعار الفائدة العالمية وفي كل الأحوال فإن الذهب لا يقدم فوائد بل إن تخزينه يتكلف بعض النفقات واليوم مع اقتراب أسعار الفائدة من مستويات قياسية في الانخفاض في العديد من البلدان فقد بات من الأرخص نسبيا أن نضارب في الذهب بدلا من الاستثمار في السندات ولكن إذا ارتفعت أسعار الفائدة الحقيقية بشكل كبير كما قد يحدث في المستقبل فإن أسعار الذهب قد تسجل هبوطا حادا
إن أغلب البحوث الاقتصادية تشير إلى التكهن بأسعار الذهب أمر بالغ الصعوبة في الأمدين القصير والمتوسط مع توازن احتمالات المكسب والخسارة تقريبا وعلى هذا من الخطورة بمكان أن نحاول استقراء أسعار المستقبل استنادا إلى الاتجاهات القصيرة الأمد صحيح أن أداء الذهب كان جيدا للغاية في السنوات الأخيرة ولكن هذه كانت أيضا حال أسعار الإسكان في مختلف أنحاء العالم حتى بضعة أعوام فقط
وإذا كنت أحد كبار المستثمرين أو دولة ذات صندوق ثروة سيادية أو بنكا مركزيا فمن المنطقي إلى أبعد الحدود أن تحتفظ بحصة متواضعة من محفظتك الاستثمارية بالذهب كوسيلة للتحوط ضد الأحداث العصيبة ولكن على الرغم من الجاذبية الكبيرة التي يتمتع بها الذهب الآن في أعقاب ذلك الارتفاع غير العادي الذي سجلته أسعاره فإنه يظل يشكل رهانا محفوفا بالمخاطر بالنسبة لأغلبنا
لا شك أن مثل هذه الاعتبارات قد تكون ذات تأثير طفيف على الأسعار فما صدق بالنسبة للكيميائيين في الماضي لا يزال صادقا حتى اليوم فالتوفيق بين الذهب والمنطق قد يكون أمرا بالغ الصعوبة في كثير من الأحيان
أم
باريس مع تعمق الأزمة الاقتصادية وتوسعها كان العالم يبحث عن قياسات تاريخية تساعدنا في فهم ما حدث ففي بداية الأزمة ربط العديد من الناس بين الأزمة الحالية وأزمة أو أزمة وهو ما كان مطمئنا وذلك لأن كلا من التاريخين يشير إلى انحدار دوري تقليدي
أما اليوم فقد أصبح المزاج أشد كآبة حيث بدأت الإشارات إلى العامين و في التكاثر حتى ولو أن بعض الحكومات ما زالت تتصرف وكأن الأزمة تقليدية أكثر منها استثنائية وفي هذا السياق تميل الحكومات إما إلى الإفراط في فرض القيود (كما هي الحال في أوروبا) أو إلى تشتت الجهود (كما هي الحال في الولايات المتحدة) إن أوروبا تلتزم الحذر سعيا إلى تجنب الديون ودفاعا عن اليورو بينما تحركت الولايات المتحدة على العديد من الجبهات حتى لا تهدر فرصة مثالية لتنفيذ الإصلاحات البنيوية اللازمة بشِدة
ولكن من وجهة نظر المتخصصين في الاستراتيجية الجغرافية فإن العام الأقرب إلى الذهن سواء فيما يتصل بالوضع السياسي أو الاقتصادي هو لا شك أن سقوط ليمان براذرز لا يمت بصلة من بعيد أو قريب إلى سقوط سور برلين بل إن الأمر على السطح قد يبدو وكأن الحدثين على طرفي النقيض انهيار جدار يرمز إلى القمع والانقسامات المصطنعة في مقابل انهيار مؤسسة رأسمالية كانت تبدو غير قابلة للتدمير إلى حد يبعث على الاطمئنان الشديد
ولكن الفترة مثلها كمثل عام قد تتزامن مع تغير تاريخي وهو التغير الذي سوف نشعر بآثاره المتكشفة لعقود من الزمان إن نهاية الانقسام الإيديولوجي بين الشرق والغرب ونهاية الثقة المطلقة في الأسواق يشكلان نقطتي تحول تاريخيتين وما يحدث الآن في عام قد يعرض للخطر بعض النتائج الإيجابية التي انتهى إليها عام بما في ذلك إعادة التوحيد السلمي لأوروبا وانتصار المبادئ الديمقراطية على النزعات القومية وكراهية الأجانب
في عام انتصرت الديمقراطية على الإيديولوجية الاشتراكية التي تجسدت في الكتلة السوفييتية ويرى العديد من أنصار الرئيس رونالد ريغان أنه كان السبب بحرصه المتعمد على تصعيد سباق التسلح في دفع الاتحاد السوفييتي إلى حافة الهاوية فأظهر بالتالي تفوق المجتمعات الليبرالية والأسواق الحرة
بطبيعة الحال هناك اختلافات واضحة بين والآن أولا وربما في المقام الأول من الأهمية إن الثورات التي شهدها عام وما تلاها من انهيار الاتحاد السوفييتي كانت سببا في وضع حد للثنائية القطبية العالمية أما عام في المقابل فمن المرجح أن يمهد الطريق أمام شكل جديد من أشكال الثنائية القطبية ولكن مع حلول الصين في محل الاتحاد السوفييتي
ثانيا رغم ما بدا من انتصار واضح للديمقراطية ورأسمالية السوق في عام ولو أن ذلك النصر كان أكثر هشاشة مما توقعنا إلا أنه من الصعب في عام وفي ظل انتشار الأزمة العالمية أن نميز بين الفائزين والخاسرين بل يبدو الأمر وكأن الجميع خاسرون وإن كانت خسارة البعض أعظم من خسارة غيرهم
بيد أن التاريخ ظالم فالولايات المتحدة رغم المسؤولية الكبرى التي تتحملها عن الأزمة التي يعيشها العالم اليوم قد تخرج في النهاية من هذا المستنقع وهي في حال أفضل من أغلب بلدان العالم سوف تخرج الولايات المتحدة في هيئة أفضل ولكنها لن تكون وحدها وباعتباري أستاذا زائرا بجامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فأنا أرى صورة واضحة لما قد يبدو عليه العالم حين تمر هذه الأزمة أخيرا
الحقيقة أنني لأستشعر شيئا أشبه بعالم خاضع لهيمنة أميركية آسيوية فمِن مختبر الوسائط المتعددة المذهل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أقسام الرياضيات والاقتصاد في هارفارد سوف نجد الآسيويين في كل مكان من الصين والهند بصورة خاصة كما كانت حال الرومان في أثينا في القرن الأول قبل الميلاد الذين أظهروا إعجابهم الشديد بهؤلاء الذين تعلموا منهم الكثير والذين تغلبوا عليهم في العقود التالية
ولكن قبل أن يظهر هذا النظام الجديد فقد يواجه العالم خللا كبيرا في نظامه إن لم يكن الفوضى الكاملة فماذا قد يحدث على سبيل المثال لدولة مركزية وضعيفة مثل مصر حين يضطر مئات الآلاف من المصريين العاملين في بلدان الخليج إلى العودة إلى موطنهم نتيجة للأزمة في البلدان المنتجة للنفط حين يقل ثراء الأغنياء فإن الفقراء يزدادون فقرا على فقر وماذا عن العمال الأجانب الذين هاجروا من أجل تحقيق الحلم الأوروبي والذين وجدوا أنفسهم الآن في مواجهة احتمالات انفجار نوبات من مشاعر كراهية الأجانب في البلدان الأوروبية التي كنا نفترض أنها منفتحة
لقد تبين الآن أن العواقب التي ترتبت على أحداث عام كانت أقل ثباتا ودواما مما تصور العديد من المراقبين وأنا منهم ولا نملك الآن إلا أن نرجو أن تكون العواقب المترتبة على أحداث عام أقل مأساوية من تصوراتنا لها الآن سواء بالاستعانة بحدسنا أو بالقياس على ردود الفعل المنعكسة في التاريخ
نهاية
نيويورك في الثامن من مايو/أيار من عام عندما انتهت الحرب العالمية الثانية في أوروبا رسميا كان قسم كبير من العالم قد تحول إلى خرائب ولكن إذا كانت قدرة الإنسان على إحداث الدمار بلا حدود فإن قدرته على البدء من جديد لا تقل إبهارا ولعل هذا هو السبب وراء قدرة البشرية على الاستمرار حتى الآن
لا شك أن الملايين من الناس في نهاية الحرب كانوا جوعى ومنهكين إلى الحد الذي جعلهم عاجزين عن القيام بأي شيء غير البقاء على قيد الحياة ولكن في الوقت نفسه اجتاحت موجة من المثالية ذلك الحطام والتي تمثلت في شعور بالعزم على بناء عالم أكثر عدلا وسلاما وأمانا
ولهذا السبب صَوت البريطانيون لإخراج بطل الحرب العظيم ونستون تشرشل من منصبه في صيف عام حتى قبل أن تستسلم اليابان فلم يخاطر الرجال والنساء بحياتهم لكي يعودوا ببساطة إلى الأيام الخوالي من الامتيازات الطبقية والحرمان الاجتماعي بل كانوا يريدون مساكن أفضل وتعليما أفضل ورعاية صحية مجانية للجميع
وفي مختلف أنحاء أوروبا انطلقت مطالب مماثلة حيث كانت المقاومة المناهضة للنازية والمناهضة للفاشية غالبا تحت قيادة يساريين أو شيوعيين في واقع الأمر وكثيرا ما كان المحافظون قبل الحرب ملوثين بالتعاون مع الأنظمة الفاشية وكان هناك حديث عن الثورة في بلدان مثل فرنسا وإيطاليا واليونان ولكن هذا لم يحدث لأنه لا الحلفاء الغربيين ولا الاتحاد السوفييتي أيدوها فكان ستالين راضيا بالاكتفاء بإمبراطورية في أوروبا الشرقية
ولكن حتى شارل ديجول زعيم المقاومة من جناح اليمين اضطر إلى قبول الشيوعيين في أو حكومة شكلها بعد الحرب ووافق على تأميم الصناعات والبنوك وفي مختلف أنحاء أوروبا الغربية حدث التحول نحو اليسار إلى دول الرفاهة الاجتماعية الديمقراطية وكان ذلك جزءا من إجماع
وكان نوع آخر من الثورات يجري في مستعمرات أوروبا السابقة في آسيا فلم تكن الشعوب الأصلية هناك راغبة في الخضوع مرة أخرى لحكم القوى الغربية والتي لحقت بها هزيمة مخزية على يد اليابان وكانت الشعوب في فيتنام وإندونيسيا والفلبين وبورما والهند وشبه جزيرة الملايو أيضا يريدون حريتهم
وكثيرا ما أُعرِب عن هذه التطلعات في الأمم المتحدة التي تأسست في عام وكانت الأمم المتحدة أيضا مثلها في ذلك كمثل حلم الوحدة الأوروبية جزءا من إجماع ولفترة قصيرة كان العديد من الشخصيات البارزة ألبرت أينشتاين على سبيل المثال يعتقدون أن الحكومة العالمية وحدها القادرة على ضمان السلام العالمي
ولكن سرعان ما تلاشى هذا الحلم عندما تسببت الحرب الباردة في تقسيم العالم إلى كتلتين متخاصمتين ولكن بشكل أو آخر تعزز إجماع في الغرب بفِعل سياسات الحرب الباردة فالشيوعية التي ظلت حتى ذلك الوقت ترفع شعار معاداة الفاشية كانت تتمتع بجاذبية فكرية وعاطفية واسعة النطاق ليس فقط في ما يسمى العالم الثالث بل وأيضا أوروبا الغربية وقد خدمت الديمقراطية الاجتماعية بوعدها بقدر أكبر من المساواة والفرص للجميع كترياق إيديولوجي وكان أغلب الديمقراطيين الاجتماعيين من أشد المناهضين للشيوعية في حقيقة الأمر
واليوم بعد مرور سبعين عاما لم يعد الكثير من إجماع باقيا وقِلة من الناس يمكنهم حشد قدر كبير من الحماس للأمم المتحدة وأصبح الحلم الأوروبي في أزمة ويزداد تآكل دولة الرفاهة الديمقراطية الاجتماعية التي ظهرت بعد الحرب يوما بعد يوم
ثم بدأ الفساد خلال ثمانينيات القرن العشرين في عهد رونالد ريجان ومارجريت تاتشر فقد هاجم الليبراليون الجدد الإنفاق على برامج الاستحقاق الاجتماعي والمصالح الخاصة التابعة للنقابات العمالية وكان من المتصور أن المواطنين لابد أن يصبحوا أكثر اعتمادا على أنفسهم فبرامج الرعاية الاجتماعية الحكومية كانت تجعل الجميع عالة على المجتمع وبعبارة تاتشر الشهيرة فلم يكن هناك شيء يسمى المجتمع بل هناك فقط أسر وأفراد لابد أن يرعوا أنفسهم بأنفسهم
ولكن إجماع تلقى ضربة أقوى كثيرا وكان ذلك على وجه التحديد عندما ابتهجنا جميعا بانهيار الإمبراطورية السوفييتية الطاغية العظمى الأخرى في القرن العشرين ففي عام بدا الأمر وكأن الإرث المظلم الذي خلفته الحرب العالمية الثانية واستعباد أوروبا الشرقية انتهى أخيرا وعلى أكثر من نحو كان ذلك صحيحا ولكن صروح أخرى كثيرة انهارت مع النموذج السوفييتي فقد خسرت الديمقراطية الاجتماعية سبب وجودها كترياق مضاد للشيوعية وأصبحت كافة أشكال الإيديولوجية اليسارية بل كل ما يشتم منه رائحة المثالية الجماعية تبدو وكأنها نزعة مضللة إلى اليوتوبيا التي لا تقود إلا إلى معسكرات العمل
وملأت الليبرالية الجديدة الفراغ فخلقت ثروة هائلة لبعض الناس ولكن على حساب مبدأ المساواة الذي نشأ عن الحرب العالمية الثانية والواقع أن الاستقبال غير العادي لكتاب توماس بيكيتي رأس المالي في القرن الحادي والعشرين يُظهِر إلى أي مدى كانت العواقب التي ترتبت على انهيار اليسار محسوسة
وفي السنوات الأخيرة ظهرت إيديولوجيات أخرى أيضا لسد الحاجة البشرية إلى المثل الجماعية ويعكس صعود الشعبوية اليمينية تجدد الحنين إلى المجتمعات الوطنية الخالصة التي ترفض المهاجرين والأقليات وبشكل معاكس عمل المحافظون الجدد الأميركيون على تحويل أممية اليسار القديم من خلال السعي إلى فرض نظام عالمي ديمقراطي بواسطة القوة العسكرية الأميركية
الواقع أن الاستجابة لهذه التطورات المزعجة ليست الحنين إلى الماضي فلا يمكننا أن نعود إلى الماضي ببساطة فقد تغير الكثير ولكن هناك حاجة ماسة إلى طموح جديد نحو المساواة الاجتماعية والاقتصادية والتضامن الدولي والعودة إلى إجماع أمر غير ممكن ولكننا نحسن صُنعا في إحيائنا لهذه الذكرى إذا تذكرنا لماذا تشكل ذلك الإجماع في المقام الأول
ما الذي أخفق في عام
بيركلي لحل أي مشكلة لا يكفي أن تعرف ماذا ينبغي لك أن تفعل بل يتعين عليك أن تنفذ الحل وأن تكون على استعداد لتغيير المسار إذا تبين لك أن ما تعرفه ليس كثيرا بالقدر الذي كنت تتصوره هذه هي الرسالة التي يبثها كتابان حديثان والتي تنبئنا بكل شيء نحتاج إلى معرفته عن أزمة المالية ما الأسباب التي أدت إلى اندلاعها وماذا نستطيع أن نفعل لمنع تكرارها ولماذا لم نفعل أي شيء حتى الآن
الكتاب الأول بعنوان التحولات والصدمات من تأليف الصحافي البريطاني المحافظ مارتن وولف الذي يبدأ بفهرسة التحولات الكبرى التي مهدت الساحة للكارثة الاقتصادية التي لا تزال تشكل العالم اليوم وتتلخص نقطة البداية التي انطلق منها في الارتفاع الكبير في الثروة بين أكثر وأكثر بيننا ثراء والضغوط المترتبة على ذلك والتي دفعت الناس والحكومات والشركات إلى تحمل مستويات لا تطاق من الديون
ومن ناحية أخرى استسلم صناع السياسات لإغراء الشعور بالرضا عن الذات بفِعل القبول الواسع النطاق لنظريات اقتصادية مثل فرضية كفاءة الأسواق التي تفترض أن المستثمرين يتصرفون بعقلانية ويستخدمون كل المعلومات المتاحة عند اتخاذ القرارات ونتيجة لهذا تم تحرير الأسواق من القيود التنظيمية الأمر الذي أدى إلى تيسير تداول الأصول التي كان من المتصور أنها آمنة ولكنها في واقع الأمر لم تكن كذلك ونتيجة لهذا تكاثرت المخاطر الجهازية بما يتجاوز حدود أكثر خيالات محافظي البنوك المركزية جموحا
ثم تسببت هذه الافتراضات غير المختبرة وغير الصحيحة في نهاية المطاف في خلق بيئة لصنع السياسات يحدد معالمها ما لا يمكن تسميته إلا الغطرسة فقد استخف المسؤولون بالمخاطر النادرة الحدوث وحددوا هدف التضخم بنحو الأمر الذي لم يترك مجالا كبيرا للمناورة عندما تعقدت الأمور وكان الأمر الأكثر تهورا على الإطلاق عندما قدم الاتحاد الأوروبي اليورو كعملة مشتركة
الواقع أن عملية صنع السياسات الخاطئة استمرت لفترة طويلة بعد اندلاع الأزمة واستجاب الساسة للظروف الاقتصادية المتزايدة السوء بالتمسك قدر الإمكان بوصفات فاشلة وكانوا حريصين على عدم القيام بأي شيء لا يشكل ضرورة قصوى لمعالجة الكارثة الاقتصادية الأكبر على الإطلاق منذ أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين
وكانت وصفة وولف لمواجهة الأزمة بسيطة وذكية ومنيعة ففي الأمد القريب اقترح أن تزيد البلدان ذات الاحتياطي من العملات من إنفاقها (وخاصة لتمويل استثمارات القطاع العام) وأن تصدر المزيد من الديون وزعم أن البنوك المركزية في هذه البلدان لابد أن ترفع هدف التضخم إلى أو حتى سنويا
وفي الأمد المتوسط تحتاج البلدان وفقا لوصفة وولف إلى اتخاذ تدابير تنظيمية تعمل على خفض مستويات الدين وتثبيت الاستدانة المفرطة ويتعين على منطقة اليورو أيضا أن تحل تناقضاتها الداخلية إما بحل نفسها أو تقديم الحد الأدنى من المؤسسات والسياسات الكفيلة بالسماح للاتحاد النقدي بالعمل على النحو اللائق وتتضمن حلول وولف للأمد البعيد معالجة التفاوت وتنظيمات أكثر عالمية ودرجة أكبر من الحرية للبلدان الفردية تسمح لها بصياغة استجاباتها بنفسها والتحليل الاقتصادي الأقل خضوعا لأنصار السوق الحرة التي ساقتنا إلى الأزمة في المقام الأول
ولكن بقدر ما قد تكون مقترحات وولف مستحبة فلم يحدث إلا أقل القليل لتنفيذها وبوسعنا أن نجد السبب وراء هذا في الكتاب الثاني قاعة المرايا والذي ألفه صديقي المعلم باري آيكنجرين
يتتبع آيكنجرين استجابتنا الفاترة للأزمة إلى انتصار الاقتصاديين النقديين تلامذة ميلتون فريدمان على أنصار جون ماينارد كينز وأقران مينسكي على الأقل عندما يتعلق الأمر بتفسير أسباب وعواقب أزمة الكساد الأعظم فعندما اندلعت الأزمة المالية في عام حاول صناع السياسات تطبيق الحلول التي اقترحها فريدمان لمواجهة الكساد الأعظم وللأسف تبين أن ذلك كان خطأ كبيرا تماما كما كان التفسير النقدي للكساد الأعظم خاطئا في نواحي كثيرة ومنقوصا بشكل جذري
وكانت السياسات الناتجة كافية لمنع ركود ما بعد عام من التطور إلى كساد تام النضج ولكن تبين أن ذلك النجاح الجزئي كان باهظ الثمن لأنه سمح للساسة بإعلان التغلب على الأزمة وأن الوقت حان لتبني التقشف والتركيز على الإصلاح البنيوي وكانت النتيجة اقتصاد اليوم الراكد والذي يتسم بالنمو الهزيل الذي يهدد بالتحول إلى الوضع المعتاد الجديد والآن أصبحت الولايات المتحدة وأوروبا على المسار إلى إهدار من ثرواتهما المحتملة في حين أصبح الاقتصاد العالمي بفضل الفشل في تعزيز تنظيم القطاع المالي عُرضة لخطر الانزلاق إلى أزمة كبرى أخرى
لعل وولف وآيكنجرين يتفقان على أن أوجه القصور الرئيسية التي أدت إلى الأزمة المالية في والتي لا تزال تشكل استجابتنا غير الكافية لها فكرية في الأساس وفي واقع الأمر يبدو أن الدرس الحقيقي الوحيد المستفاد من الأزمة حتى الآن هو أننا لن نتعلم دروسها حقا أبدا
أنا وملحمة الأوديسة الفضائية
موسكو إن أغلب من سمعوا عني يفكرون في باعتباري خبيرة في تكنولوجيا المعلومات وربما يتصورون أنني أعيش في كاليفورنيا وأستثمر أموالي في مشاريع الإنترنت المتطورة الناشئة والواقع أن محل إقامتي الرسمي في نيويورك ولكنني على وشك تمضية أغلب الأشهر الخمسة القادمة في روسيا كرائدة فضاء متدربة في على أطراف مدينة موسكو
ولقد تسنى الأمر برمته بعدة سبل أولا وقبل كل شيء في طفولتي كنت أفترض كأمر مسلم به أنني سوف أسافر إلى القمر ذات يوم دون أن أضطر إلى القيام بجهد خاص لتحقيق هذه الغاية وكنت موقنة بأنني حين أبلغ من العمر فلنقل أربعين عاما فسوف يكون السفر إلى الفضاء أمرا شائعا وكان والدي من المشاركين في برنامج الولايات المتحدة لاستكشاف الفضاء وكان لدينا بالبيت حجارة من القمر لذا فقد تصورت أن الأمر لن يكون صعبا أو معقدا بأي حال
ثم شغلتني أمور حياتي حوالي أربعين عاما ولكن منذ بضعة أعوام بدأت في تحويل انتباهي إلى الفضاء من جديد وكانت هذه حال العديد من الناس الذين تعرفت عليهم من خلال عملي في صناعة تكنولوجيا المعلومات إيلون ماسك أحد المشاركين في تأسيس شركة والذي أسس مشروع و جيف بيزوس صاحب شركة أمازون الذي أسس شركة لصناعة مركبات الفضاء تحت اسم و جيف غريسون أحد كبار مديري شركة إنتل الذي أنشأ مشروع (وأنا أحد المستثمرين فيه) وفي العام وهو العام الأخير الذي أقمت فيه منتدى الحاسب الشخصي لرجال الأعمال المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات أسست مؤتمرا تحت اسم مدرسة الطيران لرجال الأعمال المتخصصين في مشاريع استكشاف الفضاء والطيران الخاص
في غضون ذلك في العام كنت في جنوب أفريقيا بصحبة مجموعة صغيرة حيث عملنا كمستشارين للرئيس السابق ثابو مبيكي وحكومته فيما يتصل بسياسة تكنولوجيا المعلومات هناك وكان مارك شتلوورث مؤسس شركة (التي بيعت لشركة ) والذي كان قد عاد مؤخرا من رحلة إلى المحطة الفضائية كثاني سائح فضاء من بين أفراد مجموعتنا
في إحدى الأمسيات جلس أفراد المجموعة حول نار أحد المعسكرات في الخلاء عند غروب الشمس ثم انضمت إلينا مجموعة مؤلفة من خمسين طفلا من تلاميذ المدارس كان مجموعنا مائة شخص بما فينا الرئيس مبيكي نجلس حول نار المعسكر المستعرة وبمجرد حلول الظلام نصب بعض العاملين شاشة عرض حيث أرانا مارك بعض مقاطع الفيديو التي صورها في الفضاء ثم ألقى علينا حديثا شيقا عن مغامراته فضلا عن مقاطع فيديو تصوره وهو يسبح في الفضاء ويلتقط الفقاقيع من الفضاء بفمه وما إلى ذلك ولقد أحب الأطفال ذلك كثيرا وأنا على ثقة من أنهم قرروا بعد ذلك أن يتجهوا نحو دراسة الرياضيات والعلوم
وأخيرا استثمرت في شركة وهي الشركة التي نظمت رحلة شتلوورث إلى الفضاء وفي وقت لاحق ذهبت في جولة نظمتها الشركة لمشاهدة انطلاق تشارلز سيموني سائح الفضاء الخامس (ثم السابع قريبا) إلى الفضاء من بايكونور في كازاخستان ( سيموني هو مبتكر برنامج ميكروسوفت وورد والآن لديه مشروع دولي جديد للبرامج علاوة على مؤسسة وموقع على شبكة الإنترنت )
وسرعان ما بدأت مناقشاتي العَرَضية حول فكرة العمل كرائدة فضاء احتياطية لدى فريق لا شك أنني أتمنى لو أسافر إلى الفضاء بالفعل ولكن الرحلة إلى الفضاء تتكلف ما بين إلى مليون دولار بينما يتكلف التدريب كرائد فضاء احتياطي ثلاثة ملايين فقط
وعلى هذا فقد تملكتني أفكار غير واضحة حول احتمالات سفري إلى الفضاء في وقت ما من العام العام الذي من المقرر مبدئيا أن يسافر فيه سيرجي برين إلى الفضاء وكانت تتحدث بجدية عن العام ألا أنني كنت مشغولة للغاية
ثم حدث أمر ما في الربيع الماضي فقد اكتشفت شقيقتي إميلي أنها مصابة بالسرطان ثم أجريت لها جراحة استئصال مزدوجة للثديين (وهي الآن على خير ما يرام بل لقد فازت بسباق ماراثون مصغر) وبعد بضعة أسابيع وجدت نفسي في مواجهة صراع عجيب اجتماع مجلس إدارة هنا ومؤتمر هناك وفرصة أخرى في نفس الوقت في مكان آخر قلت لنفسي يا للهول لو أجريت لي عملية استئصال للثديين لكنت قد ألغيت بعض هذه الارتباطات وما كان أحد ليتذمر
يا للعجب لقد أدركت أن أولوياتي كلها كانت في حاجة إلى إعادة تنظيم لذا فعلى نحو عجيب بعض الشيء كانت إجازتي في روسيا بديلا لاستئصال الثديين وهو بديل إيجابي بكل تأكيد ولكنه كان بالنسبة لي بمثابة الضغط على مفتاح إعادة التشغيل
إن هذه التجربة تشكل أيضا الإجابة على مسألة أخرى أتعرض إليها كثيرا نظرا لعملي في مجال هندسة الوراثة البشرية من خلال مؤسسة ( ) ومشروع الجينوم الشخصي ( ) إذا ما علمت أن احتمالات إصابتك بمرض إلزاهايمر في غضون بضع سنوات سوف تكون مرتفعة فماذا قد تفعل إجابتي هي أنني قد أذهب للتدرب كرائدة فضاء بكل تأكيد وما الذي يدفعني إلى الانتظار حتى أكتشف أنني قد أصاب بمرض إلزاهايمر في الشهر المقبل سوف أكتب لكم عن التدريبات التي لابد وأن يخوضها المرء حتى يتسنى له الذهاب في رحلة إلى الفضاء
الحادي عشر من سبتمبر والطغيان الجديد
بعد مرور خمسة أعوام منذ الهجوم الذي نال من برجي نيويورك ومبنى وزارة الدفاع في واشنطن لم يعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول مجرد تاريخ فلقد دخل ذلك الحدث إلى كتب التاريخ باعتباره بداية لشيء جديد ربما عصر جديد إلا أن ذلك التاريخ كان في كل الأحوال وقتا للتغيير ولسوف نتذكر أيضا الهجمات التي استهدفت مدريد ولندن وأماكن أخرى من العالم إلا أن الحادي عشر من سبتمبر/أيلول هو التاريخ الذي تحول إلى شعار يكاد يشبه شعار &أغسطس/آب &
ولكن أكانت حربا حقا تلك التي بدأت في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الحقيقة أننا لا نستطيع أن نقول إن الجميع راضون عن الرؤية الأميركية لذلك الحدث ففي أوج الإرهاب الأيرلندي في المملكة المتحدة أرغمت الحكومات البريطانية المتعاقبة نفسها على الامتناع عن الإيعاز للجيش الجمهوري الأيرلندي بفكرة الدخول معه في حرب ذلك أن استخدام تعبير &الحرب& كان قد يعني قبول الإرهابيين كأعداء مشروعين بل وأنداد في صراع دموي يشتمل على قواعد مقبولة للالتحام
إن هذا ليس بالوصف الصحيح ولا المصطلح الذي يتناسب مع أفعال الإرهابيين التي نستطيع أن نصفها على نحو أكثر دقة بأنها إجرامية والحقيقة أن حكومة الولايات المتحدة بوصفها لأفعال الإرهابيين بالحرب وتسمية الخصم وهو عادة تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن تكون بذلك قد بررت التغييرات التي فرضتها والتي ما كانت لتنال القبول في أي بلد حر قبل وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول
تجسدت كل تلك التغييرات فيما أطلق عليه &القانون الوطني&
( ) وعلى الرغم أن بعض التغييرات اقتصرت ببساطة على تنظيمات إدارية إلا أن التأثير الإجمالي للقانون الوطني يتلخص في تآكل الأعمدة العظيمة التي تقوم عليها الحرية مثل حق اللجوء إلى محكمة مستقلة إذا ما حرمت الدولة أحد الأفراد من حريته على نحو أو آخر ومنذ وقت مبكر أصبح معسكر اعتقال جوانتانامو في خليج كوبا رمزا لشيء لم يسمع به أحد من قبل الاعتقال دون محاكمة لِ&مقاتلين غير مشروعين& وحرمانهم من كافة الحقوق المكفولة للإنسان
ويتساءل العالم اليوم كم من هؤلاء &البشر غير الآدميين& تحتجزهم السجون وكم عدد هذه السجون لقد أعلنت حكومة الولايات المتحدة حالة الطوارئ بالنسبة لكل شخص غير هؤلاء &البشر غير الآدميين& الأمر الذي سمح للدولة بالتدخل في الحقوق المدنية الأساسية وأصبحت الإجراءات الأمنية على الحدود تشكل محنة بالنسبة للعديد من الناس وبات الاضطهاد من قِبَل الشرطة يمثل عبئا ثقيلا بالنسبة لعدد غير قليل من الناس لقد خيم جو من الخوف على كل من يبدو مريبا أو يتصرف على نحو مريب وحول حياته إلى جحيم لا يطاق ويصدق ذلك بصورة خاصة على المسلمين
الحقيقة أن هذه القيود التي كبلت الحرية لم تلق قدرا كبيرا من الاعتراض من جانب عامة الناس حين تبنتها الحكومة بل إن ما حدث هو أن المنتقدين لهذه الإجراءات وليس مؤيديها هم الذين وجدوا أنفسهم في متاعب جمة وفي بريطانيا حيث أيد رئيس الوزراء توني بلير موقف الولايات المتحدة تمام التأييد اقترحت الحكومة تطبيق إجراءات مماثلة بل إنها تبرعت بتقديم نظرية جديدة فقد كان بلير أول من يزعم أن الأمن يشكل الحرية الأولى أو بعبارة أخرى الحرية ليست حقا للأفراد يعرفون به حياتهم بل إنها حق للدولة في تقييد حريات الأفراد باسم الأمن الذي لا تملك أية جهة غير الدولة تعريفه والحقيقة أن هذا يشكل بداية لنوع جديد من الاستبداد والحكم الشمولي
إن هذه المشكلة قائمة في كل البلدان التي تأثرت بتهديد الإرهاب إلا أنها في العديد من تلك البلدان لم تتحول إلى صفة مميزة على هذا النحو ففي أغلب بلدان قارة أوروبا ظل الحادي عشر من سبتمبر/أيلول يشكل مجرد تاريخ وهناك تدور المناقشات بل وهناك بعض الأدلة في الواقع التي تؤكد أن الاشتراك في &الحرب ضد الإرهاب& قد أدى إلى تفاقم التهديد المتمثل في احتمالات وقوع أعمال إرهابية في أي وقت ومن المؤكد أن الألمان يستخدمون هذه الحجة بهدف الابتعاد عن الأحداث كلما كان ذلك ممكنا
لكن هذا الموقف لم يمنع انتشار المخاوف والقلق فالناس يشعرون بعدم الارتياح والاضطراب وبصورة خاصة في حالة سفرهم والآن بات تعرض أي قطار لحادث أو سقوط أي طائرة يستحضر الشكوك والاشتباه في كون ذلك الحادث عملا إرهابيا
من هنا نستطيع أن نقول إن الحادي عشر من سبتمبر/أيلول كان يعني بصورة مباشرة أو غير مباشرة صدمة كبرى سواء على الصعيد النفسي أو على مستوى الأنظمة السياسية وعلى الرغم من محاربة الإرهاب باسم الديمقراطية إلا أن هذه الحرب قد أدت في واقع الأمر إلى إضعاف الديمقراطية بصورة واضحة بسبب التشريعات الرسمية والمخاوف الشعبية إن أحد المظاهر المزعجة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول يتلخص في صعوبة إدراك الأهداف الحقيقية لهذه الهجمات والتي تتجاوز الاستياء من الغرب وأساليبه إلا أن الضرر الذي تعرضت له المظاهر الأساسية التي تميز الغرب مثل الديمقراطية وحكم القانون على يد المدافعين عنها تفوق الضرر الذي ألحقه بها مهاجموها
ثمة خطوتان مطلوبتان في المقام الأول لاسترداد الثقة في الحرية في ظل الأنظمة الديمقراطية التي تأثرت بما خلفته هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من إرث مروع فيتعين علينا أولا أن نتأكد أن التشريعات المقصود بها مواجهة تحدي الإرهاب مؤقتة والحقيقة أن بعض القيود المفروضة اليوم على الحريات المدنية تشتمل على فقرات تحدد سريان العمل بها ولابد من إعادة فحص هذه القواعد من قِبَل البرلمان بصورة منتظمة
ثانيا وفي المقام الأول من الأهمية لابد وأن يحرص زعماؤنا على تهدئة المخاوف الشعبية وليس استغلالها إن الإرهابيين الذين نخوض الآن &حربا& ضدهم لن يكتب لهم النصر أبدا وذلك لأن رؤيتهم القاتمة للعالم لن تحظى بشرعية شعبية واسعة النطاق وهذا بالتحديد هو السبب اذي لابد وأن يجعل أنصار الديمقراطية أكثر حرصا على الدفاع عن قيمنا بالعمل وفقا لهذه القيم أولا وأخيرا
الحادي عشر من سبتمبر وأبعاده النسبية الحقيقية
نيويورك قبل عشرة أعوام نجح تسعة عشر إرهابيا في السيطرة على أربع طائرات فقادوا اثنتين منها ليصطدما ببرجي مركز التجارة العالمي وضربوا وزارة الدفاع الأميركية بالثالثة وسقطوا بالرابعة في حقل زراعي في بنسلفانيا بعد أن قاومهم الركاب وبات من المستحيل بالنسبة للإرهابيين يتموا مهمتهم الحاقدة في غضون ساعات انتزعت فجأة حياة ثلاثة آلاف شخص بريء أغلبهم من الأميركيين ولكن منهم أيضا أشخاصا من دولة أخرى
كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من عام مأساة بكل المقاييس ولكنها لم تكن نقطة تحول تاريخية فهي لم تبشر بقدوم عصر جديد من العلاقات الدولية حيث الغَلَبة لإرهابيين ينفذون أجندة عالمية أو حيث تتحول مثل هذه الهجمات الإرهابية البشعة إلى حدث مألوف أو شائع بل إن ما حدث هو العكس تماما إذ أن يوم الحادي عشر من سبتمبر لم يتكرر وعلى الرغم من الاهتمام المكرس لالحرب العالمية ضد الإرهاب فإن أغلب التطورات المهمة على مدى الأعوام العشرة الماضية كانت تقديم وانتشار تكنولوجيا المعلومات المبدعة والعولمة والحرب في العراق وأفغانستان والاضطرابات السياسية في الشرق الأوسط
أما عن المستقبل فمن الأرجح إلى حد كبير أن يحدد من خلال احتياج الولايات المتحدة إلى إعادة تنظيم بيتها الاقتصادي ومسار الصين داخل وخارج حدودها وقدرة حكومات العالم على التعاون من أجل استعادة النمو الاقتصادي ومنع انتشار الأسلحة النووية والتصدي للتحديات المرتبطة بالطاقة والتحديات البيئية
والواقع أن الخطأ كل الخطأ أن نجعل مقاومة الإرهاب الشغل الشاغل للحكومات المسؤولة والمحور لكل ما تفعله فلا يزال الإرهابيون يمثلون عنصرا شاذا ويتمتعون بقدر محدود من الجاذبية في أفضل الأحوال فهم قادرون على التدمير ولكن ليس الإبداع ومن الجدير بالذكر أن المتظاهرين الذين نزلوا إلى شوارع القاهرة ودمشق للمطالبة بالتغيير لم يصرخوا بشعارات تنظيم القاعدة ولم يدعموا أجندته
ولقد اتخذ فضلا عن ذلك عدد من التدابير الناجحة لدحر الإرهابيين فقد أعيد توجيه الأصول الاستخباراتية وأصبحت الحدود أكثر أمانا والمجتمعات أكثر مرونة وقدرة على المقاومة كما زاد التعاون الدولي بصورة ملحوظة ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الحكومات التي لا يمكنها الاتفاق على العديد من الأمور بوسعها أن تتفق على ضرورة التعاون في هذا المجال
كما لعبت القوة العسكرية دورا فقد خسر تنظيم القاعدة معقله في أفغانستان بعد الإطاحة بحكومة طالبان التي كانت توفر لها الملاذ وأخيرا تم العثور على أسامة بن لادن وقتلته قوات خاصة تابعة للولايات المتحدة في ضواحي مدينة إسلام أباد كما أثبتت الطائرات بدون طيارين فعاليتها في قتل عدد كبير من الإرهابيين بما في ذلك العديد من أكثر زعمائهم أهمية ومن الممكن أن تصبح الحكومات الضعيفة أكثر قوة ولابد من محاسبة الحكومات التي تتسامح مع الإرهاب أو تدعمه
ولكن لا ينبغي لنا أن نخلط بين إحراز التقدم وإحراز النصر إن الإرهابيين والإرهاب مثلهم كمثل المرض لا يمكن أن نخلص العالم منهم تماما وسوف يكون هناك دوما أولئك الأشخاص الذين سوف يلجأون إلى القوة ضد الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال في سعيهم إلى تحقيق أهداف سياسية
بل إن الإرهابيين يتقدمون في بعض المناطق فلا تزال باكستان ملاذا لتنظيم القاعدة وبعض التنظيمات الإرهابية الأخرى الأكثر خطورة على مستوى العالم والواقع أن ذلك المزيد من عدم الاستقرار وضعف الحكومات والإيديولوجيات في بلدان مثل اليمن وليبيا والصومال ونيجيريا توفر تربة خصبة للإرهابيين للتنظيم والتدريب وشن العمليات كما فعلوا في أفغانستان قبل عشرة أعوام وهناك مجموعات جديدة تنشأ باستمرار من تحت أنقاض مجموعات قديمة
وهناك أيضا الخطر المتزايد من الإرهابيين ممن نشأوا في الداخل كما رأينا في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة ولقد أثبتت شبكة المعلومات الدولية الإنترنت وهي واحدة من أعظم الاختراعات في العالم الغربي الحديث أنها قادرة على العمل كسلاح ذي حدين فتستخدم لتحريض وتدريب أولئك الراغبين في إلحاق الأذى بالعالم
في شهر أكتوبر/تشرين الأول أثار وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد آنذاك سؤالا بالغ الأهمية هل نحن قادرون في كل يوم على أسر أو قتل أو ردع أو إثناء عدد من الإرهابيين أكثر من ذلك العدد الذي يجنده ويدربه وينشره ضدنا رجال الدين المتطرفون والمدارس الدينية المتطرفة في كل يوم أظن أننا قادرون في نهاية المطاف ولكن حتى النجاحات الصغيرة التي يحققها الإرهابيون تصبح باهظة التكاليف من حيث الأرواح والأموال وتسفر في النهاية عن جعل المجتمعات المفتوحة أقل انفتاحا
ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل من المؤسف أنه لا يوجد حل سحري منفرد لكل هذا إن إنشاء دولة فلسطينية لن يكون كافيا في نظر هؤلاء الإرهابيين الذين يريدون أن يروا زوال الدولة اليهودية ويصدق نفس القول عندما نتحدث عن التوصل إلى حل وسط بشأن كشمير لإرضاء هؤلاء الإرهابيين الذين يتخذون من باكستان مقرا لهم والذين يسعون إلى تنفيذ أجندات أكبر في مواجهة الهند ولا شك أن الحد من معدلات البطالة أمر مرغوب ولكن العديد من الإرهابيين لا ينتمون إلى أصول فقيرة والواقع أن إعانة المجتمعات في الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم على اكتساب قدر أعظم من الديمقراطية قد تؤدي إلى التخفيف من العزلة التي قد تقود المجتمعات بدورها إلى التطرف بل وربما ما هو أسوأ من ذلك ولكن القول أسهل من الفعل
لا شك أننا راغبون في الاستمرار في إيجاد سبل جديدة لجعل أنفسنا أقل ضعفا وفي الوقت نفسه إضعاف الإرهابيين ولكن الأمر الأكثر أهمية وخاصة في المجتمعات العربية والإسلامية هو القضاء على أي قبول للإرهابيين فالأب النيجيري الذي حَذَر السفارة الأميركية في لاجوس أنه يخشى مما قد يفعله ولده قبل ذلك حاول نفس الشاب تفجير قنبلة على متن رحلة جوية إلى ديترويت في يوم عيد الميلاد في عام لهو مثال لذلك
لن تجف ينابيع تجنيد الإرهابيين ولن تحصل سلطات فرض القانون على الدعم الكامل من الناس ما لم يتصرف المزيد من الآباء والمعلمين وقادة المجتمع كما تصرف ذلك الأب ولابد وأن يفقد الإرهاب شرعيته بين هؤلاء الذين دعموه تاريخيا أو تسامحوا معه قبل يفقد فاعليته وسطوته
التجارة عبر الأطلسي للجميع
واشنطن العاصمة كانت مفاوضات إنشاء شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نوضع ترحيب على نطاق واسع وقد وصف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون هذه الشراكة بأنها جائزة لا تتكرر أكثر من مرة واحدة في كل جيل مستشهدا بالمكاسب المحتملة التي قد تبلغ مليار جنيه استرليني ( مليار دولار أميركي) لكل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فضلا عن مليار جنيه استرليني لبقية العالم
في عالم سئم من انتظار إتمام جولة الدوحة التي لا تنتهي من مفاوضات التجارة العالمية التابعة لمنظمة التجارة العالمية فإن حتى أي مبادرة تجارية ثنائية تبدو وكأنها نعمة كبرى وخاصة إذا كان تعبير ثنائية يغطي نصف اقتصاد العالم كما أشارت افتتاحة الفاينانشال تايمز مؤخرا ولكن الأمر لا يخلو من جانب سلبي خطير وهو أن هذا الاتفاق قد يضر بالمصدرين في البلدان النامية ما لم يبذل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة جهودا متضافرة لحماية مصالح هؤلاء
والجانب الذي يثير القدر الأعظم من الانفعال في الاتفاق المقترح تركيزه على الحواجز التنظيمية مثل المعايير الإلزامية للمنتجات لابد أن يثير بالفعل أعظم القلق والانزعاج نظرا للتعريفات المنخفضة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أقل من في المتوسط فإن المزيد من التخفيضات التفضيلية لن تعوق الأطراف الخارجية بشكل خطير ولكن عندما يتعلق الأمر بالمعايير مثل تلك التي تحكم السلامة والصحة والبيئة فإن متطلبات الوصول إلى الأسواق وحشية وقاسية فإما أن تلبي المعيار الثابت أو لا تتمكن من بيع منتجاتك
ونتيجة لهذا فإن الخيارات المتاحة لشركات البلدان الثالثة سوف تتوقف على كيفية وضع معايير اتفاق شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي من خلال المواءمة (بتبني معيار مشترك) أو الاعتراف المتبادل (قبول السلع التي تلبي المعايير الثابتة بين الأطراف المختلفة) وسوف يمكن الخيار الأول المنتجين في كل مكان من الاستفادة من المعاملات التجارية الكبيرة الحجم ولكن في بعض الحالات قد يكون المعيار التوفيقي أكثر صرامة من المعايير الأصلية لبعض البلدان
وبرغم أن المعايير الجديدة سوف تنطبق على الموردين من كل البلدان المصدرة فإن تكاليف الالتزام تتفاوت عادة أي أن أولئك الأقل تجهيزا لتلبية معايير أعلى قد يعانون في أواخر تسعينيات القرن العشرين عندما قرر الاتحاد الأوروبي توفيق المعايير الخاصة بالأفلاتوكسينات (مجموعة من المركبات السامة التي تنتج بواسطة قوالب معينة) قررت بعض البلدان الأعضاء ثمانية بلدان بما في ذلك إيطاليا وهولندا وأسبانيا رفع معاييرها الوطنية إلى حد كبير والأرجح أن ذلك كان سببا في بانخفاض الصادرات الأفريقية من الحبوب والفواكه المجففة والمكسرات إلى أوروبا بما يقدر بنحو مليون دولار أميركي